إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول
الشوكاني
المجلد الأول
المجلد الأول المقدمة مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع والغربي الشيخ خليل الميس ... مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فيعتبر القرن الخامس عشر الهجري من عصور نهضة العلوم الشرعية، بما في ذلك علم أصول الفقه. حيث توجهت عناية العلماء به في منهجين. الأول: التصنيف في هذا الفن، بما في ذلك الأطروحات العلمية المقدمة من الباحثين لنيل درجات الماجستير والدكتوراه في الشريعة الإسلامية، وهنا تشوقت النفوس إلى الاستزادة منه، وتعالت النداءات إلى تجديده تحت عنوان "تأصيل الأصول". الثاني: التوجه نحو تحقيق كتب التراث لتوفير المادة العلمية بين يدي الباحثين، وتسهيل الحصول على تلك الكنوز التي كانت دفينة في خزائن المكتبات العامة والخاصة قرونا طويلة. وهنا تشوقت النفوس للوقوف على محتويات تلك الذخائر العلمية، بما في ذلك المطبوع منها، وهو أحوج إلى التحقيق العلمي من المخطوط، ومن بين تلك الأسفار العلمية النفيسة كتاب "إرشاد الفحول للإمام الشوكاني". ولما كان هذا العلم لا تناله إلا أيدي الفحول من العلماء؛ لأنه كما قال الإمام الغزالي: علم ازدوج فيه العقل والنقل، كان من نافلة القول إن الاعتناء بتلك الكتب لا يقوى عليها إلا النخبة من العلماء وأهل التحقيق. حيث لا يكفي أن يعزى القول إلى مصدره، بل لا بد من تعقب المصنف، واقتناص غرر الكلام، ودرر القواعد، والتعليق عليها كلما اقتضى الأمر. وهنا تبرز غزائم الرجال في إماطة اللثام عن مكنون النص، ومصادره؛ لنشرف على التراث، ولو من خلال كتاب واحد. كيف لا، والشوكاني هو المبرز في هذا الميدان، وهو الأمين في النقل، والفقيه الأصولي في اختيار الراجح من القول، والمتبحر في تحرير المذاهب، وإنه بحق لنقرأ من خلال إرشاده
علم الأصول على اختلاف مناهجه، ومدارسه. وهنا تتجلى عناية فضلية الباحث المحقق الشيخ أحمد عزو عناية لتحقيق هذا السفر الجليل، وقد اشتق جهده من اسمه، فتوافق الاسم والمسمى، وكان إخراج هذا الكتاب بحلة جديدة، وباهتمام مميز وكأني به يرشد مرة ثانية القارئ إلى مصادر هذا الكتاب من خلال تحقيقاته، واستدراكاته وتعليقاته فيلبس "إرشاد الفحول" حلة جديدة ستكون بإذن الله تعالى واحدة من مآثر المحقق الفاضل وتكرمة للمصنف الكبير، وقنية المنية لكل قارئ شغوف بهذا العلم من خلال الكتاب المحقق. والله ولي التوفيق وكتبه مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس 9/ شوال 1417هـ 16/ شباط 1997م
مقدمة الدكتور ولي الدين صالح فرفور الدمشقي
مقدمة الدكتور ولي الدين صالح فرفور الدمشقي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ملهم الوصول إلى علم الأصول، والصلاة والسلام على سيدنا محمد البحر الزخار ونور الأنوار ومعدن الأسرار النبي المختار وعلى آله وصحبه الطيبين الأبرار. اعلم أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع السماوية، المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جامعة بين المعقول والمنقول، مشتملة على أصول وفروع. وعلم الأصول: من أجل العلوم شرفًا وأعظمها قدرًا، إذ إنه القطب الذي تدور عليه أحكام الشريعة، يرتقي بالإنسان من أرض التقليد، إلى سماء الاجتهاد، مع ملكة الاستنباط. وعلم الخلاف: من أهم العلوم، تتجسد فيه عقلية العلماء وفقاهة الفقهاء بما يخدم مصالح الأمة الإسلامية على مر الأزمان، ويكفل سعادتها ورقيها من بين سائر الأمم، تتجلى فيه أسرار الرحمة الإلهية لهذه الأمة المحمدية. فاختلافهم رحمة جامعة، واتفاقهم حجة قاطعة، وإن علماء الشريعة ما زالوا يتوسعون في هذا العلم ومداركه، ويقعدون قواعده، ويبنون مسائله، ويوضحون دلائله، ويخرجون فروعه على أصول صحيحه وكليات صريحة من كتاب وسنة متواترة. وإذا كان الوحي الظاهر قد انقطع نزوله، فإن الوحي الباطن ما زال نابضا لدى المجتهدين إلى ما شاء الله، له محاكمات في واقعات، وتأثيرات عن انفعالات، عالمه الأمر، ميزانه الفهم، ميزابه الفضل، تكمن فيه العلوم والمعارف، خص الله الشريعة الإسلامية به من بين سائر الشرائع، به يميز المجتهد الصحيح من السقيم، ويعرف الأدلة القطعية والظنية والراجح والمرجوح، وتقيس الأمور بأشباهها ونظائرها قياسا شرعيًّا صحيحًا على ضوابط علمية اجتهادية، حتى يسمو بهذه الشريعة إلى سماء الإرادة معرجا من شمس الوصول إلى مغارب الأصول على مر الدهور. وبعد: فإن كتاب إرشاد الفحول لمؤلفه الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، الصنعاني، اليماني، من الكتب المفيدة في هذا المجال، لما احتوى عليه من كثرة النقول وعزو الأقوال إلى قائليها من أئمة هذا العلم. ولقد سلك مؤلفه مسلك المتكلمين والفقهاء، واعتنى بإيراد القواعد والمسائل الأصولية
واختلاف العلماء فيها مبينا دليل كل من غير تقيد بأصول مذهب معين، فهو أشبه ما يكون بأصول الفقه المقارن. وأخيرا: أشكر القائمين على هذا العمل من محقق وناشر وكل من ساهم في إخراجه بثوب جديد يتماشى مع الزمان. والله أسأل أن يرحمنا، وأن يتقبل منا أعمالنا، وأن يلهمنا الإخلاص في القول والعمل، إنه خير مسئول، وهو على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كتبه د. ولي الدين فرفور الدمشقي حرر في 27/ رمضان /1417هـ 4/ شباط /1997م
مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق: الحمد لله مصور النسم في ظلمات الأرحام، مقدر القسم للأنام، مشرع الأحكام، مبين الحلال والحرام، محكم أصول الشريعة المنيعة بالتمام، ومنضج ثمار فروعها المتصلة بكتابه أفضل الإحكام، بسنة نبيه الناسخ كل شريعة ماضية بشريعة الإسلام، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام. ونشهد ألا إله إلا الله شهادة راسخة في صميم القلب، تؤمل صاحبها برضى الرب، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي رفع عن الأمة باليسر كل عسير وصعب، عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلاما يدفعان عنا كل كرب. وبعد: فلما كان الهدف من وجود الإنسان هو تحقيق العبودية لله عز وجل، وبما أنه سبحانه وتعالى لم يكلنا إلى أنفسنا في تحقيق ذلك، بل أرسل إلينا الرسل، وأيدهم بالوحي الأمين، فلا بد لنا من معرفة وفهم مرامية وأهدافه، وما فيها من التعاليم التي تصلح لنا المعاش والمعاد، فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما النبعان الصافيان اللذان تكفلا بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة لمن تمسك بهما. ولكن لما فسدت السليقة، ودخلت العجمة، وأصابت اللسان آفة اللحن، لم يتسن لكل فرد من أفراد هذه الأمة هذا الفهم، بل اختص بأناس توفرت فيهم شروط وميزات تؤهلم لذلك، فأحاطوا بدقائق علم خاص سموه علم "أصول الفقه"، فلذلك نص العلماء على أن حكم تعلمه فرض كفاية لحاجة الأمة إلى استنباط الأحكام الشرعية للحادثات المتجددة. وبرعت أقلام العلماء في وصف علم أصول الفقه، فقال الإمام الإسنوي: هو المعلم الذي يكون المجتهد المبدع، والفقيه المثمر، ويقضي على أكذوبة غلق باب الاجتهاد، ويذهب أسطورة سد طريق الاستنباط، وأنه لا يمكن أن يستغني عنه من أراد أن يتأهل للنظر والاجتهاد أو من يهتم بعلم الفقه والخلاف. وقال الإمام الغزالي: هو العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، فأخذ من صفوة
الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد. أول من صنف في هذا الفن: أول من قعد قواعد علم أصول الفقه، وأصل أصوله هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، المجتهد صاحب المذهب في رسالته التي كتبها لعبد الرحمن بن مهدي. المصنفات المؤلفة فيه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه: كثرت الكتب والتآليف المدونة في هذا العلم فمنها: 1- "البرهان": للإمام أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني. 2- "البحر المحيط": للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. 3- "المستصفى من علم الأصول": للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي. 4- "المحصول": للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي. ترجمة المؤلف: اسمه ونسبه: هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن صلاح. عرف هو ووالده في صنعاء بالشوكاني، وهي نسبة إلى قرية من قرى السحامية تسمى شوكان، بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم. قال في معجم البلدان: شوكان قرية باليمن من ناحية ذمار. مولده ونشأته: ولد في يوم الاثنين، الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف هجرية، بهجرة شوكان من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء اليمن. اهتمامه بالعلم: - اهتم الإمام الشوكاني بالقرآن الكريم: فقرأه على جماعة من المعلمين، وختمه على الفقيه حسن بن عبد الله الهبل، وجوده على مشايخ القرآن بصنعاء. - واهتم بعلوم الحديث، فسمع البخاري من أوله إلى آخره، وسمع صحيح مسلم والترمذي، وبعض موطأ الإمام مالك، وبعض شفاء القاضي عياض، وبعض سنن النسائي، وبعض سنن ابن ماجة، وسمع جميع سنن أبي داود وتخريجها للمنذري، وكذلك سمع بعض فتح
الباري، وبعض شرح مسلم للنووي، وسمع شرح بلوغ المرام وغيرها من علوم الحديث. - واهتم بعلوم العربية، فحفظ الكافية والشافية لابن الحاجب، وقرأ بعض شروح الكافية كشرح الرضي، وشرح الخبيصي، وقرأ بعض شروح الشافية أيضًا. - واهتم بعلم الأصول فبرع فيه وألف وصنف، فمن مصنفاته الكتاب الذي بين أيدينا. - واهتم بعلوم أخرى كثيرة، منها علم الفقه، حتى إنه ترك التقليد واجتهد رأيه اجتهادًا مطلقًا غير مقيد، وهو قبل الثلاثين من عمره، وولي القضاء والإفتاء في صنعاء اليمن. - شيوخه: من شيوخه: 1- والده علي بن محمد الشوكاني. 2- الفقيه حسن بن عبد الله الهبل. 3- العلامة عبد الرحمن بن قاسم المداني. 4- العلامة أحمد بن عامر الحدائي. 5- العلامة أحمد بن محمد الحرازي، وقرأ عليه شرح الأزهار. 6- العلامة إسماعيل بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد، وقرأ عليه الملحة في النحو وشرحها. 7- العلامة القاسم بن يحيى الخولاني، وقرأ عليه شرح الغاية. 8- العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، وقرأ عليه التنقيح في علوم الحديث. 9- العلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي، وقرأ عليه إيساغوجي للقاضي زكريا. 10- العلامة هادي بن حسين القارني، وقرأ عليه شرح الجزرية. نشره للعلم: استغرق الإمام الشوكاني جميع وقته في درس العلم وتحصيله، ونشره وتعليمه للناس، حتى بلغت دروسه في اليوم والليلة ثلاثة عشر درسًا، منها ما يأخذه عن مشايخه، ومنها ما يأخذه عنه تلامذته، واستمر على ذلك مدة، حتى لم يبق عند أحد من شيوخه ما لم يكن من جملة ما قرأه الإمام، ثم إنه بعد ذلك فرغ نفسه لإفادة الطلبة، فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دورس في فنون متعددة، منها التفسير والحديث والأصول، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والمنطق، والفقه، والجدل، والعروض.
مؤلفاته: حكى الزركلي في الأعلام، أن مؤلفات الإمام الشوكاني بلغت أربعة عشر ومائة مؤلف، منها: 1- نيل الأوطار في شرح المنتقى من الأخبار. وهو مطبوع في ثمانية مجلدات. 2- حاشية شفاء الأوام واسمها "وبل الغمام على شفاء الأوام". 3- الدرر البهية في المسائل الفقهية. 4- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، وهو مطبوع. 5- فتح القدير في علم التفسير، وهو مطبوع. 6- السير الجرار على حدائق الأزهار. وهو مطبوع. 7- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، وهو مطبوع. وفاته: توفي سنة ألف ومائتين وخمسين هـ رحمه الله تعالى عن سبعة وسبعين عامًا1. منهج التحقيق: سرت في تحقيق هذا الكتاب على النحو التالي: 1- وضعت مقدمة تشتمل على: أ- مقدمة التحقيق، ب- ترجمة للمؤلف. 2- قمت بمقابلة الكتاب على نسخة قديمة الطباعة ورمزت له بـ "أ"، حيث اعتمدت في ضبط النص على نشرة الدكتور شعبان محمد إسماعيل، ورمزت لها بالحرف "ب" وذلك بعد أن عجزت عن الحصول على مخطوط للكتاب، إذ إنني أرسلت إلى مكتبة الجامع الكبير في صنعاء
اليمن، وطلبت الحصول على مخطوطة أصلية للكتاب، بعد أن علمت بوجودها هناك، ولم يكن لنا نصيب بالحصول عليها. 3- قمت بتخريج الآيات القرآنية بردها إلى سورها، ووضع أرقامها، وجعلتها بين قوسين مزهرين. {} . 4- قمت بتخريج الأحاديث النبوية والآثار، وجعلتها بين قوسين صغيرين " " ورقمتها بأرقام مسلسلة موضوعة بين معكوفتين [] وذلك في التعليق. 5- ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم من غير الصحابة المعروفين. 6- عرفت بالكتب الواردة أسماؤها، ونسبتها إلى مؤلفيها. 7- شرحت غريب الألفاظ، وضبطتها. 8- وضعت علامات الترقيم في الكتاب. 9- علقت على بعض النقاط الغامضة بما يوضحها ويزيل غموضها. 10- وضعت عناوين لبعض فصول الكتاب، وجعلتها بين قوسين كبيرين " ". 11- قمت بتخريج الأبيات الشعرية ببيان بحرها ونسبتها إلى ناظميها. 12- وضعت ترجمة للفرق المذكورة في الكتاب. 13- وضعت للكتاب فهارس على النحو التالي: أ- فهرس الآيات القرآنية. ب- فهرس الأحاديث النبوية. جـ- فهرس الأعلام. د- فهرس الفرق والمذاهب. هـ- فهرس الأماكن والبلدان. و فهرس الأبيات الشعرية. ز- فهرس الكتب الوارد ذكرها في المتن. ح- فهرس مراجع التحقيق. ط- فهرس الموضوعات.
وفي الختام: وحيث إنني أتوجه بالشكر والثناء لإرادة "دار الكتاب العربي" حيث انتدبتني لهذا العمل، أقول: إلى كل من يقرأ هذا الكتاب، أو يطلع على نقص أو خلل في العمل بتحقيقه، إنني لم أدع العصمة، ولا الكمال في عملي، فإن العصمة للأنياء، والكمال لله وحده، ولكنني أرجو ممن وجد خطأ في العمل أن يرسل به إلي، وأنا له من الشاكرين، سائلًا المولى تبارك وتعالى أن يحفظ ألسنتنا وأقلامنا من الزلل، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين. المحقق: أحمد عزو عناية دمشق - كفر بطنا
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، يَا مَنْ هُوَ "الْمَحْمُودُ"* الْمَشْكُورُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ لَا مُنْعِمَ سِوَاهُ، وَكُلُّ نَفْعٍ يَجْرِي عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَهُوَ الَّذِي أَجْرَاهُ، وَكُلُّ خَيْرٍ يَصِلُ إِلَى بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَهُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. فَأَحْمَدُهُ حَمْدًا يَرْضَاهُ، وَأَشْكُرُهُ شُكْرًا يُقَابِلُ نَعْمَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَاةٍ، امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، لَا قِيَامًا بِحَقِّ شُكْرِهِ، فَإِنَّ لِسَانِي وَجَنَانِي1 وَأَرْكَانِي2 لَا تَقُومُ بِشُكْرِ أَقَلِّ نِعْمَةٍ مِنْ نعمه العظمية، وَلَا تُؤَدِّي بَعْضَ الْبَعْضِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيَّ مِنْ شُكْرِ أَيَادِيهِ الْجَسِيمَةِ3. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْمُصْطَفَى، مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ إِلَى الْأَحْمَرِ مِنَ الْعِبَادِ وَالْأَسْوَدِ صَلَاةً وَسَلَامًا يَتَجَدَّدَانِ بِتَجَدُّدِ الْأَوْقَاتِ، وَيَتَكَرَّرَانِ بِتَكَرُّرِ الْآنَاتِ4، وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ وَصَحَابَتِهِ الْأَخْيَارِ. وَبَعْدُ: فَإِنَّ عِلْمَ "أُصُولِ الْفِقْهِ" لَمَّا كَانَ هُوَ الْعِلْمَ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْأَعْلَامُ، وَالْمَلْجَأَ الَّذِي يُلجأ إِلَيْهِ عِنْدَ تَحْرِيرِ الْمَسَائِلِ، وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ، فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، وَكَانَتْ مَسَائِلُهُ الْمُقَرَّرَةُ، وَقَوَاعِدُهُ الْمُحَرَّرَةُ، تُؤْخَذُ مُسَلَّمَةً عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاظِرِينَ، كَمَا نَرَاهُ فِي مَبَاحِثِ الْبَاحِثِينَ وَتَصَانِيفِ الْمُصَنِّفِينَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا اسْتَشْهَدَ لِمَا قَالَهُ بِكَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ، أَذْعَنَ لَهُ الْمُنَازِعُونَ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْفُحُولِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْفَنِّ، قَوَاعِدُ مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الْحَقِّ، الْحَقِيقِ بِالْقَبُولِ، مَرْبُوطَةٌ بِأَدِلَّةٍ عِلْمِيَّةٍ مِنَ المعقول والمنقول، تقصير عن القدح في شيء منها أيدي
الْفُحُولِ، وَإِنْ تَبَالَغَتْ فِي الطُّولِ، وَبِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاقِعًا فِي الرَّأْيِ، رَافِعًا لَهُ أَعْظَمَ رَايَةٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِغَيْرِ عِلْمِ الرِّوَايَةِ، حَمَلَنِي ذَلِكَ بَعْدَ سُؤَالِ جَمَاعَةٍ لِي مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا التَّصْنِيفِ، فِي هَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، قَاصِدًا بِهِ إِيضَاحَ رَاجِحِهِ، مِنْ مَرْجُوحِهِ، وَبَيَانَ سَقِيمِهِ مِنْ صَحِيحِهِ، مُوَضِّحًا لِمَا يَصْلُحُ مِنْهُ لِلرَّدِّ إِلَيْهِ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ الْعَالِمُ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي عِلْمِهِ يَتَّضِحُ لَهُ بِهَا الصَّوَابُ، وَلَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَرَكِ الْحَقِّ الْحَقِيقِ بِالْقَبُولِ الْحِجَابُ. فَاعْلَمْ يَا طَالِبَ الْحَقِّ، أَنَّ هَذَا كِتَابٌ تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُ "الْمُنْصِفِينَ"*، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْفَرَائِدِ، فِي صُدُورِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَلَا يَعْرِفُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ. وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهِ مِنَ الْمَبَادِئِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي هَذَا الْفَنِّ إِلَّا مَا كَانَ لِذِكْرِهِ، مَزِيدُ فَائِدَةٍ، يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَلُّقًا تَامًّا، وينتفع به فِيهِ انْتِفَاعًا زَائِدًا. وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ: فَقَدْ كَشَفْتُ لَكَ عَنْهَا الْحِجَابَ، كَشْفًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْخَطَأُ مِنَ الصَّوَابِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ بِأَكْثَفِ جِلْبَابٍ، وَإِنَّ هَذَا لَهُوَ أَعْظَمُ فَائِدَةٍ يَتَنَافَسُ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ مِنَ الطُّلَّابِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيرَ مَا هُوَ الْحَقُّ هُوَ غَايَةُ الطَّلَبَاتِ، وَنِهَايَةُ الرَّغَبَاتِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنِّ الَّذِي رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ إِلَى التَّقْلِيدِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَوَقَعَ غَالِبُ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْأَدِلَّةِ بِسَبَبِهِ فِي الرَّأْيِ الْبَحْتِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَسَمَّيْتُهُ: "إِرْشَادَ الْفُحُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ". وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَسَبْعَةِ مَقَاصِدَ، وَخَاتِمَةٍ. أَمَّا المقدمة فهي "مشتملة"** على فصول أربعة:
مدخل إلى علم الأصول
مدخل إلى علم الأصول الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَوْضُوعِهِ وفائدته واستمداده مدخل ... الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَوْضُوعِهِ، وَفَائِدَتِهِ، وَاسْتِمْدَادِهِ: اعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ اعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ وَالْآخَرُ بِاعْتِبَارِ الْعَلَمِيَّةِ. أَمَّا الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ، وَهُوَ الْأُصُولُ، وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ الْفِقْهُ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُرَكَّبِ1 يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْرِيفِ مُفْرَدَاتِهِ، ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ الْكُلِّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَجْزَائِهِ، وَيَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الصُّورِيِّ. أَمَّا الْمُضَافُ فَالْأُصُولُ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُقَالُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَالْمُسْتَصْحِبِ، وَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالدَّلِيلِ. وَالْأَوْفَقُ بِالْمَقَامِ الرَّابِعُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّقْلَ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ هُنَا خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا تُلْجِئُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْبِنَاءَ الْعَقْلِيَّ كَانْبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ يَنْدَرِجُ تَحْتَ مُطْلَقِ الِانْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الِانْبِنَاءَ الْحِسِّيَّ، كَانْبِنَاءِ الْجِدَارِ عَلَى أَسَاسِهِ، وَالِانْبِنَاءَ الْعَقْلِيَّ كَانْبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ. وَلَمَّا كَانَ مُضَافًا إِلَى الْفِقْهِ هُنَا وَهُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الِانْبِنَاءُ الْعَقْلِيُّ. وَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْفِقْهُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْفَهْمُ2. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعِلْمُ بالأحكام الشرعية، عن أدلته التفصيلية بالاستدلال.
وَقِيلَ: التَّصْدِيقُ بِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ، الَّتِي تُقْصَدُ لَا لاعتقاد. وقيل: معرفة النفس مالها وَمَا عَلَيْهَا عَمَلًا. وَقِيلَ: اعْتِقَادُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ جُمْلَةٌ مِنَ الْعُلُومِ "بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَعْيَانِهَا"* يُعْلَمُ بِاضْطِرَارٍ أَنَّهَا مِنَ الدِّينِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ بِاعْتِرَاضَاتٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَاهَا إِنْ حُمِلَ الْعِلْمُ فِيهِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ؛ لِأَنَّ غَالِبَ عِلْمِ الْفِقْهِ ظُنُونٌ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَمَعْنَاهَا اخْتِصَاصُ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. فَأُصُولُ الْفِقْهِ مَا "يَخْتَصُّ"** بِالْفِقْهِ، مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَمُسْتَنِدًا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: فَهُوَ إِدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ ... إلخ. وَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْقَوَاعِدِ الْمُوَصِّلَةِ بِذَاتِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ ... إلخ. وَقِيلَ: هُوَ طُرُقُ الْفِقْهِ "عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَمَا يَتْبَعُ الْكَيْفِيَّةَ"***. وَفِيهِ: أَنَّ ذِكْرَ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ تَصْرِيحٌ بِاللَّازِمِ الْمَفْهُومِ ضِمْنًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلًا، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ أَدِلَّتِهَا تَفْصِيلًا، وَيُزَادُ عَلَيْهِ: عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لِإِخْرَاجِ عِلْمِ الْخِلَافِ1، وَالْجَدَلِ2، فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَمَلَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ التحقيق، بل الغرض منها إلزام الخصم. ولما كان العلم مأخوذًا على أصول الفقه عند البعض، حسن ههنا أن نذكر تعريف مطلق العلم:
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَنْظَارُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ "مِنْهُمُ"* الرَّازِيُّ1: بِأَنَّ مُطْلَقَ الْعِلْمِ ضَرُورِيٌّ، فَيَتَعَذَّرُ تَعْرِيفُهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّلَالَةِ، وَيَكْفِي فِي دَفْعِ مَا قَالُوهُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْوُجْدَانِ لِكُلِّ عَاقِلٍ، أَنَّ الْعِلْمَ يَنْقَسِمُ إِلَى ضَرُورِيٍّ2، وَمُكْتَسَبٍ3. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْجُوَيْنِيُّ4: إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَلَكِنَّهُ يَعْسُرُ تَحْدِيدُهُ5، وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا الْقِسْمَةَ وَالْمِثَالَ، فَيُقَالُ مَثَلًا: الِاعْتِقَادُ إِمَّا جَازِمٌ، أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ، وَالْجَازِمُ إِمَّا مُطَابِقٌ أَوْ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَالْمُطَابِقُ إِمَّا ثَابِتٌ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ فَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْقِسْمَةِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ مُطَابِقٌ ثَابِتٌ وَهُوَ الْعِلْمُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بأن القسمة والمثال إن أفاد تَمْيِيزًا لِمَاهِيَّةِ الْعِلْمِ عَمَّا عَدَاهَا، صَلُحَا لِلتَّعْرِيفِ لَهَا فَلَا يَعْسُرُ، وَإِنْ لَمْ يُفِيدَا تَمْيِيزًا لَمْ يَصْلُحْ بِهِمَا مَعْرِفَةُ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، "لَا"** يَعْسُرُ تَحْدِيدُهُ، ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُ حُدُودًا. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوْ دَلِيلٍ. وَفِيهِ: أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْمَذْكُورَ يَعُمُّ الْجَازِمَ وَغَيْرَ الْجَازِمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَقْيِيدِهِ بِالْجَازِمِ يَخْرُجُ عَنْهُ الْعِلْمُ بِالْمُسْتَحِيلِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ لا يسمى معرفة.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الَّذِي يُوجِبُ كَوْنَ مَنْ قَامَ بِهِ عَالِمًا أَوْ يُوجِبُ لِمَنْ قام به اسم العالم. وفيه: أن يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ1 لِأَخْذِ الْعَالِمِ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَا يَصِحُّ مِمَّنْ قَامَ بِهِ إِتْقَانُ الْفِعْلِ. وَفِيهِ: أَنَّ فِي الْمَعْلُومَاتِ مَا لَا يَقْدِرُ الْعَالِمُ عَلَى إِتْقَانِهِ، كَالْمُسْتَحِيلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ مُطَابِقٌ. وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ التَّصَوُّرَاتُ وَهِيَ عِلْمٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ، أَوِ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ الْعَقْلِ. وَفِيهِ: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الظَّنَّ، وَالشَّكَّ وَالْوَهْمَ2، وَالْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ3. وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا حَدًّا لِلْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، الشَّامِلِ لِلْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِيهِ: أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْعِلْمِ عَلَى الشَّكِّ، وَالْوَهْمِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، يُخَالِفُ مَفْهُومَ الْعِلْمِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حُكْمٌ لَا يَحْتَمِلُ طَرَفَاهُ -أَيِ: الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَبِهِ- نَقِيضَهُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ التَّصَوُّرُ وَهُوَ عِلْمٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لِمَحَلِّهَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ. وَفِيهِ: أَنَّ الْعُلُومَ الْمُسْتَنِدَةَ إِلَى الْعَادَةِ تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، لِإِمْكَانِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ صِفَةٌ يَتَجَلَّى بِهِ الْمُدْرَكُ لِلْمُدْرِكِ. وَفِيهِ: أَنَّ الْإِدْرَاكَ مَجَازٌ عَنِ الْعِلْمِ فَيَلْزَمُ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، مَعَ كَوْنِ الْمَجَازِ مَهْجُورًا فِي التَّعْرِيفَاتِ، وَدَعْوَى اشْتِهَارِهِ فِي الْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْأَخَصِّ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ صِفَةٌ يَتَجَلَّى بِهَا الْمَذْكُورُ لِمَنْ قَامَتْ هي به.
قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ1: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْكَشْفِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ، وَالْمَعْدُومَ، وَالْمُمْكِنَ، وَالْمُسْتَحِيلَ، بِلَا خِلَافٍ، وَيَتَنَاوَلُ الْمُفْرَدَ، وَالْمُرَكَّبَ، وَالْكُلِّيَّ، وَالْجُزْئِيَّ، وَالتَّجَلِّي هُوَ الِانْكِشَافُ التَّامُّ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ صِفَةٌ يَنْكَشِفُ بِهَا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْكَرَ، انْكِشَافًا تَامًّا لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ. فَيَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ الظَّنُّ، وَالْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، وَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ الْمُصِيبِ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ عُقْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، فَلَيْسَ فِيهِ انْكِشَافٌ تَامٌّ، وَانْشِرَاحٌ يَنْحَلُّ بِهِ الْعُقْدَةُ انْتَهَى. وَفِيهِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ إدراك الحواس، فإنه لا مدخلية للمذكور فِيهِ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَتَنَاوَلُ الذِّكْرَ بِكَسْرِ الذَّالِ، وَالذُّكْرَ بِضَمِّهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ "مَعْنَيَيِ"* الْمُشْتَرَكِ، أَوْ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَكِلَاهُمَا مَهْجُورٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ. هَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا وَرَدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يُقَالَ فِي تَحْدِيدِهِ: هُوَ صِفَةٌ يَنْكَشِفُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، انْكِشَافًا تَامًّا، وَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فَتَدَبَّرْ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَا قِيلَ فِي "حَدِّ الْعِلْمِ"** فَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْرِيفِ لِلشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ اسْمِيًّا، فَالْحَقِيقِيُّ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالِاسْمِيُّ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ مَا يَتَعَقَّلُهُ الْوَاضِعُ لِيَضَعَ بِإِزَائِهِ اسْمًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَاهِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَقَّلُهُ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَوْ وُجُوهًا وَاعْتِبَارَاتٍ مِنْهُ، فَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِمُسَمَّى الِاسْمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَاهِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَعْرِيفٌ حَقِيقِيٌّ، يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ فِي الذِّهْنِ بِالذَّاتِيَّاتِ، كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوْ بِالْعَرَضِيَّاتِ، أَوْ "بِالْمُرَكَّبِ"*** مِنْهُمَا، وَتَعْرِيفُ مَفْهُومِ الِاسْمِ وَمَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ. فَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ، يُفِيدُ تَبْيِينَ مَا وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهِ بِلَفْظٍ أَشْهَرَ. فَتَعْرِيفُ الْمَعْدُومَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمِيًّا؛ إِذْ لَا حَقَائِقَ لَهَا بَلْ لَهَا مَفْهُومَاتٌ فَقَطْ، وَتَعْرِيفُ
الموجودات قد يكون اسميًّا. وقد يَكُونُ حَقِيقِيًّا؛ إِذْ لَهَا مَفْهُومَاتٌ وَحَقَائِقُ، وَالشَّرْطُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاطِّرَادُ وَالِانْعِكَاسُ، فَالِاطِّرَادُ: هُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْحَدُّ وُجِدَ الْمَحْدُودُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ لَيْسَ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى طَرْدِ الْأَغْيَارِ فَيَكُونُ مَانِعًا، وَالِانْعِكَاسُ: هُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْمَحْدُودُ وُجِدَ الْحَدُّ؛ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى جَمْعِ الْأَفْرَادِ، فَيَكُونُ جَامِعًا. ثُمَّ العلم بالضرورة ينقسم إِلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ: فَالضَّرُورِيُّ: مَا لَا يُحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِهِ إِلَى نَظَرٍ. وَالنَّظَرِيُّ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَالنَّظَرُ: هُوَ الْفِكْرُ الْمَطْلُوبُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ. وَقِيلَ: هُوَ مُلَاحَظَةُ الْمَعْقُولِ لِتَحْصِيلِ الْمَجْهُولِ. وَقِيلَ: هُوَ حَرَكَةُ النَّفْسِ مِنَ الْمَطَالِبِ التَّصَوُّرِيَّةِ، أَوِ التَّصْدِيقِيَّةِ، طَالِبَةً لِلْمَبَادِئِ، وَهِيَ الْمَعْلُومَاتُ التَّصَوُّرِيَّةُ، أَوِ التَّصْدِيقِيَّةُ، بِاسْتِعْرَاضِ صُوَرِهَا صُورَةً صُورَةً. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرُورِيِّ وَالنَّظَرِيِّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ تَصَوُّرٍ1 وَتَصْدِيقٍ2، وَالْكَلَامُ فِيهِمَا مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ. وَالدَّلِيلُ مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ. وَقِيلَ: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْغَيْرِ. وَقِيلَ: مَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ آخَرَ. وَقِيلَ: هُوَ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِلتَّأَدِّي إِلَى مَجْهُولٍ. وَالْأَمَارَةُ هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهَا إِلَى الظَّنِّ. وَالظَّنُّ تَجْوِيزُ رَاجِحٍ. وَالْوَهْمُ تَجْوِيزُ مَرْجُوحٍ. وَالشَّكُّ تَرَدُّدُ الذِّهْنِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ. فَالظَّنُّ فِيهِ حُكْمٌ لِحُصُولِ الرَّاجِحِيَّةِ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ احْتِمَالُهُ لِلنَّقِيضِ الْمَرْجُوحِ. وَالْوَهْمُ لَا حُكْمَ فِيهِ، لِاسْتِحَالَةِ الْحُكْمِ بِالنَّقِيضَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الظن قد
حُكِمَ بِهِ، فَلَوْ حُكِمَ بِنَقِيضِهِ الْمَرْجُوحِ -وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْوَهْمِ- لَزِمَ الْحُكْمُ بِهِمَا جَمِيعًا. وَالشَّكُّ لَا حُكْمَ فِيهِ بِوَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِتَسَاوِي الْوُقُوعِ وَاللَّاوُقُوعِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، فَلَوْ حُكِمَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا -لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَلَوْ حُكِمَ بِهِمَا جَمِيعًا- لَزِمَ الْحُكْمُ بِالنَّقِيضَيْنِ. وَالِاعْتِقَادُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِمَنِ اخْتَصَّ بِهِ كَوْنَهُ جَازِمًا بِصُورَةٍ مُجَرَّدَةٍ، أَوْ بِثُبُوتِ أَمْرٍ أَوْ نَفْيِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الْجَزْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ دُونِ سُكُونِ نَفْسٍ، وَيُقَالُ عَلَى التَّصْدِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ جَازِمًا، أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، مُطَابِقًا أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ، ثَابِتًا أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَالتَّقْلِيدُ لِأَنَّهُ جَزْمٌ بِثُبُوتِ أَمْرٍ أَوْ نَفْيِهِ، لِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْغَيْرِ. وَأَمَّا الْجَهْلُ الْبَسِيطُ: فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ، مُقَابَلَةَ الْعَدَمِ لِلْمَلَكَةِ؛ لِأَنَّهُ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَالِاعْتِقَادِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أن يكون عالمًا أو معتقدًا.
موضوع علم أصول الفقه
موضوع علم أُصُولِ الْفِقْهِ: وَأَمَّا مَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ: فَاعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ مَا يُبْحَثُ فِيهِ مِنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَرَضِ هُنَا الْمَحْمُولُ عَلَى الشَّيْءِ الْخَارِجِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ إنما يُقَالُ لَهُ الْعَرَضُ الذَّاتِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ الشَّيْءَ لِذَاتِهِ، كَالْإِدْرَاكِ لِلْإِنْسَانِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ يُسَاوِيهِ كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ تَعَجُّبِهِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ أَعَمَّ مِنْهُ دَاخِلٍ فِيهِ كَالتَّحَرُّكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا. وَالْمُرَادُ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ: حَمْلُهَا عَلَى مَوْضِعِ الْعِلْمِ، كَقَوْلِنَا: الْكِتَابُ يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ، أَوْ عَلَى أَنْوَاعِهِ، كَقَوْلِنَا: الْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، أَوْ عَلَى أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، أَوْ عَلَى أَنْوَاعِ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ، يَدُلُّ عَلَى بَقِيَّةِ أَفْرَادِهِ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً. وَجَمِيعُ مَبَاحِثِ أُصُولِ الْفِقْهِ رَاجِعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ أَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ، مِنْ حَيْثُ إِثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ، وَثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِالْأَدِلَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ هُوَ الْإِثْبَاتُ، وَالثُّبُوتُ. وَقِيلَ: مَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْكُلِّيُّ فَقَطْ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُوَصِّلُ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ إِلَى قُدْرَةِ إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، أَخْذًا مِنْ شَخْصِيَّاتِهِ1. وَالْمُرَادُ بِالْأَحْوَالِ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ ذَاتِيٌّ للدليل والأول أولى.
فائدة علم أصول الفقه وثمرته
فائدة علم أصول الفقه وثمرته: وَأَمَّا فَائِدَةُ هَذَا الْعِلْمِ: فَهِيَ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوِ الظَّنُّ بِهَا. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الشَّرَفِ، كَانَ عِلْمُ طَالِبِهِ بِهَا وَوُقُوفُهُ عَلَيْهَا مُقْتَضِيًا لِمَزِيدِ عِنَايَتِهِ بِهِ، وَتَوَفُّرِ رَغْبَتِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الفوز بسعادة الدارين.
استمداد علم أصول الفقه
استمداد علم أصول الفقه: وَأَمَّا اسْتِمْدَادُهُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: عِلْمُ الكلام1، لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري سُبْحَانَهُ، وَصِدْقِ الْمُبَلِّغِ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ فِيهِ، مُقَرَّرَةٌ أدلتهما من مَبَاحِثِهِ. الثَّانِي: اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ؛ لِأَنَّ فَهْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا مُتَوَقِّفَانِ عَلَيْهَا، إِذْ هُمَا عَرَبِيَّانِ. الثَّالِثُ: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُهَا أَوْ نَفْيُهَا، كَقَوْلِنَا: الْأَمْرُ للوجوب، والنهي للتحري، والصلاة واجبة، والربا حرام2. وجه ذكرنا لما اشتمل عليه هذا الفضل أَنْ يُوجِبَ زِيَادَةَ بَصِيرَةٍ لِطَالِبِ هَذَا الْعِلْمِ كما لا يخفى على ذي فهم.
الفصل الثاني في الأحكام
الفصل الثاني في الأحكام مدخل ... الفصل الثاني: في الأحكام وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى الْكَلَامِ فِي اللُّغَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مَسَائِلُ مِنْ مهمات علم الكلام، سنذكرها ههنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْحَاثٍ: 1- الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي الْحُكْمِ. 2- الثَّانِي فِي الْحَاكِمِ. 3- الثَّالِثُ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ. 4- الرَّابِعُ فِي الْمَحْكُومِ عليه.
المبحث الأول في الحكم
المبحث الأول في الحكم ... أما الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي الْحُكْمِ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ: الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ1 أَوِ التَّخْيِيرِ أَوِ الْوَضْعِ، فَيَتَنَاوَلُ اقْتِضَاءَ الْوُجُودِ، وَاقْتِضَاءَ الْعَدَمِ، إِمَّا مَعَ الْجَزْمِ، أَوْ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَاجِبُ وَالْمَحْظُورُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمَكْرُوهُ، وَأَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ الْإِبَاحَةُ. وَأَمَّا الْوَضْعُ: فَهُوَ السَّبَبُ، وَالشَّرْطُ، وَالْمَانِعُ. فَالْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا، أَوْ لَا يَكُونَ جَازِمًا، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَوْ طَلَبَ التَّرْكِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ، فَالطَّرَفَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى السَّوِيَّةِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، أَوْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْوُجُودِ، وَهُوَ النَّدْبُ، أَوْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ التَّرْكِ، وَهُوَ الْكَرَاهَةُ، فَكَانَتِ الْأَحْكَامُ ثَمَانِيَةً، خَمْسَةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ وَثَلَاثَةٌ وَضْعِيَّةٌ.
وَتَسْمِيَةُ الْخَمْسَةِ تَكْلِيفِيَّةً تَغْلِيبٌ؛ إِذْ لَا تَكْلِيفَ فِي الْإِبَاحَةِ بَلْ وَلَا فِي النَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَسُمِّيَتِ الثَّلَاثَةُ وَضْعِيَّةً؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَهَا عَلَامَاتٍ لِأَحْكَامٍ تَكْلِيفِيَّةٍ، وُجُودًا وَانْتِفَاءً. فَالْوَاجِبُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَيُذَمُّ تَارِكُهُ، عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَبِالْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُذَمُّ فِي الْأَوَّلِ، إِذَا تَرَكَهُ مَعَ الْآخَرِ، وَلَا يُذَمُّ فِي الثَّانِي إِلَّا إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ. وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ، وَمُضَيَّقٍ، وَمُوَسَّعٍ، وَعَلَى الْأَعْيَانِ، وَعَلَى الْكِفَايَةِ. وَيُرَادِفُهُ الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ1، وَقِيلَ: الْفَرْضُ مَا كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا، وَالْوَاجِبُ مَا كَانَ دَلِيلُهُ ظَنِّيًّا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؟ وَالْمَحْظُورُ: مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ وَيُمْدَحُ تَارِكُهُ، وَيُقَالُ: لَهُ الْمُحَرَّمُ، وَالْمَعْصِيَةُ، وَالذَّنْبُ، وَالْمَزْجُورُ عَنْهُ، وَالْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ، وَالْقَبِيحُ. وَالْمَنْدُوبُ: مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِعْلُهُ رَاجِحًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَيُقَالُ لَهُ: مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَنَفْلٌ، وَتَطَوُّعٌ، وَإِحْسَانٌ، وَسُنَّةٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ سُنَّةٌ، إِلَّا إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ، كَالْوِتْرِ، وَرَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ. وَالْمَكْرُوهُ: مَا يُمْدَحُ تَارِكُهُ، وَلَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ. وَيُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ الَّذِي أَشْعَرَ فَاعِلَهُ أَنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَعَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، كَتَرْكِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَعَلَى الْمَحْظُورِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْمُبَاحُ: مَا لَا يُمْدَحُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا عَلَى تَرْكِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعْلَمَ فَاعِلَهُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا ضَرَرَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ مَحْظُورًا، كَمَا يُقَالُ: دَمُ الْمُرْتَدِّ مُبَاحٌ، أَيْ: لَا ضَرَرَ عَلَى مَنْ أَرَاقَهُ، وَيُقَالُ لِلْمُبَاحِ: الْحَلَالُ، وَالْجَائِزُ، والمطلق.
وَالسَّبَبُ: هُوَ جَعْلُ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ مَنَاطًا1 لِوُجُودِ حُكْمٍ، أَيْ: يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ وُجُودَهُ. وَبَيَانُهُ: أن الله سُبْحَانَهُ فِي الزَّانِي مَثَلًا حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَكْلِيفِيٌّ، وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي وَضْعِيٌّ، وَهُوَ جَعْلُ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ، بَلْ بِجَعْلِ الشَّرْعِ. وَيَنْقَسِمُ السَّبَبُ بِالِاسْتِقْرَاءِ إِلَى الْوَقْتِيَّةِ، كَزَوَالِ الشَّمْسِ، لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْإِسْكَارِ لِلتَّحْرِيمِ وَكَالْمِلْكِ لِلضَّمَانِ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْعُقُوبَةِ. وَالشَّرْطُ: هُوَ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْحُكْمِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرْطِ: هُوَ مَا كَانَ عَدَمُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُكْمِ، فَهُوَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، أَوْ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السَّبَبِ، لِحِكْمَةٍ فِي عَدَمِهِ، تُنَافِي حِكْمَةَ الْحُكْمِ أَوِ السَّبَبِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْحَوْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَعَدَمُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُوبِهَا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَعَدَمُهَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّتِهِ، وَالْإِحْصَانُ شَرْطٌ فِي سَبَبِيَّةِ الزِّنَا لِلرَّجْمِ، فَعَدَمُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهَا. وَالْمَانِعُ: هُوَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ حِكْمَةً، تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُكْمِ، أَوْ عَدَمَ السَّبَبِ، كَوُجُودِ الْأُبُوَّةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ثُبُوتِ الِاقْتِصَاصِ لِلِابْنِ مِنَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَبِ سَبَبًا لِوُجُودِ الِابْنِ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِيرَ الِابْنُ سَبَبًا لِعَدَمِهِ. وَفِي هَذَا الْمِثَالِ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِلْقِصَاصِ هُوَ فِعْلُهُ، لَا وُجُودُ الِابْنِ وَلَا عَدَمُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِكْمَةً مَانِعَةً لِلْقِصَاصِ، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ لِفَرْعٍ مِنْ أَصْلٍ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُمَثَّلَ لِذَلِكَ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي، أَوْ ثَوْبِهِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ الصلاة، عند من يجعل الطهارة شرطًا، فههنا قَدْ عُدِمَ شَرْطٌ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَوُجِدَ مَانِعٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ، لَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً فَقَطْ. وَأَمَّا الْمَانِعُ الَّذِي يَقْتَضِي وُجُودُهُ حِكْمَةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ، فَكَالدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ حِكْمَةَ السَّبَبِ -وَهُوَ الْغِنَى- مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ، وَلَمْ يَدَعِ الدَّيْنُ فِي الْمَالِ فَضْلًا يُوَاسَى بِهِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قال أن الدين مانع.
المبحث الثاني في الحاكم
المبحث الثاني في الحاكم ... الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي الْحَاكِمِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ الْحَاكِمِ الشَّرْعَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ. وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ: فَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ1: لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ سُبْحَانَهُ حُكْمٌ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَا يَحْرُمُ كُفْرٌ وَلَا يَجِبُ إِيمَانٌ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ2: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ لَهُ تَعَالَى حُكْمٌ بِمَا أَدْرَكَ الْعَقْلُ فِيهِ صِفَةَ حُسْنٍ، أَوْ قُبْحٍ لِذَاتِهِ، أَوْ لِصِفَتِهِ، أَوْ لِوُجُوهٍ وَاعْتِبَارَاتٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ. قَالُوا: وَالشَّرْعُ كَاشِفٌ عَمَّا أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ قَبْلَ وُرُودِهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِي شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: مُلَاءَمَةُ الْغَرَضِ لِلطَّبْعِ وَمُنَافَرَتُهُ لَهُ، فَالْمُوَافِقُ حَسَنٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَالْمُنَافِرُ قبيح عنده. الثاني: صفة الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، فَصِفَاتُ الْكَمَالِ حَسَنَةٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَصِفَاتُ النَّقْصِ قَبِيحَةٌ عِنْدَهُ. وَمَحَلُّ النِّزَاعِ بَيْنَهُمْ -كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا كَانَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ- هُوَ كَوْنُ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقَ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ، وَالذَّمِّ، وَالْعِقَابِ، آجِلًا وَعَاجِلًا. فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِكَوْنِ الْفِعْلِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، لِأَجْلِهِ يَسْتَحِقُّ فاعله الذم. قالوا: وذلك الوجه قيد يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِهِ، وَقَدْ لَا يَسْتَقِلُّ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْعَقْلُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ حُسْنَ الصِّدْقِ النَّافِعِ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَيَعْلَمُ نَظَرًا حُسْنَ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ النَّافِعِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَحُسْنِ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقُبْحِ صَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا وَرَدَ علمنا الحسن والقبح فيهما.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ دُخُولَ هَذِهِ الْقَبَائِحِ فِي الْوُجُودِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقَوْلُ بِالْقُبْحِ بَاطِلٌ. بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّرْكِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّرْكِ فَقَدْ ثَبَتَ الِاضْطِرَارُ، وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ التَّرْكِ. فَإِمَّا يَتَوَقَّفُ رُجْحَانُ الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى التَّارِكِيَّةِ، عَلَى مُرَجِّحٍ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ، إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَاتِّفَاقِيٌّ، لَا اخْتِيَارِيٌّ، لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ، فَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلَ1، وَهُوَ مُحَالٌ، وَالثَّانِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ إِمَّا أَنْ يَجِبَ "وُقُوعُ"*، الْأَثَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ وَجَبَ فَقَدْ ثَبَتَ الِاضْطِرَارُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ وُجُودِ هَذَا الْمُرَجِّحِ كَانَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ صَارَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَلَيْسَ وُقُوعُ هَذَا الْمُرَجِّحِ بِالْعَبْدِ أَلْبَتَّةَ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ تَمَكُّنٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَا مَعْنًى لِلِاضْطِرَارِ إِلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ حُصُولُ هَذَا الْمُرَجِّحِ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْفِعْلِ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى، فَتَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى انْضِمَامِ مُرَجِّحٍ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، إِنْ تَوَقَّفَ لَمْ يَكُنِ الْحَاصِلُ قَبْلَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا تَامًّا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَلَا تَرْجِيحَ أَلْبَتَّةَ وَإِلَّا لَعَادَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ لَا مِنَ الْعَبْدِ وَلَا مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَاقِعًا لَا لِمُؤَثِّرٍ فَيَكُونُ اتِفَاقِيًّا. وَرُدَّ هَذَا الْجَوَابُ: بِأَنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ الْفَاعِلِيَّةَ عَلَى التَّارِكِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الرَّدِّ: بِأَنَّ تَرْجِيحَ الْقَادِرِ إِنْ كَانَ لَهُ مَفْهُومٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا، كَانَ تَسْلِيمًا لِكَوْنِ رُجْحَانِ الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى التَّارِكِيَّةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ آخَرَ إِلَى الْقَادِرِيَّةِ، فَيَعُودُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ زَائِدٌ "لَمْ يَبْقَ"** لِقَوْلِكُمْ: الْقَادِرُ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا مُجَرَّدَ أَنَّ صِفَةَ الْقَادِرِيَّةِ مُسْتَمِرَّةٌ فِي الْأَزْمَانِ كُلِّهَا، ثُمَّ إِنَّهُ يُوجَدُ الْأَثَرُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَادِرُ قَدْ رَجَّحَهُ، وَقَصَدَ إِيقَاعَهُ، وَلَا مَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ إِلَّا ذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ2، لِاسْتِلْزَامِهِ نَفْيَ الْمُرَجِّحِ مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ، بِأَنَّ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ وَالْجَهْلَ قَبِيحَةٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَأَنَّ العدل والصدق
وَالْعِلْمَ حَسَنَةٌ عِنْدَهُ، لَكِنَّ حَاصِلَ مَا يُدْرِكُهُ العقل من "قبيح هذا القبح"*، وَحُسْنِ هَذَا الْحَسَنِ هُوَ أَنَّ فَاعِلَ الْأَوَّلِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَفَاعِلَ الثَّانِي يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، وَأَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقًا لِلْعِقَابِ الْأُخْرَوِيِّ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقًا لِلثَّوَابِ الْأُخْرَوِيِّ فَلَا. وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ لِلتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، بِأَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَوْ لَمْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ الشَّرْعِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يُعْلَمَا عِنْدَ وُرُودِهِ؛ لِأَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَهُ فَعِنْدَ وُرُودِهِ بِهِمَا، يَكُونُ وَارِدًا بِمَا لَا يَعْقِلُهُ السَّامِعُ وَلَا يَتَصَوَّرُهُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ وُرُودِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الشَّرْعِ لَيْسَ تَصَوُّرَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَإِنَّا قَبْلَ الشَّرْعِ نَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَلَى الْفِعْلِ، وَنَتَصَوَّرُ عَدَمَ هَذَا التَّرَتُّبِ، فَتَصَوُّرُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ، إِنَّمَا الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ هُوَ التَّصْدِيقُ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ إِلَّا بِالشَّرْعِ لَحَسُنَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَلَوْ حَسُنَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ لَحَسُنَ مِنْهُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ، وَلَوْ حَسُنَ مِنْهُ ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَنَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّئِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى بُطْلَانِ الشَّرَائِعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَلَقَ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ لِلصِّدْقِ، وَكُلُّ مَنْ صَدَّقَهُ اللَّهُ فَهُوَ صَادِقٌ، وَبِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنْ خَلْقِ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ خَلْقَهُ عِنْدَ الدَّعْوَى يُوهِمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّصْدِيقُ، فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا لَكَانَ ذَلِكَ إِيهَامًا لِتَصْدِيقِ الْكَاذِبِ، وَأَنَّهُ قَبِيحٌ، وَاللَّهُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ. وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ حَسُنَ مِنَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ لَمَا قَبُحَ مِنْهُ الْكَذِبُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى اعْتِمَادٌ عَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا وَارِدٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَحْسُنُ فِي مِثْلِ الدَّفْعِ بِهِ عَنْ قَتْلِ إِنْسَانٍ ظُلْمًا، وَفِي مِثْلِ مَنْ تَوَعَّدَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ هُنَا يَحْسُنُ الْكَذِبُ وَيَقْبُحُ الصِّدْقُ. ورُدَّ بِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْمُقْتَضِي الْمَانِعِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّادِرِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الدَّفْعُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَحِلُّ بِإِيرَادِ الْمَعَارِيضِ، فَإِنَّ فِيهَا مَنْدُوحَةً1 عَنِ الْكَذِبِ. وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِلْعَاقِلِ: إِنْ صَدَقْتَ أَعْطَيْنَاكَ دِينَارًا، وَإِنْ كَذَبْتَ أَعْطَيْنَاكَ دِينَارًا، فَإِنَّا نَعْلَمُ -بِالضَّرُورَةِ- أَنَّ الْعَاقِلَ يَخْتَارُ الصِّدْقَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا لَمَا اختاره.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ عَلَى الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اتَّفَقُوا عَلَى قُبْحِ الْكَذِبِ، وَحُسْنِ الصِّدْقِ، لِمَا أَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ وَالْإِنْسَانُ لَمَّا نَشَأَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، لَا جَرَمَ تَرَجَّحَ الصِّدْقُ عِنْدَهُ عَلَى الْكَذِبِ. وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، إِذَا فَرَضَ نَفْسَهُ خَالِيَةً عَنِ الْإِلْفِ، وَالْعَادَةِ، وَالْمَذْهَبِ، وَالِاعْتِقَادِ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهَا عِنْدَ هَذَا الْفَرْضِ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، وَجَدَهَا جَازِمَةً بِتَرْجِيحِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ يَطُولُ، وَإِنْكَارُ مُجَرَّدِ إِدْرَاكِ الْعَقْلِ لِكَوْنِ الْفِعْلِ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا مُكَابَرَةٌ1، وَمُبَاهَتَةٌ2. وَأَمَّا إِدْرَاكُهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْحَسَنِ مُتَعَلَّقًا لِلثَّوَابِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ مُتَعَلَّقًا لِلْعِقَابِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَغَايَةُ مَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْحَسَنَ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَهَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُتَعَلَّقًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 3 وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 4 وَقَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} ونحو هذا.
المبحث الثالث في المحكوم به
المبحث الثالث في المحكوم به مدخل ... الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْمَحْكُومِ بِهِ هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ يُسَمَّى وَاجِبًا، وَمُتَعَلِّقُ النَّدْبِ يُسَمَّى مَنْدُوبًا، وَمُتَعَلِّقُ الْإِبَاحَةِ يُسَمَّى مُبَاحًا، وَمُتَعَلِّقُ الْكَرَاهَةِ يُسَمَّى مَكْرُوهًا، وَمُتَعَلِّقُ التَّحْرِيمِ يُسَمَّى حَرَامًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ1 حَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَفِيهِ مسائل ثلاث:
المسألة الأولى
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ شَرْطَ الْفِعْلِ الَّذِي وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ، أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فَلَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْتَحِيلًا بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى امْتِنَاعِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ بِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ: بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ، جَائِزٌ فِي الْمُمْتَنِعِ لِامْتِنَاعٍ تَعَلَّقَ قُدْرَةُ الْمُكَلَّفِ بِهِ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ لَكَانَ مَطْلُوبًا حُصُولُهُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَ ذَاتِ الْمُسْتَحِيلِ، مَعَ عَدَمِ تَصَوُّرِ مَا يَلْزَمُ ذَاتُهُ لِذَاتِهِ، مِنْ عَدَمِ الْحُصُولِ، يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ غَيْرَ ذَاتِهِ، فَيَلْزَمُ قَلْبُ الْحَقَائِقِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لَا يَحْصُلُ لَهُ صُورَةٌ فِي الْعَقْلِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ شَيْءٌ هُوَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فَتَصَوُّرُهُ إِمَّا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ، بِأَنْ يُعْقَلَ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ أَمْرٌ، هُوَ الِاجْتِمَاعُ، ثُمَّ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّفْيِ بِأَنْ يُعْقَلَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ مَفْهُومُ اجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِمَاهِيَّتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارٍ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ قُبْحَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ، وَالْمُجَوِّزُ لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِمَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِتَحْرِيرِهِ، وَالتَّعَرُّضُ لِرَدِّهِ، وَلِهَذَا وَافَقَ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ عَلَى امْتِنَاعِ الْوُقُوعِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ، مَعَ كَوْنِهِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجُمْلَةِ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 1 {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 2 {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِه} 3. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ عِنْدَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ: "قَدْ فَعَلْتُ"4 وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَنَحْوُهَا إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ، لَا عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، على أن
الْخِلَافَ فِي مُجَرَّدِ الْجَوَازِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا. قَالَ الْمُثْبِتُونَ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِهِ لَمْ يَقَعْ، وَقَدْ وَقَعَ لِأَنَّ الْعَاصِيَ مَأْمُورٌ بِالْإِيمَانِ، وَمُمْتَنِعٌ مِنْهُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَوُقُوعُ خِلَافِ مَعْلُومِهِ سُبْحَانَهُ مُحَالٌ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَقَالُوا أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يَقَعْ، وَقَدْ وَقَعَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَلَّفَ أَبَا جَهْلٍ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ تَصْدِيقُ رَسُولِهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّ: أَبَا جَهْلٍ لَا يُصَدِّقُهُ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الْوُقُوعِ، لِجَوَازِ وُقُوعِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ لِغَيْرِهِ، مِنْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَمْ يكلف إلا بتصديق، وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، مُتَصَوَّرٌ وُقُوعُهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَهُ، كعلمه بالعاصي. هَذَا الْكَلَامُ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وأما التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ: فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَوُقُوعِهِ.
المسألة الثانية
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ، عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الرَّازِيُّ وَأَبُو حامد1 وأبو زيد2 والسرخسي3: هو شرط.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا؛ إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِثْلَ الْجُنُبِ، وَالْمُحْدِثِ، مَأْمُورَانِ بالصلاة، بل هي مفروضة في جزء مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، أَيْ: بِفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ عَمَلًا عِنْدَ الْأَوَّلِينَ، لَا عِنْدَ الْآخِرِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْآخِرِينَ: هُمْ مُكَلَّفُونَ بِالنَّوَاهِي؛ لِأَنَّهَا أَلْيَقُ بِالْعُقُوبَاتِ الزَّاجِرَةِ، دُونَ الْأَوَامِرِ. وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِأَمْرِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْكَافَّةِ، وَبِالْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ: أَنَّهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ. اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِالْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم} 1 وَنَحْوِهَا، وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ عَلَى التَّرْكِ كقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين} 2. لَا يُقَالُ: قَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِجَوَازِ كَذِبِهِمْ؛ لأنا نقول: ولو كَذَبُوا لَكُذِّبُوا. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 3. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} 4. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَاسْتَدَلَّ الْآخِرُونَ بِأَنَّهُمْ: لَوْ كُلِّفُوا بِهَا لَصَحَّتْ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، "وَلَأَمْكَنَ"* الِامْتِثَالُ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ، وَلَا يُمْكِنُ الِامْتِثَالُ حَالَ الْكُفْرِ، لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَلَا بَعْدَهُ، وَهُوَ حَالُ الْمَوْتِ، لِسُقُوطِ الْخِطَابِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْكُفْرِ لَيْسَتْ قَيْدًا لِلْفِعْلِ فِي مُرَادِهِمْ بالتكليف به
مَسْبُوقًا لِلْإِيمَانِ، وَالْكَافِرُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ، وَيَفْعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ، فَإِنَّهُمَا مَأْمُورَانِ بِالصَّلَاةِ، مَعَ تَلَبُّسِهِمَا بِمَانِعٍ عَنْهَا، يَجِبُ عَلَيْهِمَا إِزَالَتُهُ لِتَصِحَّ مِنْهُمَا، وَالِامْتِنَاعُ الْوَصْفِيُّ لَا يُنَافِي الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّكْلِيفُ لِلْكُفَّارِ، لَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ وَصِحَّتِهِ رَبْطٌ عَقْلِيٌّ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ1. وَأَيْضًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 2 ودليل عَلَى "عَدَمِ"* وُجُوبِ الْقَضَاءِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْصِيلِ: بأن النهي هي تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ مُمْكِنٌ مَعَ الْكُفْرِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ مِنَ التَّرْكِ كَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُثَابُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا: الْمُكَلَّفُ بِهِ في النهي هو الكف، وهو فعل3.
المسألة الثالثة
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ التَّكْلِيفَ بِالْفِعْلِ -وَالْمُرَادُ بِهِ: أَثَرُ الْقُدْرَةِ الَّذِي هُوَ الْأَكْوَانُ، لَا التَّأْثِيرُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَعْرَاضِ النِّسْبِيَّةِ- ثَابِتٌ قَبْلَ حدوثه اتقافًا، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَهُ اتِّفَاقًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِي الطَّرَفَيْنِ، فَهُوَ بَيِّنُ السُّقُوطِ، وَمَا قَالُوهُ: مِنْ أَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ انْعَدَمَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَصِفَاتُهُ أَبَدِيَّةٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ، بِأَنَّ كَلَامَهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ، وَالتَّعَدُّدُ فِي العوارض الحادثة من التعليق كَكَوْنِهِ أَمْرًا، أَوْ نَهْيًا، وَانْتِفَاؤُهُمَا لَا يُوجِبُ انتفاءه.
وَاخْتَلَفُوا هَلِ التَّكْلِيفُ بِهِ بَاقٍ حَالَ حُدُوثِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ: هُوَ بَاقٍ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجُوَيْنِيُّ: لَيْسَ بِبَاقٍ. وَلَيْسَ مُرَادُ مَنْ قَالَ بِالْبَقَاءِ: أَنَّ تَعَلُّقَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ لِنَفْسِهِ؛ إِذْ لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَصْلًا، وَلَا أَنَّ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا غَيْرَ حَاصِلٍ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَلَا أَنَّ الْقُدْرَةَ مع الفعل، لاستلزمه أَنْ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَ مُكَلَّفٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ. بَلْ مُرَادُهُمْ: أَنَّ التَّكْلِيفَ باقٍ عِنْدَ التَّأْثِيرِ لَكِنَّ التَّأْثِيرَ عَيْنُ الْأَثَرِ عِنْدَهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْفِعْلَ مَقْدُورٌ حَالَ حُدُوثِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْقُدْرَةِ فَيُوجَدُ مَعَهَا، وَإِذَا كَانَ مَقْدُورًا حِينَئِذٍ فَيَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ إِلَّا عَدَمُ الْقُدْرَةِ وَقَدِ انْتَفَى. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَيُرَدُّ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ إِنَّمَا هُوَ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ بِوُجُودٍ سَابِقٍ، لَا بِوُجُودٍ حَاصِلٍ.
المبحث الرابع في المحكوم عليه وهو المكلف
المبحث الرابع في المحكوم عليه وهو المكلف ... الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ اعْلَمْ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالشَّرْعِيَّاتِ فَهْمُ الْمُكَلَّفِ لِمَا كُلِّفَ بِهِ، بِمَعْنَى تَصَوُّرِهِ، بِأَنْ يَفْهَمَ مِنَ الْخِطَابِ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ، لَا بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ بِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ1، وَلَزِمَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ، لِعَدَمِ حُصُولِ التَّصْدِيقِ "لَهُمْ"*. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْفَهْمِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَزِمَ الْمُحَالُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ اسْتِدْعَاءُ حُصُولِ الْفِعْلِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً وَشَرْعًا مِمَّنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِالْأَمْرِ. وَأَيْضًا: يَلْزَمُ تَكْلِيفُ الْبَهَائِمِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ تَكْلِيفِهَا إِلَّا عَدَمُ الْفَهْمِ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ "وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى كَوْنِ الْفَهْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ مَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ* وَقَدْ تَقَدَّمَ 1 بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ. فَتَقَرَّرَ بِهَذَا أَنَّ الْمَجْنُونَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْهَمَانِ خِطَابَ التَّكْلِيفِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ. وَأَمَّا لُزُومُ أَرْشِ2 جِنَايَتِهِمَا وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَمِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ، لَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، لَكِنَّهُ تَمْيِيزٌ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُكَلَّفِينَ. وَأَيْضًا: وَرَدَ الدَّلِيلُ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ" 3. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهِ مَقَالٌ، لَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ طُرُقِهِ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ، وَبِاعْتِبَارِ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، لِكَوْنِهِمْ بَيْنَ عَامِلٍ بِهِ، وَمُؤَوِّلٍ لَهُ، صَارَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: "مَنِ اخْضَرَّ مِئْزَرُهُ فَاقْتُلُوهُ" 4 وَأَحَادِيثُ: النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ حَتَّى يَبْلُغُوا كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَصَايَاهُ لِأُمَرَائِهِ، عِنْدَ غَزْوِهِمْ لِلْكُفَّارِ5، وأحاديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لا
يَأْذَنُ فِي الْقِتَالِ إِلَّا لِمَنْ بَلَغَ سِنَّ التَّكْلِيفِ1. وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَلَمْ يَأْتِ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِإِيرَادِهِ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ صَحَّ طَلَاقُ السَّكْرَانِ، وَلَزِمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، وَقِيمَةُ مَا أَتْلَفَهُ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فِي أحكام التكليف، لَا فِي أَحْكَامِ الْوَضْعِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون} 2، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، فَقَدْ كَلَّفَ مَنْ لَا يَفْهَمُ التَّكْلِيفَ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ السُّكْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ، فَالنَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ. وَرُدَّ أَيْضًا بِغَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ. وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ: هَلِ الْمَعْدُومُ مُكَلَّفٌ أَمْ لَا؟. فَذَهَبَ الْأَوَّلُونَ إِلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرُونَ إِلَى الْآخَرِ. وَلَيْسَ مُرَادُ الْأَوَّلِينَ بِتَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ أَنَّ الْفِعْلَ، أَوِ الْفَهْمَ مَطْلُوبَانِ مِنْهُ حَالَ عَدَمِهِ، فَإِنَّ بُطْلَانَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مَا أَوْرَدَهُ الْآخَرُونَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ تَكْلِيفُ النَّائِمِ، وَالْغَافِلِ، امْتَنَعَ تَكْلِيفُ الْمَعْدُومِ "بطريق الأولى"*، بل مرادهم التعليق الْعَقْلِيُّ، أَيْ: تَوَجُّهُ الْحُكْمِ فِي الْأَزَلِ إِلَى مَنْ عَلِمَ اللَّهُ وُجُودَهُ، مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَ التَّكْلِيفِ.
وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَلَّقِ التَّكْلِيفُ بِالْمَعْدُومِ، لَمْ يَكُنِ التَّكْلِيفُ أَزَلِيًّا؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى الْوُجُودِ الْحَادِثِ، يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَادِثًا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ، لِحُصُولِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُمَا كَلَامُ اللَّهِ، وَهُوَ أَزَلِيٌّ. وَهَذَا الْبَحْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَاحْتَجَّ الْآخِرُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْدُومُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْخَبَرُ، وَالنِّدَاءُ، وَالِاسْتِخْبَارُ، مِنْ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مُحَالُ. وَرُدَّ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مُحَالًا بَلْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَتَطْوِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ قَلِيلُ الْجَدْوَى، بَلْ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ طَالَتْ ذُيُولُهَا، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِيهَا فِرَقًا، وَامْتُحِنَ بِهَا مَنِ امْتُحِنَ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، لَيْسَ لَهَا "كبير"* فَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا صَانَ اللَّهُ سَلَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، والتابعين، وتابعيهم عن التكلم فيها.
الفصل الثالث في المبادئ اللغوية
الفصل الثالث في المبادئ اللغوية المبحث الأول: عن ماهية الكلام ... الفصل الثالث: في المبادئ اللغوية اعْلَمْ: أَنَّ الْبَحْثَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْكَلَامِ، أَوْ عَنْ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ دَلَالَتُهُ وَضْعِيَّةً، فَالْبَحْثُ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، إِمَّا أَنْ يَقَعَ عَنِ الْوَاضِعِ، أَوِ الْمَوْضُوعِ، أَوِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، أَوْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْوَضْعُ فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ خَمْسَةٌ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عَنْ مَاهِيَّةِ الْكَلَامِ وَهُوَ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَعَلَى الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ الْمَسْمُوعَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذَا الْفَنِّ عَنِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، بَلِ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْبَحْثِ عَنْهُ فِيهِ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي. فَالْأَصْوَاتُ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ، وَهِيَ الْكَلَامُ الْمُنْتَظِمُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ، الْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهَا. وَالِانْتِظَامُ: هُوَ التَّأْلِيفُ لِلْأَصْوَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ عَلَى السَّمْعِ. وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ الْحُرُوفِ الْحَرْفُ، الْوَاحِدُ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْكَلَامِ حَرْفَانِ، وَبِالْمَسْمُوعَةِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ، وَبِالْمُتَمَيِّزَةِ أَصْوَاتُ مَا عَدَا "صوت"* الْإِنْسَانَ، وَبِالْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهَا الْمُهْمَلَاتُ، وَقَدْ خَصَّصَ النُّحَاةُ الْكَلَامَ بِمَا تَضَمَّنَ كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تسمى كلامًا.
المبحث الثاني: عن الواضع
المبحث الثاني: عن الْوَاضِعُ ... الْبَحْثُ الثَّانِي: عَنِ الْوَاضِعِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ1، وَأَتْبَاعُهُ، وَابْنُ فُورِكٍ2. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ الْبَشَرُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ3 وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ اللُّغَةِ وَقَعَ بِالتَّعْلِيمِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْبَاقِيَ بِالِاصْطِلَاحِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ اللُّغَةِ وَقَعَ بِالِاصْطِلَاحِ وَالْبَاقِيَ تَوْقِيفٌ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ4 وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ بِالَّذِي قَبْلَهُ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ نَفْسَ الْأَلْفَاظِ دَلَّتْ عَلَى مَعَانِيهَا بِذَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ عَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الصَّيْمَرِيُّ5. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَحَدِهَا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ كما حكاه صاحب "المحصول"6.
احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1. دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ، ثَبَتَ أَيْضًا فِي الْأَفْعَالِ، وَالْحُرُوفِ؛ إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَأَيْضًا: الِاسْمُ إِنَّمَا سُمِّيَ اسْمًا لِكَوْنِهِ عَلَامَةً عَلَى مُسَمَّاهُ، وَالْأَفْعَالُ، وَالْحُرُوفُ كَذَلِكَ، وَتَخْصِيصُ الِاسْمِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ اصْطِلَاحٌ لِلنُّحَاةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ قَوْمًا عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ بَعْضَ الأشياء، دون توقيف، بقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} 2. فَلَوْ لَمْ تَكُنِ اللُّغَةُ تَوْقِيفِيَّةً لَمَا صَحَّ هَذَا الذَّمُّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 3. وَالْمُرَادُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ، لَا اخْتِلَافَاتُ "تَأْلِيفَاتِ"* الْأَلْسُنِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاصْطِلَاحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُعَرِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِطَرِيقٍ، كَالْأَلْفَاظِ، وَالْكِتَابَةِ، وَكَيْفَمَا كَانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ. إِمَّا الِاصْطِلَاحُ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، أَوِ التَّوْقِيفُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِالْمُوَاضَعَةِ لَجَوَّزَ الْعَقْلُ اخْتِلَافَهَا، وَأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللُّغَاتِ قَدْ تَبَدَّلَتْ، وَحِينَئِذٍ لَا يُوثَقُ بِهَا. وَأُجِيبَ عَنِ الاستدلال بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء} بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْلِيمِ الْإِلْهَامُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} 4، أَوْ تَعْلِيمُ مَا سَبَقَ وَضْعُهُ مِنْ خَلْقٍ آخر، أو المراد
بالأسماء المسميات، بدليل قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُم} 1. وَيُجَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا اخْتَرَعُوهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ لِلْأَصْنَامِ، مِنَ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ2. وَوَجْهُ الذَّمِّ مُخَالَفَةُ ذَلِكَ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ. وَأُجِيبَ عَنِ الاستدلال بقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُم} بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوْقِيفُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَإِقْرَارُ الْخَلْقِ عَلَى وَضْعِهَا. وَيُجَابُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ: بِمَنْعِ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَضْعُ الْوَاضِعِ هَذَا الِاسْمَ لِهَذَا الْمُسَمَّى، ثُمَّ تَعْرِيفُ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ وَضَعَهُ كَذَلِكَ. وَيُجَابُ عَنِ الوجه الثان: بِأَنَّ تَجْوِيزَ الِاخْتِلَافِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَمِمَّا يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ حُصُولَ اللُّغَاتِ لَوْ كَانَ بِالتَّوْقِيفِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَكَانَ ذَلِكَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ لُغَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُعْتَادُ فِي التَّعْلِيمِ لِلْعِبَادِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- علمها، غَيْرَهُ. وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّعْلِيمَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْإِرْسَالِ، لِجَوَازِ حُصُولِهِ بِالْإِلْهَامِ، وَفِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِلْهَامِ لَا يُوجِبُ كَوْنَ اللُّغَةِ تَوْقِيفِيَّةً، بَلْ هِيَ مِنْ وَضْعِ النَّاسِ بِإِلْهَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ. احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي: بِالْمَنْقُولِ، وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْمَنْقُولُ: فقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} 3. أَيْ: بِلُغَتِهِمْ، فَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ اللُّغَةِ عَلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ، فَلَوْ كَانَتِ اللُّغَةُ تَوْقِيفِيَّةً لَمْ يُتَصَوَّرْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِرْسَالِ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ اللُّغَاتِ لِلْإِرْسَالِ، وَالتَّوْقِيفُ يدل على سبق الإرسال لها.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ كَوْنَ التَّوْقِيفِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِرْسَالِ إِنَّمَا يُوجِبُ سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى التَّوْقِيفِ، لَا سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى اللُّغَاتِ، حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِتَعْلِيمِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهَا، مَعْلُومَةً لِلرَّسُولِ عَادَةً، لِتَرَتُّبِ فَائِدَةِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَهَا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا لِأَقْدَمِ رَسُولٍ انْدَفَعَ الدَّوْرُ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَوْقِيفِيَّةً لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، بِأَنْ وَضَعَهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو. إِمَّا أن يقال: "الله"* خُلِقَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِي عَاقِلٍ، أَوْ فِي غَيْرِ عَاقِلٍ، وَبَاطِلٌ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي عَاقِلٍ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَضَعَ تِلْكَ اللَّفْظَةَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا لَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ ضَرُورِيًّا، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ ضَرُورِيًّا لَبَطَلَ التَّكْلِيفُ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا. وَبَاطِلٌ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ عَالِمًا بِهَذِهِ اللُّغَاتِ الْعَجِيبَةِ، وَالتَّرْكِيبَاتِ اللَّطِيفَةِ. احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الِاصْطِلَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِأَنْ يُعَرِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ، فَإِنْ عَرَّفَهُ بِأَمْرٍ آخَرَ اصْطِلَاحِيٍّ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنَ التَّوْقِيفِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُحْدَثَ لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ الِاصْطِلَاحِ، بَلْ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُحْدِثُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَلْفَاظًا مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ، بَلْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّرْدِيدِ وَالْقَرَائِنِ، كَالْأَطْفَالِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ: فَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ: بِأَنْ فَهْمَ مَا جَاءَ تَوْقِيفًا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الِاصْطِلَاحِ وَالْمُوَاضَعَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ مُنَاسَبَةٌ بِوَجْهٍ مَا، لَكَانَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الْمُعَيَّنِ لِلْمُسَمَّى الْمُعَيَّنِ تَرْجِيحًا بِدُونِ مُرَجِّحٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَاضِعُ هُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، كَانَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الْمُعَيَّنِ بِالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنِ، كَتَخْصِيصِ وُجُودِ الْعَالَمِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، دُونَ مَا قَبْلَهُ أو ما بَعْدَهُ. وَأَيْضًا: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا فِي وَضْعِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ خَفِيَ علينا.
وَإِنْ كَانَ الْوَاضِعُ الْبَشَرَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خُطُورَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْبَالِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ بَاسْمٍ خَاصٍّ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ السَّادِسِ: عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْوَقْفِ: بِأَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ لَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْهَا الْقَطْعَ، بَلْ لَمْ يَنْهَضْ شَيْءٌ مِنْهَا لِمُطْلَقِ الدَّلَالَةِ، فَوَجَبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهُ هُوَ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَمْ يقل، وأنه باطل. وهذا هو الحق.
المبحث الثالث: عن الموضوع
المبحث الثالث: عن الْمَوْضُوعُ ... الْبَحْثُ الثَّالِثُ: عَنِ الْمَوْضُوعِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَرْدُ الْوَاحِدُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ لَا يَسْتَقِلُّ وَحْدَهُ، بِإِصْلَاحِ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي ذَلِكَ مِنْ جَمْعٍ، لِيُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى تَعْرِيفِ صَاحِبِهِ بِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَذَلِكَ التَّعْرِيفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَرِيقٍ مِنْ أَصْوَاتٍ مُقَطَّعَةٍ، أَوْ حَرَكَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَجَعَلُوا الْأَصْوَاتَ الْمُقَطَّعَةَ هِيَ الطَّرِيقَ إِلَى التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ أَسْهَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَقَلُّ مُؤْنَةً، وَلِكَوْنِ إِخْرَاجِ النَّفَسِ أَمْرًا ضَرُورِيًّا، فَصَرَّفُوا هَذَا الْأَمْرَ الضَّرُورِيَّ إِلَى هَذَا التَّعْرِيفِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ، مَعَ كَوْنِهَا تَحْتَاجُ إِلَى مُزَاوَلَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَرَكَاتِ وَالْإِشَارَاتِ قَاصِرَةٌ عَنْ إِفَادَةِ جَمِيعِ مَا يُرَادُ فَإِنَّ مَا يُرَادُ تَعْرِيفُهُ قَدْ لَا تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ الْحِسِّيَّةُ إِلَيْهِ كَالْمَعْدُومَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةَ هِيَ كُلُّ لَفْظٍ وُضِعَ لِمَعْنًى. فَيَخْرُجُ مَا لَيْسَ بِلَفْظٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَوْضُوعَةِ، وَمَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ مِنَ الْمُحَرَّفَاتِ، وَالْمُهْمَلَاتِ، وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدَاتُ، وَالْمُرَكَّبَاتُ السِّتَّةُ، وَهِيَ الْإِسْنَادِيُّ، وَالْوَصْفِيُّ، وَالْإِضَافِيُّ، وَالْعَدَدِيُّ، وَالْمَزْجِيُّ، وَالصَّوْتِيُّ. وَمَعْنَى الْوَضْعِ يَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ: أَعَمَّ وَأَخَصَّ، فَالْأَعَمُّ: تَعْيِينُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ مَعْنًى، وَالْأَخَصُّ: تَعْيِينُ اللَّفْظِ للدلالة على معنى.
المبحث الرابع: عن الموضوع له
المبحث الرابع: عن الْمَوْضُوعُ لَهُ ... الْبَحْثُ الرَّابِعُ: عَنِ الْمَوْضُوعِ لَهُ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ، أَوْ فِي الذِّهْنِ فَقَطْ.
وقيل: هو موضع "لِلْوُجُودِ"* الْخَارِجِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ1. وَقِيلَ: هو موضوع للأعم، من الذهبي وَالْخَارِجِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ2. وَقِيلَ: أَنَّ اللَّفْظَ فِي الأشخاص، أي الأعلام الشخصية، موضوع "للموجود"** الخارجي، ولا ينافي كونه للموجود الْخَارِجِيِّ وُجُوبَ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ فَالصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ، آلَةٌ لِمُلَاحَظَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، لَا أَنَّهَا هِيَ الْمَوْضُوعُ لَهَا، وَأَمَّا فِيمَا عَدَا الْأَعْلَامَ الشَّخْصِيَّةَ، فَاللَّفْظُ مَوْضُوعٌ لِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُنْتَشِرُ فِيمَا وُضِعَ لِمَفْهُومٍ كُلِّيٍّ، أَفْرَادُهُ خَارِجِيَّةٌ أَوْ ذِهْنِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ خَارِجِيَّةً، فَالْمَوْضُوعُ لَهُ فَرْدٌ مَا مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِنْ كانت ذهنية، لَهُ فَرْدٌ مَا مِنَ الذِّهْنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذِهْنِيَّةً وَخَارِجِيَّةً، فَالِاعْتِبَارُ بِالْخَارِجِيَّةِ. وَقَدْ أَلْحَقَ عَلَمَ الْجِنْسِ بِالْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ، فَيَجْعَلُ عَلَمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعًا لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ، وَاسْمَ الْجِنْسِ لِفَرْدٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَفِي اسْمِ الْجِنْسِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ، مَعَ وَحْدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا وَيُسَمَّى فَرْدًا مُنْتَشِرًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ3، وَابْنُ الْحَاجِبِ4، وَرَجَّحَهُ السَّعْدُ5، وَابْنُ الْهُمَامِ6. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَرَجَّحَهُ الشَّرِيفُ7. فَالْمَوْضُوعُ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ شَيْءٍ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي هُوَ الْمَاهِيَّةُ لَا بشرط شيء.
المبحث الخامس: عن الطريق التي يعرف بها الوضع
المبحث الْخَامِسُ: عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْوَضْعُ ... الْبَحْثُ الْخَامِسُ: عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْوَضْعُ اعْلَمْ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَارِدَيْنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِمَا مُتَوَقِّفًا عَلَى الْعِلْمِ بِهَا كَانَ الْعِلْمُ بِهَا، مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ. وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي نُقِلَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ بِهَا إِلَيْنَا؛ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ، وَالْأُمُورُ الْوَضْعِيَّةُ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِهَا فَلَا تَكُونُ الطَّرِيقُ إِلَيْهَا إِلَّا نَقْلِيَّةً. وَالْحَقُّ أَنَّ جَمِيعَهَا مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ مِنْهَا لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ كَالْأَرْضِ، وَالسَّمَاءِ، وَالْحَرِّ، وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِهَا، فَهُوَ مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ كَاللُّغَاتِ الَّتِي فِيهَا غَرَابَةٌ، فَهُوَ مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ الْآحَادِ. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُشْتَغِلِينَ بِنَقْلِ اللُّغَةِ قَدْ نَقَلُوا غَرِيبَهَا كَمَا نَقَلُوا غَيْرَهُ، وَهُمْ عَدَدٌ لَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ تواطأهم عَلَى الْكَذِبِ، فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، هَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْمُشْتَغِلِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" تَشْكِيكًا عَلَى هَذَا، كَعَادَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، حَتَّى فِي "تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ" فَقَالَ: "أَمَّا التَّوَاتُرُ: فَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَجِدُ النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ، الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ، اخْتِلَافًا لَا يُمْكِنُ "مَعَهُ"* الْقَطْعُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ كَلَفْظَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ زعم أنها
لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً بَلْ سُرْيَانِيَّةً، وَالَّذِينَ جَعَلُوهَا عَرَبِيَّةً اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، أَوِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِالِاشْتِقَاقِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَكَذَا الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً، اخْتَلَفُوا أَيْضًا اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَدِلَّتَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَدْلُولِ هَذِهِ اللفظة عَلِمَ أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ وَأَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يفيد الظن الغالب، فضلًا عن اليقين. "وكذلك"1 اخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، زَعَمَ: أَنَّ اشْتِقَاقَ الصَّلَاةِ مِنْ "الصَّلَوَيْنِ" وَهُمَا عَظْمَا الْوَرِكِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الِاشْتِقَاقَ غَرِيبٌ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَصِيَغِ الْعُمُومِ، مَعَ شِدَّةِ اشْتِهَارِهَا، وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، الَّتِي هِيَ أَشْهَرُ الْأَلْفَاظِ وَالْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا مَاسَّةٌ جِدًّا كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: ظَهَرَ أَنَّ دَعْوَى التَّوَاتُرِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ مُتَعَذِّرٌ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ كَوْنُ نَقْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَيْنَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، عَنِ الْعَرَبِ الْمَوْثُوقِ بِعَرَبِيَّتِهِمْ، فَالِاخْتِلَافُ فِي الِاشْتِقَاقِ وَالْوَضْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا يَصْلُحُ لِلتَّشْكِيكِ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَقَدْ تَنَبَّهَ الرَّازِيُّ لِهَذَا فَقَالَ فَإِنْ قُلْتَ: هَبْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى التَّوَاتُرِ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ مَعَانِيَهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ "اللَّهِ" تَعَالَى عَلَى الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ أَهُوَ الذَّاتُ، أَمِ الْمَعْبُودِيَّةُ، أَمِ الْقَادِرِيَّةُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ. قُلْتُ: حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ إِطْلَاقَ لَفْظَةِ "اللَّهِ" "عَلَى الْإِلَهِ"2 سبحانه وتعالى من غير أن نعلم أن مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ ذَاتِهِ أَوْ كَوْنِهِ "مَحْمُودًا أَوْ كَوْنِهِ"3 قَادِرًا عَلَى الِاخْتِرَاعِ، أَوْ كَوْنِهِ مَلْجَأَ الْخَلْقِ أَوْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِي إِدْرَاكِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِمُسَمَّاهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، مَعَ نِهَايَةِ شُهْرَتِهَا، وَنِهَايَةِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، كَانَ تَمَكُّنُ الِاحْتِمَالِ فِيمَا عَدَاهَا أَظْهَرُ انْتَهَى. وَهَذَا الْجَوَابُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ نُقِلَتْ إِلَيْنَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّوَاتُرِ، وَنَقَلَ إلينا الناقلون
لَهَا: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي مَفْهُومِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَبَحْثٌ آخَرُ، لَا يُقْدَحُ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا. ثُمَّ قَالَ مُرْدِفًا لِذَلِكَ التَّشْكِيكِ بِتَشْكِيكٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ مِنْ شَرْطِ التواتر استواء الطرفين "والوسطة"*. فهب أن عَلِمْنَا حُصُولَ شَرَائِطِ التَّوَاتُرِ فِي حُفَّاظِ اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، فِي زَمَانِنَا، فَكَيْفَ نَعْلَمُ حُصُولَهَا فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ؟ انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ عِلْمَنَا حُصُولَهَا فِيهِمْ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ بِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، الْمُشْتَغِلِينَ بِأَحْوَالِ النَّقَلَةِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا. ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّشْكِيكِ فِي نَقْلِهَا آحَادًا، وَجَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ مَدْفُوعٌ مَرْدُودٌ، فَلَا نَشْتَغِلُ بِالتَّطْوِيلِ بِنَقْلِهِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى الرَّدِّ لِبَقِيَّةِ مَا شَكَّكَ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إِثْبَاتِ اللُّغَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ: فَجَوَّزَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ1، وَابْنُ شُرَيْحٍ2، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَمَنَعَهُ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ3، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَابْنُ الْهُمَامِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيمَا ثَبَتَ تَعْمِيمُهُ بِالنَّقْلِ، كَالرَّجُلِ، وَالضَّارِبِ، أَوْ بِالِاسْتِقْرَاءِ، كَرَفْعِ الْفِعْلِ، وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ، بَلِ النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا سُمِّيَ مُسَمًّى بِاسْمٍ فِي هَذَا الِاسْمِ -بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ مِنْ حيث
الِاشْتِقَاقِ أَوْ غَيْرِهِ- مَعْنًى يُظَنُّ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّسْمِيَةِ، لِأَجْلِ دَوَرَانِ ذَلِكَ الِاسْمِ مَعَ هَذَا الْمَعْنَى، وُجُودًا وَعَدَمًا، وَيُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ. فَهَلْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ الِاسْمُ الْمَذْكُورُ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ بِسَبَبِ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ، فَيُطْلَقُ ذَلِكَ الِاسْمُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً؛ إِذْ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ الْإِطْلَاقِ مَجَازًا إِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْإِطْلَاقِ حَقِيقَةً، وذلك كالخمر، الذي هو اسم للنيء مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، إِذَا أُطْلِقَ عَلَى النَّبِيذِ إِلْحَاقًا لَهُ بالنيء الْمَذْكُورِ بِجَامِعِ الْمُخَامَرَةِ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّهَا مَعْنًى فِي الاسم، يظن اعتباره في تسمية النيء الْمَذْكُورِ بِهِ، لِدَوَرَانِ التَّسْمِيَةِ مَعَهُ، فَمَهْمَا لَمْ تُوجَدْ فِي مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا بَلْ عَصِيرًا، وَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ سُمِّيَ بِهِ، وَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ، بَلْ خَلًّا، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي النَّبِيذِ، أَوْ يُخَصُّ اسْمُ الْخَمْرِ بِمُخَامِرٍ لِلْعَقْلِ، هُوَ مَاءُ الْعِنَبِ الْمَذْكُورُ، فَلَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى النَّبِيذِ، وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ النَّبَّاشِ سَارِقًا لِلْأَخْذِ بِالْخُفْيَةِ، وَاللَّائِطِ زَانِيًا لِلْإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ. احْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ: بِأَنَّ دَوَرَانَ الِاسْمِ مَعَ الْمَعْنَى وُجُودًا وَعَدَمًا يَدُلُّ عَلَى أنه المعتب؛ لأن يُفِيدُ الظَّنَّ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ إِفَادَةَ الدَّوَرَانِ لِذَلِكَ ممنوعة، لما سيأتي1 في مسالك العلة، ويعد التَّسْلِيمِ لِإِفَادَةِ الدَّوَرَانِ، وَكَوْنِهِ طَرِيقًا صَحِيحَةً، فَنَقُولُ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِدَوَرَانِ الِاسْمِ مَعَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، دَوَرَانًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ وُجِدَ فِي أَفْرَادِ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرِهَا بِادِّعَاءِ ثُبُوتِ الِاسْمِ فِي كُلِّ مَادَّةٍ يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَانْتِفَائِهِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ بِطَرِيقِ النَّقْلِ، فَغَيْرُ الْمَفْرُوضِ؛ لِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسَمَّى، فَلَا يَتَحَقَّقُ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِدَوَرَانِ الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى أَنْ يَدُورَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَقَطْ، لِوُجُودِ الِاسْمِ فِي كُلِّ مَادَّةٍ يُوجَدُ فِيهَا الْمُسَمَّى، وَانْتِفَائِهِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ، مَنَعْنَا كَوْنَهُ طَرِيقًا مُثْبَتًا تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمٍ لِمُشَارَكَةِ الْمُسَمَّى فِي مَعْنًى دَارَ الِاسْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ طَرِيقًا صَحِيحَةً لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، فَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ كَوْنِهِ طريقًا صحيحة فِي إِثْبَاتِ الِاسْمِ، وَتَعْدِيَتِهِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ سَمْعِيٌ، ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِالسَّمَاعِ مِنَ الشَّارِعِ، وَتَعَبَّدَنَا بِهِ، لَا أَنَّهُ عَقْلِيٌّ. وَأُجِيبَ ثَانِيًا: بِالْمُعَارَضَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَلْبِ، بِأَنَّهُ دَارَ أَيْضًا مَعَ الْمَحَلِّ، كَكَوْنِهِ مَاءَ الْعِنَبِ، وَمَالَ الْحَيِّ، وَوَطَأَ فِي الْقُبُلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ، وَالْمَعْنَى جُزْءٌ مِنَ الْعِلَّةِ. وَمَنْ قَالَ بِقَطْعِ النَّبَّاشِ، وَحَدِّ شَارِبِ النَّبِيذِ فَذَلِكَ لِعُمُومِ دَلِيلِ السَّرِقَةِ، وَالْحَدِّ، أَوْ لِقِيَاسِهِمَا عَلَى السَّارِقِ وَالْخَمْرِ قِيَاسًا شَرْعِيًّا فِي الْحُكْمِ، لَا لِأَنَّهُ يُسَمَّى النَّبَّاشُ سَارِقًا، والنبيذ خمرًا بالقياس
فِي اللُّغَةِ، كَمَا زَعَمْتُمْ، وَأَيْضًا الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ إِثْبَاتٌ بِالْمُحْتَمَلِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَمِلُ التَّصْرِيحَ بِاعْتِبَارِهِ، يَحْتَمِلُ التَّصْرِيحَ بِمَنْعِهِ، وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْوَضْعِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الرُّجْحَانِ وَأَيْضًا هَذِهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ1 الْخِلَافُ هَلْ هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ، أَوِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَيْهَا إِلَّا النَّقْلُ فَقَطْ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّفْصِيلِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلَيْنِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أن الحق منع إثبات اللغة بالقياس.
الفصل الرابع في تقسم اللفظ إلى مفرد ومركب
الفصل الرابع في تقسم اللفظ إلى مفرد ومركب مدخل ... الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى مُفْرَدٍ ومركب اعْلَمْ: أَنَّ اللَّفْظَ إِنْ قُصِدَ بِجُزْءٍ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُفْرَدٌ. وَالْمُفْرَدُ: إِمَّا وَاحِدٌ، أَوْ مُتَعَدِّدٌ، وَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الْوَاحِدُ لِلْوَاحِدِ، إِنْ لَمْ يَشْتَرِكْ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ، لَا مُحَقَّقًا، وَلَا مُقَدَّرًا، فَمَعْرِفَةٌ لِتُعِينَهُ إِمَّا مُطْلَقًا، أَيْ: وَضْعًا وَاسْتِعْمَالًا فَعَلَمٌ، "شَخْصِيٌّ، وَجُزْئِيٌّ" حَقِيقِيٌّ، إِنْ كَانَ فَرْدًا، أَوْ مُضَافًا بِوَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَهْدُ، أَيِ: اعْتِبَارُ الْحُضُورِ لِنَفْسِ الْحَقِيقَةِ أَوْ لِحِصَّةٍ مِنْهَا مُعَيَّنَةٍ مَذْكُورَةٍ، أَوْ فِي حُكْمِهَا، أَوْ مُبْهَمَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ، مُعَيَّنَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّخْصِيصِ، أَوْ لِكُلٍّ مِنَ الْحِصَصِ، وَإِمَّا بِالْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ فَاسْمُهَا وَإِمَّا بِالْعَقْلِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلِهَا سَابِقًا كَضَمِيرِ الْغَائِبِ، أَوْ مَعًا كَضَمِيرَيِ الْمُخَاطَبِ، وَالْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لَاحِقًا، كَالْمَوْصُولَاتِ. وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا فَكُلِّيٌّ، فَإِنْ تَنَاوَلَ الْكَثِيرَ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ فَجِنْسٌ وَإِلَّا فَاسْمُ الْجِنْسِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَتَنَاوُلُهُ لِجُزْئِيَّاتِهِ: إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّفَاوُتِ بِأَوَّلِيَّةٍ، أَوْ أَوْلَوِيَّةٍ أَوْ أَشَدِّيَةٍ، فَهُوَ الْمُشَكِّكُ، وَإِنْ كَانَ تَنَاوُلُهُ لَهَا عَلَى السَّوِيَّةِ فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ وَضْعًا إِلَّا فَرْدًا مُعَيَّنًا فَخَاصٌّ، خُصُوصَ الْبَعْضِ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْأَفْرَادَ وَاسْتَغْرَقَهَا فَعَامٌّ، سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَهَا مُجْتَمِعَةً، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَالْأَوَّلُ يُقَالُ لَهُ الْعُمُومُ الشُّمُولِيُّ، وَالثَّانِي الْبَدَلِيُّ وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا، فَإِنْ تَنَاوَلَ مَجْمُوعًا غَيْرَ مَحْصُورٍ فَيُسَمَّى عَامًّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الِاسْتِغْرَاقَ، كَالْجَمْعِ الْمُنْكَرِ، وَعِنْدَ مَنِ اشْتَرَطَ وَاسِطَةً. وَالرَّاجِحُ: أَنَّهُ خَاصٌّ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ قَطْعِيَّةٌ، كَدَلَالَةِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْوَاحِدِ. وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَجْمُوعًا بَلْ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ يَتَنَاوَلُ مَحْصُورًا فَخَاصٌّ، خُصُوصَ الْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ. الثَّانِي: اللَّفْظُ الْمُتَعَدِّدُ لِلْمَعْنَى الْمُتَعَدِّدِ، وَيُسَمَّى الْمُتَبَايِنُ، سَوَاءٌ تَفَاصَلَتْ أَفْرَادُهُ كَالْإِنْسَانِ، وَالْفَرَسِ، أَوْ تَوَاصَلَتْ كَالسَّيْفِ، وَالصَّارِمِ.
الثَّالِثُ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لِلْمَعْنَى الْمُتَعَدِّدِ فَإِنْ وُضِعَ لِكُلٍّ، فَمُشْتَرَكٌ، وَإِلَّا فَإِنِ اشْتَهَرَ فِي الثَّانِي فَمَنْقُولٌ يُنْسَبُ إِلَى نَاقِلِهِ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ. الرَّابِعُ: اللَّفْظُ الْمُتَعَدِّدُ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَيُسَمَّى الْمُتَرَادِفَ. وَكُلٌّ مِنَ الْأَرْبَعَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى مُشْتَقٍّ، وَغَيْرِ مُشْتَقٍّ، وَإِلَى صِفَةٍ وَغَيْرِ صِفَةٍ. ثُمَّ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ مُطَابَقَةٌ، وَعَلَى جُزْئِهِ تَضَمُّنٌ، وَعَلَى الْخَارِجِ الْتِزَامٌ. وَجَمِيعُ ما ذكرنا ههنا قَدْ بُيِّنَ فِي عُلُومٍ مَعْرُوفَةٍ فَلَا نُطِيلُ البحث فيه، ولكنا نذكرها ههنا خَمْسَ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْعِلْمِ تَعَلُّقًا تَامًّا.
المسألة الأولى: في الاشتقاق
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الِاشْتِقَاقِ الِاشْتِقَاقُ: أَنْ تَجِدَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا فِي الْمَعْنَى وَالتَّرْكِيبِ، فَتَرُدَّ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى. وَثَانِيهَا: شَيْءٌ آخَرُ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَثَالِثُهَا: مُشَارَكَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ. وَرَابِعُهَا: تَغْيِيرٌ يَلْحَقُ ذَلِكَ الِاسْمَ فِي حَرْفٍ فَقَطْ، أَوْ حَرَكَةٍ فَقَطْ، أَوْ فِيهِمَا مَعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، أَوْ بِهِمَا مَعًا، فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ. ثَانِيهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ. ثَالِثُهَا: زِيَادَتُهُمَا. رَابِعُهَا: نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ. خَامِسُهَا: نُقْصَانُ الحرف. سادسها: نقصانهما. سابعها: زيادة لحركة مَعَ نُقْصَانِ الْحَرْفِ. ثَامِنُهَا: زِيَادَةُ الْحَرْفِ مَعَ نُقْصَانِ الْحَرَكَةِ. تَاسِعُهَا: أَنْ يُزَادَ فِيهِ حَرَكَةٌ وَحَرْفٌ، وَيُنْقَصَ عَنْهُ حَرَكَةٌ وَحَرْفٌ. وَقِيلَ: تَنْتَهِي أَقْسَامُهُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِمَّا بِحَرَكَةٍ، أَوْ حَرْفٍ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ بِهِمَا، وَالتَّرْكِيبُ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْأَكْبَرِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُوَافَقَةِ، فَمَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الْحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ صَغِيرٌ، وَبِدُونِ التَّرْتِيبِ كَبِيرٌ، نَحْوَ: جَذَبَ وَجَبَذَ1، وَكَنَى "وَنَكَى"*2 وَبِدُونِ الْمُوَافَقَةِ أَكْبَرُ لِمُنَاسَبَةٍ مَا كَالْمَخْرَجِ فِي ثَلَمَ وَثَلَبَ3، أَوِ الصِّفَةِ، كَالشِّدَّةِ4 فِي الرَّجْمِ وَالرَّقْمِ5 فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ الْمُوَافَقَةُ وَفِي الْأَخِيرِ الْمُنَاسَبَةُ. وَالِاشْتِقَاقُ الْكَبِيرُ وَالْأَكْبَرُ لَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْأُصُولِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي الْأُصُولِ إِنَّمَا هُوَ الْمُشْتَقُّ بِالِاشْتِقَاقِ الصَّغِيرِ. وَاللَّفْظُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صِفَةٌ: وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، بِتَعْيِينٍ شَخْصِيٍّ، وَلَا جِنْسِيٍّ، مُتَّصِفَةٍ بِمُعَيَّنٍ كَضَارِبٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: ذَاتٌ ثَبَتَ لَهَا الضَّرْبُ. وَغَيْرُ صِفَةٍ وَهُوَ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ مُتَّصِفَةٍ بِمُعَيَّنٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، هَلْ بَقَاءُ وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ شَرْطٌ لِصِدْقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، فَيَكُونُ لِلْمُبَاشِرِ حَقِيقَةً اتِّفَاقًا، وَفِي الِاسْتِقْبَالِ مَجَازًا اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَاضِي الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: فَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَجَازٌ. وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: حَقِيقَةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سِينَا6 مِنَ الْفَلَاسِفَةِ7، وأبو هشام من المعتزلة.
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاطِ: بِأَنَّ الضَّارِبَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الضَّرْبِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَارِبٍ، وَإِذَا صَدُقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَارِبٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا ضَارِبٌ يُنَاقِضُهُ -فِي الْعُرْفِ- قَوْلُنَا لَيْسَ بِضَارِبٍ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ أَنَّ نَفْيَهُ فِي الْحَالِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهُ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الثُّبُوتَ فِي الْحَالِ أَخَصُّ مِنَ الثُّبُوتِ مُطْلَقًا، وَنَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ النَّفْيُ الْمُقَيَّدُ بِالْحَالِ لَا نَفْيُ الْمُقَيَّدِ بِالْحَالِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّازِمَ النَّفْيُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُنَافِي الثُّبُوتَ فِي الجملة، إلا أن يقال: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمُنَافَاةِ فِي اللُّغَةِ لَا فِي الْعَقْلِ. وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إِطْلَاقُ الْمُشْتَقِّ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا، بِاعْتِبَارِ مَا قَبْلَهُ، لَصَحَّ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْتَرَطُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَهُوَ كَوْنُهُ ثَبَتَ لَهُ الضَّرْبُ. وَاحْتَجَّ النَّافُونَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى صِحَّةِ ضَارِبٌ أَمْسِ وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ مَجَازٌ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ ضَارِبٌ غَدًا وَهُوَ مَجَازٌ اتِّفَاقًا. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَجَازِيَّتَهُ لِعَدَمِ تَلَبُّسِهِ بِالْفِعْلِ، لَا فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَاضِي، فَلَا يَسْتَلْزِمُ مَجَازِيَّةَ ضَارِبٌ أَمْسِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُشْتَقِّ عَلَى الْمَاضِي الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ حَقِيقَةً؛ لِاتِّصَافِهِ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُمْكِنَ الْبَقَاءِ اشْتُرِطَ بَقَاؤُهُ، فَإِذَا مَضَى وَانْقَطَعَ فَمَجَازٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنِ الْبَقَاءِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْوَقْفِ وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى مَا مَضَى وَانْقَطَعَ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ.
المسألة الثانية: في الترادف
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّرَادُفِ هُوَ تَوَالِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، بِاعْتِبَارِ مَعْنًى واحد. فيخرج عن هذه الأدلة اللَّفْظَيْنِ عَلَى "شَيْءٍ"* وَاحِدٍ لَا بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ بَلْ بِاعْتِبَارِ صِفَتَيْنِ كَالصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ وَصِفَةِ الصِّفَةِ، كَالْفَصِيحِ وَالنَّاطِقِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُؤَكِّدَةِ، أَنَّ الْمُتَرَادِفَةَ تُفِيدُ فَائِدَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا. وَأَمَّا الْمُؤَكِّدَةُ: فَإِنَّ الِاسْمَ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّأْكِيدُ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْمُؤَكَّدِ أَوْ "دَفْعَ"** تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ، أَوِ السَّهْوِ أَوْ عَدَمِ الشُّمُولِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِثْبَاتِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وهو الحق. وسببه إما تعدد "الوضع"***، أَوْ تَوْسِيعُ دَائِرَةِ التَّعْبِيرِ، وَتَكْثِيرُ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ "أَهْلِ الْبَيَانِ"****، بِالِافْتِنَانِ، أَوْ تَسْهِيلُ مَجَالِ النَّظْمِ، وَالنَّثْرِ، وَأَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، فَإِنَّهُ قَدْ "يصلح"***** أحد اللفظين المترادفين للقافية، أو الوزن، أَوِ السَّجْعَةِ1 دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ التَّجْنِيسُ2، وَالتَّقَابُلُ3، وَالْمُطَابَقَةُ4، وَنَحْوُ ذَلِكَ: "بِهَذَا"****** دُونَ هَذَا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الْمَانِعُونَ لِوُقُوعِ التَّرَادُفِ، فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَعَرِيَ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِكِفَايَةِ أَحَدِهِمَا، فَيَكُونُ الثَّانِي مِنْ باب
الْعَبَثِ، وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا قَالُوهُ: مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِحُجَّةٍ مَقْبُولَةٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، مِنْ وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، مِثْلَ: الْأَسَدِ وَاللَّيْثِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالْقَمْحِ، وَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا وَإِنْكَارُهُ مُبَاهَتَةٌ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ التَّرَادُفِ، هُوَ مِنِ اخْتِلَافِ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، كَالْإِنْسَانِ وَالْبَشَرِ، أَوِ الصِّفَاتِ كَالْخَمْرِ لِتَغْطِيَةِ الْعَقْلِ وَالْعَقَارِ لِعُقْرِهِ أَوْ لِمُعَاقَرَتِهِ، أَوِ اخْتِلَافِ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ كَالْقُعُودِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ مِنَ الِاضْطِجَاعِ، تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَتَعَسُّفٌ بَحْتٌ، وَهُوَ وَإِنْ أَمْكَنَ تَكَلُّفُ مِثْلِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ الْمُتَرَادِفَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمَكِنُ فِي أَكْثَرِهَا، يَعْلَمُ هَذَا كُلُّ عَالِمٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَالْعَجَبُ مِنْ نِسْبَةِ الْمَنْعِ مِنَ الْوُقُوعِ إِلَى مِثْلِ ثَعْلَبٍ1، وَابْنِ فَارِسٍ2 مَعَ تَوَسُّعِهِمَا فِي هَذَا الْعِلْمِ.
المسألة الثالثة: في المشترك
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ اللَّفْظَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَضْعًا أَوَّلًا، مِنْ حَيْثُ هُمَا كَذَلِكَ. فَخَرَجَ بِالْوَضْعِ: مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالْحَقِيقَةِ، وَعَلَى غَيْرِهِ بِالْمَجَازِ، "وَخَرَجَ بِقَيْدِ: أَوَّلًا: الْمَنْقُولُ"*، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الْحَيْثِيَّةِ: الْمُتَوَاطِئُ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةَ، لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ: فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ وَاجِبُ الْوُقُوعِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ جَائِزُ الْوُقُوعِ. احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ: بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمَعَانِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْمُتَنَاهِي إِذَا وُزِّعَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَنَاهِي لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ، وَلَا رَيْبَ فِي عَدَمِ تَنَاهِي الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ الْأَعْدَادَ مِنْهَا، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِلَا خِلَافٍ. وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَامَّةَ -كَالْمَوْجُودِ، وَالشَّيْءِ- ثَابِتَةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وقد ثبت أن
وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ نَفْسُ مَاهِيَّتِهِ فَيَكُونُ وُجُودُ الشَّيْءِ مُخَالِفًا لِوُجُودِ الْآخَرِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفَظُ الْمَوْجُودِ بِالِاشْتِرَاكِ. وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِمَنْعِ عَدَمِ تَنَاهِي الْمَعَانِي، إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمُخْتَلِفَةُ، أَوِ الْمُتَضَادَّةُ، وَتَسْلِيمِهِ مَعَ مَنْعِ عَدَمِ وَفَاءِ الْأَلْفَاظِ بِهَا، إِنْ أُرِيدَ الْمُتَمَاثِلَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةُ فَإِنَّ الْوَضْعَ لِلْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرَكَةِ كَافٍ فِي التَّفْهِيمِ. وَأَيْضًا: لَوْ سَلِمَ عَدَمُ تَنَاهِي كُلٍّ مِنْهَا، لَكَانَ عَدَمُ تَنَاهِي مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْبِيرِ وَالتَّفْهِيمِ مَمْنُوعًا. وَأَيْضًا: لَا نُسَلِّمُ تَنَاهِي الْأَلْفَاظِ، لِكَوْنِهَا مُتَرَكِّبَةً مِنَ الْمُتَنَاهِي، فَإِنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، مَعَ تَرَكُّبِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاهِيَةِ. وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَامَّةَ ضَرُورِيَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَوْجُودَ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًا؟ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لِمَ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، سِوَى الْوُجُودِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِتِلْكَ اللَّفْظَةِ الْعَامَّةِ؟ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالِامْتِنَاعِ: بِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لَا يُفِيدُ فَهْمَ الْمَقْصُودِ عَلَى التَّمَامِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ مَنْشَأً لِلْمَفَاسِدِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْفَهْمُ التَّامُّ بِسَمَاعِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ نَفْيَهُ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا، وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْمَوْصُوفَاتِ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ نَفْيَهَا، وَكَوْنَهَا غَيْرَ ثَابِتَةٍ فِي اللُّغَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْوُقُوعِ وَإِمْكَانِهِ: بِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ تَابِعَةٌ لِأَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ فِي تَعْرِيفِ غَيْرِهِ شَيْئًا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الْإِجْمَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُ التَّفْصِيلِ سَبَبًا لِلْمَفْسَدَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قال لمن سأله عن الهجرة عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هو؟ فقال: "هو رجل يهدني السَّبِيلَ"1. وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ وَاثِقًا بِصِحَّةِ الشَّيْءِ عَلَى التَّعْيِينِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ وَاثِقًا بِصِحَّةِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ، فَحِينَئِذٍ يُطْلِقُ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لِئَلَّا يَكْذِبَ، وَلَا يُكذَّب، ولا يظهر جهله
بِذَلِكَ فَإِنَّ أَيَّ مَعْنًى لَا يَصِحُّ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ كَانَ مُرَادِي الثَّانِي، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ كَالْقُرْءِ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَهُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاكِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِمَنْعِ كون القرء حقيقة فيها لِجَوَازِ مَجَازِيَّةِ أَحَدِهِمَا وَخَفَاءِ مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَجَازَ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْقَرِينَةِ الْتَحَقَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَصَلَ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِلَّا فَلَا تَسَاوِي، وَمِثْلُ الْقُرْءِ الْعَيْنُ فَإِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ مَعَانِيهَا الْمَعْرُوفَةِ وَكَذَا الْجَوْنُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَكَذَا عَسْعَسَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَكَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْكِتَابِ فَقَطْ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِمَا لا في اللغة.
المسألة الرابعة: الخلاف في استعمال المشترك في أكثر من معنى
المسألة الرابعة: الخلاف في استعمال المشترك في أكثر من معنى اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ1، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ2، وَالْقَاضِي جَعْفَرٌ3، وَالشَّيْخُ "الْحَسَنُ"*4، وَبِهِ قال الجمهور، وكثير من أئمة أهل
الْبَيْتِ إِلَى جَوَازِهِ. وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ، "وَأَبُو الحسن"*1 الْبَصْرِيُّ، وَالْكَرْخِيُّ2، إِلَى امْتِنَاعِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْقَصْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْوَضْعِ. وَالْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى بَحْثٍ هُوَ: هَلْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ لِمَعْنَيَيْنِ، أَوْ معانٍ عَلَى الْبَدَلِ، أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُمَا أَوْ لَهَا عَلَى الْجَمْعِ، أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْمَانِعُونَ: إِنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَجْمُوعِ، وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ تَخْصِيصُ لَفَظٍ بِمَعْنًى، فَكُلُّ وَضْعٍ يُوجِبُ أَنْ لَا يُرَادَ بِاللَّفْظِ إِلَّا هَذَا "الْمَوْضُوعَ"** لَهُ، وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى تَمَامَ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، فَاعْتِبَارُ كُلٍّ مِنَ الْوَضْعَيْنِ يُنَافِي اعْتِبَارَ الْآخَرِ، فَاسْتِعْمَالُهُ لِلْمَجْمُوعِ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ وُضِعَ لِلْمَجْمُوعِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ لِإِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَحْدَهُ، مَعَ إِفَادَةِ أَفْرَادِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُفِيدًا إِلَّا لِأَحَدِ مَفْهُومَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَهُ بِإِزَاءِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَأَحَدُهَا ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ، فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي كُلِّ مَفْهُومَاتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَالْأَفْرَادِ عَلَى الْبَدَلِ، فَهُوَ مُحَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا. وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبي} 3 كلا المعنيين، وهذا هو الجمع بين معنى المشترك.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِإِيجَابِ اقْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَا بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ النَّبِيَّ، وَالْمَلَائِكَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْعُوا لَهُ، لَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى حَقِيقِيًّا، أَوْ مَعْنًى مَجَازِيًّا، أَمَّا الْحَقِيقِيُّ: فَهُوَ الدُّعَاءُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَدْعُو ذَاتَهُ بِإِيصَالِ الخير إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الدُّعَاءِ الرَّحْمَةُ، فَالَّذِي قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، قَدْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى، لَا أَنَّ الصَّلَاةَ وُضِعَتْ لِلرَّحْمَةِ. وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ: فَكَإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنِ اخْتَلَفَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ، بِحَسَبِ الْوَضْعِ. وَاحْتَجُّوا -أَيْضًا- بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ1، فَإِنَّهُ نَسَبَ السُّجُودَ إِلَى الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، كَالشَّجَرِ، وَالدَّوَابِّ، فَمَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ الِانْقِيَادُ، لَا وَضْعَ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا نُسِبَ إِلَى الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِانْقِيَادَ لَمَا قَالَ {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاس} 2؛ لَأَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ الِانْقِيَادُ فِي الْجَمِيعِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الناس باطل؛ لأن الكفار لم يَنْقَادُوا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ وَضَعُ الرَّأْسِ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْجَمِيعِ، فَلَا يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الْجَمَادَاتِ، إِلَّا مَنْ يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَةِ التَّسْبِيحِ مِنَ الْجَمَادَاتِ، وَبِاسْتِحَالَةِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِذَا عَرَفَتْ هَذَا لَاحَ لَكَ عدم جواز الجمع بين معنى الْمُشْتَرَكِ، أَوْ مَعَانِيهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ جَوْزَهُ بِحُجَّةٍ مَقْبُولَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ مَجَازًا، لَا حَقِيقَةً، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ, وَقِيلَ: يَجُوزُ إِرَادَةُ الْجَمْعِ لَكِنْ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، لَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَقَدْ نُسِبَ هَذَا إِلَى الْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ. وَقِيلَ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: ما رأيت عينًا، ومراده العين
الْجَارِحَةُ، وَعَيْنُ الذَّهَبِ، وَعَيْنُ الشَّمْسِ، وَعَيْنُ الْمَاءِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عِنْدِي عَيْنٌ، وَتُرَادُ هذه المعاني بهذه اللَّفْظِ. وَقِيلَ: بِإِرَادَةِ الْجَمِيعِ فِي الْجَمْعِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: عِنْدِي عُيُونٌ، وَيُرَادُ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَكَذَا الْمُثَنَّى، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجَمْعِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: عِنْدِي جَوْنَانِ، وَيُرَادُ أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ، وَلَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ، أَوِ الْمَعَانِي بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الَّتِي يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَفِي الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لا في المعاني المتناقضة.
المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز وفيها عشر أبحاث
المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز وفيها عشر أَبْحَاثٍ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ... الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَفِيهَا عَشَرَةُ أَبْحَاثٍ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ: أَمَّا الْحَقِيقَةُ: فَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ، بِمَعْنَى ثَبَتَ، وَالتَّاءُ لِنَقْلِ اللَّفْظِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ الصِّرْفَةِ. وَفَعِيلٌ فِي الْأَصْلِ: قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهَا الْمُثْبَتَةَ. وَأَمَّا الْمَجَازُ: فَهُوَ مَفْعَلٌ، مِنَ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ التَّعَدِّي، كَمَا يُقَالُ: جُزْتُ "مَوْضِعَ كَذَا"* أَيْ: جَاوَزْتُهُ وَتَعَدَّيْتُهُ، أَوْ مِنَ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَلَا مُمْتَنِعًا، يَكُونُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَكَأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا إِلَى هَذَا، "وَمِنْ هَذَا إلى هذا"**.
البحث الثاني: في حدهما
الْبَحْثُ الثَّانِي فِي حَدِّهِمَا: فَقِيلَ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ: إِنَّهَا اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ. فيشمل هَذَا الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ، وَالشَّرْعِيَّ، وَالْعُرْفِيَّ، وَالِاصْطِلَاحِيَّ. وَزَادَ جماعة في هذا الجد قَيْدًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: فِي اصْطِلَاحِ التَّخَاطُبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّخَاطُبُ
بِاصْطِلَاحٍ، وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ، لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وُضِعَ لَهُ فِي اصْطِلَاحِ التَّخَاطُبِ، كَانَ مَجَازًا مَعَ أَنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ. وَزَادَ آخَرُونَ فِي هَذَا الْحَدِّ قَيْدًا، فَقَالُوا: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا لِإِخْرَاجِ مِثْلِ مَا ذُكِرَ. وَقِيلَ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ: إِنَّهَا مَا أُفِيدَ بِهَا مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي أَصْلِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي وَقَعَ التَّخَاطُبُ بِهِ. وَقِيلَ فِي حَدِّهَا: إِنَّهَا كُلُّ كَلِمَةٍ أُرِيدَ بِهَا عَيْنُ مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي وَضْعِ وَاضِعٍ، وَضْعًا لَا يَسْتَنِدُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمَجَازُ: فَهُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ مَعَ قَرِينَةٍ. وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ. وَزِيَادَةُ قَيْدِ: عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لِإِخْرَاجِ مِثْلِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَرْضِ فِي السَّمَاءِ. وَقِيلَ فِي حَدِّهِ -أَيْضًا-: إِنَّهُ مَا كَانَ بِضِدِّ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ.
البحث الثالث: الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها وثمرة ذلك
البحث الثالث: الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها وثمرة ذلك: قَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ اللَّفْظُ الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنَ "الشَّرْعِ"* وَضْعُهُ لِلْمَعْنَى، سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مَجْهُولَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولًا وَالْآخَرُ مَعْلُومًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَالْأَدِلَّةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِوَضْعِ الشَّارِعِ، لَا بِوَضْعِ أَهْلِ الشَّرْعِ كَمَا ظُنَّ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ وَالْمُصَلِّي وَالْمُزَكِّي وَالصَّائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَحَلُّ النِّزَاعِ الْأَلْفَاظُ الْمُتَدَاوَلَةُ شَرْعًا، الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي غير "معانيها اللغوية"**.
فَالْجُمْهُورُ جَعَلُوهَا حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَهَا. وَأَثْبَتَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا مَعَ الشَّرْعِيَّةِ حَقَائِقَ دِينِيَّةً، فَقَالُوا إِنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ فِي مَعَانٍ غَيْرِ لُغَوِيَّةٍ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْأَسْمَاءُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى الْفَاعِلِينَ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَجَعَلُوا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً وَالْقِسْمَ الثَّانِيَ: حَقِيقَةً دِينِيَّةً، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي أَنَّهُ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ إِنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ غَلَبَتْ فِي الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الشَّرْعِ. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ: أَنَّهَا إِذَا وَرَدَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرِينَةِ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَوْ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ؟ فَالْجُمْهُورُ قَالُوا بِالْأَوَّلِ وَالْبَاقِلَّانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ قَالُوا بِالثَّانِي. قَالُوا أَمَّا فِي كَلَامِ الْمُتَشَرِّعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ بِوَضْعِ الشَّارِعِ وَتَعْيِينِهِ إِيَّاهَا بِحَيْثُ تَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي بِلَا قَرِينَةٍ فَتَكُونُ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً أَوْ بِغَلَبَتِهَا فِي لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَقَطْ وَلَمْ يَضَعْهَا الشَّارِعُ بَلِ اسْتَعْمَلَهَا مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةً لِقَرَائِنَ فَتَكُونُ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً خَاصَّةً لَا شَرْعِيَّةً. احْتَجَّ الجمهور بما هو معلوم شرعًا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ وَأَهْلِ الشَّرْعِ لِذَاتِ الْأَذْكَارِ وَالْأَرْكَانِ وَالزَّكَاةَ لِأَدَاءِ مَالٍ مَخْصُوصٍ وَالصِّيَامَ لِإِمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ وَالْحَجَّ لِقَصْدٍ مَخْصُوصٍ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَدْلُولَاتِ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْحَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ لِلدُّعَاءِ وَالزَّكَاةُ لِلْنَمَاءِ وَالصِّيَامُ لِلْإِمْسَاكِ مُطْلَقًا وَالْحَجُّ لِلْقَصْدِ مُطْلَقًا وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ وَالزِّيَادَاتُ شُرُوطٌ وَالشَّرْطُ خَارِجٌ عَنِ الْمَشْرُوطِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ مُصَلِّيًا مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا كَالْأَخْرَسِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْقِ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثُبُوتُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ لِجَوَازِ صَيْرُورَتِهَا بِالْغَلَبَةِ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً خَاصَّةً لِأَهْلِ الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً بوضع الشارع
وُرُدَّ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا أَنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ لِمُنَاسَبَةٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ثُمَّ اشْتُهِرَ فَأَفَادَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ فَذَلِكَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَثَبَتَ الْمُدَّعِي وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوهُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَتَبِعَهُمُ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا مَعَانٍ حَادِثَةٌ مَا كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ يَعْرِفُونَهَا. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي وَمَنْ مَعَهُ بِأَنَّ إِفَادَةَ هذه ألفاظ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَوْ لَمْ تَكُنْ لُغَوِيَّةً لَمَا كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ عَرَبِيًّا وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ إِفَادَتُهَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي عَرَبِيَّةً لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا. وَأَمَّا فَسَادُ اللَّازِمِ فَلِقَوْلِهِ سبحانه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1 وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} 2. وَأُجِيبَ بِأَنَّ إِفَادَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً لَكِنَّهَا فِي الْجُمْلَةِ أَلْفَاظٌ عَرَبِيَّةٌ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْنُونَ بِهَا غَيْرَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَرَبِيَّةً فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ جَعَلَهَا الشَّارِعُ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً لِأَنَّ المجازات عربية وإن لم "تصرح"* الْعَرَبُ بِآحَادِهَا فَقَدْ جَوَّزُوا نَوْعَهَا وَذَلِكَ يَكْفِي فِي نِسْبَةِ الْمَجَازَاتِ بِأَسْرِهَا إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِلَّا لَزِمَ "أَنَّهَا"** كُلَّهَا لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَجَازَاتِ الْعَرَبِيَّةَ الَّتِي صَارَتْ حَقَائِقَ بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بِدُخُولِهَا فِيهِ لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ فَإِنَّ الثَّوْرَ الْأَسْوَدَ لَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْأَسْوَدِ عَلَيْهِ بِوُجُودِ شَعَرَاتٍ بِيضٍ فِي جِلْدِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَجْمُوعِهِ وَعَلَى كُلٍّ بَعْضٌ مِنْهُ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ عَرَبِيُّ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 3 وَالْمُرَادُ مِنْهُ تِلْكَ السُّورَةُ. وَأَيْضًا: الْحُرُوفُ الْمَذْكُورَةُ في أوائل السور ليست بعربية و"المشكاة"4 لغة حبشية
والإستبرق"1 و"السجيل"2 فارسيان و"القسطاس"3 مِنْ لُغَةِ الرُّومِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا تَقَرَّرَ لَكَ ثُبُوتُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلِمَتْ أَنَّ نَافِيَهَا لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِيمَا سَمَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ حَقِيقَةً دِينِيَّةً فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا4 فلا حاجة إلى تطويل البحث فيه.
البحث الرابع: المجاز في لغة العرب
البحث الرابع: المجاز في لغة العرب ... البحث الرابع: الْمَجَازُ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِي وَخِلَافُهُ هَذَا يَدُلُّ أَبْلَغَ دَلَالَةٍ عَلَى عَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتٍ بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْخِلَافِ تَفْرِيطُهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يَنْبَغِي الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْمَجَازَاتِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِمَا هُوَ أَوْهَنُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ"* لَوْ كَانَ الْمَجَازُ وَاقِعًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَزِمَ الْإِخْلَالُ بِالتَّفَاهُمِ إِذْ قَدْ تَخْفَى الْقَرِينَةُ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ عَلِيلٌ فَإِنَّ تَجْوِيزَ خَفَاءِ الْقَرِينَةِ أخفى من السُّها1.
وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ لِهَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَإِمَّا أَنْ يُفِيدَ مَعَ الْقَرِينَةِ أَوْ بِدُونِهَا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمَخْصُوصَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ مَعَ تِلْكَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيَّ بِدُونِ قَرِينَةٍ. لَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إِلَّا كَوْنُهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْإِفَادَةِ بِدُونِ قَرِينَةٍ. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا نِزَاعٌ فِي الْعِبَارَةِ. وَلَنَا أَنْ نَقُولَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلَّا مَعَ الْقَرِينَةِ هُوَ الْمَجَازُ، وَلَا يُقَالُ لِلَفْظَةِ مَعَ القرينة حقيقة فيها لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقَرِينَةِ لَيْسَتْ دَلَالَةً وَضْعِيَّةً حَتَّى يُجْعَلَ الْمَجْمُوعُ لَفْظًا وَاحِدًا دَالًا عَلَى الْمُسَمَّى. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَهَذَا "الْقَوْلُ"* لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِدَفْعِهِ وَلَا التَّطْوِيلُ فِي رَدِّهِ فَإِنَّ وُقُوعَ الْمَجَازِ وَكَثْرَتَهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَشْهَرُ مِنْ نَارٍ عَلَى عَلَمٍ وَأَوْضَحُ مِنْ شَمْسِ النَّهَارِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ1: أَكْثَرُ اللُّغَةِ مَجَازٌ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَا عَلِيِّ الْفَارِسِيَّ2 قَائِلٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَهَا الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمَا أَظُنُّ مِثْلَ أَبِي عَلِيِّ يَقُولُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِمَامُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ مِثْلُ هَذَا الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ. وَكَمَا أَنَّ الْمَجَازَ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وُقُوعًا كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ3: نَفْيُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَمَا هَذَا بِأَوَّلِ مَسَائِلِهِمُ الَّتِي جَمَدُوا فِيهَا جُمُودًا يَأْبَاهُ الْإِنْصَافُ وَيُنْكِرُهُ الْفَهْمُ وَيَجْحَدُهُ الْعَقْلُ. وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ كَذِبٌ لِأَنَّهُ يَنْفِي فَيَصْدُقُ نَفْيُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الصَّادِقَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُنَافِي صِدْقَ إِثْبَاتِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ مِنَ الْخِلَافِ مَا يَقْتَضِي ذِكْرَ بَعْضِ الْمَجَازَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَمْرُ أَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الْمَجَازَ وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وُقُوعًا كَثِيرًا فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي السُّنَّةِ وُقُوعًا كَثِيرًا وَالْإِنْكَارُ لِهَذَا الْوُقُوعِ مباهتة لا يستحق المجاوبة.
البحث الخامس: علاقات الحقيقة والمجاز
البحث الخامس: علاقات الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعَلَاقَةِ فِي كُلِّ مَجَازٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ. وَالْعَلَاقَةُ هِيَ اتِّصَالٌ لِلْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ بِالْمَوْضُوعِ لَهُ وَذَلِكَ الِاتِّصَالُ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ كَمَا فِي الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ وَعَلَاقَتُهَا الْمُشَابَهَةُ وَهِيَ الِاشْتِرَاكُ فِي مَعْنًى مُطْلَقًا لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةَ الثُّبُوتِ لِمَحَلِّهِ وَالِانْتِفَاءِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ لَا الْأَبْخَرِ1. وَالْمُرَادُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْكَيْفِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَلَاقَةِ الْمُشَاكَلَةُ الْكَلَامِيَّةِ كَإِطْلَاقِ الْإِنْسَانِ عَلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أَيْضًا الْمُطَابِقَةُ2 وَالْمُنَاسَبَةُ3 وَالتَّضَادُّ الْمُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنَاسُبِ لِتَهَكُّمٍ نحو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} 4 فَهَذَا الِاتِّصَالُ الْمَعْنَوِيُّ. وَأَمَّا الِاتِّصَالُ الصُّورِيُّ فَهُوَ إِمَّا فِي اللَّفْظِ وَذَلِكَ فِي الْمَجَازِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَفِي الْمُشَاكَلَةِ الْبَدِيعِيَّةِ وَهِيَ الصُّحْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَوِ التَّقْدِيرِيَّةُ. وَقَدْ تَكُونُ الْعَلَاقَةُ بِاعْتِبَارِ مَا مَضَى وَهُوَ الْكَوْنُ عَلَيْهِ كَالْيَتِيمِ لِلْبَالِغِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَوَّلُ إِلَيْهِ كَالْخَمْرِ لِلْعَصِيرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ كَالرُّكُوعِ "فِي الصَّلَاةِ"*، وَالْيَدِ فِيمَا وَرَاءَ الرُّسْغِ، وَالْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ، كَالْيَدِ فِي الْقُدْرَةِ، وَالسَّبَبِيَّةِ وَالْمُسَبِّبِيَّةِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَاللُّزُومِ، وَالْمُجَاوَرَةِ، وَالظَّرْفِيَّةِ، وَالْمَظْرُوفِيَّةِ، وَالْبَدَلِيَّةِ، وَالشَّرْطِيَّةِ، وَالْمَشْرُوطِيَّةِ وَالضِّدِّيَّةِ5.
وَمِنَ الْعَلَاقَاتِ: إِطْلَاقُ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ كَالْعِلْمِ فِي الْعَالِمِ أَوِ الْمَعْلُومِ. وَمِنْهَا: تَسْمِيَةُ إِمْكَانِ الشَّيْءِ بِاسْمِ وُجُودِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْخَمْرِ الَّتِي فِي الدَّنِّ: إِنَّهَا مُسْكِرَةٌ. وَمِنْهَا: إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ. وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: الْقَابِلَ، وَالصُّورَةَ، وَالْفَاعِلَ، وَالْغَايَةَ، أَيْ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ قَابِلِهِ نَحْوَ سَالَ الْوَادِي، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ صُورَتِهِ كَتَسْمِيَةِ القدرية بِالْيَدِ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ فَاعِلِهِ حَقِيقَةً أَوْ ظَنًّا كَتَسْمِيَةِ الْمَطَرِ بِالسَّمَاءِ وَالنَّبَاتِ بِالْغَيْثِ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَايَتِهِ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ بِالْخَمْرِ. وَفِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا. "وعند"* بَعْضُهُمْ مِنَ الْعَلَاقَاتِ الْحُلُولَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، كَالْحَيَاةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَكَالْمَوْتِ فِي ضِدِّهِمَا، والحلول في محلين متقاربين، كرضى الله في رضى رَسُولِهِ، وَالْحُلُولِ فِي حَيِّزَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، كَالْبَيْتِ فِي الْحَرَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} 1. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ رَاجِعَةٌ إِلَى عَلَاقَةِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَنْوَاعَ السَّابِقَةَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ عَلَاقَةِ السببية والمسببية فما ذكرناه ههنا مَجْمُوعُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ عَلَاقَةً. وَعَدَّ بَعْضُهُمْ من العلاقات ما لا تعلق لها بالمقام كحذف المضاف نحو {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 2 يَعْنِي أَهْلَهَا، وَحَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَحْوَ: أَنَا ابن جلا3.
أَيْ أَنَا ابْنُ رَجُلٍ جَلَا. وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ إِذَا جُعِلَتْ لِلْعُمُومِ نَحْوَ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} 1 أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ وَالْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ الْمُنَكَّرُ نَحْوَ {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَاب} 2 أَيْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا وَالْحَذْفُ نَحْوَ {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} 3 أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا وَالزِّيَادَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 4. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مُعْتَبَرَةً لَكَانَتِ الْعَلَاقَاتُ نَحْوَ أَرْبَعِينَ عَلَاقَةً لَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ. وَقَالَ آخَرُ لَا تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ. وَقَالَ آخَرُ لَا تَزِيدُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَتَدَبَّرْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النَّقْلُ فِي آحَادِ الْمَجَازِ، بَلِ الْعَلَاقَةُ كَافِيَةٌ، وَالْمُعْتَبَرُ نَوْعُهَا، وَلَوْ كَانَ نَقْلُ آحَادِ الْمَجَازِ مُعْتَبَرًا لَتَوَقَّفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّجَوُّزِ عَلَى النَّقْلِ وَلَوَقَعَتْ مِنْهُمُ التَّخْطِئَةُ لِمَنِ اسْتَعْمَلَ غَيْرَ الْمَسْمُوعِ مِنَ الْمَجَازَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُدَوِّنُوا الْمَجَازَاتِ كَالْحَقَائِقِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ نَقْلِيًّا لَاسْتَغْنَى عَنِ النَّظَرِ فِي الْعَلَاقَةِ لِكِفَايَةِ النَّقْلِ. وَإِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ نَقْلِ آحَادِ الْمَجَازِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَلَمْ يَأْتِ مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ تَصْلُحُ لِذِكْرِهَا وَتَسْتَدْعِي التَّعَرُّضَ لِدَفْعِهَا. وَكُلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَفَهْمٌ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا زالوا يخترعون المجازات عند وجود العلاقة ونصب الْقَرِينَةِ وَهَكَذَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مَنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ فِي فَنَّيِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَيَتَمَادَحُونَ بِاخْتِرَاعِ الشَّيْءِ الْغَرِيبِ مِنَ الْمَجَازَاتِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُصَحِّحِ لِلتَّجَوُّزِ وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ هذا.
البحث السادس: في قرائن المجاز
الْبَحْثُ السَّادِسُ: فِي قَرَائِنِ الْمَجَازِ اعْلَمْ: أَنَّ الْقَرِينَةَ إِمَّا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامِ، أَيْ: لَا تَكُونُ مَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ وَصِفَةً لَهُ، وَلَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ، أَوْ تَكُونُ مَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ أَوْ تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الكلام.
وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إِمَّا لَفْظٌ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَكُونُ الْمَجَازُ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ فِي كَلَامٍ آخَرَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ يَكُونُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ. ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ عَلَى نَوْعَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فِي دَلَالَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ مَعَ أَنَّهُ عَبَدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ "أَوْ لَا يَكُونُ أَوْلَى وَهُوَ ظَاهِرٌ"*. أَمَّا الْقَرِينَةُ الَّتِي تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ فَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} الآية [64 من سورة الإسراء] فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْخَارِجَةُ عَنِ الْكَلَامِ فَكَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن} فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف: 29] يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ. "وَنَحْوُ"**: طَلِّقِ امْرَأَتِي إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ تَوْكِيلًا لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّ كُنْتَ رَجُلًا يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ فَانْحَصَرَتِ الْقَرِينَةُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ. ثُمَّ الْقَرِينَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ قَدْ تَكُونُ عَقْلِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ حِسِّيَّةً وَقَدْ تَكُونُ عَادِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً فَلَا تَخْتَصُّ قَرَائِنُ الْمَجَازِ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأنواع دون نوع.
البحث السابع: في الأمور التي يعرف بها المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة
الْبَحْثُ السَّابِعُ: فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْمَجَازُ وَيَتَمَيَّزُ عِنْدَهَا عَنِ الْحَقِيقَةِ اعْلَمْ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بالنص أو الاستدلال: أما "النص"* فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ الْوَاضِعُ: هَذَا حَقِيقَةٌ وَذَاكَ مَجَازٌ. الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ الْوَاضِعُ حَدَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَذَاكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَيَقُومُ مَقَامَ الْحَدِّ ذكر خاصة كل واحد منهما.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَمِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَعْنَى إِلَى أَفْهَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ بِدُونِ قَرِينَةٍ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ إِلَّا بِالْقَرِينَةِ فَهُوَ الْمَجَازُ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِالْمُشْتَرَكِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ أَحَدُهُمَا أَوْ أَحَدُهَا لَوْلَا الْقَرِينَةُ الْمُعَيِّنَةُ لِلْمُرَادِ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا "تَتَبَادَرُ"* جَمِيعُهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ وَيَتَبَادَرُ أَحَدُهَا لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَ مَنْ مَنَعَ مِنْ حَمْلِهُ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ. وَرُدَّ بِأَنَّ عَلَامَةَ الْمَجَازِ تَصْدُقُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُشْتَرَكِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمُعَيَّنِ إِذْ يَتَبَادَرُ غَيْرُهُ وَهُوَ عَلَامَةُ الْمَجَازِ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ. وَدُفِعَ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ تَبَادَرَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ وَاللَّفْظُ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ. وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ إِذِ اللَّفْظُ يَصْلُحُ لَهُمَا وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَعْلَمُهُ فَذَلِكَ كافٍ فِي كَوْنِ الْمُتَبَادَرِ غَيْرَ الْمَجَازِ فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ لِلْمُعَيَّنِ مَجَازًا. الثَّانِي: صِحَّةُ النَّفْيِ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَعَدَمُ صِحَّتِهِ لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ صِحَّةِ النَّفْيِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ حَقِيقَةً بِهِ دَوْرٌ ظَاهِرٌ وَكَذَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ النَّفْيِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنَ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَجَازًا فَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ مَجَازًا بِهِ دَوْرٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَلْبَ بَعْضِ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ كافٍ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ وَأَيْضًا إِذَا عُلِمَ مَعْنَى اللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا الْمُرَادُ أَمْكَنَ أَنْ يُعْلَمَ "بِصِحَّةِ"** نَفْيِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَبِعَدَمِ صِحَّتِهِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ. الثَّالِثُ: عَدَمُ اطِّرَادِ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَحَلٍّ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُسَوِّغِ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ كَالتَّجَوُّزِ بِالنَّخْلَةِ لِلْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ طُولٌ وَلَيْسَ الاطراد دليل الحقيقية فَإِنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَطَّرِدُ كَالْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ. وَاعْتُرِضَ: بِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ قَدْ يُوجَدُ فِي الْحَقِيقَةِ كالسخي، والفاضل، فإنهما لا يطلقان
عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ وُجُودِهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِيهِ، وَكَذَا الْقَارُورَةُ لَا تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الزُّجَاجَةِ، مِمَّا يُوجَدُ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ كَالدَّنِّ1. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْأَمَارَةَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ لَا لِمَانِعٍ لُغَةً أَوْ شَرْعًا، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ السَّخِيِّ، وَالْفَاضِلِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاللُّغَةَ مَنَعَتْ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَارُورَةِ عَلَى غَيْرِ الزُّجَاجَةِ. وَقَدْ ذَكَرُوا غَيْرَ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ مِنَ الْعَلَامَاتِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّهَا إِذَا عُلِّقَتِ الْكَلِمَةُ بِمَا يَسْتَحِيلُ تَعْلِيقُهَا بِهِ عُلِمَ أَنَّهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لَهُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا مَجَازٌ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَضَعُوا اللَّفْظَةَ لِمَعْنًى، ثُمَّ يَتْرُكُوا اسْتِعْمَالَهُ إِلَّا فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ الْمَجَازِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ كَوْنَهُ مِنَ الْمَجَازِ الْعُرْفِيِّ مِثْلَ: اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الدَّابَّةِ فِي "الْحِمَارِ"*. وَمِنْهَا: امْتِنَاعُ الِاشْتِقَاقِ، فإنه دليل على كون اللفظ مجازًا. منها: أَنْ تَخْتَلِفَ صِيغَةُ الْجَمْعِ عَلَى الِاسْمِ، فَيُجْمَعُ عَلَى صِيغَةٍ مُخَالِفَةٍ لِصِيغَةِ جَمْعِهِ لِمُسَمًّى آخَرَ، هُوَ فِيهِ حَقِيقَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ إِذَا كَانَ مُتَعَلِقًا بِالْغَيْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ كَانَ مَجَازًا، وَذَلِكَ كَالْقُدْرَةِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَقْدُورِ وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى النَّبَاتِ الْحَسَنِ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُتَعَلِّقٌ فَيُعْلَمُ كَوْنُهَا مَجَازًا فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِ مُسَمَّيَيْهِ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْآخَرِ نَحْوَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 2؛ ولا يقال: مكر الله ابتداء. ومنها: لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُقَيْدًا وَلَا يُسْتَعْمَلُ لِلْمَعْنَى المطلق كنار الحرب، وجناح الذل.
البحث الثامن: عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز
البحث الثامن: عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز فِي أَنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً وَلَا بِكَوْنِهِ مَجَازًا لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذِ الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ عَالِمٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ؛ أَمْ لَا؟ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَا وُضِعَ لَهُ أَصْلًا. فَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْمَجَازَ يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ لَخَلَا الْوَضْعُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَكَانَ عَبَثًا وَهُوَ مُحَالٌ. أَمَّا الْمُلَازَمَةُ: فَلِأَنَّ مَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً، وَفَائِدَةُ الْوَضْعِ: إِنَّمَا هِيَ إِعَادَةُ الْمَعَانِي الْمُرَكَّبَةِ، وَإِذَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَمْ يَقَعْ فِي التَّرْكِيبِ فَانْتَفَتْ فَائِدَتُهُ. وَأَمَّا بُطْلَانُ اللازم فظاهر. وأجيب بمنع انحصار "فائدة"* فِي إِفَادَةِ الْمَعَانِي الْمُرَكَّبَةِ، فَإِنَّ صِحَّةَ التَّجَوُّزِ فَائِدَةٌ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ: بِعَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ -وَهُمُ الْجُمْهُورُ- بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة لكانت لِنَحْوِ شَابَتْ لَمَّةُ اللَّيْلِ أَيِ: ابْيَضَّ الْغَسَقُ، وقامت الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ أَيِ اشْتَدَّتْ حَقِيقَةٌ وَاللَّازِمُ منتفٍ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ، جَدَلِيٍّ وَتَحْقِيقِيٍّ: أَمَّا الْجَدَلِيُّ فَبِأَنَّ الْإِلْزَامَ مُشْتَرَكٌ لِأَنَّ نَفْسَ الْوَضْعِ لَازِمٌ لِلْمَجَازِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتُ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى مُتَحَقِّقٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا التحقيقي: فباختيار أن لَا مَجَازَ فِي الْمُرَكَّبِ، بَلْ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَلَهَا وَضْعٌ وَاسْتِعْمَالٌ، وَلَا مَجَازَ فِي التَّرْكِيبِ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى. وَمَنِ اتَّبَعَ عَبَدَ الْقَاهِرِ1 فِي أَنَّ الْمَجَازَ مُفْرَدٌ ومركب ويسمى عقليًّا، وحقيقة عقلية،
لِكَوْنِهِمَا فِي الْإِسْنَادِ، سَوَاءٌ كَانَ طَرَفَاهُ حَقِيقَتَيْنِ، نَحْوَ: سَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ أَوْ مَجَازَيْنِ نَحْوَ أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنِ اتَّبَعَهُ فِي عَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ -أَيْضًا فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَّهُ أَنْ يُجِيبَ: بِأَنَّ مَجَازَاتِ الْأَطْرَافِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فيه، ولها حقائق مجاز الْإِسْنَادِ لَيْسَ لَفْظًا، حَتَّى يُطْلَبَ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةٌ ووضع بل له معنى حَقِيقَةٌ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَجَازَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ حَقَائِقِهَا. وَمَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ فِي الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ1، نَحْوَ طَارَتْ بِهِ الْعَنْقَاءُ2، وَأَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، فَلَا بد أن يقول بِعَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ. وَمَنْ نَفَى الْمَجَازَ الْمُرَكَّبَ أَجَابَ عَنِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ بِأَنَّهُ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ3 وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الْعَرَبِ أَنْ يَعْتَبِرُوا الْقَابِلَ فَاعِلًا، نَحْوَ مَاتَ فُلَانٌ، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ يَلْتَزِمُوا الْإِسْنَادَ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا فِي أَنْبَتَ اللَّهُ، وَخَلَقَ اللَّهُ فَكَذَا سَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ؛ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِأَحْدَاثِ الْفَرَحِ وَنَحْوِهَا مِنَ الصُّوَرِ الْإِسْنَادِيَّةِ. وَأَشَفُّ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرحمن مجاز في الباري سبحانه؛ لأنه مَعْنَاهُ ذُو الرَّحْمَةِ، وَمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ -وَهُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ- لَا وُجُودَ لَهُ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدِ اسْتَعْمَلَتْهُ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَقَالُوا لِمُسَيْلَمَةَ4: هُوَ رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ. وَرُدَّ: بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الْإِطْلَاقِ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ رَقِيقُ الْقَلْبِ حَتَّى يَرِدَ النَّقْضُ بِهِ، وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلنَّافِي أَنَّ أَفْعَالَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ هِيَ أَفْعَالٌ مَاضِيَةٌ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي فَكَانَتْ مَجَازَاتٍ لَا حقائق لها.
البحث التاسع: في اللفظ إذا دار بين أن يكون مجازا أو مشتركا
الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي اللَّفْظِ إِذَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا أَوْ مُشْتَرَكًا هَلْ يُرَجَّحُ المجاز على الاشترك أو الاشترك عَلَى الْمَجَازِ؟ فَرَجَّحَ قَوْمٌ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَ آخَرُونَ الثَّانِيَ. اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْمَجَازَ أَكْثَرُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَرُجِّحَ الْأَكْثَرُ عَلَى الْأَقَلِّ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: أَكْثَرُ اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِأَنَّ الْمَجَازَ مَعْمُولٌ بِهِ مُطْلَقًا، فَبِلَا قَرِينَةٍ حقيقة، وَمَعَهَا مَجَازٌ وَالْمُشْتَرَكُ بِلَا قَرِينَةٍ مُهْمَلٌ، وَالْإِعْمَالُ أَوْلَى مِنَ الْإِهْمَالِ، وَبِأَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَقِيقَةِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَبِأَنَّهُ أَوْجَزُ كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ فَهَذِهِ فَوَائِدُ لِلْمَجَازِ، وَقَدْ ذَكَرُوا غَيْرَهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْمَقَامِ، وَذَكَرُوا لِلْمُشْتَرَكِ مَفَاسِدَ مِنْهَا: إِخْلَالُهُ بِالْفَهْمِ عِنْدَ خَفَاءِ الْقَرِينَةِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ حَمْلَهُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ عِنْدَ خَفَاءِ الْقَرِينَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهَا: تَأْدِيَتُهُ إِلَى مُسْتَبْعَدٍ مِنْ نَقِيضٍ أَوْ ضِدٍّ كَالْقُرْءِ إِذَا أُطْلِقَ مُرَادًا بِهِ الْحَيْضُ فَيُفْهَمُ مِنْهُ الطُّهْرُ أَوْ بِالْعَكْسِ. وَمِنْهَا احْتِيَاجُهُ إِلَى قَرِينَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا "مُعَيِّنَةٌ"* لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالْأُخْرَى "مُعَيِّنَةٌ"* لِلْمَعْنَى الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ تَكْفِي فِيهِ قَرِينَةٌ وَاحِدَةٌ. وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ: بِأَنَّ لِلِاشْتِرَاكِ فَوَائِدَ لَا تُوجَدُ فِي الْمَجَازِ، وَفِي الْمَجَازِ مَفَاسِدُ لَا تُوجَدُ فِي الْمُشْتَرَكِ. فَمِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مُطَّرِدٌ فَلَا يَضْطَرِبُ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَقَدْ لَا يَطَّرِدُ كَمَا تَقَدَّمَ1. وَمِنْهَا: الِاشْتِقَاقُ مِنْهُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، فَيَتَّسِعُ الْكَلَامُ نَحْوَ أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَالْمَجَازُ لَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَإِنْ صَلُحَ لَهُ حَالَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً. وَمِنْهَا: صِحَّةُ التَّجَوُّزِ بِاعْتِبَارِ "مَعْنَيَيِ"** الْمُشْتَرَكِ فَتَكْثُرُ بِذَلِكَ الْفَوَائِدُ. وَأَمَّا مَفَاسِدُ الْمَجَازِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْمُشْتَرَكِ فَمِنْهَا: احْتِيَاجُهُ إِلَى الْوَضْعَيْنِ الشَّخْصِيِّ وَالنَّوْعِيِّ، وَالشَّخْصِيُّ باعتبار معناه الأصلي والفرعي للعلاقة.
وَالْمُشْتَرَكُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الشَّخْصِيُّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّوْعِيِّ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى الْعَلَاقَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَجَازَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، لَا الْمَجَازِيُّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي بَعْضِ، مَعَانِيهِ دُونَ بَعْضٍ، حَتَّى يَلْزَمَ بِإِرَادَةِ أَحَدِهَا مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْغَلَطِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فإن معانيه كلها حقيقية. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ لِغَلَبَةِ الْمَجَازِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ دُونَ الْقَلِيلِ النَّادِرِ مُتَعَيِّنٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ الْحَاصِلَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْأَلْفَاظِ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَجَازِ، فَإِنَّ الْخَلَلَ فِي فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ يَكُونُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: احْتِمَالُ الِاشْتِرَاكِ. وَثَانِيهَا: احْتِمَالُ النَّقْلِ بِالْعُرْفِ أَوِ الشَّرْعِ. وَثَالِثُهَا: احْتِمَالُ الْمَجَازِ. وَرَابِعُهَا: احْتِمَالُ الْإِضْمَارِ. وَخَامِسُهَا: احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تُؤَثِّرُ خَلَلًا فِي فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ: أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ، كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الْمَجَازِ وَالْإِضْمَارِ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ جَمِيعَ مَا وُضِعَ لَهُ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَ ذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْفَهْمِ. وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ هذه يقع في عَشَرَةِ وُجُوهٍ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ، ثُمَّ بَيْنَ النَّقْلِ وَبَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ، ثُمَّ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْوَجْهَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، ثُمَّ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ. فَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّقْلَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اللَّفْظُ عِنْدَ النَّقْلِ لِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مُفْرَدَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَالْمُشْتَرَكُ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا. وَقِيلَ: الِاشْتِرَاكُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي "نسخ"*وَضْعٍ سَابِقٍ، وَالنَّقْلُ يَقْتَضِيهِ. وَأَيْضًا: لَمْ يُنْكِرْ وُقُوعَ الْمُشْتَرَكِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنْ أهل العلم، وأنكر النقل كثير منهم.
وَأَيْضًا قَدْ لَا يُعْرَفُ النَّقْلُ فَيَحْمِلُ السَّامِعُ مَا سَمِعَهُ مِنَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، فَيَقَعُ الْغَلَطُ. وَأَيْضًا: الْمُشْتَرَكُ أَكْثَرُ وَجُودًا مِنَ الْمَنْقُولِ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُرَجِّحُ الِاشْتِرَاكَ عَلَى النَّقْلِ، وَهِيَ أَقْوَى مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ رَجَّحَ النَّقْلَ، وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَجَازِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ1 تَحْقِيقُهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَحْثِ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِضْمَارِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْإِضْمَارَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجْمَالَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْإِضْمَارِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الصُّوَرِ، وَالْإِجْمَالُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ عَامٌ فِي كُلِّ الصُّوَرِ، فَكَانَ إِخْلَالُهُ بِالْفَهْمِ أَكْثَرَ مِنْ إِخْلَالِ الْإِضْمَارِ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاشْتِرَاكَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثِ قَرَائِنَ، قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْإِضْمَارِ، وَقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْمُضْمَرِ، وَالْمُشْتَرَكُ يَفْتَقِرُ إِلَى قَرِينَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ، فَكَانَ الْإِضْمَارُ أَكْثَرَ إِخْلَالًا بِالْفَهْمِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْإِضْمَارَ وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى تِلْكَ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ، فَذَلِكَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَرِينَتَيْنِ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَانَ أَكْثَرَ إِخْلَالًا بِالْفَهْمِ، عَلَى أَنَّ الْإِضْمَارَ مِنْ بَابِ الْإِيجَازِ، وَهُوَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالتَّخْصِيصِ فَقِيلَ: التَّخْصِيصُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ2 أَنَّ الْمَجَازَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْمَجَازِ، فَقِيلَ الْمَجَازُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّقْلَ يَحْتَاجُ إِلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ اللِّسَانِ عَلَى تَغْيِيرِ الْوَضْعِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، وَالْمَجَازُ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ فَهْمِ الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ مُتَيَسِّرٌ. وَأَيْضًا الْمَجَازُ أَكْثَرُ مِنَ النَّقْلِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَكْثَرِ مُقَدَّمٌ، وَأَيْضًا فِي الْمَجَازِ مَا قَدَّمْنَا3 مِنَ الْفَوَائِدِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالتَّخْصِيصِ، فَقِيلَ: التَّخْصِيصُ أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّخْصِيصَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّقْلِ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْإِضْمَارِ، فَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَقِيلَ الْمَجَازُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ يَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثِ قَرَائِنَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ: فَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ، فَيَحْصُلُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَمَّا فِي الْمَجَازِ فَالسَّامِعُ إِذَا لَمْ يَجِدْ قَرِينَةً لِحَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلَا يَحْصُلُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ: فَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّخْصِيصَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ هُوَ وَالْإِضْمَارُ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْإِضْمَارِ.
البحث العاشر: في الجمع بين الحقيقة والمجاز
الْبَحْثُ الْعَاشِرُ: فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَجَمِيعُ الْحَنَفِيَّةِ، وَجَمْعٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، حَالَ كَوْنِهِمَا مَقْصُودَيْنِ بِالْحُكْمِ، بِأَنْ يُرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي عَلِيِّ الْجُبَّائِيِّ1 مُطْلَقًا إِلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَافْعَلْ أَمْرًا وَتَهْدِيدًا فَإِنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالتَّهْدِيدُ يَقْتَضِي التَّرْكَ فَلَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ: إِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا عَقْلًا لَا لُغَةً، إِلَّا فِي غَيْرِ الْمُفْرَدِ كَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، فَيَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا لُغَةً لِتَضَمُّنِهِ الْمُتَعَدِّدَ كَقَوْلِهِمْ: الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ2. وَرَجَّحَ هَذَا التَّفْصِيلَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَهُوَ قَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْمُقْتَضَى وَفُقِدَ الْمَانِعُ فَلَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا إِرَادَةُ غَيْرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، مَعَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِالْمُتَعَدِّدِ. وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا: بِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ يَسْتَلْزِمُ مَا يُخَالِفُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، وَهُوَ قَرِينَةُ عَدَمِ إِرَادَتِهِ، فَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِلْزَامَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَمَّا مَعَهُ فَلَا، وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا وَعَارِيَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَمَجَازًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الثَّوْبَ ظَرْفٌ حَقِيقِيٌّ لِلْمِلْكِ، وَالْعَارِيَةِ، وَاللَّفْظُ ليس بظرف حقيقي للمعنى.
وَالْحَقُّ امْتِنَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِتَبَادُرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي التَّبَادُرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا بِمُجَرَدِهِ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، مَعَ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّفْظَ يَكُونُ عِنْدَ قَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَجَازًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ لَا مَجْمُوعُهُمَا وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ، يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عُمُومَ الْمَجَازِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مَعَانِيهِ الْمَجَازِيَّةِ، فَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى مَنْعِهِ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ كُلِّ مَجَازٍ تُنَافِي إِرَادَةَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَجَازَاتِ. وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الْكَلَامُ في المبادئ.
الخلاف في بعض حروف المعاني
الخلاف في بَعْضِ حُرُوفِ الْمَعَانِي: وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الْمَبَادِئِ مَبَاحِثَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ، الَّتِي رُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُصُولِيُّ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهَا مُدَوَّنَةٌ فِي فَنٍّ مُسْتَقِلٍّ، مُبَيَّنَةٌ بَيَانًا تَامًّا، وَذَلِكَ كَالْخِلَافِ فِي الْوَاوِ هَلْ هِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، أَوْ لِلتَّرْتِيبِ؟ فَذَهَبَ إِلَى الأول جمهور النحاة، والأصوليون، وَالْفُقَهَاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَجْمَعَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ، عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ1 فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ "كِتَابِهِ"2 أَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، "وَهُوَ الْحَقُّ"*. وَقَالَ الْفَرَّاءُ3 وثعلب، وأبو عبيد4: إنها للترتيب.
وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُؤَيَّدِ بِاللَّهِ1، وَأَبِي طَالِبٍ2. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْوَاوَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَمْتَنِعُ التَّرْتِيبُ فِيهِ كَقَوْلِهِمْ: تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلَوْ قِيلَ: تَقَاتَلَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو، أَوْ تَقَاتَلَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، لَمْ يَصِحَّ، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ التَّرْتِيبِ. وَأَيْضًا: لَوِ اقْتَضَتِ الْوَاوُ التَّرْتِيبَ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ، أَوْ رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: بَعْدَهُ يَكُونُ تَكْرَارًا لِمَا تُفِيدُهُ الْوَاوُ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَقَوْلُكَ: قَبْلَهُ يَكُونُ مُنَاقِضًا لِمَعْنَى التَّرْتِيبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: بِأَنَّهُ امْتَنَعَ جَعْلُ الْوَاوِ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ امْتِنَاعُهُ عِنْدَ عَدَمِهِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة} 3 فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} 4 وقوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين} 5، مَعَ أَنَّ الرُّكُوعَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّجُودِ، وَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} 6 وقوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} 7 وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة} 8 و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 9 وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِلتَّرْتِيبِ وَهَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَأَهْلُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ اشْتَرِ الطَّعَامَ وَالْإِدَامَ أو اشتر الإدام والطعام والترتيب أَصْلًا، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتِ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَفَهِمَ الصحابة رضي الله عنهم
في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} 1 أَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ مِنَ الصَّفَا، مِنْ دُونِ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، ولكنهم سألوه فقال: "ابدأوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" 2. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّرْتِيبِ، بِمَا صَحَّ أَنَّ خَطِيبًا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى"، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" 3. وَلَوْ كَانَ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ مَا عَلَّمَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بأنه إنما أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اعْتِقَادَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَهُ بِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ تَعْظِيمًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْقَائِلُونَ بِإِفَادَةِ الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَيَسْتَدْعِي الْجَوَابَ عَنْهُ. وَكَمَا أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ دُونِ تَرْتِيبٍ وَلَا مَعِيَّةٍ، فَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِذَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ تَعْقِيبٍ فَذَلِكَ لِدَلِيلٍ آخَرَ، مُقْتَرِنٌ مَعْنَاهُ بِمَعْنَاهَا. وَكَذَلِكَ "فِي" لِلظَّرْفِيَّةِ إِمَّا مُحَقَّقَةٌ أَوْ مُقَدَّرَةٌ. وَكَذَلِكَ "مِنْ" تَرِدُ لِمَعَانٍ. وَكَذَلِكَ "الْبَاءُ" لَهَا مَعَانٍ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى التَّطْوِيلِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِتَطْوِيلِ الْكَلَامِ فِيهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ قَدْ عرفت من ذلك العلم. وَلْنَشْرَعُ الْآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ في المقاصد فنقول:
المقصد الأول: في الكتاب العزيز
الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ: فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْرِيفِهِ اعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ كِتَابَةٍ وَمَكْتُوبٍ، ثُمَّ غَلَبَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالْقُرْآنُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، غَلَبَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْمُعَيَّنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، الْمَقْرُوءُ بِأَلْسِنَةِ الْعِبَادِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَشْهَرُ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ وَأَظْهَرُ، وَلِذَا جُعِلَ تَفْسِيرًا لَهُ، فَهَذَا تَعْرِيفُ الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ، وَهُوَ التَّعْرِيفُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي يَكُونُ بِمُرَادِفٍ أَشْهَرَ. وَأَمَّا حَدُّ الْكِتَابِ اصْطِلَاحًا: فَهُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ عَلَى الرَّسُولِ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُولُ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا. فَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: الْمُنَزَّلُ على الرسول المكتوب في المصاحف: وسائر الْكُتُبِ وَالْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرُهَا، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: الْمَنْقُولُ إِلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا: الْقِرَاءَاتُ الشَّاذَّةُ1. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَنَّ فِيهِ دَوْرًا؛ لِأَنَّهُ عَرَّفَ الْكِتَابَ بِالْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: مَا الْمُصْحَفُ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُصْحَفَ مَعْلُومٌ فِي الْعُرْفِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفِهِ بِقَوْلِهِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ الْمُنَزَّلُ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ الْمُتَوَاتِرُ. فَاللَّفْظُ جِنْسٌ يَعُمُّ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ وَغَيْرَهَا، وَالْعَرَبِيُّ يُخْرِجُ غَيْرَ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُنَزَّلُ يُخْرِجُ مَا لَيْسَ بِمُنَزَّلٍ مِنَ الْعَرَبِيِّ، وَقَوْلُهُ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ: لِزِيَادَةِ التَّوْضِيحِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ هَذَا التعريف. والتدبير: التَّفَهُّمُ لِمَا يَتْبَعُ ظَاهِرَهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَالتَّذَكُّرُ: الِاتِّعَاظُ بِقِصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ. وَقَوْلُهُ: الْمُتَوَاتِرُ يُخْرِجُ مَا لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ كَالْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، والأحاديث القدسية.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ لِلْإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يُنَزَّلْ، وَالَّذِي نُزِّلَ لَا لِلْإِعْجَازِ كَسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالسُّنَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِعْجَازِ: ارْتِقَاؤُهُ فِي الْبَلَاغَةِ إِلَى حَدٍّ خَارِجٍ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ، وَلِهَذَا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ عِنْدَ تَحَدِّيهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالسُّورَةِ: الطَّائِفَةُ مِنْهُ الْمُتَرْجَمُ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا تَوْقِيفًا. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ: بِأَنَّ الْإِعْجَازَ لَيْسَ لَازِمًا بَيِّنًا، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ فِيهِ رَيْبٌ، وَبِأَنَّ مَعْرِفَةَ السُّورَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ اللُّزُومَ بَيِّنٌ وَقْتَ التَّعْرِيفِ لِسَبْقِ الْعِلْمِ بِإِعْجَازِهِ، وَبِأَنَّ السُّورَةَ اسْمٌ لِلطَّائِفَةِ الْمُتَرْجَمَةِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ، قُرْآنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، بِدَلِيلِ سُورَةِ الْإِنْجِيلِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ تَوَاتُرًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِنَا، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُولُ تَوَاتُرًا بِلَا شُبْهَةٍ. فَالْقُرْآنُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ لِلْكِتَابِ، وَالْبَاقِي رَسْمِيٌّ وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سَبَقَ، وَيُجَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِمَا مَرَّ. وَقِيلَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ الثَّابِتُ في اللوم الْمَحْفُوظِ لِلْإِنْزَالِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْقُدْسِيَّةَ وَالْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةَ بَلْ وَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين} 1 وَأُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِهَا أُثْبِتَتْ فِي اللَّوْحِ لِلْإِنْزَالِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ الْمَتْلُوُّ الْمُتَوَاتِرُ، وَهَذَا لَا يَرِدُ عليه ما ورد على الحدود فتدبر.
الفصل الثاني: حكم المنقول آحادا
الفصل الثاني: حكم المنقول آحَادًا اخْتُلِفَ فِي الْمَنْقُولِ آحَادًا هَلْ هُوَ قُرْآنٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ:" لَيْسَ بِقُرْآنٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ "مِمَّا"* تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، لِكَوْنِهِ كَلَامَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَكَوْنِهُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَوْنِهِ مُعْجِزًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَوَاتَرَ، فَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ "لَيْسَ"** بقرآن.
هَكَذَا قَرَّرَ أَهْلُ الْأُصُولِ "دَلِيلَ"* التَّوَاتُرِ، وَقَدِ ادَّعَى تَوَاتُرَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو1، وَنَافِعٍ2، وَعَاصِمٍ3، وَحَمْزَةَ4 وَالْكِسَائِيِّ5، وَابْنِ كَثِيرٍ6، وَابْنِ عَامِرٍ7 دُونَ غَيْرِهَا، وَادَّعَى أَيْضًا تَوَاتَرَ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ، وَهِيَ هَذِهِ مَعَ قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ8، وَأَبِي جَعْفَرٍ9، وَخَلَفٍ10 وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ أَثَارَةٌ مَنْ عِلْمٍ، فَإِنَّ هَذِهِ القراءات كل واحدة منها منقولة
نَقْلًا آحَادِيًا، كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ أَسَانِيدَ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ لِقِرَاءَاتِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ القرءات مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ، وَفِيهَا مَا هُوَ آحَادٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِتَوَاتُرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّبْعِ، فَضْلًا عَنِ الْعَشْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَأَهْلُ الْفَنِّ أَخْبَرُ بِفَنِّهِمْ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ الشَّرِيفُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ الْمَشْهُورُونَ فَهُوَ قُرْآنٌ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَإِنِ احْتَمَلَ رَسْمُ الْمُصْحَفِ قِرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ مَعَ مُطَابَقَتِهَا لِلْوَجْهِ الْإِعْرَابِيِّ. وَالْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ، فَهِيَ قُرْآنٌ كُلُّهَا. وَإِنِ احْتَمَلَ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ صَحَّ إِسْنَادُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ، وَكَانَتْ مُوَافِقَةً لِلْوَجْهِ الْإِعْرَابِيِّ، وَالْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ، فَهِيَ الشَّاذَّةُ، وَلَهَا حُكْمُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَأَمَّا مَا لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ مِمَّا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الرَّسْمُ فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَلَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ. أَمَّا انْتِفَاءُ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلِعَدَمِ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ، وَإِنْ وَافَقَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيَّ وَالْوَجْهَ الْإِعْرَابِيَّ فَلَا اعْتِبَارَ بِمُجَرَّدِ الْمُوَافَقَةِ، مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أحرف1، وصح عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى أَقْرَأَنِي عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"2. وَالْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ: لُغَاتُ الْعَرَبِ، فَإِنَّهَا بَلَغَتْ إِلَى سَبْعِ لُغَاتٍ، اخْتَلَفَتْ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَاتَّفَقَتْ فِي غَالِبِهَا، فَمَا وَافَقَ لُغَةً مِنْ تِلْكَ اللُّغَاتِ، فَقَدْ وَافَقَ الْمَعْنَى الْعَرَبِيَّ وَالْإِعْرَابِيَّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَاجَةٌ إِلَى بَسْطٍ تَتَّضِحُ بِهِ حَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ أَفْرَدْنَاهَا بِتَصْنِيفٍ3 مُسْتَقِلٍّ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي هَذَا الْبَحْثِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بين القراء في
الْبَسْمَلَةِ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مَنْ كُلِّ سُورَةٍ1، أَوْ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ2، أَوْ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ3، أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ4، وَلَا هِيَ مِنَ الْقُرْآنِ5، وَأَطَالُوا الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ. وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَذَكَرَهَا في مسائل أصول الدين. الحق أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ لِوُجُودِهَا فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ، وَذَلِكَ هُوَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي إِثْبَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى ثُبُوتِهَا خطأ في المصحف في أوائل السور، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ كَوْنَهَا قُرْآنًا مِنَ الْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ حَصَلَ الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ النَّقْلُ، مَعَ كَوْنِهِ نَقْلًا إِجْمَاعِيًّا بَيْنَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. وَأَمَّا الرُّكْنُ الثالث: وهو موافقها للوجه الإعرابي والمعنى فَذَلِكَ ظَاهِرٌ. إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ نَفْيَ كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ تَسْلِيمِ وَجُودِهَا فِي الرَّسْمِ مُجَرَّدُ دَعْوَى غَيْرِ مَقْبُولَةٍ. وَكَذَلِكَ دَعْوَى كَوْنِهَا آيَةً وَاحِدَةً، أَوْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، مَعَ تَسْلِيمِ وُجُودِهَا فِي الرَّسْمِ في أول كل سورة، فإنها دعوى مجرد عَنْ دَلِيلٍ مَقْبُولٍ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهَا تُقْرَأُ6 فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تُقْرَأُ7، وَعَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهَا تُقْرَأُ هَلْ يُسَرُّ بِهَا مُطْلَقًا8 أَوْ تكون على صفة ما يقرأ مِنَ الْإِسْرَارِ فِي السِّرِّيَّةِ، وَالْجَهْرِ فِي الْجَهْرِيَّةِ9، فلا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ10، وَذَكَرْنَا فِي "شَرْحِ الْمُنْتَقَى"11 مَا إِذَا رجعت إليه تحتج إلى غيره.
الفصل الثالث: في المحكم والمتشابه من القرآن
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ اعلم أنه لَا اخْتِلَافَ فِي وُقُوعِ النَّوْعَيْنِ فِيهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهِمَا: فَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا لَهُ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَهُ دَلَالَةٌ غَيْرُ وَاضِحَةٍ، فَيَدْخُلُ فِي الْمُتَشَابِهِ الْمُجْمَلُ وَالْمُشْتَرَكُ. وَقِيلَ فِي الْمُحْكَمِ: هُوَ مُتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَفِي الْمُتَشَابِهِ هُوَ غَيْرُ الْمُتَّضِحِ الْمَعْنَى، وَهُوَ كَالْأَوَّلِ2، وَيَنْدَرِجُ في المتشابه ما تقدم3. والفرق بيهما4 أَنَّهُ جَعَلَ فِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ الِاتِّضَاحَ وَعَدَمَهُ لِلدَّلَالَةِ، وَفِي الثَّانِي لِنَفْسِ الْمَعْنَى. وَقِيلَ فِي الْمُحْكَمِ هُوَ: مَا اسْتَقَامَ نَظْمُهُ لِلْإِفَادَةِ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اخْتَلَّ نَظْمُهُ لِعَدَمِ الْإِفَادَةِ، وَذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى، هَكَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ. واعترض عليه بأن القول باختلاف نَظْمِ الْقُرْآنِ5 مِمَّا لَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُسْلِمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي حَدِّهِ هُوَ: مَا استقام نظمه لا للإفادة بل للابتداء. وَقِيلَ الْمُحْكَمُ: مَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ، إِمَّا بِالظُّهُورِ، وَإِمَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ الْفَرَائِضُ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ. وَقِيلَ الْمُحْكَمُ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَحُكْمُ المحكم هو وجوب العمل به، وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْحَقُّ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} 6 والوقف على قوله: {إِلَّا
اللَّه} مُتَعَيَّنٌ وَيَكُونُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ وخبره: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} حَالِيَّةً، وَلَا مَعْنًى لِتَقْيِيدِ عِلْمِهِمْ بِهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ حَالُ كَوْنِهِمْ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ "فَتْحَ الْقَدِيرِ"1 فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا يُثْلِجُ خَاطَرَ الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَيْسَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْمُتَشَابِهِ لِعِلَّةِ كَوْنِهِ لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ بَلْ لِعِلَّةِ قُصُورِ أَفْهَامِ الْبَشَرِ عَنِ الْعِلْمِ بِهِ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، كَمَا فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ لَهَا مَعْنًى لَمْ تَبْلُغْ أَفْهَامُنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ، فَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ تَمَحَّلَ لِتَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَمْ يَقُلْ، وَمِنْ تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ، وَقَدْ وَرَدَ الوعيد الشديد عليه.
الفصل الرابع: في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُعَرَّبِ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى عِنْدَ غَيْرِ الْعَرَبِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. كَإِسْمَاعِيلَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وإسحاق، وَيَعْقُوبَ، وَنَحْوِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ نَفَاهُ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ، وَشُرَّاحُ كِتَابِهِ النَّفْيَ لِوُجُودِهِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَلَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ سِوَى تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللُّغَتَانِ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ وَمَا أَبْعَدَ هَذَا التَّجْوِيزَ، وَلَوْ كَانَ يَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ فِي مُوَاطِنِ الْخِلَافِ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ بِمُجَرَّدِ التَّجْوِيزِ، وَتَطَرَّقَ الْمُبْطِلُونَ إِلَى دَفْعِ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعُجْمَةَ عِلَّةٌ مِنَ الْعِلَلِ الْمَانِعَةِ لِلصَّرْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ التَّجْوِيزِ الْبَعِيدِ تَأْثِيرٌ لَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا الْإِجْمَاعُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ النَّافُونَ بِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِيهِ مَا لَيْسَ هُوَ بِعَرَبِيٍّ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ كُلُّهُ عَرَبِيًّا وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا1. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَأْتِ الْأَكْثَرُونَ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنَ اللُّغَاتِ الرُّومِيَّةِ، وَالْهِنْدِيَّةِ، وَالْفَارِسِيَّةِ، وَالسُّرْيَانِيَّةِ، مَا لَا يَجْحَدُهُ جَاحِدٌ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ مُخَالِفٌ،
حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ، وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلْيَبْحَثْ كُتُبَ التَّفْسِيرِ فِي مِثْلِ: الْمِشْكَاةِ1 وَالْإِسْتَبْرَقِ2، وَالسِّجِّيلِ3، وَالْقِسْطَاسِ4، وَالْيَاقُوتِ5، وَأَبَارِيقَ6، والتنور7.
المقصد الثاني: في السنة
المقصد الثاني: في السنّة الفصل الأول: في معنى السنّة لغة وشرعا ... الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى السُّنَّةِ لُغَةً وَشَرْعًا وأما لُغَةً: فَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ، وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ سَنَنْتُ الشَّيْءَ بِالْمِسَنِّ1 إِذَا أَمْرَرْتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهِ سَنًّا أَيْ: طَرِيقًا، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهَا الدَّوَامُ فَقَوْلُنَا: سُنَّةٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِدَامَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَنْتَ الْمَاءَ إِذَا وَالَيْتَ فِي صَبِّهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ2: أَصْلُهَا الطَّرِيقَةُ الْمَحْمُودَةُ، فَإِذَا أُطْلِقَتِ انْصَرَفْتَ إِلَيْهَا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا مُقَيَّدَةً كَقَوْلِهِ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" وَقِيلَ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَادَةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" 3. وَأَمَّا مَعْنَاهَا شَرْعًا: أَيْ: فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَهِيَ: قَوْلُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ وَتَقْرِيرُهُ، وَتُطْلَقُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ عَلَى الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْفِقْهِ فَإِنَّمَا يُطْلِقُونَهَا عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْبِدْعَةَ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي "فِقْهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ"4: وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: سُنَّةُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْهَادِينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" 5. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا الطَّرِيقَةَ. وَقِيلَ فِي حَدِّهَا اصْطِلَاحًا هِيَ: مَا يُرَجَّحُ جَانِبُ وُجُودِهِ عَلَى جَانِبِ عَدَمِهِ تَرْجِيحًا لَيْسَ مَعَهُ الْمَنْعُ مِنَ النَّقِيضِ. وَقِيلَ هِيَ: مَا وَاظَبَ عَلَى فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَرْكٍ مَا بَلَا عُذْرٍ. وَقِيلَ هِيَ: فِي الْعِبَادَاتِ النَّافِلَةُ، وَفِي الْأَدِلَّةِ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ في هذا العلم.
الفصل الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع
الفصل الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع ... البحث الثاني: في حجية السنة واستقلالها بِالتَّشْرِيعِ اعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اتَّفَقَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ مُسْتَقِلَّةٌ بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّهَا كَالْقُرْآنِ فِي تَحْلِيلِ الْحَلَالِ وَتَحْرِيمِ الْحَرَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 1 أَيْ: أُوتِيَتُ الْقُرْآنَ وَأُوتِيَتُ مِثْلَهَ مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي لَمْ يَنْطِقْ بِهَا الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ كَتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ2 فِي الْأَمْرِ بِعَرْضِ الْأَحَادِيثِ عَلَى القرآن فقال يحيى بن معين3: إنه موضع وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَوَاهُ أَحَدٌ عَمَّنْ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ4 فِي كِتَابِ "جَامِعِ الْعِلْمِ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ5: الزنادقة والخوارج وضعوا
حَدِيثَ: "مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَإِنْ خَالَفَ فَلَمْ أَقُلْهُ"1. وَقَدْ عَارَضَ حَدِيثُ الْعَرْضِ قَوْمٌ فَقَالُوا: عَرَضْنَا هَذَا الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَخَالَفَهُ، لِأَنَّا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وَوَجَدْنَا فِيهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3 وَوَجَدْنَا فِيهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5 قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ6: الْكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْكِتَابِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ7: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ ثُبُوتَ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلَالَهَا بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا حَظَّ لَهُ في دين الإسلام.
الفصل الثالث: في عصمة الأنبياء
الفصل الثالث: في عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ ... الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ، وَكَذَا حَكَوُا الْإِجْمَاعَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِمَّا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ، كَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَالدَّنَاءَاتِ وَسَائِرِ مَا يُنَفِّرُ عَنْهُمْ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا صَغَائِرُ الْخِسَّةِ، كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وإنما اختلفوا في الدليل عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِمَّا ذُكِرَ، هَلْ هُوَ الشَّرْعُ أَوِ الْعَقْلُ؟ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ؛ لِأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ عَنِ الِاتِّبَاعِ، فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"1 عَنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ، قَالَ: وَإِلَيْهِ مَصِيرُ جَمَاهِيرِ أَئِمَّتِنَا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: إِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ2: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَبِعَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِهَا السَّمْعُ فَقَطْ، وَرُوِيَ عَنِ القاضي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهَا الْإِجْمَاعُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ سَمْعًا وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَوْ رَدَدْنَا ذَلِكَ إِلَى الْعَقْلِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُهَا، وَاخْتَارَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، والغزالي، وإلكيا3 وابن برهان4.
قَالَ الْهِنْدِيُّ1: هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى الْمُعْجِزَةِ فِي التَّحَدِّي، فَإِنْ أَسْنَدَهُ إِلَيْهَا كَانَ امْتِنَاعُهُ عَقْلًا. وَهَكَذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَمَّا الْكَذِبُ غَلَطًا فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَمْدًا لَا خَطَأً، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا تُزْرِي بِالْمَنْصِبِ، وَلَا كَانَتْ مِنَ الدَّنَاءَاتِ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا جَازَتْ هَلْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ فَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا عَنِ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازَ عَقْلًا، وَكَذَا نَقْلَ ذَلِكَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ2 عَنِ الْأَكْثَرِينَ -أَيْضًا- عَدَمَ الْوُقُوعِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ أَنَّهُ ليس في الشرع قاطع ذَلِكَ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، وَالظَّوَاهِرُ مُشْعِرَةٌ بِالْوُقُوعِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَجْوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ3 جماعة مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ. قَالُوا وَلَا بُدَّ مِنْ تَنْبِيهِهِمْ عَلَيْهِ إِمَّا فِي الْحَالِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَوْ قَبْلَ وَفَاتِهِمْ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ4 فِي "الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ"5 عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَابْنِ فُورَكَ، أَنَّهُمْ
مَعْصُومُونَ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ جَمِيعًا، وَقَالَ: إِنَّهُ الذين نَدِينُ اللَّهَ بِهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ1 فِي "زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ"2 عَنِ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ3: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ على ترك الأول. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: يُحْمَلُ عَلَى مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ. وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ الْعِصْمَةَ عَمْدًا وَجَوَّزَهَا سَهْوًا. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْعِصْمَةِ فَقِيلَ: هُوَ أَنْ لَا يُمَكَّنَ الْمَعْصُومُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَخْتَصَّ فِي نَفْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ بِخَاصِّيَّةٍ تَقْتَضِي امْتِنَاعَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ مِنْهَا بِأَلْطَافِهِ بِهِمْ فَصَرَفَ دَوَاعِيَهُمْ عَنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا "تَهْيِئَةُ"* الْعَبْدِ لِلْمُوَافَقَةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى خَلْقِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ طَاعَةٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَنْسُوبًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوَّلُهُمْ أَبُونَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ الله يقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه فَغَوَىْ} 4. قُلْتُ: قَدْ قَدَّمْنَا5 وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَهَكَذَا يُحْمَلُ مَا وَقَعَ مِنْ إبراهيم عليه السلام من
قوله: {إِنِّي سَقِيم} 1 وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم} 2 وَقَوْلِهِ فِي سَارَةَ: "إِنَّهَا أُخْتُهُ"3 عَلَى مَا يُخْرِجُهُ عَنْ مَحْضِ الْكَذِبِ، لِوُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَهَكَذَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه} 4 لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَكَذَا مَا فَعَلَهُ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ بِأَخِيهِمْ يُوسُفَ5، وَهَكَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: "كَانَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتُوبُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ" 6 عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رُجُوعُهُ مِنْ حَالَةٍ إِلَى أَرْفَعَ مِنْهَا. وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قِيلَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي" 7 قَالَ قَوْمٌ: وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ بَلْ يُنَبَّهُونَ. قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى امْتِنَاعِ النِّسْيَانِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ8 فِي "الْبَحْرِ": وَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ فَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الِامْتِنَاعِ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى امْتِنَاعِ، السَّهْوِ والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص
الْخِلَافَ بِالْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ ذَهَبُوا إِلَى الْجَوَازِ، وَتَأَوَّلَ الْمَانِعُونَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي سَهْوِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: "أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي"، وَقَدِ اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْمُجَوِّزِينَ لِلسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ اتِّصَالُ التَّنْبِيهِ بِالْوَاقِعَةِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ. وَأَمَّا قَبْلَ الرِّسَالَةِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الأنبياء عقلا ذَنْبٌ كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ. وَقَالَتِ الرَّوَافِضُ1: يَمْتَنِعُ قَبْلَ الرِّسَالَةِ مِنْهُمْ كُلُّ ذَنْبٍ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ الْكَبَائِرُ دُونَ الصَّغَائِرِ، وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِالْكَبَائِرِ بِأَنَّ وُقُوعَ الذَّنْبِ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مُنَفِّرٌ عَنْهُمْ عَنْ* أَنْ يُرْسِلَهُمُ اللَّهُ فَيُخِلَّ بِالْحِكْمَةِ مِنْ بَعْثِهِمْ. وَذَلِكَ قَبِيحٌ عَقْلًا. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الكلام.
الفصل الرابع: في أفعاله صلى الله عليه وسلم
الفصل الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْلَمْ أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْقَسِمُ إِلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا كَانَ مِنْ هَوَاجِسِ1 النَّفْسِ وَالْحَرَكَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الْأَعْضَاءِ وَحَرَكَاتِ الْجَسَدِ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ بِاتِّبَاعٍ، وَلَا نَهْيٌ عَنْ مُخَالَفَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مُبَاحٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ وَوَضَحَ فِيهِ أَمْرُ الْجِبِلَّةِ2، كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَيْسَ فِيهِ تَأَسٍّ، وَلَا بِهِ اقْتِدَاءٌ ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور.
وَنَقْلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَكَذَا حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ"1 وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَتَبَّعُ مِثْلَ هَذَا وَيَقْتَدِي بِهِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ مَنْقُولٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا احْتَمَلَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْجِبِلَّةِ إِلَى التَّشْرِيعِ بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ على وجه معروف وهيئة مخصصة"* كالأجل وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالنَّوْمِ، فَهَذَا الْقِسْمُ دُونَ مَا ظَهَرَ فِيهِ أَمْرُ الْقُرْبَةِ، وَفَوْقَ مَا ظَهَرَ فِيهِ أَمَرُ الْجِبِلَّةِ عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ. وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِرْشَادُ إِلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ الْإِرْشَادُ إِلَى هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالنَّوْمِ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ دَاخِلٌ فِيمَا سَيَأْتِي. وَفِي هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ ومن معه، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّشْرِيعِ، أَوْ إِلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ وَالرَّاجِحُ الثَّانِي. وَقَدْ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ فَيَكُونُ مَنْدُوبًا. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا عُلِمَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْوِصَالِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَتَوَقَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُمْنَعُ التَّأَسِّي بِهِ أَمْ لَا، وَقَالَ: لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ فِي أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَنَا مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَهَذَا مَحَلُّ التَّوَقُّفِ. وَفَرَّقَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ الْمَقَدِّسِيُّ2 فِي "كِتَابِهِ" فِي الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ. فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَيُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالضُّحَى وَالْوَتْرِ، وَكَذَا فِيمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ كَأَكْلِ ذِي الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَطَلَاقِ مَنْ تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِيمَا صُرِّحَ لَنَا بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِشَرْعٍ يَخُصُّنَا، فَإِذَا قَالَ مَثَلًا: هَذَا وَاجِبٌ عَلَيَّ مَنْدُوبٌ لَكُمْ كَانَ فِعْلُنَا لِذَلِكَ الْفِعْلِ لِكَوْنِهِ أَرْشَدَنَا إِلَى كَوْنِهِ مندوبًا لنا لا
لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا مُبَاحٌ لِي أَوْ حَلَالٌ "لِي"*، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَقُولَ: هُوَ مُبَاحٌ لَنَا، أَوْ حَلَالٌ لَنَا، وَذَلِكَ كَالْوِصَالِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُوَاصِلَ. هَذَا عَلَى فَرْضِ عَدَمِ وُرُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْوِصَالِ لَنَا، أَمَّا لَوْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذلك، كما يثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَاصَلَ أَيَّامًا تَنْكِيلًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الْوِصَالِ"1 فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَنَا فِعْلُهُ بِهَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي وَرَدَ عَنْهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِاقْتِدَاءِ مَنِ اقْتَدَى بِهِ فِيهِ كَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَمَّا لَوْ قَالَ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَحْدِي، وَلَمْ يَقِلْ حَلَالٌ لَكُمْ فَلَا بَأْسَ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: حَرَامٌ عَلَيَّ حَلَالٌ لَكُمْ، فَلَا يُشْرَعُ التَّنَزُّهُ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْحَلَالِ وَرَعٌ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا أَبْهَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْتِظَارِ الْوَحْيِ، كَعَدَمِ تَعْيِينِ نَوْعِ الْحَجِّ مَثَلًا. فَقِيلَ: يُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "النِّهَايَةِ"2 وَهَذَا عِنْدِي هَفْوَةٌ3 ظَاهِرَةٌ. فَإِنَّ إِبْهَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى انْتِظَارِ الْوَحْيِ قَطْعًا، فَلَا مَسَاغَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: مَا يَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ عُقُوبَةً لَهُ كَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْلَاكِ غَيْرِهِ عُقُوبَةً لَهُ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ أَمْ لَا فَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فَإِنْ وَضَحَ لَنَا السَّبَبُ، الَّذِي فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ كَانَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ عِنْدَ وُجُودِ مِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ السَّبَبُ لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُتَدَاعِيَيْنِ فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْقَضَاءِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا الْقَضَاءُ بِمَا قَضَى بِهِ. الْقِسْمُ السَّابِعُ: الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ عَمَّا سَبَقَ، فَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي" 1 وَ"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 2 وَكَالْقَطْعِ3 مِنَ الْكُوعِ4 بَيَانًا لِآيَةِ السَّرِقَةِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ دَلِيلٌ فِي حَقِّنَا، وَوَاجِبٌ عَلَيْنَا، وَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ، كَأَفْعَالِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ وَرَدَ ابْتِدَاءً، فَإِنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ فِي حَقِّهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، إِلَّا أن يدل دليل على اخْتِصَاصُهُ "بِهِ"* وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ غَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ: الْوَقْفُ. وَالرَّابِعُ: لَا يَكُونُ شَرْعًا لَنَا إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ فِي حَقِّهِ، وظهر فيه قصد القربة فاختلفوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ وَبِهِ قال جماعة من المعتزلة، وابن شريج، وأبو سعيد الأصطخري
وَابْنُ خَيْرَانِ1، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ2. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 4 وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 5 وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر} 6 وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 7. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلِكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِأَفْعَالِهِ. وَكَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى رِوَايَةِ مَنْ يَرْوِي لَهُمْ شَيْئًا مِنْهَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانِينِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"8 فَرَجَعُوا إِلَى ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِكَوْنِ الِاحْتِيَاطِ يَقْتَضِي حَمْلَ الشَّيْءِ عَلَى أَعْظَمِ مَرَاتِبِهِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى: بِمَنْعِ تناول قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول} لِلْأَفْعَالِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} يدل على أنه أراد بقوله: {وَمَا ءآتَيْتُكُم} مَا أَمَرَكُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِتْيَانَ إِنَّمَا يَأْتِي فِي الْقَوْلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَابَعَةِ فِعْلُ مِثْلِ مَا فَعَلَهُ، فَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُ فِعْلِ كُلِّ مَا فَعَلَهُ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، والمفروض خلافه.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَمْرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ التَّأَسِّيَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ التَّطَوُّعِ وَفَعَلْنَاهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ لَمْ نَكُنْ مُتَأَسِّينَ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى وُجُوبِهِ، فَلَوْ فَعَلْنَا الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ مُجَرَّدًا عَنْ دَلِيلِ الْوُجُوبِ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا لَكَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي التَّأَسِّي. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: أَنَّ الطَّاعَةَ هي الإتيان بالمأمور أو المراد عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وجوب أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَعْوَى إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ: فَهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى كُلِّ فِعْلٍ يَبْلُغُهُمْ، بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ عَلَى صِفَتِهَا الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ لَهَا مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَالْوُجُوبُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لمذكورة مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَعْقُولِ: فَالِاحْتِيَاطُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا خَلَا عَنِ الْغَرَرِ قَطْعًا، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حَرَامًا عَلَى الْأُمَّةِ وَإِذَا احْتَمَلَ لَمْ يَكُنِ الْمَصِيرُ إِلَى الْوُجُوبِ احْتِيَاطًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلنَّدْبِ وَقَدْ حَكَاهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ نُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ"1: أَنَّهُ حَكَاهُ عَنِ الْقَفَّالِ2 وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ3 وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. أما القرآن فقوله تعالى: {لقَدْ كَانَتْ لَكُم في رسول اللهْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} 4، ولو كان التأسي
وَاجِبًا لَقَالَ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا قَالَ {لَكُمْ} دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَلَمَّا "أَثْبَتَ"* الْأُسْوَةَ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَإِنْ يَكُنْ مُبَاحًا. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّا رَأَيْنَا أَهَلَ الْأَعْصَارِ مُتَطَابِقِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ النَّدْبَ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُفِيدُهُ جَانِبَ الرُّجْحَانِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْعَدَمِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ دُونَهُ، وَالْأَوَّلُ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ مُسْتَلْزِمَانِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ عَبَثًا وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ رَاجِحٌ عَلَى الْعَدَمِ فَالرَّاجِحُ عَلَى الْعَدَمِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَالْمُتَيَقَّنُ هُوَ النَّدْبُ. وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ: بِأَنَّ التَّأَسِّيَ هُوَ إِيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ فَلَوْ فَعَلَهُ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا وَفَعَلْنَاهُ مَنْدُوبًا لَمَا حَصَلَ التَّأَسِّي. وَأُجِيبَ عَنِ الْإِجْمَاعِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مَعَ الْفِعْلِ قَرَائِنَ أُخَرَ. وَأُجِيبَ عَنِ الْمَعْقُولِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ عَبَثٌ؛ لِأَنَّ الْعَبَثَ هُوَ الْخَالِي عَنِ الْغَرَضِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْمُبَاحِ مَنْفَعَةٌ نَاجِزَةٌ لَمْ يَكُنْ عَبَثًا "بَلْ"** مِنْ حَيْثُ حُصُولِ النَّفْعِ بِهِ خَرَجَ عَنِ الْعَبَثِ، ثُمَّ حُصُولُ الْغَرَضِ فِي التأسي بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَابَعَةِ أَفْعَالِهِ بَيِّنٌ، فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَقْسَامِ الْعَبَثِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ1 وَلَمْ يَحْكِ الْجُوَيْنِيُّ قَوْلَ الْإِبَاحَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْقُرْبَةِ لَا يُجَامِعُ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ لَكِنْ حَكَاهُ غَيْرُهُ كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ الرَّازِيِّ وَكَذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ2 وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ حَمْلًا عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ: بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الْإِثْمَ لِعِصْمَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِمَّا مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ وَاجِبًا. وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مُشْتَرِكَةٌ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ. فَأَمَّا رُجْحَانُ الْفِعْلِ فلم يثبت على وجوده دليل، فثبت
بِهَذَا أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا رُجْحَانَ فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مُبَاحًا وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عِنْدَهُ وَعَدَمُ مُجَاوَزَتِهِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمُتَيَقَّنٍ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَمَا عَرَفْتَ هُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَظُهُورُهَا يُنَافِي مُجَرَّدَ الْإِبَاحَةِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِظُهُورِهَا مَعْنًى يُعْتَدُّ بِهِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ الصَّيْرَفِيِّ1 وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ انْتَهَى. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنِ الدَّقَاقِ2، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ3. وَحَكَاهُ فِي "اللُّمُعِ" عَنِ الصَّيْرَفِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا مَعْنًى لِلْوَقْفِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ فِيهِ قُصْدُ الْقُرْبَةِ، فَإِنَّ قَصْدَ الْقُرْبَةِ يُخْرِجُهُ عَنِ الْإِبَاحَةِ إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَالْمُتَيَقَّنُ مِمَّا هُوَ فَوْقَهَا النَّدْبُ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، بَلْ كَانَ مُجَرَّدًا مُطْلَقًا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ "وَهُوَ كَذَلِكَ فِي النَّقْلِ عَنْهُ، وَهُوَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ4 عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ"* وَابْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَيِّ، وَأَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ سَلِيمُ الرَّازِيُّ1: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ مَعَ ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُمْ بِمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ أُولَئِكَ بَلِ الْجَوَابُ عَنْ هَؤُلَاءِ بِتِلْكَ الْأَجْوِبَةِ أَظْهَرُ لِعَدَمِ ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ2 وَالرَّازِيُّ فِي "الْمَعَالِمِ"3، قَالَ الْقَرَافِيُّ4: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِهِمُ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْدُوبٌ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي"الْبَحْرِ": وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنِ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ الْكَبِيرِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ5: هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قُلْتُ: هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِقُرْبَةٍ، وَأَقَلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ هُوَ الْمَنْدُوبُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى النَّدْبِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ فإن الإباحة الشَّيْءِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ طَرَفَيْهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ. فَالْقَوْلُ بِهَا إِهْمَالٌ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ تَفْرِيطٌ كَمَا أَنَّ حَمْلَ فِعْلِهِ المجرد على الوجوب إفراط الحق بين المقصر والغالي.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ نَقَلَهُ الدَّبُوسِيُّ فِي "التَّقْوِيمِ"1، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ2 قَرِيبًا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، قَالَ وَاخْتَارَهُ الدَّقَّاقُ وَأَبُو الْقَاسِمِ، بْنُ كَجِّ3 قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "شَرْحِ الْكِفَايَةِ"4، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ كَانَ التَّوَقُّفُ مُتَعَيِّنًا، وَيُجَابُ عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا5، منع احْتِمَالِ الْخُصُوصِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّشْرِيعِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَحِينَئِذٍ فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَقُّفِ وَالْعَجَبُ مِنِ اخْتِيَارِ مثل الغزالي والرازي له.
الفصل الخامس: في تعارض الأفعال
الفصل الخامس: في تَعَارُضُ الْأَفْعَالِ ... الْبَحْثُ الْخَامِسُ: فِي تَعَارُضِ الْأَفْعَالِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ، بحيث يكون البعث مِنْهَا نَاسِخًا لِبَعْضٍ أَوْ مُخَصِّصًا لَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبًا وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التِّكْرَارِ، هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ1 فِي كِتَابِ "الْمَحْصُولِ"2 ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ التَّخْيِيرُ. الثَّانِي: تَقْدِيمُ الْمُتَأَخِّرِ، كَالْأَقْوَالِ إِذَا تَأَخَّرَ بَعْضُهَا. الثَّالِثُ: حُصُولُ التَّعَارُضِ وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ، قَالَ: كَمَا اتُّفِقَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ صُلِّيَتْ عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ صِفَةً، قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ يُرَجَّحُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ بَعْضُهُمُ الْأَخِيرَ مِنْهَا إِذَا عُلِمَ، انْتَهَى. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ1 أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَفْعَالِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَقْوَالِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ2: يَجُوزُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، وَإِنْ جُهِلَ فَالتَّرْجِيحُ وَإِلَّا فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ كَالْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ فَلَا تَعَارُضَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ": إِذَا نُقِلَ فِعْلٌ وَحُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ ثُمَّ نُقِلَ فِعْلٌ يُنَاقِضُهُ فَقَالَ الْقَاضِي3: لَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَهَى "لِمُدَّةِ"* الْفِعْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَذَهَبَ ابْنُ مُجَاهِدٍ4 إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ وَتَرَدَّدَ فِي الْقَوْلِ الطَّارِئِ عَلَى الْفِعْلِ وَجَزَمَ إِلْكِيَا بِعَدَمِ تَصَوُّرِ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا عُلِمَ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِدَامَتُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِأَنَّهُ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ نَاسِخًا لَهُ، قَالَ: وَعَلَى مِثْلِهِ بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَعَارُضُ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّهُ لَا صِيَغَ لَهَا يُمْكِنُ النَّظَرُ فِيهَا وَالْحُكْمُ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ أَكْوَانٍ مُتَغَايِرَةٍ وَاقِعَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَقَعْ بَيَانَاتٌ لِلْأَقْوَالِ، أَمَّا إِذَا وَقَعَتْ بَيَانَاتٌ لِلْأَقْوَالِ فَقَدْ تَتَعَارَضُ فِي الصُّورَةِ وَلَكِنَّ التَّعَارُضَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلى المبينات من
الْأَقْوَالِ، لَا إِلَى بَيَانِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 1 فَإِنَّ آخِرَ الْفِعْلَيْنِ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إِذَا نقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَانِ مُؤَرَّخَانِ مُخْتَلِفَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَسُّكُ بِآخِرِهِمَا، وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ إِلَى هَذَا، ثُمَّ ذَكَرَ تَرْجِيحَهُ لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْ صِفَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذَا عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيَانًا كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى اخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَاقِعَةٌ بَيَانًا، وَهَكَذَا يَنْبَغِي حَمْلُ مَا نَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ2 عَنِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِ من الأفعال ناسخ على ما ذكرنا.
الفصل السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل
الفصل السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل ... البحث السادس: في حكم التعارض بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله وفيه صور. وبين ذلك: أن يَنْقَسِمُ أَوْلًا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ. ثَانِيهَا: أَنْ يعلم تقدم الفعل على القول. ثالثهما: أَنْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ. وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الثَّانِي الْأَوَّلَ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ أَوْ يَتَرَاخَى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَهَذَانَ قِسْمَانِ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَكُونُ الْجَمِيعُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ. وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ القول عامًا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ، أَوْ خَاصًّا بِهِ، أَوْ خَاصًّا بِأُمَّتِهِ فَتَكُونُ الْأَقْسَامُ ثَمَانِيَةً: ثُمَّ الْفِعْلُ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَكْرَارِهِ فِي حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ، أَوْ لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي، أَوْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّأَسِّي دُونَ التَّكْرَارِ. فَإِذَا ضُرِبَتِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ، وَهِيَ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا تَعَقُّبُ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ وَتَرَاخِيهِ عَنْهُ وَتَعَقُّبُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ وَتَرَاخِيهِ عَنْهُ، فِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَسِمُ إِلَيْهَا الْقَوْلُ، مِنْ كَوْنِهِ يَعُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُمَّتَهُ، أَوْ يَخُصُّهُ، أَوْ يَخُصُّ أُمَّتَهُ، حَصَلَ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا، نَضْرِبُهَا فِي أَقْسَامِ الْفِعْلِ الْأَرْبَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي، أَوْ عَدَمِهِمَا أَوْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَحْصُلُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ قِسْمًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَقْسَامَ تَنْتَهِي إِلَى سِتِّينَ قِسْمًا وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي السُّنَّةِ فَلْنَتَكَلَّمْ هَاهُنَا عَلَى مَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِيهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِهِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ عَلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَفْعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلًا ثم يقول بعد: لَا يَجُوزُ لِي مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي هذا الوقت لا تعلق به بِالْفِعْلِ فِي الْمَاضِي، إِذِ الْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِمَا بعده ولا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَا حُكْمَ لِلْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ عَدَمُ التَّكْرَارِ لَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَا يَجُوزُ لِي الْفِعْلُ فِي وَقْتِ كَذَا ثُمَّ يَفْعَلُهُ فِيهِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقَوْلِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِهِ، وَيُجْهَلُ التَّارِيخُ فَلَا تَعَارُضَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وَأَمَّا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ رُجِّحَ الْوَقْفُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِالْأُمَّةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَعَارُضَ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ عَلَى تَقْدِيرِ تَأَخُّرِهِ مُخَصَّصًا لَهُ مِنْ عُمُومِ الْقَوْلِ، وَذَلِكَ كَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ1 ثُمَّ صَلَاتِهِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا قَضَاءً لِسُنَّةِ الظُّهْرِ2، وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِمَا3 وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِصَاصِ الْفِعْلِ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب الجمهور، قالوا:
وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ أَوْ تَأَخَّرَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ1: إِنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ دَلَّ عَلَى نَسْخِهِ الْقَوْلُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْمُخَاطَبِ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْقَوْلُ شَامِلًا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ، أَوْ لِمُؤْمِنٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَا يَحِلُّ لِي وَلَا لَكُمْ، فَيَكُونَ الْفِعْلُ نَاسِخًا لِلْقَوْلِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي حَقِّنَا فَلَا تَعَارُضَ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ الْفِعْلِ وَعَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي فِيهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ خَاصًّا بِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مُعَارَضَةَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّهِ فَالْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ نَاسِخٌ، فَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِالْقَوْلِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ: بِالْفِعْلِ، وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ. الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ التَّأَسِّي وَالتَّكْرَارِ فِي الْفِعْلِ، فَلَا تَعَارُضَ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، فَالْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ نَاسِخٌ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَقِيلَ: يُعْمَلُ بِالْفِعْلِ وَقِيلَ: بِالْقَوْلِ وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ، وَأَيْضًا هَذَا الْقَوْلُ "الْخَاصُّ"* أَخَصُّ مِنَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ الدَّالِّ عَلَى التَّأَسِّي، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَلَمْ يَأْتِ مَنْ قَالَ بِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ. الْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التِّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي، فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّنَا، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَالرَّاجِحُ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ لِمَا تَقَدَّمَ. الْقِسْمُ التَّاسِعُ: أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّكْرَارِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ التَّأَسِّي بِهِ، وَيَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَعَارُضَ أَصْلًا لِعَدَمِ التَّوَارُدِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. الْقِسْمُ الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ خاصًا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّأَسِّي بِهِ فَلَا تَعَارُضَ أَيْضًا. الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، مَعَ عَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ فِي
الْفِعْلِ، فَيَكُونَ الْفِعْلُ مُخَصَّصًا لَهُ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَا تَعَارُضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ، وَأَمَّا إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، فَالْخِلَافُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ1 فِي تَرْجِيحِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، أَوِ الْعَكْسِ، أَوِ الْوَقْفِ. الْقِسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ: إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّأَسِّي دُونَ التكرار أو يَكُونُ الْقَوْلُ مُخَصَّصًا بِهِ فَلَا تَعَارُضَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وَأَمَّا فِي حَقِّهِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَوْلُ فَلَا تَعَارُضَ وَإِنْ تَقَدَّمَ فَالْفِعْلُ نَاسِخٌ فِي حَقِّهِ وَإِنْ جُهِلَ فَالْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ فِي حَقِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ2. الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ وَلَا تَعَارُضَ فِي حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّأَسِّي. الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِلْأُمَّةِ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّأَسِّي دُونَ التَّكْرَارِ، فَفِي حَقِّ الْأُمَّةِ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ فَلَا تَعَارُضَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فَالْفِعْلُ نَاسِخٌ. وَمَعَ جَهْلِ التَّارِيخِ فَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ "وَلِقِيَامِ"* الدَّلِيلِ هَاهُنَا عَلَى عَدَمِ التَّكْرَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ دَلِيلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي، بَلْ يَكْفِي مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولُ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 3 أسوة حسنة، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ وَالِانْتِهَاءِ بِنَهْيِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ دَلِيلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ بَلْ مُجَرَّدُ فِعْلِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَيْثُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحَمَلَ عَلَى قَصْدِ التَّأَسِّي بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهَا كَأَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي البحث الذي قبل هذا البحث4.
الفصل السابع: في التقرير
الفصل السابع: في التَّقْرِيرُ ... الْبَحْثُ السَّابِعُ: فِي التَّقْرِيرِ وَصُورَتُهُ أَنْ يسكت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِنْكَارِ قَوْلٍ قِيلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ. أَوْ "يَسْكَتَ"* عَنْ إِنْكَارِ فِعْلٍ فُعِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَذَلِكَ كَأَكْلِ الْعِنَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إِذَا دَلَّ التَّقْرِيرُ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ فَهَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ قَرَّرَ أَوْ يَعُمُّ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَعُمُّ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ يَعُمُّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إِذَا ارْتَفَعَ فِي حَقِّ وَاحِدٍ ارْتَفَعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُوَيْنِيُّ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَسَيَأْتِي1 أَنَّهُ يَكُونُ غَيْرُ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَالْمُخَاطَبِ بِهِ وَنَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ الْمَازِرِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّقْرِيرُ مَخَصَّصًا لِعُمُومٍ سَابِقٍ أَمَّا إِذَا كَانَ مُخَصَّصًا لِعُمُومٍ سَابِقٍ فَيَكُونُ لِمَنْ قُرِّرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّقْرِيرُ فِي شَيْءٍ قَدْ سَبَقَ تَحْرِيمُهُ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَمِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ التَّقْرِيرِ إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، وَأَضَافَهُ إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَيْهِ فَلَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّقْرِيرُ عَلَى الْقَوْلِ والفعل منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَخَالَفَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَقَالُوا: إِنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ سُقُوطِ وُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعِصْمَتِهِ فِي قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} 2 وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّرُ مُنْقَادًا لِلشَّرْعِ، فَلَا يَكُونُ تَقْرِيرُ الْكَافِرِ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَالًّا عَلَى الْجَوَازِ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَيَلْحَقُ بِالْكَافِرِ الْمُنَافِقُ وَخَالَفَهُ الْمَازِرِيُّ، وَقَالَ: إِنَّا نُجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَثِيرًا مَا يَسْكُتُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ لَا تَنْفَعُهُمْ. وَإِذَا وَقَعَ من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِبْشَارُ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، فَهُوَ أَقْوَى في الدلالة على الجواز.
الفصل الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صلى الله عليه وسلم
الفصل الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... البحث الثامن: فيما هَمَّ بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَمَّ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا رُوِيَ "أَنَّهُ"* هَمَّ بِمُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ بِثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ1. وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِمَا هَمَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا جَعَلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ الْهَمَّ مِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، وَقَالُوا: يُقَدَّمُ الْقَوْلُ، ثُمَّ الْفِعْلُ، ثُمَّ التَّقْرِيرُ، ثُمَّ الْهَمُّ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خُطُورِ شَيْءٍ عَلَى الْبَالِ مِنْ دُونِ تَنْجِيزٍ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا آتَانَا الرَّسُولُ، وَلَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِيهِ وَقَدْ يكون إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هَمَّ بِهِ لِلزَّجْرِ كَمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُخَالِفَ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بيوتهم" 2.
الفصل التاسع: في حكم إشارته وكتابته صلى الله عليه وسلم
الفصل التاسع: في حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ، كَإِشَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ إِلَى أَيَّامِ الشَّهْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَبَضَ فِي الثَّالِثَةِ وَاحِدَةً مِنْ أَصَابِعِهِ1، وككتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَّالِهِ فِي الصَّدَقَاتِ2 وَنَحْوِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السُّنَّةِ ومما تقوم به الحجة.
الفصل العاشر: فيما تركه صلى الله عليه وسلم والقول في الحوادث التي لم يحكم بها
الفصل العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها ... البحث العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّيْءِ، كَفِعْلِهِ لَهُ فِي التَّأَسِّي بِهِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِذَا تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُ فِيهِ، أَلَا ترى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قُدِّمَ إِلَيْهِ الضَّبُّ فَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَرَكَ أَكْلَهُ: أَمْسَكَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَتَرَكُوهُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ" وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ1، وَهَكَذَا تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ جَمَاعَةً، خَشْيَةَ أَنْ تُكْتَبَ عَلَى الْأُمَّةِ2. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ إِذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِشَيْءٍ، هَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي نَظَائِرِهَا؟ " فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى"*3: الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِمْ: تَرْكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحُكْمِ فِي حَادِثَةٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ترك الحكم في نظائرها.
الفصل الحادي عشر: في الأخبار وفيه أنواع
الفصل الحادي عشر: في الأخبار وَفِيهِ أَنْوَاعٌ النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْخَبَرِ لغة واصطلاحا ... البحث الحادي عشر: في الأخبار وَفِيهِ أَنْوَاعٌ النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْخَبَرِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا أَمَّا مَعْنَاهُ لُغَةً: فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَبَارِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّخْوَةُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُثِيرُ الْفَائِدَةَ، كَمَا أَنَّ
الْأَرْضَ الْخَبَارَ تُثِيرُ الْغُبَارَ إِذَا قَرَعَهَا الْحَافِرُ وَنَحْوُهُ وَهُوَ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَقِسْمٌ مِنَ الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْقَوْلِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تُخَبِّرُكَ الْعَيْنَانِ مَا الْقَلْبُ كَاتِمُ1 وَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ2: نَبِيٌّ مِنَ الْغِرْبَانِ لَيْسَ عَلَى شَرْعٍ ... يُخْبِرُنَا أَنَّ الشُّعُوبَ إِلَى صَدْعِ3 وَلَكِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَذَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ إِلَّا الْقَوْلُ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا: فَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": ذَكَرُوا فِي حده أمور ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ أَوِ الْكَذِبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ. وَالثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ كَلَامٌ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ إِضَافَةَ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا قَالَ: وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا بِنَفْسِهِ عَنِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الْفِعْلِ لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْأَمْرِ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ وَالصِّيغَةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ ثُمَّ إِنَّهَا تُفِيدُ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاجِبًا تَبَعًا لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَلَالَةِ النَّهْيِ عَلَى قُبْحِ الْفِعْلِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ دَوْرِيَّةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسِ الْخَبَرِ وَالْجِنْسُ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ النَّوْعِ وَأَعْرَفُ مِنْهَا فَإِذًا لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إِلَّا بِالْخَبَرِ فَلَوْ عَرَّفَنَا الْخَبَرَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِمَنْعِ كَوْنِهِمَا لَا يُعَرَّفَانِ إِلَّا بِالْخَبَرِ بَلْ هُمَا ضَرُورِيَّانِ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِلتَّرْدِيدِ وَهُوَ يُنَافِي التَّعْرِيفَ، ولا يمكن إسقاطها ههنا لِأَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ صِدْقًا وَكَذِبًا معا.
الثاني: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ فكان خارجًا عن هذا التعريف. الثالث: من قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسَيْلَمَةُ صَادِقَانِ، فَهَذَا خَبَرٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عن الأول: بأن المعرف لِمَاهِيَّةِ الْخَبَرِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ إِمْكَانُ تَطَرُّقِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ لَا تَرْدِيدَ فِيهِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِمْكَانُ تَطَرُّقِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِلَيْهِ، وَخَبَرُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صِدْقٌ. وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ قَوْلَهُ مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلَمَةُ صَادِقَانِ خَبَرَانِ، وَإِنْ كَانَا فِي اللَّفْظِ خَبَرًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ يُفِيدُ إِضَافَةَ الصِّدْقِ إِلَى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِضَافَتَهُ إِلَى مُسَيْلَمَةَ وَأَحَدُ الْخَبَرَيْنِ صَادِقٌ وَالثَّانِي كَاذِبٌ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ كَاذِبٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِضَافَةَ الصِّدْقِ إِلَيْهِمَا مَعًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ كَاذِبًا لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا التَّعْرِيفُ الثَّانِي: فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ: أَنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْخَبَرِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فَقَوْلُنَا الْخَبَرُ مَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ جارٍ مَجْرَى قَوْلِنَا الْخَبَرُ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ فَيَكُونُ هَذَا تَعْرِيفًا لِلْخَبَرِ بِالْخَبَرِ وَبِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْأَوَّلُ هُوَ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. وَأَمَّا التَّعْرِيفُ الثَّالِثُ: فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عِنْدَ أَبِي الْحُسَيْنِ عَيْنُ ذَاتِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: السَّوَادُ مَوْجُودٌ فَهَذَا خَبَرٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ. وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا قُلْنَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ يَمْشِي فَقَوْلُنَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ يَقْتَضِي نِسْبَةَ النَّاطِقِ إِلَى الْحَيَوَانِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّعْتِ وَالْخَبَرِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَنَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا يَقْتَضِي الدَّوْرَ لِأَنَّ النَّفْيَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الشَّيْءِ وَالْإِثْبَاتَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِهِ فَتَعْرِيفُ الْخَبَرِ بِهِمَا دَوْرٌ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتُ، فَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ تَصَوُّرَ مَاهِيَّةِ الْخَبَرِ غَنِيٌّ عَنِ الْحَدِّ وَالرَّسْمِ بِدَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ إِمَّا أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ وَأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَمَعْدُومًا، وَمُطْلَقُ الْخَبَرِ جُزْءٌ مِنَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ وَالْعِلْمُ بِالْكُلِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْجُزْءِ فَلَوْ كَانَ تَصَوُّرُ مَاهِيَّةِ مُطْلَقِ الْخَبَرِ مَوْقُوفًا عَلَى الِاكْتِسَابِ لَكَانَ تَصَوُّرُ الْخَبَرِ الْخَاصِّ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فَهْمُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ ضَرُورِيًّا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ وَيُمَيِّزُهُ عَنِ الموضع الذي
يَحْسُنُ فِيهِ، الْأَمْرُ وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مُتَصَوَّرَةٌ تَصَوُّرًا بَدِيهِيًّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: الْخَبَرُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلْفَاظِ وَأَنْوَاعُ الْأَلْفَاظِ لَيْسَتْ تَصَوُّرَاتُهَا بَدِيهِيَّةً، فَكَيْفَ قُلْتَ: إِنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ مُتَصَوَّرَةٌ تَصَوُّرًا بَدِيهِيًّا؟ قُلْتُ: حُكْمُ الذِّهْنِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَهُ الْآخَرُ وَلَيْسَ لَهُ الْآخَرُ مَعْقُولٌ وَاحِدٌ، لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُدْرِكُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَجِدُ تَفْرِقَةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ سَائِرِ أَحْوَالِهِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنْ أَلَمِهِ وَلَذَّتِهِ وَجُوعِهِ وَعَطَشِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ هُوَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ فَلَا شَكَّ أَنَّ تَصَوُّرَهُ فِي الْجُمْلَةِ بَدِيهِيٌّ مَرْكُوزٌ فِي فِطْرَةِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ اللَّفْظَةَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فَالْإِشْكَالُ غَيْرُ وَارِدٍ أَيْضًا. لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ، انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ اللَّفْظُ الدَّالُّ وَالْإِشْكَالُ وَارِدٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطَلَّقَ اللَّفْظِ الدَّالِّ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ. وَقَدْ أُجِيبَ عَمَّا ذَكَرَهُ بِأَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ ضَرُورِيًّا كَيْفِيَّةٌ لِحُصُولِهِ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ وَالَّذِي لَا يَقْبَلُهُ هُوَ نَفْسُ الْحُصُولِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوضُ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِالضَّرُورَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِتَنَافِيهِمَا. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ الْمَعْلُومَ ضَرُورَةً إِنَّمَا هُوَ نِسْبَةُ الْوُجُودِ إِلَيْهِ إِثْبَاتًا، وَهُوَ غَيْرُ تَصَوُّرِ النِّسْبَةِ الَّتِي هِيَ مَاهِيَّةُ الْخَبَرِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَّةُ الْخَبَرِ ضَرُورِيَّةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ لَا يُحَدُّ لِتَعَسُّرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ1. وَقِيلَ: الْأَوْلَى فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنْ يُقَالَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَحْكُومُ فِيهِ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَارِجِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ قُمْ لِأَنَّ مَدْلُولَهُ الطَّلَبُ نَفْسُهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْعِرَ بِأَنَّ لَهُ مُتَعَلِّقًا وَاقِعًا فِي الْخَارِجِ. وَكَذَا يُخْرِجُ جَمِيعَ الْمُرَكَّبَاتِ التَّقْيِيدِيَّةِ2 وَالْإِضَافِيَّةِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ النِّسْبَةَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَصِحَّ فِي مِثْلِ اجْتِمَاعِ الضدين وشريك الباري*.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: النِّسْبَةُ الْخَارِجِيَّةُ عَنِ الْمَدْلُولِ، سَوَاءٌ قَامَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ الْخَارِجِيَّةُ بِالذِّهْنِ كَالْعِلْمِ أَوْ بِالْخَارِجِ عَنِ الذِّهْنِ، كَالْقِيَامِ، أَوْ لَمْ تَقُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا نَحْوَ شَرِيكُ الْبَارِّي مُمْتَنِعٌ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي حَدِّ الْخَبَرِ هُوَ مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ لِذَاتِهِ، وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا سَبَقَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلِ الْخَبَرُ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِيِّ وَالنَّفْسِيِّ، أَمْ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِيِّ مَجَازٌ فِي النَّفْسِيِّ أَمِ الْعَكْسُ كَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِأَنَّ الْخَبَرَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِهِ وَإِذَا عَرَفْتَ الِاخْتِلَافَ فِي تَعْرِيفِ الْخَبَرِ عَرَفْتَ بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَيْسَ بِخَبَرٍ وَيُسَمُّونَهُ إِنْشَاءً وَتَنْبِيهًا وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالنِّدَاءُ وَالتَّمَنِّي والعرض والترجي والقسم.
النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب
النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب النَّوْعُ الثَّانِي: إِنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعِ الْخَبَرَ إِلَّا لِلصِّدْقِ وَلَيْسَ لَنَا خَبَرٌ كَذِبٌ وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَاضِعِ وَنَظِيرُهِ قَوْلُهُمْ الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ اسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ، حُصُولُ الْقِيَامِ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ إِنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ، وَإِنَّمَا احْتِمَالُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مَدْلُولَهُ الْحُكْمُ بِحُصُولِ الْقِيَامِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَلَا يَقْدَحُ عَلَى الْقَرَافِيِّ بَلْ هُوَ مُعْتَرِفٌ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَذَلِكَ مُجَرَّدُ دَعْوَى وَيُقَوِّي مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ عَلَى مَدْحِ الصَّادِقِ وَذَمِّ الْكَاذِبِ وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ مَوْضُوعًا لَهُمَا لَمَا كَانَ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ مَوْضُوعٌ مِنْ بَأْسٍ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِمَّا مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الصِّدْقُ وَالثَّانِي الْكَذِبُ وَأَثْبَتَ الْجَاحِظُ1 الْوَاسِطَةَ بينهما، فقال:
الْخَبَرُ إِمَّا مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِ أَوْ لَا مُطَابِقَ وَالْمُطَابِقُ إِمَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُطَابِقٌ أَوْ لَا، وَغَيْرُ الْمُطَابِقِ إِمَّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ أَوْ لَا وَالثَّانِي مِنْهُمَا وَهُوَ مَا لَيْسَ مَعَ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كذب واستدل بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّة} 1. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ حَصَرَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ افْتِرَاءً، أَوْ كلامَ مجنونٍ، فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ كَلَامَ مَجْنُونٍ لَا يَكُونُ صِدْقًا لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ صِدْقًا وَقَدْ صَرَّحُوا بِنَفْيِ الْكَذِبِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ قَسِيمَهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا "لِأَنَّ"* الْمَجْنُونَ لَا يَقُولُ عَنْ قَصْدٍ وَاعْتِقَادٍ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَفْتَرَى أَمْ لَمْ يَفْتَرِ، فَيَكُونُ مَجْنُونًا لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا افتراء له والكذب مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ يَكُونُ مَجْنُونًا أَوِ الْمُرَادُ أَقَصَدَ فَيَكُونُ مَجْنُونًا أَمْ لَمْ يَقْصِدْ فَلَا يَكُونُ خَبَرًا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الِافْتِرَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْكَذِبِ، وَمُقَابِلُهُ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا وَإِنْ سَلِمَ فَقَدْ لَا يَكُونُ خَبَرًا فَيَكُونُ هَذَا حَصْرًا لِلْكَذِبِ فِي نَوْعَيْهِ الْكَذِبِ عَنْ عَمْدٍ وَالْكَذِبِ لَا عَنْ عَمْدٍ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَفْظِيَّةٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ أن كل خبر "إما"** أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ أَوْ لَا يَكُونُ مُطَابِقًا فَإِنْ أُرِيدَ بِالصِّدْقِ الْخَبَرُ الْمُطَابِقُ كَيْفَ كَانَ وَبِالْكَذِبِ الْخَبَرُ الْغَيْرُ مُطَابِقٍ كَيْفَ كَانَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالصِّدْقِ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا مَعَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهِ مُطَابِقًا وَبِالْكَذِبِ الَّذِي لَا يَكُونُ مُطَابِقًا مَعَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ كَانَ هُنَاكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ قَائِلُهُ أَنَّهُ مُطَابِقٌ أَمْ لَا فَثَبَتَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَفْظِيَّةٌ؛ انْتَهَى. وَقَالَ النَّظَّامُ2 وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفُقَهَاءِ: إِنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلِاعْتِقَادِ، وَالْكَذِبَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ لِلِاعْتِقَادِ وَاسْتَدَلَّ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ. أَمَّا النَّقْلُ: فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} 1 فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ "عَلَيْهِمْ"* فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} مَعَ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فَلَوْ كَانَ لِلْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ أَوْ لِعَدَمِهَا مَدْخَلٌ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَمَا كَانُوا كَاذِبِينَ لِأَنَّ خَبَرَهُمْ هَذَا مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ ولا واسطة بن الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ التَّكْذِيبَ رَاجِعٌ إِلَى خَبَرٍ تَضَمَّنَهُ مَعْنَى: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وَهُوَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ هَذِهِ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ وَخُلُوصِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ سِيَّمَا بعد تأكيده بـ"إن وَاللَّامِ وَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ". وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ التَّكْذِيبَ رَاجِعٌ إِلَى زَعْمِهِمُ الْفَاسِدِ وَاعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ التَّكْذِيبَ رَاجِعٌ إِلَى حَلِفِهِمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بقوله تعالى: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَل} 2. وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْأَجْوِبَةِ مِنْ مَزِيدِ التَّكَلُّفِ، وَلَكِنَّهُ أَلْجَأَ إِلَى الْمَصِيرِ إِلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ "فَأَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ"**، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ كَذَبَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، بَلْ يُقَالُ: أَخْطَأَ أَوْ وَهِمَ. الثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ وَالْمُطْلَقَاتِ مُخَصَّصَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ فَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الَّذِي لَا يُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ كَذِبًا لتطرق الكذب إِلَى كَلَامِ الشَّارِعِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ "لِلْوَاقِعِ"*** وَكَذِبَهُ عَدَمُهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِد} 3 فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينْ} 4، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَقَدْ قال: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ1 لَمَّا رَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فقتله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أجر مرتين" 2. فكذبهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِمَا كَانَ فِي اعْتِقَادِهِمْ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ: إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ" 3. وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَكْذِيبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي كُفْرِيَّاتِهِمْ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ تِلْكَ الْكُفْرِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْذِيبِ الْكَافِرِ إِذَا قَالَ الْإِسْلَامُ بَاطِلٌ مَعَ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَتَّصِفُ بِالصِّدْقِ إِلَّا إِذَا جَمَعَ بَيْنَ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ وَالِاعْتِقَادِ، فَإِنْ خَالَفَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَكَذِبٌ فَيُقَالُ فِي تَعْرِيفِهِمَا هَكَذَا الصِّدْقُ مَا طَابَقَ الْوَاقِعَ وَالِاعْتِقَادَ. وَالْكَذِبُ مَا خَالَفَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا ثُبُوتُ وَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ كَلَامُ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يَرِدُ كَلَامُ السَّاهِي وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَجَمِيعُ أَدِلَّةِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى هَذَا، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْهَا. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْكَافِرِ إِذَا قَالَ: الْإِسْلَامُ حَقٌّ وَهُوَ إِنَّمَا طَابَقَ الْوَاقِعَ لَا الِاعْتِقَادَ، قُلْتُ لَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي مَدْلُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لُغَةً لَا شَرْعًا، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ لَا من أهل اللغة والدليل الذي "مُسْتَنَدُ"* إِجْمَاعِهِمْ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَلَكِنَّ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ شَرْعًا هُوَ الْمُخَالِفُ لِلِاعْتِقَادِ سَوَاءٌ طَابَقَ الْوَاقِعَ أَوْ خَالَفَهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِدْقِ وَصْفِ مَا خَالَفَ الْوَاقِعَ وَطَابَقَ الِاعْتِقَادَ بالكذب "لغة"**.
النوع الثالث: في تقسيم الخبر
النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي تَقْسِيمِ الْخَبَرِ اعْلَمْ أَنَّ الخبر لغة مِنْ حَيْثُ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، لَكِنْ قَدْ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَقَدْ يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ وَقَدْ لَا يُقْطَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفُقْدَانِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَقْطُوعُ بِصِدْقِهِ وَهُوَ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ أَوِ النَّظَرِ فَالْمَعْلُومُ بِالضَّرُورَةِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْمُتَوَاتِرُ أَوْ بِمُوَافَقَةِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَهِيَ الْأَوَّلِيَّاتُ كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعْلُومُ بِالنَّظَرِ فَهُوَ ضَرْبَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ نَفْسِهِ فَيَكُونَ كُلُّ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ صَادِقًا كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ حَادِثٌ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ فَيَكُونَ كُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ "صِدْقًا"* وَهُوَ ضُرُوبٌ. الْأَوَّلُ: خَبَرُ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ وَصْفٌ وَاجِبٌ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّانِي: مَنْ دَلَّتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: مَنْ صَدَّقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ رَسُولُهُ وَهُوَ خَبَرُ كُلِّ الْأُمَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَقْطُوعُ بِكَذِبِهِ وَهُوَ ضُرُوبٌ: الْأَوَّلُ: الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ إِمَّا بِالضَّرُورَةِ كَالْإِخْبَارِ بِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ أَوِ ارْتِفَاعِهِمَا. الثَّانِي: الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ إِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ كَالْإِخْبَارِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بِخِلَافِ مَا هُوَ مِنْ قَطْعِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ. الثَّالِثُ: الْخَبَرُ الَّذِي لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا إِمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَإِمَّا لكونه أمر غَرِيبًا كَسُقُوطِ الْخَطِيبِ عَنِ الْمِنْبَرِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ. الرَّابِعُ: خَبَرُ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ. الْخَامِسُ: كُلُّ خَبَرٍ اسْتَلْزَمَ بَاطِلًا وَلَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْآحَادِيُّ إِذَا خَالَفَ الْقَطْعِيَّ كَالْمُتَوَاتِرِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ وَذَلِكَ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَذَلِكَ كَخَبَرِ الْعَدْلِ وَقَدْ يَتَرَجَّحُ كَذِبُهُ وَلَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ، كَخَبَرِ الفاسق.
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه القسم الأول: المتواتر ... النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه أَنَّ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَجِيءِ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ بِفَتْرَةٍ بَيْنَهُمَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَتْرِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ. وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ. وَقِيلَ: خَبَرُ جَمْعٍ عَنْ مَحْسُوسٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ من حيث كثرتهم فقولهم مِنْ حَيْثُ كَثْرَتِهِمْ لِإِخْرَاجِ خَبَرِ قَوْمٍ يَسْتَحِيلُ كَذِبُهُمْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْكَثْرَةِ كَالْعِلْمِ بِمُخْبِرِهِمْ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا، وَكَمَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ بِذَلِكَ الْقَيْدِ مَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ بِنَفْسِهِ فِي الْحَدِّ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالتَّوَاتُرِ هَلْ هُوَ ضَرُورِيٌّ أَوْ نَظَرِيٌّ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلى أنه ضروري. وقال الكعبي1 وأبو الحسن الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ نَظَرِيٌّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ أَوَّلِيًّا وَلَا كَسْبِيًّا، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْقَضَايَا الَّتِي قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا "وَقَالَتِ السَّمْنِيَّةُ2 وَالْبَرَاهِمَةُ3: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَصْلًا"*، وَقَالَ المرتضى4 والآمدي بالوقف.
وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّا نَجِدُ نُفُوسَنَا جَازِمَةً بِوُجُودِ الْبِلَادِ الْغَائِبَةِ عَنَّا، وَوُجُودِ الْأَشْخَاصِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَنَا، جَزْمًا خَالِيًا عَنِ التَّرَدُّدِ، جَارِيًا مَجْرَى جَزْمِنَا بِوُجُودِ الْمُشَاهَدَاتِ، فَالْمُنْكِرُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالتَّوَاتُرِ كَالْمُنْكِرِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْمُشَاهَدَاتِ وَذَلِكَ سَفْسَطَةٌ1 لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْمُكَالَمَةَ. وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا لَافْتَقَرَ إِلَى تَوْسِيطِ2 الْمُقَدِّمَتَيْنِ3، وَاللَّازِمُ4 منتفٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِذَلِكَ قَطْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِحُصُولِهِ بِالْعَادَةِ لَا بِالْمُقَدِّمَتَيْنِ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّرْتِيبِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِمْ: لَا نُنْكِرُ حُصُولَ الظَّنِّ الْقَوِيِّ بِوُجُودِ مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْيَقِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا وُجُودَ الْمَدِينَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوِ الشَّخْصِ الْفُلَانِيِّ مِمَّا جَاءَ التَّوَاتُرُ بِوُجُودِهِمَا وَعَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَجَدْنَا الْجَزْمَ بِالثَّانِي أَقْوَى مِنَ الْجَزْمِ بِالْأَوَّلِ، وَحُصُولُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَطَرُّقِ النَّقِيضِ إِلَى الْمَرْجُوحِ. وَأَيْضًا: جَزْمُنَا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ جَزْمِنَا بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الَّذِي رَأَيْتَهُ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي رَأَيْتَهُ أَمْسِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَيْسَ بِيَقِينٍ وَلَا ضَرُورِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ شَخْصٌ مساوٍ لَهُ فِي الصُّورَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْجَوَابَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمُشَاهَدَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمَرْئِيَّ الْيَوْمَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ أَمْسِ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّشْكِيكِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. و"استدل"* والقائلون بِأَنَّهُ نَظَرِيٌّ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ضَرُورِيُّ. وَأُجِيبَ: بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كان نظريًّا لعمل بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ نَظَرِيًّا كَغَيْرِهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ "وَبِالْحِسِّ"**، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ صِفَتَانِ لِلْعَمَلِ، وَلَا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته.
الْجُمْهُورُ أَيْضًا: بِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالتَّوَاتُرِ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا لَمَا حَصَلَ لِمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَالصِّبْيَانِ الْمُرَاهِقِينَ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعَامَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَظَرِيِّ. وَكَمَا يَنْدَفِعُ بِأَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، يَنْدَفِعُ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وَقْفِهِ لَيْسَ إِلَّا تَعَارُضَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فَلَا وَقْفَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَمَا رُوِيَ مِنَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ عَنِ السَّمْنِيَّةِ، وَالْبَرَاهِمَةِ فَهُوَ خِلَافٌ بَاطِلٌ لَا يستحق قائله الجواب عليه. شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروي: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ إِلَّا بِشُرُوطٍ، مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى السَّامِعِينَ: فَالَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ غَيْرَ مُجَازِفِينَ، فَلَوْ كَانُوا ظَانِّينَ لِذَلِكَ فَقَطْ لَمْ يُفِدِ الْقَطْعُ، هَكَذَا اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ وُجُوبُ عِلْمِ الْكُلِّ بِهِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُخْبِرِينَ بِهِ مُقَلِّدًا فِيهِ أَوْ ظَانًّا لَهُ أَوْ مُجَازِفًا وَإِنْ أُرِيدَ وُجُوبُ عِلْمِ الْبَعْضِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِمْ مُسْتَنِدِينَ إِلَى الْحِسِّ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ عَنْ ضَرُورَةٍ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ دُخُولَ الْغَلَطِ فِيهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا إِذَا تَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُمْ عَنْ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ، وَاعْتَقَدُوهُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، أَوْ عَنْ شُبْهَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَوَاتُرِهِمْ يُخْبِرُونَ الدَّهْرِيَّةَ1 بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَتَوْحِيدِ الصَّانِعِ، وَيُخْبِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقَعُ لَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الاضطرار انتهى.
وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الشَّرْطِ: أَنْ لَا تَكُونَ الْمُشَاهَدَةُ، وَالسَّمَاعُ عَلَى سَبِيلِ غَلَطِ الْحِسِّ، كَمَا فِي أَخْبَارِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَيْضًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَلَى صِفَةٍ يُوثَقُ مَعَهَا بِقَوْلِهِمْ، فَلَوْ أَخْبَرُوا مُتَلَاعِبِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُهُمْ إِلَى مَبْلَغٍ يَمْنَعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ ضَابِطُهُ: حُصُولُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرَيِّ: يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمَا احْتَاجَ الْحَاكِمُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيُّ: ذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ فَمَا زَادَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنِ الْجُبَّائِيِّ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخَمْسَةَ عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ1 مِنَ الرُّسُلِ "وَهُمْ"* عَلَى الْأَشْهُرِ، نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الضَّعْفِ، مَعَ عَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا سَبْعَةً، بِعَدَدِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ عَشَرَةٌ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مَا دُونَهَا جَمْعُ قِلَّةٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا اثْنَيْ عَشَرَ بِعَدَدِ النُّقَبَاءِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمْ جُعِلُوا كَذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا عِشْرِينَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُون} 2، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جُعِلُوا كَذَلِكَ لِيُفِيدَ خَبُرُهُمُ الْعِلْمَ بإسلامهم، فإن المقام ليس مقام "إخبار"**، خبر وَلَا اسْتِخْبَارٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أبي الهذيل3 وغيره من المعتزلة.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ كَالْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْجُمْعَةِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بَاطِلُ الْأَصْلِ، فَضْلًا عَنِ الْفَرْعِ. وقيل: يشترط أن يكونوا سبعين لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 1، وَهَذَا أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، بِعَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَهَذَا أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مائة، "بعدد أهل بيعة الرضون"*، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعَ الْأُمَّةِ كَالْإِجْمَاعِ، حُكي هَذَا الْقَوْلُ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو2، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ. وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ جري أقلام الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ، وَلَا يُوجَدُ بَيْنَهَا وبين محل النزاع جامع، وإنما ذكرناه لِيَعْتَبِرَ بِهَا الْمُعْتَبِرُ وَيَعْلَمَ أَنَّ الْقِيلَ وَالْقَالَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ جِنْسِ الْهَذَيَانِ فَيَأْخُذُ عِنْدَ ذَلِكَ حَذَرَهُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَيَبْحَثُ عَنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ لَهُمْ إِلَّا مَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وُجُودُ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي كُلِّ الطَّبَقَاتِ، فَيَرْوِي ذَلِكَ الْعَدَدُ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَقَدِ اشْتُرِطَ عَدَالَةُ النَّقَلَةِ لِخَبَرِ التَّوَاتُرِ فَلَا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير
عُدُولٍ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونُوا كُفَّارًا وَلَا فُسَّاقًا. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الِاشْتِرَاطِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ، وَالصِّغَارِ الْمُمَيِّزِينَ، وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَذَلِكَ هو المعتب. وَقَدِ اشْتُرِطَ أَيْضًا: اخْتِلَافُ أَنْسَابِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ. وَاشْتُرِطَ أَيْضًا: اخْتِلَافُ أَدْيَانِهِمْ. وَاشْتُرِطَ أَيْضًا: اخْتِلَافُ أَوْطَانِهِمْ. وَاشْتُرِطَ أَيْضًا: كَوْنُ الْمَعْصُومِ مِنْهُمْ كَمَا يَقُولُ الْإِمَامِيَّةُ1. وَلَا وَجْهَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى السَّامِعِينَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْعِلْمِ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَدْلُولِ الْخَبَرِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا خَالِينَ عَنِ اعْتِقَادِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الخبر لشبهة تقليد أو نحوه.
القسم الثاني: الآحاد
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْآحَادُ وَهُوَ خَبَرٌ لَا يُفِيدُ بنفسه العلم سواء كان لا يفيد أَصْلًا، أَوْ يُفِيدُهُ بِالْقَرَائِنِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ، فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ1: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ"2 عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ3، وَالْحُسَيْنِ بْنِ علي الكرابيسي4، والحارث
المحاسبي1. قال: وبه نقول. وحكاه ابن خويزمنداد2 عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاخْتَارَهُ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ فِي "التَّبْصِرَةِ"3 عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ كَحَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ4 عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَا أَشْبَهَهُ. وَحَكَى صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ"5 عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ. وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ مَا لَمْ يَنْتَهِ بِنَفْسِهِ إِلَى التَّوَاتُرِ، سَوَاءٌ كَثُرَ رُوَاتُهُ أَوْ قَلُّوا، وَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي نَفْيِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ. وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُفِدِ الظَّنَّ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي لَا يُفِيدُ الظَّنَّ لَا يُرَادُ دُخُولُهُ فِي التَّعْرِيفِ إِذْ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ وَالْمُرَادُ تَعْرِيفُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الرَّدِّ: بِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ تَضْعِيفُهُ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ بِهِ بَاطِلًا مَوْضُوعًا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ. وَيُرَدُّ هَذَا الْجَوَابُ: بِأَنَّ الضَّعِيفَ الَّذِي يَبْلُغُ ضَعْفُهُ إِلَى حَدٍّ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الظَّنُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ، وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ شَرْعٍ عَامٍّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِصِدْقِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ عَنِ الشَّارِعِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الواحد وأنه "قد"* وقع التعبد به، وقال
"الْقَاسَانِيُّ"*1 وَالرَّافِضَةُ وَابْنُ دَاوُدَ2. لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ3 عَنِ الْأَصَمِّ4 وَابْنِ عُلَيَّةَ5 وَقَالَ: إِنَّهُمَا قَالَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي السُّنَنِ وَالدِّيَانَاتِ، وَيُقْبَلُ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ. وَحَكَى الْجُوَيْنِيُّ6 فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ" عَنْ هِشَامٍ7 وَالنَّظَّامِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِلَّا بَعْدَ قَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إِلَيْهِ، وَهُوَ عِلْمُ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ ضَرُورَةَ الصِّدْقِ، وَقَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ اللَّبَّانِ الْفَرْضِيُّ8 قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ هَذَا عَنْهُ: فَإِنْ تَابَ فَاللَّهُ يَرْحَمُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مَسْأَلَةُ التَّكْفِيرِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ فَمَنْ أَنْكَرَهُ يُكَفَّرُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَاخْتَلَفُوا، يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمَانِعِ مِنَ الْقَبُولِ فَقِيلَ: مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ، وَيُنْسَبُ إِلَى ابن علية والأصم.
وَقَالَ "الْقَاسَانِيُّ"* مِنْ أَهْلَ الظَّاهِرِ، وَالشِّيعَةُ: مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ عَامٌّ مُخَصَّصٌ، لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهِ، فَالْأَكْثَرُ مِنْهُمْ قَالُوا يَجِبُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ. وَقَالَ أحمد بن حنبل، والقفال، "وابن سريج"**، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ1 مِنَ الْإِمَامِيَّةِ، وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ، لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ عَنِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا دَلِيلُ السَّمْعِ: فَقَدِ اسْتَدَلُّوا مِنَ الْكِتَابِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ} 2، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَة} 3، وَمِنَ السُّنَّةِ بِمِثْلِ قِصَّةِ أَهْلِ قِبَاءٍ لَمَّا أَتَاهُمْ وَاحِدٌ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ تَحَوَّلَتْ فَتَحَوَّلُوا وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ4. وَبِمِثْلِ بَعْثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَّالِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ بَعَثُهُ بِالْفَرْدِ مِنَ الرُّسُلِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنَ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَاعَ ذَلِكَ وَذَاعَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَلَوْ أَنْكَرَهُ مُنْكِرٌ لَنُقِلَ إِلَيْنَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ الْعَادِيَّ بِاتِّفَاقِهِمْ كَالْقَوْلِ الصَّرِيحِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ5: وَمَنْ تَتَبَّعَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَا عَدَا هَذِهِ الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعًا انتهى.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ: فَلَمْ يأتِ مَنْ خَالَفَ فِي العلم بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَمَلَ الصَّحَابَةِ، مِنَ الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَعَمَلَ التَّابِعِينَ فَتَابِعِيهِمْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَجَدَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ لَهُ إِلَّا مُصَنَّفٌ بَسِيطٌ وَإِذَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمُ التَّرَدُّدُ فِي الْعَمَلِ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَذَلِكَ لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة الصِّحَّةِ أَوْ تُهْمَةٍ لِلرَّاوِي أَوْ وُجُودِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. أَقْسَامُ الْآحَادِ: وَاعْلَمْ: أَنَّ الْآحَادَ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ: فَمِنْهَا: خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ1. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُسْتَفِيضُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا، وَقِيلَ: مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: أَقَلُّ مَا تَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِفَاضَةُ اثْنَانِ، قَالَ السُّبْكِيُّ2: وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ شَائِعًا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا اشْتُهِرَ وَلَوْ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي، أَوِ الثَّالِثِ، إِلَى حَدٍّ يَنْقُلُهُ ثِقَاتٌ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الشُّهْرَةُ بعد القرنين. هكذا "قالت"* قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، فَاعْتَبَرُوا التَّوَاتُرَ فِي بَعْضِ طَبَقَاتِهِ، وَهِيَ الطَّبَقَةُ الَّتِي رَوَتْهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَطْ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَفِيضِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، لِصِدْقِهِمَا عَلَى مَا رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا، وَلَمْ يَتَوَاتَرْ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، ثم تواتر في أحد القرنين المذكورين، وانفرد الْمُسْتَفِيضِ إِذَا لَمْ يَنْتَهِ فِي أَحَدِهِمَا إِلَى التَّوَاتُرِ وَانْفِرَادُ الْمَشْهُورِ فِيمَا رَوَاهُ اثْنَانِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَوَاتَرَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَجَعَلَ الْجَصَّاصُ3 الْمَشْهُورَ قِسْمًا مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَنَفِيَّةِ. وَأَمَّا جُمْهُورُهُمْ فَجَعَلُوهُ قَسِيمًا لِلْمُتَوَاتِرِ لَا قِسْمًا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الْخِلَافَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ1 فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ مِنْ إِفَادَةِ خَبَرِ الْآحَادِ الظَّنَّ أَوِ الْعِلْمَ، مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ خَبَرُ وَاحِدٍ لَمْ يَنْضَمْ إِلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ، وَأَمَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ، أَوْ كَانَ مَشْهُورًا، أَوْ مُسْتَفِيضًا، فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ قَدْ صَيَّرَهُ مِنَ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ وَهَكَذَا خَبْرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَكَانُوا بَيْنَ عَامِلٍ بِهِ وَمُتَأَوِّلٍ لَهُ. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَحَادِيثُ صَحِيحَيِ "الْبُخَارِيِّ2 وَمُسْلِمٍ3" فَإِنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْ مَا فِيهِمَا بالقبول، ومن لم يعلم بِالْبَعْضِ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَوَّلَهُ وَالتَّأْوِيلُ فَرْعُ الْقَبُولِ وَالْبَحْثُ مُقَرِّرٌ بِأَدِلَّتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قِيلَ: وَمِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ فِي حُضُورِ جَمَاعَةٍ هِيَ نِصَابُ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا فِي رِوَايَتِهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الرِّوَايَةِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَدْحِ فِي ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَحْفُوفِ بِالْقَرَائِنِ، فَقِيلَ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَقِيلَ: لَا يُفِيدُهُ، وَهَذَا خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ إِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِكُلِّ عَاقِلٍ عِنْدَهَا الْعِلْمُ كَانَ من المعلوم صدقه "وإلا فَلَا، وَجْهَ لِمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ لَا بِالْقَرَائِنِ وَلَا بِغَيْرِهَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ"* أَيْضًا إِذَا أَخْبَرَ مخبر بحضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَسَمِعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ولم ينكر عليه، لا إذا كان الخبر بِغَيْرِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. شُرُوطُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ: الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَهُ شُرُوطٌ: مِنْهَا مَا هُوَ فِي المخبِر، وَهُوَ الرَّاوِي، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي المخبَر عَنْهُ، وَهُوَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي الْخَبَرِ نَفْسِهِ وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ. أَمَّا الشُّرُوطُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الرَّاوِي فَخَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي الْإِجْمَاعَ عَلَى رَدِّ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْعَنْبَرِيُّ1. وَقَالَ: بَلْ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ2، قَالَ: وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْفَوْرَانِيُّ3: الْأَصَحُّ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، وَالْوَجْهُ فِي رَدِّ رِوَايَتِهِ أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ لِارْتِفَاعِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ فَيَكْذِبُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ إِلَى الصِّبْيَانِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ رَجَعُوا إِلَى النِّسَاءِ وَسَأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ": مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْمُرَاهِقِ الْمُتَثَبِّتِ فِي كَلَامِهِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا. وَهَذَا الِاشْتِرَاطُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِلرِّوَايَةِ، أَمَّا لَوْ تَحَمَّلَهَا صَبِيًّا وَأَدَّاهَا مُكَلَّفًا، فَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنَيْنِ4 وَمَنْ كَانَ مُمَاثِلًا لهم،
كمحمود بن الربيع فإنه روى حديثًا: "أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّ فِي فِيهِ مَجَّةً وَهُوَ ابْنُ خمس سني"1، وَاعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَتَهُ. وَقَدْ كَانَ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُحْضِرُونَ الصِّبْيَانَ مَجَالِسَ الرِّوَايَاتِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَهَكَذَا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ ثُمَّ رَوَى وَهُوَ عَدْلٌ مُسْلِمٌ، وَلَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي عَدَمِ قَبُولِ رِوَايَةِ الْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ، أَمَّا لَوْ سَمِعَ فِي حَالِ جُنُونِهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْجُنُونِ غَيْرُ ضَابِطٍ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدِّمَاءِ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْجِنَايَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا وَلَمْ يَحْضُرْهُمْ مَنْ تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَقَيَّدُوهُ بِعَدَمِ تَفَرُّقِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَالْأَوْلَى عَدَمُ الْقَبُولِ وَعَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى مَا سَيَأْتِي على أنَّا نَمْنَعَ ثُبُوتَ هَذَا الْإِجْمَاعِ الْفِعْلِيِّ عَنْهُمْ. الشَّرْطُ الثَّانِي: الْإِسْلَامُ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ؛ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِمَا إِجْمَاعًا، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ سَوَاءٌ عُلِمَ مِنْ دِينِهِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْكَذِبِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، قَالَ وَالْمُخَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِذَا كَفَّرْنَاهُ كَالْمُجَسِّمِ وَغَيْرِهِ هَلْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَمْ لَا؟ الْحَقُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ جَوَازَ الْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَإِلَّا قَبِلْنَاهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ. لَنَا: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْعَمَلِ بِهَا قَائِمٌ، وَلَا مُعَارِضَ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا. بَيَانُ أَنَّ الْمُقْتَضِي قَائِمٌ: أَنَّ الاعتقاد لِحُرْمَةِ الْكَذِبِ يَزْجُرُهُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، فَيَحْصُلُ ظَنُّ الصِّدْقِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا مُعَارِضَ: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا تُقْبَلُ روايته وذلك الكفر منتفٍ ههنا، قَالَ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 2 فَأَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ نَبَأِ الْفَاسِقِ، وَهَذَا الْكَافِرُ فَاسِقٌ فَوَجَبَ التَّثَبُّتُ عِنْدَ خَبَرِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته، فكذا
هَذَا الْكَافِرُ، وَالْجَامِعُ أَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ تَنْفِيذٌ لِقَوْلِهِ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَالْكُفْرُ يَقْتَضِي الْإِذْلَالَ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْكَافِرُ جَاهِلٌ لِكَوْنِهِ كَافِرًا لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ اسْمَ الْفَاسِقِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُخْتَصٌّ بِالْمُسْلِمِ الْمُقْدِمِ عَلَى الْكَبِيرَةِ. وَعَنِ الثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الْكُفْرَ الْخَارِجَ عَنِ الْمِلَّةِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ صَاحِبِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَمَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ هَكَذَا قَالَ الرَّازِيُّ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِنْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ الْمُبْتَدِعِ جَوَازُ الْكَذِبِ مُطْلَقًا لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ قَطْعًا، وَإِنْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِهِ جَوَازُهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ كَالْكَذِبِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، أَوِ الْكَذِبِ فِيمَا هُوَ تَرْغِيبٌ فِي طَاعَةٍ، أَوْ تَرْهِيبٌ عَنْ مَعْصِيَةٍ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ، لَا يُقْبَلُ، قِيَاسًا عَلَى الْفَاسِقِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: يُقْبَلُ، وَهُوَ رَأْيُ الْجُوَيْنِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَالْحَقُّ: عَدَمُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا فِي الْأَوَّلِ، وَعَدَمُ قَبُولِهِ فِي ذلك الأمر الخاص في الثاني، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ. وَبَيْنَ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ لَا يَسْتَجِيزُ الْكَذِبَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رَدُّ رِوَايَتِهِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ بِبِدْعَتِهِ فَهُوَ كَالْفَاسِقِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقْبَلُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى1 وَالثَّوْرِيِّ2 وَأَبِي يُوسُفَ3
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ1 فِي "الْمُخَلَّصِ" عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْعُ يُقْبَلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا انْتَهَى. وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيمَا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ وَيُقَوِّيهَا، لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَطِيبُ2: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ3 إِلَى الْأَكْثَرِينَ. قَالَ وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَأَوْلَاهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ احْتِجَاجًا وَاسْتِشْهَادًا، كَعِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ4 وَدَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ5 وَغَيْرِهِمَا وَنَقَلَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ6 فِي كِتَابِ "الثقات" الإجماع على ذلك.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: جَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا الْمَذْهَبَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِ "الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ"1: الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الدَّاعِيَةِ، أَمَّا الدَّاعِيَةُ، فَهُوَ سَاقِطٌ عِنْدَ الجميع. قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ2: الْخِلَافُ فِي الدَّاعِيَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُظْهِرُ بِدْعَتَهُ بِمَعْنَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَرْكِ حَدِيثِهِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْعَدَالَةُ قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": هِيَ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا حَتَّى يُحَصَّلَ ثِقَةُ النَّفْسِ بصدقة وَيُعْتَبَرَ فِيهَا الِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ وَعَنْ بَعْضِ الصَّغَائِرِ كَالتَّطْفِيفِ بِالْحَبَّةِ، وَسَرِقَةِ بَاقَةٍ مِنَ الْبَقْلِ، وَعَنِ الْمُبَاحَاتِ الْقَادِحَةِ فِي الْمُرُوءَةِ، كَالْأَكْلِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْبَوْلِ فِي الشَّارِعِ، وَصُحْبَةِ الْأَرْذَالِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْمِزَاحِ، وَالضَّابِطِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤْمَنُ "مَعَهُ"* جَرَاءَتُهُ عَلَى الْكَذِبِ يَرُدُّ الرِّوَايَةَ وَمَا لَا فَلَا، انْتَهَى. وَأَصْلُ الْعَدَالَةِ فِي اللُّغَةِ: الِاسْتِقَامَةُ، يُقَالُ: طَرِيقٌ عَدْلٌ أَيْ مُسْتَقِيمٌ، وَتُطْلَقُ عَلَى اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ وَالدِّينِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الْفِسْقِ. وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقُ بِوَاحِدَةٍ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: وَالَّذِي صَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي النَّاسِ مَنْ يُمَحِّضُ الطَّاعَةَ فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُمَحِّضُ الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّ الْكُلِّ وَلَا إِلَى قَبُولِ الْكُلِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلْتُ شَهَادَتَهُ وَرِوَايَتَهُ، وَإِنْ كَانَ الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَا بُدَّ فِي الْعَدْلِ مِنْ أَرْبَعِ شَرَائِطَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ مِنَ الصَّغَائِرِ مَا يَقْدَحُ فِي دِينٍ أَوْ عِرْضٍ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مَا يُسْقِطُ الْقَدَرَ وَيُكْسِبُ النَّدَمَ، وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ مِنَ الْمَذَاهِبِ مَا يَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: الثِّقَةُ هِيَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي الْخَبَرِ، فَمَتَى حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ: هِيَ مُحَافَظَةٌ دِينِيَّةٌ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ لَيْسَ مَعَهَا بِدْعَةٌ فَزَادَ قَيْدَ عَدَمِ الْبِدْعَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الشَّرْطِ الَّذِي مَرَّ قَبْلَ هَذَا. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي تَعْرِيفِ الْعَدَالَةِ: إِنَّهَا التَّمَسُّكُ بِآدَابِ الشَّرْعِ فَمَنْ تمسك بها فعلًاوتركا فَهُوَ الْعَدْلُ الْمَرْضِيُّ، وَمَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ الْإِخْلَالُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ يَقْدَحُ فِي دِينِ فَاعِلِهِ أَوْ تَارِكِهِ، كَفِعْلِ الْحَرَامِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ فَلَيْسَ بِعَدْلٍ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ قَنْطَرَتَانِ عَظِيمَتَانِ وَجِسْرَانِ كَبِيرَانِ وَهُمَا الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ. نَعَمْ مَنْ فَعَلَ مَا يُخَالِفُ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ مُرُوءَةً عُرْفًا لَا شَرْعًا فَهُوَ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ ذَهَابَ مُرُوءَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلِ الْمَعَاصِي مُنْقَسِمَةٌ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ أَمْ هِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} 1 وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} 2، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرًا مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الذُّنُوبِ بِاسْمِ الْكَبَائِرِ وَبَعْضِهَا بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَمِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ فُورَكَ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا كَبَائِرُ. وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ كَمَا يُقَالُ الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا وَكُلُّهَا كَبَائِرُ. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه} : إِنْ تَجْتَنِبُوا الْكُفْرَ كُفِّرَتْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتُكُمُ الَّتِي هي دون الكفر، والقول الأول راجح.
وههنا مَذْهَبٌ ثَالِثٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحِلْمِيُّ1 فَقَالَ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ "تَنْقَسِمُ"* إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَغِيرَةٌ، وَكَبِيرَةٌ، وَفَاحِشَةٌ؛ فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ لَهُ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ وَجَعَلَ سَائِرَ الذُّنُوبِ هَكَذَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْكَبَائِرِ هَلْ تُعْرَفُ بِالْحَدِّ أَوْ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْعَدَدِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَدِّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقِيلَ إِنَّهَا الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مَا يَلْحَقُ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ مَا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أو وجب في حقه حَدٍّ، وَقِيلَ: مَا وَرَدَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ مَعَ الْحَدِّ، أَوْ لَفْظٌ يُفِيدُ الْكِبَرَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْعَدَدِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: هِيَ سَبْعٌ، وَقِيلَ: تِسْعٌ، وَقِيلَ: عَشْرٌ، وَقِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ، وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: سَبْعُونَ. وَإِلَى السَّبْعِينَ أَنْهَاهَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ2 فِي "جُزْءٍ صَنَّفَهُ" فِي ذَلِكَ. وقد جمع ابن حجر الهيتمي3 فِيهَا مُصَنَّفًا حَافِلًا سَمَّاهُ الزَّوَاجِرَ فِي الْكَبَائِرِ" وَذَكَرَ فِيهِ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ مَعْصِيَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِهَا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَمِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْهَا: الْقَتْلُ، وَالزِّنَا، وَاللُّوَاطَةُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةُ، وَالْغَصْبُ، وَالْقَذْفُ، وَالنَّمِيمَةُ، وَشَهَادَةُ الزور،
وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَخْذُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَخِيَانَةُ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ، وَالْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَالرِّشْوَةُ وَالدِّيَاثَةُ1، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ، وَالْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَأَمْنُ الْمَكْرِ وَالظِّهَارُ وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةُ وَفِطْرُ رَمَضَانَ وَالرِّبَا وَالْغُلُولُ وَالسِّحْرُ وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ وَامْتِنَاعُ الزَّوْجَةِ عَنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَلَيْسَ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَقَالَةٌ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ عِلْمَ الرِّوَايَةِ هَذَا اللَّفْظَ وَجَعَلَهُ حَدِيثًا وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْإِصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا عَدَالَةَ لِفَاسِقٍ. وَقَدْ حَكَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"2 الْإِجْمَاعَ عَلَى رَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَالْحَنَفِيَّةُ وَإِنْ بَاحُوا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ فَلَمْ "يَبُوحُوا"* بِقَبُولِ رِوَايَتِهِ، فَإِنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْفِسْقِ فَإِنْ علم كونه فسقًا لم تقبل روايته وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ فِسْقًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا، أَوْ مَقْطُوعًا فَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ قُبِلَتْ أَيْضًا. لَنَا: أَنَّ ظَنَّ صِدْقِهِ رَاجِحٌ، وَالْعِلْمَ بِهَذَا الظَّنِّ وَاجِبٌ وَالْمُعَارَضَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ منتفٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. احْتَجَّ الْخَصْمُ: بِأَنَّ مَنْصِبَ الرِّوَايَةِ لَا يَلِيقُ بِالْفَاسِقِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ: أَنَّهُ جَهِلَ فِسْقَهُ، لَكِنَّ جَهْلَهُ بِفِسْقِهِ فِسْقٌ آخَرُ، فَإِذَا مَنَعَ أَحَدُ الْفُسَقِينَ عَنْ قَبُولِ الرِّوَايَةِ فَالْفِسْقَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ الْمَنْعِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا عُلِمَ كَوْنُهُ فِسْقًا دَلَّ إِقْدَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى اجْتِرَائِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بخلاف إذا لم يعلم ذلك.
ويجاب عن هذا الجواب: أن إِخْلَالَهُ بِأُمُورِ دِينِهِ إِلَى حَدٍّ يَجْهَلُ مَعَهُ مَا يُوجِبُ الْفِسْقَ يَدُلُّ أَبْلَغَ دِلَالَةٍ عَلَى اجْتِرَائِهِ عَلَى دِينِهِ وَتَهَاوُنِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: مَجْهُولِ الْحَالِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفَ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عَنْهُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ: أَنَّ رِوَايَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ1: تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ اكْتِفَاءً بِسَلَامَتِهِ مِنَ التَّفْسِيقِ ظَاهِرًا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ إِنْ كَانَ الرَّاوِيَانِ أَوِ الرُّوَاةُ عَنْهُ لَا يَرْوُونَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ وَمَجْهُولَ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يُعْلَمِ الْجَرْحُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ تُعْلَمِ الْعَدَالَةُ، وَحَكَاهُ الْكِيَا عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا الْقَوْلَ بِالْقَبُولِ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ، بِغَلَبَةِ الْعَدَالَةِ عَلَى النَّاسِ إِذْ ذَاكَ، قَالُوا وَأَمَّا الْمَسْتُورُ فِي زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: بِالْوَقْفِ -إِذَا رَوَى التَّحْرِيمَ- إِلَى ظُهُورِ حَالِهِ، "وَأَمَا"* مَجْهُولُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ وَلَمْ يروِ عَنْهُ إِلَّا راوٍ وَاحِدٌ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الرَّاوِي إِلَّا مُجَرَّدَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَابْنِ معين ويحيى القطان2 فإنه "يكفي"** وَتَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَهَالَةُ الْعَيْنِيَّةُ وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: إِنْ زَكَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مَعَ رِوَايَتِهِ، عَنْهُ وَعَمَلِهِ بِمَا رَوَاهُ قُبِلَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ ابْنِ حِبَّانَ فِي "ثِقَاتِهِ" فإنه يحكم برفع الجهالة برواية واحدة.
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّسَائِيِّ1 أَيْضًا قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأُصُولِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الْجَمَاعَةُ عَنِ الْوَاحِدِ لَا يَعْرِفُونَ حَالَهُ وَلَا يُخْبِرُونَ شَيْئًا مَنْ أَمْرِهِ وَيُحَدِّثُونَ بِمَا رَوَوْا عنه "ولا يخرجه روايتهم عنه"* "عن"** على الْجَهَالَةِ؛ إِذْ لَمْ يَعْرِفُوا عَدَالَتَهُ؛ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِارْتِفَاعِ جَهَالَةِ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا عَنْهُ لَا بِارْتِفَاعِ جَهَالَةِ الحال كما سبق. والحق لأنها لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَجْهُولِ الْعَيْنِ وَلَا مَجْهُولِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الظَّنِّ بِالْمَرْوِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا وَقَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 2 وَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} 3؛ وَقَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الْعَدْلِ فَكَانَ كَالْمُخَصِّصِ لِذَلِكَ الْعُمُومِ، فَبَقِيَ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومَاتِ وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ الْفَاسِقِ وَمَجْهُولُ الْعَيْنِ أَوِ الْحَالِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاسِقٍ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفِسْقِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ عند فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ وَأَيْضًا وُجُودُ الْفِسْقِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ رِوَايَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ هَذَا الْمَانِعِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ قَالَ بِالْقَبُولِ بِمَا يَرْوُونَهُ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن نحكم بالظاهر"4. فقال
الذَّهَبِيُّ وَالْمِزِّيُّ1 وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ وَلَوْ سَلَّمَنَا أَنَّ لَهُ أَصْلًا لَمْ يَصْلُحْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّ صِدْقَ الْمَجْهُولِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ صِدْقُهُ وَكَذِبُهُ مُسْتَوِيَانِ وإذا عرفت هذا فلا يصدهم مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يصح بمثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ" 2 وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَبِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ فَقَالَ: "كَانَ ظَاهِرُكَ عَلَيْنَا" 3، وَبِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّمَا نُؤَاخِذُكُمْ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ" 4. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الضَّبْطُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي ضَابِطًا لِمَا يَرْوِيهِ لِيَكُونَ الْمَرْوِيُّ لَهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ فِي حِفْظِهِ وَقِلَّةِ غَلَطِهِ وَسَهْوِهِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إِلَّا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ فِيهِ وَلَا سَهَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْغَلَطِ قُبِلَ خَبَرُهُ إِلَّا فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ، كَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: مَنْ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ لِذَلِكَ حَدِيثُهُ، وَمَنْ كَثُرَ بِذَلِكَ خَطَؤُهُ وَغَلَطُهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حِفْظِ الْحِكَايَةِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ5 فِي "الْعِلَلِ"6: كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا في الحديث بالكذب، أو كان مغفلًا
يُخْطِئُ الْكَثِيرَ فَالَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ: إِنْ غَلَبَ خَطَؤُهُ وَسَهْوُهُ عَلَى حِفْظِهِ فَمَرْدُودٌ إِلَّا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ فِيهِ وَإِنْ غَلَبَ حِفْظُهُ عَلَى خَطَئِهِ وَسَهْوِهِ فَمَقْبُولٌ إِلَّا فِيمَا علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ يُقْبَلُ لِأَنَّ جِهَةَ التَّصْدِيقِ رَاجِحَةٌ فِي خَبَرِهِ لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّهُ يُرَدُّ وَقِيلَ إِنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُهُ إِذَا كَانَ مُفَسَّرًا وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَيُعِينَ وَقْتَ السَّمَاعِ مِنْهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَحَكَاهُ الْجُوَيْنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّهَادَةِ، فَفِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى، وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الرَّاوِيَ إِنْ كَانَ تَامَّ الضَّبْطِ مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فَحَدِيثُهُ مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّ خَفَّ ضَبْطُهُ فَحَدِيثُهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَثُرَ غَلَطُهُ فَحَدِيثُهُ مِنْ قِسْمِ الضَّعِيفِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ بِأَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ فِيمَا رَوَاهُ. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَلَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْغَفْلَةِ وَلَا يُوجِبُ لُحُوقُ الْغَفْلَةِ لَهُ رَدَّ حَدِيثِهِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَعْتَرِيهِ الْغَفْلَةُ فِي غَيْرِ مَا يَرْوِيهِ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَلْحَقُهُمُ الْغَفْلَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَإِذَا رَوَوْا كَانُوا مِنْ أَحَذَقِ النَّاسِ بِالرِّوَايَةِ وَأَنْبَهِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الضَّبْطِ أَنْ يُضْبَطَ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ كَمَا سَيَأْتِي1. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الرَّاوِي مُدَلِّسًا وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْلِيسُ فِي الْمَتْنِ أَوْ فِي الْإِسْنَادِ. أَمَّا التَّدْلِيسُ فِي الْمَتْنِ فَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَ غَيْرِهِ فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ فَهُوَ عَلَى أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي إِبْدَالِ الْأَسْمَاءِ فَيُعَبَّرُ عَنِ الرَّاوِي وَعَنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ اسْمَيْهِمَا وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُسَمِّيَهُ بِتَسْمِيَةٍ غَيْرِ مَشْهُورَةٍ فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ مَنْ قَصَدَهُ الرَّاوِي وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا بِاسْمِهِ فَيَذْكُرُهُ الرَّاوِي بِكُنْيَتِهِ أَوِ الْعَكْسِ إِيهَامًا لِلْمَرْوِيِّ لَهُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَ مَقْصِدُ الرَّاوِي بِذَلِكَ التَّغْرِيرَ عَلَى السَّامِعِ بِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عنه غير ذلك
الرَّجُلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ ضَعِيفًا وَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ مِنِ اسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ لِيَظُنَّ السَّامِعُ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ الضَّعِيفِ. فَهَذَا التَّدْلِيسُ قَادِحٌ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الرَّاوِي مُجَرَّدَ الْإِغْرَابِ عَلَى السَّامِعِ مَعَ كَوْنِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ عَدْلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّدْلِيسِ بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعان، ي وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ بُرْهَانٍ هُوَ جَرْحٌ. وَثَالِثُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّدْلِيسُ بِإِطْرَاحِ اسْمِ الرَّاوِي الْأَقْرَبِ وَإِضَافَةِ الرِّوَايَةِ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْخَهُ وَيَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ ضَعِيفًا فَذَلِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فِي الرِّوَايَةِ وَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَنْ لَيْسَ بِكَامِلِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ ثِقَةً وَتُرِكَ ذِكْرُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي لَا تُنَافِي الْأَمَانَةَ وَالصِّدْقَ وَلَا تَتَضَمَّنُ التَّغْرِيرَ عَلَى السَّامِعِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي، لَكِنْ إِذَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ بِصِيغَةٍ مُحْتَمَلَةٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ أَوْ رُوي عَنْ فُلَانٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَانٌ أَوْ أخبرنا وهو لم يحدث وَلَمْ يُخْبِرْهُ بَلِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ هُوَ مِنْ تُرِكَ ذِكْرُهُ فَذَلِكَ كَذِبٌ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ كَانَ ثِقَةً وَاشْتُهِرَ بِالتَّدْلِيسِ فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا إِذَا قَالَ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْتُ لَا إِذَا لَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أسقط من لا تقوم الحجة بمثله. أما الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى مَدْلُولِ الْخَبَرِ: فَالْأَوَّلُ: مِنْهَا أَنْ لَا يَسْتَحِيلَ وُجُودُهُ فِي الْعَقْلِ فإن أحاله العقل رد. الشرط الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بحال. الشرط الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ. وَأَمَّا إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ الْقَطْعِيَّ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ الْقِيَاسِ قَطْعِيَّةً قَدَّمَ الْقِيَاسَ وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً قَدَّمَ الْخَبَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ1، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: إِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ2: إِنْ كَانَ الرَّاوِي ضَابِطًا عَالِمًا قُدِّمَ خَبَرُهُ وَإِلَّا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ ثَابِتَةً بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ وَإِنْ كَانَ حكم الأصل مَقْطُوعًا بِهِ خَاصَّةً دُونَ الْعِلَّةِ فَالِاجْتِهَادُ فِيهِ واجب حتى يظهر ترجيح
أَحَدِهِمَا فَيَعْمَلَ بِهِ، وَإِلَّا فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْمَرِيُّ1: لَا خِلَافَ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ قَالَ الْكِيَا: قَدَّمَ الْجُمْهُورُ خَبَرَ الضَّابِطِ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُرْضَةُ الزَّلَلِ انْتَهَى. وَالْحَقُّ: تَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْخَارِجِ مِنْ مَخْرَجٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ2 وَحَدِيثِ الْعَرَايَا3 فَإِنَّهُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ التَّابِعُونَ إِذَا جَاءَهُمُ الْخَبَرُ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْقِيَاسِ وَلَا يَنْظُرُوا فِيهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ فَبَعْضُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَبَعْضُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الْخَبَرُ عِنْدَ مَنْ قَدَّمَ الْقِيَاسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ حَدِيثُ مُعَاذٍ4 فَإِنَّهُ قَدَّمَ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى اجْتِهَادِهِ. وَمِمَّا يُرَجِّحُ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْخَبَرَ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي أَمْرَيْنِ: وَهُمَا دِلَالَتُهُ، عدالة الرَّاوِي وَدِلَالَةُ الْخَبَرِ، وَالْقِيَاسُ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ: حُكْمُ الْأَصْلِ وَتَعْلِيلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعَيُّنُ الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ التَّعْلِيلُ وَوُجُودُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ وَنَفْيُ الْمُعَارِضِ فِي الْأَصْلِ وَنَفْيُهُ فِي الْفَرْعِ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلُ الْأَصْلِ خَبَرًا، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا كان النظر في ثمانية
أُمُورٍ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ الِاثْنَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْخَبَرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ كَانَ احْتِمَالُ الْخَطَأِ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي أَقَلَّ مِنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْخَبَرَ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَكْثَرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَلِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ. وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ الرَّاوِي لَهُ بِخِلَافِهِ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّا مُتَعَبِّدُونَ بِمَا بَلَغَ إِلَيْنَا مِنَ الْخَبَرِ وَلَمْ نَتَعَبَّدْ بِمَا فَهِمَهُ الرَّاوِي وَلَمْ يَأْتِ مَنْ قَدَّمِ عَمَلَ الرَّاوِي عَلَى رِوَايَتِهِ بِحُجَّةٍ تَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ مَزِيدُ بَسْطٍ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ1. وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ2 لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ. وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْخِلَافِ فَهُوَ خَبَرُ عَدْلٍ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ دَلِيلٌ يَخُصُّهَا مِنْ عُمُومِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بحديث: "ادرءوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"3 بَاطِلٌ فَالْخَبَرُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ عَلَى فَرْضِ وَجُودِهَا. وَلَا يَضُرُّهُ أَيْضًا كَوْنُهُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ أَوِ السُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَانَ نَسْخًا لَا يُقْبَلُ. وَالْحَقُّ: الْقَبُولُ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ، فَكَانَتْ مقبولة، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة،
وَهَكَذَا إِذَا وَرَدَ الْخَبَرُ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ وَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَكَذَا إِذَا وَرَدَ مُقَيِّدًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ. وَقَسَّمَ الْهِنْدِيُّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا خَصَّصَ عُمُومَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوْ قَيَّدَ مُطْلَقَهُمَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا لَا يُعْلَمُ مُقَارَنَتُهُ لَهُ وَلَا تَرَاخِيهِ عَنْهُ فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَفَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهَا هَلْ كَانَتْ مُقَارَنَةً أَمْ لَا؟ قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَصِّصًا مَقْبُولًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا مَرْدُودًا. الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ مُقَارَنَتُهُ لَهُ فَيَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ. لم يقبله؛ لأنه لَوْ قَبِلَهُ لَقُبِلَ نَاسِخًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَهُ إِنْ كَانَ وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق1. حكم زيادة الثقة: وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُ رَاوِيهِ انْفَرَدَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ عَلَى مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ إِذَا كَانَ عَدْلًا فَقَدْ يَحْفَظُ الْفَرْدُ مَا لَا يَحْفَظُهُ الْجَمَاعَةُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً فَالتَّرْجِيحُ وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ، وَقِيلَ: لَا نَقْبَلُ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَتْ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ "بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا"* وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ إِذَا كَانَ مَجْلِسُ السماع واحدًا وكانت الجماعة بحيث لا "تجوز"** عَلَيْهِمُ الْغَفْلَةُ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَأَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ مَجْلِسُ السَّمَاعِ فَتُقْبَلُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ. وَمِثْلُ انْفِرَادِ الْعَدْلِ بِالزِّيَادَةِ انْفِرَادُهُ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي وَقَفَهُ الْجَمَاعَةُ وَكَذَا انْفِرَادُهُ بِإِسْنَادِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْسَلُوهُ وَكَذَا انْفِرَادُهُ بِوَصْلِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَطَعُوهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا رَوَوْهُ وَتَصْحِيحٌ لِمَا أَعْلَوْهُ. وَلَا يَضُرُّهُ أَيْضًا كَوْنُهُ خَارِجًا مَخْرَجَ ضَرْبِ الأمثال. وروي عن إمام الحرمين أنه
مَوْضِعُ تَجَوُّزٍ، فَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ تَجَوُّزٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا لِمَكَانِ الْعِصْمَةِ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ: "فَاعْلَمْ"* أَنَّ لِلرَّاوِي فِي نَقْلِ مَا يَسْمَعُهُ أحوالا: الحال الأولى: أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَفْظِهِ فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ كَمَا سَمِعَهَا، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ فَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مَسْتَغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" 1 فَالرَّاوِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ السُّؤَالَ أَوْ يَتْرُكَهُ وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ غَيْرَ مستغنٍ عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا فِي سُؤَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: "أَيَنْقُصُ إِذَا جَفَّ": فَقِيلَ: نَعَمْ. فَقَالَ: "فَلَا إِذًا" 2، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، فَإِذَا نَقَلَ الرَّاوِي السُّؤَالَ لَمْ يَحْتَمِلْ إِلَّا أَمْرًا وَاحِدًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَذِكْرُ السُّؤَالِ "وَالسَّبَبِ"** مَعَ ذِكْرِ الْجَوَابِ وَمَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ أَوْلَى مِنَ الْإِهْمَالِ. الْحَالُ الثانية: أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ بَلْ بِمَعْنَاهُ، وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ عَارِفٍ بِمَعَانِي الْأَلْفَاظِ، لَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا. فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى. قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ، كَالْجُلُوسِ مَكَانَ الْقُعُودِ أَوِ الْعَكْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ مُسَاوِيًا لِلْأَصْلِ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ فَلَا يَأْتِي مَكَانَ الْجَلِيِّ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْجَلَاءِ وَلَا مَكَانَ العام بالخاص ولا مكان
الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ، وَلَا مَكَانَ الْأَمْرِ بِالْخَبَرِ وَلَا عَكْسَ ذَلِكَ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مِمَّا تَعْبَّدْنَا بِلَفْظِهِ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهِ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ. وَحَكَى الْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْرِي هَلْ يُسَاوِيهِ اللَّفْظُ الَّذِي تَكَلَّمُ بِهِ الرَّاوِي، وَيَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَمْ لَا. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 1 "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" 2، "الْحَرْبُ خَدْعَةٌ" 3، "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" 4، "الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ" 5، "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي" 6: لَمْ تَجُزْ رِوَايَتُهُ بالمعنى.
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْقِصَارُ فَلَا يَجُوزُ رِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى وَلَا وَجْهَ لِهَذَا. قَالَ الْأَبْيَارِيُّ1 فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ صُوَرٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود "فهذا"*وهذا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَظُنَّ دِلَالَتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّبْدِيلِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقْطَعَ بِفَهْمِ الْمَعْنَى وَيُعَبِّرَ عَمَّا فَهِمَ بِعِبَارَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ مُتَرَادِفَةً فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْقَطْعُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى مُسْتَنِدًا إِلَى اللَّفْظِ إِمَّا بِمُجَرَّدِهِ أَوْ إِلَيْهِ مَعَ الْقَرَائِنِ الْتَحَقَ بِالْمُتَرَادِفِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: الْمَنْعُ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى مُطْلَقًا بَلْ يَجِبُ نَقْلُ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْعَارِفِ وَغَيْرِهِ. هَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَهْلِ التَّحَرِّي فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ إِنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَنَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ2 وَبِهِ قَالَ الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الحرج البالغ والمخالفة لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنَ الرُّوَاةِ كَمَا تَرَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا جَمَاعَةٌ "مِنَ الصَّحَابَةِ"** فَإِنَّ غَالِبَهَا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ الِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بَلْ قَدْ تَرَى الْوَاحِدَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ يأتي في بعض الحالات بلفظ في "رواية"*** وَفِي أُخْرَى بِغَيْرِ ذَاكَ اللَّفْظِ مِمَّا يُؤَدِّي معناه وهذا أمر لا شك فيه
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا مَجَالٌ فَيَجُوزُ: النَّقْلُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ الرَّاوِي اللَّفْظَ أَمْ لَا، فَإِنْ حَفِظَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظِ اللَّفْظَ جَازَ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ، فَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: أَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي فَيَجُوزُ رِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ" 1 وروى أنه نهى بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ2، وَقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ" 3، وَرُوِيَ أَنَّهُ "أمر بقتل الأسودين في الصلاة"4؛ قال: هَذَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ افْعَلْ أَمْرٌ وَلَا تَفْعَلْ نَهْيٌ فَيَتَخَيَّرُ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا. "وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَفِيُّ الْمَعْنَى مُحْتَمَلًا كَقَوْلِهِ: "لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ" 5* وَجَبَ نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ وَلَا يعبر عنه بغيره.
الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُحْكَمِ وَغَيْرِهِ فَتَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَالْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمَجَازِ الَّذِي لَمْ يَشْتَهِرْ. الْمَذْهَبُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُودَعًا فِي جُمْلَةٍ لَا يَفْهَمُهُ الْعَامِّيُّ إِلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ رِوَايَتُهُ إِلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ بِلَفْظِهَا، كَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ. الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُورِدَهُ عَلَى قَصْدِ الِاحْتِجَاجِ وَالْفُتْيَا أَوْ يُورِدَهُ لِقَصْدِ الرِّوَايَةِ "فَتَجُوزُ"* الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ مَذَاهِبَ. وَيَتَخَرَّجُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الأُوَل مَذَاهِبُ غَيْرُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ. الْحَالُ الثالثة: أَنْ يَحْذِفَ الرَّاوِي بَعْضَ لَفْظِ الْخَبَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَحْذُوفِ مِنْهُ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَمْ يَجُزْ بالاتفاق. حكاه الصفي الهندي وابن الأبياري فَالتَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ كَالتَّقْيِيدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ وَالتَّعَلُّقُ الْمَعْنَوِيُّ كَالْخَاصِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُطْلَقِ وَالْمُبَيَّنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْمَلِ وَالنَّاسِخِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْسُوخِ، وَيَشْكُلُ عَلَى هَذَا الْمَحْكِيِّ مِنَ الِاتِّفَاقِ مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي اللُّمَعِ وَالْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ مِنَ الْجَوَازِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَمْ لَا، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ. فَإِنَّ تَرْكَ الرَّاوِي لِمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا رَوَاهُ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا خِيَانَةٌ فِي الرِّوَايَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إِنْ كَانَ قَدْ نَقَلَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ جَازَ أَنْ يَنْقُلَ الْبَعْضَ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ، كَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"1 وَالشَّيْخُ الشِّيرَازِيُّ في "اللمع"2
ثَانِيهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَى الرَّاوِي التُّهْمَةُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الرَّاوِي وَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَإِنْ كَانَ الرَّاوِي فَقِيهًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَقِيهٍ لَمْ يَجُزْ. قَالَهُ ابْنُ فَوْرَكٍ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ. وَرَابِعُهَا: إِنْ كَانَ الْخَبَرُ مَشْهُورًا بِتَمَامِهِ جَازَ الِاقْتِصَارُ مِنَ الرَّاوِي عَلَى الْبَعْضِ وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ لِأَبِي إِسْحَاقَ. وَخَامِسُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَسَادِسُهَا: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ حُكْمًا مُتَمَيِّزًا عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز* فَيَجُوزُ الْحَذْفُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُسْتَقِلًّا بِمَفْهُومِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" 1 فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رِوَايَةِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُضْحِيَّةِ لِمَنْ قَالَ لَهُ لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا جَذَعَةٌ مِنَ الْمَعْزِ فَقَالَ: "تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ" 2 فَلَا يَجُوزُ الْحَذْفُ لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ تُجْزِئُكَ لَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ. هَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وأنت خبير بأن كثيرًا من "الصحابة و"** التابعين وَالْمُحَدِّثِينَ يَقْتَصِرُونَ عَلَى رِوَايَةِ بَعْضِ الْخَبَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى رِوَايَةِ بَعْضِهِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَحَادِيثِ الطَّوِيلَةِ كَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي صِفَةِ حَجِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3 وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَهُمْ قُدْوَةٌ لِمَنْ بعدهم
فِي الرِّوَايَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْتَلْزِمَ ذلك الاقتصاد على البعض مفسدة. الحال الرابع: أَنْ يَزِيدَ الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ لِلْخَبَرِ عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ مَا زَادَهُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ سَبَبِ الْحَدِيثِ أَوْ تَفْسِيرَ مَعْنَاهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا زَادَهُ حَتَّى يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي. قَالَ الْمَارَوْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ مِنَ الصَّحَابِيِّ زِيَادَةُ بَيَانِ السَّبَبِ لِكَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِلْحَالِ وَلَا يَجُوزُ مِنَ التَّابِعِيِّ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى: فَيَجُوزُ مِنْهُمَا، وَلَا وَجْهَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِشَرْطِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ وَبَيْنَ التَّفْسِيرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ بِمَا يَفْهَمُهُ السَّامِعُ. الْحَالُ الخامس: إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى تَفْسِيرِهِ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ الصَّحَابِيَّ كَانَ تَفْسِيرُهُ كَالْبَيَانِ لِمَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَصِرُ غَيْرَ صَحَابِيٍّ وَلَمْ يَقَعِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُرَادُ فَلَا يُصَارُ إِلَى تَفْسِيرِهِ، بَلْ يَكُونُ لِهَذَا اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ حُكْمٌ هُوَ الْمُرَادُ الْمُشْتَرَكُ أَوِ الْمُجْمَلُ فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وُرُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ، والظاهر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ بِمَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَيُخَلِّيهِ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ الرَّاوِي لِذَلِكَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا أَرَادَهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ بِمَا يَتَّضِحُ بِهِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، فَقَدْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ فَكَيْفَ لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُوَيْنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا ذَكَرَ خَبَرًا وَأَوَّلَهُ وَذَكَرَ الْمُرَادَ مِنْهُ فَذَلِكَ مَقْبُولٌ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: إِنَّمَا أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا أَوَّلَ الصَّحَابِيُّ أَوْ خَصَّصَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ وَإِلَّا فَالتَّأْوِيلُ الْمُعْتَضِدُ بِالدَّلِيلِ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ لَا اتِّبَاعٌ لذلك التأويل. الحال السادس: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ فَيَحْمِلُهُ الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ إِمَّا بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ "إِلَى مَجَازِهِ"*، أَوْ بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ أَوْ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يُفِيدُ صَرْفَهُ عَنِ الظَّاهِرِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَلَا يُصَارُ إِلَى خِلَافِهِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْ فعله. وهذا هو الحق لأنا
مُتَعَبِّدُونَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِرَأْيِهِ كَمَا تَقَدَّمَ1. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِمُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ "على"* على ذلك عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ اجْتِهَادًا مِنْهُ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا هِيَ رِوَايَتُهُ لَا فِي رَأْيِهِ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ "عَلَى ذَلِكَ"** وَهْمًا مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرَى إِلَّا بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ وَالْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغٌ كَانَ الْعَمَلُ بِمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا، وَإِنْ كَانَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ مُتَعَيِّنًا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَتْرُكُ الظَّاهِرَ بِالْمُحْتَمَلِ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ مَسَارِحِ الِاجْتِهَادِ قَدْ يَكُونُ وَهْمًا، فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْغَلَطِ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ عَمِلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ كلام الشارع، فكان "الحمل"*** عَلَيْهِ أَرْجَحَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ سِوَى عِلْمِهِ بِقَصْدِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ جُوِّزَ فَقَدْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ الصَّحَابِيُّ الْعَمَلَ بِمَا رَوَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَدْ قَدَّمْنَا2 الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى مَدْلُولِ الْخَبَرِ وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ "يُحْتَمَلُ أَنَّهُ"**** قَدِ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِمُجَرَّدِ هذا الاحتمال وأيضًا "ربما"***** ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك
في ألفاظ الرواية
في ألفاظ الرواية مدخل ... فصل: في ألفاظ الرواية اعلم أن الصحابي إِذَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ حَدَّثَنِي، فَذَلِكَ لَا يحتمل
الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان مرويًّا بهذه الألفاظ "أو مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهَا"1 كَشَافَهَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا إِذَا جَاءَ الصَّحَابِيُّ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا أَوْ أَمَرَ بِكَذَا أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا أَوْ قَضَى بِكَذَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاوِي مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ كِبَارِهِمْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ ثَمَّ وَاسِطَةً فَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ حَتَّى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ وَلَا حُجَّةَ لِهَذَا؛ فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ عَدْلٌ عَارِفٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ دَاوُدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَإِنْ قَالَ الصَّحَابِيُّ أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا بِصِيغَةِ "الْفِعْلِ"2 الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ هُوَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ3 وَالْجُوَيْنِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ أَوِ النَّاهِي بعض الخلفاء "أو"4 الأمراء. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ بَعِيدٌ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ الظُّهُورُ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ الْوَقْفُ وَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَظُهُورَ وَجْهٍ يَدْفَعُ الْوَقْفَ إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ تَعَادُلِ الْأَدِلَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَدَمِ وِجْدَانِ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا. وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "جَامِعِ الْأُصُولِ"5 قَوْلًا رَابِعًا، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يكون قائل ذلك
هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَيَكُونُ مَا رَوَاهُ بهذه الصيغة حُجَّةً لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ لِمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ ضعف احتمال كون الآمر "أو"1 الناهي غَيْرَ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ"2 قَوْلًا خَامِسًا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ قَائِلِهِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَيَكُونُ حُجَّةً وَبَيْنَ كَوْنِ قَائِلِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً ولا وجه لهذا أيضًا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ إِنَّمَا يُورِدُ ذَلِكَ مَوْرِدَ الِاحْتِجَاجِ وَالتَّبْلِيغِ لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا التَّكْلِيفُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَيُرِيدَ غَيْرَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ الصَّحَابِيُّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ لَهَا حُكْمَ الرَّفْعِ وَبِهَا تَقُومُ الْحُجَّةُ. وَمِثْلُ هَذَا إِذَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ إِلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَحَكَى ابْنُ فَوْرِكٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى سُنَّةِ الْبَلَدِ وَسُنَّةِ الْأَئِمَّةِ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَبْلِيغٍ لِلشَّرِيعَةِ إِلَى الْأُمَّةِ لِيَعْمَلُوا بِهَا. فَكَيْفَ يَرْتَكِبُ مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ؟ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ إِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الْمُتَلَقِّيَ مِنَ الْقِيَاسِ قَدْ يُقَالُ إِنَّهُ سُنَّةٌ لِاسْتِنَادِهِ إِلَى الشَّرْعِ، وَحَكَى هَذَا الْجُوَيْنِيُّ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ إِطْلَاقَ السُّنَّةِ عَلَى مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ مُخَالِفٌ لِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْوَقْفَ وَلَا وَجْهَ لَهُ. وَأَمَّا التَّابِعِيُّ إِذَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فَلَهُ حُكْمُ مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ هَذَا أَرْجَحُ مَا يُقَالُ فِيهِ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ "أَرَادَ"3 مَذَاهِبَ الصَّحَابَةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ العمل في عصرهم خلاف الظاهر، فإن
إِطْلَاقَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ وَتَبْلِيغَهُ إِلَى النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ سُنَّةَ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِذَا أَطْلَقَ الصَّحَابِيُّ السُّنَّةَ فَالْمُرَادُ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك إذا أطلقها غَيْرُهُ مَا لَمْ تُضَفْ إِلَى صَاحِبِهَا كَقَوْلِهِمْ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ الصَّحَابِيُّ: كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَوَجَّهَ أَنَّهُ نَقْلٌ لِفِعْلِ جَمَاعَتِهِمْ مَعَ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْحُجَّةُ فِي التَّقْرِيرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي حُكْمِ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ فَلَا، فَقَدْ يُضَافُ فِعْلُ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فَقَالَ قَبِلَهُ أَبُو الْفَرَجِ1 مِنْ أَصْحَابِنَا وَرَدَّهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ2 وَالْوَجْهُ التفصيل بين أن يكون شرعًا "مستقرًا"3 كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ عِيدِ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. الْحَدِيثَ4، فَمِثْلُ هَذَا يَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ خَفَاؤُهُ فَلَا يَقْبَلُ كَقَوْلِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَوَى لَنَا بَعْضُ عُمُومَتِي أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ5 وَرَجَّحَ هَذَا التَّفْصِيلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَقِيلَ إِنَّ "ذِكْرَ الصَّحَابِيِّ ذَلِكَ"6 فِي مَعْرِضِ الْحُجَّةِ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ وَإِلَّا فَلَا، وَأَمَّا لَوْ قَالَ الصَّحَابِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ أَوْ كُنَّا نَفْعَلُ وَلَا يَقُولُ على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَقُومُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْنَدٍ إِلَى تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا هُوَ حِكَايَةٌ لِلْإِجْمَاعِ، "وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِذَا قَالَ التَّابِعِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَا حَجَّةَ فِيهِ، إِلَّا أن يصرح بنقل الإجماع"7.
أما ألفاظ الرواية من غير الصحابي
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الرِّوَايَةِ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ: فَلَهَا مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْغَايَةُ فِي التَّحَمُّلِ لِأَنَّهَا طَرِيقَةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ قِرَاءَةَ التِّلْمِيذِ عَلَى الشَّيْخِ أَقْوَى مِنْ قِرَاءَةِ الشَّيْخِ عَلَى التِّلْمِيذِ لِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ التِّلْمِيذُ عَلَى الشَّيْخِ كَانْتِ الْمُحَافَظَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَإِذَا قَرَأَ الشَّيْخُ كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ فَالْمُحَافَظَةُ فِي الطريقين كائنة من الجهتين، قال الماوردي والرويان: ي وَيَصِحُّ تَحَمُّلُ التِّلْمِيذِ عَنِ الشَّيْخِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ عَنْ قَصْدٍ أَوِ اتِّفَاقًا أَوْ مُذَاكَرَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ أَعْمَى "يُمْلِي مِنْ"* حِفْظِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَمَّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التِّلْمِيذُ أَعْمَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أصمَّ، وَكَمَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ مِنْ حِفْظِ الشَّيْخِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كِتَابِهِ إِذَا كَانَ وَاثِقًا بِهِ ذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ لَهُ. وَرُوِيَ عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا وَجْهَ لذلك فإن يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ فَائِدَةِ الْكِتَابِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مِنَ الْكِتَابِ الصَّحِيحِ الْمَسْمُوعِ أَثْبَتَ مِنَ الرِّوَايَةِ مِنَ الْحِفْظِ لِأَنَّ الْحِفْظَ مَظَنَّةُ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ. وَلِلتِّلْمِيذِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي وَأَسْمَعَنِي وَحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَسْمَعَنَا، إِذَا كَانَ الشَّيْخُ قَاصِدًا لِإِسْمَاعِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَيَقُولُ: سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ. المرتبة الثانية: أَنْ يَقْرَأَ التِّلْمِيذُ وَالشَّيْخُ يَسْمَعُ وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يسمعون هَذَا عَرْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ التِّلْمِيذَ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى الشَّيْخِ. كَأَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ وَرِوَايَةٌ مَعْمُولٌ بِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَشَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ عَالِمًا بِمَا يَقْرَؤُهُ التِّلْمِيذُ عَلَيْهِ وَلَوْ فُرِضَ مِنْهُ تَصْحِيفٌ أَوْ تَحْرِيفٌ لَرَدَّهُ عَلَيْهِ. وَإِلَّا لَمْ "تَصِحَّ"** الرِّوَايَةُ عَنْهُ. قَالَ: وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ شَيْخٍ يَسْمَعُ أَصْوَاتًا وَأَجْرَاسًا وَلَا يَأْمَنُ تَدْلِيسًا وَإِلْبَاسًا وَبَيْنَ شَيْخٍ لَا يَسْمَعُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الإمام لم أره في كلام القاضي، فإنه صَرَّحَ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّحَمُّلُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ. وَتَصِحُّ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَمَّنْ لَمْ يَعْلَمُ مَعْنَاهُ، وَهَذَا فِيمَا أَظُنُّ إِجْمَاعٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ لَا وَفِي الْحَدِيثِ: "رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" 1. وَلَوْ شَرَطْنَا عِلْمَ الرَّاوِي بِمَعْنَى الْحَدِيثِ لَشَرَطْنَا معرفة جميع وجوهه وينسد بذلك باب "الحديث"*. قَالَ: وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِجَوَازِ الْإِجَازَةِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ الْمُجِيزُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِجُمْلَةِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمُجَازِ، وَقَدْ وَافَقَ الْجُوَيْنِيُّ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَالْمَازِرِيُّ. وَيَقُولُ التِّلْمِيذُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: قَرَأْتُ عَلَى فُلَانٍ، أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي بِدُونِ "تقييد"** تقييده بِقَوْلِهِ: قِرَاءَةً عَلَيْهِ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُبَارَكِ2 وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى3، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّيْخَ هُوَ الَّذِي قَرَأَ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ4 وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ5 وَيَحْيَى بن سعيد القطان،
وَالْبُخَارِيُّ إِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ كَالْقِرَاءَةِ مِنْهُ وَنَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ صَاحِبِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنَا وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا. قَالَ الرَّبِيعُ1: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَرَأْتَ عَلَى الْعَالِمِ فَقُلْ: أَخْبَرَنَا. وَإِذَا قَرَأَ عَلَيْكَ فَقُلْ: حَدَّثَنَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ بِاصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْآخَرِ وَالِاحْتِجَاجُ لَهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ لُغَوِيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ أَرَادُوا بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: بَيْنَ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي فَرْقٌ لِأَنَّ أَخْبَرَنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ وَحَدَّثَنِي لَا يَحْتَمِلُ "غَيْرَ"* السَّمَاعِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْكِتَابَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِجَازَةِ نَحْوَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إِلَى التِّلْمِيذِ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَقَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَهُ عَنِّي وَكَانَ خَطُّ الشَّيْخِ مَعْرُوفًا، فَإِنْ تَجَرَّدَتِ الْكِتَابَةُ عَنِ الْإِجَازَةِ فَقَدْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَتَّى قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهَا أَقْوَى مِنْ مُجَرَّدِ الْإِجَازَةِ. وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ قَالَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْلِغُ بِالْكِتَابَةِ "لِلْغَائِبِينَ"** كَمَا يُبْلِغُ بِالْخِطَابِ للحاضرين. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ تَارَةً وَيُرْسِلُ أُخْرَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الْمَدْخَلِ"2: الْآثَارُ فِي هَذَا كثيرة مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَفِيهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ وَكَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِلَى عُمَّالِهِ بِالْأَحْكَامِ"*** شَاهِدَةً لِقَوْلِهِ، قَالَ: إِلَّا أَنَّ مَا سَمِعَهُ مِنَ الشَّيْخِ فَوَعَاهُ "أَوْ قُرِئَ"**** عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مما كتب به إليه،
لِمَا يُخَافُ عَلَى الْكِتَابِ مِنَ التَّغْيِيرِ. وَكَيْفِيَّةُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقُولَ: كَتَبَ إِلَيَّ، أَوْ أَخْبَرَنِي كِتَابَةً، فَإِنْ كَانَ "الْكَاتِبُ"* قَدْ ذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِي كِتَابِهِ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَنَا، وَجَوَّزَ الرَّازِيُّ أَنْ يَقُولَ التِّلْمِيذُ أَخْبَرَنِي مُجَرَّدًا عَنْ قَوْلِهِ كِتَابَةً. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ كِتَابَةً فَيَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ هَذَا أَدَبًا. لِأَنَّ الْقَوْلَ إِذَا كَانَ مُطَابِقًا جَازَ إِطْلَاقُهُ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَجَوَّزَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ1 إِطْلَاقَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا فِي الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرِهِمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا وَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمُسْنَدِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَوُثُوقِهِ بِأَنَّهَا عَنْ كَاتِبِهَا، وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنَ الرِّوَايَةِ بِهَا، مِنْهُمُ الْمَازِرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَمِمَّنْ نَقَلَ إِنْكَارَ قَبُولِهَا الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ2 وَالْآمِدِيُّ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُنَاوَلَةُ وَهُوَ أَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ تِلْمِيذَهُ صَحِيفَةً، وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: " الْوَجْهُ "** الْأَوَّلُ: أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْإِجَازَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَ أَصْلَهُ أَوْ فَرْعًا مُقَابِلًا عَلَيْهِ وَيَقُولُ هَذَا سَمَاعِيٌّ فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ يَأْتِيَ التِّلْمِيذُ إِلَى الشَّيْخِ بِجُزْءٍ فِيهِ سَمَاعُهُ فَيَعْرِضُهُ عَلَى الشَّيْخِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ هُوَ مِنْ مَرْوِيَّاتِي فَارْوِهِ عَنِّي. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي "الْإِلْمَاعِ"3: إِنَّهَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ "فِيهِ"***. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا نَقُولُ حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا فِي كل حديث.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ1 وَمَالِكٍ: أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاوَلَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْإِجَازَةِ كَالسَّمَاعِ وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ2. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَقْتَرِنَ بِالْإِجَازَةِ. بَلْ يُنَاوِلُهُ الْكِتَابَ وَيَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ وَلَا يَقُولُ: ارْوِهِ عَنِّي، فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا الرِّوَايَةَ بِهَا وَبِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرَّازِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ لِلْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: "لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ "مَكَانَ" * كَذَا وَكَذَا"، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وأخبرهم بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3، وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ4: لَا مَعْنَى لِإِفْرَادِ الْمُنَاوَلَةِ حَتَّى يَقُولَ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْإِجَازَةِ. المرتبة الخامسة: الإجازة "وهي"** أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، أَوْ هَذَا الْكِتَابَ، أَوْ هَذِهِ الْكُتُبَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بها ومنع ذلك الجماعة.
قَالَ شُعْبَةُ1: لَوْ صَحَّتِ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتِ الرِّحْلَةُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ2 لَوْ صَحَّتِ الْإِجَازَةُ لَذَهَبَ الْعِلْمُ. وَمِنَ الْمَانِعِينَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ3، وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيُّ4، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ5 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ علي. ويجاب عمن قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَانِعُونَ: بِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الرِّحْلَةِ، وَأَيْضًا الْمُرَادُ مِنَ الرِّحْلَةِ تَحْصِيلُ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِالْإِجَازَةِ وَلَا تَسْتَلْزِمُ ذَهَابَ الْعِلْمِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ مَنْ رَوَى بِالْإِجَازَةِ تَرَكَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا مِنْ طُرُقِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّمَاعِ وَالْكُلُّ طُرُقٌ لِلرِّوَايَةِ وَالْعِلْمُ مَحْفُوظٌ غَيْرُ ذَاهِبٍ بِتَرْكِ مَا هُوَ الْأَقْوَى. وَأَمَّا قَوْلُ الدَّبَّاسِ: إِنَّ الْإِجَازَةَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّيْخِ لِتِلْمِيذِهِ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ فَهَذَا خُلْفٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَبَاطِلٌ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَحْصِيلِ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ هُوَ حُصُولُ الثِّقَةِ بِالْخَبَرِ وَهِيَ هُنَا حَاصِلَةٌ وَإِذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُ الشَّيْخِ وَتَحَقَّقَ إِذْنُهُ لِلتِّلْمِيذِ بِالرِّوَايَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْإِسْنَادِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلرِّوَايَةِ "جملة، وبين الطريق المقتضية
لِلرِّوَايَةِ"* تَفْصِيلًا فِي اتِّصَافِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِأَنَّهَا طَرِيقٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ إِنَّهُ بِدْعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ لِلتِّلْمِيذِ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِجَازَةِ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ ذَلِكَ إِجَازَةً فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ إِلَّا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي إِجَازَةً أَوْ أَخْبَرَنِي إِجَازَةً. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَأَجْوَدُ الْعِبَارَاتِ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ يَقُولَ أَجَازَ لَنَا "قِيلَ"**: ويجوز أَنْ يَقُولَ أَنْبَأَنِي بِالِاتِّفَاقِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُجِيزَ فِي مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَوْ لَكُمْ رِوَايَةَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ عَنِّي؛ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَعْلَى "أَنْوَاعِ"*** الْإِجَازَةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُجِيزَ "لِمُعَيَّنٍ"**** فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي، فَجَوَّزَ هَذَا الْجُمْهُورُ وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْجُوَيْنِيُّ. النَّوْعُ الثالث: أن يجيز غير معين بغير مُعَيَّنٍ "لِغَيْرِ"***** مُعَيَّنٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتِي، جَمِيعَ مَرْوِيَّاتِي، وَقَدْ جَوَّزَ هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ وَأَبُو الطيب الطبري، ومنعه آخرون وهذا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَجَازُ لَهُ أَهْلًا لِلرِّوَايَةِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا كَالصَّبِيِّ فَجَوَّزَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ لِلْجَوَازِ: بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إِبَاحَةُ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ أن يرو ي عَنْهُ، وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِلْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ بِأَنْ لَا يَرْوِيَ مَنْ لَيْسَ بِمُتَأَهِّلٍ لِلرِّوَايَةِ إِلَّا بعد أن يصير متأهلًا لها.
فصل: الحديث الصحيح والمرسل
فصل: الحديث الصحيح والمرسل الصَّحِيحُ مِنَ الْحَدِيثِ: هُوَ مَا اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلَا عِلَّةٍ قَادِحَةٍ. فَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَمِنْ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ التَّابِعِيُّ.
الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا اصْطِلَاحُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ فَقَالُوا: الْمُرْسَلُ، قَوْلُ مَنْ لم يلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ التَّابِعِينَ أَوْ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ. وَإِطْلَاقُ الْمُرْسَلِ على هذا وإن كان اصطلاحا، ً وَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ هُوَ الْمُرْسَلُ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى ضَعْفِهِ، وَعَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّابِعِيُّ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الْوَاسِطَةَ صَحَابِيٌّ لَا غَيْرَ حَتَّى يُقَالَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ فَلَا يَضُرُّ حَذْفُ الصَّحَابِيِّ، وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُدَّعٍ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ صُحْبَةً وَلَمْ تَصِحَّ صُحْبَتُهُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ إِلَى قَبُولِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِقَبُولِ الْمُرْسَلِ: إِنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُسْنَدِ لِثِقَةِ التَّابِعِيِّ بِصِحَّتِهِ وَلِهَذَا أَرْسَلَهُ وَهَذَا غُلُوٌّ خَارِجٌ عَنِ الْإِنْصَافِ. وَالْحَقُّ عَدَمُ الْقَبُولِ لِمَا "ذَكَرْنَا"* مِنَ الِاحْتِمَالِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَفَصَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ، فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ وَلَعَلَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذين يلونهم ثم يفشو الكذب" 1، وقيل هذا من قال به بأن يكون "ذلك"** الرَّاوِي مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ "فِي"*** أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ إِذَا كَانَ مُرْسَلُهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ، يُرْسَلُ عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ، قَالَ: وَهَذَا الِاسْمُ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حَدِيثِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ2 أَوْ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سهل بن حنيف3، أو
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ1 وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ2 وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ3 وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ4 وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ5 وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ6 وَمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ7 والحسن8 وابن سيرين والشعبي9
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ1 وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمُ الَّذِينَ صَحَّ لَهُمْ لِقَاءُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَالَسَتُهُمْ وَنَحْوُهُ مُرْسَلُ مَنْ دُونَهُمْ كَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ2، وَأَبِي حَازِمٍ3، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ4 عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَمَّى مُرْسَلًا، كَمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: حَدِيثُ هَؤُلَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِمْ عَنِ التَّابِعِينَ انْتَهَى. وَفِي هَذَا التَّمْثِيلِ نَظَرٌ فَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مَعْدُودَانِ فِي الصَّحَابَةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِنَّ الزُّهْرِيَّ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يَلْقَوْا إِلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَقَدْ لَقِيَ الزُّهْرِيُّ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا، وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ مُرْسَلَ الثِّقَةِ يَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ كَمَا يَجِبُ بِالْمُسْنَدِ سَوَاءً، قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَرَاسِيلُ الثِّقَاتِ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقٍ أَوْلَى وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ مَنْ أَسْنَدَ لَكَ فَقَدْ أَحَالَكَ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ سَمَّاهُ لَكَ وَمَنْ أَرْسَلَ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَثِقَتِهِ فَقَدْ قَطَعَ لَكَ بِصِحَّتِهِ. قَالَ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا الْأَمْرَيْنِ قَالَ وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَالِكِيُّ5 وأبو بكر الأبهري وهو قول أبي جعفر الطبري، وزعم
الطَّبَرِيُّ أَنَّ التَّابِعِينَ بِأَسْرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُمْ إِنْكَارُهُ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ إِلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ انتهى. ويجاب عن قوله من أرسل مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَثِقَتِهِ فَقَدْ قَطَعَ لَكَ بِصِحَّتِهِ إِنَّ الثِّقَةَ قَدْ يَظُنُّ مَنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ ثِقَةً عَمَلًا بِالظَّاهِرِ وَيَعْلَمُ غَيْرُهُ مِنْ حَالِهِ مَا يَقْدَحُ فِيهِ وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ إِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ إِلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ "صَحِيحِهِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مُرْسَلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ التَّابِعِيِّ ثِقَةً مُحْتَجًّا بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبِمَا نَقَلَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قِيلَ سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ وَإِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ. وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ1: أَنَّ الْمُرْسَلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَنْ إِمَامِ التَّابِعِينَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إِرْسَالَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَيْسَ بِتَدْلِيسٍ هُوَ رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ أَوْ لَمْ يَلْقَهُ كَرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ2 وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ3 وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قِيلَ: هُوَ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَ الْمُرْسَلُ ثِقَةً عَدْلًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ. وَاخْتَلَفَ مُسْقِطُو الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسمعه
مِنْهُ، كَقَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ذُكِرَ لِي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" الْحَدِيثَ1، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ لَا يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ: لَا نَشُكُّ فِي عَدَالَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَرْوِي الرَّاوِي عن تابعي أو عن أعرابي لاتعرف صُحْبَتَهُ وَلَوْ قَالَ: لَا أَرْوِي لَكُمْ إِلَّا مِنْ سَمَاعِي أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ لَوَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ مُرْسَلِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ مَقْبُولَةٌ، لِكَوْنِ جَمِيعِهِمْ عُدُولًا، وَأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا أَرْسَلُوهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ عَنِ التَّابِعِينَ فَقَدْ بَيَّنُوهُ، وَهُوَ أَيْضًا قَلِيلٌ نَادِرٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ ثُمَّ رَجَّحَ عَدَمَ قَبُولِ مَرَاسِيلِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ سُقُوطُ فَرْضِ اللَّهِ بِالْمُرْسَلِ بِجَهَالَةِ رَاوِيهِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إِلَّا عَمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَلَوْ قَالَ المرسِل: حَدَّثَنِيَ الْعَدْلُ الثِّقَةُ عِنْدِي بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَذْكُرَ اسمه.
حكم الحديث المنقطع والمعضل
حكم الحديث المنقطع والمعضل: مَسْأَلَةٌ: وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِالْحَدِيثِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ رُوَاتِهِ وَاحِدٌ مِمَّنْ دُونَ الصَّحَابَةِ وَلَا بِالْمُعْضِلِ، وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ رُوَاتِهِ اثْنَانِ وَلَا بِمَا سَقَطَ مِنْ رُوَاتِهِ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ السَّاقِطُ أَوِ السَّاقِطَانِ أَوِ السَّاقِطُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ غَيْرَ ثِقَاتٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَوْنِ الرَّاوِي لِمَا هَذَا حال ثِقَةً مُتَثَبِّتًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ حَالِ مَنْ يَظُنُّهُ ثِقَةً مَا هُوَ جُرِّحَ فِيهِ. وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ أَيْضًا بِحَدِيثٍ يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ رِجَالِ إِسْنَادِهِ: عَنْ رَجُلٍ، أَوْ عَنْ شَيْخٍ، أَوْ عَنْ ثِقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ لَا يعرف ما يجب اعتباره.
فصل: طرق ثبوت العدالة
فصل: طرق ثبوت العدالة مدخل ... فصل: طرق ثبوت الْعَدَالَةِ وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ لَكَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا، وَأَقْوَى الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ لِثُبُوتِهَا: الِاخْتِبَارُ في الأحوال بطول الصحابة وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ "عَلَى"* فِعْلِ كَبِيرَةٍ، وَلَا عَلَى مَا يَقْتَضِي التَّهَاوُنَ بالدين والتساهل في الرواية،
فَهُوَ ثِقَةٌ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ التَّزْكِيَةُ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِخَبَرِ عَدْلَيْنِ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ تَعْدِيلٌ أَوْ بِدُونِ ذِكْرِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهِ، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ "هُوَ"* عَدْلٌ رَضِيٌّ، وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا بَلْ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ عَلَى مَا يُفِيدُ مُفَادَ أَحَدِهِمَا يَكْفِي عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُ الْإِجْمَالَ، وَأَمَّا التَّعْدِيلُ مِنْ وَاحِدٍ فَقَطْ، فَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ الْأَبْيَارِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبَ قَبُولِ كُلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، شَاهِدًا أَوْ مُخْبِرًا، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ اثْنَانِ، وَيَكْفِي فِي الرِّوَايَةِ وَاحِدٌ كَمَا يَكْفِي فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَمَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي جَرْحِ رُوَاتِهِ وَلَا فِي تَعْدِيلِهِمْ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَأَطْلَقَ فِي الْمَحْصُولِ قَبُولَ تَزْكِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ النِّسَاءُ فِي التَّعْدِيلِ لَا فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الرِّوَايَةِ ثم اختار قبول "قولها"** لها فِيهِمَا كَمَا "تُقْبَلُ"***رِوَايَتُهَا وَشَهَادَتُهَا انْتَهَى. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا بِكَوْنِهَا مِمَّنْ "يَتَمَكَّنُ"**** من اختيار أَحْوَالِ مَنْ زَكَّتْهُ، كَأَنْ تَكُونَ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهَا مُصَاحَبَتُهُ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى أَحْوَالِهِ أَوْ يَكُونَ الذي وقعت تزيكة المرأة له "امْرَأَةً"***** مِثْلَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا سُؤَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ حَالِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ1. وَقَدْ تَكُونُ التَّزْكِيَةُ بِأَنْ يحكم حاكم بشاهدته، كَذَا قَالَ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْقَاضِيَ: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَزْكِيَتِهِ بِاللَّفْظِ. وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا،
قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِ إِلَّا وَهُوَ عَدْلٌ عِنْدَهُ، وَقَيَّدَهُ الْآمِدِيُّ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى قَبُولَ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا إِذَا مَنَعْنَا حُكْمَ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ أَمَّا إِذَا أجزناه فعمله بِالشَّهَادَةِ ظَاهِرًا يَقُومُ مَعَهُ احْتِمَالُ أَنَّهُ حَكَمَ بِعِلْمِهِ بَاطِنًا. وَمِنْ طُرُقِ التَّزْكِيَةِ الِاسْتِفَاضَةُ فِيمَنِ اشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِي. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ "وَنَقَلَهُ عَنْ"* مَالِكٍ، وَشُعْبَةَ، وَالسُّفْيَانَيْنِ1، وَأَحْمَدَ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ الْمَدِينِيِّ2 وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ إِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لَمْ يَكُونَا مشهورين بالعدالة "الرضا"** وكأن أمرهما متشكلًا مُلْتَبِسًا، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ أَقْوَى مِنْ "تَزْكِيَةِ"*** الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفُ الْعِنَايَةِ بِهِ، فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جرحه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ" 3، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي "ضُعَفَائِهِ"4 مِنْ جِهَةِ ابْنِ رِفَاعَةَ السَّلَامِيِّ5 عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرحمن العذري6 وقال: لا
يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضِلٌ ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ قَالَ فِيهِ الْقَطَّانُ لَا نَعْرِفُهُ أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ غَيْرِ هَذَا وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ "الْعِلَلِ"1: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. فَقِيلَ لَهُ: تَرَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ؟ فَقَالَ: لَا هُوَ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ. وَمِنْ طُرُقِ التَّزْكِيَةِ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الرَّاوِي حَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَنَقَلَ فِيهِ الْآمِدِيُّ الِاتِّفَاقَ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"* وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعْدِيلٌ له. والثاني: أن لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. وَالثَّالِثُ: قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمِلَ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَوَافَقَ "عَمُلُهُ"** الْخَبَرَ الَّذِي رَوَاهُ فَعَمِلَهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمْكِنَ تَجْوِيزُ أَنَّهُ عَمِلَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ. قَالَ وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِنَا عَمَلٌ بِالْخَبَرِ وَبَيْنَ قولنا "عمل"*** بِمُوجِبِ الْخَبَرِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ وَالثَّانِي لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنْ أَمْكَنَ حمله عَمَلِهِ"**** عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ وَإِلَّا فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَكَذَا قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ لَا يُوجَدَ مَا يُقَوِّي ذَلِكَ الْخَبَرَ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يُقَوِّيهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ قِيَاسٍ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِهِ لَمْ يَكُنْ لِاعْتِضَادِهِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. وَمِنْ طريقة التَّزْكِيَةِ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ كيحيى بن
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْدِيلٌ كَمَا اخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ قَوْلُ "الْحُذَّاقِ"*، وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ ظُهُورًا بَيِّنًا إِمَّا بِتَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ أَوْ بِتَتَبُّعِ عَادَتِهِ بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ ظُهُورًا بَيِّنًا فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحُفَّاظِ يَرْوُونَ أَحَادِيثَ الضُّعَفَاءِ لِلِاعْتِبَارِ وَلِبَيَانِ حَالِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَوْلُهُمْ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَقَوْلُهُمْ: رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَوْ أَحَدُهُمَا.
فرع: الخلاف في عدالة المبهم
فرع: الخلاف في عدالة الْمُبْهَمِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَعْدِيلِ الْمُبْهَمِ، كَقَوْلِهِمْ: حَدَّثَنِيَ الثِّقَةُ أَوْ حَدَّثَنِيَ الْعَدْلُ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا لَوْ سَمَّاهُ "لَكَانَ"* مَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ، قَالَ الْخَطِيبُ: لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ شُيُوخِهِ ثقات ثم روى عمن لم يسمعه لَمْ نَعْمَلْ بِرِوَايَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ نَعْرِفَهُ إِذَا ذَكَرَهُ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ قَالَ نَعَمْ لَوْ قَالَ الْعَالِمُ كُلَّ مَا أَرْوِي عَنْهُ وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ رَضِيٌّ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ، كَانَ هَذَا الْقَوْلُ تَعْدِيلًا لِكُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمَّاهُ كَمَا سَبَقَ. انْتَهَى. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ: حَدَّثَنِيَ الثِّقَةُ، وَكَذَا كَانَ يَقُولُ مَالِكٌ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ، أَمَّا إِذَا عَرَفَ بِقَرِينَةِ حَالٍ أَوْ مَقَالٍ كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ فَيَنْظُرُ فِيهِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنِيَ الثِّقَةُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ1، فَهُوَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ2، وَإِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ3 وَإِذَا قال: أخبرني الثقة عن
الوليد بن كثير1، فهو [أبو أسامة2، وإذا قال: أخبرني الثقة عن الأوزاعي فَهُوَ] * عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ3، وَإِذَا قَالَ: أخبرني الثقة عن ابن جريح4، فَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ5، وَإِذَا قَالَ: أخبرني الثقة عن صالح مولى التوءمة6، فهو إبراهيم بن أبي يحيى7.
فرع آخر: الخلاف في قبول الجرح والتعديل من دون ذكر السبب
فرع آخر: الخلاف فِي قَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مَنْ دُونِ ذِكْرِ السَّبَبِ هَلْ يُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ مَنْ دُونِ ذِكْرِ السَّبَبِ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فِيهِمَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِيهِمَا، إِذَا كَانَ بَصِيرًا بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ "فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِذِكْرِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْدِيلِ كَثِيرَةٌ فَيَشُقُّ ذِكْرُهَا"* بِخِلَافِ الْجَرْحِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَأَيْضًا سَبَبُ الْجَرْحِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، بخلاف سبب التعديل، وإلى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِهِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ الْجَرْحُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَا يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ إِلَّا بِذِكْرِ السَّبَبِ، قَالُوا: لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجَرْحِ يُبْطِلُ الثِّقَةَ وَمُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يُحَصِّلُ الثِّقَةَ؛ لِتَسَارُعِ النَّاسِ إِلَى الظَّاهِرِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ وَالْمُعَدِّلَ قَدْ يَظُنَّانِ مَا لَيْسَ بِجَارِحٍ جَارِحًا وَقَدْ يَظُنَّانِ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْعَدَالَةِ تَعْدِيلًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَقَدْ يَكُونُ مَا أَبْهَمَهُ الْجَارِحُ مِنَ الْجَرْحِ هُوَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِهِ، وَعَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ مَا أَبْهَمَهُ مِنَ التَّعْدِيلِ هُوَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَعَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ مُخَالِفًا لِلْحَقِّ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَعِنْدِي: أَنَّ الْجَرْحَ الْمَعْمُولَ بِهِ هُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِضَعْفِ الْحِفْظِ أَوْ بِالتَّسَاهُلِ فِي الرِّوَايَةِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاهُلِهِ بِالدِّينِ. وَالتَّعْدِيلُ الْمَعْمُولُ بِهِ: هُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ وَالْحِفْظِ لِمَا يَرْوِيهِ، وَعَدَمِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاهُلِهِ بِالدِّينِ فَاشْدُدْ عَلَى هَذَا يَدَيْكَ تَنْتَفِعْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِ أَمْوَاجِ الْخِلَافِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا وَرَدَ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ كَقَوْلِ الْجَارِحِ: لَيْسَ بِثِقَةٍ أَوْ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ هُوَ ضَعِيفٌ، فَهَلْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمَرْوِيِّ مَعَ هَذَا أَمْ لَا؟ قُلْتُ: يَجِبُ حِينَئِذٍ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَبْحَثَ الْمُطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فِي مُطَوَّلَاتِ الْمُصَنَّفَاتِ فِي هَذَا الشَّأْنِ "كَتَهْذِيبِ الْكَمَالِ" لِلْمِزِّيِّ1 وَفُرُوعِهِ وَكَذَا "تَارِيخُ الإسلام"2،
و"تاريخ النبلاء"1، و"الميزان" للذهبي2.
فرع ثالث: تعارض الجرح والتعديل والجمع بينهما
فرع ثالث: تعارض الجرح والتعديل والجمع بينهما وفيه أقوال: القول الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَدِّلُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْجَارِحِينَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْخَطِيبُ وَالْبَاجِيُّ، وَنَقَلَ الْقَاضِي فِيهِ الْإِجْمَاعَ، قَالَ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مَعَ الْجَارِحِ زِيَادَةَ عِلْمٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُفَسَّرًا. وَقَدِ اسْتَثْنَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَا مَا إِذَا جَرَّحَهُ بِمَعْصِيَةٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّعْدِيلَ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدَّمُ التَّعْدِيلُ عَلَى الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ قَدْ يُجَرِّحُ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَارِحًا، وَالْمُعَدِّلَ إِذَا كَانَ عَدْلًا لَا يُعَدَّلُ إِلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِهِ جَرْحًا، حَكَى هَذَا الطَّحَاوِيُّ1 عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا الْقَوْلِ بِالْجَرْحِ الْمُجْمَلِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْجَرْحُ مُفَسَّرًا لم يتم ما علل به من أَنَّ الْجَارِحَ قَدْ يُجَرِّحُ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَارِحًا إِلَخْ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَكْثَرَ مِنَ الْجَارِحِينَ وَالْمُعَدِّلِينِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَعَدَدُ الْمُعَدِّلِ إِذَا زَادَ قِيلَ إِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْجَارِحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ سَبَبَ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ اطِّلَاعُ الْجَارِحِ عَلَى زِيَادَةٍ وَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بمرجح حكى هذا القول
ابْنُ الْحَاجِبِ وَقَدْ جَعَلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَ "عَدَدُ"* الْمُعَدِّلِينِ أَكْثَرَ فَإِنِ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْجَرْحُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ فِي "الْكِفَايَةِ"1 وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَخَالَفَهُمْ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ فَقَالَ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا اسْتَوَى عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَالْجَارِحِينَ قَالَ: فَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَقَلَّ عَدَدُ الْجَارِحِينَ فَقِيلَ: الْعَدَالَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْلَى انْتَهَى. وَالْحَقُّ الْحَقِيقُ بِالْقَبُولِ: أَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ لِلْمُجْتَهِدِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّفْسِيرِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَإِذَا فَسَّرَ الْجَارِحُ مَا جَرَّحَ بِهِ وَالْمُعَدِّلُ مَا عَدَّلَ بِهِ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا مَنِ الْمَرْجُوحُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِقَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الْمُجْمَلَيْنِ مِنْ عَارِفٍ فَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي جَرْحِهِ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ بِخِلَافِ الْمُعَدِّلِ فَقَدْ يَسْتَنِدُ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ وَأَيْضًا حَدِيثُ مَنْ تَعَارَضَ فِيهِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ الْمُجْمَلَانِ قَدْ دَخَلَهُ الِاحْتِمَالُ فلا يقبل
فصل: عدالة الصحابة
فصل: عدالة الصحابة القول الأول: اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ الرَّاوِي، إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا فِيهِمْ فَلَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمُ الْعَدَالَةُ فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ، وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ بِالْإِجْمَاعِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ مَا وَرَدَ مِنَ الْعُمُومَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَعْدِيلِهِمْ كِتَابًا وَسُنَّةً، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} 2 أَيْ: عُدُولًا وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين} 3، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} 4*، وقوله:
{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي" 2، وَقَوْلِهِ فِي حَقِّهِمْ: "لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بلغ مد أحدكم وَلَا نَصِيفَهُ" 3 وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَقَوْلِهِ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ" 4 عَلَى مَقَالٍ فِيهِ مَعْرُوفٍ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي قَبُولِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ التَّوَقُّفُ فِي رِوَايَتِهِمْ، لَانْحَصَرَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِ الرَّسُولِ وَلَمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْصَارِ. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ، وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ5: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا فَلَا نُخَضِّبُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْعَدَالَةِ حُكْمُ غَيْرِهِمْ، فَيُبْحَثُ عَنْهَا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: فَوَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَالْوَلِيدُ6 شَرِبَ الْخَمْرَ، فمن ظهر عليه خلاف العدالة
لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ وَالْوَلِيدُ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ جِدًّا فَوَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ، وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْدَحُ بِهِ فَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْوَلِيدُ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ إِلَخْ، فَلَمْ يَقُلْ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ صَحَابِيًّا عَنْ صُحْبَتِهِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَقَدْ بَالَغَ إِبْرَاهِيمُ النَّظَّامُ فِي الطَّعْنِ فِيهِمْ، عَلَى مَا نَقَلَهُ "الْجَاحِظُ"* عَنْهُ فِي كِتَابِ "الْفُتْيَا"1، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، أَمَّا مُجْمَلًا فَإِنَّهُ رَوَى مِنْ طَعْنِ بَعْضِهِمْ فِي بعضٍ أَخْبَارًا كَثِيرَةً يَأْتِي تَفْصِيلُهَا، وَقَالَ رَأَيْنَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَقْدَحُ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ الْقَدْحِ إِمَّا فِي الْقَادِحِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا وَإِمَّا فِي الْمَقْدُوحِ فِيهِ إِنْ كَانَ الْقَادِحُ صَادِقًا. وَالْجَوَابُ مُجْمَلًا: أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ دَالَّةٌ عَلَى سَلَامَةِ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَبَرَاءَتِهِمْ عَنِ الْمَطَاعِنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِمْ إِلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى الطَّعْنِ فِيهِمْ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ قَبْلَ الْفِتَنِ لَا بَعْدَهَا فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقًا أي: مِنَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَبِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ2 مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِاسْتِلْزَامِهِ إِهْدَارَ غَالِبِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلِينَ لِتِلْكَ الْحُرُوبِ هُمْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّاخِلِينَ فِيهَا، وَأَيْضًا فِيهِ أَنَّ الْبَاغِيَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ معي وَهُوَ مُعَيَّنٌ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ وَأَيْضًا التَّمَسُّكُ بِمَا تَمَسَّكَتْ بِهِ طَائِفَةٌ يُخْرِجُهَا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَغْيِ عَلَيْهَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْبَاغِيَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عُدُولٌ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَبِهِ قَالَ جماعة من المعتزلة والشيعة،
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنَ الشُّبَهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُقْدِمُوا على ذلك جرأة على الله وتهاونًا بدينه، وجناب الصحابة أَمْرٌ عَظِيمٌ فَمَنِ انْتَهَكَ أَعْرَاضَ بَعْضِهِمْ فَقَدْ وَقَعَ فِي هُوَّةٍ لَا يَنْجُو مِنْهَا سَالِمًا، وَقَدْ كَانَ فِي أَهْلِ الشَّامِ صَحَابَةٌ صَالِحُونَ عَرَضَتْ لَهُمْ شُبَهٌ لَوْلَا عُرُوضُهَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ، وَلَا غَمَسُوا فِيهَا أَيْدِيَهُمْ وَقَدْ عَدَّلُوا تَعْدِيلًا عَامًّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَجَبَ عَلَيْنَا الْبَقَاءُ "عَلَى ... "* وَالتَّأْوِيلُ لِمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا مِنْهُمْ بِالصُّحْبَةِ، وَالْمُلَازَمَةِ فَهُوَ عَدْلٌ لَا يُبْحَثُ عَنْ عَدَالَتِهِ، دُونَ مَنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ، وَلَمْ يُلَازِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رِوَايَةٌ، كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِاسْتِلْزَامِهِ إِخْرَاجَ جَمَاعَةٍ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَقَامُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلًا ثُمَّ انْصَرَفُوا كَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَأَمْثَالِهِمْ، قَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّهَا لَمْ تُوجَدْ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يَلْمِزُ بِالنِّفَاقِ، وَقَالَ الْأَبْيَارِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَالَتِهِمْ ثُبُوتَ الْعِصْمَةِ لَهُمْ وَاسْتِحَالَةَ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: قَبُولُ رِوَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ ارْتِكَابٌ قَادِحٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَنَحْنُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وما "صح"** فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. انْتَهَى. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ عَدَالَةُ جَمِيعِ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الصُّحْبَةُ، عَلِمْتَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً وَلَا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم.
فرع: التعريف بالصحابي
فرع: التعريف بالصحابي إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الصُّحْبَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بِهِ وَلَوْ سَاعَةً، سَوَاءٌ رَوَى عَنْهُ أَمْ لَا. وَقِيلَ: هُوَ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ، وَرَوَى عَنْهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الصُّحْبَةِ إِلَّا مَنْ "جَمَعَ"* بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: هُوَ مَنْ ثَبَتَ لَهُ أَحَدُهُمَا إِمَّا طُولُ الصُّحْبَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَإِنْ كَانَتِ اللُّغَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الصَّاحِبَ هُوَ مَنْ كثرت ملازمته.
فَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْفَضِيلَةِ لِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدُ اللِّقَاءِ الْقَلِيلِ أَوِ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ مَرَّةً. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ اشْتِرَاطَ الْإِقَامَةِ مَعَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً فَصَاعِدًا، أَوِ الْغَزْوِ مَعَهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لِاسْتِلْزَامِهِمَا خُرُوجَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَوْا لَدَيْهِ إِلَّا دُونَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا دَلِيلٌ مِنْ لُغَةٍ وَلَا شَرْعٍ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْوَاقِدِيِّ1 أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أن يكون بالغًا، وهو ضعيف لاستلزامه "خروج"* كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا عَصْرَ النُّبُوَّةِ ورووا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَلَا تشترط الرؤية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَعْمَى مِثْلَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِالْعَدَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ لَا يَطْلُبُ تَعْدِيلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَمَنِ اشْتَرَطَ فِي شُرُوطِ الصُّحْبَةِ شَرْطًا لَا يَطْلُبُ التَّعْدِيلَ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيَطْلُبُهُ مَعَ عَدَمِهِ فَالْخِلَافُ معنوي لا لفظي.
فرع آخر: طرق معرفة الصحابي
فرع آخر: طرق معرفة الصحابي ... فرع آخر: طريق معرفة الصحابي وَيُعْرَفُ كَوْنُ الصَّحَابِيِّ صَحَابِيًّا بِالتَّوَاتُرِ، وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَبِكَوْنِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، أَوْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَبِخَبَرِ صَحَابِيٍّ آخَرَ مَعْلُومِ الصُّحْبَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إِنَّهُ صَحَابِيٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْقَاضِي، أَبُو بَكْرٍ: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ وَازِعَ الْعَدَالَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ، إِذَا لَمْ يروَ عَنْ غَيْرِهِ مَا
يُعَارِضُ قَوْلَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَالنَّوَوِيُّ وَتَوَقَّفَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِعَدَمِ الْقَبُولِ. فَقَالَ: وَمَنْ يَدَعُ الصُّحْبَةَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى نَعْلَمَ صُحْبَتَهُ وَإِذَا عَلِمْنَاهَا فَمَا رَوَاهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ حَتَّى نَعْلَمَ غَيْرَهُ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِقَبُولِ خَبَرِهِ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، بِأَنْ تَقُومَ الْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ وَإِلَّا لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِ كَثِيرٍ مِنَ الْكَذَّابِينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الصُّحْبَةَ.
المقصد الثالث: الإجماع
المقصد الثالث: الإجماع الفصل الأول: في مسماه لغة واصطلاحا ... المقصد الثالث: الإجماع الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْإِجْمَاعُ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَزْمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} 1. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ" 2. وَثَانِيهِمَا: الِاتِّفَاقُ. يُقَالُ: أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا أَيْ صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ كَمَا يُقَالُ أَلْبَنَ، وَأَتْمَرَ إِذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ، وَذَا تَمْرٍ. انْتَهَى. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ إجماع الأمة يتعدى بعلى، والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بعلى، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِمَا حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي "الْمَقَايِيسِ"3 فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَالُ: أَجْمَعْتُ عَلَى الْأَمْرِ إِجْمَاعًا وَأَجْمَعْتُهُ. وَقَدْ جَزَمَ بِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا الْغَزَالِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْعَزْمُ يَرْجِعُ إِلَى الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنِ اتَّفَقَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْأَوَّلُ أَيِ: الْعَزْمُ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ، وَالثَّانِي أي: الاتفاق أشبه بالشرع. انتهى. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الثَّانِيَ وَإِنْ كَانَ أَشْبَهَ بِالشَّرْعِ فَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَعْنًى لُغَوِيًّا، وَكَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَزْمِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يُقَالُ: أَجْمَعَ الْقَوْمُ إِذَا صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ كَمَا يُقَالُ: أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ إِذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ وَتَمْرٍ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهَدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ على أمر من الأمور.
وَالْمُرَادُ بِالِاتِّفَاقِ الِاشْتِرَاكُ: إِمَّا فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ فِي الْقَوْلِ، أَوْ فِي الْفِعْلِ. وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: مجتهدي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتفاق العوام، فإنه لا عبرة بوفاتهم وَلَا بِخِلَافِهِمْ. وَيَخْرُجُ مِنْهُ أَيْضًا اتِّفَاقُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ. وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ الْإِجْمَاعُ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ هَذَا تَوَهُّمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الإجماع؛ إذ لا إجماع يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا حَاجَةَ لِلْإِجْمَاعِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَصْرِ عَصْرُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَدَثَتْ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَنْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ حُدُوثِهَا وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهَا أَحْيَاءً. وَقَوْلُهُ: عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَتَنَاوَلُ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ، وَاللُّغَوِيَّاتِ. وَمَنِ اشْتَرَطَ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُتَّفِقِينَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ زَادَ فِي الْحَدِّ قَيْدَ الِانْقِرَاضِ. وَمَنِ اشْتَرَطَ عَدَمَ سَبْقِ خِلَافٍ مُسْتَقِرٍّ، زَادَ فِي الْحَدِّ قَيْدَ عَدَمِ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِخِلَافٍ. وَمَنِ اشْتَرَطَ عَدَالَةَ الْمُتَّفِقِينَ أَوْ بُلُوغَهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ زَادَ في الحد ما يفيد ذلك.
الفصل الثاني: في إمكان الإجماع في نفسه
الفصل الثاني: في إِمْكَانُ الْإِجْمَاعِ فِي نَفْسِهِ ... الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي إمكان الإجماع في نفسه المقام الأول: فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ النَّظَّامُ وَبَعْضُ الشِّيعَةِ: بِإِحَالَةِ إِمْكَانِ الْإِجْمَاعِ. قَالُوا: إِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، الَّذِي لَا يَكُونُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ مُحَالٌ، كَمَا أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، عَلَى الْمَأْكُولِ الْوَاحِدِ وَالتَّكَلُّمِ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُحَالٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ فِيمَا يَسْتَوِي فِيهِ الِاحْتِمَالُ كَالْمَأْكُولِ الْمُعَيَّنِ وَالْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَمَّا عِنْدَ الرُّجْحَانِ بِقِيَامِ الدِّلَالَةِ أَوِ الْأَمَارَةِ الظَّاهِرَةِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَذَلِكَ كَاتِّفَاقِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ عَلَى نبوة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا ثَانِيًا: إِنَّ اتِّفَاقَهُمْ فَرْعُ تَسَاوِيهِمْ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ، وَانْتِشَارَهُمْ فِي الْأَقْطَارِ يَمْنَعُ نَقْلَ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ الِانْتِشَارِ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَدِّهِمْ فِي الطَّلَبِ، وَبَحْثِهِمْ عَنِ الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا
يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَعَدَ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ لَا يَبْحَثُ وَلَا يَطْلُبُ. قَالُوا ثَالِثًا: الِاتِّفَاقُ إِمَّا عَنْ قَاطِعٍ أَوْ ظَنِّيٍّ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْقَاطِعُ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ فَلَوْ كَانَ لِنَقْلٍ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ، كَيْفَ وَلَوْ نُقِلَ لَأَغْنَى عَنِ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الظَّنِّيُّ: فَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ الِاتِّفَاقُ عَادَةً لِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ وَتَبَايُنِ الْأَنْظَارِ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ مَا ذُكِرَ فِي الْقَاطِعِ؛ إِذْ قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ نَقْلِهِ بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَقَدْ يَكُونُ جَلِيًّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَفْهَامُ وَلَا تَتَبَايَنُ فِيهِ الْأَنْظَارُ، فَهَذَا -أَعْنِي مَنْعَ إِمْكَانِ الْإِجْمَاعِ فِي نفسه- هو المقام الأول. المقام الثاني: عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ مَنَعَ إِمْكَانَ الْعِلْمِ بِهِ. فَقَالُوا: لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى الْعِلْمِ بِحُصُولِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَشْيَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجْدَانِيًّا، أَوْ لَا يَكُونُ وُجْدَانِيًّا. أَمَّا الْوُجْدَانِيُّ: فَكَمَا يَجِدُ أَحَدُنَا مِنْ نَفْسِهِ مِنْ جُوعِهِ وَعَطَشِهِ وَلَذَّتِهِ، وَأَلَمِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ بِاتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ وُجْدَانِيًّا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا؛ إِذْ كَوْنُ الشَّخْصِ الْفُلَانِيِّ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَوْ لَمْ يَقُلْ بِهِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا مَجَالَ أَيْضًا لِلْحِسِّ فِيهَا لِأَنَّ الْإِحْسَاسَ بِكَلَامِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَإِذًا الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ قَطْعًا وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِي يَعْرِفُ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأُمَّةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَإِنَّ الْعُمْرَ يَفْنَى دُونَ مُجَرَّدِ الْبُلُوغِ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ التي يسكنها أهل العلم فضلًا عن اختبار أَحْوَالِهِمْ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَمَعْرِفَةِ كَوْنِهِ قَالَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَالْبَحْثِ عَمَّنْ هُوَ خَامِلٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاقِلِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْبَاحِثِ فِي الْمَدِينَةِ الْوَاحِدَةِ، فَضْلًا عَنِ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ، فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ الَّتِي فِيهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الشَّرْقِ بِجُمْلَةِ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ وَالْعَكْسَ فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَبِكَيْفِيَّةِ مَذْهَبِهِ وَبِمَا يَقُولُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا
وَأَيْضًا: قَدْ يَحْمِلُ بَعْضَ مَنْ يَعْتَبِرُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَعَدَمِ الظُّهُورِ بِالْخِلَافِ التَّقِيَّةُ وَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَعْتَقِدُونَ شَيْئًا إِذَا خَالَفَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَضَرَّتِهِمْ. وَعَلَى تَقْدِيرِ إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ مَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ أَوْ يَرْجِعَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُجْمِعَ "عَلَيْهِ"* أَهْلُ بَلْدَةٍ أُخْرَى بَلْ لَوْ فَرَضْنَا حَتْمًا اجْتِمَاعَ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِمْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَائِلِينَ قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى الْحُكْمِ الْفُلَانِيِّ فَإِنَّ هَذَا مَعَ امْتِنَاعِهِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُخَالِفًا فِيهِ وَسَكَتَ تَقِيَّةً وَخَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ اتِّفَاقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نُبُوَّةِ نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أراد الاتفاق باطنًا وظاهرًا فذلك مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَالْعِلْمُ بِامْتِنَاعِهِ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ أَرَادَ ظَاهِرًا فَقَطِ اسْتِنَادًا إِلَى الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِجْمَاعِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ: الْعِلْمُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بعد معرفة أنه لا حاصل له على الموافقة، وأنه يدين الله بِذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِعَيْنِهِ وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ النَّاقِلُ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَنْ يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَدْ أَسْرَفَ فِي الدَّعْوَى وَجَازَفَ فِي الْقَوْلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَعَذُّرِ ذَلِكَ تَعَذُّرًا ظَاهِرًا وَاضِحًا. وَرَحِمَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ قال: من ادعى "وجود"** الْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَالْعَجَبُ مِنَ اشْتِدَادِ نَكِيرِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ تَصَوُّرَ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَادَةً فَإِنَّ إِنْكَارَهُ عَلَى الْمُنْكِرِ هُوَ الْمُنْكَرُ. وَفَصَلَ الْجُوَيْنِيُّ بَيْنَ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ، فَلَا يَمْتَنِعُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمَظْنُونَةِ قلا يُتَصَوَّرُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا عَادَةً. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي دَلِيلُهَا الْإِجْمَاعُ وَكُلِّيَّاتُ الدِّينِ مَعْلُومَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: الْحَقُّ تَعَذُّرُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ كَانَ الْمُجْمِعُونَ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ فِي قِلَّةٍ، وَأَمَّا الْآنَ وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ فلا مطمع للعلم بِهِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَحْمَدَ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَشِدَّةِ اطِّلَاعِهِ على الأمور
الأمور النقلية. قال: والمنصف يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَبَرَ لَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا مَا يَجِدُهُ مَكْتُوبًا فِي الْكُتُبِ، وَمِنَ البين أنه لا يحصل"الاطلاع"* إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ أَوْ بِنَقْلِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ إِلَيْنَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا. انْتَهَى. الْمَقَامُ الثَّالِثُ: النَّظَرُ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ إِلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ قَالُوا: لَوْ سَلَّمْنَا إِمْكَانَ ثبوت الإجماع عند الْإِجْمَاعِ عِنْدَ النَّاقِلِينَ لَهُ لَكَانَ نَقْلُهُ إِلَى من يحتج به من بعدهم مستحيل؛ لِأَنَّ طَرِيقَ نَقْلِهِ إِمَّا التَّوَاتُرُ أَوِ الْآحَادُ، وَالْعَادَةُ تُحِيلُ النَّقْلَ تَوَاتُرًا لِبُعْدِ أَنْ يُشَاهِدَ أَهْلُ التَّوَاتُرِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا "وَيَسْمَعُونَ"** ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ "يَنْقُلُونَهُ"*** إِلَى عَدَدٍ مُتَوَاتِرٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ "بِنَا"****. وَأَمَّا الْآحَادُ: فَغَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي1. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي ضَرُورِيٍّ لِلْقَطْعِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَاطِعِ عَلَى الْمَظْنُونِ، وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَيْضًا كَوْنُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ كُلِّ مُتَشَرِّعٍ لَا يُقَدِّمُ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ عَلَى الْقَطْعِيِّ وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِيثَارٌ لِلْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ عَلَى الْحُجَّةِ الْقَوِيَّةِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ لَا يصدر منه ذلك. المقام الرابع: اخْتَلَفَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَإِمْكَانِ الْعِلْمِ بِهِ وَإِمْكَانِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا، هَلْ هُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَوْنِهِ حُجَّةً. وَذَهَبَ النَّظَّامُ وَالْإِمَامِيَّةُ، وَبَعْضُ الْخَوَارِجِ إِلَى أنه: ليس بحجة، وإنما الحجة مستندة،
إِنْ ظَهَرَ لَنَا، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَمْ نُقَدِّرْ لِلْإِجْمَاعِ دَلِيلًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْحُجِّيَّةِ، هَلِ الدَّلِيلُ عَلَى حُجِّيَّتِهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، أَمِ السَّمْعُ فَقَطْ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ السَّمْعُ فَقَطْ، وَمَنَعُوا ثُبُوتَهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَإِنْ بَعُدَ فِي الْعَقْلِ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَلَا يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ كَاجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى جَحْدِ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى نَصٍّ قَاطِعٍ فِي تَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ فَفِيهِ إِثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِنَصٍّ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَهُوَ دَوْرٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَدِلَالَتَهَا عَلَى وُجُودِ النَّصِّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَلَا دَوْرَ وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ الظَّاهِرِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِالْمَظْنُونِ عَلَى الْقَطْعِيِّ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَلِيلُ النَّقْلِ من الكتاب والسنة. فَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَ مُشَاقَّةٍ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْوَعِيدِ فَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُبَاحًا لَمَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْظُورِ فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَةَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ "مَحْظُورَةٌ، وَمُتَابَعَةَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ"* عِبَارَةٌ عَنْ مُتَابَعَةِ قَوْلٍ أَوْ فَتْوًى يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ أَوْ فَتْوَاهُمْ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ مَحْظُورَةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِمْ وَفَتْوَاهُمْ وَاجِبَةً. وَأُجِيبَ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِجْمَاعُهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَبِيلَهُمْ في متابعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي مُنَاصَرَتِهِ أَوْ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ فِيمَا بِهِ صَارُوا مُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ الْمُشَاقَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفْرِ بِالرَّسُولِ وَتَكْذِيبِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ
وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ. وَيُجَابُ: بِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ حَالَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ يَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ كَانَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجِبًا عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ لِأَنَّ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ ثَالِثًا وَهُوَ عَدَمُ الِاتِّبَاعِ أَصْلًا. سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ. قَوْلُهُ: الْمُشَاقَّةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْكُفْرِ، وَإِيجَابُ الْعَمَلِ عِنْدَ حُصُولِ الْكُفْرِ مُحَالٌ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَاقَّةَ لا تحصل إلا مع الْكُفْرِ، بَيَانُهُ: أَنَّ الْمُشَاقَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَوْنِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ فِي شِقٍّ وَالْآخَرِ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ أَصْلُ الْمُخَالَفَةِ سَوَاءٌ بَلَغَ حَدَّ الْكُفْرِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُشَاقَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْكُفْرِ فلمَ قُلْتُمْ: إِنَّ حُصُولَ الْكُفْرِ يُنَافِي الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ؟ فَإِنَّ الْكُفْرَ بِالرَّسُولِ كَمَا يَكُونُ بِالْجَهْلِ بِكَوْنِهِ صَادِقًا فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا بِأُمُورٍ أُخَرَ كَشَدِّ الزُّنَّارِ1 وَلُبْسِ الْغِيَارِ2 وَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي القاذورات، والاستخفاف بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا وَإِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ بِاللِّسَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا وَشَيْءٍ مِنْ هذه الأنواع "كفر"* لَا يُنَافِي الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْإِجْمَاعِ. ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا بِشَرْطِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ لَكِنْ بِشَرْطِ تَبَيُّنِ الْهُدَى أَوَّلًا. بِهَذَا الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مُشَاقَّةَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَطَ فِيهَا تَبَيُّنَ الْهُدَى، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَبَيُّنُ الْهُدَى شَرْطًا فِي التَّوَعُّدِ عَلَى "اتباع"** غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ "لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا في المعطوف، واللام في الهدي للاستغراق، فليزم أَنْ لَا يَحْصُلَ التَّوَعُّدُ عَلَى"*** اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا عِنْدَ تَبَيُّنِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الهدى، ومن جملة
أَنْوَاعِ الْهُدَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ الَّذِي لِأَجْلِهِ ذَهَبَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِلتَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ، "وَأَيْضًا"* فَالْإِنْسَانُ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ صِدْقُ فُلَانٍ فَاتَّبِعْهُ، فُهِمَ مِنْهُ تَبَيُّنُ صِدْقِ قَوْلِهِ بِشَيْءٍ غَيْرِ قَوْلِهِ، فَكَذَا هُنَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَبَيُّنُ صِحَّةِ إِجْمَاعِهِمْ بِشَيْءٍ وَرَاءَ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كُنَّا لَا نَتَمَسَّكُ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا بَعْدَ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلتَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ. سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَقْتَضِي الْمَنْعَ "مِنْ"** مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ هَلِ الْمُرَادُ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ عَنْ مُتَابَعَةِ بَعْضِ مَا كَانَ كَذَلِكَ. الْأَوَّلُ "مُمْتَنِعٌ"*** وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالِاسْتِدْلَالُ سَاقِطٌ أَمَّا الْمَنْعُ فَلِأَنَّ لَفْظَ الْغَيْرِ وَلَفْظَ السَّبِيلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَفْظٌ مُفْرَدٌ فَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالِاسْتِدْلَالُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ كُلَّ مَا كَانَ مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا كَانَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَالثَّانِي مُسْلِمٌ وَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّ عِنْدَنَا يَحْرُمُ بَعْضُ مَا غَايَرَ بَعْضَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ السَّبِيلُ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَالَّذِي يُغَايِرُهُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ لِوَجْهَيْنِ: "أَحَدُهُمَا"****: "أَنَّا"***** إِذَا قُلْنَا: لَا تَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ فَهُمِ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ فِيمَا صَارُوا بِهِ صَالِحِينَ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ مُتَابَعَةِ سَبِيلِ غَيْرِ الصَّالِحِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ارْتَدَّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا الْمَنْعُ مِنَ الكفر. "سلمنا خطر اتِّبَاعِ"****** غَيْرِ سَبِيلِهِمْ مُطْلَقًا لَكِنَّ لَفْظَ السَّبِيلِ حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَشْيُ وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا بِالِاتِّفَاقِ فَصَارَ الظَّاهِرُ مَتُرُوكًا وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْمَجَازِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ فَتَبْقَى الْآيَةُ مُجْمَلَةً. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنِ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ وَبَيْنَ اتِّفَاقِ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَشَرْطُ حُسْنِ التجوز حصول المناسبة
سَلَّمْنَا أَنَّهُ: يَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ ذَلِكَ الِاتِّفَاقِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَيْضًا جَعْلُهُ مَجَازًا عَنِ الدَّلِيلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فَإِنَّهُمْ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عَنِ اسْتِدْلَالٍ "أَوْ لَا عَنِ اسْتِدْلَالٍ فَإِنْ كَانَ عَنِ اسْتِدْلَالٍ"* فَقَدْ حَصَلَ لهم سبيلان: الفتوى والاستدلال عليه فلم كان حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْفَتْوَى أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ؟ بَلْ هَذَا أَوْلَى فَإِنَّ بَيْنَ الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَبَيْنَ الطَّرِيقِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَشْيُ مُشَابَهَةً فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ الْبَدَنِيَّةَ فِي الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ تُوَصِّلُ الْبَدَنَ إِلَى الْمَطْلُوبِ هَكَذَا الْحَرَكَةُ الذِّهْنِيَّةُ فِي مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ مُوَصِّلَةٌ لِلذِّهْنِ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُشَابَهَةُ إِحْدَى جِهَاتِ حُسْنِ الْمَجَازِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ تَقْتَضِي إِيجَابَ اتِّبَاعِهِمْ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اتَّفَقُوا عَلَى الْحُكْمِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى إِيجَابِ الِاسْتِدْلَالِ، بِمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْإِجْمَاعُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً. وَأَمَّا إِنْ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ لَا عَنِ اسْتِدْلَالٍ فَالْقَوْلُ لَا عَنِ اسْتِدْلَالٍ خَطَأٍ فَيَلْزَمُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ. ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْنَا دِلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، لَكِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى "وُجُوبِ"** مُتَابَعَةِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ كُلِّهِمْ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِينَ جَمْعٌ فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ أَقْوَالَ الْفِرَقِ مُتَنَاقِضَةٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يُوجَدُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُونَ فِي الْعَصْرِ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ إِجْمَاعَ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُصَدِّقُونَ "وهم"*** والموجودون، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُوجَدُوا بَعْدُ فَلَيْسُوا الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: إِذَا وُجِدَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ حُضُورِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي. قَوْلًا لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي. سَلَّمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِمُؤْمِنِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً لَكِنَّ التمسك
بِالْإِجْمَاعِ إِنَّمَا يَنْفَعُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَهْمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بَقُوا بِأَسْرِهِمْ إِلَى بَعْدِ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهَا اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ لَمْ تَدُلَّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي شَيْءٍ من الاجماعات الْمَوْجُودَةِ فِي الْمَسَائِلِ، بَلِ الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ زَمَانَ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْنَا دِلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، لَكِنْ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ أَمْ ظَنِّيَّةٌ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا نَجْعَلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةً. قُلْتُ: إِنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، بَلْ كُلُّهُمْ نَفَوْا ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَهُ دَلِيلًا أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ دَلِيلًا قَاطِعًا فَلَوْ أَثْبَتْنَاهُ دَلِيلًا ظَنِّيًّا لَكَانَ هَذَا تَخْطِئَةً لِكُلِّ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ. وَالْعَجَبُ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْإِجْمَاعَ بِعُمُومَاتِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُنْكِرَ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْعُمُومَاتُ لَا يُكَفَّرُ، وَلَا يُفَسَّقُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ لِتَأْوِيلٍ ثُمَّ يَقُولُونَ الْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مَقْطُوعٌ، وَمُخَالِفُهُ كَافِرٌ وَفَاسِقٌ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا الْفَرْعَ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ وَذَلِكَ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ. سَلَّمْنَا دِلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَكُلُّ مَا فِيهِ مَنْعٌ لِكُلِّ الْأُمَّةِ مِنَ الْقَوْلِ "بِالْبَاطِلِ"* وَالْفِعْلِ الْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} 1 {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلْ} 2؛ وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكَثِيرٌ، مِنْهَا: قِصَّةُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِيهَا ذكر الإجماع، ولو كان ذلك مدرجًا شَرْعِيًّا لَمَا جَازَ الْإِخْلَالُ بِذِكْرِهِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ أمتي" 3.
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رقاب بعض" 1. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رءوسًا جُهَّالًا فَسَأَلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" 2. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّهَا أَوَّلُ ما ينسى" 3. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِلْمُ وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ" 4. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِأَسْرِهَا تَدُلُّ عَلَى خُلُوِّ الزَّمَانِ عَمَّنْ يَقُومُ بِالْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ جَازَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ جَوَازُهُ عَلَى الْكُلِّ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّنْجِ أَسْوَدَ، كَانَ الْكُلُّ أَسْوَدَ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِدِلَالَةٍ أَوْ لِأَمَارَةٍ، فَإِنْ كَانَ لِدِلَالَةٍ فَالْوَاقِعَةُ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا كُلُّ عُلَمَاءِ الْعَالَمِ تَكُونُ وَاقِعَةً عَظِيمَةً، وَمِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَجْمَعُوا وَكَانَ يَنْبَغِي اشْتِهَارُ تِلْكَ الدِّلَالَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يبقى في التمسك
بِالْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِأَمَارَةٍ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ يَخْتَلِفُ حَالُ النَّاسِ فِيهَا، فَيَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُ الْخَلْقِ عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَلِأَنَّ فِي الْأُمَّةِ من لم يقل بقول الأمارة حجة، لا يُمْكِنُ اتِّفَاقُهُمْ لِأَجْلِ الْأَمَارَةِ عَلَى الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ لَا لِدِلَالَةٍ وَلَا لِأَمَارَةٍ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً بِالْإِجْمَاعِ فَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْمَحْصُولِ وَقَدْ أَسْقَطْنَا مِنْهُ مَا فِيهِ ضَعْفٌ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى تَعَسُّفٍ وَفِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَا يَحْتَمِلُ الْمُنَاقَشَةَ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ بِجَوَابَاتٍ مُتَعَسِّفَةٍ، يَسْتَدْعِي ذِكْرُهَا ذِكْرَ الْجَوَابِ عَلَيْهَا مِنَّا فَيَطُولُ الْبَحْثُ جِدًّا، وَلَكِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ مَا قَدَّمْنَاهُ1 كَمَا يَنْبَغِي، عَلِمْتَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ على مطلوب المستدلين منها. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 2. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَطًا، وَالْوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَمَا اتَّصَفُوا بالخيرية، وإذا ثبت أنهم لم يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً. لَا يُقَالُ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ يَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهَا، وَخِلَافُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّا نَقُولُ يَتَعَيَّنُ تَعْدِيلُهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ تَجِبُ عِصْمَتُهُمْ عَنِ الْخَطَأِ قَوْلًا وفعلا، هذا تَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَالَةَ الرَّجُلِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ وَهَذَا مِنْ فِعْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ وَسَطًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَسَطًا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَدَالَتِهِمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ الْوَسَطَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَجَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَدْلِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءِ خِيَارُهُ فلمَ قُلْتُمْ: بِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ "خَيْرِيَّةِ قَوْمٍ"* يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ لِكُلِّ الْمَحْظُورَاتِ، ولِمَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ اجْتِنَابُهُمْ لِلْكَبَائِرِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّهُ مِنَ الصَّغَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي خَيْرِيَّتِهِمْ
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَفِعْلُ الصَّغَائِرِ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اجْتِنَابُهُمُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ "فيلزم"* فيجب وُجُوبُ تَحَقُّقِ عَدَالَتِهِمْ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الشُّهُودِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَ الْأَدَاءِ، لَا حَالَ التَّحَمُّلِ. سَلَّمْنَا وُجُوبَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْتَضِي عَدَالَةَ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَالَةِ أَحَدٍ إِلَّا وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مُطَابِقٌ لِلْخَبَرِ، فَلَمَّا أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ بِعَدَالَتِهِمْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ بِخِلَافِ شُهُودِ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ جَازَتْ عَلَيْهِمُ الصَّغِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْحَاكِمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْبَاطِنِ، فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ: الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْعَدَالَةِ أَدَاءُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ عَدَالَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا. يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ صَيْرُورَتَهُمْ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ، لَقَالَ: سَنَجْعَلُكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عُدُولٌ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ لِأَمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بهذه الفضيلة وكونه الْخِطَابَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَإِلَّا لَزِمَ اخْتِصَاصُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ النُّزُولِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنَ الضَّعْفِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا فَإِنَّ ثُبُوتَ كَوْنِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِمَجْمُوعِهِمْ عُدُولًا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً شَرْعِيَّةً تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ "مَتْرُوكٌ"** إِلَى الشَّارِعِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا إِذَا أَخْبَرُونَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا كَوْنُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَمْرٍ ديني يصيره دِينًا ثَابِتًا عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَلَا هِيَ مَسُوقَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا تَقْتَضِيهِ بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تَضَمُّنٍ وَلَا الْتِزَامٍ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} 1، "وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ المفسرة
عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر"*. وهذه الخيرية توجب "الحقية"** لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِلَّا كَانَ ضَلَالًا، فَمَاذَا بعد الحق إلا الضلال. وَأَيْضًا لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ لَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكِرِ وَنَاهِينَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَالتَّخْصِيصُ بِالصَّحَابَةِ لَا يُنَاسِبُ وُرُودَهُ فِي مُقَابَلَةِ أُمَمِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْآيَةَ مَهْجُورَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ وَالْمَعْلُومُ خِلَافُهُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَمْ نُسَلِّمْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ. هَكَذَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دِلَالَةَ لَهَا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ اتِّصَافَهُمْ بِكَوْنِهِمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً شَرْعِيَّةً تَصِيرُ دِينًا ثَابِتًا عَلَى كُلِّ الْأُمَّةِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ، بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَيَنْهَوْنَ عَمَّا هُوَ مُنْكَرٌ فِيهَا فَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْكَرًا هُوَ الْكِتَابُ أَوِ السَّنَّةُ لَا إِجْمَاعُهُمْ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَصِيرُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَنَّهُ دَلِيلٌ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ الظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأُمَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَسْرِهَا، لَا أَهْلُ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِمْ بِسَائِرِ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ السُّنَّةِ، مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الْكَبِيرِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ" 1. وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ عُمُومَهُ يَنْفِي وُجُودَ الضَّلَالَةِ، وَالْخَطَأُ ضَلَالَةٌ، فَلَا يَجُوزُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: $"إِنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ: أَنْ لَا يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا، وَأَنْ لَا يَظْهَرَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَنْ لا تجتمعوا
عَلَى ضَلَالَةٍ"1. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِدُونِ قَوْلِهِ: "وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ" الْخَ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ الْخَطَأِ الْمَظْنُونِ ضَلَالَةً. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ" 2. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ وَيَظْهَرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ. ثُمَّ قَدْ وَرَدَ تَعْيِينُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَتَمَسَّكُونَ بِهِ، وَيَظْهَرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِسَبَبِهِ، فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا: "لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ" 3. "وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ حَدِيثُ: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ" وَقَدْ قَدَّمْنَا4 أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ"*. وَأَخْرَجَهُ بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظِ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ5، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لِزُهَيْرٍ6: "لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَنْهُ عصابة من
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"1. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ حَدِيثُ: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" 2، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْمَنْعُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؟ وَهُوَ كَوْنُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حُجَّةً ثَابِتَةً شَرْعِيَّةً "لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَأَيُّ مُلْجِئٍ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ وَجَعْلِهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً"* وَكِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ مَوْجُودَانِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 3، فَلَا يُرْجَعُ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ إِلَّا إِلَيْهِ وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} 4 وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّكَ إِذَا تَدَبَّرْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَعَرَفْتَ ذَلِكَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ تَبَيَّنَ لَكَ مَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ. وَلَوْ سَلَّمْنَا جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِمْكَانِهِ، وَإِمْكَانِ الْعِلْمِ بِهِ، فَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ، كَمَا قَالُوا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ "بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُقَلِّدِ"** اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ بِخُصُوصِهِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَلِمْتَ مَا هُوَ الصَّوَابُ، وَسَنَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَبَاحِثِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِدَفْعِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِهَذَا الَّذِي حررناه هنا.
الفصل الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته
الفصل الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته ... البحث الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ بُرْهَانٍ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الدَّبُّوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ أَصْلًا، وَنَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِينَ، قال: بحيث يكفر مخالفه أو يضلل يبدع. وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ: أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ فَيَكُونُ حُجَّةً قَطْعِيَّةً، وَبَيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَالسُّكُوتِيِّ، وَمَا نَدَرَ مُخَالِفُهُ فَيَكُونُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ1 وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِجْمَاعُ مَرَاتِبُ، فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ السَّابِقِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ مَا يُوجِبُ الْعَمَلَ لَا الْعِلْمَ فَهَذِهِ مَذَاهِبُ أَرْبَعَةٌ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ يَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالظَّوَاهِرِ أَمْ لَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا، قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى ثُبُوتِهِ بِهِمَا فِي الْعَمَلِ خَاصَّةً وَلَا يُنْسَخُ بِهِ قَاطِعٌ كَالْحَالِ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ "فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي العمليات لا في الْعَلْمَانِيَّاتِ"* وَقَالَ: دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهَا فِي الْعَمَلِيَّاتِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بها كان إلحاقًا بطريق القياس "ولا يجري ذلك في الأصول لأنها قواعد الشريعة فلا تنعقد لمجرد القياس"** وصحح هذا القول عبد الجبار والغزال. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْإِجْمَاعُ الْمَرْوِيُّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ حُجَّةٌ، خِلَافًا لِأَكْثَرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ حَاصِلٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ نَوْعٌ مِنَ الحجة، فيجوز
التَّمَسُّكُ بِمَظْنُونِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِمَعْلُومِهِ، قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي تَفَاصِيلِهِ. انْتَهَى. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ دَلِيلِ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، فَمَنْ شَرَطَ الْقَطْعَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَمْنَعْ، وَكَلَامُ الْجُوَيْنِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ جَارٍ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ. وَإِذَا قُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِالْآحَادِ فِي نَقْلِهِ كَالسُّنَّةِ، فَهَلْ يَنْزِلُ الظَّنُّ الْمُتَلَقَّى مِنْ أَمَارَاتٍ، وَحَالَاتٍ مَنْزِلَةَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْ نَقْلِ الْعُدُولِ؟ قال الأبياري: فيه خلاف.
الفصل الرابع: فيماينعقد به الإجماع
الفصل الرابع: فيماينعقد به الإجماع ... البحث الرابع: فيما يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الإجماع، فقال جماعة: لا بد له مِنْ مُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُمُ الِاسْتِقْلَالُ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُسْتَنَدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْعَقَدَ عَنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَاقْتَضَى إِثْبَاتَ "شَرْعٍ"*بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَحَكَى عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمُ اللَّهُ لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ مِنْ دُونِ مُسْتَنَدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي دِينِ اللَّهِ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ لَا فِي الْوُقُوعِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْخِلَافِ فِي الْوُقُوعِ، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلِهَذَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ لَا يَرْضَى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِذَلِكَ، بَلْ يَتَبَاحَثُونَ حَتَّى أَحْوَجَ بَعْضَهُمُ الْقَوْلُ فِي الْخِلَافِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ1، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ. وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَصْلَ الْخِلَافِ، هَلِ الْإِلْهَامُ دَلِيلٌ أَمْ لَا؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ، إِذَا كَانَ عَنْ دِلَالَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ فَقِيلَ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كانت الأمارة جلية أو خفيفة.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَجَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عَنْ قِيَاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَنْهُ، فِي قِيَاسِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَعْنَى وَأَمَّا قِيَاسُ الشُّبَهِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِذَا وَقَعَ عَنِ الْأَمَارَةِ وَهِيَ: الْمُفِيدُ لِلظَّنِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الظن صوابًا للدليل الدال عَلَى الْعِصْمَةِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَالظَّاهِرِيَّةُ مَنَعُوهُ لِأَجْلِ إِنْكَارِهِمُ الْقِيَاسَ، وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: الْقِيَاسُ حُجَّةٌ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إِذَا صَدَرَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ، وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَطَّانِ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَ عَلَى وُقُوعِهِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الْأَمَارَةِ جَلِيَّةً فَيَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْهَا أَوْ خَفِيَّةً فَلَا يَجُوزُ حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجْمَاعُ إِلَّا عَنْ أَمَارَةٍ وَلَا يَجُوزُ عَنْ دِلَالَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْهُ حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ1 فِي "الْمِيزَانِ" عَنْ مَشَايِخِهِمْ، وَهُوَ قَادِحٌ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَعْضُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ دِلَالَةٍ. ثُمَّ اختلف القائلون بجوز انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، هَلْ يَكُونُ حُجَّةً؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَحَكَى ابْنُ فَوْرَكٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، عَنْ قَوْمٍ مِنْهُمْ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. ثُمَّ اخنلفوا: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ طَلَبُ الدَّلِيلِ الَّذِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ نُقِلَ إِلَيْهِ كَانَ أَحَدَ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ2: إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ دِلَالَةِ آيَةٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فإنه يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ إِلَّا عن دلالة ولا يجب معرفتها.
الفصل الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع
الفصل الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع ... البحث الخامس: في اعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِ الْمُبْتَدِعِ فِي الْإِجْمَاعِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ، إِذَا كَانَتْ بِدْعَتُهُ تَقْتَضِي تَكْفِيرَهُ؟ فَقِيلَ: لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بِلَا خِلَافٍ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ كُفْرَ نَفْسِهِ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِجْمَاعِنَا عَلَى كُفْرِهِ، بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُنَا وَحْدَهُ عَلَى كُفْرِهِ "لَوْ ثَبَتَ كُفْرُهُ"* وَإِثْبَاتُ كُفْرِهِ بِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ دَوْرٌ. وَأَمَّا إذا وافقنا هو على أن مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَفَرَ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ كُفْرُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجْمَاعِ "عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ، لَا لِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ. وَأَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ مَا لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ، بَلِ التَّضْلِيلَ وَالتَّبْدِيعَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ"** لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. الثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ وِفَاقُ الْقَدَرِيَّةِ1، وَالْخَوَارِجِ2، والرافضة
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَشْهَبُ1 عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ2 عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجَوْزَجَانِيُّ3 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ4. وَحَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ5 عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِجْمَاعِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِهِمُ الْأَهْوَاءُ كَمَنْ قَالَ بِالْقَدَرِ، وَمَنْ رَأَى الْإِرْجَاءَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ آرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ6، إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ. فَإِذَا قِيلَ: قَالَتِ الْخَطَّابِيَّةُ7، وَالرَّافِضَةُ: كَذَا، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى هؤلاء في الفقه؛ أنهم ليسوا من أهله.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: الْإِجْمَاعُ عِنْدَنَا إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ. قَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْخَوَارِجِ: لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ، وَالِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ يَنْقُلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ سَلَفَنَا الَّذِينَ أَخَذْنَا عَنْهُمْ أَصْلَ الدِّينِ. وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَاسْتَقْرَأَهُ مِنْ "كَلَامِ"* أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: لَا يَشْهَدُ عِنْدِي رَجُلٌ لَيْسَ هُوَ عِنْدِي بِعَدْلٍ، وَكَيْفَ أُجَوِّزُ حُكْمَهُ. قَالَ الْقَاضِي يَعْنِي: الْجَهْمِيَّ1. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَيَنْعَقِدُ عَلَى غَيْرِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ مَنْ عَدَاهُ إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ، كَذَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُبْتَدِعِينَ دَاعِيَةً، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فَيُعْتَبَرُ، حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ "الْإِحْكَامِ" وَنَقَلَهُ عَنْ جَمَاهِيرِ سَلَفِهِمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا نُرَاعِي الْعَقِيدَةَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِ من أنكر القياس، ونسبه الأستاذ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَتَابَعَهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ قَالُوا: لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهُ لَا يَعْرِفُ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّوَاهِرِ فَهُوَ كَالْعَامِّيِّ، الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُفِيدُ خُرُوجَ مَنْ عَرَفَ الْقِيَاسَ، وَأَنْكَرَ الْعَمَلَ بِهِ كَمَا كَانَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ عَنْ عِلْمٍ بِهِ، لَا عَنْ جَهْلٍ لَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ السِّوَاكِ مِنْ "شَرْحِ مُسْلِمٍ": إِنَّ مُخَالَفَةَ دَاوُدَ لَا تَقْدَحُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، عَلَى الْمُخْتَارِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْمُفْهِمِ"2: جُلُّ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، بل هم من جملة
الْعَوَامِّ، وَإِنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِهِمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ خِلَافَ الْعَوَامِّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْمُلَخَّصِ": يُعْتَبَرُ كَمَا يُعْتَبَرُ خِلَافُ مَنْ يَنْفِي الْمَرَاسِيلَ، وَيَمْنَعُ الْعُمُومَ، وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْفِقْهِ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: الْمُحَقِّقُونَ لَا يُقِيمُونَ لِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ وَزْنًا؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَادِرَةٌ عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعضر مِعْشَارِهَا. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَنْ عَرَفَ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا وَتَدَبَّرَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَتَوَسَّعَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، عَلِمَ بِأَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ "تَفِي بِجَمِيعِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فِيهِمْ مِنْ أَكَابِرِ الْأَئِمَّةِ وَحُفَّاظِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَيِّدِينَ بِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ"* جَمْعٌ جَمٌّ، وَلَا عَيْبَ لَهُمْ إِلَّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قِيَاسٌ مَقْبُولٌ. وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا1 نَعَمْ قَدْ جَمَدُوا فِي مَسَائِلَ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ تَرْكُ الْجُمُودِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا وقع في مذهب غَيْرِهِمْ، مِنَ الْعَمَلِ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ألبتة قليلة جدًّا.
الفصل السادس: اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع
الفصل السادس: اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع ... البحث السادس: اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع إِذَا أَدْرَكَ التَّابِعِيُّ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا بِهِ، كَمَا حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ: الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ -مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَثْبُتُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي الإشعار1؛ لأن إبراهيم
النَّخَعِيَّ1 كَانَ يَكْرَهُهُ، وَهُوَ مِمَّنْ أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَثْبُتُ إِجْمَاعُهُمْ بِدُونِ قَوْلِهِ. وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ عِنْدَ إِدْرَاكِ بَعْضِ مُجْتَهَدِي التَّابِعِينَ "لَهُمْ"* هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ فَرِيضَةٍ. فَقَالَ اسْأَلُوا ابْنَ جُبَيْرٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَكَانَ أَنَسٌ يُسأل فَيَقُولُ: سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ سَمِعَ وَسَمِعْنَا وَحَفِظَ وَنَسِينَا. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ "ذَبْحِ"** الْوَلَدِ فَأَشَارَ إِلَى مَسْرُوقٍ. فَلَمَّا بَلَغَهُ جَوَابُهُ تَابَعَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْمُجْتَهِدُ التَّابِعِيُّ، الَّذِي أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ فِي إِجْمَاعِهِمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَنَفَاهُ الْقِيَاسُ وَحَكَاهُ الباجي عن ابن خويز مِنْدَادَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ"2. وَقِيلَ: إِنْ بَلَغَ التَّابِعِيُّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ فَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا، وَخَالَفَهُمْ لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُهُمْ، وَإِنْ أَجْمَعُوا قَبْلَ بُلُوغِهِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ اعْتَدَّ بِخِلَافِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِذَا عَاصَرَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، ثُمَّ اجْتَهَدَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: يُعْتَبَرُ "أَوْ"*** لَا يُعْتَبَرُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ "إِجْمَاعُ"**** الصَّحَابَةِ عَلَى اجْتِهَادِ التَّابِعِيِّ، فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِهِمْ قَطْعًا. قَالَ الْآمِدِيُّ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُهُمْ "دُونَهُ"***** اخْتَلَفُوا: فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ، قَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُهُمْ "مَعَ مخالفته، وإن
بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِهِمْ"* "لَمْ"** يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَنِ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ "سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا حَالَ إِجْمَاعِهِمْ أَوْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِمْ"*** وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ حَالَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِهِمْ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِمْ. قَالَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى.
الفصل السابع: حكم إجماع الصحابة
الفصل السابع: حكم إجماع الصحابة ... البحث السابع: حكم إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اخْتِصَاصِ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْهُ: الْإِجْمَاعُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا جَاءَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَا، وَإِذَا أَجْمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي "أَدَبِ الْجَدَلِ"1: النَّقْلُ عن داود بما إذا أجمعوا على نَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ2 ذَهَبَ: دَاوُدُ وَأَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ تَوْقِيفٍ وَالصَّحَابَةُ هُمُ الَّذِينَ شهدوا التوقيف.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْبَأَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ" 1. وَالثَّانِي: أَنَّ سِعَةَ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَكَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا تُمَكِّنُ مِنْ ضَبْطِ أَقْوَالِهِمْ، وَمَنِ ادَّعَى هَذَا لا يخفى على أحد كذبه.
الفصل الثامن: حكم إجماع أهل المدينة
الفصل الثامن: حكم إجماع أهل المدينة ... البحث الثامن: حكم إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى انْفِرَادِهِمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَجْمَعُوا لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ "اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ"1: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ حُجَّةٌ، وَمَا سمعت أحد ذَكَرَ قَوْلَهُ إِلَّا عَابَهُ وَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدِي مَعِيبٌ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ مَالِكٌ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ2 وَحْدَهُمْ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ. وَيُشْكِلُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ "أَنَّهُ نَقَلَ فِي الْمُوَطَّأِ3 فِي بَابِ: الْعَيْبِ فِي الرَّقِيقِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ"*عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ لَا يَجُوزُ، ولا يبرئ من
الْعَيْبِ أَصْلًا عِلْمُهُ أَوْ جَهْلُهُ، ثُمَّ خَالَفَهُمْ فَلَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لَمْ تَسَعْ مُخَالَفَتُهُ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ النَّقْلَ الْمُسْتَفِيضَ، كَالصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَعَدَمِ وجوب الزكاة في الخضراوات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ لَعَلِمَ، فَأَمَّا مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ عَنْ شَيْخِهِ الْأَبْهَرِيِّ، وَقِيلَ: يُرَجَّحُ نَقْلُهُمْ عَنْ نَقْلِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي الْقَدِيمِ وَرَجَّحَ رِوَايَةَ "أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ"*، وَحَكَى يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى1 قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَجَدْتَ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي قَلْبِكَ شَكٌّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَكُلَّمَا جَاءَكَ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَا تَعْبَأْ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ نَقْلِيٍّ وَاسْتِدْلَالِيٍّ. فَالْأَوَّلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ، مِنْهُ نَقْلُ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مِنْ"** قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَالْأَوَّلُ: كَنَقْلِهِمُ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَالْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالْأَوْقَاتَ والأجناس ونحوه. وَالثَّانِي: نَقْلُهُمُ الْمُتَّصِلُ كَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تُزْرَعُ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لَا "يَأْخُذُونَهَا مِنْهَا"*** قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ يَلْزَمُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَتَرْكُ الْأَخْبَارِ وَالْمَقَايِيسِ بِهِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ قَالَ: وَالثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا بِمُرَجَّحٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيِّ2، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ فَوْرَكٍ، وَالطَّيَالِسِيِّ3، وَأَبِي الْفَرَجِ وَالْأَبْهَرِيِّ وَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَذْهَبًا لمالك.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ مُرَجَّحٌ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشافعي. ثالثها: أنه حجة "وإن لم"* ولم يُحَرَّمْ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الحسين بن عمر1 قال أبي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ2: أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ كُلُّ ذَلِكَ نَقْلُ مُحَصَّلٍ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ فَإِنَّهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ تُحِيلُ الْعَادَةُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤَ عَلَى خِلَافِ الصِّدْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ أَوْلَى مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ وَالظَّوَاهِرِ. ثُمَّ قَالَ: وَالنَّوْعُ الِاسْتِدْلَالِيُّ إِنْ عَارَضَهُ خَبَرٌ فَالْخَبَرُ أَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا. وَقَدْ صَارَ جَمَاعَةٌ "مِنْ أَصْحَابِنَا"** إِلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْخَبَرِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ إِجْمَاعُ كُلِّ الْأُمَّةِ لَا بَعْضُهَا. وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْمِصْرَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الحرمين و"أهل"*** المصرين حُجَّةٌ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَهُوَ قَائِلٌ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْمِصْرَيْنِ بِالْأَوْلَى، قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا خَصُّوا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ يَعْنِي: الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِهَا لِاعْتِقَادِهِمْ تَخْصِيصَ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ مَوَاطِنَ الصَّحَابَةِ مَا خَرَجَ مِنْهَا إِلَّا الشُّذُوذُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ لَمْ يُعَمِّمُوا فِي كُلِّ عَصْرٍ، بَلْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ قِيلَ: إِنَّ الْمُخَالِفَ أَرَادَ زَمَنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ فَمُسَلَّمٌ لَوِ اجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِيهَا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ "إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ"**** وذهب "الجمهور أيضًا إلى أن إجماع
الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ"*. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لِمَا وَرَدَ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ" 1، وَقَوْلِهِ: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ" 2 وَهُمَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ فِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، لَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حجة على غيرهم، فإن المجتهد "متعبد"** بِالْبَحْثِ عَنِ الدَّلِيلِ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَا يَظُنُّهُ حَقًّا، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ لَكَانَ حَدِيثُ: "رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ" 3 يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثُ: "إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ" 4 يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِهِ وَهُمَا، حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ. وَهَكَذَا حَدِيثُ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ" 5 يُفِيدُ حُجِّيَّةَ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ فِي رِجَالِهِ عَبْدَ الرَّحِيمِ "بْنَ زَيْدٍ6"*** الْعَمِّيِّ عَنْ أَبِيهِ وَهُمَا ضَعِيفَانِ
جِدًّا، بَلْ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحِيمِ كَذَّابٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَتْرُوكٌ وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِيهَا حَمْزَةُ النَّصِيبِيُّ1 وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا يُسَاوِي فَلْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ2: عَامَّةُ مَرْوِيَّاتِهِ مَوْضُوعَةٌ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَمِيلِ بْنِ زَيْدٍ3 وَهُوَ مجهول. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْعِتْرَةِ وَحْدَهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَالَتِ الزَّيْدِيَّةُ4 وَالْإِمَامِيَّةُ: هُوَ حجة، واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 5، وَالْخَطَأُ رِجْسٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُطَهَّرِينَ عَنْهُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يُفِيدُ أَنَّهُ فِي نسائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَيْنِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي تَفْسِيرِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ "فَتْحَ الْقَدِيرِ"6 فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَخْفَاكَ أَنَّ كَوْنَ الْخَطَأِ رِجْسٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةٌ وَلَا شَرْعٌ فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْقَذِرُ، وَيُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْعَذَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَب} 7 وقوله: {مِنْ رِجْزٍ أَلِيم} 8 والرجز الرجس. واستدلوا بمثل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 9، وَبِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ جِدًّا تَشْتَمِلُ عَلَى مَزِيدِ شَرَفِهِمْ وَعَظِيمِ فَضْلِهِمْ، وَلَا دِلَالَةَ فِيهَا عَلَى حُجِّيَّةِ قَوْلِهِمْ وَقَدْ أَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْأُمَّةِ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَوُرُودُهُ عَلَى الْقَوْلِ بحجية بعضها أولى.
الفصل التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع
الفصل التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع ... البحث التاسع: في عَدَمُ اعْتِبَارِ مَنْ سَيُوجَدُ فِي الْإِجْمَاعِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَنْ سَيُوجَدُ، وَلَوِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِجْمَاعٌ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَكْلِيفَ فَلَا يَكُونُ فِي الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي عيسى "الوراق1"* وأبي عبد الرحمن الشافعي، كما حكاه الأستاذ أبو منصور.
الفصل العاشر: في حكم انقراض عصر أهل الإجماع في حجية إجماعهم
الفصل العاشر: في حكم انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ ... البحث العاشر: في حكم انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ اخْتَلَفُوا هَلْ يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَلَا يُشْتَرَطُ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بِالسُّكُوتِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْقَائِلِ فَيُشْتَرَطُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: إِنْ كَانَ عَنْ قِيَاسٍ كَانَ شَرْطًا وإلا فلا.
الفصل الحادي عشر: الإجماع السكوتي
الفصل الْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ ... الْبَحْثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ الاجتهاد بقول، وينتشر فِي الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَيَسْكُتُونَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمُ اعْتِرَافٌ، وَلَا إِنْكَارٌ.
وَفِيهِ مَذَاهِبُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، قَالَهُ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَابْنُهُ وَالْمُرْتَضَى وَعَزَاهُ الْقَاضِي إِلَى الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ آخِرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ: إِنَّهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَسْمِيَتِهِ إجماعا، مع اتفاقهم على وجوب العمل به. وقال أبو حامد الإسفراييني1: هُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا، وَفِي تَسْمِيَتِهِ إِجْمَاعًا "وَجْهَانِ"* أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَإِنَّمَا هُوَ حُجَّةٌ كَالْخَبَرِ، وَالثَّانِي يُسَمَّى إِجْمَاعًا وَهُوَ قَوْلُنَا. انْتَهَى. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، بِأَنَّ سُكُوتَهُمْ ظَاهِرٌ فِي الْمُوَافَقَةِ إِذْ يَبْعُدُ سُكُوتُ الْكُلِّ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخَالَفَةِ عَادَةً فَكَانَ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِلظَّنِّ بِالِاتِّفَاقِ. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُ مَنْ سَكَتَ عَلَى الْإِنْكَارِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ، أَوْ لِعَدَمِ حُصُولِ مَا يُفِيدُهُ الِاجْتِهَادُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا أَوْ لِلْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا سَلَفَ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَلَمْ يَصِرْ أَحَدٌ إِلَى عَكْسِ هَذَا الْقَوْلِ يعني أنه اجتماع لَا حُجَّةٌ، وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ كَالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِالْأَحَادِيثِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لَا عَنْ رِضًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فَوْرَكٍ "كتابه"2 في كتاب عن أكثر
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ1 عَنِ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ2: إِنَّهُ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ": إِنَّهُ الْمَذْهَبُ قَالَ: فَأَمَّا قَبْلَ الِانْقِرَاضِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَالثَّانِيَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِجْمَاعٌ إِنْ كَانَ فُتْيَا لَا حُكْمًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صُدُورِهِ عَنِ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ. وَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ، فَلَا يَكُونُ السُّكُوتُ دَلِيلَ الرِّضَا، وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا وَلَا نُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضًا مِنَّا بِذَلِكَ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إِجْمَاعٌ إِنْ كَانَ صَادِرًا عن "حكم، لا إن كَانَ صَادِرًا عَنْ"* فُتْيَا، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الْحَاكِمِ يَكُونُ عَنْ مُشَاوَرَةٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنِ الصَّيْرَفِيِّ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ مِنْ إِرَاقَةِ دَمٍ، أَوِ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ كَانَ إِجْمَاعًا وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ وَفِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا، وَجْهَانِ حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَائِلٍ. الْقَوْلُ الثَّامِنُ: إِنْ كَانَ السَّاكِتُونَ أَقَلَّ كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الزَّرْكَشِيُّ، وَهُوَ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُهُ. الْقَوْلُ التَّاسِعُ: إِنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَانَ إِجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي" وَالرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ فَإِذَا قَالَ الواحد منهم قولًا أو
حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ فَهَذَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ دَمٍ وَاسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى ترك إنكار منكر. والثاني* إن كَانَ مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَانَ حُجَّةً لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ غَيْرِهِمْ وَفِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إِجْمَاعًا لَا يَسُوغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ، وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَوْلُ فُتْيَا أَوْ حُكْمًا عَلَى الصَّحِيحِ. الْقَوْلُ الْعَاشِرُ: أَنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّا يَدُومُ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ وَالْخَوْضُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ السُّكُوتُ إِجْمَاعًا، وَبِهِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا فِي صُورَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سُكُوتُهُمْ وَقَدْ قَطَعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَاطِعٌ لَا فِي مَظِنَّةِ الْقَطْعِ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ. الثَّانِي: مَا يَسْكُتُونَ عَلَيْهِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْعَصْرِ، وَتَكُونُ الْوَاقِعَةُ بِحَيْثُ لَا يُبْدِي أَحَدٌ خِلَافًا فَأَمَّا إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسًا فَأَفْتَى وَاحِدٌ وَسَكَتَ آخَرُونَ فَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَظْنُونَةً، وَالْأَدَبُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْتَرَضَ عَلَى الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ. الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ إِجْمَاعٌ بِشَرْطِ إِفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوجَدَ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَا السَّاكِتِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى1، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ أَحَقُّ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ إِفَادَةَ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا، كَإِفَادَةِ النُّطْقِ لَهُ فَيَصِيرُ كَالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ. الْقَوْلُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ لَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِلسُّكُوتِ، لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ مِنْ عَدَمِ إِنْكَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِمَذْهَبِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَذَاهِبِ غَيْرِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ هَذَا فِي الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ إِذَا كان سكوتًا عن قول "لمذهب"**.
وَأَمَّا لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى عَمَلٍ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ إِنَّهُ كَفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثوبتها لِلشَّارِعِ، فَكَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَأَفْعَالِهِ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ: إِنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ بِالْمَنْعِ وَنَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ عَنِ الْقَاضِي إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُ قَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ عَدَدًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ "أَرَبٍ"* فَالتَّوَاطُؤُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَقِيلَ إِنَّ كُلَّ فِعْلٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبَيَانِ أَوْ مَخْرَجَ الْحُكْمِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ، وبه قال ابن السمعاني
الفصل الثاني عشر: حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه
الفصل الثاني عشر: حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه ... البحث الثاني عشر: حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه هل يجوز الإجماع على شيء قد وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ؟ فَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ الثَّانِي مِنَ الْمُجْمِعِينَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ كما لو اجتمع أهل "عصر"* عَلَى حُكْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ظَهَرَ لَهُمْ فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، فَمَنِ اعْتَبَرَهُ جَوَّزَ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ لَمْ يُجَوِّزْهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَصَادُمُ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَهُوَ الْأَوْلَى، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ "الْأَوَّلِ"** حُجَّةً يَقْتَضِي امْتِنَاعَ حُصُولِ إِجْمَاعٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِإِمْكَانِ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ حُجَّةً إِلَى غَايَةٍ هِيَ حُصُولُ إِجْمَاعٍ آخَرَ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَمَأْخَذُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوِيٌّ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي"أَدَبِ*** الْجَدَلِ" لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا إِذَا أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلٍ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ مثله لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَالثَّانِي: لَوْ صَحَّ وُقُوعُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة، قال: وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ وَصَوَابٌ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مصيب، وليس بشيء. انتهى.
الفصل الثالث عشر: في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف
الفصل الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سَبْقِ الْخِلَافِ ... الْبَحْثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سَبْقِ الْخِلَافِ قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ خِلَافًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَكَثِيرٍ مِنْ "فُقَهَاءِ"* الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُمْ قَوْلٌ كَخِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ" صَارَتِ الْمَسْأَلَةُ إِجْمَاعِيَّةً بِلَا خِلَافٍ، وَحَكَى الْجُوَيْنِيُّ وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ خَالَفَ فِي ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ وَيَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِالْمَنْعِ وَإِلَيْهِ مَالَ الْغَزَالِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "اللُّمَعِ"، وَنَقَلَ الْجُوَيْنِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ الْجَوَازَ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ، وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْجَوَازُ فِيمَا كَانَ دَلِيلُ خِلَافِهِ "الْأَمَارَةَ وَالِاجْتِهَادَ دُونَ مَا كَانَ دَلِيلُ خِلَافِهِ"** الْقَاطِعِ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ نَقْلِيًّا، وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إِجْمَاعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. فَأَمَّا لَوْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ "أهل"*** عَصْرٍ ثُمَّ مَاتَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ وَبَقِيَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّهُ يَكُونُ قَوْلُ الْبَاقِينَ إِجْمَاعًا وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالْهِنْدِيُّ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": لِأَنَّ بِالْمَوْتِ ظَهَرَ انْدِرَاجُ قَوْلِ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَحْدَهُ تَحْتَ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا قَالَ: لِأَنَّ الْمَيِّتَ فِي حُكْمِ الْبَاقِي الْمَوْجُودِ، وَالْبَاقُونَ هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا، وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ البغدادي في
كِتَابِ "الْجَدَلِ"1، وَكَذَا الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي"2، وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا ثَالِثًا، فَقَالَ: إِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ صَارَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ قَوْلَ الطَّائِفَةِ الْمُتَمَسِّكَةِ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو مِنْهُ زَمَانٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الْمُنْقَرِضَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حُجَّةً، وَإِنْ سَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ لَمْ يَصِرْ إجماعًا لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف.
الفصل الرابع عشر: إذا اختلفت أهل العصر في مسألة على قولين
الفصل الرابع عشر: إذا اختلفت أهل العصر في مسألة على قولين ... الْبَحْثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ سِوَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، قَالَ الْكِيَا: إِنَّهُ صَحِيحٌ وَبِهِ الْفَتْوَى، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ وَلَمْ يَحْكِيَا خِلَافَهُ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ دَاوُدَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا حَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَنَسَبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إِلَى دَاوُدَ وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إِلَى دَاوُدَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْقَوْلَيْنِ إِنْ لَزِمَ مِنْهُ رَفْعُهُمَا لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ وَإِلَّا جَازَ، وَرُوِيَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّ الْقَوْلَ الْحَادِثَ الرَّافِعَ لِلْقَوْلَيْنِ مُخَالِفٌ لِمَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلَ الْحَادِثَ الَّذِي لَمْ يَرْفَعِ الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُمَا، بَلْ مُوَافِقٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الِاخْتِلَافُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي فِي الْقَوْلِ الزَّائِدِ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَا يَأْتِي فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْخِلَافِ. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَدِ اسْتَقَرَّ أَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ من إحداث قول آخر.
الفصل الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدليل أو التأويل الأول
الفصل الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدليل أو التأويل الأول ... البحث الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدَّلِيلِ أَوِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ إِذَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعَصْرِ بِدَلِيلٍ وَأَوَّلُوا بِتَأْوِيلٍ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إِلْغَاءِ للأول، أَوْ إِحْدَاثُ تَأْوِيلٍ غَيْرِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ وَالِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ بِكَوْنِهِ كذا، وأما في الِاسْتِدْلَالُ بِالدَّلِيلِ أَوِ الْعَمَلُ بِالتَّأْوِيلِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ عَنْ دِلَالَتِهِمْ، وَيَكُونُ إِجْمَاعًا عَلَى الدَّلِيلِ لَا عَلَى الْحُكْمِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَحْكَامُهَا لَا أَعْيَانُهَا، نَعَمْ إِنْ أَجْمَعُوا عَلَى إِنْكَارِ الدَّلِيلِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى الْوَقْفِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّصِّ فَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ، "وَذَهَبَ ابْنُ بُرْهَانٍ إِلَى تَفْصِيلٍ آخَرَ بَيْنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ"* إِحْدَاثُهُ وَبَيْنَ الْخَفِيِّ فَيَجُوزُ، لِجَوَازِ اشْتِبَاهِهِ عَلَى الْأَوَّلِينَ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ إِبْطَالُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَمْتَنِعَ. وَأَمَّا إِذَا عَلَّلُوا الْحُكْمَ بِعِلَّةٍ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُعَلِّلَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: هِيَ كَالدَّلِيلِ فِي جَوَازِ إِحْدَاثِهَا، إِلَّا إِذَا قَالُوا: لَا عِلَّةَ إِلَّا هَذِهِ، أَوْ تَكُونُ الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ مُخَالِفَةً لِلْعِلَّةِ الْأُوْلَى فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ فَتَكُونُ حينئذ الثانية فاسدة
الفصل السادس عشر: في وجود دليل لا معارض له لم يعلمه أهل الإجماع
الفصل السادس عشر: في وُجُودِ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ لَمْ يَعْلَمْهُ أهل الإجماع ... البحث السادس عشر: في وُجُودِ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ لَمْ يَعْلَمْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ دَلِيلٍ لَا معارض له اشتراك أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ؟ قِيلَ: بِالْجَوَازِ إِنْ كَانَ عَمَلُ الْأُمَّةِ مُوَافِقًا لَهُ، وَعَدَمِهِ إِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَقِيلَ: بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْأُمَّةِ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بما لم يكفلوا بِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ
إِذَا كَانَ صَوَابًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ مَحْذُورٌ. وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَكَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ سَبِيلًا لَهُمْ، وَكَانَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ فيه حتى يحرم تفصيل الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": هُمَا مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: هَلْ يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْأُمَّةِ فِي الْجَهْلِ بِمَا لَمْ يُكَلَّفُوا بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. الثَّانِيَةُ: هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ وَتَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ. وَأَمَّا "إِذَا ذَكَرَ"* وَاحِدٌ مِنَ الْمُجْمِعِينَ خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. فَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ": إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ "وَالْإِصْرَارُ عَلَى الإجماع، وقال قوم من الأصوليين: بل يجب عليه الرجوع إلى موجب الحديث"**، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ الْمَذَاهِبِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَصَمَ الْأُمَّةَ عَنْ نِسْيَانِ حَدِيثٍ فِي الْحَادِثَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ خَرَجَ الْإِجْمَاعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، وَبَنَاهُ فِي "الْأَوْسَطِ"1 عَلَى الْخِلَافِ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ مَنَعَ الرُّجُوعَ، وَمَنِ اشْتَرَطَ جَوَّزَهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْحَدِيثِ احْتِمَالَاتٌ مِنَ النَّسْخِ، وَالتَّخْصِيصِ مَا لا يتطرق إلى الإجماع
الفصل السابع عشر: قول العوام في الإجماع
الفصل السابع عشر: قول العوام في الإجماع مدخل ... البحث السابع عشر: قول الْعَوَامِّ فِي الْإِجْمَاعِ لَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْعَوَامِّ في الإجماع، ولا وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا، عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلَا يَفْهَمُونَ الْحُجَّةَ وَلَا يَعْقِلُونَ الْبُرْهَانَ. وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْأُمَّةِ حُجَّةً لِعِصْمَتِهَا مِنَ الْخَطَإِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ عَالِمِهَا وَجَاهِلِهَا، حَكَى هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بكر
قَالَ فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ"1: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا أَجْمَعَ "عُلَمَاءُ"* الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ "فَهَلْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عليه؟ قلنا: من الْأَحْكَامِ"** مِمَّا يَحْصُلُ فِيهِ اتِّفَاقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهِمَا فَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الَّتِي تَشِذُّ عَنِ الْعَوَامِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك، فقال بَعْضُهُمُ: الْعَوَامُّ يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا تَفَاصِيلَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ عَرَفُوا عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ فِي تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَهَذَا مُسَاهَمَةٌ مِنْهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ زَعَمَ "أَنَّهُمْ"*** لَا يَكُونُونَ مُسَاهِمِينَ فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ فِي التَّفَاصِيلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ"2: اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَقَالَ قَوْمٌ الْعَامَّةُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ حَتَّى لَا تَسُوغَ مُخَالَفَتُهُمْ إِلَّا بِأَنْ يَتْبَعَهُمُ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي مِنَ الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ الْعَامَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ. قَالَ الرُّوْيَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ"3: إِنِ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الْعُلَمَاءُ كَنَصْبِ الزَّكَوَاتِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا لَمْ يُعْتَبَرْ، وِفَاقُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ إِجْمَاعُ الْعَوَامِّ مَعَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَصِحُّ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَالثَّانِي يَعُمُّ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: إِجْمَاعُ الْخَاصَّةِ هَلْ يُحْتَاجُ مَعَهُمْ فِيهِ إِلَى إِجْمَاعِ الْعَامَّةِ، فِيهِ وَجْهَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: حُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْعَامِّيِّ فِي ذَلِكَ؛ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ والمجتهد.
فرع: إجماع العوام
فرع: إِجْمَاعِ الْعَوَامِّ إِجْمَاعُ الْعَوَامِّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا؟ فَالْقَائِلُونَ باعتبارهم في الإجماع، مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ، وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو عَنْ قَائِمٍ بِالْحُجَّةِ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ هَذَا التقدير.
الفصل الثامن عشر: الإجماع المعتبر
الفصل الثامن عشر: الإجماع المعتبر ... البحث الثامن عشر: الإجماع المعتبر الْإِجْمَاعُ الْمُعْتَبَرُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ هُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ ذَلِكَ الْفَنِّ الْعَارِفِينَ بِهِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِي الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَنْ عَدَا أَهْلَ ذَلِكَ الْفَنِّ هُوَ فِي حُكْمِ الْعَوَامِّ فَمَنِ اعْتَبَرَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ اعْتَبَرَ غَيْرَ أَهْلِ الْفَنِّ وَمَنْ لَا فَلَا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ فَقَالَ فِي كِتَابِ "الْخَصَائِصِ"1: إِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي إِجْمَاعِ النُّحَاةِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْكَلَامِ، وَالْأُصُولِيِّ فِي الْأُصُولِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ، وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ الْمَاهِرُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْفِقْهِ فَفِي اعْتِبَارِ خِلَافِهِ فِي الْفِقْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَبَرٌ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ. وَذَهَبَ مُعْظَمُ الأصوليين منهم أبو الحسن ابن الْقَطَّانِ إِلَى أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُفْتِينَ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَزِمَ أَنْ يَسْتَفْتِيَ الْمُفْتِيَ فِيهَا، قَالَ إِلْكِيَا: وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ مَنْ أَحْكَمَ "الْأَصْلَيْنِ"* الأصوليين فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِمَا، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ "الدَّلَائِلِ"2: إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ سَوَاءٌ الْمُتَكَلِّمُ وَغَيْرُهُ وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّنُوا الْعِلْمَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ وَهُمُ الْقَائِمُونَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا مَنِ انْفَرَدَ بِالْكَلَامِ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا عَلَى مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانُوا حُذَّاقًا بدقائق الكلام.
الفصل التاسع عشر: مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع
الفصل التاسع عشر: مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع ... البحث التاسع عشر: مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع إِذَا خَالَفَ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ وَاحِدٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا يُقَالُ لِهَذَا شَاذٌّ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَنْ كَانَ فِي الجملة ثم شذ "عنهم"* كيف يكون محجوجًا بِهِمْ وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ إِلَّا بِهِ قَالَ: إِلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَيَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِمْ أَمَّا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَا لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْمَذْهَبُ انْعِقَادُ إِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطِ1 مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ2 وَالِدُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّرْطُ أَنْ يَجْمَعَ جُمْهُورَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ وَوُجُوهَهُمْ وَمُعْظَمَهُمْ وَلَسْنَا نَشْتَرِطُ قَوْلَ جَمِيعِهِمْ، وَكَيْفَ نَشْتَرِطُ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَنْ لَمْ نَسْمَعْ بِهِ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا "يَعْلَمُونَ"** وَيَتَسَتَّرُونَ بِالْعِلْمِ فَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ جَارُهُ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اسْتَخْلَفُوا "أَبَا بَكْرٍ" انْعَقَدَتْ خِلَافَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْحَاضِرِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ غَابَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَمِنْ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْبَيْعَةَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ مع اتفاق الأكثرين
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ. وَاحْتَجَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَقَلِّ بِارْتِكَابِهِ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا يَشُقُّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ لَا فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَدْ شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ خِلَافُهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ قُدِّرَ الْمُخَالِفُ مَعَ كَثْرَةِ الْمُجْمِعِينَ، لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ لِبُعْدِ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ مُتَمَسِّكَ الْمُخَالِفِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَدَدَ الْأَقَلِّ إِنْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ دُونَهُمْ كَذَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بكر: إنه الَّذِي يَصِحُّ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: اتِّبَاعُ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَيَجُوزُ خِلَافُهُ حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ. وَقِيلَ: إنه لا ينعقد "الإجماع"* مع مخالفة الاثني دُونَ الْوَاحِدِ. وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ مَعَ مُخَالَفَةِ الثلاثة دُونَ الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ، حَكَاهُمَا الزَّرَكْشِيُّ فِي "الْبَحْرِ". وقيل: إن استوعب الجماعة الاجتهاد فيها يُخَالِفُهُمْ، كَانَ خِلَافُ الْمُجْتَهِدِ مُعْتَدًّا بِهِ، كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ1 وَإِنْ أَنْكَرُوهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وأبو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ2 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ شَمْسُ الأئمة السرخسي: إنه الصحيح.
الفصل الموفي عشرين: الإجماع المنقول بطريق الآحاد وحجيته
الفصل الموفي عشرين: الإجماع المنقول بطريق الآحاد وحجيته ... البحث الموفي عشرين: الإجماع المنقول بطريق الآحاد وحجيته الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ حُجَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيُّ، وَنُقِلَ عَنِ الْجُمْهُورِ اشْتِرَاطُ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَحَكَى الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ الْمَرْوِيُّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ حُجَّةٌ "خِلَافًا"* لِأَكْثَرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ حَاصِلٌ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ نَوْعٌ مِنَ الْحُجَّةِ، فَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِمَظْنُونِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِمَعْلُومِهِ، قِيَاسًا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَفَاصِيلِهِ انْتَهَى. وَأَمَّا عَدَدُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ: فَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ خِلَافًا للقاضي، وَنَقَلَ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ يَجُوزُ انْحِطَاطُ عَدَدِهِمْ عَقْلًا عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ: وَعَنْ طَوَائِفَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْلًا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ فَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: يَجُوزُ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً. "قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْمُشْتَرِطُونَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أن ينقص عدد"** المجمعين عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ مَا دَامَ التَّكْلِيفُ بِالشَّرِيعَةِ بَاقِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ، لَكِنْ يَقْطَعُ بِأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ لَيْسَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَلَا تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْلَمَ إِيمَانُهُمْ بِالْقَرَائِنِ لَا يُشْتَرَطُ "فيه ذلك"*** بَلْ يَكْفِي فِيهِ الظُّهُورُ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِكَوْنِهِ كَاشِفًا عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَهُوَ يُوجِبُ كَوْنَهُ مُتَوَاتِرًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا فِيمَا يَقُومُ مَقَامَ نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا وَهُوَ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَإِلَّا لَمْ يَقْطَعْ بِوُجُودِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي الْعَصْرِ إِلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ فَقَوْلُهُ حُجَّةٌ "كَالْإِجْمَاعِ"****، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْوَاحِدِ أُمَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة} 1 ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين.
قَالَ الزَّرَكْشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ "الْوَدَائِعِ"1 فَقَالَ: وَحَقِيقَةُ الْإِجْمَاعِ، هُوَ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ فَهُوَ إِجْمَاعٌ وَكَذَا إِنْ حَصَلَ مِنِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَالْحُجَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إِجْمَاعٌ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عنه "لما منعت بنو حنيفة من الزكاة"* فكانت "بمطالبة"** أَبِي بَكْرٍ لَهَا حَقًّا عِنْدَ الْكُلِّ، وَمَا انْفَرَدَ لِمُطَالَبَتِهَا غَيْرُهُ، هَذَا كَلَامُهُ، وَخِلَافُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ أَوْلَى، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حُجَّةٌ. قَالَ إِلْكِيَا: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَصَوُّرِ اشْتِمَالِ الْعَصْرِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهُ، وَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ خِلَافٌ، وَبِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. قَالَ: وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ "لَمْ يَرَ فِي اخْتِصَاصِ"*** الْإِجْمَاعِ بِمَحَلٍّ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ، فسوى بين العدد والفرد. وأما المحققون سواء فإنهم يعبرون الْعَدَدَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، فَإِذَا مُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدٌ إِلَى طَرْدِ الْعَادَةِ بِتَوْبِيخِ مَنْ يُخَالِفُ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي وُفُورَ عَدَدٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَصْرِ إِلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ اسْتِيعَابُ مَدَارِكِ الِاجْتِهَادِ.
خاتمة
خَاتِمَةٌ: قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَذَا، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، لِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حزم في "الأحكام"؛ وَقَالَ فِي كِتَابِ "الْإِعْرَابِ"1: أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الرِّسَالَةِ"2، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الَّذِينَ كَشَفُوا الْإِجْمَاعَ وَالِاخْتِلَافَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَالَ لَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا، فَإِنْ لَمْ يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط
بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، لَمْ يَثْبُتِ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَأَثْبَتَ الْإِجْمَاعَ "بِهِ قَوْمٌ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ"*. "قَالَ ابْنُ حَزْمٍ"**: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا قَالَ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَهُوَ قَوْلٌ فاسد، و"لو"*** قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ1 فَإِنَّا لا نعلم أحدًا مِنْهُ لِأَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنْ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَبِيعٌ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ فَإِنَّ قَوْمًا يَرَوْنَ الزَّكَاةَ عَلَى خَمْسٍ كَزَكَاةِ الْإِبِلِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي "مُوَطَّئِهِ" -وَقَدْ ذَكَرَ الْحُكْمَ بِرَدِّ الْيَمِينِ-: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَا بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ. وَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ. وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَى رَدَّ الْيَمِينِ، وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَكَمُ2 وَغَيْرُهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُمْ كَانُوا الْقُضَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مِثْلَ مَنْ ذَكَرْنَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ فَمَا ظَنُّكَ بغيره.
المقصد الرابع: في الأوامر والنواهي والعموم ...
المقصد الرابع: في الأوامر والنواهي والعموم ... الفصل الأول: في مَبَاحِثُ الْأَمْرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: حَقِيقَةُ لَفْظِ الْأَمْرِ ... الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ: فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، والإطلاق والتقييد، والإجمال والتبيين، والناسخ والمنسوخ، والمؤول والمنطوق والمفهوم. الفصل الأول: حَقِيقَةِ لَفْظِ الْأَمْرِ قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ، فَزَعَمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ، وَزَعَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَبَيْنَ الشَّيْءِ، وَبَيْنَ الصِّفَةِ، وَبَيْنَ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ فَقَطْ. لنا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ. انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِ أَحَدِ الْمَعَانِي حَقِيقَةً لَا ينفي حقيقة ما عداه، والأولى أَنْ يُقَالَ: أَنَّ الَّذِي سَبَقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ أَلِفٍ، مِيمٍ، رَاءٍ، عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ، وَالسَّبْقُ إِلَى الْفَهْمِ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَلَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَتَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ جَمِيعُ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مُتَوَاطِئًا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ عَلَى انْفِرَادِهِ "وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا"* عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ: بِأَنَّهُ لَوْ كان حقيقة في الفعل لاطرد و"كان"** يُسَمَّى الْأَكْلُ أَمْرًا، وَالشُّرْبُ أَمْرًا، وَلَكَانَ يَشْتَقُّ لِلْفَاعِلِ اسْمَ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَامَ أَوْ قَعَدَ لَا يُسَمَّى آمِرًا. وَأَيْضًا الْأَمْرُ لَهُ لَوَازِمُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْفِعْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ. وَأَيْضًا يَصِحُّ نَفْيُ الْأَمْرِ عَنِ الْفِعْلِ، فَيُقَالُ: مَا أَمَرَ بِهِ وَلَكِنَ فَعَلَهُ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ مِنْ شَأْنِ الْحَقِيقَةِ الِاطِّرَادُ، وَبِمَنْعِ لُزُومِ الِاشْتِقَاقِ فِي كُلِّ الْحَقَائِقِ، وَبِمَنْعِ عَدَمِ وُجُودِ شَيْءٍ مِنَ اللَّوَازِمِ فِي الْفِعْلِ وَبِمَنْعِ تَجْوِيزِهِمْ لِنَفْيِهِ مُطْلَقًا. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْأَمْرِ فِي الْفِعْلِ، وظاهر الاستعمال الحقيقة، ومن ذلك
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّور} 1 وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْعَجَائِبُ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَوْلُهُ: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 2 أَيْ: مِنْ فِعْلِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر} 3 وقوله: {تَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِه} 4 وقوله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِه} 5، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِأَمْرٍ مَا يَسُودُ مَنْ يَسُودُ6 وَقَوْلُ الْعَرَبِ فِي أَمْثَالِهَا الْمَضْرُوبَةِ: لِأَمْرٍ مَا جُدِعَ قَصِيرُ أَنْفِهِ7، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ بَيْنَ جَمْعِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ "وَبَيْنَ جَمْعِهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ"* فَقِيلَ فِي الْأَوَّلِ: أَوَامِرُ وَفِي الثَّانِي أُمُورٌ، وَالِاشْتِقَاقُ عَلَامَةُ الْحَقِيقَةِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي الْفِعْلِ، مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فَعَلَ أَمَّا قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْقَوْلُ أَوِ الشَّأْنُ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ لِعُمُومِ كَوْنِهِ شَأْنًا لَا لِخُصُوصِ كَوْنِهِ فِعْلًا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قوله سبحانه: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد} 8 فلمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْقَوْلُ، بَلِ الْأَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْن} أَيْ أَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقَوْلَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَأْنَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَة} فلمَ لَا يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إِذَا أراد
شيئًا وقع كلمح البصر. وأما قوله: {تَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِه} وقوله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِه} فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَمْرِ فِيهِمَا عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْجَرْيَ وَالتَّسْخِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ، وَهَكَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ الْمَذْكُورُ وَالْمَثَلُ الْمَشْهُورُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّ الْأَصْلَ الْحَقِيقَةُ فَمُعَارَضٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأُمُورُ جَمْعَ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ، لَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَمْعَ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو الْحُسَيْنِ بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَدْرِ السَّامِعُ أَيَّ هَذِهِ الْأُمُورِ أَرَادَ، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَمْرٌ بِالْفِعْلِ، أَوْ أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ، أَوْ تَحَرَّكَ هَذَا الْجِسْمُ لِأَمْرٍ، وَجَاءَ زَيْدٌ لِأَمْرٍ، عَقَلَ السَّامِعُ مِنَ الْأَوَّلِ الْقَوْلَ، وَمِنَ الثَّانِي الشَّأْنَ، وَمِنَ الثَّالِثِ أَنَّ الْجِسْمَ تَحَرَّكَ "بِشَيْءٍ"*. وَمِنَ الرَّابِعِ أَنَّ زَيْدًا جَاءَ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَتَوَقُّفُ الذِّهْنِ عِنْدَ السَّمَاعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْكُلِّ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا التَّرَدُّدَ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَا يُفْهَمُ مَا عَدَا الْقَوْلَ إِلَّا بِقَرِينَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا اسْتُعْمِلَ في موضع لا يليق بالقول
الفصل الثاني: الخلاف في حد الأمر بمعنى القول
الفصل الثاني: الخلاف فِي حَدِّ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ اخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَارْتَضَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّهُ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَذَا خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ لَفْظَيِ الْمَأْمُورِ، وَالْمَأْمُورِ بِهِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الْأَمْرِ، فَيَمْتَنِعُ تَعْرِيفُهُمَا إِلَّا بِالْأَمْرِ، فَلَوْ عَرَّفَنَا الْأَمْرَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الطَّاعَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةَ فَالطَّاعَةُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا إِلَّا بِالْأَمْرِ، فَلَوْ عَرَّفَنَا الْأَمْرَ بِهَا لَزِمَ الدَّوْرُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَدِّهِ: إِنَّهُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلِ: أَنَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْوَاضِعَ مَا وَضَعَ لَفْظَةَ "افْعَلْ" لِشَيْءٍ أَصْلًا، حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنَ الْمُهْمَلَاتِ، فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَوْ تَلَفَّظَ الْإِنْسَانُ بِهَا مَعَ دُونِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ أَمَرَ، وَلَوْ أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنِ النَّائِمِ أَوِ السَّاهِي، أَوْ عَلَى سَبِيلِ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ بِهَا اتِّفَاقًا أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ"لَا"* يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ أَمَرَ، وَلَوْ قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى لَفَظَ افْعَلْ وَبِإِزَاءِ مَعْنَى "الْخَبَرِ"** لَفْظَةَ "افْعَلْ"***، لَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظِ "افْعَلْ"**** آمِرًا وَبِلَفْظِ افْعَلْ مُخْبِرًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَحْدِيدَ مَاهِيَّةِ الْأَمْرِ بِالصِّيغَةِ الْمَخْصُوصَةِ بَاطِلٌ. الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ تَحْدِيدَ مَاهِيَّةِ الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَمْرٌّ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، فَإِنَّ التُّرْكِيَّ قَدْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَتَنَاوَلُ "إِلَّا"***** الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ. فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُنَا: أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ احْتِرَازٌ عَنْ هَذَيْنِ الْإِشْكَالَيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمَا. قُلْتُ: قَوْلُهُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَعْنِي بِهِ كَوْنَهُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ طَلَبًا لِلْفِعْلِ، أَوْ يَعْنِي بِهِ شَيْئًا آخَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي فلا بد مِنْ بَيَانِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ صَارَ مَعْنَى حَدِّ الْأَمْرِ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ "وَإِذَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ قَوْلُنَا: الْأَمْرُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ"****** كَافِيًا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَرُّضُ بِخُصُوصِ صِيغَةِ افْعَلْ ضَائِعًا. الْوَجْهِ الثَّالِثِ: "أَنَّا"******* سَنُبَيِّنُ أَنَّ الرُّتْبَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ فَنَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الْقَيْدَ الْأَخِيرَ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا أَجَابَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَتَقْدِيرُ الْإِهْمَالِ أَوِ الصُّدُورِ لَا عَنْ قَصْدٍ لَيْسَ مِمَّا يَقْتَضِي النَّقْضَ بِهِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْكَلَامِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا النَّقْضُ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ فَغَيْرُ وَارِدٍ فَإِنَّ مُرَادَ مَنْ حَدَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ الْحَدِّ لَيْسَ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ لَا غَيْرُهَا، وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ الرُّتْبَةِ فَمُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَرُدُّ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ارْتَضَاهُ آخَرُ وقال إنه الصحيح النهي فإن طلب الفعل بالقول؛ لأن الكف
فِعْلٌ، وَيَرُدُّ عَلَى قَيْدِ الِاسْتِعْلَاءِ، قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن فرعون {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} 1 وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى طَرْدِهِ قَوْلُ لقائل لمن دونه فعل "تهديدًا أو تعجيزًا أو غيرها، فَإِنَّهُ يَرُدُّ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ كَمَا سَيَأْتِي2، وَيَرُدُّ في طرده قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ"* إِذَا صَدَرَ عَنْ مُبَلِّغٍ لِأَمْرِ الْغَيْرِ، أَوْ حَاكٍ لَهُ، وَيَرُدُّ عَلَى عَكْسِهِ افْعَلْ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْأَدْنَى عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَلِذَلِكَ يُذَمُّ بِأَنَّهُ أَمَرَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. وَأُجِيبَ عَنِ الْإِيرَادِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُ افْعَلْ مُرَادًا بِهِ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلًا لِغَيْرِهِ افْعَلْ. وَعَنْ الثَّالِثِ: بِمَنْعِ كَوْنِهِ أَمْرًا عِنْدَهُمْ لُغَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ عُرْفًا. وَقَالَ قَوْمٌ فِي حَدِّهِ: هُوَ صِيغَةُ افْعَلْ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ عَنِ الْأَمْرِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ وَلَا يُعَرَّفُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّ أُسْقِطَ هَذَا الْقَيْدُ بَقِيَ صِيغَةُ افْعَلْ مُجَرَّدَةً فَيَلْزَمُ تجرده مطلقًا، حتى عما يؤكدكونه أَمْرًا. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْقَرَائِنُ الصَّارِفَةُ عَمَّا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا. وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى عَكْسِهِ بِاكْفُفْ وَانْتَهِ وَاتْرُكْ وَذَرْ فَإِنَّهَا أَوَامِرُ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهَا الْحَدُّ لِعَدَمِ اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ غَيْرَ الْكَفِّ فِيهَا. وَاعْتُرِضَ عَلَى طَرْدِهِ بِلَا تَتْرُكْ، وَلَا تَنْتَهِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهَا نَوَاهٍ وَيَصْدُقُ عَلَيْهَا الْحَدُّ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَحْدُودَ هُوَ النَّفْسِيُّ، فَيَلْتَزِمُ أَنَّ مَعْنَى لَا تَتْرُكْ مَعْنَى الْأَمْرِ النَّفْسِيِّ، ومعنى اكفف وَذَرِ النَّهْيُ فَاطَّرَدَ وَانْعَكَسَ. وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ صِيغَةُ افْعَلْ بِإِرَادَاتٍ ثَلَاثٍ، وُجُودِ اللَّفْظِ، وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَالِامْتِثَالِ. وَاحْتَرَزَ بِالْأُولَى عَنِ النَّائِمِ، إِذْ يَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ افْعَلْ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ وُجُودِ اللَّفْظِ، وَبِالثَّانِيَةِ عَنِ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْيِيرِ وَالْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَبِالثَّالِثَةِ عَنِ الصِّيغَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنِ الْمُبَلِّغِ، وَالْحَاكِي، فَإِنَّهُ لَا يريد الامتثال
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْمَحْدُودِ "اللفظ، أي الأمر الصيغي فلذلك الحد إرادة دلالتها، أَيِ الصِّيغَةِ عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْمَحْدُودِ"* الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ أَفْسَدَ الْحَدُّ جِنْسَهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِصِيغَةٍ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحْدُودِ اللَّفْظُ، وَبِمَا في الحد المعنى الذي هو الطالب، وَاسْتُعْمِلَ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْأَمْرِ فِي مَعْنَيَيْهِ اللَّذَيْنِ هُمَا الصِّيغَةُ الْمَعْلُومَةُ، وَالطَّلَبُ بِالْقَرِينَةِ العقلية. وقيل في حده: إِنَّهُ إِرَادَةُ "الْفِعْلِ"**. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ وَلَا إِرَادَةَ، كَمَا فِي أَمْرِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِحَضْرَةِ مَنْ تَوَعَّدَ السَّيِّدَ عَلَى ضَرْبِهِ لِعَبْدِهِ بِالْإِهْلَاكِ إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ أَمْرَ سَيِّدِهِ وَالسَّيِّدُ يَدَّعِي مُخَالَفَةَ الْعَبْدِ فِي أَمْرِهِ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْإِهْلَاكَ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِحَضْرَةِ الْمُتَوَعِّدِ لَهُ لِيَعْصِيَهُ ويشاهد المتوعد عصيانه ويخلص من الهلاك فههنا قَدْ أَمَرَ وَإِلَّا لَمْ يَظْهَرْ عُذْرُهُ، وَهُوَ مخالف الأمر ولا يريد منه العمل لا أنه لَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُرِيدًا هَلَاكَ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مِثْلُهُ يَجِيءُ فِي الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَطْلُبُ مَا يَسْتَلْزِمُ هَلَاكَهُ، وَإِلَّا كَانَ "طَالِبًا"*** لِهَلَاكِهِ. وَدَفَعَ بِالْمَنْعِ، لِجَوَازِ أَنْ يَطْلُبُ الْعَاقِلُ الْهَلَاكَ لِغَرَضٍ إِذَا عُلِمَ عَدَمُ وُقُوعِهِ. وَرُدَّ هَذَا الدَّفْعُ: بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي اللَّفْظِيِّ، أَمَّا النَّفْسِيُّ فَالطَّلَبُ النَّفْسِيُّ كَالْإِرَادَةِ النَّفْسِيَّةِ فَلَا يَطْلُبُ الْهَلَاكَ بِقَلْبِهِ كَمَا لَا يُرِيدُهُ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِرَادَةً لَوَقَعَتِ الْمَأْمُورَاتُ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ تُخَصِّصُ الْمَقْدُورَ بِوَقْتِ وُجُودِهِ، فَوُجُودُهَا فَرْعُ وُجُودِ مَقْدُورٍ مُخَصَّصٍ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ إِيمَانَ الْكُفَّارِ الْمَعْلُومُ عَدَمُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَكَّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَيَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ مَعَ أَنَّهُ مُحَالٌ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَدِّ الْأَمْرِ بِإِرَادَةِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْإِرَادَةُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ "إِلَى الْعِبَادِ"**** مَيْلٌ يَتْبَعُ اعْتِقَادَ النَّفْعِ أَوْ دَفْعَ الضَّرَرِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِلْمُ بِمَا فِي الْفِعْلِ مِنْ المصلحة. إذا تقرر لك ما ذكرناه وَعَرَفْتَ مَا فِيهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْأُصُولِ تعريف الأمر الصيغي؛ لأن
بَحْثَ هَذَا الْعِلْمِ عَنِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ الألفاظ الموصلة من حيث "العلم"* بِأَحْوَالِهَا مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ وَغَيْرِهِمَا إِلَى قُدْرَةِ إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، وَالْأَمْرُ الصِّيَغِيُّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ صِيغَتُهُ الْمَعْلُومَةُ سَوَاءً كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، أَوْ لَا. وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي صِيغَتِهِ الْمَعْلُومَةِ، الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الطَّلَبِ الْجَازِمِ مَعَ الِاسْتِعْلَاءِ، هَذَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ أَلِفٌ، مِيمٌ، رَاءٌ، بِخِلَافِ فَعْلِ الْأَمْرِ نَحْوَ اضْرِبْ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا ذُكِرَ، بَلْ يَصْدُقُ مَعَ الْعُلُوِّ وَعَدَمِهِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْأَشْعَرِيُّ1 قَيْدَ الْعُلُوِّ، وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَاعْتَبَرَ الْعُلُوَّ الْمُعْتَزِلَةُ جَمِيعًا إِلَّا أَبَا الْحُسَيْنِ مِنْهُمْ وَوَافَقَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ مِنَ الشافعية
الفصل الثالث: حقيقة صيغة أفعل
الفصل الثالث: حقيقة صيغة أفعل مدخل ... الفصل الثالث: حقيقة صيغة افعل اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِيغَةِ "افْعَلْ" وَمَا في معناها هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، أَوْ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ1. قَالَ الرَّازِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ. وَذَكَرَ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي أَمْلَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ، وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا حَقِيقَةُ النَّدْبِ. وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ والقاضي: بالوقف، فقيل: إنهما تَوَقَّفَا فِي أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَقِيلَ تَوَقَّفَا بِأَنْ قَالَا: لَا نَدْرِي بِمَا هُوَ حقيقة فيه أصلًا.
وَحَكَى السَّعْدُ فِي "التَّلْوِيحِ"1 عَنِ الْغَزَالِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى الْوَقْفِ فِي تَعْيِينِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ حَقِيقَةً، وَحَكَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ الْوَقْفُ فِي تَعْيِينِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ، لَا فِي تَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ بِالِاشْتِرَاكِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ. وَقِيلَ: أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهُوَ الطَّلَبُ: أَيْ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَنَسَبَهُ شَارِحُ التَّحْرِيرِ2 إِلَى أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ3 وَمَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَهُوَ الْإِذْنُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الفعل، وبه قال الْمُرْتَضِي مِنَ الشِّيعَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الشِّيعَةِ: إِنَّهَا مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد. اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ لُغَةً وَشَرْعًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَوْ شرعا فَقَطْ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَلْخِيُّ4، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وَالْجُوَيْنِيُّ وَأَبُو طَالِبٍ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ. أَمَّا الْعَقْلُ، فَإِنَّا نَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى ذَمِّ عَبْدٍ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ سَيِّدِهِ، وَأَنَّهُمْ يصفونه بالعصيان ولا يذم ويوصف بِالْعِصْيَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ تَارِكًا لِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْتِدْلَالُ السَّلَفِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَعَ تَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ عَلَى الْوُجُوبِ. وشاع ذلك وذاع بلا نكير. فأوجب العلم العادي باتفاقهم "على أنه له"*. وَاعْتُرِضَ: بِأَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا عَلَى الْوُجُوبِ كَانَ فِي صِيَغٍ مِنَ الْأَمْرِ مُحْتَفَّةً بِقَرَائِنِ الْوُجُوبِ، بدليل استدلالهم بكثير منها على الندب
وأجيب: بأن استدلالهم مِنْهَا عَلَى النَّدْبِ إِنَّمَا كَانَ بِقَرَائِنَ صَارِفَةٍ عن المعنى الحقيقي وهو الوجوب، مُعَيِّنَةٍ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ النَّدْبُ، عَلِمْنَا ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءِ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ فِي الصِّيَغِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهَا الْوُجُوبُ، وَالصِّيَغِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهَا النَّدْبُ فِي الْكِتَابِ والسنة، وعلمنا بالتتبع أن فَهْمَ الْوُجُوبِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ لِتَبَادُرِهِ إِلَى الذِّهْنِ بِخِلَافِ فَهْمِ النَّدْبِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إليها. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ أَيْضًا بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ فِي الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي حُجِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ1، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ فِي الْأُصُولِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَوْ سَلِمَ كَوْنُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ظَنِّيًّا لَكَفَى فِي الْأُصُولِ، وَإِلَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ الظَّوَاهِرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَالْقَطْعُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ مَسَائِلَ الْأُصُولِ. وَأَيْضًا نَحْنُ نَقْطَعُ بِتَبَادُرِ الْوُجُوبِ مِنَ الْأَوَامِرِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِهِ لُغَةً وَشَرْعًا. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 2 وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامَ بِالِاتِّفَاقِ، بَلِ الذَّمُّ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الْإِخْلَالِ بِالسُّجُودِ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ لَهُ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس} 3 فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَرَائِنِ الْوُجُوبُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا ذَمَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى التَّرْكِ، وَلَكَانَ لِإِبْلِيسَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكَ ما أَلْزَمْتَنِي السُّجُودَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُون} 4 فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ فِعْلِ مَا قِيلَ لَهُمُ افْعَلُوهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ يُفِيدُ النَّدْبَ لَمَا حَسُنَ هَذَا الْكَلَامُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لهم: الأولى أن تفعلوا ويجوز لكم تَرْكُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَى تركه. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا ذمهم لأنهم لم يعتقدوا حقية الْأَمْرِ، لَا لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَأْمُورَ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عليه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} 5. وَأَيْضًا فَصِيغَةُ افْعَلْ قَدْ تُفِيدُ الْوُجُوبَ عِنْدَ اقْتِرَانِ بَعْضِ الْقَرَائِنِ بِهَا، فَلَعَلَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما ذمهم لأنه "كان قد"* وجدت قرينة دالة على الوجوب.
وَأُجِيبَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ فِي قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} إِمَّا أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الرُّكُوعَ لَمَّا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أَوْ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا الذَّمَّ بِتَرْكِ الرُّكُوعِ، وَالْوَيْلُ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ، وَإِنْ "كَانَ"* الثَّانِي لَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ الْوَيْلِ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ مُنَافِيًا لِثُبُوتِ الذَّمِّ لِإِنْسَانٍ آخَرَ بِسَبَبِ تَرْكِهِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ. وَأُجِيبَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي: بِأَنَّ الله سبحانه وتعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لَمَّا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ الذَّمِّ هَذَا الْقَدْرُ لَا الْقَرِينَةُ. وَاسْتَدَلُّوا أيضًا بقوله سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1 أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ بِتَرْكِ مُقْتَضَاهُ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى تَرْكِ مُقْتَضَى أَمْرِهِ إِصَابَةَ الْفِتْنَةِ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ، فَأَفَادَتِ الْآيَةُ بِمَا تَقْتَضِيهِ إِضَافَةُ الْجِنْسِ مِنَ الْعُمُومِ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ شرعًا، مع تجرده عن القرائن؛ إذ لولا ذلك لَقَبُحَ التَّحْذِيرُ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 2 أي تَرَكْتَ مُقْتَضَاهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ به عاصٍ، وكل عاصٍ مُتَوَعَّدٌ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّم} 3، والأمر الذي أمره به هو قوله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} 4 وَهُوَ أَمْرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْقَرَائِنِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ السِّيَاقَ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِهِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 5 والقضاء بمعنى الحكم و"أمرًا" مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، أَوْ حَالٌ، أَوْ تَمْيِيزٌ، وَلَا يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ مَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} 6؛ لأن عطف الرسول عليه يمنع ذلك، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ القول لا الفعل.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 1 وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأَمْرُ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ بِمَجَازٍ عَنْ سُرْعَةِ الْإِيجَادِ كَمَا قِيلَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوُجُودُ مُرَادًا بِهَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: أَرَادَ اللَّهُ أنه كلما وُجِدَ الْأَمْرَ يُوجَدُ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَكَذَا فِي كل أمر من الله تعالى، ومن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أمتي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ" 2 وَكَلِمَةُ "لَوْلَا" تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره "فههنا"* تُفِيدُ انْتِفَاءَ الْأَمْرِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْأَمْرُ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، فَلَوْ كَانَ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ قَائِمًا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. فَلَمَّا لَمْ يوجد الأمر عَلِمْنَا أَنَّ الْمَنْدُوبَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. وَاعْتَرَضَ على هذا الاستدلال: بأنه لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُرَادَهُ لَأَمَّرَتْهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِقَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَيْهِ لا مجرد الأمر. وَرُدَّ بِأَنَّ كَلِمَةَ "لَوْلَا" دَخَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ حَاصِلًا، وَالنَّدْبُ حَاصِلٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ النَّدْبُ أَمْرًا، والإلزام التَّنَاقُضُ وَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وقع في قصة بريرة لَمَّا رَغَّبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ" 3 فَنَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ مِنْهُ، مَعَ ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّدْبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ الْأَمْرَ النَّدْبَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِالْأَوَامِرِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ لَفْظَ "افْعَلْ" إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ، أَوْ فِي الندب فقط، أَوْ فِي غَيْرِهِمَا، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْآخِرَةُ بَاطِلَةٌ، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّدْبِ فَقَطْ لَمَا كَانَ الْوَاجِبُ مَأْمُورًا بِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ لَمَا لزم الجمع بين الراجح فِعْلُهُ مَعَ جَوَازِ تَرْكِهِ، وَبَيْنَ الرَّاجِحِ فِعْلُهُ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ تَرْكِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِمَا، وَأَنْ يكون الأمر حقيقة فيما لا "ترجيح"* فِيهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ رُجْحَانَ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وجب أن يكون مانعًا من الترك. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ" 1 فَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِنَا وَهُوَ مَعْنَى النَّدْبِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ دَلِيلٌ لِلْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ لَا لِلْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِ؛ لِأَنَّ مَا لَا نَسْتَطِيعُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مَا نَسْتَطِيعُهُ، وَالْمَنْدُوبُ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِهِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي "وَقَوْلِهِ"** أُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنِي "فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يفهمون من أحدهما ما يفهمون مِنَ الْآخَرِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: اسْقِنِي يُفِيدُ طَلَبَ، الْفِعْلِ مَعَ الْإِرَادَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْ تَسْقِيَنِي"*** فَلَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِكَوْنِهِ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ وَلَيْسَ فِيهِ طَلَبٌ لِلْفِعْلِ، وَهَذَا أشف مَا احْتَجُّوا بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَدْفُوعًا بِمَا سَمِعْتَ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يفيد شيئًا. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، أَوْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَيْهَا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. وَأُجِيبَ بِمَا تقدم، من أن المجاز أولى من الاشتراك، وأيضًا كان يلزم أن تكون الصيغة
حَقِيقَةً فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْأَمْرِ الَّتِي سَيَأْتِي1 بيانها لأنه قد أُطْلِقَ عَلَيْهَا وَلَوْ نَادِرًا وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ: بأنه قد ثَبَتَ الرُّجْحَانُ فِي الْمَنْدُوبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الواجب، وَجَعْلُهَا لِلْوُجُوبِ بِخُصُوصِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، وَأَيْضًا مَا ذَكَّرُوهُ هُوَ إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِلَوَازِمِ الْمَاهِيَّاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الرُّجْحَانَ لَازِمًا لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَجَعَلُوا صِيغَةَ الْأَمْرِ لَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَاللُّغَةُ لَا تُثْبِتُ بذلك. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ، بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ تَعْيِينُ الصيغة لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى تَعْيِينِهَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْوُجُوبِ كَمَا قَدَّمْنَا2. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الرَّاجِحَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، فَلَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي إِلَّا بِقَرِينَةٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ3 مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَنْ أَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِ سَيِّدِهِ لِلذَّمِّ، وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ اسْمُ الْعِصْيَانِ، فَهُوَ مُكَابِرٌ وَمُبَاهِتٌ، فَهَذَا يَقْطَعُ النِّزَاعَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْلِ. وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ وَمَا وَرَدَ مِنْ حَمْلِ أَهْلِهِ لِلصِّيَغِ الْمُطْلَقَةِ مِنَ الأوامر على الوجوب ففيما ذَكَرْنَاهُ سَابِقًا مَا يُغْنِي عَنِ التَّطْوِيلِ، وَلَمْ يأت من خالف هذا بشيء يعد به أصلًا.
صيغ الأمر ومعانيه
صيغ الأمر ومعانيه: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي المعنى الحقيقي للصيغة كما عَرَفْتَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ اسْتِعْمَالِهَا فَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي معانٍ كَثِيرَةٍ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: صِيغَةُ افْعَلْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ وجهًا: للإيجاب كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} 1. وَلِلنَّدْبِ كَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 2، ويقرب منه التأديب كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: "كُلْ مِمَّا يَلِيكَ" 3؛ فَإِنَّ الْأَدَبَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَهُ بعضهم قسمًا مغايرًا
للمندوب. وللإرشاد كقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} 1 {فَاكْتُبُوهُ} 2. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ أَنَّ النَّدْبَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَالْإِرْشَادَ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِصُ الثَّوَابُ بِتَرْكِ الِاسْتِشْهَادِ فِي الْمُدَايَنَاتِ وَلَا يَزِيدُ بِفِعْلِهِ. وَلِلْإِبَاحَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} 3. وللتهديد مثل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 4، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} 5، ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا} 6 وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلُوهُ قِسْمًا آخَرَ. وَلِلِامْتِنَانِ مثل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} 7. وللإكرام: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِين} 8. وللتسخير: {كُونُوا قِرَدَة} 9. وللتعجيز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 10. وللإهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم} 11. وللتسوية: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} 12. وللدعاء: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} 13. وَلِلتَّمَنِّي كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: "أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انجل"14.
وَلِلِاحْتِقَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} 1. وللتكوين: {كُنْ فَيَكُون} 2 انتهى. فهذه خمسة عشر مَعْنًى، وَمَنْ جَعَلَ التَّأْدِيبَ وَالْإِنْذَارَ مَعْنَيَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ جعلها سبعة عشر مَعْنًى، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الْإِذْنَ نَحْوَ قوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَات} 3، والخبر نحو: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} 4، والتفويض نحو: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض} 5 والمشورة كقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} 6، وَالِاعْتِبَارَ نَحْوَ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر} والتكذيب نحو: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم} 8، والالتماس كقولك لنظيرك: "افعل". والتلهيف9 نحو: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُم} 10 والتصبير نحو: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} 11 فتكون جملة المعاني ستة وعشرين معنى.
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد تكرار أم لا
الفصل الرابع: هل الأمر يفيد تكرار أم لا ... الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ بِاعْتِبَارِ الْهَيْئَةِ الْخَاصَّةِ مَوْضُوعَةٌ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ، مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ بِالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَاخْتَارَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْجُوَيْنِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وأراه رَأْيَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا من المتعزلة أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ قَالُوا جَمِيعًا: إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِأَقَلَّ مِنْ
مَرَّةٍ فَصَارَتِ الْمَرَّةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، لَا أَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِذَاتِهِ. وقال جماعة: إن صِيغَةَ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَفْظًا، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ الْأَشْبَهُ بِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وجماعة من قدماء الحنفية، وقال جماعة: إنها تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ مُدَّةَ الْعُمْرِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَإِنَّمَا قَيَّدُوهُ بِالْإِمْكَانِ لِتَخْرُجَ أَوْقَاتُ ضَرُورِيَّاتِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمُسْتَصْفَى": إِنَّ مُرَادَهُمْ مِنَ التَّكْرَارِ الْعُمُومُ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا التكرار الْمُسْتَوْعِبَ لِزَمَانِ الْعُمُرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْقَائِلِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ دُونَ أَزْمِنَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالنَّوْمِ وَضَرُورِيَّاتِ الْإِنْسَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّكْرَارِ هِيَ الْمُعَلِّقَةُ عَلَى شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلْمَرَّةِ، وَتَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى هَذَا الْوَقْفِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ لَا نَدْرِي أَوُضِعَ لِلْمَرَّةِ أَوْ لِلتَّكْرَارِ أَوْ لِلْمُطْلَقِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا يَدْرِي مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَهَا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أبو بكر وجماعة وروي عن الجويني. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَيْئَةِ الْأَمْرِ لَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى الطَّلَبِ فِي خُصُوصِ زَمَانٍ وَخُصُوصِ الْمَطْلُوبِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَغَيْرِهِمَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَادَّةِ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْهَيْئَةِ وَالْمَادَّةِ أَنَّ تَمَامَ مَدْلُولِ الصِّيغَةِ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ فَقَطْ وَالْبَرَاءَةُ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ تَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِتَحَقُّقِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِإِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ بِهَا، وَلِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لِلْمَرَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الِامْتِثَالَ يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ لَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَهُ بِهَا لَا يَسْتَدْعِي اعْتِبَارَهَا جُزْءًا مِنْ مَدْلُولِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ عَلَى تقدير الإطلاق كما عَرَفْتَ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ أَيْضًا بِأَنَّ مَدْلُولَ الصِّيغَةِ طَلَبُ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ، وَالْمَرَّةُ وَالتَّكْرَارُ خَارِجَانِ عَنْ حقيقته فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الِامْتِثَالُ بِهِ فِي أَيِّهِمَا وجد ولا يتقيد بأحدهما. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ الْحَقِيقَةُ الْمُقَيِّدَةُ بِالْمَرَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ الْحَقِيقَةُ الْمُقَيِّدَةُ بِالتَّكْرَارِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، كَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْمَوْصُوفِ على الصفة المعينة منهما.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ دَلَالَةِ الْمَادَّةِ عَلَى الْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ، وَالْكَلَامُ فِي الصِّيغَةِ هَلْ هِيَ تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا أَمْ لَا؟ وَاحْتِمَالُ الصِّيغَةِ لَهُمَا لَا يَمْنَعُ ظُهُورَ أَحَدِهِمَا، وَالْمُدَّعِي إِنَّمَا هُوَ لِلدَّلَالَةِ ظَاهِرًا لا نصًّا. "وَاحْتَجَّ"* الْقَائِلُونَ بِالتَّكْرَارِ: أَنَّهُ تَكَرَّرَ الْمَطْلُوبُ فِي النهي فَعَمَّ الْأَزْمَانَ فَوَجَبَ التَّكْرَارُ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُمَا طَلَبٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ تَقَرَّرَ بُطْلَانُهُ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لأن النهي لطلب التَّرْكِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالتَّرْكِ، فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْرُ لِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بوجوده مرة. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ إِثْبَاتِهِ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ هُوَ عَيْنُ النزاع إذ المخالف يَقُولَ هُوَ لِلتَّكْرَارِ لَا لِلْمَرَّةِ. وَأُجِيبَ عَنْ أَصْلِ التَّكْرَارِ: بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ وَمِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْبَشَرِ أَنَّهُ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ آخَرَ، فَيَتَعَطَّلُ عَمَّا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَعَنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ بِخِلَافِ النَّهْيِ فَإِنَّ دَوَامَ التَّرْكِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ شيء من الأفعال، وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَدْلُولِ الصِّيغَةِ هَلْ تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ أَمْ لَا؟ وَإِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ التَّكْرَارَ لَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَ التَّكْرَارِ مَدْلُولًا لِلصِّيغَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى التَّكْرَارِ لَكِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّكْرَارِ أَيْضًا بأن الأمر نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَهِيَ كُلُّ مَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمِنْهَا تَرْكُهُ، وَهُوَ أَيِ النَّهْيُ يَمْنَعُ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ دَائِمًا فيتكرر الأمر في المأمور به إذ لو لم يتكرر وَاكْتُفِيَ بِفِعْلِهِ مَرَّةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَضْدَادِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. وَأُجِيبَ: بأن تكرر النهي الذي تضمنه الأمر فرع تَكَرُّرِ الْأَمْرُ فَإِثْبَاتُ تَكَرُّرِ الْأَمْرِ بِتَكَرُّرِ النَّهْيِ دَوْرٌ لِتَوَقُّفِ كُلٍّ مِنَ التَّكْرَارَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ إِذَا كَانَ معلقًا على شرط أو صفة، بأنه قد تَكَرَّرَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} 1. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا عِلَّةٌ، فَيَتَكَرَّرُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِتَكَرُّرِهَا اتِّفَاقًا، ضَرُورَةُ تَكَرُّرِ الْمَعْلُولِ بِتَكَرُّرِ علته، والنزاع إنما هو في دلالة الصيغة مجردة.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": أَنَّ صِيغَةَ "افْعَلْ" لِطَلَبِ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْمَصْدَرِ فِي الْوُجُودِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَدُلَّ عَلَى التَّكْرَارِ، بَيَانُ الْأُولَى: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا جَاءَ عَلَى التَّكْرَارِ كَمَا في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 1 وَمِنْهَا مَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ التَّكْرَارِ، كَمَا فِي الْحَجِّ وَفِي حَقِّ الْعِبَادِ أَيْضًا قَدْ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ بِشِرَاءِ اللَّحْمِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ التَّكْرَارُ، وَلَوْ ذَمَّهُ السَّيِّدُ عَلَى تَرْكِ التَّكْرَارِ لِلْأُمَّةِ الْعُقَلَاءِ، وَلَوْ كَرَّرَ الْعَبْدُ الدخول حَسُنَ مِنَ السَّيِّدِ أَنْ يَلُومَهُ، وَيَقُولَ لَهُ إني أمرتك بالدخول، وقد دَخَلْتَ فَيَكْفِي ذَلِكَ وَمَا "أَمَرْتُكَ"* بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ، وَقَدْ يُفِيدُ التَّكْرَارَ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: احْفَظْ دابتي فحفظها ثم أطلقها يُذَمُّ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ اللَّفْظِ حقيقة في القدر الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا طَلَبُ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْمَصْدَرِ فِي الْوُجُوهِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى التَّكْرَارِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا بِهِ تَمْتَازُ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى لَا بِالْوَضْعِ وَلَا بِالِاسْتِلْزَامِ, وَالْأَمْرُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ عَلَى التَّكْرَارِ، وَلَا عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ به عَلَى طَلَبِ الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ بِأَقَلَّ مِنَ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَصَارَتِ المرة الواحدة من "ضرورات"** الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَا جَرَمَ دَلَّ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ اسْتِدْلَالًا لِلْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَدَفْعًا لِحُجَجِ الْمَذَاهِبِ الْآخِرَةِ "بِمَا"*** قَدْ تَقَدَّمَ حَاصِلُ مَعْنَاهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ جَمِيعَ مَا حَرَّرْنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَهْلُ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ. هَذَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُجَرَّدًا عَنِ التَّعْلِيقِ بِعِلَّةٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ شرط. أما إذا كان مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ فَإِنْ كَانَ معلقا عَلَى عِلَّةٍ فَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعِلَّةِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِثُبُوتِهَا فَإِذَا تَكَرَّرَتْ تكرر، وليس التكرار مستفادًا ههنا من الأمر وإن كان مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ، فَقَدْ ذَهَبَ كثير ممن قال إِنَّ الْأَمْرَ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ إِلَى أَنَّهُ مع هذا التعليق يقتضي التكرار و"لكن"**** لَا مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، بَلْ مِنْ حَيْثُ التعليق لها على ذلك
الشَّرْطِ، أَوِ الصِّفَةِ، إِنْ كَانَ فِي الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ "أَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ"* "فَلَا تكرار"**، وإلا فَلَا تَكْرَارَ كَقَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: اشْتَرِ اللَّحْمَ إن دَخَلْتَ السُّوقَ، وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أُعْطَ الرجل العالم درهمًا أو اعْطِ الرَّجُلَ الْفَقِيرَ دِرْهَمًا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلصِّيغَةِ عَلَى التَّكْرَارِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَصَلَتْ حَصَلَ التَّكْرَارُ وَإِلَّا فَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى التَّكْرَارِ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ اقْتَضَى الشَّرْعُ أَوِ اللُّغَةُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي مُجَرَّدِ دَلَالَةِ الصِّيغَةِ مَعَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، فَالتَّطْوِيلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ بِذِكْرِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَّرَهَا أهل الأصول لا يأتي بفائدة.
الفصل الخامس: هل يقتضي الأمر الفور أم لا
الفصل الخامس: هل يقتضي الأمر الفور أم لا اخْتُلِفَ فِي الْأَمْرِ هَلْ يَقْتَضِي الْفَوْرَ أَمْ لا؟ فالقائلون "إنه"* يَقْتَضِي التَّكْرَارَ يَقُولُونَ: بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ مِمَّا لَزِمَهُمْ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَيَقُولُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْأَدَاءُ بِفَوَاتِهِ، أَوْ لَا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفُوتُ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعُزِيَ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ. قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ نَصٌّ، وَإِنَّمَا فُرُوعُهُمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ وَطَلَبِهِ عَلَى التَّرَاخِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ إِشْعَارٌ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ فَوْرًا أَوْ تَرَاخِيًا. انتهى. وقيل: إنه يقتضي الفور، فيحب الْإِتْيَانُ بِهِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لِلْفِعْلِ المأمور به، وَعُزِيَ إِلَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَمْرُ يُوجِبُ إِمَّا الْفَوْرَ أَوِ الْعَزْمَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ.
وَتَوَقَّفَ الْجُوَيْنِيُّ فِي أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ لِلْفَوْرِ أو التراخي قال: فَيَمْتَثِلُ الْمَأْمُورُ بِكُلٍّ مِنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَعَ التَّوَقُّفِ فِي إِثْمِهِ بِالتَّرَاخِي لَا بِالْفَوْرِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ وُجُوبِ التَّرَاخِي، وَقِيلَ بِالْوَقْفِ فِي الِامْتِثَالِ، أَيْ لَا نَدْرِي هَلْ يَأْثَمُ إِنْ بَادَرَ أَوْ إِنْ أَخَّرَ لِاحْتِمَالِ وُجُوبِ التَّرَاخِي. اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّكْرَارِ الْمُسْتَلْزِمِ لِاقْتِضَاءِ الْفَوْرِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الذي قبل هذا، وقد تقدم1 دَفْعُهُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِوَقْتٍ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ بِمَا تَقَدَّمَ2 أَيْضًا، مِنْ أَنَّ دَلَالَتَهُ لَا تَزِيدُ عَلَى مُجَرَّدِ الطلب بفور أو تراخي لا بحسب المادة، ولا بِحَسَبِ الصِّيغَةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ الْأَمْرِ لَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى الطَّلَبِ فِي خُصُوصِ زَمَانٍ، وَخُصُوصِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمَادَّةِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ فَلَزِمَ أَنَّ تَمَامَ مَدْلُولِ الصِّيغَةِ طَلَبُ الْفِعْلِ فَقَطْ، وَكَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى الْفَوْرِ، أَوِ التَّرَاخِي خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِهِ، وإنما يُفْهَمُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهَا حقيقة للقدر المشترك بين القسمين دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَالْمَوْضُوعِ لِإِفَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بين الْقِسْمَيْنِ لَا يَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ بِخُصُوصِيَّةِ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِمُسَمَّى اللفظ وغير لازمة "له"* فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ فَوْرًا وَلَا بِخُصُوصِ كَوْنِهِ تَرَاخِيًا. وَاحْتَجُّوا أيضًا بأنه يَحْسُنُ مِنَ السَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: افْعَلِ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ فِي الْحَالِ، أَوْ غَدًا، وَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ فَوْرًا دَاخِلًا فِي لَفْظِ "افْعَلْ" لَكَانَ الْأَوَّلُ تَكْرَارًا وَالثَّانِي نَقْضًا وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: تَفْعَلُ وَبَيْنَ قَوْلِنَا افْعَلْ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ خَبَرٌ3 وَالثَّانِي إِنْشَاءٌ4، لَكِنَّ قَوْلَنَا تَفْعَلُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ، وَإِلَّا لَكَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ سِوَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا خَبَرًا وَالثَّانِي إِنْشَاءً. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِ: بِأَنَّ كل مخبر بكلام خبري كزيد قَائِمٌ، وَمُنْشِئٌ كَبِعْتُ وَطَالِقٌ، يَقْصِدُ الْحَاضِرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنِ الْقَرَائِنِ حَتَّى يَكُونَ مَوْجُودًا لِلْبَيْعِ والطلاق بما ذكر، فكذا الأمر
والجامع بينه وبين الخبر كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَبَيْنَهُ وبين سائر الإنشاءات التي يقصد بها الحاضر كَوْنُ كُلٍّ مِنْهَا إِنْشَاءً. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا الْأَمْرَ فِي إِفَادَتِهِ الْفَوْرَ عَلَى الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ لِلْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَيْفَ مَعَ اخْتِلَافِهِ فَإِنَّهُ فِي الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ تُعَيِّنُ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ "لِلظَّرْفِيَّةِ"* وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ لأن الحاصل لا يُطْلَبُ. وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّ النَّهْيَ يُفِيدُ الْفَوْرَ فَكَذَا الْأَمْرُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا كَوْنُهُمَا طَلَبًا. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ1 بُطْلَانُهُ. وَأَيْضًا: الْفَوْرُ فِي النَّهْيِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّرْكُ مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا مَرَّ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ. وَأَيْضًا: الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ وَهُوَ "الِامْتِثَالُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بالفور، فالفور يثبت بضرورة"** الامتثال "لا أنه"*** يُفِيدُ الْفَوْرَ، فَالْمُرَادُ أَنَّ الْفَوْرَ ضَرُورِيٌّ فِي الِامْتِثَالِ لِلنَّهْيِ. وَاحْتَجُّوا ثَالِثًا: بِأَنَّ الْأَمْرَ نَهْيٌ عَنِ الْأَضْدَادِ، وَالنَّهْيُ لِلْفَوْرِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ. وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّفْعِ بِمِثْلِ هَذَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَاحْتَجُّوا رَابِعًا: بِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى عَدَمِ الْفَوْرِ بِقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 2، حَيْثُ قَالَ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} 3 فدل على أنه للفور، وإلا لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَيَّقْ عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةُ حَالٍ فَلَعَلَّهُ كَانَ مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الضَّعْفِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ التَّجْوِيزِ مُسَوِّغًا لدفع الأدلة لم يَبْقَ دَلِيلٌ إِلَّا وَقِيلَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِإِبْلِيسَ مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ، وَهُوَ وَقْتُ نَفْخِ الرُّوحِ فِي آدَمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} 4 فَذَمُّ إِبْلِيسَ عَلَى تَرْكِهِ الِامْتِثَالَ لِلْأَمْرِ فِي ذلك الوقت المعين.
واحتجوا خامسًا بقوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم} 1 وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} 2. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَوْ دَلَّتَا عَلَى وُجُوبِ الْفَوْرِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ وَالِاسْتِبَاقِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ دَلَالَةُ نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ. وَاحْتَجُّوا سَادِسًا: بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ لَجَازَ إِمَّا إِلَى بَدَلٍ أَوْ "إِلَى"* غَيْرِ بَدَلٍ، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ بَاطِلٌ. أَمَّا فَسَادُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَإِذَا أَتَى بِهَذَا الْبَدَلِ وَجَبَ أن يسقط عنه التكليف وبالاتفاق لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا فَسَادُ الْقِسْمِ الثَّانِي: فَذَلِكَ يمنع من كونه واجبا؛ لأنه يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ. وَأُجِيبَ: بِاخْتِيَارِ الشق الأول، ويقوم البدل مقام الْمُبْدَلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا فِي كُلِّ الأوقات فلا يَلْزَمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ سُقُوطُ الْأَمْرِ بِالْمُبْدَلِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْإِتْيَانَ بِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، فَهَذَا الْبَدَلُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَمَامِهِ فَوَجَبَ سُقُوطُ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يتم ما ذَكَرُوهُ مِنَ الْجَوَابِ بِتَقْدِيرِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ لِلتَّكْرَارِ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ3. وَاحْتَجُّوا سَابِعًا: بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِلَى وقت معين أو إلى آخِرِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ في غير المؤقت، والثاني تكليف ما لا يطلق لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ، وَالتَّكْلِيفُ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مَجْهُولٍ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَأُجِيبَ بِالنَّقْضِ الْإِجْمَالِيِّ وَالنَّقْضِ التَّفْصِيلِيِّ، أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَلِجَوَازِ التَّصْرِيحِ بِالْإِطْلَاقِ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ افعل ولك التأجير فَإِنَّهُ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلِيلِ جار فيه، وأما التفصيل، فَبِأَنَّهُ إِنَّمَا يُلْزِمُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ بإيجاب التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان، أما جواز التأخير إلى وقت يعينه الْمُكَلَّفُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يطاق لتمكنه مِنَ الِامْتِثَالِ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَ إِيقَاعَ الفعل فيه.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ1 بِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِإِحْدَاهَا أَجْزَأَ، وَلَوْ أَخَلَّ بِهَا عَصَى، وَأَنَّ الْعَزْمَ يَقُومُ مَقَامَ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ عَاصِيًا إِلَّا بِتَرْكِهِمَا. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الطَّاعَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ، فَهُوَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ؛ فَوُجُوبُ الْعَزْمِ لَيْسَ مُقْتَضَاهُ. وَاسْتَدَلَّ الْجُوَيْنِيُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْوَقْفِ بِأَنَّ الطَّلَبَ مُتَحَقِّقٌ، وَالشَّكَّ فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ الْفَوْرُ لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بيقين. واعترض عَلَيْهِ: بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يُلَائِمُ مَا تقدم له مِنَ التَّوَقُّفِ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْفَوْرِ وَأَيْضًا وُجُوبُ الْمُبَادَرَةِ يُنَافِي قَوْلَهُ الْمُتَقَدِّمَ، حَيْثُ قَالَ: أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور به فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب. واعتراض عَلَيْهِ أَيْضًا: بِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، بَلِ التَّأْخِيرُ جَائِزٌ حَقًّا لِمَا تَقَدَّمَ2 مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَالْحَقُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنه لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِفَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا اقْتِضَاءُ بَعْضِ الْأَوَامِرِ للفور كقول القائل: اسقني أطعمني فإنما ذلك من حيث إن مِثْلَ هَذَا الطَّلَبِ يُرَادُ مِنْهُ الْفَوْرُ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَتِهِ بِهِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَوَامِرِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُصُوصِ الْفَوْرِ أَوْ التراخي كما عرفت.
الفصل السادس: الأمر بالشيء نهي عن ضده
الْفَصْلُ السَّادِسُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ذهب الجمهور من أهل الأصول، من الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أُمِرَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِهِ نَهْيًا عن الشيء الْمُعَيَّنِ الْمُضَادِّ لَهُ سَوَاءً كَانَ الضِّدُّ وَاحِدًا كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْكُفْرِ، وَإِذَا أَمَرَهُ بِالْحَرَكَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ السُّكُونِ، أَوْ كَانَ الضِّدُّ مُتَعَدِّدًا كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِالْقِيَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: ليس نَهْيًا عَنِ الضِّدِّ وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْلًا، وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ نُهِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الْأَضْدَادِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَالْمُحَدِّثِينَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ نُهِيَ عَنِ الضد من عمم فقال: إنه نَهْيٌ عَنِ الضِّدِّ فِي الْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ وَالْأَمْرِ النَّدْبِيِّ، فَفِي الْأَوَّلِ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَفِي الثَّانِي نَهْيُ كَرَاهَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ دُونَ النَّدْبِيِّ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا مَنْ جَعَلَ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرًا بِضِدِّهِ كَمَا جُعِلَ الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى كون الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَسَكَتَ عَنِ النَّهْيِ وَهَذَا مَعْزُوٌّ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُتَابِعِيهِ. وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، والنهي عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ؛ وَذَلِكَ لِنَفْيِهِمُ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ، وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا النَّفْيِ أي نَفْيَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنًا لِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ أَوْ نَفْيِهِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُوجِبُ كُلٌّ مِنَ الصِّيغَتَيْنِ حُكْمًا فِي الضِّدِّ أَمْ لَا فَأَبُو هَاشِمٍ وَمُتَابِعُوهُ قَالُوا: لَا يُوجِبُ شَيْءٌ مِنْهُمَا حُكْمًا فِي الضِّدِّ بَلِ الضِّدُّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ قَالَا: الْأَمْرُ يُوجِبُ حُرْمَةَ الضِّدِّ، وَفِي عِبَارَةٍ أُخْرَى عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَفِي عِبَارَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْهُمْ يَقْتَضِيهَا. وَقَالَ الرَّازِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ1 وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ، وَلَوْ كَانَ إِيجَابًا وَالنَّهْيُ يقتضي كون الضد سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ تَحْرِيمًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ صَدْرُ الْإِسْلَامِ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَمْرِ الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي، وَفِي الضِّدِّ الْوُجُودِيِّ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتُّرْكِ لَا فِي التَّرْكِ، قَالُوا: وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ بِأَنْ يُقَالَ لِلَفْظِ الْأَمْرِ نهي، وللفظ نهي، وللفظ النهي أَمْرٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ بِصِيغَةِ افْعَلْ والنهي موضوع بصيغة لا تفعل، وليس النزاع أيضًا "مفهومهما"* لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، بَلِ النِّزَاعُ فِي أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ عَيْنُ طَلَبِ تَرْكِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ "وَفِي أَنَّ"** وطلب الترك الذي هو النهي عين طَلَبِ فِعْلِ ضِدِّهِ، الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ. "هَكَذَا"***حَرَّرُوا مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَطْ، إِذَا قِيلَ بِأَنَّهُ لَيْسَ نهيا عَنْ ضِدِّهِ أَوْ بِهِ وَبِفِعْلِ الضِّدِّ إِذَا قيل بأنه نَهْيٌ عَنْ فِعْلِ الضِّدِّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرًا ونهيًا وعصى بهما وهكذا في النهي.
استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الأمر بالشيء نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، لَكَانَ إِمَّا مِثْلَهُ أَوْ ضده أو خلافه، واللازم باطل بأقسامه، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ كُلَّ مُتَغَايِرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي صِفَاتِ النَّفْسِ، أَوْ لَا، وَالْمَعْنَى بِصِفَاتِ النَّفْسِ: مَا لَا يَحْتَاجُ الْوَصْفُ بِهِ إِلَى تَعَقُّلِ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ كَالْإِنْسَانِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْوُجُودِ بِخِلَافِ الْحُدُوثِ، وَالتَّحَيُّزِ فَإِنْ تُسَاوِيَا فِيهَا فَهُمَا مِثْلَانِ كَسَوَادَيْنِ، أَوْ بَيَاضَيْنِ وَإِلَّا فإما أن يتنافيا بأنفسهما، أي يَمْتَنِعَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ، وَاحِدٍ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتَيْهِمَا أَوْ لَا، فَإِنْ تَنَافَيَا بِأَنْفُسِهِمَا فَضِدَّانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَإِلَّا فَخِلَافَانِ كَالسَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ. وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ بِأَقْسَامِهِ، فَلِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا ضِدَّيْنِ أو مِثْلَيْنِ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُمَا يَجْتَمِعَانِ إِذْ جَوَازُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ مَعًا وَوُقُوعُهُ ضَرُورِيٌّ، وَلَوْ كَانَا خِلَافَيْنِ لَجَازَ اجْتِمَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ، وَمَعَ خِلَافِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَيْنِ حُكْمُهُمَا كَذَلِكَ كَمَا يَجْتَمِعُ السَّوَادُ وَهُوَ خِلَافُ الْحَلَاوَةِ مَعَ الْحُمُوضَةِ وَمَعَ الرَّائِحَةِ، فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ مَعَ ضِدِّ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِضِدِّهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ الأمر "بالشيء"* حينئذ طَلَبَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي وَقْتٍ طُلِبَ فِيهِ عدمه. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ لَازِمِ كُلِّ خِلَافَيْنِ ذَلِكَ، أَيْ جَوَازِ اجْتِمَاعِ كُلٍّ مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ، لجواز تلازمهما "على ما هو التحقيق من عَدَمِ اشْتِرَاطِ"** جَوَازِ الِانْفِكَاكِ فِي الْمُتَغَايِرَيْنِ كَالْجَوْهَرِ1 مَعَ الْعَرَضِ وَالْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ فَلَا يُجَامِعُ أحد الخلافين على تقدير تلازمهما الضد للآخر، وَحِينَئِذٍ فَالنَّهْيُ إِذَا ادَّعَى كَوْنَ الْأَمْرِ إِيَّاهُ إذا كان طلب ترك ضد المأمور به: اخترنا كونهما خلافين، ولا يَجِبُ اجْتِمَاعُ النَّهْيِ اللَّازِمِ مِنَ الْأَمْرِ مَعَ ضِدِّ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا زَعَمُوا كَالْأَمْرِ بالصلاة والنهي عن الأكل فإنهما خلافان، ولا يلزم من كونهما خِلَافَيْنِ اجْتِمَاعُ الصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ "الَّتِي هِيَ"*** ضِدُّ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا: بِأَنَّ فِعْلَ السُّكُونِ عَيْنُ تُرْك الحركة، وطلب فعل السكون طلب لترك الحركة، وطلب تركها هي النهي.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ النِّزَاعَ عَلَى هَذَا يَرْجِعُ لَفْظِيًّا فِي تَسْمِيَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ تَرْكًا لِضِدِّهِ، وفي تسميته طلبه نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ فَلَمْ يثبت فيها ما يفيده ذلك. ورد بمنع كون النزاع لَفْظِيًّا، بَلْ هُوَ فِي وَحْدَةِ الطَّلَبِ الْقَائِمِ بالنفس، بأن يكون طلب الفعل عين طَلَبِ تَرْكِ ضِدِّهِ. وَأُجِيبَ ثَانِيًا: بِحُصُولِ الْقَطْعِ بِطَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الضِّدِّ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ فِعْلِ السُّكُونِ عين تَرْكِ الْحَرَكَةِ فِيمَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَرْكَ الْآخَرِ لا في الأضداد الوجودية، فطلب ترك أحدهما لا يكون طَلَبًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ تَرْكُهُ فِي ضِمْنِ ضِدٍّ آخَرَ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بالشيء ليس نَهْيًا عَنِ "الضِّدِّ"* وَلَا نَقِيضِهِ. بِأَنَّهُ: لَوْ كان الأمر بالشيء عَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ وَمُسْتَلْزِمًا لَهُ لَزِمَ تَعَقُّلُ الضِّدِّ، وَالْقَطْعُ حَاصِلٌ بِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الضِّدِّ عَلَى الْبَالِ "وَهَكَذَا الكلام في النهي"**. وَاعْتُرِضَ "عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ"*** بِأَنَّ الَّذِي لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ مِنَ الْأَضْدَادِ إِنَّمَا هُوَ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ، وَلَيْسَتْ مُرَادَّةً لِلْقَائِلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، بَلِ الْمُرَادُ الضِّدُّ الْعَامُّ، وَهُوَ مَا لَا يُجَامِعُ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَتَعَقُّلُهُ لَازِمٌ لِلْأَمْرِ والنهي؛ إذ طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حُصُولُهُ، وَالْعِلْمُ بِالْعَدَمِ مَلْزُومٌ لِلْعِلْمِ بِالضِّدِّ الْخَاصِّ، والضد الخاص ملزوم للضد العام، فلا بد مِنْ تَعَقُّلِ الضِّدِّ الْعَامِّ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ عَدَمِ التَّوَارُدِ، فَإِنَّ شَرْطَ التَّوَارُدِ الَّذِي هو مدار الاعتراض كون مورد الإيجاب1 والسلب2 لِلْمُتَخَاصِمَيْنِ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى طَرَفِ النَّقِيضِ لِقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْمُسْتَدِلُّ إِنَّمَا نَفَى خُطُورَ الضِّدِّ الْخَاصِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: إِنَّ الَّذِي لَا يَخْطُرُ هُوَ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ مُوَافَقَةً مَعَهُ فِيهَا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، نَعَمْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُعْتَرِضِ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ حيث إنه اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مُرَادُ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنِ الضِّدِّ، فَزَعَمَ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الضِّدُّ الْعَامُّ، وَلَا يَصِحَّ نَفْيُ خُطُورِهِ بِالْبَالِ لِمَا تَقَدَّمَ فَحِينَئِذٍ تنعقد المناظرة3 بينهما ويتحقق التوارد
وَأَيْضًا: هَذَا الِاعْتِرَاضُ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: إِنَّ مَا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ هُوَ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ، يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْفِعْلِ مَلْزُومُ الْعِلْمِ بِالضِّدِّ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ1 نَقِيضُ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ2 عِنْدَ اتِّحَادِ النِّسْبَةِ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ تَوَقُّفِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْعَمَلِ بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَالِ الْأَمْرِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مُسْتَقْبَلٌ، فَلَا حَاجَةَ لِلطَّالِبِ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا فِي الْحَالِ من وجود الفعل أو عَدَمِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ تَوَقًّفُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ عَلَى "الفعل"* بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِهِ فَالْكَفُّ عَنِ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، فَقَدْ تَحَقَّقَ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مِنَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ شُهُودَ الْكَفِّ "عَنِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الْعِلْمَ بِفِعْلِ ضِدٍّ خَاصٍّ لِحُصُولِ شُهُودِ الْكَفِّ"** بِالسُّكُونِ عَنِ الْحَرَكَةِ اللَّازِمَةِ لِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ المأمور به، ولو سُلِّمَ لُزُومُ تَعَقُّلِ الضِّدِّ فِي الْجُمْلَةِ فَمُجَرَّدُ تعقله لَيْسَ مَلْزُومًا؛ لِتَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِتَرْكِهِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ لِجَوَازِ الِاكْتِفَاءِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بِمَنْعِ تَرْكِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَتَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ ضِدٌّ لَهُ، وَقَدْ تَعْقِلُ حيث منع عنه لكنه فَرَّقَ بَيْنَ الْمَنْعِ عَنِ التَّرْكِ وَبَيْنَ طَلَبِ الْكَفِّ عَنِ التَّرْكِ. وَتَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْآمِرَ بِفِعْلٍ غير مجوز تركه، فقد يخطر بباله تركه من حيث إنه لا يجوز مَلْحُوظًا بِالتَّبَعِ لَا قَصْدًا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُقَالُ منع تَرْكَهُ، وَلَا يُقَالُ طَلَبَ الْكَفَّ عَنْ تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَوَجُّهٍ قَصْدِيٍّ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ بأن أمر الإيجاب طلب فعل يُذَمُّ بِتَرْكِهِ فَاسْتَلْزَمَ النَّهْيَ عَنْ تَرْكِهِ وَعَمَّا يَحْصُلُ التَّرْكُ بِهِ، وَهُوَ الضِّدُّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ فَاسْتَلْزَمَ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ. وَاعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ: بِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَزِمَ تَصَوُّرُ الْكَفِّ عَنِ الْكَفِّ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِكُلِّ أَمْرِ إِيجَابٍ، وَتَصَوُّرُ الْكَفِّ عَنِ الْكَفِّ لَازِمٌ لِطَلَبِ الْكَفِّ عَنِ الْكَفِّ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِطَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الْكَفِّ عن الكف، ولو سلم تصور الكف عن الكف منع كَوْنُ الذَّمِّ بِالتُّرْكِ جُزْءَ الْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ أَوْ لازم مَفْهُومَهُ لُزُومًا عَقْلِيًّا، وَاسْتِلْزَامُ الْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ النَّهْيَ عن تركه فرع كون
الذم بِالتَّرْكِ جُزْءًا أَوْ لَازِمًا. وَمَا قِيلَ: مِنْ أنه لو سُلِّمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ مُتَضَمِّنٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لَزِمَ أَنْ لَا مُبَاحَ؛ إِذْ تَرَكَ المأمور به وَضِدِّهِ يَعُمُّ الْمُبَاحَاتِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْهَا وَالْمَنْهِيُّ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُبَاحًا، فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الضِّدُّ الْمُفَوِّتُ لِلْأَمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ ضِدٍّ مُفَوِّتًا وَلَا كُلُّ مُقَدَّرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ ضِدًّا مُفَوِّتًا، كَخَطْوَةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَابْتِلَاعِ رِيقِهِ، وَفَتَحَ عَيْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ مُغَايِرَةٌ بِالذَّاتِ لِلصَّلَاةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُطْلَقُ "عَلَيْهَا"* الضِّدُّ لِلصَّلَاةِ لَكِنَّهَا لَا تُفَوِّتُ الصَّلَاةَ. وَزَادَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ، كَمَا أن الأمر بشيء يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ دَلِيلًا آخَرَ فَقَالُوا: إن النهي طلب ترك فعل وَتَرْكُهُ بِفِعْلِ أَحَدِ أَضْدَادِهِ، فَوَجَبَ أَحَدُ أَضْدَادِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْصُلُ الْوَاجِبُ إلا به واجب. ودفع بأنه يَلْزَمُ كَوْنُ كُلٍّ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُضَادَّةِ وَاجِبًا كالزنا، فإنه من حيث كونه تركًا لِلِّوَاطِ لِكَوْنِهِ ضِدًّا لَهُ يَكُونُ وَاجِبًا، وَيَكُونُ اللواط من حيث كونه تركًا للزنا واجبًا. وَدُفِعَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُوجَدُ مباح؛ لأن كل مباح تَرْكُ الْمُحَرِّمِ وَضِدٌّ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: غَايَةُ مَا يَلْزَمُ وُجُوبُ أَحَدِ الْمُبَاحَاتِ الْمُضَادَّةِ لَا كلها، فيقال: إِنَّ وُجُوبَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ كَمَا فِي خِصَالِ الكفارة. وَدُفِعَ أَيْضًا: بِمَنْعِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الواجب أو المحرم إلا به. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ أَوِ الْمُحَرَّمُ إِلَّا بِهِ لَجَازَ تركه، وذلك يستلزم جواز تَرْكِ الْمَشْرُوطِ فِي الْوَاجِبِ، وَجَوَازَ فِعْلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمُحَرَّمِ بِدُونِ شَرْطِهِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُخَصِّصُونَ لِأَمْرِ الْإِيجَابِ: بِأَنَّ اسْتِلْزَامَ الذَّمِّ لِلتَّرْكِ الْمُسْتَلْزِمِ "لِلنَّهْيِ"** إِنَّمَا هُوَ فِي أَمْرِ الْوُجُوبِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ وَلَوْ إِيجَابًا، وَالنَّهْيَ يَقْتَضِي كون الضد سُنَّةً مُؤَكَّدَةً بِمِثْلِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ: بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل، وَأَنَّ النَّهْيَ أَمْرٌ بِالضِّدِّ الْمُتَّحِدِ وَفِي الْمُتَعَدِّدِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ ذِكْرَ الْكَرَاهَةِ فِي جَانِبِ الْأَمْرِ، وَذِكْرَ السُّنِّيَّةِ فِي جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم.
وإذا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالرُّدُودِ "لَهَا"* فَاعْلَمْ: أَنَّ الْأَرْجَحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، فَإِنَّ اللَّازِمَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ مَعًا كَافِيًا فِي الْجَزْمِ بِاللُّزُومِ، بِخِلَافِ اللَّازِمِ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمَلْزُومِ هُنَاكَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِاللَّازِمِ، وَهَكَذَا النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ بالمعنى الأعم.
الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به
الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به اعْلَمْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ قَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ، هَلْ يُوجِبُ الْإِجْزَاءَ أم لا؟ وقد فُسِّرَ الْإِجْزَاءُ بِتَفْسِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الِامْتِثَالِ بِهِ. وَالْآخَرُ: سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِهِ، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ "لَا شَكَّ"* أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وجهه يقتضي تحقق الإجزاء الْمُفَسَّرِ بِالِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَعْنَى الامتثال وحقيقته ذلك، وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه: فقال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ به على وجهه يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا يَسْتَلْزِمُ. اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالِاسْتِلْزَامِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ سُقُوطَ الْقَضَاءِ لَمْ يُعْلَمِ امْتِثَالٌ أبدًا، واللازم منتفٍ فالملزوم مِثْلُهُ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يَسْقُطَ عَنْهُ بَلْ يجب عليه فِعْلُهُ مَرَّةً أُخْرَى قَضَاءً، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ إِذَا فَعَلَهُ لَمْ يَسْقُطْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا وَاتِّفَاقًا. وَأَيْضًا إِنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِدْرَاكِ مَا قَدْ فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْأَدَاءِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ على وجهه، ولم يَفُتْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَصَلَ الْمَطْلُوبُ بِتَمَامِهِ، فَلَوْ أَتَى بِهِ اسْتِدْرَاكًا لَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ، خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِ. لَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أنه أتى بما أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ لأن
الْمَسْأَلَةَ مَرْفُوضَةٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَبَقِيَ إما متناولًا للمأتي أَوْ لِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يكون الأمر قد كان متناولًا لِغَيْرِهِ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ مَأْتِيًّا بِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَأْتِيُّ بِهِ تَمَامَ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ هَذَا خَلْف. والثاني: أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانيا، وثالثًا، أو ينقصى عَنْ عُهْدَتِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالْأَوَّلُ باطل لما بينا على أن الأمر لا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ لَا معنى للإجزاء إِلَّا كَوْنُهُ كَافِيًا فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الأمر. والثالث: أنه لو لم يقتض الإجزاء لَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: افْعَلْ فإذا فعلت لا يجزئ عنك، لو قال ذلك أحد لَعُدَّ مُنَاقِضًا. احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ بِمُجَرَّدِهِ فَالْأَمْرُ يجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده. والثاني: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ يَجِبُ عَلَى الشَّارِعِ فيها إتمامها، والمضي فيها، ولا تجزئه عن المأمور به كَالْحُجَّةِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ، فَأَمَّا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بمجرد الأمر. والجواب عن الأول: أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ أن نقول: النهي يدل على "أنه"* مَنْعِهِ مِنْ فِعْلِهِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يقول: إنك لو أتيت به لَجَعَلْتَهُ سَبَبًا لِحُكْمٍ آخَرَ، أَمَّا الْأَمْرُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إِلَّا عَلَى اقْتِضَائِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بتمام المقتضى فوجب أن لا يَبْقَى الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ. وَعَنِ الثاني: أن تلك الأفعال مُجْزِئَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْوَارِدِ بِإِتْمَامِهَا، وَغَيْرُ مُجْزِئَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ اقْتَضَى إِيقَاعَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى حد الوجه الذي وقع، بل عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَذَلِكَ الْوَجْهُ لَمْ يُوجَدْ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِتَمَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ يوجب أن لا يَبْقَى الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ هُوَ المراد بالإجزاء.
الفصل الثامن: هل يجب القضاء بأمر جديد أم بالأمر الأول
الفصل الثامن: هل يجب القضاء بأمر جديد أم بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا هَلِ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ: الصُّورَةُ الْأُولَى: الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ، كَمَا إِذَا قَالَ افْعَلْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَى، فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ هَلْ يَقْتَضِي إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيمَا بَعْدُ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَقِيلَ لَا يَقْتَضِي لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ "افعل" هذا الفعل يوم الْجُمُعَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ "بِفِعْلِهِ بَعْدَهُ"* وَإِذَا لم يَتَنَاوَلْهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ. الثَّانِي: أَنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَارَةً لَا تَسْتَلْزِمُ وجوب القضاء كما في صلاة الْجُمُعَةِ وَتَارَةً تَسْتَلْزِمُهُ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الاستدلال، فلا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وإليه ذهب الجمهور، "جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ"** وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ وجوب القضاء يستلزمه الأمر بِالْأَدَاءِ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ غَيْرُ داخل في الأمر بالفعل. وَرُدَّ: بِأَنَّهُ دَاخِلٌ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْفِعْلِ المعين وَقْتُهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَجُوزَ التَّقْدِيمُ عَلَى ذلك الوقت الْمُعَيَّنِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: افْعَلْ، وَلَا يُقَيِّدُهُ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلِ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَهَلْ يَجِبُ فِعْلُهُ فِيمَا بَعْدُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَوْرِ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَلَا يَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا بِفِعْلِهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْفَوْرِ قَالَ إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفِعْلَ بَعْدَ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالْفَوْرِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ زَائِدٍ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ هَلْ مَعْنَاهُ افْعَلْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، فَإِنْ عَصَيْتَ فَفِي الثَّالِثِ، فَإِنْ عَصَيْتَ فَفِي الرَّابِعِ ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، أَوْ مَعْنَاهُ فِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حَالِ الزَّمَانِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ اقْتَضَى الْأَمْرُ الْأَوَّلُ الْفِعْلَ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لَمْ يَقْتَضِهِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ، فَلَا يَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ عَنْ عَهِدَتْهُ إِلَّا بِفِعْلِهِ، وَهُوَ أَدَاءٌ وَإِنْ طَالَ التَّرَاخِي لِأَنَّ تَعْيِينَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ لَهُ لَا دليل عليه، واقتضاؤه
الفور لا يستلزم أَنَّهُ بَعْدَ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ قَضَاءً، بَلْ غَايَةُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ آثِمًا بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَقْتَضِي إِيقَاعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ آخَرَ: بِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَكَانَ مقتضيًا لِلْقَضَاءِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فبينة؛ إذ الوجوب أخص مِنَ الِاقْتِضَاءِ، وَثُبُوتُ الْأَخَصِّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأَعَمِّ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ فَلِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ قَوْلَ القائل "صم يوم الخميس" لا يقتضي "صوم"* يوم الْجُمُعَةِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاقْتِضَاءِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ أصلًا. وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَاقْتَضَاهُ، وَلَوِ اقْتَضَاهُ لَكَانَ أَدَاءً فَيَكُونَانِ سَوَاءً فَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ. وَأُجِيبَ عَنْ "هَذَا"** بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِوَقْتِ أَمْرٍ بِإِيقَاعِ الفعل في ذلك الوقت الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا فَاتَ قَبْلَ إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهِ بَقِيَ الْوُجُوبُ مَعَ نَقْصٍ فِيهِ فَكَانَ إِيقَاعُهُ فيما بعد قضاء. وَيُرَدُّ هَذَا بِمَنْعِ بَقَاءِ الْوُجُوبِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِمُ: الْوَقْتُ لِلْمَأْمُورِ بِهِ كَالْأَجَلِ لِلدِّينِ، فكما أن الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِتَرْكِ تَأْدِيَتِهِ فِي أَجَلِهِ الْمُعَيَّنِ، بَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ فِيمَا بَعْدَهُ، فَكَذَلِكَ المأمور به إذا لم يفعل في وقته الْمُعَيَّنِ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ على عدم سقوط الدين إذا انقضى وَلَمْ يَقْضِهِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّ الدِّينَ يجوز تقديمه على أجله الْمُعَيَّنِ بِالْإِجْمَاعِ "بِخِلَافِ"*** مَحَلِّ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ لَكَانَ أَدَاءً لِأَنَّهُ أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين، فَكَانَ كَالْأَمْرِ بِفِعْلِهِ ابْتِدَاءً. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فَمَا قَالُوهُ "مُلْتَزِم"**** ولا يضرنا ولا ينفعهم.
الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا
الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا؟ اختلفوا هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بأنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمر بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ: مر عَبْدَكَ بِبَيْعِ ثَوْبِي تَعَدِّيًا عَلَى صَاحِبِ الْعَبْدِ بِالتَّصَرُّفِ فِي عَبْدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَكَانَ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ لَا تَبِعْهُ مناقضًا لقوله للسيد مر عَبْدَكَ بِبَيْعِ ثَوْبِي لِوُرُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّ لُزُومَ التَّعَدِّي مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ هُوَ أَمْرُ عَبْدِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِ سَيِّدِهِ "وَهُنَا أَمْرُهُ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ"* فَإِنَّ أَمْرَهُ لِلْعَبْدِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَمْرِ سَيِّدِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: مر عَبْدَكَ إِلَخْ، هَلْ هُوَ أَمْرٌ لِلْعَبْدِ بِبَيْعِ الثَّوْبِ أَمْ لَا، لَا فِي أَنَّ السَّيِّدَ إذا أمر عبده بموجب "مر عَبْدَكَ" هَلْ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ لِلْعَبْدِ من قبل القائل "مر عبدك" " بجعل"** السَّيِّدَ سَفِيرًا أَوْ وَكِيلًا "أَمْ لَا؟ "***. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ، فَقَدْ أُجِيبَ عنه: بأن الْمُرَادَ هُنَا مَنَعَهُ مِنَ الْبَيْعِ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ، وَهُوَ نَسْخٌ لِطَلَبِهِ مِنْهُ. وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْمُرَنَا، فَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِتِلْكَ الْأَوَامِرِ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْمَلِكِ لِوَزِيرِهِ بِأَنْ يَأَمْرَ فُلَانًا بكذا، فإن الملك هو الآمر بذلك الْمَأْمُورِ، لَا الْوَزِيرُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَيْنِ مِنْ قَرِينَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ أَوَّلًا هو رسول وَمُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ وَأَنَّ الْوَزِيرَ هُوَ مَبْلَغٌ عَنِ الْمَلِكِ، لَا مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَأْمُورِ "الْأَوَّلِ"****، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ هُوَ هَذَا. أَمَّا لَوْ قَالَ: قُلْ لِفُلَانٍ افْعَلْ كَذَا، فَالْأَوَّلُ آمِرٌ وَالثَّانِي مُبَلِّغٌ بِلَا نِزَاعٍ، كَذَا نَقْل عَنِ السُّبْكِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَاخْتَارَ السَّعْدُ التَّسْوِيَةَ بينهما، والأول أَوْلَى، قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ لعمرو كل
مَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ زَيْدٌ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْكَ، فَالْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَكِنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ مَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ فُلَانًا فَهُوَ واجب، وأما لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و"مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ" 1 فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الصَّبِيِّ. انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي السُّنَنِ. وَمِمَّا يَصْلُحُ مِثَالًا لِمَحَلِّ النِّزَاعِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر وقد طلق ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ "مَرّه فليراجعها" 2. وقيل: إنه ليس مما يَصْلُحُ مِثَالًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالْأَمْرِ مِنَ الشَّارِعِ بِالْمُرَاجَعَةِ، حَيْثُ قَالَ: "فَلْيُرَاجِعْهَا" بِلَامِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِثَالًا لَوْ قَالَ: مُرْهُ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ قُلْ لِفُلَانٍ افْعَلْ كَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الخلاف فيه3.
الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه
الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية، يقتضي الأمر بها، أو بشيء من جزئياتها اختلفوا أَمْ هُوَ أَمْرٌ بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الماهية ويخبر به عنها صِدْقُ الْكُلِّيِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الثَّانِي. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: بِالْأَوَّلِ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ يَسْتَحِيلُ وجودها في الأعيان فلا تُطْلَبُ، وَإِلَّا امْتَنَعَ الِامْتِثَالُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
ووجه ذلك: أنها لو وُجِدَتْ فِي الْأَعْيَانِ لَزِمَ تَعُدُّدُهَا كُلِّيَّةً فِي ضمن الجزئية، فمن حيث إنها مَوْجُودَةٌ تَكُونُ شَخْصِيَّةً جُزْئِيَّةً، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا الماهية الكلية تكون كلية وأنه مُحَالٌ، فَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: "بِعْ هَذَا الثَّوْبَ" فإن هذا لا يكون أمر بِبَيْعِهِ بِالْغَبَنِ، وَلَا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ، وَلَا بِالثَّمَنِ الْمُسَاوِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى البيع، وَتَمْيِيزُهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصِ كَوْنِهِ بِالْغَبَنِ أَوْ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ أَوِ الْمُسَاوِي، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ، وَغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ، فَالْأَمْرُ بِالْبَيْعِ الَّذِي هُوَ جِهَةُ الِاشْتِرَاكِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِمَا بِهِ يَمْتَازُ كُلُّ واحد من الأنواع عن الآخر لا بِالذَّاتِ وَلَا بِالِاسْتِلْزَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَمْرُ بالجنس لا يكون ألبتة أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، لَكِنْ إِذَا دَلَّتِ القرينة على إرادة بعض الأنواع حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ بُرْهَانِيَّةٌ يَنْحَلُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْمَقَامَ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَرَامُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ عِلْمِ الْمَعْقُولِ مِنْ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ ثَلَاثٌ: الْأَوَّلُ: الْمَاهِيَّةُ1 لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ مِنَ الْقُيُودِ، وَلَا بِشَرْطِ عَدَمِهَا، وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَنْطِقِ الْمَاهِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ، وَيُسَمُّونَهَا الْكُلِّيَّ الطَّبِيعِيَّ، وَالْخِلَافُ فِي وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ مَعْرُوفٌ. وَالْحَقُّ: أَنَّ وُجُودَ الطَّبِيعِيِّ بِمَعْنَى وُجُودِ أَشْخَاصِهِ. وَالثَّانِيَةُ: الْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ، أَيْ: بِشَرْطِ خُلُوِّهَا عَنِ الْقُيُودِ، وَيُسَمُّونَهَا الْمَاهِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ. وَالثَّالِثَةُ: الْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ شَيْءٍ مِنَ الْقُيُودِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ. وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ الْمَاهِيَّةَ قَدْ تُؤْخَذُ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَعَ بَعْضِ الْعَوَارِضِ، كَالْإِنْسَانِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ وَبِالْعَكْسِ، وَكَالْمُقَيَّدِ بِهَذَا الشَّخْصِ، فلا يَصْدُقُ عَلَى فَرْدٍ آخَرَ، وَتُسَمَّى الْمَاهِيَّةَ الْمَخْلُوطَةَ، وَالْمَاهِيَّةَ بِشَرْطِ شَيْءٍ، وَلَا ارْتِيَابَ فِي وُجُودِهَا فِي الْأَعْيَانِ، وَقَدْ تُؤْخَذُ بِشَرْطِ التَّجَرُّدِ عَنْ جَمِيعِ الْعَوَارِضِ، وَتُسَمَّى الْمُجَرَّدَةَ، وَالْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ، بَلْ فِي الْأَذْهَانِ، وَقَدْ تُؤْخَذُ لَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً أَوْ مُجَرَّدَةً، بَلْ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يُقَارِنَهَا شَيْءٌ مِنَ العوارض، وأن لا يُقَارِنَهَا، وَتَكُونُ مَقُولًا عَلَى الْمَجْمُوعِ حَالَ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ، وَالْمَاهِيَّةُ لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ، وَالْحَقُّ وُجُودُهَا فِي الْأَعْيَانِ، لَكِنْ لَا مِنْ حيث كَوْنِهَا جُزْءًا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُحَقَّقَةِ، عَلَى مَا هُوَ رَأْيُ الْأَكْثَرِينَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يوجد شيء تصدق هي عليه، وتكون عينه بحسب الخارج، وإن تغايرا بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، وَبِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ يَظْهَرُ لَكَ بُطْلَانُ قَوْلِ: مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهَا، وَلَمْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ يدل على ذلك دلالة مقبولة.
الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين والمتغايرين
الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين والمتغايرين اختلفوا إذا تعاقب أمران بِمُتَمَاثِلَيْنَ، هَلْ يَكُونُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ لِلتَّأْسِيسِ1، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلَ مُكَرَّرًا، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: صِلْ رَكْعَتَيْنِ، صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ الْجُبَائِيُّ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنه لِلتَّأْكِيدِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ: إِلَى أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: بِالْوَقْفِ فِي كَوْنِهِ تَأْسِيسًا أو تأكيدا وبه قال أبو الحسن البصري. واحتج الْقَائِلُونَ بِالتَّأْكِيدِ: بِأَنَّ التَّكْرِيرَ قَدْ كَثُرَ فِي التَّأْكِيدِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ وإلحاق الأقل به أَوْلَى، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ مِنَ التَّكْلِيفِ الْمُتَكَرِّرِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَيُجَابُ بِمَنْعِ كَوْنِ التَّأْكِيدِ أَكْثَرَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى مَدْلُولٍ مُسْتَقِلٍّ هُوَ "الأصل والظاهر"*، الْأَصْلُ الظَّاهِرُ وَبِمَنْعِ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَصْلِيَّةِ الْبَرَاءَةِ أَوْ ظُهُورِهَا، فَإِنَّ تَكْرَارَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا وَظَاهِرًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ كَلَامٍ وَظَاهِرَهُ الْإِفَادَةُ لَا الْإِعَادَةُ. وَأَيْضًا التَّأْسِيسُ "أَكْثَرِيٌّ"** وَالتَّأْكِيدُ "أَقَلِّيٌّ"*** وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ. وَإِذَا تقرر لك رجحان هذا المذهب عَرَفْتَ مِنْهُ بُطْلَانَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ: مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ التَّرْجِيحُ فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ. أَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْفِعْلَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، صُمْ يَوْمًا، وَهَكَذَا إِذَا كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ قامت القرينة الدلالة عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّأْكِيدُ نَحْوُ صُمِ الْيَوْمَ صم اليوم، ونحو صلِ ركعتين صلِ الركعتين، فَإِنَّ التَّقَيُّدَ بِالْيَوْمِ، وَتَعْرِيفَ الثَّانِي يُفِيدَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَكَذَا إِذَا اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّأْكِيدُ نَحْوَ اسْقِنِي مَاءً،
اسْقِنِي مَاءً، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ العطف نحو: صلِ ركعتين وصلِ الركعتين؛ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ الْمُفِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَمْ يُعْهَدْ إِيرَادُهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا والحمل على الأكثر أَوْلَى. أَمَّا لَوْ كَانَ الثَّانِي مَعَ الْعِطْفِ معرفًا فالظاهر التأكيد نحو صلِ ركعتين وَصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ اللَّامِ عَلَى إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى إرادة التأسيس.
الفصل الثاني: في النواهي
الفصل الثاني: في النواهي الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى النَّهْيِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ... الْبَابُ الثَّانِي: فِي النَّوَاهِي وَفِيهِ مَبَاحِثُ ثَلَاثَةٌ: الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى النَّهْيِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا اعْلَمْ: أَنَّ النَّهْيَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمَنْعُ، يقال: نهاه عن كذا أي مَنَعَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ سُمِّي الْعَقْلُ نُهْيَةً؛ لِأَنَّهُ يَنْهَى صَاحِبَهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا يُخَالِفُ الصَّوَابَ وَيَمْنَعُهُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْقَوْلُ الْإِنْشَائِيُّ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، فَخَرَجَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ فَعْلٍ غَيْرُ كَفٍّ، وَخَرَجَ الِالْتِمَاسُ وَالدُّعَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِعْلَاءَ فِيهِمَا. وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "كُفَّ عَنْ كَذَا"*. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ "مُلْتَزِمٌ لِكَوْنِهِ"** مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِ النَّهْيِ، فَلَا يُرِدْ النَّقْضُ بِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ اخْتِلَافَهُمَا بِاخْتِلَافِ الحيثيات والاعتبارات، فقولنا: كف عَنِ الزِّنَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْكَفِّ أَمْرٌ وَإِلَى الزِّنَا نَهْيٌ. وَأَوْضَحُ صِيَغِ النَّهْيِ: "لَا تَفْعَلْ كَذَا" وَنَظَائِرُهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا اسْمُ لَا تفعل من أسماء الأفعال1، "كمه" فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلْ، وَ"صَهٍ" فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَتَكَلَّمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ2 فِي حَدِّ الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يرد فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْكَلَامِ اعْتِرَاضًا وَدَفْعًا
المبحث الثاني: النهي الحقيقي ومعناه
المبحث الثاني: النهي الحقيقي ومعناه اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ الحق، وَيَرِدُ فِيمَا عَدَاهُ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلَ" 1 فَإِنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} 2 فَإِنَّهُ لِلدُّعَاءِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء} 3 فَإِنَّهُ لِلْإِرْشَادِ، وَكَمَا فِي قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ: لَا تَمْتَثِلْ أَمْرِي؟! فَإِنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} 4 فَإِنَّهُ لِلتَّحْقِيرِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} 5 فَإِنَّهُ لِبَيَانِ الْعَاقِبَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} 6 فَإِنَّهُ لِلتَّأْيِيسِ، وَكَمَا فِي قَوْلِكَ لِمَنْ يُسَاوِيكَ: "لَا تَفْعَلْ" فَإِنَّهُ لِلِالْتِمَاسِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ يَرُدُّ مَجَازًا لِمَا وَرَدَ لَهُ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ7، وَلَا يُخَالِفُ الْأَمْرَ إِلَّا فِي كَوْنِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي كَوْنِهِ لِلْفَوْرِ فَيَجِبُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ. قِيلَ: وَيُخَالِفُ الْأَمْرَ أَيْضًا فِي كَوْنِ تَقَدُّمِ الْوُجُوبِ قَرِينَةً دالة على أنه للإباحة، ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على أنه لا يكون تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ قَرِينَةً لِلْإِبَاحَةِ، وَتَوَقَّفَ الْجُوَيْنِيُّ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمُجَرَّدُ هَذَا التَّوَقُّفِ لَا يَثْبُتُ له الطعن فِي نَقْلِ الْأُسْتَاذِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ: بِأَنَّ الْعَقْلَ يَفْهَمُ الْحَتْمَ مِنَ الصِّيغَةِ الْمُجَرَّدَةِ "عَنِ الْقَرَائِنِ"* وَذَلِكَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِاسْتِدْلَالِ السَّلَفِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ الْمُجَرَّدَةِ "عَلَى"* التَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكَرَاهَةِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ ذَلِكَ بَلِ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ هُوَ التَّحْرِيمُ. وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِلَّا كَانَ جَعْلُهُ لِأَحَدِهِمَا تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا، وَيَكُونُ لِلْكَرَاهَةِ إِذَا كان الدليل ظنيًّا. وَرُدَّ: بِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي طَلَبِ التَّرْكِ، وَهَذَا طَلَبٌ قَدْ يُسْتَفَادُ بِقَطْعِيٍّ فَيَكُونُ قطعيًّا، وقد يستفاد بظني فيكون ظنيًّا.
المبحث الثالث: في اقتضاء النهي للفساد
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِالْفِعْلِ، بِأَنَّ طَلَبَ الْكَفِّ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ لِعَيْنِهِ، أَيْ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِجُزْئِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَنْشَأُ النَّهْيِ قُبْحًا ذَاتِيًّا كَانَ النَّهْيُ مقتضيًا لِلْفَسَادِ الْمُرَادِفِ لِلْبُطْلَانِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حِسِّيًا كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّلَاةِ والصوم، والمراد عندهم أنه يقتضيه شَرْعًا لَا لُغَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ لغة كما يقتضيه شَرْعًا. وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَقَطْ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ، وَبِهِ قال أبو الحسين البصري، والغزالي، والرازي، وابن الملاحمي1 وَالرَّصَّاصُ2. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى اقْتِضَائِهِ لِلْفَسَادِ شرعا: بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَالُوا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْفَسَادِ فِي أَبْوَابِ الرِّبَوِيَّاتِ، وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ، وَغَيْرِهَا. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يُفْسِدْ لَزِمَ مِنْ نَفْيِهِ حِكْمَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا النَّهْيُ، وَمِنْ ثُبُوتِهِ حِكْمَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا الصِّحَّةُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَتَيْنِ إِنْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وتساقطتا، فكان فعله كلا
فِعْلٍ، "فَامْتَنَعَ"* النَّهْيُ عَنْهُ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْحِكْمَةِ. وَإِنْ كَانَتْ حِكْمَةُ النَّهْيِ مَرْجُوحَةً فَأَوْلَى؛ لِفَوَاتِ الزَّائِدِ مِنْ مَصْلَحَةِ الصِّحَّةِ، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ خَالِصَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ رَاجِحَةً امْتَنَعَتِ الصِّحَّةُ، لِخُلُوِّهِ عَنِ المصلحة أيضًا، بل لفوت قَدْرِ الرُّجْحَانِ مِنْ مَصْلَحَةِ النَّهْيِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ اقْتِضَائِهِ لِلْفَسَادِ لُغَةً، بِأَنَّ فَسَادَ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ سَلْبِ أَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ النَّهْيِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً قَطْعًا. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لُغَةً كَمَا يَقْتَضِيهِ شرعا، بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَزَالُوا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْفَسَادِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى الْفَسَادِ لِدَلَالَةِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، لَا لِدَلَالَةِ اللُّغَةِ. واستدلوا ثَانِيًا: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ لِمَا تَقَدَّمَ1، وَالنَّهْيُ نَقِيضُهُ، وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَيَكُونُ النَّهْيُ مقتضيًا لِلْفَسَادِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ شرعا، لَا لُغَةً فَاقْتِضَاءُ الْأَمْرِ لِلصِّحَّةِ لُغَةً مَمْنُوعٌ، كَمَا أَنَّ اقْتِضَاءَ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ لُغَةً مَمْنُوعٌ. واستدال الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ: بِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا لو صَحَّتْ لَكَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا نَدْبًا؛ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِبَادَاتِ فَيَجْتَمِعُ النَّقِيضَانِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الفعل والنهي لطلب التَّرْكِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا عَدَمُ اقْتِضَائِهِ لِلْفَسَادِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ فَلِأَنَّهُ لَوِ اقْتَضَاهُ فِي غيرها لكان غُسْلُ النَّجَاسَةِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، وَالذَّبْحُ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبَةٍ، وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ، وَالْبَيْعُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ، وَالْوَطْءُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ غَيْرَ مُسْتَتْبَعَةٍ لِآثَارِهَا مِنْ زوال النجاسة، وَحِلِّ الذَّبِيحَةِ، وَأَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَالْمِلْكِ، وَأَحْكَامِ الْوَطْءِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ كَوْنِ النَّهْيِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لِذَاتِ الشَّيْءِ أَوْ لجزئه، بل لأمر خارج، ولو سُلِّمَ لَكَانَ عَدَمُ اقْتِضَائِهَا لِلْفَسَادِ لِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، فلا يرد النقض بِهَا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا، لَا فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَى الْفَسَادِ لغة أو شَرْعًا، لَنَاقَضَ التَّصْرِيحَ بِالصِّحَّةِ لُغَةً أَوْ شرعا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا بُطْلَانُ اللازم: فلأن
الشَّارِعَ لَوْ قَالَ نَهَيْتُكَ عَنِ الرِّبَا نَهْيَ تحريم ولو فَعَلْتَ لَكَانَ الْبَيْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُوجِبًا لِلْمَلِكِ لَصَحَّ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ، لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا. وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِلَافِ النَّهْيِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ لَهُ عَنِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ نَدَّعِ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَهُ الْفَسَادُ فَقَطْ. وَذَهَبَتِ الحنفية إلى: أن ما لا تتوقف مَعْرِفِتُهُ عَلَى الشَّرْعِ كَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَيَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَصْفِهِ، أَوِ الْمُجَاوِرِ لَهُ، فَيَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ كَالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الْحَائِضِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الشَّرْعِ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَلَمْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مَقْبُولٍ. وَالْحَقُّ: أَنَّ كُلَّ نَهْيٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَفَسَادَهُ الْمُرَادِفَ لِلْبُطْلَانِ، اقْتِضَاءً شَرْعِيًّا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اقْتِضَائِهِ لِذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ قَرِينَةً صَارِفَةً لَهُ مِنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذَا ما ورد في الحديث الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل أمر ليس عليه أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" 1 وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ، وَمَا كَانَ رَدًّا أَيْ: مَرْدُودًا كَانَ بَاطِلًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَعْصَارِهِمْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّوَاهِي عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ النَّهْيِ مقتضيًا للفساد، وصح عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إذا أمرتكم بأمر فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِنْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ" 2 فَأَفَادَ وُجُوبَ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَدَعْ عَنْكَ مَا "رَاوَغُوا3"*به من الرأي.
هَذَا إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ؛ أَمَّا لَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِوَصْفِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ النَّهْيِ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بَلْ عَلَى فَسَادٍ نَفْسِ الْوَصْفِ. وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ: بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ لَوْ دَلَّ عَلَى فَسَادِ الْأَصْلِ لَنَاقَضَ التَّصْرِيحَ بِالصِّحَّةِ كَمَا مَرَّ. وَأَيْضًا كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ طَلَاقُ الْحَائِضِ، وَلَا ذَبْحُ مِلْكِ الْغَيْرِ لِحُرْمَتِهِ إِجْمَاعًا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْأَصْلِ، محتجيين بِأَنَّ النَّهْيَ ظَاهِرٌ فِي الْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ لِذَاتِهِ أَوْ "لِوَصْفِهِ"* وَمَا قِيلَ مِنْ جَوَازِ التَّصْرِيحِ بِالصِّحَّةِ فَمُلْتَزَمٌ إِنْ وَقَعَ، وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى فَسَادِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ صَوْمِهِ1 وَلَيْسَ ذَلِكَ لِذَاتِهِ، وَلَا لِجُزْئِهِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بَلْ لِكَوْنِهِ صَوْمًا فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَهُوَ وَصْفٌ لِذَاتِ الصَّوْمِ. قَالَ بَعْضُ المحققين من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عَنِ الشَّيْءِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ نَحْوَ "لَا تُصَلِّ كذا" ولا "تبع كذا" وحاصله ما يُنْهَى عَنْ وَصْفِهِ لَا مَا يَكُونُ الْوَصْفُ عِلَّةً لِلنَّهْيِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ نَحْوُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَقِيلَ: لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ لِعَدَمِ مُضَادَّتِهِ لِوُجُوبِ أَصْلِهِ لِتَغَايُرِ الْمُتَعَلِّقِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُضَادُّ وُجُودَ أَصْلِهِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ، وَلِجُزْئِهِ، وَلِوَصْفٍ لَازِمٍ، وَلِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ، وَيَحْكُمُونَ فِي بَعْضٍ بِالصِّحَّةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْفَسَادِ فِي الأصل، أو في الوصف ولهم في
ذَلِكَ فُرُوقٌ وَتَدْقِيقَاتٌ لَا تَقُومُ بِمِثْلِهَا الْحُجَّةُ. نعم النهي عن الشيء لذته أو لجزته الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِلْوَصْفِ الْمُلَازِمِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ مَا دَامَ ذَلِكَ الْوَصْفُ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُفَارِقٍ أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهُ عِنْدَ إِيقَاعِهِ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَعِنْدَ إِيقَاعِهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَارِجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِيقَاعِهِ مُقَيَّدًا بِهِمَا يستلزم فساده ما داما قيدًا له.
الفصل الثالث: في العموم
الفصل الثالث: في الْعُمُومُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ ... الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي الْعُمُومِ وَفِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لَفْظًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَمَّهُمُ الْخَيْرُ إِذَا شَمَلَهُمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ. وَأَمَّا حَدُّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ الرِّجَالُ فَإِنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ النَّكِرَاتُ، كَقَوْلِهِمْ رَجُلٌ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ الدُّنْيَا، وَلَا يَسْتَغْرِقُهُمْ، وَلَا التثنية، ولا الجميع؛ لأن لفظ رجلان ورجال يَصْلُحُ لِكُلِّ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَلَا يُفِيدَانِ الِاسْتِغْرَاقَ، وَلَا أَلْفَاظُ الْعَدَدِ كَقَوْلِنَا: خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِكُلِّ خَمْسَةٍ وَلَا يَسْتَغْرِقُهُ. وَقَوْلُنَا: بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، وَالَّذِي لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، فَإِنَّ عُمُومَهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَنَاوَلَ مَفْهُومَيْهِ مَعًا. انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِّ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ. وَرُدَّ عَلَيْهِ الْمُشْتَرَكُ إِذَا اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ أَفْرَادِ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ عَنْهُ بِزِيَادَةِ قَيْدِ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ نَحْوُ عَشَرَةٍ وَمِائَةٍ وَنَحْوُهُمَا لِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْمُتَعَدِّدِ الَّذِي يُفِيدُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَدُفِعَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ فِي "الْمَحْصُولِ". وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ1: هُوَ مساواة بعض ما تناوله لبعض.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مساوٍ لِلْآخَرِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: أَقَلُّ الْعُمُومِ شَيْئَانِ، كَمَا أَنَّ الْخُصُوصَ وَاحِدٌ، وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الشُّمُولُ، وَالشُّمُولُ حَاصِلٌ فِي التَّثْنِيَةِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَا تُسَمَّى عُمُومًا لَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا: أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا سُلِبَ عَنِ التَّثْنِيَةِ أَقَلُّ الْجَمْعِ، فَسَلْبُ الْعُمُومِ عَنْهَا أَوْلَى. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعُمُومُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ هُوَ الْقَوْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، وَالتَّثْنِيَةُ عِنْدَهُمْ عُمُومٌ لِمَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالشُّمُولُ، الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْوَاحِدِ. وَلَا يَخْفَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ وَلَا مَانِعٍ، أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ، فَلِخُرُوجِ لَفْظِ الْمَعْدُومِ، وَالْمُسْتَحِيلِ فَإِنَّهُ عَامُّ وَمَدْلُولُهُ لَيْسَ بشيء، وأيضًا الموصولات مع صلاتها مع جُمْلَةِ الْعَامِّ وَلَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ فَلِأَنَّ كُلَّ مُثَنًّى يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جَمْعٍ لِمَعْهُودٍ وَلَيْسَ بِعَامٍّ. وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْمَعْدُومَ وَالْمُسْتَحِيلَ شَيْءٌ لُغَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فِي الِاصْطِلَاحِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ الْمَوْصُولَاتِ هِيَ الَّتِي "ثَبَتَ لَهَا الْعُمُومُ""1". وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: اشْتُهِرَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعُمُومَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ عُمُومٌ وَمَا دُونَهُ عُمُومٌ وَأَقَلُّ الْعُمُومِ اثْنَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّ الْعَامَّ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ مُطْلَقًا ضَرْبَةً؛ فَقَوْلُهُ: مَا دَلَّ جِنْسٌ، وَقَوْلُهُ: عَلَى مُسَمَّيَاتٍ يُخْرِجُ نَحْوَ زَيْدٍ، وَقَوْلُهُ: بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ يُخْرِجُ نَحْوَ عَشَرَةٍ، فَإِنَّ الْعَشَرَةَ دَلَّتْ عَلَى آحَادٍ لَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ لِأَنَّ آحَادَ الْعَشَرَةِ أَجْزَاءُ الْعَشَرَةِ لَا جُزْئِيَّاتُهَا، فَلَا يَصْدُقُ عَلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ عَشَرَةٌ. وَقَوْلُهُ: "مُطْلَقًا" لِيُخْرِجَ الْمَعْهُودَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ مَعَ قَيْدٍ خَصَّصَهُ بِالْمَعْهُودَيْنِ وَقَوْلُهُ: "ضَرْبَةً" أَيْ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِيُخْرِجَ نَحْوَ "رَجُلٍ" مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُفْرَدَاتِهِ بَدَلًا لَا شُمُولًا. وَيَرِدُ عَلَيْهِ خُرُوجُ نَحْوِ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ مِمَّا يُضَافُ مِنَ الْعُمُومَاتِ إِلَى مَا يُخَصِّصُهُ، مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ قُصِدَ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، وَوَجْهُ وُرُودِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارِهِ فِي التَّعْرِيفِ "لقيد""2" الإطلاق، مع
أَنَّ الْعَامَّ الْمُضَافَ قَدْ قُيِّدَ بِمَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الَّذِي اشْتَرَكَتِ الْمُسَمَّيَاتُ فِيهِ هُوَ عُلَمَاءُ الْبَلَدِ مُطْلَقًا لَا "الْعُلَمَاءُ"*، وَعَالِمُ الْبَلَدِ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِقَيْدٍ وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْعُلَمَاءُ، "فَأُورِدَ"** عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَدِ اعْتَبَرَ الْإِفْرَادَ فِي الْعَامِّ، وَعُلَمَاءُ الْبَلَدِ مُرَكَّبٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَامَّ إِنَّمَا هُوَ الْمُضَافُ، مِنْ حَيْثُ إنه مضاف والمضاف إِلَيْهِ خَارِجٌ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ، كَرِجَالٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ، وَهِيَ آحَادُهُ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ، وَهُوَ مَفْهُومُ رَجُلٍ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الْعَهْدِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ الِاسْتِغْرَاقَ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى الْمُعْتَبِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي حَدِّ الْعَامِّ مُطْلَقًا, مُفْرَدًا كَانَ أَوْ جَمْعًا أن دلالته على الفرد تضمنيه؛ إِذْ لَيْسَ الْفَرْدُ مَدْلُولًا مُطَابِقِيًّا؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ الْمُطَابِقِيَّ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَفْرَادِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْمَفْهُومِ الْمُعْتَبَرِ فِيهِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَا خَارِجًا وَلَا لَازِمًا، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ أَيِ: الفرد مما صدق عَلَيْهِ الْعَامُّ لِصَيْرُورَتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَى إِفْرَادِهِ بَدَلًا، بَلْ شُمُولًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالْكُلِّ تَعْلِيقُهُ بِكُلِّ جُزْئِيٍّ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالْكُلِّ تَعْلِيقُهُ بِالْجُزْءِ لُزُومًا لُغَوِيًّا "لَا عَقْلِيًّا"*** وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْفِي فِي الرُّسُومِ؛ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْعَامِّ عَلِمْتَ أَنَّ أَحْسَنَ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا1 عَنْ صَاحِبِ "الْمَحْصُولِ"، لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدِ "دَفْعَةً"، فَالْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِحَسَبِ وضع واحد دفعة.
المسألة الثانية: العموم من عوارض الألفاظ
المسألة الثانية: "العموم من عوارض الألفاظ" ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فَإِذَا قِيلَ: هَذَا لَفْظٌ عَامٌّ، صَدَقَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ يَرْجِعَانِ إِلَى الْكَلَامِ، ثُمَّ الْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ
الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ "وَهُوَ الَّذِي يَعُمُّ وَيَخُصُّ، وَالصِّيَغُ وَالْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُسَمَّى بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إِلَّا تَجَوُّزًا، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ بِالنَّفْسِ"* دُونَ الصِّيَغِ. انْتَهَى. وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِالْعُمُومِ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَلْفَاظِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تَتَّصِفُ بِهِ حَقِيقَةً كَمَا تَتَّصِفُ بِهِ الْأَلْفَاظُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تَتَّصِفُ بِهِ مَجَازًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا: بِأَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ فِي شُمُولِ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ، فَكَمَا صَحَّ فِي الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ شُمُولِ لَفْظٍ لمعانٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَسَبِ الْوَضْعِ، صَحَّ فِي الْمَعَانِي بِاعْتِبَارِ شُمُولِ "مَعْنًى"** لمعانٍ مُتَعَدِّدَةٍ "لِأَنَّهُ"*** لَا يُتَصَوَّرُ شُمُولُ أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَعُمُومِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ "وَالْقَحْطِ لِلْبِلَادِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: عَمَّ الْمَطَرُ وَعَمَّ الْخِصْبُ"**** وَنَحْوُهُمَا، وَكَذَلِكَ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا شَامِلَةٌ لِجُزْئِيَّاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهَا. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمَنْطِقِيُّونَ: الْعَامُّ مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ، وُقُوعَ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَالْخَاصُّ بِخِلَافِهِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَامَّ شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ، وَشُمُولُ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ ونحوهما ليس كذلك؛ إذ لموجود فِي مَكَانٍ غَيْرُ الْمَوْجُودِ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَفْرَادٌ مِنَ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ. وَأَيْضًا مَا ذَكَرُوهُ عَنِ الْمَنْطِقِيِّينَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُمْ "إِنَّمَا"***** يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْكُلِّيِّ لَا عَلَى الْعَامِّ. وَرُدَّ بِمَنْعِ كَوْنِهِ يُعْتَبَرُ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ لُغَةً هَذَا الْقَيْدُ، بَلْ يَكْفِي الشُّمُولُ، سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ أَمْرٌ وَاحِدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَذَا، هُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، فَمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ "وَاعْتَبَرُوا وَحْدَةَ الْأَمْرِ وَحْدَةً شَخْصِيَّةً"****** مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى الْمَعَانِي، فَلَا يُقَالُ هَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَا شُمُولَ لَهُ، وَلَا يَتَّصِفُ بالشمول لمتعدد إلا الموجود
الذِّهْنِيُّ، وَوَحْدَتُهُ لَيْسَتْ بِشَخْصِيَّةٍ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ إِطْلَاقُ الْعُمُومِ عَلَى الْمَعَانِي مَجَازًا لَا حَقِيقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّازِيُّ. وَمَنْ فَهِمَ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الشُّمُولُ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ أَعَمُّ مِنَ الشَّخْصِيِّ وَمِنَ النَّوْعِيِّ أَجَازَ إِطْلَاقَ الْعَامِّ عَلَى الْمَعَانِي حَقِيقَةً. وَقِيلَ: إِنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ صِحَّةِ تَخْصِيصِ الْمَعْنَى الْعَامِّ، كَمَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ لَا فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِالْعُمُومِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ نُصُوصَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ خِلَافَهُمْ فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِالْعُمُومِ.
المسألة الثالثة: تصور العموم في الأحكام
المسألة الثالثة: "تَصَوُّرِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْكَامِ" هَلْ يُتَصَوَّرُ الْعُمُومُ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى يُقَالَ حُكْمُ قَطْعِ السَّارِقِ عَامٌّ؟ أَنْكَرَهُ الْقَاضِي، وَأَثْبَتَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْحَقُّ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ أَوْ إِلَى وَصْفٍ يَرْجِعُ إِلَى الذَّاتِ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لَمْ يُتَصَوَّرِ الْعُمُومُ لِمَا تَقَدَّمَ1 فِي الْأَفْعَالِ، وَإِنْ قُلْنَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّارِق} 2 يَشْمَلُ كُلَّ سَارِقٍ فَنَفْسُ الْقَطْعِ فِعْلٌ، وَالْأَفْعَالُ لَا عُمُومَ لَهَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ3 الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ "مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ"4: دَعْوَى الْعُمُومِ فِي الْأَفْعَالِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَدَلِيلُنَا: أَنَّ الْعُمُومَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةٍ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَصِحُّ الْعُمُومُ إِلَّا فِي الْأَلْفَاظِ، وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ عُرِفَتِ اخْتُصَّ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِلَّا صَارَ مُجْمَلًا، فَمَا عُرِفَتْ صِفَتُهُ مِثْلَ قَوْلِ الرَّاوِي: "جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ"5 فَهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى السَّفَرِ، وَمِنَ الثاني قوله في
السَّفَرِ "فَلَا يُدْرَى أَنَّهُ كَانَ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا"1 فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَلَا يُدَّعَى فِيهِ الْعُمُومُ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: أَطْلَقَ الْأُصُولِيُّونَ أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ لَا "يُتَصَوَّرَانِ"* إِلَّا فِي الْأَقْوَالِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَفْعَالِ، أَعْنِي فِي ذَوَاتِهَا، فَأَمَّا فِي أَسْمَائِهَا فَقَدْ يَتَحَقَّقُ، وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، كَمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَعَانِيَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ يُوصَفُ بِهِ مَجَازًا. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ"2: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْعُمُومِ إِلَّا الْقَوْلُ فَقَطْ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ادِّعَاؤُهُ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ: حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِ الْخِطَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صِيغَةٌ "تَعُمُّ"** كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3 فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ تَنَاوُلُ التَّحْرِيمِ لَهَا عَمَّهَا بِتَحْرِيمِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْأَكْلِ، وَالْبَيْعِ وَاللَّمْسِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَحْكَامِ ذِكْرٌ فِي التَّحْرِيمِ بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" 4 عَامٌّ فِي الإجزاء والكمال "قال"***: وَالَّذِي يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: اخْتِصَاصُهُ بِالْقَوْلِ وإن وصفهم بالجور وَالْعَدْلَ بِأَنَّهُ عَامٌّ مَجَازٌ. انْتَهَى. فَعَرَفْتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِي اتِّصَافِ الْأَحْكَامِ بِالْعُمُومِ كَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اتِّصَافِ الْمَعَانِي بِهِ.
المسألة الرابعة: الفرق بين العام والمطلق
المسألة الرابعة: "الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ" اعْلَمْ: أَنَّ الْعَامَّ عُمُومُهُ شُمُولِيٌّ، وَعُمُومُ الْمُطْلَقِ بَدَلِيٌّ، وَبِهَذَا يَصِحُّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَى الْمُطْلَقِ اسْمَ الْعُمُومِ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَوَارِدَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ
"مِنْ هَذِهِ"* الْحَيْثِيَّةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ عُمُومِ الشُّمُولِ وَعُمُومِ الْبَدَلِ، أَنَّ عُمُومَ الشُّمُولِ كُلِّيٌّ يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، وَعُمُومَ الْبَدَلِ كُلِّيٌّ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُ مَفْهُومِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، بَلْ عَلَى فَرْدٍ شَائِعٍ فِي أَفْرَادِهِ يَتَنَاوَلُهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا دُفْعَةً. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، سَلْبًا كَانَ ذَلِكَ الْقَيْدُ أَوْ إِيجَابًا فَهُوَ الْمُطْلَقُ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مَعَ قَيْدِ الْكَثْرَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ كَثْرَةً مُعَيَّنَةً بِحَيْثُ لَا تَتَنَاوَلُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْكَثْرَةُ كَثْرَةً مُعَيَّنَةً فَهُوَ الْعَامُّ، وَبِهَذَا ظَهَرَ خَطَأُ مَنْ قَالَ الْمُطْلَقُ هُوَ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا وَغَيْرَ مُعَيَّنٍ قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. انتهى. فيجعل في كلامه هذا معنى الْمُطْلَقُ عَنِ التَّقْيِيدِ، فَلَا يَصْدُقُ إِلَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَهُوَ غَيْرُ مَا عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحُ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ وَغَيْرِهِمْ كَمَا عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا. وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْعَامِّ، فَقَالَ: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَنَاوِلُ، وَالْعُمُومُ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، فَالْعُمُومُ مَصْدَرٌ، وَالْعَامُّ، فَاعِلٌ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا الْمَصْدَرِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ وَالْفِعْلَ غَيْرُ الْفَاعِلِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ الْإِنْكَارُ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ وَابْنِ بُرْهَانٍ وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِمْ: الْعُمُومُ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ، فَإِنْ قِيلَ: أَرَادُوا بِالْمَصْدَرِ اسْمَ الْفَاعِلِ، قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ مَجَازٌ، وَلَا ضَرُورَةَ لِارْتِكَابِهِ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ. وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الْأَعَمِّ وَالْعَامِّ، بِأَنَّ الْأَعَمَّ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى وَالْعَامُّ فِي اللَّفْظِ، فَإِذَا قِيلَ هَذَا أَعَمُّ تَبَادَرَ الذِّهْنُ لِلْمَعْنَى، وَإِذَا قِيلَ هذا عام تبادر الذهن للفظ.
المسألة الخامسة: صيغ العموم
المسألة الخامسة: "صيغ العموم" ذهب الجمهور إلى الْعُمُومَ لَهُ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَهِيَ أَسْمَاءُ الشَّرْطِ، وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْمَوْصُولَاتُ، وَالْجُمُوعُ الْمُعَرَّفَةُ تَعْرِيفَ الجنس، والمضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفردة المحلي بِاللَّامِ، وَلَفْظُ كُلٍّ، وَجَمِيعٍ وَنَحْوِهَا، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى عُمُومِ هَذِهِ الصِّيَغِ وَنَحْوِهِ ذِكْرًا مُفَصَّلًا.
قَالُوا: لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِتَعَذُّرِ جَمْعِ الْآحَادِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ وَالْإِفْهَامُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تَضْرِبْ أَحَدًا، فُهِمَ مِنْهُ الْعُمُومُ حَتَّى لَوْ ضَرَبَ وَاحِدًا عُدَّ مُخَالِفًا، وَالتَّبَادُرُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ لِلْعُمُومِ حَقِيقَةً فَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ، وَأَيْضًا لَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِمِثْلِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1 و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} 2، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَحْتَجُّونَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ "بمثل"* عند الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ: "لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِي شَأْنِهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} " 3 وما ثابت أَيْضًا مِنِ احْتِجَاجِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْعُدُولُ إِلَى التَّيَمُّمِ مَعَ شِدَّةِ الْبَرْدِ. فَقَالَ سَمِعْتُ الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} 4 فَقَرَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5؛ وَكَمْ يَعُدُّ الْعَادُّ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَادِّ. وَمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّهُ إنما فهم بِالْقَرَائِنِ جَوَابٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَابِ6 مِنَ المالكية، ومحمد بن شجاع البلخي7 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصِّيَغِ مَوْضُوعٌ فِي الخصوص، وهو أقل الجمع أما
اثْنَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، عَلَى الْخِلَافِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ إِلَّا بِقَرِينَةٍ. قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَالْإِمَامُ فِي "الْبُرْهَانِ": يَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّيَغَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْجَمْعِ نُصُوصٌ فِي الْجَمْعِ مُحْتَمِلَاتٌ فِيمَا عَدَاهُ إِذَا لَمْ تَثْبُتْ قَرِينَةٌ تقتضي تعديها على أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَوْضُوعٌ لِلْخُصُوصِ مُجَرَّدُ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا، وَكُلُّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ وَاسْتِعْمَالَاتِ الشَّرْعِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُرْجِئَةِ1: إِنَّ شَيْئًا مِنَ الصِّيَغِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِذَاتِهِ، وَلَا مَعَ الْقَرَائِنِ، بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. قَالَ فِي "الْبُرْهَانِ": نَقَلَ مصنفوا الْمَقَامَاتِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْوَاقِفِيَّةِ2 أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لِمَعْنَى الْعُمُومِ صِيغَةً لَفْظِيَّةً، وَهَذَا النَّقْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَلَلٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَ التَّعْبِيرِ عَنْ مَعْنَى الْجَمْعِ بِتَرْدِيدِ أَلْفَاظٍ تُشْعِرُ بِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ الْقَوْمَ وَاحِدًا وَاحِدًا، لَمْ يَفُتْنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِقَطْعِ تَوَهُّمِ مَنْ يَحْسَبُهُ خُصُوصًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْوَاقِفِيَّةُ لَفْظَةً وَاحِدَةً مُشْعِرَةً بِمَعْنَى الْجَمْعِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ: أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ مَدْفُوعٌ بِمِثْلِ مَا دُفِعَ بِهِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ إِهْمَالَ الْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِكَوْنِهِ عَامًّا شَامِلًا عِنَادٌ وَمُكَابَرَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ بِالْوَقْفِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ سَبَرُوا اللُّغَةَ وَوَضْعَهَا، فَلَمْ يَجِدُوا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ صِيغَةً دَالَّةً عَلَى الْعُمُومِ، "سَوَاءٌ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً"* بِالْقَرَائِنِ فَإِنَّهَا لَا تُشْعِرُ بِالْجَمْعِ، بَلْ تَبْقَى عَلَى التَّرَدُّدِ، هَذَا وَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ فِيهِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ عِنْدِي بِالتَّوَابِعِ الْمُؤَكِّدَةِ لمعنى الجمع، كقول القائل: رأيت القوم
أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ1، فَلَا يُظَنُّ بِذِي عَقْلٍ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا. انْتَهَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْوَاقِفِيَّةُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَئِمَّتِهِمْ: الْقَوْلُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الكرخي. قال: وربما ظن مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. الثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِصِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُرْجِئَةِ. الرَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا. الْخَامِسُ: الْوَقْفُ فِي الْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ، قَالَ الْقَاضِي: وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِالشَّطْحِ، وَالتُّرَّهَاتِ2 دُونَ الْحَقَائِقِ. السَّادِسُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ لَا يَسْمَعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ شَيْئًا مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَكَانَتْ وَعْدًا أَوْ وعيدًا، فيعلم أن المراد بها للعموم، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِهِ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ، وَعَلِمَ انْقِسَامَهَا إِلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَلَا يُعْلَمُ حِينَئِذٍ الْعُمُومُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ". السَّابِعُ: الْوَقْفُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ خطاب الشرع "منه"* صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَعَرَفَ تَصَرُّفَاتِهِ فَلَا وَقْفَ فِيهِ، كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ. الثَّامِنُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ، دُونَ مَا إِذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ. التَّاسِعُ: أَنَّ لَفْظَةَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الشَّرْعِ أَفَادَتِ الْعُمُومَ دُونَ غَيْرِهَا، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ عَلِمْتَ انْدِفَاعَ مَذْهَبِ الْوَقْفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ تَوَازُنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُخْتَلِفُونَ فِي الْعُمُومِ، بَلْ لَيْسَ بِيَدِ غَيْرِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مِمَّا يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَقُّفِ وَلَا مُقْتَضَى لَهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كَوْنَ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا سُتْرَةَ بِهِ وَلَا شُبْهَةَ فِيهِ، ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْهَمُ فَهْمًا صَحِيحًا، وَيَعْقِلُ الْحُجَّةَ، وَيَعْرِفُ مقدارها في نفسها ومقدار ما يخالفها.
المسألة السادسة: في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك الصيغ للعموم وفيه فروع
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ كُلَّ صِيغَةٍ مِنْ تِلْكَ الصِّيَغِ لِلْعُمُومِ وَفِيهِ فُرُوعٌ الْفَرْعُ الْأَوَّلُ فِي: مَنْ، وَمَا، وَأَيْنَ، وَمَتَى، للاستفهاز؟ فَهَذِهِ الصِّيَغُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْعُمُومِ فَقَطْ، أو للخصوص فقط أَوْ لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَالْكُلُّ بَاطِلٌ إِلَّا الْأَوَّلَ. أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْخُصُوصِ فَقَطْ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ بِذِكْرِ كُلِّ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، لَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي حُسْنِ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِالِاشْتِرَاكِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ الْمُمْكِنَةِ. مَثَلًا إِذَا قَالَ: مَنْ عِنْدَكَ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولَ: سَأَلْتَنِي عَنِ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، فَإِذَا قَالَ: عَنِ الرِّجَالِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تقول: سألتني عن العرب أو الْعَجَمِ، فَإِذَا قَالَ: عَنِ الْعَرَبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولَ: عَنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرَ، وَهَكَذَا إلى أن تأتي على جميع "التقسيمات"* الْمُمْكِنَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَبَيْنَ مَرْتَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْخُصُوصِ، أَوْ بَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْمَرَاتِبِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْخُصُوصِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْسُنَ مِنَ الْمُجِيبِ ذِكْرُ الْجَوَابِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُلِّ تِلْكَ الْأَقْسَامِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، فَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ مُحْتَمِلًا لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَلَوْ أَجَابَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ مَا عَنْهُ وَقَعَ السُّؤَالُ لَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنْ لَوْ صَحَّ الِاشْتِرَاكُ لَوَجَبَتْ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتُ، لَكِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ لَا عَامَّ إِلَّا وَتَحْتَهُ عَامٌّ آخَرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ التقسيمات الممكنة غير
مُتَنَاهِيَةٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مُحَالٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُمْ يَسْتَقْبِحُونَ مِثْلَ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّيغَةُ غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَبَطَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. الْفَرْعُ الثَّانِي: فِي صِيغَةِ مَنْ وَمَا فِي الْمُجَازَاةِ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمُهُ؛ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْمُخَاطَبِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مُوجِبِ الْأَمْرِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ، لَكِنَّهُ قَدْ حَسُنَ ذَلِكَ بِدُونِ اسْتِفْهَامٍ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَأَيْضًا لَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمُهُ، حَسُنَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَحُسْنُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ ضَرُورَةً، وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْجِنْسِ "لَا بُدَّ أَنْ"* يَصِحَّ دُخُولُهُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ مَعَ الصِّحَّةِ الْوُجُوبُ أَوْ يُعْتَبَرَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي فُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا، وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي الْفُقَهَاءُ إِلَّا زَيْدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ يَقْتَضِي إِخْرَاجَ مَا لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ تَحْتَ اللَّفْظِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: فِي أَنَّ صِيغَةَ كُلٌّ وَجَمِيعٌ يُفِيدَانِ الِاسْتِغْرَاقَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي كُلُّ عَالِمٍ فِي الْبَلَدِ أَوْ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ، فَإِنَّهُ يُنَاقِضُهُ قَوْلُكُ: مَا جَاءَنِي كُلُّ عَالِمٍ فِي الْبَلَدِ، وَمَا جَاءَنِي جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ فِي تَكْذِيبِ الْآخَرِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا أَفَادَ الْكُلُّ الِاسْتِغْرَاقَ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَنِ الْكُلِّ لَا يُنَاقِضُ الثُّبُوتَ فِي الْبَعْضِ، وَأَيْضًا صِيغَةُ الْكُلِّ وَالْجَمِيعِ مُقَابِلَةٌ لِصِيغَةِ الْبَعْضِ، وَلَوْلَا أَنَّ صِيغَتَهُمَا غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِلْبَعْضِ، لَمْ تَكُنْ مُقَابِلَةً، وَأَيْضًا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: ضَرَبْتُ كُلَّ مَنْ فِي الدَّارِ أَوْ ضَرَبْتُ جَمِيعَ مَنْ فِي الدَّارِ سَبَقَ إِلَى الْفَهْمِ الِاسْتِغْرَاقُ، ولو كانت صيغة الكل أو الجمع مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَمَّا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْهُومَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ مُبَادَرَةُ الْفَهْمِ إِلَى أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ."وَأَيْضًا إِذَا"** قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: اضْرِبْ كُلَّ مَنْ دَخَلَ دَارِي، أَوْ جَمِيعَ مَنْ دَخَلَ دَارِي، فَضَرَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ دَخَلَ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِضَرْبِ جَمِيعِهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إِذَا تَرَكَ الْبَعْضَ مِنْهُمْ، وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَعْتِقْ كُلَّ عَبِيدِي، أَوْ جَمِيعَ عَبِيدِي ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِعِتْقِ كُلِّ عَبْدٍ له، ولا يحصل
امْتِثَالُهُ بِعِتْقِ الْبَعْضِ، وَأَيْضًا لَا يَشُكُّ عَارِفٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: جَاءَنِي رِجَالٌ، وَجَاءَنِي كُلُّ الرِّجَالِ، وَجَمِيعُ الرِّجَالِ، فَرْقًا ظَاهِرًا، وَهُوَ دَلَالَةُ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إِذَا أَرَادُوا التَّعْبِيرَ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ جَاءُوا بِلَفْظِ كُلٌّ، وَجَمِيعٌ، وَمَا يُفِيدُ مَفَادَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهُمَا عِنْدَ إِرَادَتِهِمْ لِلِاسْتِغْرَاقِ عَبَثًا. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: لَيْسَ بَعْدَ كُلٌّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ أَعَمُّ مِنْهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقَعَ مُبْتَدَأً بِهَا أَوْ تَابِعَةً، تَقُولُ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَجَاءَنِي الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْمُؤَكَّدَ بِهِ عَامٌّ وَهِيَ تَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ، وَغَيْرَهُمْ وَالْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ، وَالْمُفْرَدَ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعَ فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَقْوَى صِيَغِ الْعُمُومِ، وَتَكُونُ فِي الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، تَقُولُ كُلُّ النِّسَاءِ، وَكُلُّ الْقَوْمِ، وَكُلُّ رَجُلٍ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَجُلٍ: كُلُّ رِجَالٍ، فَأَقَامُوا رَجُلًا مَقَامَ رِجَالٍ؛ لِأَنَّ رَجُلًا شَائِعٌ في الجنس، والرجال الجنس، ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه بكل، وَلَا يُؤَكَّدُ بِهَا إِلَّا ذُو أَجْزَاءٍ، وَلَا يُقَالُ: جَاءَ زَيْدٌ كُلُّهُ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَى كُلٌّ، وَبَيْنَ أَنْ تَتَقَدَّمَ هِيَ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ نَحْوَ: كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ يَقُمْ أَفَادَتِ التَّنْصِيصَ عَلَى انْتِفَاءِ قِيَامِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَإِنْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عَلَيْهَا مِثْلَ: لَمْ يَقُمْ كُلُّ الْقَوْمِ لَمْ تَدُلَّ إِلَّا عَلَى نَفْيِ الْمَجْمُوعِ، وَذَلِكَ بصدق بِانْتِفَاءِ الْقِيَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ عُمُومَ السَّلْبِ وَالثَّانِي سَلْبَ الْعُمُومِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ يُحْكَمُ فِيهِ بِالسَّلْبِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ، وَالثَّانِيَ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ إِنَّمَا أَفَادَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضِهِمْ. قَالَ "الْقَرَافِيُّ"*: وَهَذَا شَيْءٌ اخْتُصَّتْ بِهِ كُلٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ، قَالَ: وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَيَانِ، وَأَصْلُهَا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ" لَمَّا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ1. انتهى.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فِي مَعْنَى كُلٌّ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَ جَمِيعٌ هُوَ بِمَعْنَى كُلٌّ الْإِفْرَادِيِّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَنَّهَا لِلْعُمُومِ الْإِحَاطِيِّ، وقيل: يفترقان من جهة كون دلالة على كل فَرْدٍ بِطْرِيقِ النُّصُوصِيَّةِ بِخِلَافِ جَمِيعٌ. وَفَرَّقَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ كُلٌّ تَعُمُّ الْأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الانفراد، وجميع تَعُمُّهَا عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الزَّجَّاجَ1 حَكَى هَذَا الْفَرْقَ عَنِ الْمُبَرِّدِ2. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: لَفْظُ أَيُّ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ صِيَغِ العموم، إذا كانت شريطة أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى} 3 وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} 4؛ وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي صِيَغِ الْعُمُومِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَالْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: وَتَصْلُحُ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "التَّخْلِيصِ"5: إِلَّا أَنَّهَا تتناول على جهة الانفراد دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ، وَلِهَذَا إِذَا قُلْتَ: أَيُّ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَكَ، لَمْ يُجِبْ إِلَّا بِذِكْرِ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي "الْقَوَاطِعِ"6: وَأَمَّا كَلِمَةُ أَيُّ فَقِيلَ: كَالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا تَصْحَبُهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ فَعَلَ هَذَا وَأَيَّ دَارٍ دَخَلَ؟ قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} وَهِيَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ: أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْبَدَلِيِّ لَا الشُّمُولِيِّ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهَا للعموم والشمولي، وَتَوَسَّعَ الْقَرَافِيُّ فَعَدَّى عُمُومَهَا إِلَى الْمَوْصُولَةِ وَالْمَوْصُوفَةِ فِي النِّدَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَدِّهِ كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقُشَيْرِيِّ لِأَجْلِ قَوْلِ النُّحَاةِ: إِنَّهَا بِمَعْنَى بَعْضُ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَيَّ وَقْتٍ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يتكرر
الطَّلَاقُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ كَمَا فِي كُلَّمَا. وَالْحَقُّ: أَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ، وَكَوْنُ مَدْلُولِهَا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الصِّيَغِ فِي الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ صَاحِبُ "اللُّبَابِ"1 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو زَيْدٍ فِي "التَّقْوِيمِ": كَلِمَةُ أَيُّ نَكِرَةٌ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ بِنَفْسِهَا إِلَّا بِقَرِينَةٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} ولم يقل يأتوني، لو قَالَ لِغَيْرِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُمْ لَمْ يُعْتَقْ إِلَّا وَاحِدٌ، فَإِنَّ وَصْفَهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ كَانَتْ لِلْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، فَضَرَبُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا، لِعُمُومِ فِعْلِ الضَّرْبِ، وَصَرَّحَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَالَ: وَأَمَّا أَيُّ فَهِيَ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَتَنَاوَلُ جُزْءًا مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} فَجَاءَ بِهِ وَاحِدٌ وَقَالَ: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 2، وَصَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالشَّاشِيُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَأَنَّ الْعَبِيدَ يُعْتَقُونَ جَمِيعًا فِيهِمَا وَجَزَمَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ"3 بِأَنَّهَا في الشرط والاستفهام ككل مَعَ النَّكِرَةِ، وَكَالْبَعْضِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا "قَرَّرَهُ"* النُّحَاةُ فِيهَا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَيَّ رَجُلٍ تَضْرِبْ أَضْرِبْ، وَبَيْنَ أَيَّ "الرَّجُلَيْنِ"** تَضْرِبْ أَضْرِبْ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: النَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ فَإِنَّهَا تَعُمُّ وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: أَكَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا، فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ: مَا أَكَلْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا، فَذِكْرُهُمْ هَذَا النَّفْيَ عن تَكْذِيبِ ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى كَوْنِهِ مُنَاقِضًا لَهُ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: مَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَمَا تَنَاقَضَا؛ لِأَنَّ السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ لَا يُنَاقِضُ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنِ النَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا لِجَمِيعِ الْآلِهَةِ سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَتَقَرَّرَ بِهَذَا أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ بِمَا أَوْ لَنْ أَوْ لَمْ أو ليس أو
لَا مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى فِعْلٍ نَحْوَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا، أَوْ عَلَى الِاسْمِ نَحْوَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، وَنَحْوَ مَا أَحَدٌ قَائِمًا وَمَا قَامَ أَحَدٌ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ": قَدْ فَرَّقَ أَهْلُ اللُّغَةِ بَيْنَ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَبَيْنَ دُخُولِهِ عَلَى النَّكِرَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِنْسِ، فيما جَاءَنِي رَجُلٌ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، فَرَأَوْا تَسَاوِيَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْأَوَّلِ، وَأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ فِيهِ، وَافْتِرَاقُ الْمَعْنَى فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ مِنْ أَخْلَصَتِ النَّفْيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: هِيَ لِلْعُمُومِ ظَاهِرًا عِنْدَ تَقْدِيرِ مِنْ، فَإِنْ دَخَلَتْ مِنْ كَانَتْ نَصًّا، وَالْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ الْخِلَافُ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدِ، فَسِيبَوَيْهِ قَالَ: إِنَّ الْعُمُومَ مُسْتَفَادٌ مِنَ النَّفْيِ قَبْلَ دُخُولِ مِنْ، وَالْمُبَرِّدُ قَالَ: أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ لَفْظِ مِنْ؛ وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، وَكَوْنُ مِنْ تُفِيدُ النُّصُوصِيَّةَ بِدُخُولِهَا، لَا يُنَافِي الظُّهُورَ الْكَائِنَ قَبْلَ دُخُولِهَا. قَالَ أَبُو حَيَّانَ1: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَمَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ؛ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى. وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ قَبْلَ دُخُولِ مِنْ لَمَّا كَانَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة} 2 و {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 3 مُقْتَضِيًا لِلْعُمُومِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ حُرُوفِ النَّفْيِ الدَّاخِلَةِ عَلَى النَّكِرَةِ بِفَرْقٍ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ حُكْمَ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ حُكْمُ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ فَهُوَ لِنَقْلِ الْعُرْفِ لَهُ عَنِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: لَفْظُ مَعْشَرُ وَمَعَاشِرُ وَعَامَّةُ، وَكَافَّةُ وَقَاطِبَةً، وَسَائِرُ مِنْ صِيَغِ العموم في مثل قوله تعالى:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْس} 1 و"نحن معاشر الأنبياء لا نورث" 2 وجاءني القوم عامة، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} و"ارتدت العرب قاطبة"4 وجاءني سَائِرُ النَّاسِ إِنْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ سُورِ الْبَلَدِ وَهُوَ الْمُحِيطُ بِهَا كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ5، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَسْأَرَ بِمَعْنَى أَبْقَى فَلَا تَعُمُّ. وَقَدْ حَكَى الْأَزْهَرِيُّ6 الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَغَلَّطُوا الْجَوْهَرِيَّ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ بِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَ الْجَوْهَرِيَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيرَافِيُّ فِي "شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ"7 وَأَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْكَاتِبِ"8 وَابْنُ بري وغيرهم والظاهر أنها للعموم
وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا شمول ما "دلت"* عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ أَوِ الْبَاقِي كَمَا نَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْحَرْفِيَّةُ لَا الِاسْمِيَّةُ، تُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، سَوَاءٌ كَانَ سَالِمًا أَوْ مُكَسَّرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ أَوِ الْكَثْرَةِ، وَكَذَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ كَرَكْبٍ وَصَحْبٍ، وَقَوْمٍ وَرَهْطٍ، وَكَذَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اقْتِضَائِهَا لِلْعُمُومِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذا كان هناك معهود حمل عَلَى الْعَهْدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُمِلَتْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. الثَّانِي: أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَهْدِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُحْمَلُ عِنْدَ فَقْدِ الْعَهْدِ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "الْمِيزَانِ"1، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَالرَّاجِحُ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" مُسْتَدِلًّا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ: لَنَا وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا طَلَبُوا الْإِمَامَةَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ أبو بكر بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ" 2، وَالْأَنْصَارُ سَلَّمُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ، وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لَمَا صَحَّتْ تِلْكَ الدَّلَالَةُ؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ"، لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ لَوَجَبَ أَنْ لَا ينافي وجود إمام من قوم آخرين.
فال: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ يُؤَكَّدُ بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ فِي أَصْلِهِ الاستغراق، أما أنه يؤكد فكقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 1 وَأَمَّا أَنَّهُ بَعْدَ التَّأْكِيدِ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ فَبِالْإِجْمَاعِ. "الْوَجْهُ الثَّالِثُ"*: الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِذَا دَخَلَا فِي الاسم صار "بهما"** مَعْرِفَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى مَا بِهِ تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ بِالصَّرْفِ إِلَى الْكُلِّ معلوم للمخاطب، فأما الصرف إلى ما دون فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَجْمُوعِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَكَانَ مَجْهُولًا. قَالَ: الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ مِنْهُ "ذَلِكَ"***. وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّنْ حَكَى إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى إِفَادَةِ هَذَا التَّعْرِيفِ لِلْعُمُومِ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ"، وَحَكَى أَيْضًا إِجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ وَلِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنِ الْمُعْظَمِ، وَصَاحِبُ "الْمِيزَانِ" عَنْ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ النَّحْوِيِّ2، فَقَالَ: إِذَا تَعَارَضَ جِهَةُ الْعَهْدِ وَالْجِنْسِ يُصْرَفُ إِلَى الْجِنْسِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَيْعِ قالا لأن الجنس يدخل تحته العهد، والعهد لا يدخل تحت الْجِنْسُ، وَرُوِيَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَهُ لَيْسَ مِنْ صِيغَتِهِ، بَلْ مِنْ قَرِينَةِ نَفْيِ الْمَعْهُودِ فَتَعَيَّنَ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ. قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ3: إِنَّهُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ وَلَيْسَتْ إِحْدَى جِهَتَيِ التَّعْرِيفِ بِأَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ، فَيَكْتَسِبُ اللَّفْظُ جِهَةَ الْإِجْمَالِ لِاسْتِوَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا. انْتَهَى. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ يَطُولُ جِدًّا فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ، وَأَهْلُ النَّحْوِ، وَأَهْلُ الْبَيَانِ، بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِلَّا بَيَانَ مَا هُوَ الْحَقُّ وَتَعْيِينَ الرَّاجِحِ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَمَنْ أَمْعَنَ
النَّظَرَ وُجَوَّدَ التَّأَمُّلَ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ الْحَمْلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي الْعَهْدَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَأَمَّا تَعْرِيفُ الْجَمْعِ مُطْلَقًا وَاسْمُ الْجَمْعِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَهْدِمُ الْجَمْعِيَّةَ وَيُصَيِّرُهَا لِلْجِنْسِ، وَهَذَا يَدْفَعُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ. الْفَرْعُ الثَّامِنُ: تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ: وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ، كَالْأَلِفِ وَاللَّامِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ الْمُضَافِ جَمْعًا نَحْوَ عَبِيدُ زَيْدٍ أَوِ اسْمَ جَمْعٍ، نَحْوَ جَاءَنِي رَكْبُ الْمَدِينَةِ، أَوِ اسْمَ جِنْسٍ نَحْوَ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1، وَمَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّامُ قَفِيزَهَا، وَصَاعَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الرَّازِيُّ: بِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يَعُمُّ مَعَ اخْتِيَارِهِ بِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يَعُمُّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي "النِّهَايَةِ"2: وَكَوْنُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ لِلْعُمُومِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا "لَهُمْ"*، لَكِنَّ نَفْيَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَلَامِ التَّعْرِيفِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَالْحَقُّ: أَنَّ عُمُومَ الْإِضَافَةِ أَقْوَى، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ حَنَثَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ، لِعَدَمِ تَنَاهِي أَفْرَادِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِكُلِّهِ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْفَرْقِ نَظَرٌ، وَلَا يُنَافِي إِفَادَةَ إِضَافَةِ اسْمِ الْجِنْسِ لِلْعُمُومِ مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِيمَنْ قَالَ: زَوْجَتِي طَالِقٌ، وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ إِلَّا وَاحِدَةٌ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعُرْفَ قَدْ خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا عَنِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا تُطَلَّقُ الْأَرْبَعُ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم} 3 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هو الطهور ماؤه الحل مَيْتَتُهُ" 4. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: الْأَسْمَاءُ الْمَوْصُولَةُ، كَالَّذِي، وَالَّتِي، والذين، واللات، وذو الطائية5،
وَجَمْعُهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْقَرَافِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بِأَنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّهَا تَجْرِي فِي بَابِهَا مَجْرَى اسْمٍ مَنْكُورٍ "كَقَوْلِنَا: رَجُلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَلَا يُصَارُ إِلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْإِبْهَامُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ"* كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك} 1 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} 2، {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} 3، وَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فَلِقَرِينَةٍ تُخَصِّصُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ. الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشيئين كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة} 4، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَطَوَائِفُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ. اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ نَكِرَةٌ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، وَكَذَلِكَ تُوصَفُ بِهَا النَّكِرَاتُ دُونَ الْمَعَارِفِ. وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" لِلْآخَرِينَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مُطْلَقًا -أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ- أَعَمُّ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِهَا وَالدَّالُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَا إِشْعَارَ فِيهِ بِهِمَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُهُمَا. الثَّانِي: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكْفِيَ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ الِاسْتِوَاءُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، أَوْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ الوجوه، والأول باطل، وإلا لوجوب إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، مِنْ كَوْنِهِمَا مَعْلُومَيْنِ، وَمَوْجُودَيْنِ، وَمَذْكُورَيْنِ، وَفِي سَلْبِ مَا عَدَاهُمَا عَنْهُمَا، وَمَتَى صَدَقَ عَلَيْهِ الْمُسَاوِي وَجَبَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسَاوِي؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْعُرْفِ كَالْمُتَنَاقِضَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا يُسَاوِي ذَاكَ، فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قال: لا يساويه، والمناقضان لا يصدقان معًا فوجب أن لا يصدق عَلَى شَيْئَيْنِ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَغَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في المساواة المساواة من كل الوجوه
وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الِاسْتِوَاءُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ هُوَ الْجُزْئِيُّ، فَإِذَا قُلْنَا لَا يَسْتَوِيَانِ لَا يُفِيدُ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ عَدَمَ إِشْعَارِ الْأَعَمِّ بِالْأَخَصِّ إِنَّمَا هُوَ فِي طَرِيقِ الْإِثْبَاتِ لَا في طريق النفي، فإن نفي الْأَعَمَّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ مثله في كل نفي، فلا يعم نَفْيٌ أَبَدًا إِذْ يُقَالُ فِي لَا رَجُلَ: رَجُلٌ أَعَمُّ مِنَ الرَّجُلِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، فَلَا يُشْعَرُ بِهِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ. وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: لَا مُسَاوَاةَ فَإِنَّمَا يُرَادُ نَفْيُ مُسَاوَاةٍ يَصِحُّ انْتِفَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ من قبيل ما يخصصه العقل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 1 أَيْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يُخْلَقُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَرْجِعَ الْخِلَافِ إِلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِثْبَاتِ هَلْ مَدْلُولُهَا لُغَةً الْمُشَارَكَةُ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ شَامِلًا أَوْ مَدْلُولُهَا الْمُسَاوَاةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَصْدُقَ بِأَيِّ وَجْهٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ النَّفْيُ لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي كَانَ لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْجُزْئِيِّ الْمُوجَبِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ. وَخُلَاصَةُ هَذَا أَنَّ صِيغَةَ "لا يستوي"* الاستواء إِمَّا لِعُمُومِ سَلْبِ التَّسْوِيَةِ، أَوْ لِسَلْبِ عُمُومِ التَّسْوِيَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ شَيْءٍ مِنْ أفرادها، وعلى الثاني ثُبُوتُ الْبَعْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْمَذْهَبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ سَابِقٌ وَهُوَ يُفِيدُ سَلْبَ العموم لا عموم السلب، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي وَقَعَ الْمِثَالُ بِهَا فَقَدْ صُرِّحَ فِيهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأُمُورِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2 فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ رَجَّحَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ مِنَ الْمُتَوَاطِئِ لَا مِنْ بَابِ الْعَامِّ، وَتَقَدَّمَهُ إِلَى تَرْجِيحِ الإجمال إليكا الطَّبَرِيُّ. الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَهَلْ يَكُونُ النَّفْيُ لَهُ نَفْيًا لِمَصْدَرِهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فَيَقْتَضِي الْعُمُومَ أَمْ لَا؟ حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَعُمُّ، وَقَالَ: إِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ" نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَلَمْ يُصَرَّحْ بِمَفْعُولِهِ نَحْوَ: لَا أَكَلْتُ، وَإِنْ أَكَلْتُ، وَلَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، فَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أنه يعم.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعُمُّ وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَعَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ نَحْوَ: يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولٍ لَا بِالْخُصُوصِ وَلَا بِالْعُمُومِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمِ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْآمِدِيِّ وَالصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ، أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَوِ الشَّرْطِ هَلْ يَعُمُّ مَفَاعِيلَهُ أَمْ لَا، لَا فِي الْفِعْلِ اللَّازِمِ فَإِنَّهُ لَا يَعُمُّ. وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ مَصْدَرَيْهِمَا، فَيَكُونُ النَّفْيُ لَهُمَا نَفْيًا لَهُمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأَمَّا فِيمَا عَدَا الْمَصْدَرَ فَالْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ بِهِ فَحَذْفُهُ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعْمِيمِهِ قَالُوا لَا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى جِهَةِ الْجَمْعِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا الْمَاهِيَّةَ مُقَيَّدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُنَازِعَ فِي ذلك. الفرع الثاني عشر: الأمر للجميع بصيغة الجمع كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} 1 عُمُومُهُ وَخُصُوصُهُ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، "وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ"* أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَشَارَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ وَقَالَ: قُومُوا، فَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْقِيَامِ مِنْهُمُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لِلشُّمُولِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْقَرِينَةِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": لِأَنَّ تِلْكَ الْقَرِينَةَ إِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فَقَدْ حَصَلَ مُرَادُنَا، وَإِلَّا فَلْنَفْرِضْ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُجَرَّدَةً عَنْهَا وَيَعُودُ الْكَلَامُ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ صَرَّحَ أَنَّ عُمُومَ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْأَمْرِ وَخُصُوصَهَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَرْجِعِهَا الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي "النِّهَايَةِ"، وَذَكَرَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ افْعَلُوا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، سَوَاءٌ كَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَكَثَرَ، وَأَطْلَقَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التقريب"2 أن المطلقات لا عموم فيها
فَائِدَةٌ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: أَنَّ أَعْلَى صِيَغِ الْعُمُومِ أَسْمَاءُ الشَّرْطِ، وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ، وَادَّعَيَا الْقَطْعَ بِوَضْعِ ذَلِكَ لِلْعُمُومِ، وَصَرَّحَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" أَنَّ أَعْلَاهَا أَسْمَاءُ الشَّرْطِ، وَالِاسْتِفْهَامِ ثُمَّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ لِدَلَالَتِهَا بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ، وَعَكَسَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فَقَدَّمَ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ عَلَى الْكُلِّ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَبْيَنُ وجوه العموم، وألفاظ "الْجُمُوعِ"* ثُمَّ اسْمُ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَظَاهِرُهُ أن الإضافة دون ذلك في المرتبة، وَعَكَسَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ"1 فَقَالَ: الْإِضَافَةُ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَالنَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ في سياق النفي والتي بمن أَدَلُّ مِنَ الْمُجَرَّدَةِ عَنْهَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ مَجِيءَ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهَا مُضَافَةً. وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي "التَّلْوِيحِ"2: أَلْفَاظُ الْعُمُومِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ كَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالثَّانِي: عَامٌّ بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ كَالرَّهْطِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَلْفَاظٌ مُبْهَمَةٌ نَحْوَ مَا وَمَنْ، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ. وَالرَّابِعُ: النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ نَحْوَ لَمْ أَرَ رَجُلًا، وَذَلِكَ يَعُمُّ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْكَلَامِ، وَتَحْقِيقِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْإِفْهَامِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ بِصِيغَتِهِ. فَالْعُمُومُ فِيهِ مِنَ الْقَرِينَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا3 فِي الْفَرْعِ الثَّالِثِ مَا يُفِيدُ أن لفظ كل أقوى صيغ العموم.
المسألة السابعة: في عموم الجمع المنكر للقلة أو للكثرة
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ لِلْقِلَّةِ أَوْ لِلْكَثْرَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ الْمُنَكَّرَ لَيْسَ بِعَامٍّ لِظُهُورِهِ فِي العشرة، فما دونها؛ وأما "جموع"* الكثرة المنكرة، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ، وخالف في ذلك
الْجَبَّائِيُّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْبَزْدَوِيُّ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ1 وهو أحد وجهي الشافعي، كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ "وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ"*. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ عَنْ قَرِينَةِ الْعُمُومِ، نَحْوَ رَأَيْتُ رِجَالًا، اسْتِغْرَاقُ الرِّجَالِ، كَمَا أَنَّ رَجُلًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ لِأَفْرَادِ مَفْهُومِهِ، وَلَوْ كَانَ لِلْعُمُومِ لَتَبَادَرَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ عَامًّا كَمَا أَنَّ رَجُلًا "كَذَلِكَ"**. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" لَنَا أَنَّ لَفْظَ رِجَالٍ يُمْكِنُ نَعْتُهُ بِأَيِّ جَمْعٍ شِئْنَا، فَيُقَالُ: رِجَالٌ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسَةٌ، فَمَفْهُومُ قَوْلِكَ: رِجَالٌ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُورِدَ التَّقْسِيمِ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَالْمُورِدُ لِلتَّقْسِيمِ بِالْأَقْسَامِ يَكُونُ مُغَايِرًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ "وَغَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لَهَا، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ لَا يَكُونُ لَهُ إِشْعَارٌ بِتِلْكَ الْأَقْسَامِ"*** فَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهَا، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فهي مما لا بد فيه فثبت أنه يفيد الثَّلَاثَ فَقَطْ. احْتَجَّ الْقَائِلُونَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُمُوعِ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ فَقَدْ حَمَلْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ إِطْلَاقِهِ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ حَقِيقَةً، بل هو القدر الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا كَمَا تَقَدَّمَ2، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ أَصْلًا. وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ لَكَانَ مُخَصَّصًا بِالْبَعْضِ، وَاللَّازِمُ منتفٍ لِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ وَامْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِلَا "مُخَصِّصٍ"****. وَأُجِيبَ بِالنَّقْضِ بِرَجُلٍ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لَيْسَ لِلْعُمُومِ ولا مختصًّا بالبعض، بل شائع يصلح للجمع، وَلَا يَخْفَاكَ ضَعْفُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لِلْعُمُومِ، فَإِنَّ دَعْوَى عُمُومِ رِجَالٍ لِكُلِّ رَجُلٍ مُكَابَرَةٌ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَمُعَانَدَةٌ لِمَا "يَفْهَمُهُ"***** كُلُّ عَارِفٍ بِهَا.
المسألة الثامنة: في أقل الجمع
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَالْعَيْنِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ، وَسُلَيْمٌ الرازي، فإن "ج، م، ع" مَوْضُوعُهَا يَقْتَضِي ضَمَّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: بَلْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ: جَمَعْتُ الثَّوْبَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: لَفْظُ الْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ، الْجَمْعُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ جَمَعَ يَجْمَعُ جَمْعًا، وَالْجَمْعُ الذي هو اللقب، وَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ قَالَ: وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يهتد إلى الْفَرْقِ خَلَطَ الْبَابَ، فَظَنَّ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى اللَّقَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْجَمْعُ بِمَعْنَى الضَّمِّ، فَالْوَاحِدُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْوَاحِدِ فَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَثَبَتَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَخَالَفَ بِهَذَا الْقَوْلِ جَمِيعَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَسَائِرَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ فِي مَدْلُولِ مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 1، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: ضَرَبْتُ رُءُوسَ الرَّجُلَيْنِ، وَقَطَعْتُ بُطُونَهُمَا، بَلِ الْخِلَافُ فِي الصِّيَغِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ، سَوَاءٌ كان للسلامة أو التكسير، وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي أَقَلِّ الْجَمْعِ مَذَاهِبُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ2. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَحَكَاهُ ابن خوازمنداد، عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ"3 عَنِ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو منصور
عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ1 النَّحْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ2 وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْخَلِيلِ3 وَنَفْطَوَيْهِ4. قَالَ: وَسَأَلَ سِيبَوَيْهِ الْخَلِيلَ فَقَالَ: الِاثْنَانِ جَمْعٌ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 5 لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إِلَهًا مَعَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا: {كَمَا لَهُمْ آلِهَة} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَارَ لَهُمْ إِلَهَانِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْآلِهَةِ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة} 6 فَأَطْلَقَ الْإِخْوَةَ وَالْمُرَادُ أَخَوَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا إِجْمَاعًا. وأجيب: بأنه قد ورد للاثنين مجازًا كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ: "لَيْسَ الْأَخَوَانِ إِخْوَةً فِي لِسَانِ قَوْمِكَ"، فَقَالَ عُثْمَانُ: "لَا أَنْقُضُ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ"7، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُثْمَانُ، بَلْ عَدَلَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ بِالْإِجْمَاعِ. وَبِمِثْلِ هَذَا يُجَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ من قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُون} 8، والمراد موسى وهارون
وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ بِمَنْعِ كَوْنِ الْمُرَادِ مُوسَى وهارون فقط بل هما من فرعون وأما استدلالهم بما عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمْعٌ بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ يَعْنِي أَنَّهُمَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَحَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ فِي شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ إِنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَهُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ وَالسَّبْقُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَتَمَسَّكْ مَنْ خَالَفَهُ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ واحد هذا حَكَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ وَأَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ صِحَّةَ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} الْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ نُوحٌ قَالَ الْقَفَّالُ
الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي "الْأُصُولِ"1 بَعْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ: وَقَدْ يَسْتَوِي حُكْمُ التَّثْنِيَةِ وَمَا دُونَهَا بديل كَالْمُخَاطِبِ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فِي قَوْلِهِ: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُون} 2 و {إِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} 3، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْوَاحِدِ: افْعَلَا، افْعَلُوا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ أَصْلًا، بَلْ جَاءَ بِاسْتِعْمَالَاتٍ وَقَعَتْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ خَارِجَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي جَوَازِ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ، بَلِ النِّزَاعُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ، حَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ"4 عَنِ الْآمِدِيِّ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ الْآمِدِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِذَا عُرِفَ مَأْخَذُ الْجَمْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى النَّاظِرِ الِاجْتِهَادُ فِي التَّرْجِيحِ، وَإِلَّا فَالْوَقْفُ لازم، هذا كلامه، وَمُجَرَّدُ هَذَا لَا يَكْفِي فِي حِكَايَتِهِ مَذْهَبًا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا الْمَوْطِنَ لَيْسَ مِنْ مُوَاطِنِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ مَوْطِنَهُ إِذَا تَوَازَنَتِ الْأَدِلَّةُ مُوَازَنَةً يَصْعُبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا، وَأَمَّا مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَأْتِ مَنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ بِشَيْءٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّلِيلِ، فَضْلًا عَنْ أن يكون صالحًا لموازنة ما يخالفه.
المسألة التاسعة: الخلاف في عموم الفعل المثبت
المسألة التاسعة: "الخلاف فِي عُمُومِ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ" الْفِعْلُ الْمُثْبَتُ إِذَا كَانَ لَهُ جِهَاتٌ فَلَيْسَ بِعَامٍّ فِي أَقْسَامِهِ؛ لأنه يقع على صفة وحدة فَإِنَّ عُرِّفَ تَعَيَّنَ وَإِلَّا كَانَ مُجْمَلًا يُتَوَقَّفُ فِيهِ، مِثْلَ قَوْلِ الرَّاوِي: "صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشفق"1 فلا يحمل على
الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ، وَكَذَلِكَ "صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ"1 فَلَا يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي "أَبُو بَكْرٍ"*، وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ. وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ فِعْلٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَفْعَلْ كُلَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ فِعْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِلْعُمُومِ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكَمَا لَا عُمُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْفِعْلِ، فَلَا عُمُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ، بَلْ يَكُونُ خَاصًّا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 2، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ دَلِيلَ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني} 4 وَنَحْوِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَائِرُ أُمَّتِهِ مِثْلُهُ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ. وَأَطْلَقَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ لَيْسَ بِعَامٍّ فِي أَقْسَامِهِ، ثُمَّ اخْتَارَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ"5 "وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ"6 أَنَّهُ يَعُمُّ الْغَرَرَ وَالْجَارَ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى ذَلِكَ شَيْخُهُ الْإِبْيَارِيُّ، وَالْآمِدِيُّ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ بِحِكَايَةٍ لِلْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ، بَلْ حِكَايَةٍ لِصُدُورِ النَّهْيِ مِنْهُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْحُكْمِ مِنْهُ بِثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الصَّحَابِيِّ يَجِبُ أَنْ
تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْمَقُولِ لِمَعْرِفَتِهِ بِاللُّغَةِ وَعَدَالَتِهِ، وَوُجُوبِ مطابقة الرواية لمسموع. وَبِهَذَا تَعْرِفُ ضَعْفَ مَا قَالَهُ فِي "الْمَحْصُولِ" مِنْ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ نَهَى عَنْ بَيْعِ الغرر والحكم منه ثبوت الشُّفْعَةِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْمَحْكِيِّ، لَا فِي الْحِكَايَةِ، وَالَّذِي رَآهُ الصَّحَابِيُّ حَتَّى رَوَى النَّهْيَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِصُورَةٍ، وَاحِدَةٍ وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ. قَالَ: وَأَيْضًا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ"1 لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَكَذَا "إِذَا قَالَ"* سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَضَيْتُ بِالشُّفْعَةِ" لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ حِكَايَةً عَنْ قَضَاءٍ لِجَارٍ مَعْرُوفٍ وَيَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، وَقَوْلُهُ: قَضَيْتُ، حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ ماضٍ، فَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَضَيْتُ بِالشُّفْعَةِ" وَقَوْلُ الرَّاوِي: أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، فَالِاحْتِمَالُ فِيهِمَا قَائِمٌ، وَلَكِنَّ جَانِبَ الْعُمُومِ رَاجِحٌ "انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ جَانِبَ العموم راجح"** في الصورتين كليهما. أما في قَوْلُهُ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ" "وَقَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ" فَرُجْحَانُ عُمُومِهِ وَضَعْفُ دَعْوَى احْتِمَالِ كَوْنِهِ خَاصًّا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ لِمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ نَقَلَ الْآمِدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" وَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْحِكَايَةِ لِثِقَةِ الْحَاكِي وَمَعْرِفَتِهِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَقْتَرِنَ الْفِعْلُ بِحَرْفِ أَنَّ فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: "قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ"2 وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ فَيَكُونَ خَاصًّا نَحْوَ "قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ"، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَصَحَّحَهُ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّزَاعَ لَفْظِيًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَانِعَ لِلْعُمُومِ يَنْفِي عُمُومَ الصِّيغَةِ الْمَذْكُورَةِ، نَحْوَ أَمَرَ وَقَضَى، وَالْمُثْبِتُ لِلْعُمُومِ فِيهَا هُوَ بِاعْتِبَارِ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ. انْتَهَى. وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ كَذَا فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ كَانَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى التَّكْرَارِ لَا لَفْظَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا نَحْوَ كَانَ يَجْمَعُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَوْلِ الرَّاوِي "جَمَعَ"*** وَنَحْوِهُ، وَهَذَا إِذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ كَوُقُوعِهِ بَعْدَ إِجْمَالٍ أَوْ إِطْلَاقٍ أَوْ عُمُومِ "صِيغَةٍ أَوْ صِفَةٍ" فَيُفْهَمُ أنه بيان فنتبعه.
المسألة العاشرة: في عموم نحو قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي عُمُومِ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ... الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي عموم نحو قوله تعالى: خذ من أمولهم صدقة ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 1 يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يُخَصَّ بِدَلِيلٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَخْرَجُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضُ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي بَعْضِ الْمَالِ دُونَ بَعْضٍ. قال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَوْلَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ لَكَانَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ فِي جَمِيعِهَا لَا فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا جَمْعٌ مُضَافٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: خُذْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً؛ إِذْ مَعْنَى الْعُمُومِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِمَنْعِ كَوْنِ مَعْنَى الْعُمُومِ ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّ، بَلْ إِذَا أَخَذَ مِنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، وَإِلَّا لَزِمَ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْجَمْعَ لِتَضْعِيفِ الْمُفْرَدِ، وَالْمُفْرَدُ خُصُوصًا مِثْلَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَالْمَالُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُفْرَدُ فَيَكُونُ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ بِالْأَمْوَالِ وَالْعُلُومِ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْقَرَائِنِ، وَقَدْ دَلَّ الْعُرْفُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ في مثل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الْأَنْوَاعُ لَا الْأَفْرَادُ، وَأَمَّا مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أن معنى الجمع
الْعَامِّ هُوَ الْمَجْمُوعُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، أو كل واحد من الجموع لَا مِنَ الْآحَادِ، حَتَّى بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ اللَّامَ وَالْإِضَافَةَ يَهْدِمَانِ الْجَمْعَ وَيُصَيِّرَانِهِ لِلْجِنْسِ. وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ إِلَى الْوَقْفِ فَقَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَمَأْخَذُ الْكَرْخِيِّ دَقِيقٌ. انْتَهَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ الْكَرْخِيِّ، فَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ بُرْهَانٍ مَا تَقَدَّمَ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي عُمُومَ وُجُوبِ "الْحَقِّ"* فِي سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْعُمُومِ أَنَّ لَفْظَ مِنْ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ تَمْنَعُ مِنَ الْعُمُومِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ مِن لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ صِفَةٌ لِلصَّدَقَةِ، وَالتَّقْدِيرُ كَائِنَةً أَوْ مَأْخُوذَةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْعُمُومَ لِأَنَّ مَعْنَى كَائِنَةٍ أَوْ مَأْخُوذَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَنْ لَا يَبْقَى نَوْعٌ مِنَ الْمَالِ إِلَّا وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ {مِنْ أَمْوَالِهِم} إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ {خُذ} فَالْمُتَّجِهُ "قَوْلُ"** الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ مُطْلَقٌ، وَالصَّدَقَةَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِصَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ {صَدَقَة} "فالأقوى"*** قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. إِذَا كَانَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ دَلَالَةَ الْعُمُومِ الْكَائِنَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ، فإنها كلية، فالواجب حينئذ أخذها مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ وَلَا نَظَرَ إِلَى تَنْكِيرِ صَدَقَةً "لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ لِلْأَمْوَالِ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بخذ وَإِنِ اعْتُبِرَ لَفْظُ صَدَقَةً"**** وَأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ دُخُولَ مِن ههنا عَلَى الْأَمْوَالِ لَا يُنَافِي مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، بَلْ هُوَ عَيْنُ مُرَادِهِمْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ حُذِفَتْ لَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَخْذِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ "نَوْعٍ"***** بَعْضُهُ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ مَا وَرَدَ تَقْدِيرُهُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنَ الْعُشْرِ فِي بَعْضٍ، وَنِصْفِ الْعُشْرِ فِي بَعْضٍ آخَرَ، وَرُبُعِ الْعُشْرِ فِي بَعْضٍ آخَرَ، وَنَحْوَ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرِيعَةِ كَزَكَاةِ الْمَوَاشِي، ثُمَّ هَذَا الْعُمُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ بِمَا يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ دُونَ بَعْضٍ، فَوَجَبَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الخاص
المسألة الحادية عشر: الألفاظ الدالة على الجمع
المسألة الحادية عشر: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ ... الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: "الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَمْعِ" الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَمْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا يُخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْآخَرِ بِحَالٍ، كَرِجَالٍ لِلْمُذَكَّرِ وَنِسَاءٍ لِلْمُؤَنَّثِ، فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ. الثَّانِي: مَا يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ بِوَضْعِهِ، وَلَيْسَ لِعَلَامَةِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَالنَّاسِ، وَالْإِنْسِ، وَالْبَشَرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: ما يشملهما بأصل وضعه، ولا يختص بِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِبَيَانٍ، وَذَلِكَ نَحْوُ "مَا، وَمِنْ" فَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِثْلُ النَّاسِ وَالْبَشَرِ وَنَحْوِهِمَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 1 فَلَوْلَا عُمُومُهُ لَهُمَا لَمْ يَحْسُنِ التَّقْسِيمُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ فِي "التَّلْوِيحِ" وَحَكَاهُ غَيْرُهُمَا عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا: أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" 2، لَكِنَّ الْمَوْجُودَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهَا تَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَزْدَوِيُّ، وَشُرَّاحُ كِتَابِهِ3، وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ وَغَيْرُهُمْ؛ إِذْ نَقَلَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ أَرِقَّائِي فَهُوَ حُرٌّ، دَخَلَ فِيهِ الْإِمَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَصِيَّةً، أَوْ تَوْكِيلًا، أَوْ إذنًا في أمر، لم يختص بالذكور، وَأَمَّا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فَخَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إِذَا كَانَتْ شَرْطِيَّةً. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَنْ الْمَوْصُولَةِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ دَعْوَى اخْتِصَاصِ مَنْ بِالذُّكُورِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ "إِلَى مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ، بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ"* إِلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ. الرَّابِعُ: مَا يُسْتَعْمَلُ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي الْمُؤَنَّثِ، وَبِحَذْفِهَا فِي الْمُذَكَّرِ، وَذَلِكَ الْجَمْعُ السَّالِمُ نَحْوَ مُسْلِمِينَ لِلذُّكُورِ وَمُسْلِمَاتٍ لِلْإِنَاثِ، وَنَحْوَ فَعَلُوا وَفَعَلْنَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ فِيمَا هُوَ لِلذُّكُورِ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَدْخُلُ الرِّجَالُ فيما هو النساء إِلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّى فَحَصَلَ كُلُّ نَوْعٍ بِمَا يُمَيِّزُهُ فَالْأَلِفُ وَالتَّاءُ جُعِلَتَا عَلَمًا لِجَمْعِ الْإِنَاثِ، وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ لِجَمْعِ الذُّكُورِ وَالْمُؤْمِنَاتُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَاتَلُوا خِلَافُ قَاتَلْنَ، ثُمَّ قَدْ تَقُومُ قَرَائِنُ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ دُخُولُ الْإِنَاثِ فِي الذُّكُورِ، وَقَدْ لَا تَقُومُ قَرَائِنُ فَيُلْحَقْنَ بِالذُّكُورِ بِالِاعْتِبَارِ وَالدَّلَائِلِ، كَمَا يُلْحَقُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ بِدَلِيلٍ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، فَلَوْلَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِلْمُذَكَّرِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْغَالِبَ، وَلَمْ يَكُنْ حَظُّهُ فِيهَا كَحَظِّ الْمُؤَنَّثِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا "اسْتَقَلَّ"** إِفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِوَصْفٍ فَغُلِّبَ الْمُذَكَّرُ وَجُعِلَ الْحُكْمُ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ تَوَابِعُ. انْتَهَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَنْصُورِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ، وَنَصَرَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ مُعْظَمِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ السَّاعَاتِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنِ ابْنِ خوازمنداد وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ. وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ التَّنَاوُلِ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ عِنْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ لِاخْتِصَاصِ الصِّيغَةِ لُغَةً وَوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِمَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مَعَ مَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فِي نَحْوِ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات} 1، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: مَا نَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ إِلَّا الرِّجَالَ ... فَنَزَلَتْ2.
قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالنُّحَاةِ أَنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى تَنَاوُلِهِ الْجِنْسَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْأَحْكَامِ لَمْ تُقْصَرِ الْأَحْكَامُ عَلَى الذُّكُورِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَحَاصِلُهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ظُهُورِهِ لِاشْتِهَارِهِ عُرْفًا. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْخِطَابَاتِ الْوَارِدَةِ مِنَ الشَّرْعِ لِقَرِينَةٍ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمُشَارَكَاتُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ: وَاتَّفَقَ الْكُلُّ أَنَّ الْمُذَكَّرَ لَا يَدْخُلُ تحته وإن وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. وَمِنْ أَقْوَى مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، وَعَلَى هَذَا وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} 1 فِي خِطَابِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ. وَيُجَابُ عَلَى هَذَا: بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَصْلِ الْوَضْعِ، وَلَا بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ، بَلْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ إِرَادَةِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ إِرَادَتُهُ مِنْهُ. إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ قَرِينَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صِيغَةَ الذُّكُورِ عند إطلاقها موضوعة لتناول الجميع، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاضِحٌ لَا يَنْبَغِي الْخِلَافُ فِي مِثْلِهِ، وَلَمْ يَأْتِ الْقَائِلُونَ بِالتَّنَاوُلِ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوهُ لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ العقل.
المسألة الثانية عشر: في عموم الخطاب بمثل يا أيها الناس
المسألة الثانية عشر: في عموم الخطاب بمثل يا أيها الناس ... الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي عُمُومِ الْخِطَابِ بِمِثْلِ "يا أيها الناس ... " ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِمِثْلِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَنَحْوِهَا مِنَ الصِّيَغِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّهُمْ شَرْعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إن كان الخطاب في حقوق الله تعالى فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَلَا يَعُمُّهُمْ. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ خُرُوجُهمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ "لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ"* الْخِطَابِ عَنْهُمْ بِهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: إِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ اتِّبَاعًا لِمُوجِبِ الصِّيغَةِ، وَلَا يَخْرُجُونَ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَأْتِ الْقَائِلُونَ بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَا زَعَمُوهُ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ بَعْضِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِمْ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ اقْتَضَى ذَلِكَ فَكَانَ كَالْمُخَصِّصِ لعموم الصيغة الشاملة لهم.
المسألة الثالثة عشرة: دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين
المسألة الثالثة عشرة: "دُخُولِ الْكَافِرِ فِي الْخِطَابِ الصَّالِحِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ" ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى دُخُولِ الْكَافِرِ فِي الْخِطَابِ الصَّالِحِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّاس} إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: يَدْخُلُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دُخُولِ الْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ إِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ زَعَمُوا التَّنَاوُلَ لَكِنَّ الْكُفْرَ وَالرِّقَّ فِي الشَّرْعِ خَصَّصَهُمْ، فَهُوَ بَاطِلٌ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ فَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَشْمَلُ غَيْرَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ اخْتَارَ التَّعْمِيمَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ "إِنَّمَا"* خُصِّصُوا "بِالذِّكْرِ"** مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّشْرِيفِ لا خطاب التخصيص بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّنَاوُلِ بِالصِّيغَةِ لَا بِأَمْرٍ خَارِجٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظًا وَإِنْ قُلْنَا أَنَّهُمْ مخاطبون إلا بدليل منفصل.
المسألة الرابعة عشرة: الخطاب الشفاهي
المسألة الرابعة عشرة: "الْخِطَابِ الشَّفَاهِيِّ" الْخِطَابُ الْوَارِدُ شَفَاهًا فِي عَصْرِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّاس} 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، وَيُسَمَّى خِطَابَ الْمُوَاجَهَةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لا خلاف في شموله من بَعْدَهُمْ مِنَ الْمَعْدُومِينَ حَالَ صُدُورِهِ، لَكِنْ هَلْ بِاللَّفْظِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَشْمَلُهُمْ بِاللَّفْظِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَشْمَلُهُمْ بِاللَّفْظِ لِمَا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِأَهْلِ زمانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 3، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً" 4، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} 5 منهم إِلَى قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم} 6، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ": الْخِلَافُ فِي أَنَّ خِطَابَ الْمُشَافَهَةِ هَلْ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِينَ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ لُغَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِمَّا أن يقال إن المحكم يُقْصَرُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا عُلِمَ قَطْعًا مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ عَامَّةٌ إِلَّا حَيْثُ يَرِدُ التَّخْصِيصُ. انْتَهَى. وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها الْمُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الشَّفَاهِيَّ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَوْجُودِينَ "بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ لَا إِلَى الْمَعْدُومِينَ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّ غَيْرَ الْمَوْجُودِينَ"* وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمُ الْخِطَابُ، فَلَهُمْ حُكْمُ الْمَوْجُودِينَ فِي التَّكْلِيفِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، حَيْثُ كَانَ الْخِطَابُ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى تخصيصهم بالموجودين.
المسألة الخامسة عشرة: الخطاب الخاص بالأمة
المسألة الخامسة عشرة: "الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِالْأُمَّةِ" الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِالْأُمَّةِ نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الْأُمَّةُ، لَا يَشْمَلُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ "الْإِفَادَةِ": وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِلَفْظٍ يَشْمَلُ الرَّسُولَ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّاس} 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2 {يَا عِبَادِي} 3 فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَشْمَلُهُ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ لَا يَشْمَلُهُ، "وَقَالَ أَبُو بكر الصيرفي وَالْحَلِيمِيُّ: إِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ بِالْقَوْلِ نَحْوَ قُلْ فَلَا يَشْمَلُهُ"* وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ شَامِلًا، لَهُ وَاسْتَنْكَرَ هَذَا التَّفْصِيلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِيهِمَا جَمِيعًا مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ خِطَابَهُ إِلَيْنَا فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِقَةِ. وَفَصَّلَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ مِنَ الْكِتَابِ فهو مبلغ عن الله سبحانه، والمبلغ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السُّنَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا مُجْتَهِدٌ فَيَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطِبَ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ أَمْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَهُوَ مُبَلِّغُ وَالْمُبَلِّغُ "إِذَنْ"** دَاخِلٌ تَحْتَ الْخِطَابِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْخِطَابَ بِالصِّيغَةِ التي تشمله يتناوله بمتقضى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَلَا شُبْهَةَ حَيْثُ كَانَ الْخِطَابُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سبحانه تعالى. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ مِنْ جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي دُخُولِ الْمُخَاطِبِ فِي خِطَابِهِ. وَمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَدْفُوعٌ بِظُهُورِ الْفَائِدَةِ فِي الْخِطَابَاتِ الْعَامَّةِ "إِذَا"*** فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُخَالِفُهَا، فَإِنْ قُلْنَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ كَانَ فِعْلُهُ تَخْصِيصًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِدَاخِلٍ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُخَصِّصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ. وَأَمَّا الْخِطَابُ المختص بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} 4 {يَا أَيُّهَا النَّبِي} 5 فذهب
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْأُمَّةُ إلا بدليل من خارج، وقيل إه يَشْمَلُ الْأُمَّةَ؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهَؤُلَاءِ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ اللَّفْظِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 وما يجري مجرى ذلك فهو "خرج"* عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا إِنَّمَا أُوجِبَ عَلَى الْأُمَّةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ الْمُتَنَاوِلِ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ، بَلْ بِالدَّلِيلِ الْآخَرِ. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمَا قَالُوهُ بَعِيدٌ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْكَبِيرِ عَنْ أَتْبَاعِهِ فَيَكُونَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً. وَحُكِيَ "عَنْ"** إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قال: إما أن ترد الصيغة في التَّخْصِيصِ أَوْ لَا، فَإِنْ وَرَدَتْ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِلَّا فَهُوَ عَامٌّ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى التَّخْصِيصِ، وَلَا عَلَى التَّعْمِيمِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ ضَعْفُ هَذَا التَّفْصِيلِ وَرَكَاكَةُ مَأْخَذِهِ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِلَا شَكٍّ فَوُرُودُهَا، فِي مَحَلِّ التخصيص لا يزيدها تخصيصًا باعتبار اللفظ، ورودها فِي مَحَلِّ التَّعْمِيمِ لَا يُوجِبُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الدَّلِيلِ "الدَّالِّ عَلَى التَّعْمِيمِ"*** فَهُوَ غير محل النزاع.
المسألة السادسة عشرة: حكم الخطاب الخاص بواحد من الأمة
المسألة السادسة عشرة: حكم الخطاب الخاص بواحد من الأمة الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِنْ صُرِّحَ بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك" 1 فَلَا شَكَّ فِي اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ؛ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ بِالِاخْتِصَاصِ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ، وَلَا يتناول غيره إلا بدليل من خارج.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَعُمُّ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ كَحُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ"1، وما روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ" 2، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى أَنَّ حُكْمَ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ كَحُكْمِهِ، كَانَ لَهُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي نَفْسِ تِلْكَ الصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ، هَلْ تَعُمُّ بِمُجَرَّدِهَا أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَعُمُّهَا بِلَفْظِهَا فَقَدْ جَاءَ بِمَا لَا تُفِيدُهُ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَلَا تَقْتَضِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَامٌّ بِالشَّرْعِ لَا "بِوَضْعِ اللُّغَةِ"* لِلْقَطْعِ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ لُغَةً. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْخِطَابَ خَاصٌّ لُغَةً بِذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ عَامٌّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْخِلَافُ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ، لِأَنَّا نَقُولُ: الأصل ما هو؟ هل هو مورد الشرعي أَوْ مُقْتَضَى اللُّغَةِ؟ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ التَّعْمِيمَ منتفٍ لُغَةً ثابت شرعًا، والخلاف في أن للعادة هل تقتضي بِالِاشْتِرَاكِ بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ فَهْمُ أَهْلِ الْعَرَبِ إِلَيْهَا أولًا، فَأَصْحَابُنَا -يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ- يَقُولُونَ: لَا قَضَاءَ لِلْعَادَةِ في ذلك، كما لا قضاء للغة والخصم يقول إنها تقتضي بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ. وَيُوجِبُهُ الْإِنْصَافُ عَدَمُ التَّنَاوُلِ لِغَيْرِ الْمُخَاطَبِ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةِ، بَلْ بِالدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ الاستدلال بأقضيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَاصَّةِ بِالْوَاحِدِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى ثُبُوتِ مِثْلِ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ فَكَانَ هَذَا مَعَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ، وَعَلَى اسْتِوَاءِ أَقْدَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُفِيدًا لِإِلْحَاقِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ بِهِ فِي ذلك الحكم عند الإطلاق "إلا"** إلى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ. فَعَرَفْتَ بِهَذَا أَنَّ الرَّاجِحَ التَّعْمِيمُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، لَا كَمَا قِيلَ: إِنَّ الرَّاجِحَ التَّخْصِيصُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قام كما ذكرناه.
المسألة السابعة عشرة: حكم دخول المخاطب تحت عموم خطابه
المسألة السابعة عشرة: حكم دخول المخاطِب تحت عموم خطابه اختلفو افِي المخاطِب -بِكَسْرِ الطَّاءِ- هَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ "يُخَصِّصُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ"*. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا وَرَدَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظ عام في إيجاب "حكم"** حُكْمِهِ أَوْ حَظْرِهِ، أَوْ إِبَاحَتِهِ، هَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْأَوْسَطِ"1: ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْآمِرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ دُخُولَهُ. انْتَهَى. وَنَقْلُهُ لِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ يُخَالِفُ نَقْلَ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ، وَالرَّازِيِّ فِي "الْمَحْصُولِ" وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى"2 وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا دُخُولَ الْمُخَاطِبِ فِي خِطَابِهِ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّ خِطَابَهُ يَتَنَاوَلُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ عَادَةً؛ فَذَهَبَ إِلَى التَّفْصِيلِ، وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَعْرِضُ فِي الْأَمْرِ مَرَّةً، وَفِي النَّهْيِ مَرَّةً، وَفِي الْخَبَرِ مَرَّةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى دُخُولِهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ مُرَادُ الْقَائِلِ بِدُخُولِهِ فِي خِطَابِهِ أَنَّ مَا وُضِعَ لِلْمُخَاطَبِ يَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ وَضْعًا، فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَشْمَلُهُ حُكْمًا فَمُسَلَّمٌ إذا دل عليه دليل أو كان الوضع شاملًا له كألفاظ العموم.
المسألة الثامنة عشرة: عموم المقتضى
المسألة الثامنة عشرة: عُمُومِ الْمُقْتَضَى اخْتَلَفُوا فِي الْمُقْتَضَى هَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ تَصْوِيرِهِ قَبْلَ نَصْبِ الْخِلَافِ فِيهِ، فَنَقُولُ: المقتضِي بِكَسْرِ الضَّادِ، هُوَ اللَّفْظُ الطَّالِبُ لِلْإِضْمَارِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ، وَهُنَاكَ مُضْمَرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَلْ تُقَدَّرُ جَمِيعُهَا، أَوْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ التَّقْدِيرُ هُوَ المقتضَى بِفَتْحِ الضَّادِ. وَقَدْ ذَكَرُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، مِثْلَ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 و"قدره بَعْضُهُمْ: وَقْتُ إِحْرَامِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ: وَقْتُ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ"*، وَمِثْلُ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" 2 فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَسْتَقِيمُ بِلَا تَقْدِيرٍ، لِوُقُوعِهِمَا مِنَ الْأُمَّةِ، فَقَدَّرُوا فِي ذَلِكَ تَقْدِيرَاتٍ مُخْتَلِفَةً، كَالْعُقُوبَةِ، وَالْحِسَابِ، وَالضَّمَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" 3 وأمثال ذلك كثيرة، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَائِدَةً، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ انْتَهَى. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ، بَلْ يُقَدَّرُ مِنْهَا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ دليل على إرادته، وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ كَانَ مُجْمَلًا بَيْنَهَا وَبِتَقْدِيرِ الْوَاحِدِ مِنْهَا الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَتَنْدَفِعُ الْحَاجَةُ فَكَانَ ذِكْرُ مَا عَدَاهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وفخر الدين الرازي،
وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" مُسْتَدِلًّا لِلْقَائِلِينَ بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى: بِأَنَّ إِضْمَارَ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُضْمَرَ حُكْمٌ أَصْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ تَعْطِيلٌ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ يُضْمَرَ الْكُلُّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. هَكَذَا اسْتَدَلَّ لَهُمْ وَلَمْ يُجِبْ عَنْ ذَلِكَ. وَأَجَابَ الْآمِدِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ إِضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إِضْمَارُ حُكْمٍ مَا، وَالتَّعْيِينُ إِلَى "الدَّلِيلِ"*؛ ثُمَّ أُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِجْمَالُ. وَأَجَابَ: بِأَنَّ إِضْمَارَ الْكُلِّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ "الدَّلِيلِ"** وَكُلٌّ مِنْهُمَا، يَعْنِي: الْإِجْمَالَ، وَإِضْمَارُ الْكُلِّ خِلَافُ الْأَصْلِ. قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَقِيلَ: يُصْرَفُ إِطْلَاقُهُ فِي كُلِّ عَيْنٍ إِلَى الْمَقْصُودِ وَاللَّائِقِ بِهِ، وَقِيلَ: يُضْمَرُ الْمَوْضِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مستغنٍ عَنِ الدَّلِيلِ، حَكَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ": إِنْ قُلْنَا الْمُقْتَضَى لَهُ عُمُومٌ أُضْمِرَ الْكُلُّ، وَإِنْ قُلْنَا لَا عُمُومَ لَهُ فَهَلْ يُضْمَرُ مَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، أَوْ يُضْمَرُ حُكْمٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَتَعْيِينُهُ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ، وَالثَّالِثُ التَّوَقُّفُ. انْتَهَى. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُفْهَمْ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ لِتَقْدِيرِهَا، أَمَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِلتَّقْدِيرِ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تقديره كقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2 فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَفِي الثَّانِيَةِ الوطء
المسألة التاسعة عشرة: عموم المفهوم
المسألة التاسعة عشرة: عُمُومِ الْمَفْهُومِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَفْهُومِ هَلْ لَهُ عموم أم لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهُ عُمُومًا، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْغَزَالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ عُمُومًا وَيَتَمَسَّكُ بِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَفْهُومَ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً فَإِذَا قَالَ "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" 1، فَنَفْيُ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ لَيْسَ بِلَفْظٍ حَتَّى يَعُمَّ أَوْ يَخُصَّ. وَرَدَّ ذَلِكَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا تُسَمِّيهِ عُمُومًا لِأَنَّكَ لَا تُطْلِقُ لَفْظَ الْعَامِّ إِلَّا عَلَى الْأَلْفَاظِ، فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ هَلْ لَهُ عُمُومٌ أَمْ لَا "فرع على أن المفهوم حجة أَمْ لَا؟ "*، وَمَتَى ثَبَتَ كَوْنُ الْمَفْهُومِ حُجَّةً لَزِمَ الْقَطْعُ بِانْتِفَائِهِ عَمَّا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. انْتَهَى. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا خَالَفَ فِي التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ إِنَّمَا وُضِعَ لِلَّفْظِ لَا لِلْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّمَا أَرَادَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَثْبُتْ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فَقَطْ، بَلْ بِوَاسِطَتِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَالَ: الْخِلَافُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي "شَرْحِ الْبُرْهَانِ"2: أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَهُوَ وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَكَانَ عَامًّا فِي الْمَقْصُودِ، أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا صُورَةً مِنْ صُوَرِ الْمَفْهُومِ مُوَافِقَةً لِلْمَنْطُوقِ بِهِ، فَهَلْ نَقُولُ بَطَلَ الْمَفْهُومُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُتَمَسَّكَ بِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ، أَوْ نَقُولُ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ. قَالَ: وَالْأَشْبَهُ بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُسْتَنَدَ الْمَفْهُومِ مَاذَا؟ هَلْ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ؛ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُمُومٌ، وَإِنْ قُلْنَا استناده إلى عرف لغوي فصحيح،
وَخَرَجَ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا كَمَا زَعَمُوا. انْتَهَى. قَالَ الْعَضُدُ1 فِي "شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَإِذَا حُرِّرَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافٌ؛ لِأَنَّهُ إن فرض النزاع في أن مفهومي المرافقة وَالْمُخَالَفَةِ يثْبُتُ بِهِمَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا سوى المنطوق من الصور أول، فَالْحَقُّ "الْإِثْبَاتُ، وَهُوَ مُرَادُ الْأَكْثَرِ وَالْغَزَالِيُّ لَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِمَا بِالْمَنْطُوقِ أَوْ لَا، فَالْحَقُّ"* النَّفْيُ وَهُوَ مُرَادُ الْغَزَالِيِّ، وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ فِيهِ، وَلَا ثالث ههنا يُمْكِنُ فَرْضُهُ مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ يَعُودُ إِلَى تَفْسِيرِ الْعَامِّ بِأَنَّهُ مَا يُسْتَغْرَقُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ أَوْ مَا يُسْتَغْرَقُ فِي الْجُمْلَةِ. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ عُمُومِ الْمَفْهُومِ حَتَّى يُعْمَلَ بِهِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقَ، يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا إِذَا كَانَ الْمَنْطُوقُ جُزْئِيًّا، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِالْمَفْهُومِ إِنَّمَا هُوَ نَقِيضُ الْمَنْطُوقِ، وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُثْبِتِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ وَنَقِيضَ الْجُزْئِيِّ الْمُثْبِتِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ، وَمِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مَنْطُوقُهُ كُلِّيًّا سَالِبًا كَانَ مَفْهُومُهُ جُزْئِيًّا سَالِبًا، فَيَجِبُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ على ما إذا كان المنطوق به خالصًا لِيَجْتَمِعَ أَطْرَافُ الْكَلَامِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الْعُمُومِ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فَقَطْ أَمْ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَكَذَلِكَ سَيَأْتِي2 إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَحْثِ الْمَفْهُومِ مَا إِذَا تَأَمَّلْتَهُ زَادَكَ بَصِيرَةً.
المسألة الموفية للعشرون: الاستفصال
المسألة الموفية للعشرون: الاستفصال ... المسألة الموفية للعشرين: الِاسْتِفْصَالِ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ، فِي حِكَايَةِ الْحَالِ، مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العموم في المقام. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": مِثَالُهُ أَنَّ ابْنَ غَيْلَانَ1 أَسْلَمَ عَلَى عشْر نِسْوَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ" 2 وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُرُودِ عَقْدِهِ عَلَيْهِنَّ، فِي الْجَمْعِ وَالتَّرْتِيبِ، فَكَانَ إِطْلَاقُهُ الْقَوْلَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَّفِقَ تِلْكَ الْعُقُودُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَهَذَا فِيهِ نظر، لاحتمال أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ "خُصُوصَ الْحَالِ"* فَأَجَابَ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ. انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ رَاجِحًا وَلَيْسَ بمساوٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ راجحًا.
المسألة الحادية والعشرون: حذف المتعلق
المسألة الحادية والعشرون: حذف المتعلق ... المسألة الحادية والعشرين: حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ يُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ، نَحْوَ زَيْدٌ: يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} 1، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْأُصُولِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أُخِذَ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَالتَّعْمِيمُ مِنْ عُمُومِ الْمُقَدَّرِ سَوَاءٌ ذُكِرَ أَوْ حُذِفَ وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ عَلَى التَّعْمِيمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ عَامٌّ، وَالْحَذْفَ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الاختصار لا للتعميم. انتهى.
المسألة الثانية والعشرون: حكم الكلام الوراد في جهة المدح أو الذم
المسألة الثانية والعشرون: حكم الكلام الوراد في جهة المدح أو الذم ... المسألة الثانية والعشرين: حكم الكلام الوارد في جهة المدح أو الذم الكلام العام في طَرِيقَةِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ نَحْوَ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} 1، ونحو {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} 2، ذهب الجمهور إلى أنه عام ولا يخرج عن كونه عامًّا حسبما تقضيه الصِّيغَةُ كَوْنُهُ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ عُمُومِهِ عن القاساني وَالْكَرْخِيِّ، نَقَلَهُ عَنِ الْأَوَّلِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَعَنِ الثَّانِي ابْنُ بُرْهَانٍ. وَقَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَقَالَ: لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} 3 عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَثِيرِهِمَا، بَلْ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْوَعِيدُ لِتَارِكِ الزَّكَاةِ، وكذا لا يحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 4 عَلَى مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ، وَكَانَ فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجِبُ حِفْظُهُ عَنْهُمَا ثُمَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ صِيرَ فِيهِ إِلَى مَا قُصِدَ تَفْصِيلُهُ، مِثْلُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 5. انْتَهَى. وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ قَصْدِ الْعُمُومِ وَالْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، وَمَعَ عَدَمِ التَّنَافِي يَجِبُ التَّمَسُّكُ بِمَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ مَنَعَ مِنْ عُمُومِهِ عِنْدَ قَصْدِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ بما تقوم به الحجة.
المسألة الثالثة والعشرون: حكم العام الوارد على سبب خاص
المسألة الثالثة والعشرون: حكم الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وُرُودُ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ: وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَحَكَوْا ذَلِكَ إِجْمَاعًا كَمَا رَوَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ". قَالَ: وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ جَوَابًا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ الِابْتِدَاءُ بِهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ، حَتَّى كَأَنَّ السُّؤَالَ مُعَادٌ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَامًّا فَعَامٌّ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَخَاصٌّ.
مِثَالُ خُصُوصِ السُّؤَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَم} 1، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَلَا إِذًا"2، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: وطأت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا فَيَقُولُ: عَلَيْكَ الْكَفَّارَةُ؛ فَيَجِبُ قَصْرُ الْحُكْمِ عَلَى السَّائِلِ وَلَا يَعُمُّ غَيْرَهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ، أَوْ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِ. وَمِثَالُ عُمُومِهِ مَا لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَالَ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ وَاطِئٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَقَوْلُهُ: يُعْتِقُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْوَاحِدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَوَابًا عَمَّنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِلَفْظٍ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ جَامَعَ، كَانَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَصَارَ السُّؤَالُ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَالُ غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَحَالِهِ فِي كُلِّ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ لِلْحُكْمِ3. وَجَعَلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" مِنْ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلَهُ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ" 4 قَالَ: لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمِيرُ شَأْنٍ، وَمِنْ شَأْنِهِ صَدْرُ الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا قَبْلَهُ. قَالَ: وَقَدْ رَجَعَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَجَعَلَهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بُرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. وَإِنِ اسْتَقَلَّ الْجَوَابُ بِنَفْسِهِ، بِحَيْثُ لَوْ وَرَدَ مُبْتَدَأً لَكَانَ كَلَامًا تَامًّا مُفِيدًا لِلْعُمُومِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أخصَّ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ أعمَّ. الأول: أن يكون الجواب مساويًا له، يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ، كَمَا لَوْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ. فَقَالَ مَاءُ الْبَحْرِ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا خلاف، وكذلك قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَخَصَّ مِنَ السُّؤَالِ، مِثْلَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ فَيَقُولُ: مَاءُ الْبَحْرِ طَهُورٌ فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَلَا يَعُمُّ بِلَا خِلَافٍ كَمَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُمَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السؤال وهما قسمان:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا سُئِلَ عَنْهُ، كَسُؤَالِهِمْ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَجَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "هو الطهور ماؤه والحل مَيْتَتُهُ" 1 فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّائِلِ، وَلَا بِمَحَلِّ السُّؤَالِ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إِلَى الْمَاءِ وَعَطَشِهِمْ، بَلْ يَعُمُّ حَالَ الضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ، كذا قال ابن فورك، وصاحبا "المعتمد" و"* "المحصول" وغيرهما، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَابْنِ بُرْهَانٍ أَنَّهُ يَجْرِي فِي هَذَا الْخِلَافِ الْآتِي فِي الْقَسَمِ الثَّانِي، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ كَمَا لَا يَخْفَى. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عنه، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَاءِ بِئْرِ بُضَاعَةَ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" 2، وَكَقَوْلِهِ لَمَّا سُئِلَ عَمَّنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" 3، وَهَذَا الْقِسْمُ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وفيه مذاهب: المذهب الأول: الْأَوَّلُ أَنَّهُ يَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَا خَرَجَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ بُرْهَانٍ، وَابْنُ السمعاني، عن المزني4، وأبي ثور القفال، وَالدَّقَّاقِ، وَحَكَاهُ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَحَكَاهُ أَيْضًا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْبَاجِيُّ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَحَكَاهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ إِنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْدَنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا قال الغزالي في المنخول، وتبعه فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ". قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: والذي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّ عَنِ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ ونقل هذا المذهب القاضي أبي الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ بُرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ مالك
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ عُدُولَ الْمُجِيبِ عَنِ الْخَاصِّ الْمَسْئُولِ عَنْهُ إِلَى الْعَامِّ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ بِمَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَوُرُودُهُ عَلَى السَّبَبِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ بُرْهَانٍ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ. قَالَ: وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعُمُومَ لَهُ حُكْمُهُ إِلَّا أَنْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ، وَالدَّلِيلُ قَدِ اخْتَلَفَ فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ دَلَالَةٌ يَعْقِلُ بِهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ جَوَابَهُ الْعَامَّ يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَا أُجِيبَ عَنْهُ، أَوْ عَلَى جِنْسِهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَهُوَ عَامٌّ فِي جميع ما يقع عليه عمومه، وحكا هَذَا الْمَذْهَبَ ابْنُ كِجٍّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْعِرَاقِيِّينَ. قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَفْظِ الرَّسُولِ، دُونَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَلَوْ قَالَ ابتداء وجب حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ إِذَا صَدَرَ جَوَابًا. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ لِلْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ عَنِ الشَّارِعِ، وَهُوَ عَامٌّ وَوُرُودُهُ عَلَى سُؤَالٍ خَاصٍّ لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِقَصْرِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَلْيَأْتِ بِدَلِيلٍ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْقَصْرِ عَلَى السَّبَبِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَإِذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ مَا يَقْتَضِي قَصْرَ ذَلِكَ الْعَامِّ الْوَارِدِ فِيهِ عَلَى سَبَبِهِ لَمْ يُجَاوَزْ بِهِ مَحَلَّهُ، بَلْ يُقْصَرْ عَلَيْهِ، وَلَا جَامِعَ بَيْنَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ شَامِلًا لَهَا. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْوَقْفُ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ هُنَا لَمْ تَتَوَازَنْ حَتَّى يَقْتَضِيَ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ هُوَ سُؤَالَ سَائِلٍ فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ السبب مجرد وقوع حادثة كان وذلك القوم الْعَامُّ وَارِدًا عِنْدَ حُدُوثِهَا فَلَا يَخْتَصُّ بِهَا كَذَا حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي "شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ"1. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِنْ عَارَضَ هَذَا الْعَامَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ عُمُومٌ آخَرُ خَرَجَ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ، فَإِنَّهُ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا، فَإِنَّ هَذَا الْعَامَّ الْخَارِجَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ إِذَا صَلُحَ لِلدَّلَالَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ خَارِجٌ يُوجِبُ الْقَصْرَ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا.
المسألة الرابعة والعشرون: خلاف العلماء فيما إذا ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم
المسألة الرابعة والعشرون: خلاف العلماء فيما إذا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الحكم ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِذَا وَافَقَ الْخَاصُّ الْعَامَّ فِي الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ بِمَفْهُومِهِ يَنْفِي الْحُكْمَ عَنْ غَيْرِهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ خَصَّصَ بِهِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي1 فِي مَسْأَلَةِ التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ فَلَا يُخَصَّصُ بِهِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" 2 مَعَ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: "دِبَاغُهَا طَهُورُهَا" 3 فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الشَّاةِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ؛ لِأَنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِلَفْظٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ خَصَّصَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ لَمْ يُخَصِّصْ بِهِ، وَلَا مُتَمَسَّكَ لِمَنْ قَالَ بِالْأَخْذِ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي4. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" 5 وَفِي لفظ آخر "وتربتها
ظهورًا"1 وَقَوْلُهُ: "الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ" 2 مَعَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ "الْبُرُّ بِالْبُرِّ" 3 إِلَخْ، وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ على عدم التخصيص بالمواقف لِلْعَامِّ "بِأَنَّ الْمُخَصِّصَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِلْعَامِّ"* وَذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ الَّتِي شَمِلَهَا الْعَامُّ لَيْسَ بمنافٍ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهُ مُخَصِّصًا، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ لَمَّا كَانَ أَبُو ثَوْرٍ مِمَّنْ يَقُولُ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ ظُنَّ أَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّخْصِيصِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مَا فَائِدَةُ هَذَا الْخَاصِّ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْعَامِّ؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ عَدَمَ جَوَازِ تَخْصِيصِهِ أَوِ التَّفْخِيمَ لَهُ أَوْ إِثْبَاتَ الْمَزِيدِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنْ كَانَ أَبُو ثَوْرٍ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا لَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي مَفْهُومِ اللقب فلا يدل على ذلك
المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم
المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم إِذَا عَلَّقَ الشَّارِعُ حُكْمًا عَلَى عِلَّةٍ هَلْ تَعُمُّ تِلْكَ الْعِلَّةُ حَتَّى يُوجَدَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا فِي كُلِّ صُورَةٍ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِالْعُمُومِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يَعُمُّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ هَلِ الْعُمُومُ بِاللُّغَةِ أَوْ بِالشَّرْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ بِالشَّرْعِ لَا بِاللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الصِّيغَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، بَلِ اقْتَضَى ذَلِكَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ ثَبَتَ التَّعَبُّدُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي1. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْعُمُومِ، بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ جُزْءَ عِلَّةٍ وَالْجُزْءُ الْآخَرُ خُصُوصِيَّةَ الْمَحَلِّ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلَالِ، فَلَا يُتْرَكُ بِهِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي تَقْيِيدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْعِلَّةُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِدَلِيلِ نَقْلٍ أَوْ عَقْلٍ، لَا بِمُجَرَّدِ مَحْضِ الرَّأْيِ وَالْخَيَالِ الْمُخْتَلِّ، وَسَيَأْتِي2 بِمَعُونَةِ اللَّهُ إِيضَاحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى.
المسألة السادسة والعشرون: العام المخصوص هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ هَلْ هُوَ حقيقة في الباقي أم مجاز اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ إِذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي أَمْ مَجَازًا، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبَاقِي مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ بِمُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظٍ أَوْ بِغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ. قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْأَوْسَطِ": وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَنَسَبَهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ إِلَى الْمُحَقِّقِينَ وَوَجَّهَهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَجْمُوعِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْبَعْضُ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَجَازُ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ كَمَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا فَيَكُونَ حَقِيقَةً فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَجَازَ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ كَمَا تَقَدَّمَ1، فيكون مقدمًا عليه. وذهب جماعة عن أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيَ مُطْلَقًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الْحَنَابِلَةِ. قَالُوا: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا حَقِيقَةً بِاتِّفَاقٍ فَالتَّنَاوُلُ باقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّهُ طَرْدُ عَدَمِ تَنَاوُلِ الْغَيْرِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَالْآنَ يَتَنَاوَلُهُ وَحْدَهُ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ قرينة.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مَعَ الْقَرِينَةِ؛ إِذِ السَّابِقُ مَعَ عَدَمِهَا هُوَ الْعُمُومُ، وَهَذَا دَلِيلُ الْمَجَازِ. قَالَ الْعَضُدُ: وَقَدْ يُقَالُ إِرَادَةُ الْبَاقِي مَعْلُومَةٌ دُونَ الْقَرِينَةِ، إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى الْقَرِينَةِ عَدَمُ إِرَادَةِ الْإِخْرَاجِ. انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ إِرَادَةَ الْبَاقِي وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ لَفْظِيٍّ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَحَقِيقَةٌ، وَإِنَّ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ فَمَجَازٌ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ بُرْهَانٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ. قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَإِلَيْهِ مَالَ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ". وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ مَعَ التَّخْصِيصِ بِمُتَّصِلٍ كَلَامٌ وَاحِدٌ. وَيُجَابُ: بِأَنَّ ذَلِكَ الْمُخَصِّصَ الْمُتَّصِلَ هُوَ الْقَرِينَةُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِفَهْمِ إِرَادَةِ الْبَاقِي مِنْ لَفْظِ الْعُمُومِ وَهُوَ مَعْنَى الْمَجَازِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَرِينَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ. وَذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ إِلَى عَكْسِ هَذَا الْقَوْلِ، حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْأَوْسَطِ" وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَحَكَى الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ كَانَ حَقِيقَةً في الباقي، سواء كان ذلك المخصص اللفظ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ غَيْرِ لَفْظِيٍّ كَانَ مَجَازًا، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ قَدْ تَكُونُ لَفْظِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ لَفْظِيَّةٍ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ" عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ: إِنْ خُصَّ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ مُسْتِقَلًّا فَهُوَ مَجَازٌ، سَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْعَامِّ أَرَدْتُ بِهِ الْبَعْضَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ. وَاخْتَارَ هَذَا فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ إِنِ اسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا صَارَ مَجَازًا وَإِلَّا فَلَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ ضَرْبَانِ: عَقْلِيَّةٌ وَلَفْظِيَّةٌ، أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَكَالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَادِرِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْخِطَابِ بِالْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَامِّ أَرَدْتُ بِهِ الْبَعْضَ الْفُلَانِيَّ، وَفِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ يَكُونُ الْعَامُّ مَجَازًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ هُوَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَعْضِ فَقَدْ صَارَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مُسَمَّاهُ لِقَرِينَةٍ مُخَصِّصَةٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَجَازُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَفْظُ الْعُمُومِ وَحْدَهُ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ، وَمَعَ الْقَرِينَةِ
الْمُخَصِّصَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْخُصُوصِ. قُلْتُ: فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الدنيا مجازًا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا لَفْظَ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَحْدَهُ حَقِيقَةٌ فِي كَذَا، وَمَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ مَجَازًا عَنْهُ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ بِقَرِينَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا هَلْ هُوَ مَجَازٌ أَمْ لَا. انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِهِ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، وَمُجَرَّدُ إِمْكَانِ أَنْ يُقَالَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِالدَّلَالَةِ الْكَائِنَةِ فِي نَفْسِ الدَّالِّ مَعَ عَدَمِ فَتْحِ بَابِ الْإِمْكَانِ الْمُفْضِي إِلَى سَدِّ بَابِ الدَّلَالَةِ مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنْ سَدِّ بَابِ مُجَرَّدِ الْمَجَازِ. وَحَكَى الْآمِدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ جَمْعٌ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ، وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ "مِنْ"* أَنْ يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلَّ الْجَمْعِ، فَأَمَّا إِذَا بَقِيَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَوْ تَكَلَّمَ النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ أَرَدْتُ زَيْدًا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يصير مجازًا بل خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ لَيْسَا بِجَمْعٍ. انْتَهَى. وَهَكَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا مَا اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيمَا بَقِيَ ومَجَازًا فِيمَا أُخْرِجَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ فِيمَا بَقِيَ فَقَطْ، هَلْ يَكُونُ الْعَامُّ فِيهِ حَقِيقَةً أَمْ لا؟
المسألة السابعة والعشرون: حجية العام بعد التخصيص
المسألة السابعة والعشرون: حجية العام بعد التخصيص اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ بَعْدَ تَخْصِيصِهِ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا خُصَّ بِمُبَيَّنٍ، أَمَّا إِذَا خُصَّ بِمُبْهَمٍ كَمَا لو قال تعالى: "اقتلوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ"1، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، بِلَا خِلَافٍ؛ إِذْ مَا مِنْ فَرْدٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْرَجَ، وَأَيْضًا إِخْرَاجُ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ يُصَيِّرُهُ مَجْهُولًا، وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْأَصْفَهَانِيُّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَمَا نَقَلُوهُ مِنَ الاتفاق فليس بصحيح.
وقد حَكَى ابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ" الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبَالَغَ فَصَحَّحَ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ "الْإِبْهَامِ"*، وَاعْتَلَّ بِأَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى فَرْدٍ شَكَكْنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مِنَ الْمُخْرَجِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَنَعْمَلُ بِهِ إِلَى أَنْ "نَعْلَمَ"** بِالْقَرِينَةِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ مُعَارِضٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعاَرِضًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِضْرَابِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، وَالْعَمَلِ بِالْعَامِّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ رَدَّ الْهِنْدِيُّ هَذَا الْبَحْثَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي الْكُلِّ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِإِحَالَةِ هَذَا مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَأَخُّرِهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُبَيَّنٍ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ فَيَكُونُ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْكُلِّ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ اللَّفْظِ إِلَى كُلِّ الْأَقْسَامِ عَلَى السَّوِيَّةِ فَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ مِنْهَا بِمُخَصِّصٍ لَا يَقْتَضِي إِهْمَالَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَا بَقِيَ، وَلَا يَرْفَعُ التَّعَبُّدَ بِهِ، وَلَوْ تَوَقَّفَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي الْبَعْضِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْكُلِّ لَلَزِمَ الدَّوْرُ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَيْضًا الْمُقْتَضِي لِلْعَمَلِ بِهِ فِيمَا بَقِيَ مَوْجُودٌ، وَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالْمُعَارِضُ مَفْقُودٌ فَوُجِدَ الْمُقْتَضِي وَعُدِمَ الْمَانِعُ، فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْعُمُومَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، وَشَاعَ ذَلِكَ وَذَاعَ. وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا مِنْ عموم إلا وقد خص، وأن لَا يُوجَدُ عَامٌّ غَيْرُ مُخَصَّصٍ، فَلَوْ قُلْنَا إنه غير حجة فما بَقِيَ لَلَزِمَ إِبْطَالُ كُلِّ عُمُومٍ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما ثبتت بِعُمُومَاتٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا بَقِيَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ: ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، والحنفية، والجبائي،
وَابْنُهُ1 إِلَى أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْعُمُومِ إِذَا خُصَّتْ صَارَتْ مُجْمَلَةً، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، كَسَائِرِ الْمَجَازَاتِ، وَإِلَيْهِ مَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ. انْتَهَى. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَعْنَى الْعُمُومِ حَقِيقَةٌ غَيْرُ مُرَادٍ مَعَ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ، وَسَائِرُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ مَجَازَاتٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ غَيْرَ مُرَادَةٍ، وَتَعَدَّدَتِ الْمَجَازَاتُ، كَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا فِيهَا، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا "وَالْبَاقِي أَحَدُ الْمَجَازَاتِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا"*. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتِ الْمَجَازَاتُ مُتَسَاوِيَةً، وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَعَيُّنِ أَحَدِهَا، وَمَا قَدَّمْنَا مِنَ الأدلة فقد دَلَّتْ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي فَيُصَارُ إِلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ كَالشَّرْطِ و"الاستثناء"** وَالصِّفَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنْ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ فَلَا، بَلْ يَصِيرُ مُجْمَلًا، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، عَنِ الْكَرْخِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ، بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْجِيمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: فِي الْعَامِّ إِذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِاللَّفْظِ، وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ، وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَانِعٍ بَقَاءَ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ قَوْلَهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِاللَّفْظِ مُجَرَّدُ دَعْوَى، لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَقَوْلُهُ: وَصَارَ حُكْمُهُ ... إِلَخْ ضم دَعْوَى إِلَى دَعْوَى، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الدَّلَالَةِ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَمَنْ قَالَ بِرَفْعِهَا أَوْ بِعَدَمِ ظُهُورِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ أَصْلًا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ التَّخْصِيصَ إِنْ لَمْ يَمْنَعِ اسْتِفَادَةَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ وَتَعَلُّقِهِ بِظَاهِرِهِ جَازَ التَّعَلُّقُ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 2؛ لأن القيام الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِاسْمِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الظَّاهِرُ لَمْ يَجُزِ التَّعَلُّقُ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ، وكون
الْمَسْرُوقِ لَا شُبْهَةَ لِلسَّارِقِ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِعُمُومِ اسْمِ السَّارِقِ، وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ تِلْمِيذُ الْكَرْخِيِّ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَهِيَ كَائِنَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالِاخْتِلَافُ بِكَوْنِ الدلالة فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ لَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى سُقُوطِ دَلَالَةِ الدَّالِّ أَصْلًا وَظَاهِرًا. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَـ {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} فَهُوَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بَيِّنٌ قَبْلَ إِخْرَاجِ الذِّمِّيِّ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} 1 فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْحَائِضِ وَنَحْوِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَلَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، هَكَذَا حَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَقَالَ إِنَّهُ تَحَكُّمٌ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَعَلَّهُ قَوْلُ مَنْ لَا يجوِّز "التَّخْصِيصَ أَلْبَتَّةَ"*. وَقَدِ اسْتُدِلَّ لِهَذَا الْقَائِلِ: بِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَالْبَاقِي مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَرُدَّ بِمَنْعِ كَوْنِ الْبَاقِي مَشْكُوكًا فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي وَاحِدٍ فَقَطْ، حَكَاهُ فِي "الْمَنْخُولِ" عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، وَهُوَ أَشَدُّ تَحَكُّمًا مِمَّا قَبْلَهُ. الْقَوْلُ الثَّامِنُ: الْوَقْفُ، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَجَعَلَهُ مُغَايِرًا لِقَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ تَوَازُنِ الْحُجَجِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
المسألة الثامنة والعشرون: عطف بعض أفراد العام عليه
المسألة الثامنة والعشرون: عَطْفِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ عَلَيْهِ إِذَا ذُكِرَ الْعَامُّ وَعُطِفَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ مِمَّا حَقُّ الْعُمُومِ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 1، فَهَلْ يَدُلُّ ذِكْرُ الْخَاصِّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مراد باللفظ العام أم
لَا؟ وَقَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنْ وَالِدِهِ فِي "كِتَابِ الْوَصِيَّةِ" أَنَّهُ حَكَى اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْمَخْصُوصُ "بِالذِّكْرِ"* لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا تَحْتَهُ لَمْ يَكُنْ لِإِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَعَلَى هَذَا جَرَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ جِنِّي، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ1 إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لَيْسَتِ الْعَصْرَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ أَيْضًا: وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ، وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ مَرَّةً بِالْعُمُومِ، وَمَرَّةً بِالْخُصُوصِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَقَامَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي "شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى". وَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ خَاصًّا فَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُهُ، وَقِيلَ بالوقف. ومثال هذه المسألة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" 2 فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، لِقَوْلِهِ: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ"، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَلْ هُوَ خَاصٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ، بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ قَالُوا: وَالْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاهَدَ يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ هُوَ الْحَرْبِيَّ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. قال الأولون: وهذا التقدير ضعيف لوجوه:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَطْفَ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" كَلَامٌ تَامٌّ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلِهِ بِكَافِرٍ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعَهْدَ عَاصِمٌ مِنَ الْقَتْلِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي "غَرِيبِ الْحَدِيثِ"1 بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ" جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: "فِي عَهْدِهِ" لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ" لَتُوُهِّمَ أَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْعَهْدُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ لَا يُقْتَلُ، فَلَمَّا قَالَ: "فِي عَهْدِهِ" عَلِمْنَا اخْتِصَاصَ النَّهْيِ بِحَالَةِ الْعَهْدِ. الثَّالِثُ: أَنَّ حَمْلَ الْكَافِرِ المذكور على الحرب لَا يَحْسُنُ؛ لِأَنَّ إِهْدَارَ دَمِهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ قَتْلَ مُسْلِمٍ بِهِ. وَقَدْ أَطَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي التَّطْوِيلَ. وَقَدْ قِيلَ -عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ-: مَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ؟ إِذْ لَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِهِ: "وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" مُطْلَقًا مَعَ قَوْلِهِ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ". وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ2: بِأَنَّ عَدَاوَةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلْكُفَّارِ كَانَتْ شَدِيدَةً جِدًّا فَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" "خَشِيَ"* أن ينجرد هَذَا الْكَلَامُ فَتَحْمِلُهُمُ الْعَدَاوَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَتْلِ كُلِّ كَافِرٍ مِنْ مُعَاهَدٍ وَغَيْرِهِ، فَعَقَّبَهُ بقوله: "ولا ذو عهد في عهده".
المسألة التاسعة والعشرون: هل يجوز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص؟
المسألة التاسعة والعشرون: هل يجوز العمل بالعام قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ؟ نَقَلَ الْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قبل البحث على الْمُخَصِّصِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْبَحْثِ، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا إِلَى أَنْ يَغْلِبَ الظَّنُّ بِعَدَمِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أبو بكر
الْبَاقِلَّانِيُّ إِلَى الْقَطْعِ بِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ إِذِ الْقَطْعُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَاشْتِرَاطُهُ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِكُلِّ عُمُومٍ. وَاعْلَمْ: أَنَّ فِي حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ نَظَرًا، فَقَدْ قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ مَا لَمْ يُسْتَقْصَ فِي طَلَبِ الْمُخَصِّصِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُخَصِّصُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ ابْتِدَاءً، مَا لَمْ يَظْهَرْ دَلَالَةٌ مُخَصِّصَةٌ. وَاحْتَجَّ الصَّيْرَفِيُّ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الْمُخَصِّصِ، لَمْ يَجُزِ التَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ هَلْ يُوجَدُ مَا يَقْتَضِي صَرْفَ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَذَاكَ مِثْلُهُ. بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزِ التمسك بالعام إلا بعد طلب المخص، لَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْخَطَأِ الْمُحْتَمَلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي التَّمَسُّكِ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَبَيَانُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْحَقِيقَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ إِلَى الْمَجَازِ، هُوَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْعُرْفِ، بِدَلِيلٍ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْأَلْفَاظَ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَنَّهُ هَلْ وُجِدَ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ أَمْ لَا؟، وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ، وَجَبَ أَيْضًا في الشرع، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ" 1. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّخْصِيصِ، وَهَذَا يُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِ التَّخْصِيصِ، فَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ ظَنِّ الْحُكْمِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّ بِتَقْدِيرِ قِيَامِ الْمُخَصِّصِ لَا يَكُونُ الْعُمُومُ حُجَّةً فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ، فَقَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ حُجَّةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ حجة إبقاء للشيء على حكم الأصل. الجواب: أَنَّ ظَنَّ كَوْنِهِ حُجَّةً أَقْوَى مِنْ ظَنِّ كَوْنِهِ غَيْرَ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّ إِجْرَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَلَمَّا ظَهَرَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ التَّفَاوُتِ كَفَى ذَلِكَ فِي ثبوت. انتهى كلام "المحصول".
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعُرْفِ وَجَبَ فِي الشَّرْعِ مَمْنُوعٌ. وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ زَاعِمًا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، فإن ذلك ليس من قوله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ مُعْتَبَرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّخْصِيصِ، فَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُمَارِسِينَ لِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَارِفِينَ بِهَا، فَإِنَّ عَدَمَ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُسَوِّغُ لَهُ التَّمَسُّكَ بِالْعَامِّ، بَلْ هُوَ فَرْضُهُ الَّذِي تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَقْدِيرَ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُسْقِطُ قِيَامَ الْحُجَّةِ بِالْعَامِّ، وَلَا يُعَارِضُ أَصَالَةَ عدم الوجود وظهوره.
المسألة الموفية للثلاثين: في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص
المسألة الموفية للثلاثين: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أريد به الخصوص ... الْمَسْأَلَةُ الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ"1 فِي كِتَابِ الْبَيْعِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا كَانَ الْمُرَادُ أَقَلَّ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُوَ الْأَقَلُّ. قَالَ: وَيَفْتَرِقَانِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ "لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ، وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَصِحُّ الاحتجاج بظاهره اعتبارًا بالأكثر. وقال المرودي في "الحاوي"2: الفرق بينهما في وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَهُ، وَمَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَالْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ"*. مَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ، وَمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَفِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مُقْتَرِنٌ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ"3: يَجِبُ أَنْ يُتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِنَا: هذا عام أريد به
الْخُصُوصُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّ الثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَوَّلًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْعُمُومِ، ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، كَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَلَمْ يَكُنْ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، ثم ويقال: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْضِ الَّذِي أُخْرِجَ، وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ إِذَا قَصَدَ الْعُمُومَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَطَقَ بِالْعَامِّ مُرِيدًا بِهِ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ الْعَامَّ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَعْضًا مُعَيَّنًا، فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنْ أَرَادَ سَلْبَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضٍ مِنْهُ فَهُوَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ. مِثَالُهُ: قَامَ النَّاسُ، فَإِذَا أَرَدْتَ به إِثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ مَثَلًا لَا غَيْرَ، فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ سَلْبَ الْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مَعْنَوِيٍّ يَمْنَعُ إِرَادَةَ الْجَمِيعِ، فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْبَعْضُ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ يَحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ غَالِبًا، كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةِ. قَالَ: وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ: هُوَ أَنْ يُطْلَقَ الْعَامُّ وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، قَالَ: وَشَرْطُ الْإِرَادَةِ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِأَوَّلِ اللَّفْظِ وَلَا يَكْفِي طَرْدُهَا فِي أَثْنَائِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نقل اللفظ من مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَتِ الْإِرَادَةُ فِيهِ إِخْرَاجًا لِبَعْضِ الْمَدْلُولِ، بَلْ إِرَادَةَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ مَجَازُهُ. وَأَمَّا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ مُخْرِجًا مِنْهُ بَعْضَ أَفْرَادِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهَا لِأَوَّلِ اللَّفْظِ، وَلَا تَأَخُّرُهَا عَنْهُ بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا فِي أَثْنَائِهِ كَالْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ. وَهَذَا مَوْضِعُ خِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ. وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ: أَنَّ إِرَادَةَ إِخْرَاجِ بَعْضِ الْمَدْلُولِ هَلْ يَصِيرُ اللَّفْظُ مُرَادًا بِهِ الْبَاقِي أَوْ لَا؟ وَهُوَ يُقَوِّي كَوْنَهُ حَقِيقَةً، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْمَجَازِ، وَالنِّيَّةُ فِيهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي نَقْلِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى1 النَّحْوِيُّ: إِذَا أَتَى بِصُورَةِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، فَهُوَ مَجَازٌ
إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، إِذَا صَارَ الْأَظْهَرُ الْخُصُوصَ، كَقَوْلِهِمْ: غَسَلْتُ ثِيَابِي وَصَرَمْتُ1 نَخْلِي، وَجَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ، وَجَاءَتِ الْأَزْدُ2. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مما أثاره المتأخرون، وليس وكذلك، فَقَدْ وَقَعَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع} 3 هَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَوْ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْعَامَّ الذي أريد الخصوص هو ما كان مصحوبًا بالقرينة عند التَّكَلُّمِ بِهِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهِ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءً كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ، فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّفْرِقَةِ بِمَا قِيلَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَقَلِّ فِي الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِرَادَةِ الْأَكْثَرِ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَجَازٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَأَمَّا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، فَهُوَ الَّذِي لَا تَقُومُ قَرِينَةٌ عِنْدَ تَكَلُّمِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، فَيَبْقَى مُتَنَاوِلًا لِأَفْرَادِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ عِنْدَ هَذَا التَّنَاوُلِ حَقِيقَةٌ فَإِذَا جَاءَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْبَعْضِ مِنْهُ، كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي أَمْ مجاز؟
الفصل الرابع: في الخاص والتخصيص والخصوص وفيه ثلاثون مسألة
الفصل الرَّابِعُ: فِي الْخَاصِّ وَالتَّخْصِيصِ وَالْخُصُوصِ وَفِيهِ ثَلَاثُونَ مسألة الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ ... الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي الْخَاصِّ وَالتَّخْصِيصِ وَالْخُصُوصِ وَفِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ فَقِيلَ: الْخَاصُّ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّى وَاحِدٍ. وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْوَحْدَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ قَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، أَوْ صِنف مِنْ أَصْنَافِهِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمُسَمَّى الْوَاحِدِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَوْ نَوعًا أَوْ صِنفًا، لَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ أَفْرَادٍ مُتَعَدِّدَةٍ، نَحْوَ: أُكْرِمَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَعَمْرًا، وَبَكْرًا. ثُمَّ يُرَدُّ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَيْضًا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ دَالٍّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، سَوَاءً كَانَ مُخْرِجًا "مِنْ عُمُومٍ"* أَوْ لَا. وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى كَثْرَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِأَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ بِفَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ نَحْوَ: أُكْرِمَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَلَيْسَ زَيْدٌ وَحْدَهُ بِكَثْرَةٍ. وَأَيْضًا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةٍ، سَوَاءً كَانَ مُخْرِجًا مِنْ عُمُومٍ أَمْ لَا، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهَذَيْنَ الْحَدَّيْنِ تَحْدِيدُ الخاص من حيث هو خاص "من غَيْرِ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُخْرِجًا مِنْ عُمُومٍ، وَلَكِنَّهُ يَأْبَى ذَلِكَ كَوْنُ الْمَقَامِ مَقَامَ تَحْدِيدِ الْخَاصِّ الْمُخْرِجِ مِنَ الْعَامِّ، لَا تَحْدِيدَ الْخَاصِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ"**. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ هُنَا، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْإِفْرَادُ، وَمِنْهُ الْخَاصَّةُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِالْحُكْمِ. كَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ: الْعَامُّ الذي أريد به الخصوص.
وَقِيلَ: بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ الْعَامِّ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا: بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَلَيْسَ مِنَ التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ1: التَّخْصِيصُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْعَامِّ وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِأَنَّ التَّخْصِيصَ هُوَ بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِالْعَامِّ، لَا بَيَانَ مَا أُرِيدَ بِهِ. وَأَيْضًا: يَدْخُلُ فِيهِ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ يَحْتَمِلُ الْقَصْرَ فِي التَّنَاوُلِ أَوِ الدَّلَالَةِ، أَوِ الْحَمْلِ، أَوْ الِاسْتِعْمَالِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ عَنْهُ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ مَا أُخْرِجَ فَالْخِطَابُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الخطاب بتقدير عدم المخصص. وقيل: هو تَعْرِيفُ أَنَّ الْعُمُومَ لِلْخُصُوصِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعْرِيفُ التَّخْصِيصِ بِالْخُصُوصِ، وَفِيهِ دَوْرٌ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّخْصِيصِ الْمَحْدُودِ، التَّخْصِيصُ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَبِالْخُصُوصِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِّ هُوَ الْخُصُوصُ فِي اللُّغَةِ فَتَغَايَرَا فَلَا دَوْرَ. قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إِذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْخِطَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَا عَدَاهُ، وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ فَخَرَجَ مِنْهُ بِدَلِيلٍ وَإِلَّا لَكَانَ نَسْخًا وَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا، فَإِنَّ الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالتَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا قُصِدَ "لَهُ اللَّفْظُ"* الْعَامُّ. قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّ العموم مخصوص، أن المتكلم به قدر أَرَادَ بَعْضَ مَا وُضِعَ لَهُ دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْمَخْصُوصِ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْأَصْلِ لِلْخُصُوصِ، وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ لَا تُصَيِّرُهُ مَوْضُوعًا فِي الْأَصْلِ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لكان العام خاص وَهُوَ متنافٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ خَاصًّا بِالْقَصْدِ، كَالْأَمْرِ يَصِيرُ أَمْرًا بِالطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي.
وَأَمَّا الْخُصُوصُ: فَقِيلَ هُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَا لِجَمِيعِهِ. وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ: بِالْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَقِيلَ: هُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِلْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ، الَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ. وَيُعْتَرَضُ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْوَحْدَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ، بِأَنَّ الْخَاصَّ هُوَ مَا يُرَادُ بِهِ بَعْضُ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِالْوَضْعِ، وَالْخُصُوصُ مَا اخْتَصَّ بِالْوَضْعِ لَا بِالْإِرَادَةِ. وَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا يَتَنَاوَلُ أَمْرًا وَاحِدًا بِنَفْسِ الْوَضْعِ، وَالْخُصُوصُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا دُونَ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ. وَأَمَّا الْمُخَصِّصُ: فَيُطْلَقُ عَلَى معانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيُوصَفُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَوْنِهِ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ، وَيُوصَفُ النَّاصِبُ لِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ، وَيُوصَفُ الدَّلِيلُ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ، كَمَا يُقَالُ: السُّنَّةُ تُخَصِّصُ الْكِتَابَ، وَيُوصَفُ الْمُعْتَقِدُ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ حَدِّ التَّخْصِيصِ دُونَ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ، فَالْأَوْلَى فِي حَدِّهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ، على تقدير عدم المخصص.
المسألة الثانية: في الفرق بين النسخ والتخصيص
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ اعْلَمْ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّخْصِيصُ شَدِيدَ الشَّبَهِ بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بعض مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، احْتَاجَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ إِلَى بَيَانِ الْفِرَقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ تَرْكُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَالنَّسْخَ تَرْكُ "بَعْضِ الْأَزْمَانِ"*، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ. الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَتَنَاوَلُ الْأَزْمَانَ، وَالْأَعْيَانَ، وَالْأَحْوَالَ بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْأَزْمَانَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَعْيَانَ وَالْأَزْمَانَ لَيْسَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالنَّسْخُ يَرِدُ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَالتَّخْصِيصُ يَرِدُ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فَرْقٌ مُسْتَقِلٌّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يكون هو الوجه الثالث.
الرَّابِعُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ، بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِكُلِّ الْأَفْرَادِ ذكره البيضاوي. الْخَامِسُ: أَنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، بِطَرِيقٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، قَالَهُ أَيْضًا الْأُسْتَاذُ، واختاره البيضاوي. واعترض عليه إمام الحرمين. السَّادِسُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ تَقْلِيلٌ، وَالنَّسْخَ تَبْدِيلٌ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ. السَّابِعُ: أَنَّ النَّسْخَ يَتَطَرَّقُ إِلَى كُلِّ حُكْمٍ، سَوَاءً كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَشْخَاصٍ كَثِيرَةٍ، وَالتَّخْصِيصَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَّا إِلَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: التَّخْصِيصُ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ، وَاحِدٍ وَالنَّسْخُ يَدْخُلُ فِيهِ. الثَّامِنُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبْقِي دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى مَا بَقِيَ تَحْتَهُ، حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا، عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، وَالنَّسْخَ يُبْطِلُ دَلَالَةَ حَقِيقَةِ الْمَنْسُوخِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بالكلية. الوجه التَّاسِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ النَّسْخِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ وَقَعَ فِي كُتُبِ الْعُلَمَاءِ كثيرًا "وهو غَيْرُ مُسَلَّمٍ"*."وَالْمُرَادُ"** أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ قَدْ تَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَمَّا كُلَّهَا فَلَا؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الْعَقَائِدِ لَمْ تُنْسَخْ "وَكَذَلِكَ حِفْظُ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ"***. الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالْعَبَّادِيُّ فِي "زِيَادَاتِهِ"1. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بِالْعُمُومِ، وَالنَّسْخَ بَيَانُ مَا لم يرد بالمنسوخ؛ ذكره الماوردي.
الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْعَامِّ، أَوْ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَوْلٍ وَخِطَابٍ، وَالتَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ، وَالْقَرَائِنِ وَسَائِرِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّسْخَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْإِجْمَاعِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَالنَّسْخَ يَخْتَصُّ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ عَلَى الْفَوْرِ، وَالنَّسْخَ عَلَى التَّرَاخِي، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَاقِعٌ، وَنَسْخَهُ بِهِ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَهَذَا فِيهِ مَا سَيَأْتِي1 مِنَ الْخِلَافِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِ الْعَامِّ، بِخِلَافِ النَّسْخِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ حُكْمَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ. الْمُوفِي عِشْرِينَ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ مَا عَدَاهُ، وَالنَّسْخَ يُحَقِّقُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مُرَادٌ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرَادٍ فِيمَا بَعْدَهُ، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ. وَغَيْرُ خافٍ عَلَيْكَ أَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَبَعْضَهَا يُمْكِنُ دخوله في البعض الآخر منها.
المسألة الثالثة: تخصيص العمومات وجوازه
المسألة الثالثة: تخصيص العمومات وجوازه اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ، سَلَفًا وَخَلَفًا، عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لِلْعُمُومَاتِ جَائِزٌ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَا عَامَّ إِلَّا وَهُوَ مَخْصُوصٌ، إِلَّا قَوْلَهُ تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 1، قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ2: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عَامٌّ غَيْرَ مَخْصُوصٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ مَوَاضِعَ:
أحدها: قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 1 فَكُلُّ مَا سُمِّيَتْ أُمًّا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رضاع "أو أمَّ أمٍّ"* وَإِنْ عَلَتْ فَهِيَ حَرَامٌ. ثَانِيهَا: قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان} 2 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} 3. ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} 4. رَابِعُهَا: قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 5 وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا: بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَهِيَ أَشْيَاءُ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 6. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ بِمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّ التَّخْصِيصَ يَسْتَلْزِمُ الكذب، كما قال من قال بنفس الْمَجَازِ: إِنَّهُ يَنْفِي فَيَصْدُقُ فِي نَفْيِهِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ صِدْقَ النَّفْيِ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَيْدِ الْعُمُومِ، وَصِدْقَ الْإِثْبَاتِ بِقَيْدِ الْخُصُوصِ، فَلَمْ يَتَوَارَدِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. وَمَا قَالُوهُ: مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْبِدَاءَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ أُرِيدَ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِمَا خُصِّصَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرَدِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا أُرِيدَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافَ مَنْ خَالَفَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ، مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ بِالْأَخْبَارِ لَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْإِنْشَاءَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ الْآمِدِيُّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَمَذْهَبٌ عن حلية التحقيق والحق عاطل.
المسألة الرابعة: قولهم في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص
المسألة الرابعة: قولهم فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهِ بعد التخصيص اختلفوا في المقدر الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى مَذَاهِبَ: الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ جَمْعٍ يُقَرِّبُ مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ
عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَإِلَيْهِ مَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَا نَسَبَهُ الْآمِدِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، نَعَمِ اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّ إِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَمَنْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ، نَحْوَ اقْتُلْ مَنْ فِي الدَّارِ، وَاقْطَعِ السَّارِقَ، جَازَ التَّخْصِيصُ إِلَى أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَالْمُسْلِمِينَ جَازَ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ وَذَلِكَ إِمَّا ثَلَاثَةٌ أَوِ اثْنَانِ عَلَى الْخِلَافِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ. قَالَ الشَّيْخُ: أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِي: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى وَاحِدٍ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ جَمْعًا، كَمَنْ وَالْأَلِفِ وَاللَّامِ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْبَدَلِ، فَيَجُوزُ إِلَى الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: حَكَاهُ ابْنُ الْمُطَهِّرِ1، وَهَذَا الْمَذْهَبُ دَاخِلٌ فِي الْمَذْهَبِ السَّادِسِ كَمَا سَيَأْتِي2. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مُطْلَقًا، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، حَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَغَيْرُهُ. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ إِلَى الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "التَّلْخِيصِ"3 عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ. وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي "الْقَوَاطِعِ"4 عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَا عَدَا الْقَفَّالَ. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسحاق الإسفراييني في "أصوله"5 عَنْ إِجْمَاعِ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي "العدة"6 عن أكثر
الشَّافِعِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَسَبُهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ إِلَى الْجُمْهُورِ. الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: إِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُتَّصِلٍ، فَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْبَدَلِ جَازَ إِلَى الْوَاحِدِ نَحْوَ: أُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا الْجُهَّالَ، وَأُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا تَمِيمًا، وَإِنْ كَانَ بِالصِّفَةِ أَوِ الشَّرْطِ فَيَجُوزُ إِلَى اثْنَيْنِ، نَحْوَ: أُكْرِمَ الْقَوْمُ الْفُضَلَاءُ، أَوْ إِذَا كَانُوا فُضَلَاءَ. وَإِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِمُنْفَصِلٍ، وَكَانَ فِي الْعَامِّ الْمَحْصُورِ الْقَلِيلِ كَقَوْلِكَ: قَتَلْتُ كُلَّ زِنْدِيقٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، وَلَمْ تَقْتُلْ سِوَى اثْنَيْنِ جَازَ إِلَى اثْنَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ غَيْرَ مَحْصُورٍ، أَوْ كَانَ مَحْصُورًا كَثِيرًا جَازَ بِشَرْطِ كَوْنِ الْبَاقِي قَرِيبًا مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَاخْتَارَهُ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ": وَلَا نَعْرِفُهُ لِغَيْرِهِ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا ثَلَاثَةً عُدَّ لَاغِيًا مُخْطِئًا فِي كَلَامِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَكْرَمْتُ كُلَّ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُكْرِمْ إِلَّا ثَلَاثَةً أَوْ قَتَلْتُ جَمِيعَ بَنِي تَمِيمٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا ثَلَاثَةً. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى اثْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، بِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْجَمْعِ، عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ. وَيُجَابُ: بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَامِّ وَالْجَمْعُ لَيْسَ بِعَامٍّ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ إِلَى وَاحِدٍ، بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: أُكْرِمَ النَّاسُ إِلَّا الْجُهَّالَ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ وَاحِدًا. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْعَامِّ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ اتِّفَاقِيَّةٌ، ولا يعتبر بها فالناس ههنا لَيْسَ بِعَامٍّ، بَلْ هُوَ لِلْمَعْهُودِ كَمَا فِي قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاس} 1 فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمَعْهُودُ، وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مسعود، والمعهود ليس بعام. استدلوا أَيْضًا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَكَلْتُ الْخُبْزَ، وَشَرِبْتُ الْمَاءَ، وَالْمُرَادُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِمَّا يتناوله الماء والخبز.
وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ فِي الْمِثَالَيْنِ لَيْسَ بِعَامٍّ، بَلْ هُوَ لِلْبَعْضِ الْخَارِجِيِّ المطابق للمعهود والذهني، وهو الخبز والماء المقرر في الذهني أَنَّهُ يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَهُوَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ. وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لِلْعَامِّ، وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَعَلَى بَعْضِ التَّقَادِيرِ، كَمَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَالْكَلِمَاتُ الْعَرَبِيَّةُ، وَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ الْبَاقِي بِكَوْنِهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَدْ خُصِّصَ، أو بكونه أقرب إلى مدلول العام، فإنه هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةَ وَالْأَقْرَبِيَّةَ لَا تَقْتَضِيَانِ كَوْنَ ذَلِكَ الأكثر الأقرب هُمَا مَدْلُولَا الْعَامِّ عَلَى التَّمَامِ، فَإِنَّهُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ يَصِيرُ الْعَامُّ غَيْرَ شَامِلٍ لِأَفْرَادِهِ، كَمَا يَصِيرُ غَيْرَ شَامِلٍ لَهَا عِنْدَ إِخْرَاجِ أَكْثَرِهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يقال ههنا: إِنَّ الْأَكْثَرَ فِي حُكْمِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَلِهَذَا يَأْتِي الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي كَوْنِ دَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمَجَازِ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْرَجُ فَرْدًا وَاحِدًا. وَإِذَا عَرَفْتَ أنه لا وجه للتقييد يكون الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَكْثَرَ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى مَدْلُولِ الْعَامِّ، عَرَفْتَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ جَمْعًا؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ لَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الصِّيغَةِ مُفْرِدَةً لَفْظًا كَمَنَ وَمَا وَالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَبَيْنَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُفْرَدَةٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ الَّتِي أَلْفَاظُهَا مُفْرِدَةٌ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ مَعَانِيهَا مُتَعَدِّدَةً، وَالِاعْتِبَارُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي لَا بِمُجَرَّدِ الألفاظ
المسألة الخامسة: المخصص
المسألة الخامسة: الْمُخَصِّصِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَصِّصِ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْمُلَخَّصِ" وَابْنُ بُرْهَانٍ فِي "الْوَجِيزِ". أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ، وَالدَّلِيلُ كَاشِفٌ عَنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ. وَثَانِيهِمَا: إِنَّهُ الدَّلِيلُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّخْصِيصُ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ ابْنُ بُرْهَانٍ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي "مَحْصُولِهِ" فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُخَصِّصُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْإِرَادَةِ مَجَازًا. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُتَعَمِّدِ": الْعَامُّ يَصِيرُ عِنْدَنَا خَاصًّا بِالْأَدِلَّةِ، وَيَصِيرُ خَاصًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُخَصِّصَ حَقِيقَةٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ، لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ يُخَصِّصُ بِالْإِرَادَةِ أُسْنِدَ
التَّخْصِيصُ إِلَى إِرَادَتِهِ، فَجُعِلَتِ الْإِرَادَةُ مُخَصِّصَةً. ثُمَّ جُعِلَ مَا دَلَّ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ أَوْ غَيْرُهُ مُخَصِّصًا فِي الِاصْطِلَاحِ، وَالْمُرَادُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَنَقُولُ: الْمُخَصِّصُ لِلْعَامِّ إِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ الْمُنْفَصِلُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَسْتَقِلَّ، بَلْ يَتَعَلَّقُ مَعْنَاهُ بِاللَّفْظِ إِلَى قَبْلِهِ فَهُوَ الْمُتَّصِلُ. فَالْمُنْفَصِلُ سَيَأْتِي1 إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْمُتَّصِلُ: فَقَدْ جَعَلَهُ الْجُمْهُورُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ، وَالشَّرْطَ وَالصِّفَةَ، وَالْغَايَةَ. وَزَادَ الْقَرَافِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، "وَنَازَعَ"* الْأَصْفَهَانِيَّ فِي ذَلِكَ قَائِلًا: إِنَّهُ فِي نِيَّةِ طَرْحِ مَا قَبْلَهُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَقَدْ وَجَدْتُهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ، هَذِهِ الْخَمْسَةَ وَسَبْعَةً أُخْرَى، وَهِيَ: الْحَالُ، وَظَرْفُ الزَّمَانِ، وَظَرْفُ الْمَكَانِ، وَالْمَجْرُورُ مَعَ الْجَارِّ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْمَفْعُولُ مَعَهُ، وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ، فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ لَيْسَ فِيهَا وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ. وَمَتَى اتَّصَلَ بِمَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عُمُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ صَارَ غَيْرَ مستقل بنفسه.
المسألة السادسة: حكم الاستثناء من الجنس
المسألة السادسة: حكم الاستثناء من الجنس لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ، كَقَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَهُوَ الْمُتَّصِلُ، وَلَا تَخْصِيصَ إِلَّا بِهِ. وَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ: فَلَا يُخَصَّصُ بِهِ نَحْوَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا، فَالْمُتَّصِلُ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ "وَالْمُنْقَطِعُ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مِنْهُ لَا يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ"*، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا قِيلَ: إِنَّ الْمُتَّصِلَ مَا كَانَ الثَّانِي جُزْءًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَالْمُنْقَطِعَ مَا لَا يَكُونُ الثَّانِي جُزْءًا مِنَ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ1: وَلَا بُدَّ فِي الْمُنْقَطِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَ إِلَّا قَدْ دَلَّ عَلَى مَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ2: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ الدُّخُولِ فِي الْأَوَّلِ، كَقَوْلِكَ: قَامَ القوم إلا حمارًا،
فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْمَ تَبَادَرَ الذِّهْنُ إِلَى أَتْبَاعِهِمُ الْمَأْلُوفَةِ، فَذَكَرَ الْحِمَارَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِذَلِكَ، هو فمستثنى تَقْدِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ من غير الجنس، ولكن بشترط أَنْ يُتَوَهَّمَ دُخُولُهُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ كَقَوْلِهِ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ1 فَالْيَعَافِيرُ قَدْ تُؤَانَسُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِهَا مَنْ يُؤَانَسُ بِهِ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، هَلْ وَقَعَ فِي اللُّغَةِ أَمْ لَا، فَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَأَوَّلَهُ تَأْوِيلًا رَدَّهُ بِهِ إِلَى الْجِنْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ العضد في شرحه لـ"مختصر الْمُنْتَهَى": لَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي صِحَّتِهِ لُغَةً. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَهُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ2: لَا يُنْكِرُ وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَعْجَمِيٌّ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ عَلَى مَذَاهِبَ: الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ3 عَنِ ابْنِ جِنِّي. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا فَإِطْلَاقُ لفظ الاستثناء على المستثنى "المتصل"* المنقطع هو بالاشتراك اللفظي.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً جَوَّزَ التَّخْصِيصَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ، وَبَحْثُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا يُخَصَّصُ إِلَّا بِالْمُتَّصِلِ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ.
المسألة السابعة: إقامة الحجة على من أنكر الاستثناء
المسألة السابعة: إقامة الحجة عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ، أَوْ غَيْرَ دَاخِلٍ قَالَ: وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مَعَ القوم امتنع إخراجه من النسبة، وإلا لزام تَوَارُدُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ لَا يَصِحُّ إِخْرَاجُهُ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْإِخْرَاجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَوَارُدَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: جَاءَنِي عشرة إلا ثلاثة، إنما هو سبعة، وإلا ثَلَاثَةً قَرِينَةُ إِرَادَةِ السَّبْعَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ، إِرَادَةُ الْجُزْءِ بِاسْمِ الْكُلِّ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُخَصِّصَاتِ لِلْعُمُومِ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ إِخْرَاجٌ، وَالْعَشَرَةُ نَصٌّ فِي مَدْلُولِهَا، وَالنَّصُّ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَخْصِيصٌ، وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ فِي الظَّاهِرِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمَا قَالَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّكَ أَخْبَرْتَ بِالْقِيَامِ عَنِ الْقَوْمِ، الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ زَيْدٌ وَزَيْدٌ، مَسْكُوتٌ عَنْهُ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْقِيَامِ وَلَا بِنَفْيِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ الْجُمْهُورُ لَا يَسْتَقِيمُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 1، فلو أراد الألف من لفظ الألف لم
تَخَلَّفَ مُرَادُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ فَعَلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ، إِلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ لَفْظِ الْأَلْفِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: بِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ جَاءَنِي عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً، بِمَنْزِلَةِ سَبْعَةٍ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ، وَأَنَّهُمَا كَاسْمَيْنِ وُضِعَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا مُفْرَدٌ، وَالْآخَرُ مُرَكَّبٌ وَجَرَى صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" عَلَى هَذَا، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاسْتَنْكَرَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ إِنَّهُ مُحَالٌ لَا يَعْتَقِدُهُ لَبِيبٌ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ خَارِجٌ عَنْ قَانُونِ اللُّغَةِ؛ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ فِيهَا لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ دَلَالَةَ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ الْإِخْرَاجِ. وَأَجَابَ آخَرُونَ: بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُرَادٌ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ أُخْرِجَ الْمُسْتَثْنَى، ثُمَّ حُكِمَ بِالْإِسْنَادِ بَعْدَهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ ذِكْرًا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِكَ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً: عَشَرَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَخْرَجْتَ ثَلَاثَةً، ثُمَّ أُسْنِدَ إِلَى الْبَاقِي تَقْدِيرًا، فَالْمُرَادُ بِالْإِسْنَادِ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِخْرَاجِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَرَجَّحَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ، وَالْجَوَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، بِأَنَّ الْأَفْرَادَ فِي غَيْرِ هَذَا مُرَادَةٌ بِكَمَالِهَا، وَفِي الْجَوَابِ الَّذِي قَبْلَهُ هِيَ مُرَادَةٌ بِكَمَالِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا هو لتفسير النسبة لا لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْمُرَادِ. وَأَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَجْوِبَةِ، أَنَّ جَوَابَ الْجُمْهُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ تَخْصِيصٌ، وَعَلَى الْجَوَابِ الثَّانِي لَيْسَتْ بِتَخْصِيصٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ مُحْتَمَلَةٌ. فَقِيلَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَخْصِيصٌ، وَقِيلَ لَيْسَتْ بِتَخْصِيصٍ. قَالَ "الْمَازِرِيُّ"*: أصل هذه الخلاف في الاسثناء مِنَ الْعَدَدِ هَلْ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَقَرِينَةٍ غَيَّرَتْ وَضْعَ الصِّيغَةِ أَوْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَإِنَّمَا كَشَفَتْ عَنِ الْمُرَادِ بِهَا، فَمَنْ جَعَلَ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ سِوَى مَا يُفْهَمُ مِنْهَا، قَالَ بِالْأَوَّلِ، وَيُنْزِلُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَدٍ مَا، وَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِمَجْمُوعٍ هُوَ الدَّالُّ عَلَى الْعَدَدِ الْمَنْفِي، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ كَالنُّصُوصِ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ اسْتُعْمِلَتْ فِي عَشَرَةٍ نَاقِصَةٍ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ قَرِينَةً لَفْظِيَّةً دَلَّتْ عَلَى الْمُرَادِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ: "لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ" عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1. قَالَ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّكَ اسْتَعْمَلْتَ الْعَشَرَةَ فِي سَبْعَةٍ مَجَازًا، دل عليه قوله:
إِلَّا ثَلَاثَةً، وَالْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمَجْمُوعَ يُسْتَعْمَلُ فِي السَّبْعَةِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ عِنْدَهُ أَنَّكَ تَصَوَّرْتَ مَاهِيَّةَ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ حَذَفْتَ مِنْهَا ثَلَاثَةً، ثُمَّ حَكَمْتَ بِالسَّبْعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ الْبَاقِي مِنْ عَشَرَةٍ، أُخْرِجَ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ، أَوْ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً لَهُ عِنْدِي، وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَيْءٍ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِهِ فِي ذِهْنِهِ، فَهَذَا الْقَائِلُ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِ الْعَشَرَةِ فِي ذِهْنِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ حكم، كما أنك تخرج عشرة دراهم من الْكِيسِ، ثُمَّ تَرُدُّ مِنْهَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَهَبُ الْبَاقِيَ، وَهِيَ السَّبْعَةُ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَاهُ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَالْمَسْأَلَةُ قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ تَقَرَّرَ وُقُوعُهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، تَقَرُّرًا مَقْطُوعًا بِهِ، لَا يَتَيَسَّرُ لِمُنْكِرٍ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ مَا بَعْدَ آلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ خَارِجٌ عَنِ الْحُكْمِ لِمَا قَبْلَهَا بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي صِحَّةِ تَوْجِيهِ مَا تَقَرَّرَ وُقُوعُهُ وَثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ. وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَقَامِ يَكْفِي فِي ذَلِكَ، وَيَنْدَفِعُ بِهِ تَشْكِيكُ مَنْ شَكَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَلَا نُطَوِّلُ بِاسْتِيفَاءِ مَا قِيلَ فِي أَدِلَّةِ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ وَمَا قيل عليها.
المسألة الثامنة: شروط صحة الاستثناء
المسألة الثامنة: شُرُوطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شُرُوطٌ. الْأَوَّلُ: الِاتِّصَالُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَفْظًا: بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ وَاحِدًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الِاتِّصَالِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْطَعَهُ لِعُذْرٍ كَسُعَالٍ أَوْ عُطَاسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، مِمَّا لَا يُعَدُّ فَاصِلًا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، فَإِنِ انْفَصَلَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ لَغْوًا وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الِاسْتِثْنَاءُ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْجُمْلَةِ بِلَفْظِ إلا أو أُقِيمَ مَقَامَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ: أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُ بَعْضَ الْجُمْلَةِ عَنْهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًا، كَدَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَالْقِيَاسِ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا، فَيَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالدَّلَالَةِ، وَإِلَّا كَانَ لَغْوًا، وَهَذَا أَيْضًا خَارِجٌ عَنِ الْحَدِّ، أَوْ مُتَّصِلًا، وَهُوَ إِمَّا لِلتَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ أَوِ الشَّرْطِ أَوِ الْغَايَةِ، أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ. أَمَّا التَّقْيِيدُ بِالصِّفَةِ، فَالَّذِي خَرَجَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُ التَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ أَكْرَمَنِي بَنُو تَمِيمٍ الطِّوَالُ خَرَجَ مِنْهُمُ الْقِصَارُ، وَلَفْظُ الطِّوَالِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقِصَارَ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّ الْخَارِجَ وَهُوَ زَيْدٌ تَتَنَاوَلُهُ صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنِ التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ. وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ، فَالْغَايَةُ قَدْ تَكُونُ دَاخِلَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِق} 1 بخلاف
الِاسْتِثْنَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ لِلِاسْتِثْنَاءِ مُنْطَبِقٌ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَنْهُ فَقِيلَ: إِلَى شَهْرٍ، وَقِيلَ: إِلَى سَنَةٍ، وَقِيلَ: أَبَدًا. وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالُوا: لَمْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، لِمَا يَلْزَمُ مِنَ ارْتِفَاعِ الثِّقَةِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ لِإِمْكَانِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهُ تَعَالَى خَاصَّةً، كَمَنْ حَلَفَ وَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْإِخْرَاجِ بِإِلَا وَأَخَوَاتِهَا. قَالَ: وَنَقَلَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} 1 قَالَ: الْمَعْنَى إِذَا نَسِيتَ قَوْلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ بَعْدَ، ذَلِكَ، وَلَمْ يُخَصِّصْ. انْتَهَى. وَمَنْ قَالَ: بِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَمْ تَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَعَلَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي "مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ"2 وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظِ: "إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَى سَنَةٍ"3. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ هَذَا غَيْرُ الْحَاكِمِ مِنْ طُرُقٍ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ4 وَغَيْرُهُ. وَقَالَ سعيد بن منصور5: ... حدثنا
أَبُو مُعَاوِيَةَ1 قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ2 عَنْ مُجَاهِدٍ3 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ سَنَةٍ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، فَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَحَّتْ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ خِلَافَ مَا قَالَهُ. وَيَدْفَعُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَن حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" 4 وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا عَلَى التَّرَاخِي لَمْ يُوجِبِ التَّكْفِيرَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَقَالَ: فَلْيَسْتَثْنِ أَوْ يُكَفِّرْ. وَأَيْضًا: هُوَ قَوْلٌ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ جَمِيعِ الْإِقْرَارَاتِ وَالْإِنْشَاءَاتِ لِأَنَّ من وقع ذلك منه يمكن أَنْ يَقُولَ مِنْ بَعْدُ: قَدِ اسْتَثْنَيْتُ فَيُبْطِلُ حُكْمَ مَا وَقَعَ مِنْهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ لِجَوَازِ أَنْ يَرِدَ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَقَدِ احْتُجَّ لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا أَخْرَجُهُ أَبُو دَاوُدَ5 وَغَيْرُهُ، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا" ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" 6 وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السكوت يمكن أن يكون بعارض يعرض يمنع عن الكلام
وَأَيْضًا غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْيَمِينِ بَعْدَ سُكُوتِهِ وَقْتًا يَسِيرًا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ "هُوَ مَا عَرَفْتَ مِنْ جَوَازِهِ بَعْدَ سَنَةٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي "مدرج السَّالِكِينَ"1: إِنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ"* أَنَّهُ إِذَا قَالَ شَيْئًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ عِنْدَ الذِّكْرِ قَالَ: وَقَدْ غَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَدْفَعُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أو أسبوع أو سنة. وعن طاوس2: يَجُوزُ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ. وَعَنْ عَطَاءٍ3: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَلَى مِقْدَارِ حَلْبِ نَاقَةٍ غَزِيرَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ إلى سنتين. واعلم: أن الاسثناء بَعْدَ الْفَصْلِ الْيَسِيرِ وَعِنْدَ التَّذَكُّرِ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ، مِنْهَا حَدِيثُ: "لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا" الْمُتَقَدِّمُ. وَمِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا" فقال العباس: إلا الإذخر، فإن لقينهم وبيوتهم فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إلا الإذخر" 4.
وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -أَيْضًا فِي حديث سليمان- عليه السلام لَمَّا قَالَ: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ"1. وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: "إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ" 2. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرَ مُسْتَغْرَقٌ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مِنْهُمُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى فَسَادٍ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ "أَيْ: يَكُونُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ"* وَاخْتَلَفُوا "فِيمَا إِذَا كَانَ المستثنى أكثر مما بقي من المستثى مِنْهُ"** فَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ النُّحَاةِ: مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ لَمْ تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا نَقُصَ يَسِيرًا لَمْ يَزَلْ عَنْهُ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَوِ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ لَزَالَ الِاسْمُ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: لَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي مِائَةٌ إِلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، مَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ عَبَثًا مِنَ الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ "الْمَسَائِلِ"3: إِنَّ ذَلِكَ، يَعْنِي اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ،
لِأَنَّ تَأْسِيسَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى تَدَارُكِ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ، أَغْفَلْتَهُ أَوْ نَسِيتَهُ لِقِلَّتِهِ، ثُمَّ تَدَارَكْتَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ كَلَامِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْهُمْ، وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ: نَحْوَ: عِنْدِي لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةٌ، فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ السِّيرَافِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ مِنَ النُّحَاةِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين} 1 وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمُ الْأَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} 2 وقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} 3. وَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" 4 وَقَدْ أَطْعَمَ سُبْحَانَهُ وَكَسَا الْأَكْثَرُ مِنْ عِبَادِهِ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ: بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَانِعِينَ مِنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ5 مِنَ النُّحَاةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. وَأَمَّا جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْمُسَاوِي فَبِالْأَوْلَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} 6. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ، وَالْآمِدِيُّ عَنِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْمُسَاوِي وَلَا وَجْهَ لذلك.
وَمِنَ الْمَانِعِينَ اسْتِثْنَاءَ الْمُسَاوِي ابْنُ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْقَلِيلُ الَّذِي يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ هُوَ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَلِيَ الْكَلَامَ بِلَا عَاطِفٍ، فَأَمَّا إِذَا وَلِيَهُ حَرْفُ الْعَطْفِ، نَحْوَ: عِنْدِي لَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَإِلَّا دِرْهَمًا، أَوْ فَإِلَّا دِرْهَمًا كَانَ لَغْوًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: بِالِاتِّفَاقِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مُشَارٍ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ أَشَارَ إِلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ لِفُلَانٍ إِلَّا هَذَا وَهَذَا، فَقَالَ: إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "النِّهَايَةِ": أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إِذَا أَضَافَ الْإِقْرَارَ إِلَى مُعَيَّنٍ اقْتَضَى الْإِقْرَارُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فِيهَا، فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْبَعْضِ كَانَ رُجُوعًا عَنِ الْإِقْرَارِ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ جَوَازُهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ وَمُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْتِهَائِهِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مُشَارٍ إِلَيْهِ وغير مشار إليه.
المسألة التاسعة: الاستثناء من النفي والخلاف فيه
المسألة التاسعة: الاستثناء من النفي والخلاف فيه اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِثْبَاتٌ، وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إِثْبَاتًا وَجَعَلُوا بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَالْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَاسِطَةً وَهِيَ عَدَمُ الْحُكْمِ، قَالُوا: فَمُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ بَقَاءُ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، فَوَافَقَ الْجُمْهُورُ فِي "الْمَحْصُولِ" وَاخْتَارَ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ فِي "تَفْسِيرِهِ". وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَدَعْوَى الْوَاسِطَةِ مَرْدُودَةٌ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَ لَهَا وَجْهٌ لَكَانَ مِثْلَ ذَلِكَ لَازِمًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَأَيْضًا نَقْلُ الْأَئِمَّةِ عَنِ اللُّغَةِ يُخَالِفُ مَا قَالُوهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا لَمْ تَكُنْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ تَوْحِيدًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيٍ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إله إلا الله" 1.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا صَرَفْتَهُ عَنْ وَجْهِهِ: فَإِذَا قُلْتَ: لَا عَالِمَ إِلَّا زَيْدٌ فههنا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا الْحُكْمُ. وَالثَّانِي: نَفْسُ الْعِلْمِ. فَقَوْلُكَ: إِلَّا زَيْدٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ؛ إِذِ الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يُزِيلُ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ، فَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَنْهُ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَدَمِ يُحْصِلُ الْوُجُودَ لَا مَحَالَةَ؛ لِكَوْنِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى؛ إِذِ الْأَلْفَاظُ وُضِعَتْ دَالَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الذِّهْنِيَّةِ لَا عَلَى الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى. وَحَكَى عَنْهُمُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" أَنَّهُمُ احتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا نكاح إلا بولي" 1 و"لا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ" 2 وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَحَقُّقُ النِّكَاحِ عِنْدَ حُضُورِ الْوَلِيِّ، وَلَا تَحَقُّقُ الصَّلَاةِ عِنْدَ حُضُورِ الْوُضُوءِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صحتها عِنْدَ عَدَمِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. هَكَذَا حَكَى عَنْهُمُ فِي "الْمَحْصُولِ" وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَيُجَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِمَنْعِ مَا قَالُوهُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ الْإِثْبَاتُ مِنَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَكَانَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِيمَا يُفِيدُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ تَمَامِ مَا اشْتَرَطَ الشَّرْعُ فِي النِّكَاحِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِيمَا يُفِيدُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، فَدُخُولُ الْبَاءِ فِي الْمُسْتَثْنَى قَدْ أَفَادَ مَعْنَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي مَعَ عَدَمِهَا، فَإِنَّ دُخُولَهَا لَيْسَ بِمُخْرِجٍ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ لَا نِكَاحَ إِلَّا الْوَلِيُّ، وَلَا صَلَاةَ إِلَّا الطَّهُورُ، بَلْ قُلْنَا: "إِلَّا بِوَلِيٍّ" و"إلا بِطَهُورٍ" فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا نِكَاحَ يَثْبُتُ بوجه إلا
مُقْتَرِنًا بِوَلِيٍّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ": وَكُلُّ هَذَا عِنْدِي تَشْغِيبٌ. وَمُرَاوَغَاتٌ جَدَلِيَّةٌ وَالشَّرْعُ خَاطَبَ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، يَعْنِي كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِهَا لِإِثْبَاتِ مَقْصُودِ التَّوْحِيدِ وَحَصَلَ الْفَهْمُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَالْقَبُولُ لَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ وَضْعُ اللَّفْظِ لَا يُفِيدُ التَّوْحِيدُ لَكَانَ أَهَمُّ الْمُهِمَّاتِ تَعْلِيمَ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الأعظم.
المسألة العاشرة: اختلاف العلماء في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة هل يعود إلى الجميع أم لا
المسألة العاشرة: اختلاف العلماء فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ، هَلْ يعود إلى الجميع أم لا اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ، هَلْ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ، أَوْ إِلَى الْأَخِيرَةِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} 1. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا، مَا لَمْ يَخُصَّهُ دَلِيلٌ. وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ الْقَصَّارِ2 هَذَا الْمَذْهَبَ إِلَى مَالِكٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذَاهِبَ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَنَسَبَهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ" إِلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْحَنَابِلَةِ قَالَ: وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُقْعَدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" 3 قَالَ: أَرْجُو أن يكون الاستثناء على كله.
وذهب أبو حنيفة، وجمهور أصحابه "أَنَّهُ يَعُودُ"* إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعْمِيمِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "الْقَوَاعِدِ"1: أَنَّهُ الْأَشْبَهُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ" عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ. وَحَكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بُرْهَانٍ. وَذَهَبَ جَمَاعَةً إِلَى الْوَقْفِ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ. قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" بَعْدَ حِكَايَةِ الْوَقْفِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُرْتَضَى: إِلَّا أَنَّ الْمُرْتَضَى تَوَقَّفَ لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْقَاضِي لَمْ يَقْطَعْ بِذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا. وَأَدْخَلَهَا فِي التَّحْقِيقِ: مَا قِيلَ إِنَّ الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِالْأُخْرَى، أَوْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَا مُخْتَلِفَتَيِ الِاسْمِ وَالْحُكْمِ، أَوْ مُتَّفِقَتَيِ الِاسْمِ مُخْتَلِفَتَيِ الحكم، أو مخنلفتي الِاسْمِ مُتَّفِقَتَيِ الْحُكْمِ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِكَ: أَطْعِمْ رَبِيعَةَ، واخلع على مضر، إلى الطوال، والأظهر ههنا اخْتِصَاصُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِنَفْسِهَا "إِلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا"** إِلَّا وَقَدْ تَمَّ غرضه من الْأُولَى، فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، لَمْ يَكُنْ قَدْ تَمَّ غَرَضُهُ وَمَقْصُودُهُ من الجملة الأول. وَالثَّانِي: كَقَوْلِنَا أَطْعِمْ رَبِيعَةَ وَاخْلَعْ عَلَى رَبِيعَةَ إِلَّا الطُّوَالَ. وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِنَا أَطْعِمْ رَبِيعَةَ، وَأَطْعِمْ مضر، إلا الطوال، والحكم أيضًا ههنا كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى أُخْرَاهُمَا إِلَّا وَقَدْ تَمَّ غَرَضُهُ مِنَ الْأُولَى بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِالْأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأُولَى مُضْمَرًا فِي الثَّانِيَةِ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، إِلَّا الطِّوَالَ، أَوِ اسْمُ الْأُولَى مُضْمَرًا فِي الثَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ رَبِيعَةَ وَاخْلَعْ عَلَيْهِمْ، إِلَّا الطِّوَالَ فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَا "تَسْتَقِلُّ إِلَّا"* مَعَ الْأُولَى، فَوَجَبَ رُجُوعُ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَيْهِمَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَهُوَ كَقَوْلِنَا: أَكْرِمْ رَبِيعَةَ، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ، إِلَّا أَهْلَ الْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَلِيهِ، لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَتَيْنِ بِنَفْسِهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات} الْآيَةَ1، فَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَأَنْوَاعُ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى أَمْرٌ، وَالثَّانِيَةُ نَهْيٌ، وَالثَّالِثَةُ خَبَرٌ، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَتَيْنِ بِنَفْسِهَا، "وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ"** حَقٌّ، لَكِنَّا إِذَا أَرَدْنَا الْمُنَاظَرَةَ اخْتَرْنَا التَّوَقُّفَ، لَا بِمَعْنَى "دَعْوَى"*** الِاشْتِرَاكِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّا لَا نَعْلَمُ حُكْمَهُ فِي اللُّغَةِ مَاذَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي. انْتَهَى. قَالَ ابن فارس في كتاب "فقه الْعَرَبِيَّةِ": إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ عَادَ كَآيَةِ الْمُحَارِبَةِ2، وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَنْعِهِ امْتَنَعَ كَآيَةِ الْقَذْفِ3، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ كَانَ الْمُعْتَمَدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْجُمَلَ إِذَا تَعَاطَفَتْ صَارَتْ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، قَالُوا بِدَلِيلِ الشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، بِالْمَشِيئَةِ، فَإِنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ إِجْمَاعًا. وأجيب: بأن ذلك مسلم في المفردات، وأما في الجمل فممنوع.
وَأُجِيبُ أَيْضًا عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَتَقَدَّمُ كَمَا يَتَأَخَّرُ. وَيُجَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْجُمَلَ الْمُتَعَاطِفَةَ لَهَا حُكْمُ الْمُفْرِدَاتِ، وَدَعْوَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُفْرَدَاتِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ. لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفِيدُ مَفَادَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى. وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي: بِأَنَّ رُجُوعَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا يَلِيهِ مِنَ الْجُمَلِ هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ دَعْوَى الظُّهُورِ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الْقَيْدَ الْوَاقِعَ بَعْدَ جُمَلٍ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مَنْ عُودِهِ إِلَى جَمِيعِهَا لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ، وَلَا مِنْ خَارِجٍ عَنْهُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِهَا، وَإِنْ مَنَعَ مَانِعٌ فَلَهُ حُكْمُهُ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا حَكَوْهُ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَجَعَلُوهُ مَذْهَبًا رَابِعًا مِنْ أَنَّ الْجُمَلَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَسُوقَةً لِمَقْصُودٍ وَاحِدٍ انْصَرَفَ إِلَى الْجَمِيعِ، وَإِنْ سِيقَتْ لِأَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، فَإِنَّ كَوْنَهَا مَسُوقَةً لِأَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمِيعِ. وَكَذَا لَا يُنَافِي هَذَا مَا جَعَلُوهُ مَذْهَبًا خَامِسًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاوَ لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالنُّحَاةَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا الْبَغَادِدَةَ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَاوِ لِلِابْتِدَاءِ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمِيعِ. وَكَذَلِكَ لَا يُنَافِي هَذَا مَا حَكَوْهُ مَذْهَبًا سَادِسًا، مِنْ كَوْنِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَانَتْ إِعْرَاضًا وَإِضْرَابًا عَنِ الْأُولَى اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ وَالْإِضْرَابَ مَانِعٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَقَدْ أَطَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسَاقُوا مِنْ أَدِلَّةِ الْمَذَاهِبِ مَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَإِنَّ بَعْضَهَا احْتِجَاجٌ بِقِصَّةٍ خَاصَّةٍ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَبَعْضَهَا يَسْتَلْزِمُ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ.
المسألة الحادية عشرة: حكم الوصف الوارد بعد المستثنى
المسألة الحادية عشرة: حكم الوصف الوارد بعد المستثنى إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْمُسْتَثْنَى فَإِذَا قَالَ: عِنْدِي لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا مِائَةً، قَضَيْتُ ذَلِكَ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ رَاجِعًا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ مُدَّعِيًا لِقَضَائِهَا فَإِنْ بَرْهَنَ عَلَى دَعْوَاهُ فَذَلِكَ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْجِعُ الْوَصْفُ إِلَى الْمُسْتَثْنَى فَيَكُونُ مُقِرًّا بِأَلْفٍ مُدَّعِيًا لِقَضَاءِ مِائَةٍ مِنْهُ. وَهَكَذَا إِذَا جَاءَ بَعْدَ الْجُمَلِ ضَمِيرٌ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، نَحْوَ: أَكْرِمْ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَكْرِمْ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَجَالِسْهُمْ. أَمَّا إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ أَوِ الْوَصْفُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِبَعْضِ الْجُمَلِ دُونَ بَعْضٍ، كَانَ لِلَّتِي يَصْلُحُ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا: نَحْوَ: أَكْرِمِ الْقَوْمَ، وَأَكْرِمْ زَيْدًا الْعَالِمَ، وَأَكْرِمِ الْقَوْمَ، وَأَكْرِمْ زَيْدًا وَعَظِّمْهُ.
المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط
المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط مدخل ... الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ وَحَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ الْعَلَامَةُ، كَذَا قِيلَ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِمَا فِي "الصِّحَاحِ"1 وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ، بِأَنِ الَّذِي بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ هُوَ الشَّرَطُ بِالتَّحْرِيكِ، وَجَمْعُهُ أَشْرَاطٌ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، أَيْ: عَلَامَاتُهَا. وَأَمَّا الشَّرْطُ، بِالسُّكُونِ: فَجَمْعُهُ شُرُوطٌ، هَذَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ فِيهِ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنْهُ أَشْرُطٌ كَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ. وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الشَّرْطُ مَا لَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ دُونَهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ الشَّرْطُ بِالْمَشْرُوطِ، وهو مشتق منه فيتوقف "تعقله"* على تعلقه، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِأَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمُسَبِّبُ بِدُونِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ. وَأُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ قَوْلِنَا: شَرْطُ الشَّيْءِ مَا لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِدُونِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ تَصَوُّرَ حَقِيقَةِ الْمَشْرُوطِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ فِي تَعَقُّلِ ذَلِكَ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ جُزْءَ السبب قد يوجب الْمُسَبِّبُ بِدُونِهِ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ آخَرُ. وَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ الشَّرْطَ هُوَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمُؤَثِّرُ فِي تَأْثِيرِهِ، لَا فِي ذَاتِهِ. وَقَالَ: وَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ، لِأَنَّهَا نَفْسُ الْمُؤَثِّرِ، وَالشَّيْءُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا جزء العلة،
وَلَا شَرْطِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي ذَاتِهَا. انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ، ولا يتصور ههنا تأثير ومؤثر "إذا"* إِذِ الْمُحْوِجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ هُوَ الْحُدُوثُ. وَقِيلَ: الشَّرْطُ مَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ نَفْيَ أَمْرٍ آخَرَ، لَا عَلَى جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ، فَيَخْرُجُ السَّبَبُ وَجُزْؤُهُ. وَرَدَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُمَيَّزِ بَيْنَهُمَا، فَفِيهِ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فِي الْخَفَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا اسْتَلْزَمَ عَدَمُهُ عَدَمَ أَمْرٍ مُغَايِرٍ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي حَدِّهِ: أَنَّهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ، وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ وَالْإِفْضَاءِ، فَيَخْرُجُ جُزْءُ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ السَّبَبُ، لَكِنْ لَهُ دَخْلٌ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِ وَيَخْرُجُ سَبَبُ الشَّيْءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَتَخْرُجُ الْعِلَّةُ لِأَنَّهَا وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهَا الْوُجُودُ فَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُؤَثِّرَةٌ.
أقسام الشرط
أَقْسَامُ الشَّرْطِ: وَالشَّرْطُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عَقْلِيٍّ، وَشَرْعِيٍّ، وَلُغَوِيٍّ، وَعَادِيٍّ. فَالْعَقْلِيُّ: كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِحَيَاةٍ، فَقَدْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهَا عَقْلًا. وَالشَّرْعِيُّ: كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ هُوَ الْحَاكِمُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُوجَدُ إلا بطهارة، فقط تَوَقَّفَ وُجُودُ الصَّلَاةِ عَلَى وُجُودِ الطَّهَارَةِ شَرْعًا. وَاللُّغَوِيُّ: كَالتَّعْلِيقَاتِ، نَحْوَ إِنْ قُمْتَ قُمْتُ، وَنَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّ أَهْلَ اللغة وضعوا هذا التركيب ليدل على أن مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ هُوَ الشَّرْطُ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَيُسْتَعْمَلُ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ في السبب الجعلي، كما يقال: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ الدخول سبب الطلاق، يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ وَجُودَهُ، لَا مُجَرَّدَ كَوْنِ عَدَمِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبِيَّتِهِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الغزالي، والقرافي، وابن الحاجب، وشراح "كتابه"1.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ: بِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ، وَالثَّانِي مُسَبَّبٌ. وَالشَّرْطُ الْعَادِي: كَالسُّلَّمِ لِصُعُودِ السَّطْحِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنْ لَا يُوجَدَ الصُّعُودُ إِلَّا بِوُجُودِ السُّلَّمِ أَوْ نَحْوَهُ، مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهُ. ثُمَّ الشَّرْطُ قَدْ يَتَّحِدُ، وَقَدْ يَتَعَدَّدُ وَمَعَ التَّعَدُّدِ قَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ شَرْطًا "عَلَى الْجَمْعِ، فَيَتَوَقَّفُ الْمَشْرُوطُ عَلَى حُصُولِهَا جَمِيعًا، وَقَدْ يَكُونُ لِكُلِّ واحد شرطًا"* مستقلًّا فيحصل المشروط بحصول أي وَاحِدٍ مِنْهَا، فَإِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَكَلْتِ وَشَرِبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا بِالدُّخُولِ وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدار أَوْ أَكَلْتِ أَوْ شَرِبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَاعْلَمْ: أَنَّ الشَّرْطَ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ، وَفِي تَعَقُّبِهِ لِجُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الشَّرْطَ الدَّاخِلَ عَلَى الْجُمَلِ، هَلْ يَرْجِعُ حُكْمُهُ إِلَيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ؟ فَاتَّفَقَ الْإِمَامَانِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَالْمُخْتَارُ التَّوَقُّفُ كَمَا تَقَدَّمَ1 فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. ثُمَّ قَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ اتِّصَالِ الشَّرْطِ بِالْكَلَامِ، وَدَلِيلُهُ مَا مَرَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ "يَحْسُنُ"** التَّقْيِيدُ بِشَرْطٍ يَكُونُ الْخَارِجُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِي، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. انْتَهَى. فَقَدْ حُكِيَ الِاتِّفَاقُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ كما نراه
المسألة الثالثة عشرة: التخصيص بالصفة
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالصِّفَةِ وَهِيَ كَالِاسْتِثْنَاءِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ مُتَعَدِّدٍ، وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ هُنَا هِيَ الْمَعْنَوِيَّةُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ، لَا مُجَرَّدُ النَّعْتِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "النِّهَايَةِ": الْوَصْفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ التَّخْصِيصُ، فَإِذَا قُلْتَ: رَجُلٌ شَاعَ هَذَا فِي الرِّجَالِ، فَإِذَا قُلْتَ: طَوِيلٌ اقْتَضَى ذَلِكَ تَخْصِيصًا، فَلَا تَزَالُ تَزِيدُ وَصْفًا، فَيَزْدَادُ الْمَوْصُوفُ اخْتِصَاصًا، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْوَصْفُ قَلَّ الْمَوْصُوفُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي اتِّصَالِ التَّوَابِعِ، وَهِيَ النَّعْتُ وَالتَّوْكِيدُ، وَالْعَطْفُ وَالْبَدَلُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الصِّفَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً عُقَيْبَ شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِنَا: رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا شَكَّ في عودها إليها أو عقيب شيئين، وههنا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ، كَقَوْلِكَ: أكرم العرب والعجم المؤمنين، فههنا الصفة تكون عائدة إليهما، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، كَقَوْلِكَ: أَكْرِمِ العلماء وجالس الفقهاء الزهاد، فههنا الصِّفَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ. انْتَهَى. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إِنْ كَانَتِ الصِّفَاتُ كَثِيرَةً، وَذُكِرَتْ عَلَى "الْجَمْعِ"* عَقِبَ جُمْلَةٍ تَقَيَّدَتْ بِهَا، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، فَلِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ ذُكِرَتْ "عَقِبَ"** جُمَلٍ، فَفِي الْعَوْدِ إِلَى كُلِّهَا أَوْ إِلَى الْأَخِيرَةِ خِلَافٌ. انْتَهَى. وَأَمَّا إِذَا تَوَسَّطَتِ الصِّفَةُ بَيْنَ جُمَلٍ، فَفِي عُودِهَا إِلَى الْأَخِيرَةِ خِلَافٌ، كَذَا قِيلَ، وَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الصِّفَةَ تَكُونُ لِمَا قَبْلَهَا لَا لِمَا بَعْدَهَا لِعَدَمِ جَوَازِ تقدم الصفة على الموصوف.
المسألة الرابعة عشرة: التخصيص بالغاية
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ وَهِيَ نِهَايَةُ الشَّيْءِ الْمُقْتَضِيَةُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا، وَانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا وَلَهَا لَفْظَانِ، وَهَمَا: حَتَّى وَإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1 وقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} 2. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ بِالْخِلَافِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ لَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ مَقْطَعًا، فَلَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ غاية، قال:
وَيَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْغَايَتَيْنِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: لَا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن، فههنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة، عبر عَنِ الْأُولَى بِالْغَايَةِ مَجَازًا لِقُرْبِهَا مِنْهَا وَاتِّصَالِهَا بها. قال الزركشي: ونوزع بأن هاتين الغايتين لشيئين؛ لأن التحريم الناشئ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ غَايَةُ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَإِذَا انقطع حدث تحريم آخر، ناشئ عن عدم الْغُسْلِ، وَالْغَايَةُ الثَّانِيَةُ غَايَةُ هَذَا التَّحْرِيمِ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْأُصُولِيُّونَ كَوْنَ الْغَايَةِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْغَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا، لَوْ لَمْ يُؤْتَ بها كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة} 1 فَإِنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لَوْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا لَقَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ، أَعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ لَمْ يُعْطُوهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَايَةِ نَفْسِهَا، هَلْ تَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا، كَقَوْلِكَ: أَكَلْتُ حَتَّى قُمْتُ، هَلْ يَكُونُ الْقِيَامُ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ أَمْ لَا، وَفِي ذَلِكَ مَذَاهِبُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَدْخُلُ فِيمَا قَبْلَهَا. وَالثَّانِي: لَا تَدْخُلُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ كَمَا حَكَاهُ فِي "الْبُرْهَانِ". وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ دخلت وإلا فلا، حكاه أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ. وَالرَّابِعُ: إِنْ تَمَيَّزَتْ عَمَّا قَبْلَهَا بِالْحِسِّ، نَحْوَ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} 2 لَمْ تَدْخُلْ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ بِالْحِسِّ مِثْلَ {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} 3 دَخَلَتِ الْغَايَةُ وَهِيَ الْمَرَافِقُ، وَرَجَّحَ هَذَا الْفَخْرُ الرازي. والخامس: إن اقترنت بـ: من لَمْ يَدْخُلْ نَحْوَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ لَمْ تَدْخُلْ، وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ تَحْدِيدًا وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَعَ، وَحَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنْ سِيبَوَيْهِ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ خَرُوفٍ، وَقَالَ لم يذكر سيبويه "منها حرفًا"* منهما وَلَا هُوَ مَذْهَبُهُ. وَالسَّادِسُ: الْوَقْفُ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ. وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ فِي غَايَةِ الِانْتِهَاءِ. وَأَمَّا فِي غاية الابتداء ففيها مذهبان: الدخول وعدمه.
وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فِي الْغَايَتَيْنِ، غَايَةِ الِابْتِدَاءِ وَغَايَةِ الِانْتِهَاءِ عَلَى السَّوَاءِ، فَقَالَ: وَفِيهَا مَذَاهِبُ تَدْخُلَانِ، وَلَا تَدْخُلَانِ، وَتَدْخُلُ غَايَةُ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ، وَتَدْخُلَانِ إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ لَا إِنِ اخْتَلَفَ وَتَدْخُلَانِ إِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ مَا بَعْدَهُمَا عَمَّا قَبْلَهُمَا بِالْحِسِّ، وَإِلَّا لَمْ تَدْخُلَا فِيمَا قَبْلَهُمَا، "وَفِيمَا قَالَهُ"* نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمَةَ هِيَ فِي غَايَةِ الِانْتِهَاءِ، لَا فِي غَايَةِ الِابْتِدَاءِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَوْضَحُهَا عَدَمُ الدُّخُولِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ غَايَةِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. وَالْكَلَامُ فِي الْغَايَةِ الْوَاقِعَةِ بعد متعدد كما تقدم1 في الاستثناء.
المسألة الخامسة عشرة: التخصيص بالبدل
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالْبَدَلِ أَعْنِي: بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، نَحْوَ: أَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ، وَأَكْرِمِ الْقَوْمَ عُلَمَاءَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} 1؛ وَقَدْ جَعَلَهُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشُرَّاحُ "كِتَابِهِ". قَالَ السُّبْكِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، فَلَا تَحَقُّقَ فِيهِ لِمَحَلٍّ يَخْرُجُ مِنْهُ، فَلَا تَخْصِيصَ بِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ، أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِ بَدَلِ الْغَلَطِ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمُهْدَرِ، بَلْ هُوَ لِلتَّمْهِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ، وَلِيُفَادَ بِمَجْمُوعِهَا فَضْلُ تَأْكِيدٍ وَتَبْيِينٍ لَا يَكُونُ "إِلَّا"* فِي الْأَفْرَادِ. قَالَ السِّيرَافِيُّ: زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ تَنْحِيَةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، وَلَا يُرِيدُونَ إِلْغَاءَهُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ: أَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ تَبْيِينُهُ الْأَوَّلَ كَتَبْيِينِ النَّعْتِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَمَامِ الْمَنْعُوتِ، وَهُوَ مَعَهُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. انْتَهَى. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، مِنْ بَقَاءِ الْأَكْثَرِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْأَكْثَرِ وِفَاقًا نَحْوَ: أَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أَوْ نِصْفَهُ، أَوْ ثُلُثَيْهِ. وَيَلْحَقُ بِبَدَلِ الْبَعْضِ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بَيَانٌ وَتَخْصِيصٌ.
المسألة السادسة عشرة: التخصيص بالحال
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالْحَالِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: أَكْرِمْ مَنْ جَاءَكَ راكبًا، يفيد تخصيص الإكرام بمن ثَبَتَتْ لَهُ صِفَةُ الرُّكُوبِ، وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْجَمِيعِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ بِالِاتِّفَاقِ، نَحْوَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، وَأَعْطِ بَنِي هَاشِمٍ نَازِلِينَ بِكَ. وَفِي دَعْوَى الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ بِالْكُلِّ، عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
المسألة السابعة عشرة: التخصيص بالظرف والجار والمجرور
المسألة السابعة عشرة: التخصيص بالظرف وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ نَحْوَ: أَكْرِمْ زَيْدًا الْيَوْمَ، أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا، وَإِذَا تَعَقَّبَ أَحَدُهُمَا جُمَلًا، كَانَ عَائِدًا إِلَى الْجَمِيعِ. وَقَدِ ادَّعَى الْبَيْضَاوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا ادَّعَاهُ فِي الْحَالِ. وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمَا فِي "الْمَحْصُولِ" فَإِنَّهُ قَالَ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ: إِنَّهُمَا يَخْتَصَّانِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ بِالْكُلِّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَالِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ عَقِبَ جُمَلٍ. وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ مَا قَالَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَةَ1، فَإِنَّهُ قَالَ: فَأَمَّا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَمَّا لَوْ تَوَسَّطَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مَسْأَلَةِ، لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، أَنَّ قَوْلَنَا: ضَرَبْتُ زَيْدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وعَمرًا يقتضي أن الحنفية يقيدونه بالثاني.
المسألة الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز
المسألة الثامنة عشرة: التَّخْصِيصِ بِالتَّمْيِيزِ التَّخْصِيصُ بِالتَّمْيِيزِ نَحْوَ: عِنْدِي لَهُ رِطْلٌ ذَهَبًا، وَعِنْدِي لَهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَتَقَيَّدُ بِمَا وَقَعَ بِهِ التَّمْيِيزُ مِنَ الْأَجْنَاسِ، أَوِ الْأَنْوَاعِ، وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ نحو: عندي له ملء هذا أو عندي له رطل فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ عَوْدُهُ إِلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ.
المسألة التاسعة عشرة: التخصيص بالمفعول له والمفعول معه
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: "التَّخْصِيصُ" * بِالْمَفْعُولِ لَهُ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَيِّدُ الْفِعْلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمَفْعُولَ لَهُ مَعْنَاهُ التَّصْرِيحُ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَ الْفِعْلُ، نَحْوَ ضَرَبْتُهُ تَأْدِيبًا، فَيُفِيدُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَالْمَفْعُولُ مَعَهُ مَعْنَاهُ تَقْيِيدُ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْمَعِيَّةِ نَحْوَ ضَرَبْتُهُ وَزَيْدًا، فَيُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الضَّرْبَ الْوَاقِعَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ مُخْتَصٌّ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ الْمُصَاحِبَةُ بَيْنَ ضَرْبِهِ وضرب زيد.
المسألة الموفية عشرون: التخصيص بالفعل
المسألة الموفية عشرون: التخصيص بالفعل ... الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ فَقَدْ فَرَغْنَا بِمَعُونَةِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْمُخَصِّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَقَدْ حَصَرُوهَا فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْعَقْلِ، وَالْحِسِّ، وَالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْحَصْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَقَدْ يَقَعُ التَّخْصِيصُ بِالْعَوَائِدِ كَقَوْلِكِ: رَأَيْتُ النَّاسَ، فَمَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ زَيْدٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ تَقْضِي أَنَّكَ لَمْ تَرَ كُلَّ النَّاسِ، وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، كَقَوْلِكَ لِغُلَامِكَ: ائْتِنِي بِمَنْ يَخْدِمُنِي، فَإِنَّ الْمُرَادَ الْإِتْيَانُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِانْحِصَارِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ يَجْعَلُ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّخْصِيصِ بِهِ. وَذَهَبَ شُذُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِ مَنْ "شَذَّ"*. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": إِنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ قَدْ يَكُونُ بضرورته كقوله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، وَبِنَظَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 2 فَإِنَّ تَخْصِيصَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ فِي حَقِّهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ. وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى، بَلْ فِي اللَّفْظِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى، فَلِأَنَّ اللَّفْظَ، لَمَّا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَالْعَقْلُ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَإِمَّا أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّةِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِدْقُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يُرَجَّحُ النَّقْلُ عَلَى الْعَقْلِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ لِلنَّقْلِ، فَالْقَدْحُ فِي الْعَقْلِ قَدْحٌ فِي أَصْلِ النَّقْلِ وَالْقَدْحُ فِي الْأَصْلِ لِتَصْحِيحِ الْفَرْعِ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِمَا مَعًا، وَإِمَّا أَنْ يُرَجَّحَ حُكْمُ الْعَقْلِ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَقْلِ. وَأَمَّا الْبَحْثُ اللَّفْظِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ هَلْ يُسَمَّى مُخَصِّصًا أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: إِنْ أَرَدْنَا بِالْمُخَصِّصِ: الْأَمْرَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ هُوَ الْإِرَادَةُ الْقَائِمَةُ بِالْمُتَكَلِّمِ "والعقل"* يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَحَقُّقِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَالْعَقْلُ يَكُونُ دَلِيلَ الْمُخَصِّصِ، لَا نَفْسَ الْمُخَصِّصِ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكِتَابُ مُخَصِّصًا لِلْكِتَابِ، وَلَا السُّنَّةُ مُخَصِّصَةً لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ التَّخْصِيصِ هُوَ الْإِرَادَةُ لَا تِلْكَ الْأَلْفَاظُ. انْتَهَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ صِيغَةَ الْعَامِّ إِذَا وَرَدَتْ، وَاقْتَضَى الْعَقْلُ عَدَمَ تَعْمِيمِهَا فَيُعْلَمُ من جهة العقل أن المراد بها خصوص ما لا يحيله العقل، وليس المراد أن للعقل صلة لصيغة نازلة بمنزلة المتصل بالكلام، ولكن الْمُرَادَ بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ مُطْلَقَ الصِّيغَةِ لَمْ يُرَدْ تَعْمِيمُهَا. وَفَصَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ" بَيْنَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ لِعَدَمِ الشَّرْعِ، فَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَصَارَ الْحُكْمُ لِلشَّرْعِ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَالَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى نَفْيِهِ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ نَحْوَ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} فَقُلْنَا: الْمُرَادُ مَا خَلَا الصِّفَاتِ، لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ على ذلك. انتهى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِتَخْصِيصِ الْعَقْلِ إِلَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى: فَلَا خِلَافَ أَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنَ الْبَرَاءَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ؛ إِذْ مُقْتَضَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ثَابِتٌ إِجْمَاعًا، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا، فَالْخَصْمُ لَا يُسَمِّيهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي التَّخْصِيصِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ لَا الْعَقْلُ، وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إِنَّهُمْ "أَجْمَعُوا"* عَلَى صِحَّةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ حُكْمِ الْعُمُومِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا. وَقِيلَ: الْخِلَافُ رَاجِعٌ إِلَى مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، فَمَنْ مَنَعَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَقْلِ، فَهُوَ رُجُوعٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَأَنَّ الشَّرْعَ يَرِدُ بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ. وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْأَصْفَهَانِيُّ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا فَالْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، غَيْرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَقَدْ جَاءَ الْمَانِعُونَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَقْلِ بِشُبَهٍ مَدْفُوعَةٍ كُلِّهَا رَاجِعَةً إِلَى اللَّفْظِ، لَا إِلَى الْمَعْنَى، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ، فَهَلْ يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، قُلْنَا نَعَمْ؛ لِأَنَّ مَنْ سَقَطَتْ رِجْلَاهُ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا عُرِفَ بِالْعَقْلِ. انْتَهَى. وَأَجَابَ غَيْرُهُ: بِأَنَّ النَّسْخَ إِمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَإِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، وَكِلَاهُمَا مَحْجُوبٌ عَنْ نَظَرِ الْعَقْلِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّ خُرُوجَ الْبَعْضِ عَنِ الْخِطَابِ قَدْ يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ فَلَا مُلَازَمَةَ. وَلَيْسَ التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ من الترجيح لدليل عَلَى دَلِيلِ الشَّرْعِ، بَلْ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ إِمْكَانِ اسْتِعْمَالِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى عُمُومِهِ المانع قطعي، وهو دليل العقل.
المسألة الحادية والعشرون: التخصيص بالحس
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: التَّخْصِيصُ بِالْحِسِّ فَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِعُمُومٍ يَشْهَدُ الْحِسُّ بِاخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْعُمُومُ، كَانَ ذَلِكَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء} 1 مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُؤْتَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا كَانَ فِي يَدِ سُلَيْمَانَ، كذلك قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2 وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} 3. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي عَدِّ هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهُوَ خُصُوصُ، مَا أُوتِيَتْهُ هَذِهِ وَدَمَّرَتْهُ الرِّيحُ لَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. قَالَ: وَلَمْ يَحْكُوا الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ، وَيَنْبَغِي طَرْدُهُ. وَنَازَعَ الْعَبْدَرِيُّ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ دَلِيلِ الْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ كُلِّهَا الْحِسُّ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي دَلِيلِ الْحِسِّ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي دَلِيلِ الْعَقْلِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 4 وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت} 5 مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، لَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ شهادة العقل وشهادة الحس.
المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالنسبة المطهرة والتخصيص لهما
المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالنسبة المطهرة والتخصيص لهما مدخل ... المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة الْمُطَهَّرَةِ وَالتَّخْصِيصُ لَهُمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1. ويجاب عنه: بأن كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْصُلَ بَيَانُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2
يَعُمُّ الْحَوَامِلَ وَغَيْرَهُنَّ فَخَصَّ أُولَاتِ الْأَحْمَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1 وَخَصَّ مِنْهُ أَيْضًا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 2 وَهَكَذَا قَدْ خَصَّصَ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 3 بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} 4 وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَأَيْضًا ذَلِكَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ دَلَالَةً، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} 5، وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى" الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّ الْخَاصَّ إِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا وَإِلَّا فَالْعَامُّ نَاسِخٌ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى سَيَأْتِي6 الْكَلَامُ فِيهَا، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِتَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
جواز تخصيص السنة بالكتاب
جواز تخصيص السنة بالكتاب: وَكَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْكِتَابِ، عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَتَانِ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ. قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ مَكْحُولٌ1 وَيَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ2: السُّنَّةُ تَقْضِي عَلَى الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ لَا يَقْضِي عَلَى السُّنَّةِ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ، فَإِنِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} 3 فَقَدْ عَرَفْتَ عَدَمَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، مَعَ كَوْنِهِ مُعَارَضًا بِمَا هُوَ أَوْضَحُ دَلَالَةً مِنْهُ كما تقدم.
جواز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة
جواز تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ إِجْمَاعًا، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ دَاوُدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَا شَكَّ فِي الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ الْعِلْمَ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُهُ. وَأَلْحَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ بِالْمُتَوَاتِرِ الْأَخْبَارَ الَّتِي يقطع بصحتها.
جواز تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة
جواز تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْمُتَوَاتِرَةِ: وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، وَلَا يُبنى أَحَدُهُمَا عَلَى الآخر، ولا وجه لذلك.
جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد
جواز تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ: وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ" عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ إِلَى الْجَوَازِ إِذَا كَانَ الْعَامُّ قَدْ خُصَّ مِنْ قَبْلُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِ "الْمُنْتَهَى" عَنْهُ. وَقَدْ سَبَقَ إِلَى حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "التَّلْخِيصِ"، وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْخَبَرِ الْأُحَادِيِّ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لذلك يكون الْمُخَصِّصِ الْأَوَّلِ قَطْعِيًّا. وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى الْجَوَازِ إِذَا كَانَ الْعَامُّ قَدْ خُصَّ مِنْ قَبْلُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، سَوَاءً كَانَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أَوْ لَمْ يُخَصَّ أَصْلًا لَمْ يَجُزْ وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلى الوقف
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِوُرُودِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ، بَلْ وَرَدَ الْمَنْعُ، وَلَكِنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْوَقْفُ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ". وَاسْتَدَلَّ فِي "الْمَحْصُولِ" عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْعُمُومَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْعُمُومِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى الْجَوَازِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ خَصُّوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم} 1 بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ" 2، وَخَصُّوا التَّوَارُثَ بِالْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ" 3. وَخَصُّوا قَوْلَهُ: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 4 بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَجُوسِ5 وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ، دَلَالَةً بَيِّنَةً وَاضِحَةً مَا وَقَعَ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَإِذَا جَاءَ عَنْهُ الدَّلِيلُ كَانَ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا، وَإِذَا عَارَضَهُ عُمُومٌ قُرْآنِيٌّ كَانَ سُلُوكُ طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بِبِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مُتَحَتِّمًا، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ ظَنِّيَّةً لَا قَطْعِيَّةً فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْآحَادِيَّةِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا بِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً كَمَا فِي حَدِيثِهَا الصَّحِيحِ فَقَالَ عُمَرُ: "كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ ربنا لقول امرأة"6 يعني قوله: {أَسْكِنُوهُن} 7.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِتَرَدُّدِهِ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، لَا لِرَدِّهِ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْآحَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَيْفَ نُخَصِّصُ عُمُومَ كِتَابِ رَبِّنَا بِخَبَرٍ آحَادِيٍّ بَلْ قَالَ: "كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ". وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: "قَالَ عُمَرُ: لَا نَتْرُكُ كتاب الله وسنة نبينا قول امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ"1. فَأَفَادَ هَذَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، وَلَوْ عَلِمَ بِأَنَّهَا حَفِظَتْ ذَلِكَ وَأَدَّتْهُ كَمَا سَمِعَتْهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي الْعَمَلِ بِمَا رَوَتْهُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَمْ تُجْمِعِ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. أَمَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: "لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ" 2 وَ"لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" 3 فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا، وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَوَاتِرِ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِهَا وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ انعقاده على روايتها. وَكَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ "تَخْصِيصُ الْعُمُومِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ السَّابِقِ كَمَا صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وكما يجوز تحصيص عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ كَذَلِكَ يَجُوزُ"* تَخْصِيصُهُ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ عِنْدَ مَنْ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ الْآحَادِيِّ. وَقَدْ سَبَقَ1 الْكَلَامُ فِي الْقِرَاءَاتِ فِي مَبَاحِثِ الْكِتَابِ. وَهَكَذَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ لِعُمُومِ الْكِتَابِ وَعُمُومِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ، بِمَا ثَبَتَ مِنْ فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ به، كما يجوز بالقول. وَهَكَذَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي تَقْرِيرِهِ فِي مَقْصِدِ السُّنَّةِ2، بِمَا يغني عن الإعادة.
التخصيص بموافقة العام وبعطف الخاص على العام
التخصيص بموافقة العام وبعطف الخاص على العام ... التَّخْصِيصُ بِمُوَافِقِ الْعَامِّ وَبِعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ: وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِمُوَافِقِ الْعَامِّ فَقَدْ سَبَقَ1 الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَامِّ إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ، وَعَلَى الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْعَامِّ وَتَعَلُّقٌ بِالْخَاصِّ.
المسألة الثانية والعشرون: في التخصيص بالقياس
المسألة الثانية والعشرون: في التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ ... الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ أَخِيرًا. وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى" عَنْ هَؤُلَاءِ، وَزَادَ مَعَهُمُ الْإِمَامَ الرَّابِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَكَذَا حَكَى ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ". وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنِ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ.
وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا. وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْعَامُّ قَدْ خُصِّصَ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي "التَّقْرِيبِ"1، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ الْحِكَايَةَ عَنْهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِ النَّصِّ قَطْعِيًّا، وَحَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ. وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَإِلَّا فَلَا، كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ "صَاحِبُ" الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ. وَذَهَبَ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا وَإِلَّا فَلَا، كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرْوَانَ2 مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ3، وَمُبَارَكِ بْنِ أَبَانٍ4، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى"، عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ. وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّهُ: إِنْ تَفَاوَتَ الْقِيَاسُ وَالْعَامُّ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ رُجِّحَ الْأَقْوَى، فَإِنْ تَعَادَلَا فَالْوَقْفُ. وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ5، وَرَجَّحَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَرَافِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ. وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا جاز التخصيص به، وإلا فلا.
وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ مَذْهَبَيْنِ لَمْ يَنْسُبْهُمَا إِلَى مَنْ قَالَهُمَا. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ "عَامٍّ وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُخْرَجًا مِنْ غَيْرِ"* ذَلِكَ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: الْقِيَاسُ إِنْ كَانَ جَلِيًّا مثل {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} 1 جاز التخصيص به الإجماع، وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ مَعْنَى الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الرِّبَا، فَالتَّخْصِيصُ بِهِ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا إِلَّا طَائِفَةً شَذَّتْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا، وَهُوَ قِيَاسٌ عِلَّتُهُ الشَّبَهُ، فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَذَّ فَجَوَّزَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَفِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ جَوَازُهُ أَيْضًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْخَفِيِّ فِي مَوَاضِعَ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بأن العموم والقياس دليلان متعارضين وَالْقِيَاسَ خَاصٌّ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ. وَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ احْتِجَاجُ الْمَانِعِينَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ قَدَّمَ الْقِيَاسَ عَلَى عُمُومِ الْخَبَرِ لَزِمَ تَقْدِيمُ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَإِعْمَالِهِمَا جَمِيعًا فَلَا. وَقَدْ طَوَّلَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَحْثِ بِإِيرَادِ شُبَهٍ زَائِفَةٍ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْقِيَاسِ، فَمَنْ مَنَعَ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا مَنَعَ مِنَ التَّخْصِيصِ بِهِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ دُونَ بَعْضٍ مَنَعَ مِنَ التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ الْبَعْضِ، وَمَنْ قَبِلَهُ مُطْلَقًا خَصَّصَ بِهِ مُطْلَقًا. وَالتَّفَاصِيلُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا مِنْ جِهَةِ الْقَابِلِينَ لَهُ مُطْلَقًا، إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَقَعَ هُنَا مُقَابِلًا لِدَلَالَةِ الْعُمُومِ. وَالْحَقُّ الْحَقِيقُ بِالْقَبُولِ: أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ، وَبُلُوغِهَا إِلَى حَدٍّ يُوَازِنُ النصوص، وكذلك يُخَصَّصُ بِمَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً، أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، أَمَّا الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ فَالْقِيَاسُ الْكَائِنُ بِهَا فِي قُوَّةِ النَّصِّ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا، فَلِكَوْنِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ قَدْ دَلَّ عَلَى دَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْقِيَاسِ، فَلَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ بِالْعَمَلِ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْقِيَاسِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَّضِحُ بِهِ الْحَقُّ اتِّضَاحًا لَا يَبْقَى عِنْدَهُ رَيْبٌ لمرتاب.
المسألة الرابعة والعشرون: في التخصيص بالمفهوم
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِالْعَمَلِ بِالْمَفْهُومِ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ، وَسَيَأْتِي1 الْكَلَامُ عَلَى الْمَفَاهِيمِ وَالْمَعْمُولِ بِهِ مِنْهَا، وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ الْمَنْعَ مِنَ التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي عَدَمِ العمل بالمفهوم. قال الشيخ تقي الدين ابن دَقِيقِ الْعِيدِ، فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ": قَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعُمُومِ، وَفِي كَلَامِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّخْصِيصِ بِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِمَا. أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، فَكَمَا إِذَا وَرَدَ عَامٌّ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شاةٌ" 3 ثُمَّ قَالَ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" 4 فَإِنَّ الْمَعْلُوفَةَ خَرَجَتْ بِالْمَفْهُومِ فَيُخَصَّصُ بِهِ، عُمُومَ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التخصيص به ومثل بما ذكرنا.
وَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِذَا وَرَدَ الْعَامُّ مُجَرَّدًا عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ أُعِيدَتِ الصفة متأخرة عنه كقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1 مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ "اقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَخْصِيصِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْعُمُومِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا حَكَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ دَلَالَةَ النَّصِّ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْمَفْهُومَ الْأَوْلَى، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} 2 وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى التَّخْصِيصِ بِهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمَفَاهِيمِ فَرْعُ الْعَمَلِ بِهَا، وَسَيَأْتِي3 بَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
المسألة الخامسة والعشرون: في التخصيص بالإجماع
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا، وَكَذَلِكَ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْإِجْمَاعِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْضَ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ لَا بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: إِنَّ مَنْ خَالَفَ فِي التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ يُخَالِفُ هُنَا. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنَ النَّصِّ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يَحْتَمِلُ نَسْخَهُ، وَالْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ. وَجَعَلَ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} 1. قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ. وَمَثَّلَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} 2، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ بَذَلُوا فِلْسًا أَوْ فِلْسَيْنِ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ حَقْنُ دِمَائِهِمْ، قَالَ: وَالْجِزْيَةُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ جِزْيَةً مَعْلُومَةً. وَمَثَّلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِآيَةِ حَدِّ الْقَذْفِ، وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى التَّنْصِيفِ لِلْعَبْدِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ، لَا نَفْسُ الْإِجْمَاعِ كما تقدم3.
المسألة السادسة والعشرون: في التخصيص بالعادة
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالْعَادَةِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهَا. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا بِلَفْظٍ عَامٍّ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْعَادَةَ جَارِيَةً بِتَرْكِ بَعْضِهَا أَوْ بِفِعْلِ بَعْضِهَا، فَهَلْ تُؤَثِّرُ تِلْكَ الْعَادَةُ حَتَّى يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَرْكِهِ، أَوْ بِفِعْلِهِ أَوْ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ الْبَعْضِ وَلِغَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، كَأَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ مَثَلًا، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَاهُمْ عَنْ تَنَاوُلِهِ بِلَفْظٍ مُتَنَاوِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ بِخُصُوصِهِ أَمْ لَا، بَلْ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ وَلَا تُؤَثِّرُ عَادَاتُهُمْ. قَالَ وَالْحَقُّ: أَنَّهَا لَا تُخَصَّصُ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَهُوَ عَامٌّ، وَالْعَادَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حَتَّى تَكُونَ مُعَارِضَةً لَهُ. انْتَهَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ وَصَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" وَأَتْبَاعُهُ تَكَلَّمُوا عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَاخْتَارَ فِيهَا أَنَّهُ إِنْ عُلِمَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَدَمِ مَنْعِهِ عَنْهَا فَيُخَصَّصُ بِهَا، وَالْمُخَصِّصُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ تَقْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن علم عدم جريانها ولم يُخَصَّصْ بِهَا إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فتكلموا على الحالة الثانية. قال الرزكشي: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَتَفْطَنُ لِذَلِكَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ حَاوَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ فِي "الْمَحْصُولِ" وَكَلَامِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمَا تَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ الْقَرَافِيُّ فِي "شَرْحِ
التَّنْقِيحِ"، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَادَةَ السَّابِقَةَ عَلَى الْعُمُومِ تَكُونُ مُخَصِّصَةً، وَالْعَادَةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ الْعُمُومِ لَا يُقْضَى بِهَا عَلَى الْعُمُومِ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ: أَنَّ تِلْكَ الْعَادَةَ إِنْ كَانَتْ مُشْتَهِرَةً فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا أُطْلِقَ كَانَ الْمُرَادُ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهِيَ مُخَصِّصَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُخَاطِبُ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ إِلَّا مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَارُفُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَادَةُ كَذَلِكَ فَلَا حُكْمَ لَهَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُخَصِّصُ كَلَامَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِعَادَةٍ حَادِثَةٍ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا قَوْمٌ وَتَعَارَفُوا بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الشَّارِعُ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْخَطَأِ الْبَيِّنِ وَالْغَلَطِ الْفَاحِشِ. أَمَّا لَوْ قَالَ الْمُخَصِّصُ بِالْعَادَةِ الطَّارِئَةِ إِنَّهُ يُخَصِّصُ بِهَا مَا حَدَثَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُصْطَلِحِينَ عَلَيْهَا مِنَ التَّحَاوُرِ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّخَاطُبِ بِالْأَلْفَاظِ، فَهَذَا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ بَحْثَنَا فِي هَذَا الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْمُخَصِّصَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالْبَحْثُ عَنِ الْمُخَصِّصَاتِ الْعُرْفِيَّةِ لِمَا وَقَعَ التَّخَاطُبُ بِهِ مِنَ الْعُمُومَاتِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْخَلْطِ لِهَذَا الْفَنِّ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَالْخَبْطُ فِي الْبَحْثِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
المسألة السابعة والعشرون: في التخصيص بمذهب الصحابي
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِذَلِكَ. وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، فَبَعْضُهُمْ يُخَصِّصُ بِهِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ يُخَصِّصُ بِهِ إِنْ كَانَ هُوَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِي لِلْعُمُومِ، وَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُنْتَشِرًا وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا إِجْمَاعٌ أَوْ حَجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا عَلَى الْخِلَافِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْتَشِرْ، فَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَلَا يُخَصَّصُ بِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ هُوَ حُجَّةٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهَلْ يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ فِيهِ وَجْهَانِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى التَّخْصِيصِ هُوَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَعَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ تَقَدَّمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْعُمُومِ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ، بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ. وَأُجِيبُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ قَدْ يخالف ذلك لدليل فِي ظَنِّهِ، وَظَنُّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا، وَالتَّقْلِيدُ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ مُجْتَهِدٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ، لَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، فَالْحَقُّ عَدَمُ التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً مَا لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ مِنَ التَّخْصِيصِ بالإجماع، وقد تقدم1 الكلام عليه
المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِالسِّيَاقِ قَدْ تَرَدَّدَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ جَوَازَ التَّخْصِيصِ بِهِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} 1 وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي "الرِّسَالَةِ" يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّهُ بَوَّبَ لِذَلِكَ بَابًا فَقَالَ: بَابُ الصِّنف الَّذِي قَدْ بَيَّنَ سِيَاقُهُ مَعْنَاهُ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر} 2 قَالَ: فَإِنَّ السِّيَاقَ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت} 3. قال الشيخ تقي الدين ابن دَقِيقِ الْعِيدِ، فِي "شَرْحِ الْإِلْمَامِ": نَصَّ بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْقَرَائِنِ الْقَاضِيَةِ بِالتَّخْصِيصِ، قَالَ: وَيَشْهَدُ لَهُ مُخَاطَبَاتُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَيْثُ يَقْطَعُونَ فِي بَعْضِ الْمُخَاطَبَاتِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ، بِنَاءً عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالشَّرْعُ يُخَاطِبُ النَّاسَ بِحَسَبِ تَعَارُفِهِمْ. قَالَ: وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ التَّخْصِيصُ بِالْقَرَائِنِ بِالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ، كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِالسَّبَبِ غَيْرُ مُخْتَارٍ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُورَدَ لَفْظُ عَامٍّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ كَمَا فِي "قَوْلِهِ تَعَالَى"*: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4 ولا
يَنْتَهِضُ السَّبَبُ بِمُجَرِّدِهِ قَرِينَةً لِرَفْعِ هَذَا بِخِلَافِ السِّيَاقِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّبْيِينِ وَالتَّعْيِينِ، أَمَّا التَّبْيِينُ فَفِي الْمُجْمَلَاتِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَفِي الْمُحْتَمَلَاتِ، وَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِ هَذَا فِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُحَاوَرَاتِ تَجِدُ مِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُكَ حَصْرُهُ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ: أَنَّ دَلَالَةَ السِّيَاقِ إِنْ قَامَتْ مَقَامَ الْقَرَائِنِ الْقَوِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ، كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ مَا "اشْتَمَلَ"* عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السِّيَاقُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَلَا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص.
المسألة التاسعة والعشرون: في التخصيص بقضايا الأعيان
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ وذلك كإذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْحَكَّةِ1، وَفِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْحَنَابِلَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَ الْإِذْنُ بِالشَّيْءِ، أَوِ الْأَمْرُ بِهِ، أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بِالْعِلَّةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالِاسْتِصْحَابِ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ2: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ لِلْعُمُومِ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِصْحَابُ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ": ذَهَبَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، قَالَ: لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ نَاقِلٌ، فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ. وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعُمُومِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِهِ! إِذْ مَعْنَاهُ التَّمَسُّكُ بِالْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يُنْقَلُ عنه، والعموم دليل ناقل.
المسألة الموفية للثلاثون: في بناء العام على الخاص
المسألة الموفية للثلاثون: في بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ... الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَإِذَا كَانَ الْعَامُّ الْوَارِدُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، قَدْ وَرَدَ مَعَهُ خَاصٌّ يَقْتَضِي إِخْرَاجَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهَا، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَإِنْ عُلِمَ فإن كان المتأخر الخاص فإما أن يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ أَوْ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بالعام فههنا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وِفَاقًا، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا. وَإِنَّ تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْعَامِّ دُونَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَ الْخَاصَّ بَيَانًا لِلْعَامِّ، وَقَضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ حَكَمَ بِنَسْخِ الْعَامِّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَارَضَهُ فِيهِ الْخَاصُّ، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يَخْتَصُّ بِهَا، وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللَّمْعِ" وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي "الْعُدَّةِ". قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَلِمَ يُجَوِّزْ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ، أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُمَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ الْخَاصَّ مُخَصَّصٌ لِلْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعَامِّ، لَكِنَّ التَّخْصِيصَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنَ النَّسْخِ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَتَعَّيَنَ. وَنُقِلَ عَنْ مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَاصَّ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْعَامِّ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مَا يُمَكِّنُ الْمُكَلَّفَ بِهِمَا مِنَ الْعَمَلِ أَوِ الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى الْعَامِّ، كَانَ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ، وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا تنافٍ، فَيُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ "عِنْدَ"* الْإِمْكَانِ، دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. فَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ، وَالْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، إِلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى الْوَقْفِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا تَأَخَّرَ الْعَامُّ كَانَ نَاسِخًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَاصُّ مَا لَمْ يَقُمْ لَهُ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبِنَاءُ. وَإِنَّ تَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْخَاصِّ، لَكِنَّهُ قَبْلَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّسْخِ؛ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ مِنْهُمْ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوِ التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فِيهِ. وَجَعَلَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عَنْ مَوْرِدِ اللَّفْظِ جَعَلَهُ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ. "هَذِهِ"* الْأَرْبَعُ الصُّوَرُ إِذَا كَانَ تَارِيخُهُمَا مَعْلُومًا، فَإِنْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إِلَى التَّوَقُّفِ إِلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ، أَوْ إِلَى مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا، عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالدَّقَّاقِ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ: فِي صُورَةِ الْجَهْلِ الْبِنَاءُ، وَلَيْسَ عَنْهُ مَانِعٌ يَصْلُحُ لِلتَّشَبُّثِ بِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَمْكَنَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ مَعَ الْجَهْلِ إِلَّا بِالْبِنَاءِ، وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْمَانِعُونَ فِي الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْخَاصَّ أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الْعَامِّ، وَالْأَقْوَى أَرْجَحُ، وَأَيْضًا إِجْرَاءُ الْعَامِّ عَلَى عُمُومِهِ إِهْمَالٌ لِلْخَاصِّ، وَإِعْمَالُ الْخَاصِّ لَا يُوجِبُ إِهْمَالَ الْعَامِّ. وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْبِنَاءِ مَعَ جَهْلِ التَّارِيخِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْبِنَاءَ هُوَ الرَّاجِحُ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ مِنْ قَوْلِهِمْ دَلِيلَانِ تَعَارَضَا، وَعُلِمَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ تَسْلِيطُ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى السَّابِقِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ خَاصًّا، فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ ضَعِيفُ الدَّلَالَةِ، فَلَا يُنْتَهَضُ لِتَرْجِيحِهِ عَلَى قَوِيِّ الدَّلَالَةِ.
وَأَيْضًا فِي الْبِنَاءِ جَمْعٌ، وَفِي الْعَمَلِ بِالْعَامِّ تَرْجِيحٌ، وَالْجَمْعُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَأَيْضًا فِي الْعَمَلِ بِالْعَامِّ إِهْمَالٌ لِلْخَاصِّ، وَلَيْسَ فِي التَّخْصِيصِ إِهْمَالٌ لِلْعَامِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَسَيَأْتِي1 لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْعَمَلِ"* إِنْ شَاءَ الله. "تم الجزء الأول بعون الله تعالى وفضله ويليه الجزء الثاني إن شاء الله تبارك وتعالى"
فهرس المحتويات
فهرس المحتويات: الموضوع الصفحة مقدمة سماحة مفتي زحلة والبقاع الغربي الشيخ خليل الميس 5 مقدمة الدكتور ولي الدين صالح فرفور الدمشقي 7 مقدمة التحقيق 9 مقدة الإمام الشوكاني 15 الفصل الأول: تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته واستمداده 17 موضوع علم أصول الفقه 23 فائدته وثمرته 24 استمداد علم أصول الفقه 24 الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ 25 الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الحكم 25 البحث الثاني: في الحاكم 28 البحث الثالث: في المحكوم به 31 الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ 36 الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ 40 الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: عن ماهية الكلام 40 البحث الثاني: عن الواضع 41 البحث الثالث: عن الموضوع 45 البحث الرابع: عن الموضوع له 46 البحث الخامس: في الطريق التي يعرف بها الوضع 47 الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى مُفْرَدٍ ومركب 52 المسألة الأولى: في الاشتقاق 53 المسألة الثانية: في الترادف 56 المسألة الثالثة: في المشترك 57 المسألة الرابعة: في استعمال المشترك في أكثر من معنى 59
الموضوع الصفحة المسألة الخامسة: في الحقيقة والمجاز 62 الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ 62 البحث الثاني: في حدهما 62 البحث الثالث: في الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها 63 البحث الرابع: المجاز في لغة العرب 66 البحث الخامس: في علاقات الحقيقة والمجاز 68 البحث السادس: في قرائن المجاز 70 الْبَحْثُ السَّابِعُ: فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة 71 البحث الثامن: في عدم اتصاف اللفظ قبل الاستعمال بالحقيقة والمجاز 74 الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي اللَّفْظِ إِذَا دَارَ بَيْنَ الحقيقة والمجاز، أيهما يرجح 76 الْبَحْثُ الْعَاشِرُ: فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ 79 الخلاف في بعض حروف المعاني 80 الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ: فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فيما يتعلق بتعريفه 85 الفصل الثاني: في حكم المنقول آحادًا 86 الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ 90 الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُعَرَّبِ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ في القرآن أم لا؟ 91 المقصد الثاني: في السنة المطهرة الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى السُّنَّةِ لُغَةً وَشَرْعًا 95 البحث الثاني: في حجية السنة واستقلالها بالتشريع 96 البحث الثالث: في عصمة الأنبياء 98 الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 102 البحث الخامس: في تعارض الأفعال 111 البحث السادس: في حكم التعارض بين القول والفعل 113 البحث السابع: في التقرير 117 البحث الثامن: فيما هم بفعله ولم يفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 118 الْبَحْثُ التَّاسِعُ: فِي حكم إشارته وكتابته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 118 البحث العاشر: فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها 119 البحث الحادي عشر: في الأخبار 119
الموضوع الصفحة النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْخَبَرِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا 119 النوع الثاني: أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب 123 النوع الثالث: في تقسيم الخبر 127 النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه 128 القسم الأول: المتواتر 128 شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروري 130 القسم الثاني: الآحاد 133 أقسام الآحاد 137 شروط العمل بخبر الواحد 139 الشروط الراجعة إلى الراوي 139 الشروط الراجعة إلى مدلول الخبر 151 حكم زيادة الثقة 154 الشروط الراجعة إلى لفظ الخبر 155 الحال الأول: أن يرويه الراوي بلفظه 155 الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ بَلْ بمعناه 155 الحال الثالث: حكم حذف الراوي لبعض الخبر 159 الحال الرابع: حكم زيادة الراوي 161 الحال الخامس: اقتصار الراوي على أحد محتملي الخبر 161 الحال السادس: صرف الخبر إلى غير ظاهره 161 فصل: في ألفاظ الرواية من الصحابي 162 ألفاظ الرواية من غير الصحابي ومراتبها 166 الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ مِنْ لَفْظِ الشيخ 166 المرتبة الثانية: القراءة وقول العلماء فيها 166 المرتبة الثالثة: الكتابة المقرونة بالإجازة 168 المرتبة الرابعة: المناولة 169 المرتبة الخامسة: الإجازة 170 فصل: في الحديث الصحيح 172 حكم الحديث المنقطع والمعضل 177 فصل: في طرق ثبوت العدالة 177 فرع: في الخلاف في عدالة المبهم 181 فرع آخر: الخلاف فِي قَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مَنْ دُونِ ذِكْرِ السبب 182 فرع ثالث: في تعارض الجرح والتعديل والجمع يبنهما 184
الموضوع الصحفة فصل: في عدالة الصحابة 185 فرع: في التعريف بالصحابي 188 فرع آخر: في طرق معرفة الصحابي 189 المقصد الثالث: في الإجماع البحث الأول: في مسماه لغة واصطلاحًا 193 الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي إِمْكَانِ الْإِجْمَاعِ فِي نَفْسِهِ 194 المقام الأول: منع إمكان الإجماع في نفسه 194 المقام الثاني: في إمكان العلم بالإجماع 195 الْمَقَامُ الثَّالِثُ: النَّظَرُ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ إِلَى من يحتج به 197 المقام الرابع: في حجية الإجماع 197 البحث الثالث: في ظنية الإجماع أو قطعيته 209 البحث الرابع: فيما ينعقد به الإجماع 210 البحث الخامس: في اعتبار المجتهد المبتدع في الإجماع 212 البحث السادس: في اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع 215 البحث السابع: في حكم إجماع الصحابة 217 البحث الثامن: في حكم إجماع أهل المدينة 218 البحث التاسع: في عدم اعتبار من سيوجد في الإجماع 223 البحث العاشر: في حكم انْقِرَاضُ عَصْرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِهِمْ 223 البحث الحادي عشر: في الإجماع السكوتي 223 البحث الثاني عشر: في حكم الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه 227 الْبَحْثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سبق الخلاف 228 البحث الرابع عشر: فيما إذا اختلف أهل العصر على قولين في مسألة فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؟ 229 البحث الخامس عشر: في حكم إحداث دليل أو تأويل من غير إلغاء الدليل أو التأويل الأول 230 الْبَحْثُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي إِمْكَانِ وُجُودِ دَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ لَمْ يَعْلَمْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ 230 البحث السابع عشر: في حكم قول العوام في الإجماع 231 فرع: في إجماع العوام 233 البحث الثامن عشر: في الاجماع المعتبر 233 البحث التاسع عشر: في مخالفة واحد من المجتهدين لأهل الإجماع 234 الْبَحْثُ الْمُوَفَّى عِشْرِينَ: فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ بطريق الآحاد 236
الموضوع الصفحة الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ: فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين والظاهر والمؤول والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ الباب الأول: في مَبَاحِثُ الْأَمْرِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: حَقِيقَةُ لَفْظِ الْأَمْرِ 241 الفصل الثاني: الخلاف في حد الأمر بمعنى القول 243 الفصل الثالث: حقيقة صيغة "أفعل" 247 صيغ الأمر ومعانية 253 الفصل الرابع: هل الأمر يفيد التكرار أم لا؟ 255 الفصل الخامس: هو الأمر يقتضي الفور أو لا؟ 259 الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضده 263 الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به 269 الفصل الثامن: القضاء. هل يجب بأمر جديد أم بالأمر الأول؟ 271 الفصل التاسع: هل الأمر بالأمر بالشيء أمرًا به أم لا؟ 273 الفصل العاشر: الأمر بالماهية ومقتضاه 274 الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين أو المتغايرين 276 الباب الثاني: في النواهي الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى النَّهْيِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا 278 المبحث الثاني: في النهي الحقيقي ومعناه 279 المبحث الثالث: في اقتضاء النهي للفساد 280 الباب الثالث: في العموم المسألة الأولى: في حده 285 المسألة الثانية: في أن العموم من عوارض الألفاظ 287 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَصَوُّرِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْكَامِ 289 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ 290 المسألة الخامسة: في صيغ العموم 291 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ كُلَّ صيغة من تلك الصيغ للعموم 295
الموضوع الصحفة الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ لِلْقِلَّةِ أو للكثرة 308 المسألة الثامنة: في أقل الجمع 310 المسألة التاسعة: الخلاف في عموم الفعل المثبت 313 المسألة العاشرة: في عموم قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 316 الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَمْعِ 318 المسألة الثانية عشرة: في عموم الخطاب 320 الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: فِي دُخُولِ الْكَافِرِ فِي الخطاب الصالح له وللمسلمين 321 المسألة الرابعة عشرة: في الخطاب الشفاهي 322 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِالْأُمَّةِ 323 المسألة السادسة عشرة: في الخطاب الخاص بواحد من الأمة 324 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي دُخُولِ الْمُخَاطِبِ تَحْتَ عموم خطابه 326 المسألة الثامنة عشرة: في عموم المقتضى 327 المسألة التاسعة عشرة: في عموم المفهوم 329 المسألة الموفية العشرين: في الاستفصال 330 المسألة الحادية والعشرون: في حذف المتعلق 331 المسألة الثانية والعشرون: في الكلام العام الوارد في جهة المدح أو الذم 331 المسألة الثالثة والعشرون: في حكم العام الوارد على سبب خاص 332 المسألة الرابعة والعشرون: فيما إذا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الحكم 336 المسألة الخامسة والعشرون: في عموم العلة المعلقة بالحكم 337 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ هَلْ هو حقيقة في الباقي أم مجاز 338 المسألة السابعة والعشرون: في حجية العام بعد التخصيص 340 المسألة الثامنة والعشرون: عطف بعد أفراد العام عليه 343 المسألة التاسعة والعشرون: في جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص 345 المسألة الثلاثون: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الَّذِي أريد به الخصوص 347 الباب الرابع: في الْخَاصُّ وَالتَّخْصِيصُ وَالْخُصُوصُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ 350 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ 352 المسألة الثالثة: في تخصيص العمومات وجوازه 354 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ من بقائه بعد التخصيص 355 المسألة الخامسة: في المخصص 358 المسألة السادسة: في حكم الاستثناء من الجنس 359
الموضوع الصفحة المسألة السابعة: في إقامة الحجة على من أنكر الاستنثاء 361 المسألة الثامنة: في شروط صحة الاستثناء 363 المسألة التاسعة: في الاستثناء من النفي والخلاف فيه 369 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمْلٍ متعاطفة 371 المسألة الحادية عشرة: في حكم الوصف الوارد بعد المستثنى 374 المسألة الثانية عشرة: التخصيص بالشرط 375 أقسام الشرط 376 المسألة الثالثة عشرة: التخصيص بالصفة 377 المسألة الرابعة عشرة: التخصيص بالغاية 378 المسألة الخامسة عشرة: التخصيص بالبدل 380 المسألة السادسة عشرة: التخصيص بالحال 381 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: التَّخْصِيصُ بِالظُّرُوفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ 381 المسألة الثامنة عشرة: التخصيص بالتمييز 381 المسألة التاسعة عشرة: التخصيص بالمفعول به والمفعول معه 382 المسألة الموفية العشرون: التخصيص بالعقل 382 المسألة الحادية والعشرون: التخصيص بالحس 385 المسألة الثانية والعشرون: التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما 385 جواز تخصيص السنة بالكتاب 386 جواز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة 387 جواز تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة 387 جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد 387 التَّخْصِيصُ بِمُوَافِقِ الْعَامِّ وَبِعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ 390 المسألة الثالثة والعشرون: في التخصيص بالقياس 390 المسألة الرابعة والعشرون: في التخصيص بالمفهوم 393 المسألة الخامسة والعشرون: في التخصيص بالإجماع 394 المسألة السادسة والعشرون: في التخصيص بالعادة 395 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ 396 المسألة الثامنة والعشرون: في التخصيص بالسياق 397 الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي التَّخْصِيصِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ 398 الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الخاص 399 فهرس المحتويات 403
المجلد الثاني
المجلد الثاني تابع المقصد الرابع الباب الخامس: في المطلق والمقيد الفصل الأول: في حد الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ... الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وفيه مباحث أربعة: الفصل الْأَوَّلُ: فِي حَدِّهِمَا أَمَّا الْمُطْلَقُ: فَقِيلَ فِي حَدِّهِ: مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنْ يَكُونَ حِصَّةً مُحْتَمِلَةً لِحِصَصٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا "يَنْدَرِجُ"* تَحْتَ أَمْرٍ. فَيَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الدَّلَالَةِ الْمُهْمَلَاتُ، وَيَخْرُجُ مَنْ قَيْدِ الشُّيُوعِ العارف كُلُّهَا، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْيِينِ، إِمَّا شَخْصًا، نَحْوَ: زَيْدٍ وَهَذَا، أَوْ حَقِيقَةً، نَحْوَ: الرَّجُلِ وَأُسَامَةَ، أَوْ حِصَّةً، نَحْوَ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 1، أَوِ اسْتِغْرَاقًا نَحْوَ: الرِّجَالِ، وَكَذَا كُلُّ عَامٍّ وَلَوْ نَكِرَةً، نَحْوَ: كُلِّ رَجُلٍ وَلَا رَجُلَ. وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ. "قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ"** مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا عَوَارِضُ الْمَاهِيَّةِ اللَّاحِقَةُ لَهَا فِي الْوُجُودِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، وَبِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَعْلَامَ الْأَجْنَاسِ، كَأُسَامَةَ وَثُعَالَةَ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ. وَأَجَابَ عن ذلك الأصفهاني في "شرحة المحصول": بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، بَلْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَالنَّكِرَةَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ. قَالَ: وَأَمَّا إِلْزَامُهُ بِعِلْمِ الْجِنْسِ فَمَرْدُودٌ، بِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ بقيد التشخص الذِّهْنِيِّ، بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ الِاعْتِرَاضُ بِالنَّكِرَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْآمِدِيُّ لِلْمُطْلَقِ، فإنه
قَالَ: هُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ. وَكَذَا يَرُدُّ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ. وَقِيلَ: الْمُطْلَقُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ. وَقَالَ الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ: الْمُطْلَقُ الْحَقِيقِيُّ: مَا دَلَّ عَلَى الماهية فقط، والإضافي مختلف، نحو: رجل، ب ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم، وَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَمُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ شَائِعٍ، وَهُمَا قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ: فَهُوَ مَا يُقَابِلُ الْمُطْلَقَ، عَلَى اخْتِلَافِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُطْلَقِ، فَيُقَالُ فِيهِ: هُوَ مَا دَلَّ لَا عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمَعَارِفُ وَالْعُمُومَاتُ كُلُّهَا، أَوْ يُقَالُ فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدٍ مِنْ قُيُودِهَا، أَوْ مَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ من القيود.
الفصل الثاني: حمل المطلق على المقيد
الفصل الثاني: حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ اعْلَمْ: أَنَّ الْخِطَابَ إذا ورد مطلقًا لَا "مُقَيِّدَ لَهُ"* حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنْ وَرَدَ مُقَيَّدًا حُمِلَ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا فِي مَوْضِعٍ، مُقَيَّدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بالاتفاق، كما حكاه القاضي أبوبكر الْبَاقِلَّانِيُّ: وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَإِلْكِيَا الْهَرَّاسُ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَيُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقَ رَقَبَةً؛ وقال في موضوع آخَرَ: إِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً. وَقَدْ نَقَلَ الِاتِّفَاقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ فُورَكَ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجمل، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ يُحْمَلُ، وَنَقَلَ أَبُو زَيْدٍ الْحَنَفِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ"1: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالْحَمْلِ فِي هَذِهِ الصورة، وحكي "الطرطوسي2" الخلاف فيه
عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَهُوَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَّفِقِينَ، فَرَجَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ هُوَ بَيَانٌ لِلْمُطْلَقِ، أَيْ: دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطْلَقِ هُوَ الْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، أَيْ: دَالًّا عَلَى نَسْخِ حُكْمِ الْمُطْلَقِ السَّابِقِ بِحُكْمِ الْمُقَيَّدِ اللَّاحِقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ، كَمَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ1،وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ2، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ فِي الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، مَعَ كَوْنِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَذَهَبَ كَافَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّقْيِيدِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى التَّقْيِيدِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ، وَلَا يُدعى وُجُوبُ هَذَا الْقِيَاسِ، بَلْ يُدَّعَى أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ ثَبَتَ التَّقْيِيدُ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَدِلُ، قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تَثْبُتُ إِذَا أَفْسَدْنَا الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ -يَعْنِي مَذْهَبَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ- فَضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ: أَوْجَبْتُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَأَوْجَبْتُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ رَقَبَةً كَيْفَ كَانَتْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ مُنَاقِضًا لِلْآخَرِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَقْيِيدَ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا. وَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا قُيِّدَتْ بِالْعَدَالَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأُطْلِقَتْ فِي سَائِرِ الصور، حملنا المطلق على المقيد فكذا ههنا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَتَنَاقَضُ لَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ كُلُّ عَامٍّ وَمُطْلَقٍ بِكُلِّ خَاصٍّ وَمُقَيَّدٍ. وَعَنِ الثَّانِي: أنَّا إِنَّمَا قَيَّدْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي -يَعْنِي مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ- فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ أن العمل به دفع
لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ عَامٌّ فِي كُلِّ الصُّوَرِ. انْتَهَى. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ -فِي دَفْعِ مَا قاله مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ-: إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ فُنُونِ الْهَذَيَانِ، فَإِنَّ قَضَايَا الْأَلْفَاظِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، لِبَعْضِهَا حُكْمُ التَّعَلُّقِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلِبَعْضِهَا حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِانْقِطَاعِ. فَمَنِ ادَّعَى تَنْزِيلَ جِهَاتِ الْخِطَابِ عَلَى حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَالْأَمْرُ وَالزَّجْرُ، والأحكام المتغايرة؛ فقد ادَّعَى أَمْرًا عَظِيمًا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ اتِّحَادَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ يَقْتَضِي حُصُولَ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا بِجِهَةِ الْحَمْلِ، وَلَا نَحْتَاجُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الْبَعِيدِ. فَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْحَمْلِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ رَابِعٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ صَارَ كَالَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، فَيُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمِلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا عَائِدًا إِلَيْهَا، وَلَا يُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ أَغْلَظُ الْحُكْمَيْنِ فِي "الْمُطْلَقِ وَ"* الْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَلَا يُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إِلْزَامٌ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْإِلْزَامُ لَا يَسْقُطُ الْتِزَامُهُ بِاحْتِمَالٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى الْمَذَاهِبِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ أَبْعَدُهَا مِنَ الصَّوَابِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ، نَحْوُ: اكْسُ يَتِيمًا، أَطْعِمْ يَتِيمًا عَالِمًا، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، سَوَاءٌ كَانَا مُثْبَتَيْنِ أَوْ مَنْفِيَّيْنِ أَوْ مختلفين، اتحد سببهما أو اختلف. "وقد" ** حكى الْإِجْمَاعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ آخِرُهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ.
الفصل الثالث: شروط حمل المطلق على المقيد
الفصل الثالث: شروط حمل المطلق على المقيد اشترط القائلون بالحمل شُرُوطًا سَبْعَةً: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُقَيَّدُ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، مَعَ ثُبُوتِ الذَّوَاتِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَأَمَّا فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ عَدَدٍ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا كَإِيجَابِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إِطْلَاقُ التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ، حَتَّى يَلْزَمَ التَّيَمُّمُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَعْضَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَمْ يُذْكَرْ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخْتَصُّ بِالصِّفَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْأَبْهَرِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الذَّاتِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إِلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ، كَاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقِ الشَّهَادَةِ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَقْيِيدُ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1، وَإِطْلَاقُ الْمِيرَاثِ فِيمَا أُطْلِقَ فِيهِ، فَيَكُونُ مَا أُطْلِقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُطْلَقُ دَائِرًا بَيْنَ قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا لَمْ يُحْمَلْ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَوْلَى، أَوْ مَا كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَقْوَى. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ" وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الِاتِّفَاقَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِيهِ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا، وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَالْإِثْبَاتِ. أَمَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ فَلَا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مَعَ تَنَاوُلِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَا: لَا خِلَافَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ لِعَدَمِ التَّعَذُّرِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تَعْتِقْ مُكَاتِبًا، لَا تَعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا "لَمْ يَعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا"* ولا مسلمًا؛ إذ لو أعتق وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِمَا. وَأَمَّا صَاحِبُ "المحصول" فسوى
بَيْنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ بِمِثْلِ ما ذكره الآمدي وابن الحاجب. وَأَمَّا الْأَصْفَهَانِيُّ فَتَبِعَ صَاحِبَ "الْمَحْصُولِ"، وَقَالَ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ يَجْرِي فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ: لَا يُتَصَوَّرُ تَوَارُدَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِثَالِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَفْرَادِ بَعْضِ مَدْلُولِ الْعَامِّ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خلاف أبي ثور، فلا وجه لذكره ههنا. انْتَهَى. وَالْحَقُّ: عَدَمُ الْحَمْلِ فِي النَّفْيِ وَالنَّهْيِ، وَمِمَّنِ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَجَعَلَهُ أَيْضًا شَرْطًا فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِي جَانِبِ الْإِبَاحَةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي جَانِبِ الْإِبَاحَةِ؛ إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْمُطْلَقِ زِيَادَةٌ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ: الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَمْلِ، فَإِنْ أَمْكَنَ بِغَيْرِ إِعْمَالِهِمَا فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ1 فِي "الْمَطْلَبِ"2. الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَيَّدُ ذُكِرَ مَعَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ، فلا يحمل المطلق على المقيد ههنا قَطْعًا. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنَ التَّقْيِيدِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى ذلك فلا تقييد.
الفصل الرابع: جريان ما ذكر في تخصيص العام في تقييد المطلق
الفصل الرَّابِعُ: جَرَيَانُ مَا ذُكِرَ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ اعْلَمْ: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي التَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ فَهُوَ جارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَارْجِعْ فِي تَفَاصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ، فَذَلِكَ يُغْنِيكَ عَنْ تَكْثِيرِ الْمَبَاحِثِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَائِدَةٌ: قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": إِذَا أُطْلِقَ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعٍ، وَقُيِّدَ مِثْلُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ بِقَيْدَيْنِ
مُتَضَادَّيْنِ، كَيْفَ يَكُونُ حُكْمُهُ؟! مِثَالُهُ: قَضَاءُ رَمَضَانَ الْوَارِدُ مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1، وَصَوْمُ التَّمَتُّعِ الْوَارِدُ مُقَيَّدًا بِالتَّفْرِيقِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 2، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ الْوَارِدِ مُقَيَّدًا بِالتَّتَابُعِ فِي قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 3. قَالَ: فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْمُقَيَّدِ لفظًا ترك المطلق ههنا عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَقْيِيدُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْآخَرِ، وَمَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى المقيد لقياس حمله ههنا عَلَى مَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَوْلَى. انْتَهَى. وقد نقدم فِي الشَّرْطِ الثَّانِي -مِنَ الْمَبْحَثِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْمَبْحَثِ4- الْكَلَامُ فِي الْمُطْلَقِ الدَّائِرِ بَيْنَ قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذِهِ الْفَائِدَةَ لِزِيَادَةِ الإيضاح.
الباب السادس: في المجمل والمبين
الباب السادس: في المجمل والمبين الفصل الأول: في حدهما تعريف المجمل ... الْبَابُ السَّادِسُ: فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيِّنِ وَفِيهِ سِتَّةُ فصول: الفصل الأول: في حدهما تعريف المجمل: فَالْمُجْمَلُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبْهَمُ، مِنْ أَجْمَلَ الْأَمْرَ: إِذَا أَبْهَمَ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَجْمُوعُ، مِنْ أَجْمَلَ الحساب: إذا جُمِع وجُعِل جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ: هُوَ الْمُتَحَصَّلُ مِنْ أَجْمَلَ الشَّيْءَ إِذَا حَصَّلَهُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ. وَفِي "الْمَحْصُولِ": هُوَ مَا أَفَادَ شَيْئًا مِنْ جُمْلَةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ لَا يُعَيِّنُهُ. قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْلُكَ: اضْرِبْ رَجُلًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَفَادَ ضَرْبَ رَجُلٍ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ فِي نَفْسِهِ، فَأَيُّ رَجُلٍ ضَرَبْتَهُ جَازَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اسْمُ الْقُرْءِ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ إِمَّا الطُّهْرُ وَحْدَهُ، وَإِمَّا الْحَيْضُ وَحْدَهُ، وَاللَّفْظُ لَا يُعَيِّنُهُ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 1 يُفِيدُ وُجُوبَ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ بِحَسْبِ اللَّفْظِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ "وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْمُهْمَلُ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ: مَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ تَتَّضِحْ، فَلَا يَرِدُ الْمُهْمَلُ"* وَقِيلَ: هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الإطلاق شيء.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ. أَمَّا عَدَمُ اطِّرَادِهِ فَلِأَنَّ الْمُهْمَلَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ، وَأَيْضًا الْمُسْتَحِيلُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ لِوُضُوحِ مَفْهُومِهِ. وَأَمَّا عَدَمُ الِانْعِكَاسِ: فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنَ الْمُجْمَلِ أَحَدُ مَحَامِلِهِ لَا بِعَيْنِهِ، كَمَا فِي الْمُشْتَرَكِ فَلَا يَصْدُقُ الْحَدُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ فُورَكَ: مَا لَا يَسْتَقِلُّ بنفسه في المراد منه حتى يأتي تفسيره. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَا دَلَّ دَلَالَةً لَا يَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ بِهَا إِلَّا بِمُعَيَّنٍ، سَوَاءٌ كان عدم التعيين بِوَضْعِ اللُّغَةِ، أَوْ بِعُرْفِ الشَّرْعِ، أَوْ بِالِاسْتِعْمَالِ.
تعريف المبين
تَعْرِيفُ الْمُبَيِّنِ: وَأَمَّا الْمُبَيِّنُ: فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمُظْهِرُ، مِنْ بَانَ إِذَا ظَهَرَ، يُقَالُ: بَيَّنَ فُلَانٌ كَذَا إِذَا أَظْهَرَهُ، وَأَوْضَحَ مَعْنَاهُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ مَا افْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ. وَالْبَيَانُ هو مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَيْنِ، وَهُوَ الْفِرَاقُ؛ لِأَنَّهُ يُوَضِّحُ الشيء ويزل أَشْكَالَهُ، كَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكَ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: سُمِّيَ بَيَانًا لِانْفِصَالِهِ عَمَّا يَلْتَبِسُ مِنَ الْمَعَانِي. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ بِخِطَابٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ. كَذَا قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ". وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُرَادِ، وَيُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْمُبَيِّنِ. وَلِأَجْلِ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَالصَّيْرَفِيُّ لَاحَظَ فِعْلَ الْمُبَيِّنِ، فَقَالَ: الْبَيَانُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي. وَقَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ": وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ مَنْ خَاضَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ أَظْهَرُ مِنْ لَفْظِ إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التَّجَلِّي. وَلَاحَظَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ الدَّلِيلَ، فَقَالُوا: هُوَ الْمُوصِلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِالْمَطْلُوبِ. وَلَاحَظَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ "نَفْسَ الْعِلْمِ"* فَحَدَّهُ بِحَدِّ الْعِلْمِ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْهُ: أَنَّهُ الْعِلْمُ الْحَادِثُ؛
لأن البيان هو ما به يتبين الشيء، والذي يتبين به الشيء هو الْعِلْمُ الْحَادِثُ، قَالَ: وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مُبَيِّنٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ لِذَاتِهِ لَا بِعِلْمٍ حَادِثٍ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ: الصَّوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةُ السَّرَخْسِيُّ الْحَنَفِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: هُوَ إِظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ لِلْمُخَاطَبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ظُهُورُ الْمُرَادِ لِلْمُخَاطَبِ، وَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الْخِطَابِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأن الرجل يقول: بان هذا المعنى، أي ظهر، والأول أصح، أي الإظهار. انتهى. وقال الأستاذ أبو "إسحاق"* الْإِسْفِرَايِينِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ الْإِفْهَامُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ: إِنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْلُومُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ": إِنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأُمُورٍ مُجْتَمِعَةِ الأصول، متشعبة الفروع.
الفصل الثاني: وقوع الإجمال في الكتاب والسنة
الْفَصْلُ الثَّانِي: وُقُوعُ الْإِجْمَالِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اعْلَمْ: أَنَّ الْإِجْمَالَ وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أبى هذا غير داود الطاهري. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مُجْمَلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ "الْمُخْتَارَ أَنَّ"* مَا يَثْبُتُ التَّكْلِيفُ بِهِ لَا إِجْمَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُجْمَلِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ؛ فَلَا يَبْعُدُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فيه بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْخِطَابِ الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، وَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 1 الحديث.
"وَتَعَهَّدَهُمْ"* بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قَبْلَ بَيَانِهَا، قَالَا: وَإِنَّمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَهُ لأحد أمرين: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ إِجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنَّفْسِ عَلَى قَبُولِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَدَأَ فِي تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ "وَبَيَّنَهَا"** لَجَازَ أَنْ تَنْفِرَ النُّفُوسُ مِنْهَا وَلَا تَنْفِرَ مِنْ إِجْمَالِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ جَلِيًّا، وَجَعَلَ مِنْهَا خَفِيًّا، لِيَتَفَاضَلَ النَّاسُ فِي "الْعِلْمِ"*** بِهَا، وَيُثَابُوا عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا، فَلِذَلِكَ جعل منها مفسرا جليا، وجعل منها مُجْمَلًا خَفِيًّا. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: وَحُكْمُ الْمُجْمَلِ: التَّوَقُّفُ فِيهِ إِلَى أَنْ يُفَسَّرَ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ فِي شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ الْإِجْمَالُ من جهة الاشتراك، واقترن به تبينه أُخِذَ بِهِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ يُعْمَلُ بِهِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهُمَا وَجَبَ الِاجْتِهَادُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، وَكَانَ مِنْ خَفِيِّ الْأَحْكَامِ الَّتِي وُكِّلَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا إِلَى الِاسْتِنْبَاطِ، فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْمُجْمَلِ، لِخَفَائِهِ وَخَارِجًا منه، لإمكان "استنباطه"****.
الفصل الثالث: وجوه الإجمال
الفصل الثالث: وُجُوهِ الْإِجْمَالِ الْإِجْمَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْإِفْرَادِ أَوِ التَّرْكِيبِ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَصْرِيفِهِ، نَحْوُ: قَالَ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْقَيْلُولَةِ، وَنَحْوُ مُخْتَارٌ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلْفَاعِلِ، وَالْمَفْعُولِ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ1: وَيَفْتَرِقَانِ، تَقُولُ فِي الْفَاعِلِ: مُخْتَارٌ لِكَذَا، وفي المفعول: مختار من
كذا، ومنه قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} 1 {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد} 2. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَصْلِ وَضْعِهِ، فَإِمَّا أَنْ تكون معانيه متضادة كالقرء للطهو والحيض، والناهل لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ، أَوْ مُتَشَابِهَةً غَيْرَ مُتَضَادَّةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، بِحَسْبِ خُصُوصِيَّاتِهَا، فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَإِمَّا بِحَسْبِ مَعْنًى تَشْتَرِكُ فِيهِ فَهُوَ المتواطئ. الإجمال كَمَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ كَـ عَسْعَسَ بِمَعْنَى أَقْبَلَ، وَأَدْبَرَ، وَيَكُونُ فِي الْحُرُوفِ كَتَرَدُّدِ الْوَاوِ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ. وَكَمَا يَكُونُ فِي الْمُفْرَدَاتِ يَكُونُ فِي الْمُرَكَّبَاتِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} 3 لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الزَّوْجِ، وَالْوَلِيِّ، وَيَكُونُ أَيْضًا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إِذَا تَقَدَّمَهُ أَمْرَانِ، أَوْ أُمُورٌ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَيَكُونُ فِي الصِّفَةِ نَحْوُ: طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ لِلْمَهَارَةِ مُطْلَقًا، أَوْ لِلْمَهَارَةِ فِي الطِّبِّ. وَيَكُونُ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَازَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ مَعَ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَصِيرُ مُجْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَجَازَاتِ؛ إِذْ لَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى بَعْضِهَا أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، كَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ؛ وَالصَّفِّيٌ الْهِنْدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ احْتِمَالًا واحدا. وقد يكون فيما ورد من الْأَوَامِرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص} 4، وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِن} 5. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا تُفِيدُ الْإِيجَابَ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَتَوَقَّفُ فِيهَا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ يُبَيِّنُ المراد بها.
الفصل الرابع: فيما لا إجمال فيه
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَا لَا إِجْمَالَ فِيهِ وَهُوَ أُمُورٌ قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ عَلَى الْبَعْضِ، فَيَجْعَلُهَا دَاخِلَةً فِي قِسْمِ الْمُجْمَلِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ. الْأَوَّلُ: فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي عُلِّقَ التَّحْرِيمُ فِيهَا عَلَى الْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 1، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} 2.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ، وَالْبَصْرِيُّ: إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا طَعَامٌ حَرَامٌ، هُوَ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ، وَمِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ حَرَامٌ هُوَ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا. وَتَبَادُرُ الْفَهْمِ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} هو تَحْرِيمُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ. وَاحْتَجَّ الْكَرْخِيُّ، وَالْبَصْرِيُّ: بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لَنَا لَوْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً؟ فَإِذًا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ تَحْرِيمُ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ الْكُلُّ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، أَوْ يُتَوَقَّفَ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَيْضًا "فَإِنَّهَا"* لَوْ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ. لَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الْفِعْلُ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِضَافَةُ التَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ إِضْمَارُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي إِضَافَةَ التَّحْرِيمِ إِلَى الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَتَحْرِيمُ الْأَكْلِ، فَهَذَا الْبَعْضُ مُتَّضِحٌ مُتَعَيِّنٌ بِالْعُرْفِ. الثَّانِي: لَا إِجْمَالَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} 1 وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتِ الْبَعْضَ، وَحَكَاهُ فِي "الْمُعْتَمَدِ" عَنْ أَبِي عبد الله البصري. ثم اختلف القائلون بأنه لَا إِجْمَالَ، فَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي مَسْحَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِهِ، وَالْبَاءُ إِنَّمَا دَخَلَتْ لِلْإِلْصَاقِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ": إِنَّهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ. قَالَ: لِأَنَّ الْمَسْحَ فِعْلٌ متعدٍ بِنَفْسِهِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى حِرَفِ التَّعْدِيَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَسَحْتُهُ
كُلَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفِيدَ دُخُولُ الْبَاءِ فَائِدَةً جَدِيدَةً، فَلَوْ لَمْ يَفِدِ الْبَعْضُ لَبَقِيَ اللَّفْظُ عَارِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مَسْحِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ، فَيَصْدُقُ بِمَسْحِ الْبَعْضِ، وَنَسَبَهُ فِي "الْمَحْصُولِ" إِلَى الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهُوَ الْحَقُّ. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ، وَعَبْدِ الْجَبَّارِ: ثُبُوتَ الْبَعْضِ بِالْعُرْفِ. والذي في "المعتمد" لأبي الحسين عن عبد الْجَبَّارِ: أَنَّهَا تُفِيدُ فِي اللُّغَةِ تَعْمِيمَ مَسْحِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا سُمِّيَ رَأْسًا، وَهُوَ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الرَّأْسِ، لَا لِلْبَعْضِ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي إِلْصَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، إِمَّا بِجَمِيعِهِ، وَإِمَّا بِبَعْضِهِ "فَيُحْمَلُ"* الِاسْمُ عَلَيْهِ. وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ "أَحْكَامِ الْقُرْآنِ"1: أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَلَمْ تَحْتَمِلِ الْآيَةُ إِلَّا هَذَا. قَالَ: فَدَلَّتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ مَسْحُ رَأْسِهِ كُلِّهِ، وَإِذَا دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ مَسَحَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ. انْتَهَى. فَلَمْ يَثْبُتِ التَّبْعِيضُ بِالْعُرْفِ كَمَا زَعَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى الذَّوَاتِ تُصَدَّقُ بِالْبَعْضِ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، فَمَنْ قَالَ: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، صدق بذلك بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، فَهَكَذَا مَسَحْتُ رَأْسَ زَيْدٍ، وَمَسَحْتُ بِرَأْسِهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مَسْحُ كل الرأس2، ومسح بعضه3 فكان
ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ الْبَعْضِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ أَمْ لَا. الثَّالِثُ: لَا إِجْمَالَ فِي مِثْلِ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1 عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ؛ إِذِ الْيَدُ الْعُضْوُ مِنَ الْمَنْكِبِ، وَالْمِرْفَقِ، وَالْكُوعِ، لِاسْتِعْمَالِهَا فِيهَا، وَالْقَطْعُ لِلْإِبَانَةِ، وَالشَّقُّ، لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّ الْيَدَ تُسْتَعْمَلُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً، فَالْمُطْلَقَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى الْكُوعِ بِدَلِيلِ آيَةِ التَّيَمُّمِ2، وَآيَةُ السَّرِقَةِ3، وَآيَةُ الْمُحَارَبَةِ4. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةٌ فِي الْعُضْوِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَلِمَا دُونَهُ مَجَازٌ، فَلَا إِجْمَالَ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ5، فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي الْآيَةِ. وَيُجَابُ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْقَطْعِ: بِأَنَّ الْإِجْمَالَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْقَطْعِ، لَا فِي الشَّقِّ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ قَطْعٍ بِدُونِ إِبَانَةٍ. الرَّابِعُ: لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ: "لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ" 6، "لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" 7، "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ" 8، "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" 9، "لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا في المسجد"10.
وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ فِي إِطْلَاقِهِ لِلصَّحِيحِ كَانَ معناه لا صلاة صحيحة، ولا صيام صحيح، ولا نكاح صحيح، فَلَا إِجْمَالَ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ عُرْفٌ لُغَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ مَثَلَهُ يُقْصَدُ مِنْهُ نَفْيُ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى، نَحْوُ: لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا كَلَامَ إِلَّا مَا أَفَادَ، فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فَلَا إِجْمَالَ. وَإِنْ قُدِّرَ انْتِفَاؤُهُمَا فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ دُونَ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ كَالْعَدَمِ فِي عَدَمِ الْجَدْوَى، بِخِلَافِ مَا لَا يَكْمُلُ فَكَانَ أَقْرَبَ الْمَجَازَيْنِ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُتَعَذِّرَةِ، فَلَا إِجْمَالَ، وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُتَعَذِّرَةٌ "لِوُجُودِ"* الذَّاتِ فِي الْخَارِجِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الذَّاتُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالَّتِي وُجِدَتْ لَيْسَتْ بِذَاتٍ شَرْعِيَّةٍ، فَيَبْقَى حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهِيَ نَفْيُ الذَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَيْهَا كَانَ تَوَجُّهُهُ إِلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَجَازَيْنِ؛ إِذْ تَوْجِيهُهُ إِلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ، فَكَانَ تَوْجِيهُهُ إِلَى الصِّحَّةِ أَقْرَبَ الْمَجَازَيْنِ إِلَيْهَا فَلَا إِجْمَالَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ إِثْبَاتِ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِدَلِيلٍ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الرَّأْيِ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي تَقْرِيرِ الْإِجْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ قَطْعًا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِجْمَالَ. الثَّانِي: أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْوُجُودِ، وَنَفْيِ الْحُكْمِ، فَصَارَ مُجْمَلًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ نَفْيِ الْجَوَازِ، وَنَفْيِ الْوُجُوبِ، فَصَارَ مُجْمَلًا، قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي تَقْرِيرِ الْإِجْمَالِ: "إِنَّهُ"** إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ إِضْمَارٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي أَيْضًا إِلَى التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ وَنَفْيِ الكمال معا كان نفي الصحة يقتضي
نَفْيَهَا، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ، وَكَانَ نَفْيُ الْكَمَالِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الصِّحَّةِ، فَكَانَ مُجْمَلًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَدْفُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ. الْخَامِسُ: لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" 1 مِمَّا يَنْفِي فِيهِ صِفَةً، وَالْمُرَادُ نَفْيُ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي مِثْلِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ نَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَرَفْعُ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ، رَفَعْتُ عَنْكَ الْخَطَأَ، كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ، أَنِّي لَا أُؤَاخِذُكَ بِهِ، وَلَا أُعَاقِبُكَ عَلَيْهِ، فَلَا إِجْمَالَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَضِيَّةُ اللَّفْظِ رَفْعُ نَفْسِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ حُكْمِهِ، لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلِ الْحُكْمُ الَّذِي عُلِمَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهُوَ رَفْعُ الْإِثْمِ فَلَيْسَ بِعَامٍّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، مِنَ الضَّمَانِ وَلُزُومِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ رَفْعُ نَفْسِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَقَدْ وَقَعَا. وَقَدْ حَكَى شَارِحُ "الْمَحْصُولِ" فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ. وَالثَّانِي: الْحَمْلُ عَلَى رَفْعِ الْعِقَابِ آجِلًا، وَالْإِثْمِ عَاجِلًا، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ. وَالثَّالِثُ: رَفْعُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ". وَمِمَّنْ حَكَى هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذَاهِبِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي "الْمُلَخَّصِ"، وَنَسَبَ الثَّالِثَ إِلَى أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَاخْتَارَ هُوَ الثَّانِي. وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِلْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. السَّادِسُ: إِذَا دَارَ لَفْظُ الشَّارِعِ بَيْنَ مَدْلُولَيْنِ: إِنْ حُمِلَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْآخَرِ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ وَلَا ظُهُورَ لَهُ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ دَارَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي إِفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ هَمَّا أَحَدُ مَدْلُولَيْهِ. وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَبِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ الْآمِدِيُّ، لِتَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ. قَالَ الْآمِدِيُّ، وَالْهِنْدِيُّ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَيَيْنِ، فإنه
يَكُونُ مُجْمَلًا أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا، فَالْحَقِيقَةُ مُرَجَّحَةٌ "قَطْعًا"* وَظَاهِرُهُ جَعْلُ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَا مَجَازَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا لَمْ يَكُونَا حَقِيقَتَيْنِ، وَلَا أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا؛ فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَكُونَا مَجَازَيْنِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِمُتَسَاوِيَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا حَقِيقَتَيْنِ أَوْ مَجَازَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً مَرْجُوحَةً، وَالْآخَرُ مَجَازًا رَاجِحًا عِنْدَ الْقَائِلِ بِتَسَاوِيهِمَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ. انْتَهَى. وَالْحَقُّ: أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ يَكُونُ مُجْمَلًا، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ مُرَجَّحًا، وَلَا رَافِعًا لِلْإِجْمَالِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ لَهَا إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، فَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى كَثْرَةِ الْفَائِدَةِ بِأَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لِهَذِهِ الكثرة الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا. السَّابِعُ: لَا إِجْمَالَ فِيمَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى لُغَوِيٌّ، وَمُسَمًّى شَرْعِيٌ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَلْ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ، لَا لِبَيَانِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ، وَالشَّرْعُ طَارِئٌ عَلَى اللُّغَةِ، وَنَاسِخٌ لَهَا، فَالْحَمْلُ عَلَى النَّاسِخِ الْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِثْبَاتِ، فَيُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَلَى طَرِيقَةِ النَّفْيِ فَمُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ. فَالْأَوَّلُ: كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي صَائِمٌ" 1 فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ نِيَّةِ النَّهَارِ. وَالثَّانِي: كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ2، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ صَوْمِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا.
التَّفْصِيلَ الْغَزَالِيُّ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وثَمَّ مَذْهَبٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِي الْإِثْبَاتِ الشَّرْعِيِّ، وَالنَّهْيِ اللُّغَوِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا. وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ لِمَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا إِذَا كَانَ لِلَفْظٍ مَحْمَلٌ شَرْعِيٌّ، وَمَحْمَلٌ لُغَوِيٌّ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمَحْمَلِ الشَّرْعِيِّ لِمَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا إِذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى شَرْعِيٌّ وَمُسَمًّى لُغَوِيٌّ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ لِمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَهَكَذَا إِذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بين المسمى العرفي والمسمى اللغوي، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْعُرْفِيُّ عَلَى اللُّغَوِيِّ؛ "لِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ عند المخاطبين"*.
الفصل الخامس: في مراتب البيان للأحكام
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي مَرَاتِبِ الْبَيَانِ لِلْأَحْكَامِ وَهِيَ خَمْسَةٌ بَعْضُهَا أَوْضَحُ مِنْ بَعْضٍ الْأَوَّلُ: بَيَانُ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ النَّصُّ الْجَلِيُّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَأْوِيلٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1. وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بَيَانَ التَّقْرِيرِ: وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ، فَيَكُونُ الْبَيَانُ قَاطِعًا لِلِاحْتِمَالِ، مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ. الثَّانِي: النَّصُّ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِإِدْرَاكِهِ الْعُلَمَاءُ، كَالْوَاوِ وَإِلَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ2. فَإِنَّ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ مُقْتَضِيَانِ لمعانٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ. الثَّالِثُ: نُصُوصُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةُ بَيَانًا لِمُشْكِلٍ فِي الْقُرْآنِ، كَالنَّصِّ عَلَى مَا يُخْرَجُ عِنْدَ الْحَصَادِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3 وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِقْدَارُ هَذَا الْحَقِّ.
الرَّابِعُ: نُصُوصُ السُّنَّةِ الْمُبْتَدَأَةُ، مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ عَلَيْهَا "لَا"* بِالْإِجْمَالِ، وَلَا بِالتَّبْيِينِ، وَدَلِيلُ كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ بَيَانِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. الْخَامِسُ: بَيَانُ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي اسْتُنْبِطَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي، وَقِيسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ مَعْنًى، وَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ، لَا يُقَالُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ، بَلْ تَنَاوَلْهُ؛ لِأَنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ، كَإِلْحَاقِ الْمَطْعُومَاتِ فِي باب الربويات بِالْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا2؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ: بَيَانُ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَهْلَ التَّكْلِيفِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْخَمْسَ لِلْبَيَانِ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ "الرِّسَالَةِ". وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ قَوْمٌ، وَقَالُوا: قَدْ أَهْمَلَ قسمين، وهما الإجمال، وَقَوْلُ الْمُجْتَهِدِ إِذَا انْقَرَضَ عَصْرُهُ، وَانْتَشَرَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إِنَّمَا أَهْمَلَهُمَا الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ، فَإِنْ كَانَ نَصًّا فَهُوَ مِنَ الْأَقْسَامِ الْأُوَلِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِنْبَاطًا فَهُوَ الْخَامِسُ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَالثَّانِي: بِالْفِعْلِ. وَالثَّالِثُ: بِالْكِتَابِ، كَبَيَانِ أَسْنَانِ الدِّيَاتِ، وَدِيَاتِ الْأَعْضَاءِ، وَمَقَادِيرِ الزكاة، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهَا بِكُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ. وَالرَّابِعُ: بِالْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا" 3 يَعْنِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثم أعاد
الْإِشَارَةَ بِأَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَبَسَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تسعة وعشرين. الخامس: بِالتَّنْبِيهِ، وَهُوَ الْمَعَانِي وَالْعِلَلُ الَّتِي نُبِّهَ بِهَا عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، كَقَوْلِهِ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ" 1، وَقَوْلِهِ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ: "أَرَأَيْتَ لَوْ "تَمَضْمَضْتَ * " 2. السَّادِسُ: مَا خَصَّ الْعُلَمَاءُ بَيَانَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَهُوَ مَا فيه الوجوه الخمسة، إذا كان الاجتهاد موصلا إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا مِنْ أَصْلٍ يُعْتَبَرُ هَذَا الْفَرْعُ بِهِ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَزَادَ شَارِحُ "اللُّمَعِ" وَجْهًا سَابِعًا، وَهُوَ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ، كَمَا رُوِيَ "أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ"3. قال الأستاذ أبو منصور: قد رَتَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَعْلَاهَا رُتْبَةً مَا وَقَعَ مِنَ الدَّلَالَةِ بِالْخِطَابِ، ثُمَّ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ بِالْإِشَارَةِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ. قَالَ: وَيَقَعُ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا كُلِّهَا خَلَا الْإِشَارَةَ. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ بِالْقَوْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بَيَانًا، خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَّا، وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "التَّبْصِرَةِ". انْتَهَى. وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْخِلَافِ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِأَفْعَالِهِ، وَقَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 4. "حُجُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أَحُجُّ" 5. "وخذوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" 6 وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُتَمَسَّكٌ، لَا مِنْ شَرْعٍ وَلَا مِنْ عَقْلٍ، بَلْ مُجَرَّدُ مُجَادَلَاتٍ لَيْسَتْ مِنَ الْأَدِلَّةِ في شيء.
وَإِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِبَيَانِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا وَعُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْبَيَانُ، قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا، وَالتَّالِي تَأْكِيدٌ لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الْأَضْعَفَ لَا يُؤَكِّدُ الْأَقْوَى، وَإِنْ جُهِلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا فَلَا يُقْضَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بأنه المبين بعينه بل يقضي البيان بِحُصُولِ الْبَيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: يَكُونَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا بَيَانًا، قِيلَ: هَذَا إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ وُرُودًا، وَإِلَّا لَزِمَ التَّأْكِيدُ بِالْأَضْعَفِ، هَذَا إِذَا اتَّفَقَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ. أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُبَيِّنَ هُوَ الْقَوْلُ، وَرَجَّحَ هَذَا فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، وَيُحْمَلُ الْفِعْلُ عَلَى النَّدْبِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقَوْلِ عَلَى الْبَيَانِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا بِوَاسِطَةِ انْضِمَامِ الْقَوْلِ إِلَيْهِ، وَالدَّالُّ بِنَفْسِهِ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا هُوَ الْبَيَانُ، كما في صورة إتفاقهما.
الفصل السادس: في تأخير البيان عن وقت الحاجة
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَّةِ اعْلَمْ: أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ، مِنْ مُجْمَلٍ، وَعَامٍّ، وَمَجَازٍ، وَمُشْتَرَكٍ، وَفِعْلٍ مُتَرَدِّدٍ، وَمُطْلَقٍ، إِذَا تَأَخَّرَ بَيَانُهُ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي إِذَا تَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْهُ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ، وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ الْفَوْرِيَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَهُوَ يَقُولُ بِجَوَازِهِ فَقَطْ، لَا بِوُقُوعِهِ، فَكَانَ عَدَمُ الْوُقُوعِ مُتِّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلِهَذَا نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِجْمَاعَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ إِلَى وَقْتِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يُؤَخِّرُ النَّظَرَ، وَقَدْ يُخْطِئُ إِذَا نَظَرَ، "فهذا الضَّرْبَانِ"* لَا خِلَافَ فِيهِمَا. انْتَهَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ وُرُودِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَوْرِيَّةٍ، حَيْثُ يَكُونُ الْخِطَابُ لَا ظَاهِرَ له، كالأسماء المتواطئة، والمشتركة،
أو له ظاهر، وقد استعمل في خلافة، كتأخر التَّخْصِيصِ، وَالنَّسْخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي ذَلِكَ مَذَاهِبُ: الْأَوَّلُ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَعَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَائِنَا، مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فُورَكَ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةِ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَالْقَفَّالِ، وَابْنِ الْقَطَّانِ، وَالطَّبَرِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ مَالِكٍ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1، وثم للتعقيب مع التراخي، وقوله تعالى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: {وَأَهْلَكَ} 2 وَعُمُومُهُ تَنَاوَلَ ابْنَهُ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 3، ثُمَّ لَمَّا سَأَلَ ابْنُ الزِّبَعْرَى4 عَنْ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 5، الآية، وبقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} 6 لَمْ يُبَيِّنْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ7، وبقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 8. ثُمَّ وَقَعَ بَيَانُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِصَلَاةِ جِبْرِيلَ، وبصلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ9، وبقوله تعالى:
{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} 1، وبقوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 2، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 3، ثُمَّ وَقَعَ الْبَيَانُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ بَعْدَ ذَلِكَ بالسنة، ونحو هذا كثيًرا جِدًّا. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَثِيرٍ من الحنيفية، وَابْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْبَاجِيُّ عَنِ الْأَبْهَرِيِّ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُتَّصِلًا بِالْبَيَانِ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ؛ احْتِرَازًا مِنِ انْقِطَاعِهِ بِعُطَاسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ عَطْفِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، فَقَالُوا: لَوْ جَازَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ إِلَى الْأَبَدِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. أَمَّا إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلِكَوْنِهِ تَحَكُّمًا، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَأَمَّا إِلَى الْأَبَدِ، فَلِكَوْنِهِ يَلْزَمُ الْمَحْذُورَ، وَهُوَ الْخِطَابُ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ مَعَ عَدَمِ الْفَهْمِ. وَأُجِيبَ عَنْهُمْ: باختيار جوازه إلى مد مُعَيَّنَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ يُكَلِّفُ بِهِ فِيهِ، فَلَا تَحَكُّمَ. هَذَا أَنْهَضُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الضَّعْفِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى تَطْوِيلِ الْبَحْثِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ دُونَ غَيْرِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنِ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا فِي جواز تأخير بيان المجمل، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 4، وَكَذَا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْخِطَابِ الْعَامِّ يَقَعُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفِعْلُ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ بالقول أسرع منه بالفعل.
وَأَمَّا الْعُمُومُ الَّذِي يَعْقِلُ مُرَادَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} 1، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَكَذَا حَكَى اتِّفَاقَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ابْنُ فُورَكَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، وَلَمْ يَأْتُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ إِلَّا مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ مَفْهُومٌ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ غَيْرُ مَفْهُومٍ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَجْهًا لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْأَخْبَارِ، كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا. الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: عَكْسُهُ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى أَحَدٍ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي حِكَايَةِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ مَذْهَبًا، قَالَ: لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ الْخِطَابُ التَّكْلِيفِيُّ، فَلَا تُذْكَرُ فِيهَا الْأَخْبَارُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ. الْمَذْهَبُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ النَّسْخِ دُونَ غَيْرِهِ، ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ"، وَأَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيمَا عَدَا النَّسْخَ، وَقَدْ عَرَفْتَ قِيَامَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَكَثِّرَةِ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ بِلَا مُخَصِّصٍ بَاطِلٌ. الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ كَالْمُشْتَرَكِ، دُونَ مَا لَهُ ظَاهِرٌ كَالْعَامِّ، وَالْمُطْلَقِ، وَالْمَنْسُوخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ فِي الثَّانِي، نَقَلَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ. عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالدَّقَّاقِ، وَالْقَفَّالِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَقَدْ سَبَقَ النَّقْلُ عَنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى خِلَافِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ. الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ: أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَبْدِيلًا وَلَا تَغْيِيرًا، جَازَ مُقَارَنًا وَطَارِئًا، وَإِنْ كَانَ تَغْيِيرًا جَازَ مُقَارَنًا، وَلَا يَجُوزُ طَارِئًا "بِحَالٍ"* نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَا وَجْهَ له أيضًا.
فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ الْمَرْوِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْتَ إِذَا تَتَبَّعْتَ مَوَارِدَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَجَدْتَهَا قَاضِيَةً بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ قَضَاءً ظَاهِرًا وَاضِحًا، لَا يُنْكِرُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ بِهَا، وَمُمَارَسَةٍ لَهَا، وَلَيْسَ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا قَالَهُ الْمُجَوِّزُونَ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي جَوَازِ "تَأْخِيرِ"* الْبَيَانِ عَلَى التَّدْرِيجِ، بِأَنْ يُبَيَّنَ بَيَانًا أَوَّلًا، ثُمَّ يُبَيَّنُ بَيَانًا ثَانِيًا، كَالتَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ. وَالْحَقُّ: الْجَوَازُ، لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ لَا مِنْ شَرْعٍ، وَلَا عقل، فالكل بيان.
الباب السابع: في الظاهر والمؤول
الباب السابع: في الظاهر والمؤول الفصل الأول: في حدهما ... الْبَابُ السَّابِعُ: فِي الظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حَدِّهِمَا فَالظَّاهِرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَاضِحُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَفْظُهُ يُغْنِي عَنْ تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَعَ قَبُولِهِ لِإِفَادَةِ غَيْرِهِ إِفَادَةً مَرْجُوحَةً، فَانْدَرَجَ تَحْتَهُ مَا دَلَّ عَلَى الْمَجَازِ الرَّاجِحِ. وَيُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنًى، سَوَاءٌ أَفَادَ معه إفادة مرجوحة أو لو يُفِدْ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ النَّصُّ، فَإِنَّ إِفَادَتَهُ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهِ. وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا. وَقِيلَ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا دَلَّ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً، إِمَّا بِالْوَضْعِ، كَالْأَسَدِ للسبع المفترس، وبالعرف، كَالْغَائِطِ لِلْخَارِجِ الْمُسْتَقْذِرِ؛ إِذْ غَلَبَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الأرض. والتأويل مشتق من آل يؤول، إِذَا رَجَعَ، تَقُولُ: آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا، أَيْ: رَجَعَ إِلَيْهِ، وَمَآلُ الْأَمْرِ مَرْجِعُهُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ1: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِيَالَةِ، وَهِيَ السِّيَاسَةُ، يُقَالُ لِفُلَانٍ: عَلَيْنَا إِيَالَةٌ، وَفُلَانٌ آيِلٌ عَلَيْنَا، أَيْ: سَائِسٌ، فَكَانَ الْمُؤَوِّلُ بِالتَّأْوِيلِ كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي "فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ" التَّأْوِيلُ: آخِرُ الْأَمْرِ وَعَاقِبَتُهُ، يُقَالُ: مَآلُ هَذَا الْأَمْرِ مَصِيرُهُ، وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ. وَاصْطِلَاحًا: صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، فَإِنْ أَرَدْتَ تَعْرِيفَ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ زِدْتَ فِي الْحَدِّ: بِدَلِيلٍ يُصَيِّرُهُ رَاجِحًا؛ لِأَنَّهُ بِلَا دَلِيلٍ، أَوْ مَعَ دَلِيلٍ مَرْجُوحٍ، أَوْ مساوٍ فَاسِدٍ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهَذَا الْبَابُ أَنْفَعُ كُتُبِ الْأُصُولِ وَأَجَلُّهَا، وَلَمْ يَزِلَّ الزَّالُّ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَأَنْكَرَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ إِدْخَالَهُ لِهَذَا الْبَابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ "أُصُولِ"* الْفِقْهِ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ يُورَدُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ الظَّاهِرَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، ولعمل بِهِ، بِدَلِيلِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الظَّاهِرِ فَاعْلَمْ: أَنَّ النَّصَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَهُوَ قِسْمٌ مِنَ النَّصِّ مُرَادِفٌ لِلظَّاهِرِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: لَا يَقْبَلُهُ، وَهُوَ النَّصُّ الصَّرِيحُ، وَسَيَأْتِي1 الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هذا الباب.
الفصل الثاني: فيما يدخله التأويل
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَغْلَبُ الْفُرُوعِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي: الْأُصُولُ: كَالْعَقَائِدِ، وَأُصُولِ الدِّيَانَاتِ، وَصِفَاتِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، بَلْ يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة1.
وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ، مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، لِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 1 قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْمَنْهَجُ الْمَصْحُوبُ بِالسَّلَامَةِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مُهَاوِي التَّأْوِيلِ، لِمَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَكَفَى بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ قُدْوَةً لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ، وَأُسْوَةً لِمَنْ أَحَبَّ التَّأَسِّيَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ الْقَاضِي بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَهُوَ قَائِمٌ مَوْجُودٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ بَاطِلٌ، وَالْآخَرَانِ مَنْقُولَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مسعود، وأم سلمة. قال أبو عمرو ابن الصَّلَاحِ: النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُوهِمَةِ لِلْجِهَةِ وَنَحْوِهَا فِرَقٌ ثَلَاثٌ: فَفِرْقَةٌ تُؤَوِّلُ، وَفِرْقَةٌ تُشَبِّهُ، وَثَالِثَةٌ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقِ الشَّارِعُ مِثْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إِلَّا وَإِطْلَاقُهُ سَائِغٌ وَحَسَنٌ قَبُولُهَا مُطْلَقَةً، كَمَا قَالَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ، وَالتَّبَرِّي مِنَ التَّحْدِيدِ وَالتَّشْبِيهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسَادَتُهَا، "وَإِيَّاهَا"* اخْتَارَهَا أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا، وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا، وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ "بِتَهْجِيرِ"** مَا سِوَاهَا، حَتَّى أَلْجَمَ آخِرًا فِي إِلْجَامِهِ كل عالم وَعَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا. قَالَ: "وَهُوَ"*** كِتَابُ "إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ" وَهُوَ آخِرُ تَصَانِيفِ الْغَزَالِيِّ مُطْلَقًا، حَثَّ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي "النُّبَلَاءِ"2 فِي تَرْجَمَةِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيُّ مَا لَفْظُهُ: وَقَدِ اعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5؛
وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. انْتَهَى. وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي "النُّبَلَاءِ" فِي تَرْجَمَةِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: ذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيلِ، وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَالَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقْدًا اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ. هَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ "النُّبَلَاءِ" فِي تَرْجَمَتِهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي "النُّبَلَاءُ" إِنَّهُ قَالَ مَا لَفْظُهُ: اشْهَدُوا عليَّ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ تُخَالِفُ السَّلَفَ. انْتَهَى. وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أعني: الجويني، والغزالي، الرازي. هُمُ الَّذِينَ وَسَّعُوا دَائِرَةَ التَّأْوِيلِ، وَطَوَّلُوا ذُيُولَهُ، وَقَدْ رَجَعُوا آخِرًا إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ كَمَا عَرَفْتَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: "وَنَقُولُ"* فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ إِنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَوَّلَ شَيْئًا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَتَفْهَمُهُ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ نُبَدِّعْهُ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ، وَاسْتَبْعَدْنَاهُ، وَرَجَعْنَا إِلَى الْقَاعِدَةِ فِي الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ، مَعَ التَّنْزِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمُهُ إِلَى مِثْلِ هَذَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ1 كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ"، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ النُّقُولِ عَنِ الْأَئِمَّةِ الفحول.
الفصل الثالث: في شروط التأويل
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي شُرُوطِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ، أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، "أَوْ"* عَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَكُلُّ تَأْوِيلٍ خَرَجَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. الثَّانِي: أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِيهِ. الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَلِيًّا، لَا خفيا.
وَقِيلَ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ أَصْلًا. وَالتَّأْوِيلُ فِي نَفْسِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا، فَيَتَرَجَّحُ بِأَدْنَى مُرَجَّحٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا، فَلَا يَتَرَجَّحُ إِلَّا بِمُرَجَّحٍ قَوِيٍّ، وَلَا يَتَرَجَّحُ بِمَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا، لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا لَا مَقْبُولًا. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا تَبَيَّنَ لَكَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ مِنَ التَّأْوِيلِ مِمَّا هُوَ مَرْدُودٌ، وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَكْثِيرِ الْأَمْثِلَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ.
الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم
الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم المسألة الأولى: في حدهما مدخل ... الباب الثامن: فِي الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِمَا فَالْمَنْطُوقُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، أَيْ: يَكُونُ حُكْمًا لِلْمَذْكُورِ، وَحَالًا مِنْ أَحْوَالِهِ. وَالْمَفْهُومُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، أَيْ: يَكُونُ حُكْمًا لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَحَالًا مِنْ أَحْوَالِهِ. والحاصل: أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفاد مِنْهَا، فَتَارَةً تُسْتَفَادُ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ تَصْرِيحًا، وَتَارَةً مِنْ جِهَتِهِ تَلْوِيحًا، فَالْأَوَّلُ: الْمَنْطُوقُ، والثاني: المفهوم.
أقسام المنطوق
أقسام المنطوق وَالْمَنْطُوقُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهُوَ النَّصُّ. وَالثَّانِي: مَا يَحْتَمِلُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَالْأَوَّلُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَرِيحٌ إِنْ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالْمُطَابَقَةِ1، أَوِ التَّضَمُّنِ2. وَغَيْرُ صَرِيحٍ إِنْ دَلَّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ3. وَغَيْرُ الصَّرِيحِ يَنْقَسِمُ إِلَى دَلَالَةِ: اقْتِضَاءٍ، وَإِيمَاءٍ وَإِشَارَةٍ. فَدَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ: هِيَ إِذَا تَوَقَّفَ الصِّدْقُ أَوِ الصِّحَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ، مَعَ كون ذلك مقصودا للمتكلم.
ودلالة الإيماء: أن يقترب اللَّفْظُ بِحُكْمٍ، لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيلِ لَكَانَ بَعِيدًا؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي الْقِيَاسِ. وَدَلَالَةُ الْإِشَارَةِ حَيْثُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ.
أقسام المفهوم
أَقْسَامُ الْمَفْهُومِ: وَالْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ، وَمَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ. فَمَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ: حَيْثُ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُوَافِقًا لِلْمَلْفُوظِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَيُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ، وإن كان مساويا فَيُسَمَّى لَحْنَ الْخِطَابِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي الفرق بين فحوى الخطاب، ولحن الْخِطَابِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ الْفَحْوَى مَا نَبَّهَ عليه اللفظ، واللحن مَا لَاحَ فِي "أَثْنَاءِ"* اللَّفْظِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ الْفَحْوَى مَا دَلَّ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى منه، واللحن مَا دَلَّ عَلَى مِثْلِهِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ مَا دَلَّ الْمُظْهَرُ عَلَى الْمُسْقَطِ، واللحن مَا يَكُونُ مُحَالًا عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَقَدْ شَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِي، وَأَتْبَاعُهُمَا، فَقَدْ جَعَلُوهُ قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى، وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، وَهُوَ الصَّوَابُ، فَجَعَلُوا شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَقَلَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَنْطُوقِ بِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأَمْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ فِي "النِّهَايَةِ" عَنِ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ جُلَّةٌ سَيِّدُهُمُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "شَرْحِ اللُّمَعِ": إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، فذكره في أنواع القياس.
قَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ: الشَّافِعِيُّ يُومِئُ إِلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، لَا يَجُوزُ وُرُودَ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، قَالَ: وَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَسْرِهِمُ -الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ النُّطْقِ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ جارٍ مَجْرَى النُّطْقِ، لَا مَجْرَى "الْقِيَاسِ، وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ دَلَالَةَ النَّصِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِقِيَاسٍ وَلَا يُسَمَّى"* دَلَالَةَ النَّصِّ، لَكِنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّأْفِيفِ1 مَنْقُولٌ بِالْعُرْفِ عَنْ مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ فَهْمُ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، كَالْغَزَالِيِّ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيِّ، وَالْآمِدِيِّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَالدَّلَالَةُ عِنْدَهُمْ مَجَازِيَّةٌ، مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةِ الْأَعَمِّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ لَا مِنَ الْقِيَاسِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَنْبَغِي لِلظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُخَالِفُوا فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّمْعِ، وَالَّذِي رَدَّ ذَلِكَ يَرُدُّ نَوْعًا مِنَ الْخِطَابِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ. قال ابن تيمية: وهو مكابرة.
المسألة الثانية: مفهوم المخالفة
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ حَيْثُ يَكُونُ المسكت عَنْهُ مُخَالِفًا لِلْمَذْكُورِ فِي الْحُكْمِ، إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، فَيَثْبُتُ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ نَقِيضُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ مِنْ جِنْسِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَالٌّ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَلِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِضِدِّ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، أَوْ نَقِيضُهُ؟ الْحَقُّ: الثَّانِي.
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْمَفْهُومَاتِ وَجَدَهَا كَذَلِكَ. وَجَمِيعُ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلَّا مَفْهُومَ اللَّقَبِ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمِيعَ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "شَرْحِ اللُّمَعِ" عَنِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ، فَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّ النَّقَلَةَ نَقَلُوا عَنْهُ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ نَفْيَ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ "السِّيَرِ"1: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ، قَالَ: وَأَمَّا فِي مُصْطَلَحِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَعَكَسَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ، كَذَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ. وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِلْمَفْهُومِ فِي مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، أَوِ الشَّرْعِ؟ وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، حَكَاهُمَا "الْمَازِرِيُّ"* وَالرُّويَانِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ بِحَسْبِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَسْبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ. وَذَكَرَ فِي "الْمَحْصُولِ" فِي بَابِ الْعُمُومِ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَحْقِيقِ مُقْتَضَاهُ، أَنَّهُ هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ بِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ تَخْتَصُّ دَلَالَتُهُ بِمَا إِذَا كَانَ مَنْ جِنْسَهُ، فَإِذَا قَالَ: "فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ" 2 فَهَلْ نَفَى الزَّكَاةَ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ، أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَعْلُوفَةِ مِنَ الْغَنَمِ؟ وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِالنَّفْيِ عَنْ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فقط.
قُلْتُ: هُوَ الصَّوَابُ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: هَلِ الْمَفْهُومُ الْمَذْكُورُ يَرْتَقِي إِلَى أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا قَاطِعًا، أَوْ لَا يَرْتَقِي إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّهُ "قَدْ"* يَكُونُ قَطْعِيًّا، وَقِيلَ: لا. الموضع الرابع: إذا دل "دليل"** على إخراج صور مِنْ صُوَرِ الْمَفْهُومِ، فَهَلْ يَسْقُطُ الْمَفْهُومُ بِالْكُلِّيَّةِ، أو يتمسك به فِي الْبَقِيَّةِ؟ وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى الْخِلَافِ فِي حُجِّيَّةِ الْعُمُومُ إِذَا خَصَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ به قبل الْبَحْثُ عَمَّا يُوَافِقُهُ، أَوْ يُخَالِفُهُ مِنْ مَنْطُوقٍ أَوْ مَفْهُومٍ آخَرَ؟ فَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصَّصِ، وَحَكَى الْقَفَّالُ الشاشي في ذلك وجهين.
المسألة الثالثة: شروط القول بمفهوم المخالفة
المسألة الثالثة: شروط القول بمفهوم المخالفة الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُعَارِضَهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ منه، من منطوق أو مفهوم موافقة، أما إذا عراضه قِيَاسٌ، فَلَمْ يُجَوِّزُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ تَرْكَ الْمَفْهُومِ بِهِ، مَعَ تَجْوِيزِهِ تَرْكَ الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، كَذَا قَالَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَعْمُولَ بِهِ يُخَصِّصُ عُمُومَ الْمَفْهُومِ، كَمَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْمَنْطُوقِ، وَإِذَا تَعَارَضَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْمُولًا بِهِ، فَالْمُجْتَهِدُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ، وَبِمَا يُصَاحِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُقَوِّيَةِ لَهُ. قَالَ شَارِحُ "اللُّمَعِ": دَلِيلُ الْخِطَابِ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إِذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، كَالنَّصِّ وَالتَّنْبِيهِ، فَإِنْ عَارَضَهُ أَحَدُهُمَا سَقَطَ، وَإِنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِعُمُومِ دَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، قُدِّمَ الْقِيَاسُ، وَأَمَّا الْخَفِيُّ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ حُجَّةً كَالنُّطْقِ قُدِّمَ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْقِيَاسِ فَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُونَ كَثِيرًا الْقِيَاسَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ الِامْتِنَانُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} 1
فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ أَكْلِ مَا لَيْسَ بَطَرِيٍّ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْطُوقُ خَرَجَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُتَعَلِّقٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، وَلَا حَادِثَةٍ خَاصَّةٍ بِالْمَذْكُورِ، هَكَذَا قِيلَ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَا بِخُصُوصِ السُّؤَالِ. وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي ذَلِكَ احْتِمَالَيْنِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَعَلَّ الْفَرْقَ -يَعْنِي بَيْنَ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَعُمُومِ الْمَفْهُومِ- أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ تَسْقُطُ بِأَدْنَى قَرِينَةٍ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. قُلْتُ: وَهَذَا فَرْقٌ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمَفَاهِيمِ الَّتِي دَلَالَتُهَا ضَعِيفَةٌ، أَمَّا الْمَفَاهِيمُ الَّتِي دَلَالَتُهَا قَوِيَّةٌ قُوَّةً تُلْحِقُهَا بِالدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ فَلَا. قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 1 فَلَا مَفْهُومَ لِلْأَضْعَافِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى النَّهْيِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ بِسَبَبِ الْآجَالِ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ يَقُولُ: إِمَّا أَنْ تُعْطِيَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَيَتَضَاعَفُ بِذَلِكَ أَصْلُ دَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ التَّفْخِيمُ، وَتَأْكِيدُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أَنْ تَحُدَّ" 2 الْحَدِيثَ، فَإِنَّ التَّقْيِيدَ "بِالْإِيمَانِ" لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يُذْكَرَ مُسْتَقِلًّا، فَلَوْ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ لِشَيْءٍ آخَرَ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} 3 فإن قوله تعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ} فلا مَفْهُومَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ مُطْلَقًا. الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنَ السِّيَاقِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا مَفْهُومَ له، كقوله
تعالي: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَعْدُومِ، وَالْمُمْكِنِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} التَّعْمِيمُ. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَعُودَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ بِالْإِبْطَالِ، أَمَّا لَوْ كان كَذَلِكَ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ. الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 2. فَإِنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ الرَّبَائِبِ فِي الْحُجُورِ، فَقُيِّدَ بِهِ لِذَلِكَ، لَا لِأَنَّ حُكْمَ اللَّاتِي لَسْنَ فِي الْحُجُورِ بِخِلَافِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الكتاب والسنة.
المسألة الرابعة: في أنواع مفهوم المخالفة
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ النَّوْعُ الأول: مفهوم الصفة وهي تعلق الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ، نَحْوُ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ" 1. وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ، يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَا غَايَةٍ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ النَّعْتَ فَقَطْ، وَهَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ عِنْدَهُمْ: هِيَ الْمَعْنَوِيَّةُ، لَا النَّعْتُ، وَإِنَّمَا يَخُصُّ الصِّفَةَ بِالنَّعْتِ أَهْلُ النَّحْوِ فَقَطْ. وَبِمَفْهُومِ الصِّفَةِ أَخَذَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ، لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ، فَوُصِفَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا فِيهِ تِلْكَ الصِّفَةُ دُونَ الْآخَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ، وَلَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ، وَوَافَقَهُمْ مِنْ أئمة اللغة الأخفش2، وابن فَارِسٍ، وَابْنُ جِنِّيٍّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ جَوَابَ "سُؤَالٍ"* فَلَا يُعْمَلَ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ ابْتِدَاءً فَيُعْمَلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ من موجب.
وَفِي جَعْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ مَذْهَبًا مُسْتَقِلًّا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْأَخْذِ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنْ لَا يَقَعَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ حُجَّةٌ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ: أَنْ يَرِدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ"، أَوْ مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خبر التخالف وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ1، أَوْ يَكُونَ مَا عَدَا الصِّفَةِ دَاخِلًا تَحْتَ الصِّفَةِ، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد؛ لأنه داخل تَحْتَ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ بِمَفْهُومِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَقْلُ الرَّازِيِّ عَنْهُ لِلْمَنْعِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْهُ الْجَوَازَ. وَقَدْ طَوَّلَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ عَلَى اسْتِدْلَالِ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ لِمَا قَالُوا بِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَبْحَثَ لُغَوِيٌّ، وَاسْتِعْمَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ لِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَعَمَلَهُمْ بِهِ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَفْهُومُ الْعِلَّةِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، نَحْوُ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِإِسْكَارِهَا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الصِّفَةَ قَدْ تَكُونُ عِلَّةً كَالْإِسْكَارِ، وَقَدْ لَا تَكُونُ عِلَّةً، بَلْ مُتَمِّمَةً كَالسَّوْمِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ هِيَ الْعِلَّةُ، وَالسَّوْمُ مُتَمِّمٌ لَهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ: وَالْخِلَافُ فِيهِ وَفِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَاحِدٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَفْهُومُ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَشْرُوطُ، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمَشْرُوطِ، وَلَا مُؤَثِّرًا فِيهِ. وَفِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ: مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْحَرْفَيْنِ: إِنْ أَوْ إِذَا أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ، وَمُسَبِّبِيَّةِ الثَّانِي، وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، لا الشرعي، ولا
الْعَقْلِيُّ، وَقَدْ قَالَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَلِهَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ السهيلي في "أدب الْجَدَلِ" عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ مُعْظَمِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ" إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الْأَخْذِ بِهِ. وَرَجَّحَ الْمَنْعَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ1 عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ. وَقَدْ بَالَغَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَانِعِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ، وَكُلُّ مَا جَاءُوا بِهِ لَا تَقُومُ به الحجة، والأخذ به معلم مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالشَّرْعِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: إِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَمَتَى جِئْتَنِي أَعْطَيْتُكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فيه الخلاف بَيْنِ كُلِّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ، وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ لِمَنْ أَنْكَرَهُ: عَلَيْكَ بِتَعَلُّمِ لُغَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ إِنْكَارَكَ لِهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ لَا تَعْرِفُهَا. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مَفْهُومُ الْعَدَدِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدِ، زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَامِدٍ، وَأَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ2 عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ "الْهِدَايَةِ"3 مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنَعَ مِنَ الْعَمَلِ به المانعون بمفهوم الصفة.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ دَلِيلٌ كَالصِّفَةِ سَوَاءٌ. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعْلُومٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ مَنْ أَمَرَ بِأَمْرٍ، وَقَيَّدَهُ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَزَادَ الْمَأْمُورُ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ، أَوْ نَقَصَ عَنْهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْآمِرُ الزِّيَادَةَ أَوِ النَّقْصَ، كَانَ هَذَا الْإِنْكَارُ مَقْبُولًا عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ، فَإِنِ ادَّعَى الْمَأْمُورُ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِ نَقَصَ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ، كَانَتْ دَعْوَاهُ هَذِهِ مَرْدُودَةً عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَفْهُومُ الْغَايَةِ وهو مد الحكم بـ إلى أَوْ حَتَّى: وَغَايَةُ الشَّيْءِ آخِرُهُ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ حَاكِيًا لِذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانَ وَصَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ" الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. قَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": صَارَ مُعْظَمُ نُفَاةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ إِلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَ الْغَايَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا "حُرُوفَ الْغَايَةِ؛ وَغَايَةُ الشَّيْءِ: نِهَايَتُهُ، فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بَعْدَهَا لَمْ تَعُدْ تَسْمِيَتُهَا"* غَايَةً، وَهَذَا مِنْ تَوْقِيفِ اللُّغَةِ مَعْلُومٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا. انْتَهَى. وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْآمِدِيُّ، وَلَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ قَطُّ، بَلْ صَمَّمُوا عَلَى مَنْعِهِ طَرْدًا لِبَابِ الْمَنْعِ، مِنَ الْعَمَلِ بِالْمَفَاهِيمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. النَّوْعُ السَّادِسُ: مَفْهُومُ اللَّقَبِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ، نَحْوَ: قَامَ زَيْدٌ، أَوِ اسْمِ النَّوْعِ، نَحْوَ: فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ. كَذَا قِيلَ. وَقَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": صَارَ إِلَيْهِ الدَّقَّاقُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا -يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ- وَكَذَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ فُورَكَ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ إِلْكِيَا الطبري في "التلويح":
إِنَّ ابْنَ فُورَكَ كَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَحَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي "نَتَائِجِ الْفِكْرِ"1 عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصيرفي، ونقله عبد العزير فِي "التَّحْقِيقِ"2 عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي حَامِدٍ إِنْكَارُ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ": وَصَارَ إِلَيْهِ الدَّقَّاقُ، وَصَارَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ فِي "التَّمْهِيدِ"3 عَنْ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ، قَالَ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. انْتَهَى. وَنَقَلَ الْقَوْلَ به عن ابن خويزمنداد وَالْبَاجِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ. وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" التَّفْصِيلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ فِي أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ لَا فِي أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ. وَحَكَى ابْنُ حَمْدَانَ4، وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلًا آخَرَ، وَهُوَ: الْعَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَائِلَ بِهِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ لُغَوِيَّةٍ، وَلَا شَرْعِيَّةٍ، وَلَا عَقْلِيَّةٍ، وَمَعْلُومٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدًا، لَمْ يقتضِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ غَيْرَهُ قَطْعًا، وَأَمَّا إِذَا دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا لِلْقَرِينَةِ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ. النَّوْعُ السَّابِعُ: مَفْهُومُ الْحَصْرِ وهو أنواع، أقواها: ما وإلا، نَحْوُ، مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ؛ وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ: هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ، أَوِ الْمَفْهُومِ؟. وَبِكَوْنِهِ مَنْطُوقًا جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "الْمُلَخَّصِ"، وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ فِي "القواعد"5.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعْلُومٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ بِحُجَّةٍ مَقْبُولَةٍ. ثُمَّ الْحَصْرُ بِـ إِنَّمَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الْقُوَّةِ. قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْغَايَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ"1، وَصَرَّحَ هُوَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، بـ: ما، وإلا. وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ "إِلَى"* أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، "لِمَا"** تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ وَقَعَ الخلاف على هل مَنْطُوقٌ أَوْ مَفْهُومٌ؟ وَالْحَقُّ: أَنَّهُ مَفْهُومٌ، وَأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ. ثُمَّ حَصْرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، أَوِ الْإِضَافَةِ، نَحْوُ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَصَدِيقِي عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِالْعَالَمِ وَبِصَدِيقِي هُوَ الْجِنْسُ، فَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ؛ إِذْ لَمْ "تَكُنْ"*** هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَهْدِ، فَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَنَفْيِ الصَّدَاقَةِ عَنْ غَيْرِ عمرو، وذلك أن الترتيب الطبيعي أَنْ يُقَدَّمَ الْمَوْصُوفَ عَلَى الْوَصْفِ، فَإِذَا قُدِّمَ الوصف على الموصوف معرفا باللام أو الإضافة، أَفَادَ الْعُدُولُ مَعَ ذَلِكَ التَّعْرِيفِ أَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ الْوَصْفِ عَنْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ مَقْصُودٌ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَنْطُوقِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ دَلَالَتَهُ مَفْهُومِيَّةٌ لَا مَنْطُوقِيَّةٌ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ. وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ أَنْوَاعِ الْحَصْرِ مُحَرَّرٌ فِي عِلْمِ البيان، وله صور غير ما ذكرناه ههنا، وَقَدْ تَتَبَّعْتُهَا مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِمْ، وَمِنْ مِثْلِ "كَشَّافِ الزمخشري"2 وما هو على
نَمَطِهِ، فَوَجَدْتُهَا تَزِيدُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ نَوْعًا، وَجَمَعْتُ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ بَحْثًا. النَّوْعُ الثَّامِنُ: مَفْهُومُ الْحَالِ أَيْ: تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِالْحَالِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَفَاهِيمِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الصِّفَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ لَا النَّعْتُ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْنَاهُ بِالذِّكْرِ تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِرُجُوعِهِ إِلَى الصِّفَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ"، وَابْنُ فُورَكَ. النَّوْعُ التَّاسِعُ: مَفْهُومُ الزَّمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1، وقوله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} 2. وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَمَا نَقَلَهُ "الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ"*، وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ، بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ الْمُقَدَّرِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مَفْهُومُ الْمَكَانِ نَحْوُ: جَلَسْتُ أَمَامَ زَيْدٍ. وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَمَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْ فِي مَكَانِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ. وَهُوَ أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ، لِمَا عَرَفْتَ فِي النَّوْعِ الذي قبله.
الباب التاسع: في النسخ وفيه سبع عشرة مسألة
الباب التاسع: فِي النَّسْخِ وَفِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّهِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ، وَمِنْهُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالرِّيحُ آثَارَ الْقَدَمِ، وَمِنْهُ: تَنَاسُخُ الْقُرُونِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَسْكَرِيُّ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَمِنْهُ نَسَخْتُ الكتاب، أي: نقلته، ومنه قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ2. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ أَمْ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؟ فَحَكَى الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا لَفْظًا، لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي "شَرْحِ الْبُرْهَانِ"3: إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا؛ لِأَنَّ بَيْنَ نَسْخِ الشَّمْسِ الظِّلَّ، وَنَسْخِ الْكِتَابِ مِقْدَارًا مُشْتَرِكًا، وَهُوَ الرَّفْعُ، وَهُوَ فِي الظِّلِّ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بِضِدِّهِ، وَفِي نَسْخِ الْكِتَابِ مُتَعَذِّرٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكَلَامَ الْمَنْسُوخَ بِالْكِتَابَةِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا إِلَّا مِنَ الْأَصْلِ، فَكَانَ لِلْأَصْلِ بِالْإِفَادَةِ خُصُوصِيَّةٌ، فَإِذَا "نَسَخْتَ"* الْأَصْلَ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الخصوصية، وارتفاع
الْأَصْلِ وَالْخُصُوصِيَّةُ سَوَاءٌ فِي مُسَمَّى الرَّفْعِ. وَقِيلَ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ التَّغْيِيرُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُهُمُ الرِّيحَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْآثَارِ "وَالشَّمْسَ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلظِّلِّ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْمُزِيلَ لِلْآثَارِ وَالظِّلِّ"* هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا امْتَنَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَدْلُولِهِ، ثُمَّ نُعَارِضُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَنَقُولُ: النَّسْخُ هُوَ: النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَمِنْهُ نَسَخَ الْكِتَابَ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ، كَأَنَّكَ تَنْقُلُهُ إِلَيْهِ، أَوْ تَنْقُلُ حِكَايَتَهُ، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْأَرْوَاحِ1، وَتَنَاسُخُ الْقُرُونِ، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَتَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ، إِنَّمَا هُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ، بَدَلًا عَنِ الْأَوَّلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ، دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَعَلَيْكُمُ التَّرْجِيحُ. الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاسِخُ لِذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ فِعْلِ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ الْمُؤَثِّرَيْنِ "فِي تِلْكَ الْإِزَالَةِ، وَيَكُونَانِ أَيْضًا نَاسِخَيْنِ، لِكَوْنِهِمَا مُخْتَصَّيْنِ بِذَلِكَ التَّأْثِيرِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إِنَّمَا أَخْطَئُوا فِي إِضَافَةِ النَّسْخِ إِلَى الشَّمْسِ وَالرِّيحِ"**. فَهَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ مُتَمَسَّكَنَا إِطْلَاقُهُمْ لَفْظَ النَّسْخِ عَلَى الْإِزَالَةِ، لَا إِسْنَادُهُمْ هَذَا الْفِعْلَ إِلَى الرِّيحِ وَالشَّمْسِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ أَخَصُّ مِنَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ النَّقْلُ فَقَدْ عُدِمَتْ صِفَةٌ حَصَلَتْ عَقِيبَهَا صِفَةٌ أُخْرَى، فَإِذَا مُطْلَقُ الْعَدَمِ أَعَمُّ مِنْ عَدَمِ تَحَصُّلِ شيء آخر عقبية، وأنه دار اللَّفْظُ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، كَانَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْعَامِّ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْخَاصِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ اللُّغَاتِ. انْتَهَى. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ2 وغيرهم: هو الخطاب الدال على ارتفاع
الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا آثَرُوا الْخِطَابَ عَلَى النَّصِّ، لِيَكُونَ شَامِلًا لِلَّفْظِ، وَالْفَحْوَى، وَالْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَالُوا: الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ، لِيَتَنَاوَلَ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ، وَالْخَبَرَ، وَجَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحُكْمِ. وَقَالُوا بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ، لِيَخْرُجَ إِيجَابُ الْعِبَادَاتِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ يُزِيلُ حُكْمَ الْعَقْلِ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حُكْمُ خِطَابٍ. وَقَالُوا: عَلَى وَجْهٍ لولاه لكان ثابتا؛ لأنه حَقِيقَةَ النَّسْخِ الرَّفْعُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ رَافِعًا لَوْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ بِحَيْثُ لَوْلَا طَرَيَانُهُ لَبَقِيَ. وَقَالُوا: مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اتَّصَلَ لَكَانَ بَيَانًا لِمُدَّةِ الْعِبَادَةِ لَا نَسْخًا. وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْحَدِّ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّسْخَ هُوَ نَفْسُ الِارْتِفَاعِ، وَالْخِطَابُ إِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى الِارْتِفَاعِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الرَّافِعِ وَبَيْنَ نَفْسِ الِارْتِفَاعِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْخِطَابِ خَطَأٌ؛ لأن الناسخ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا، كَمَا يَكُونُ قَوْلًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَهَذَا الْإِجْمَاعُ خِطَابٌ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ قَدْ يَثْبُتُ بِفِعْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ "بِخِطَابٍ"* قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: النَّاسِخُ طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ لَا يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا. وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: مِثْلُ الْحُكْمِ الَّذِي إِلَخْ، يَشْمَلُ مَا كَانَ مُمَاثِلًا لَهُ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَلَا يَتِمُّ النَّسْخُ لِحُكْمٍ إِلَّا بِرَفْعِ جَمِيعِ الْمُمَاثَلَاتِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَصِحُّ عِنْدَهُ إِطْلَاقُ الْمُمَاثِلَةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي حَدِّهِ اصْطِلَاحًا أَنَّهُ رَفَعَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِخِطَابٍ. وَفِيهِ: أَنَّ النَّاسِخَ قَدْ يَكُونُ فعلا لا خطابا. وفيه أَيْضًا: أَنَّهُ أَهْمَلَ تَقْيِيدَهُ بِالتَّرَاخِي، وَلَا يَكُونُ نسخ إلا به.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": إِنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: رَفَعَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ الْحُكْمَ رَاجِعٌ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يَزُولُ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَرْفُوعَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْمُكَلَّفِ لَا ذَاتُهُ، وَلَا تَعَلُّقُهُ الذَّاتِيُّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، مَعَ التَّأْخِيرِ عَنْ مَوَارِدِهِ، وَيَرُدُّ عَلَى قَيْدِ الْخِطَابِ مَا تَقَدَّمَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بمثله مع تراخيه عنه.
المسألة الثانية: النسخ جائز عقلا واقع شرعا
المسألة الثانية: النسخ جائز عقلا واقع شرعا مدخل ... المسألة الثانية: النسخ جائز عقلا واقع شرعا النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ سَمْعًا، بِلَا خِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا مَا يَرْوِي عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ1، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ جَائِزٌ، غَيْرُ وَاقِعٍ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا عَنْهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَاهِلٌ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ جَهْلًا فَظِيعًا، وَأَعْجَبُ مِنْ جَهْلِهِ بِهَا حِكَايَةُ مَنْ حُكِيَ عَنْهُ الْخِلَافُ فِي كُتُبِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، لَا بِخِلَافِ مَنْ بَلَغَ فِي الْجَهْلِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَأَمَّا الْجَوَازُ: فَلَمْ يُحْكَ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَّا عَنِ الْيَهُودِ، وَلَيْسَ بِنَا إِلَى نَصْبِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَاجَةٌ، وَلَا هَذِهِ بِأَوَّلِ مَسْأَلَةٍ خَالَفُوا فِيهَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يَذْكُرَ خلافهم في هذه المسألة، ولكن هذه مِنْ غَرَائِبِ أَهْلِ الْأُصُولِ. عَلَى أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ عَنْهُمْ أَحْكَامًا لَمَّا تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ رَفْعَهَا، وَلَيْسَ النَّسْخُ إِلَّا هَذَا، وَلِهَذَا لَمْ يَحْكِهِ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ إِلَّا عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمُ الشَّمْعُونِيَّةُ2، وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُمْ دَلِيلًا، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ بَدَاءٌ، وَالْبَدَاءُ3 مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بأن النسخ لا يستلزم البداء لا
عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، وَقَدْ جَوَّزَتِ الرَّافِضَةُ الْبَدَاءَ عَلَيْهِ؛ عَزَّ وَجَلَّ، لِجَوَازِ النَّسَخِ، وَهَذِهِ مَقَالَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ بِمَجْرَدِهَا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ "الْأُصُولِ"* اتِّفَاقُ أَهْلِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَقَامِ مَا يَقْتَضِي تَطْوِيلَ "الْمَقَالِ"**. وَقَدْ أَوَّلَ جَمَاعَةٌ خِلَافَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ الْمَذْكُورِ سَابِقًا بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لَا يَرْتَفِعُ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَهِي بِنَصٍّ دَلَّ عَلَى انْتِهَائِهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ الْجَوَازَ، وَأَنَّ خِلَافَهُ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، لَا كَمَا نَقَلَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: أَنَّهُ أَنْكَرَ الْوُقُوعَ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَذَلِكَ جَهَالَةٌ مِنْهُ عَظِيمَةٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَحْكَامِ الْعَقْلِ، فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِكَوْنِهَا نَاسِخَةً لِلشَّرَائِعِ، فَهُوَ خِلَافٌ كُفْرِيٌّ1 لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ. نَعَمْ إِذَا قَالَ: إِنَّ الشَّرَائِعَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُغَيَّاةٌ بِغَايَةٍ هِيَ الْبَعْثَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ فَذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ إِنْكَارِ كَوْنِهِ نسخًا غير مقيد بهذا القيد.
الحكمة من النسخ
الْحِكْمَةُ مِنَ النَّسْخِ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي النَّسْخِ؟ قُلْتُ: قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ"1: إِنَّ الشَّرَائِعَ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد.
وَمِنْهَا: سَمْعِيَّةٌ لَا يُعْرَفُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِلَّا مِنَ السَّمْعِ. فَالْأَوَّلُ: يَمْتَنِعُ طُرُوءُ النَّسْخِ عَلَيْهِ، كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَطَاعَتِهِ أَبَدًا. وَمَجَامِعُ هَذِهِ الشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ أَمْرَانِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 1. وَالثَّانِي: مَا يُمْكِنُ طَرَيَانُ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أُمُورٌ تَحْصُلُ فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الطَّاعَاتِ الْفِعْلِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَفَائِدَةُ نَسْخِهَا: أَنَّ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ إِذَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، صَارَتْ كَالْعَادَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَظَنُّوا أَنَّ أَعْيَانَهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَمَنَعَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَعَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ "الْأَعْمَالِ"* رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالْأَرْوَاحِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، انْقَطَعَتِ الْأَوْهَامُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِتِلْكَ "الصُّوَرِ وَ"** الظَّوَاهِرِ إِلَى علَّام السَّرَائِرِ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ طُبِعَ عَلَى الْمَلَالَةِ مِنَ الشَّيْءِ فَوَضَعَ فِي كُلِّ عَصْرٍ شَرِيعَةً جَدِيدَةً لِيَنْشَطُوا فِي أَدَائِهَا. وَقِيلَ: بَيَانُ شَرَفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ شَرَائِعَهُمْ، وَشَرِيعَتُهُ لَا ناسخ لها. وقيل: الحكمة حفظ مصالح العباد، فَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ، وَشَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ، كَانَ التَّبْدِيلُ لِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ بِشَارَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْخِدْمَةِ عَنْهُمْ، "وَرَفْعِ"*** مُؤْنَتِهَا عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مُؤْذِنٌ بِرَفْعِهَا فِي الْجَنَّةِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ" أَنَّ فَائِدَةَ النَّسْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَالتَّخْفِيفُ عَنْهُمْ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَثْقَلَ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْأَثْقَلِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَخَفِّ، لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ تَكْثِيرِ الثَّوَابِ، وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ، فَتَكْثِيرُ الثَّوَابِ فِي الْأَثْقَلِ يُصَيِّرُهُ خَفِيفًا عَلَى الْعَامِلِ، يَسِيرًا عَلَيْهِ، لِمَا يَتَصَوَّرُهُ مِنْ جَزَالَةِ الْجَزَاءِ.
المسألة الثالثة: شروط النسخ
المسألة الثالثة: شُرُوطِ النَّسْخِ لِلنَّسْخِ شُرُوطٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُقْتَرِنَ كَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا بَلْ تَخْصِيصًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِشَرْعٍ، فَلَا يَكُونُ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ نَسْخًا، بَلْ هُوَ سُقُوطُ تَكْلِيفٍ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ انْقِضَاءُ وَقْتِهِ الَّذِي قُيِّدَ بِهِ نَسْخًا لَهُ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِثْلَ الْمَنْسُوخِ فِي الْقُوَّةِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، لَا إِذَا كَانَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُزِيلُ الْقَوِيَّ. قَالَ إِلْكِيَا: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ، بَلْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ واحد. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الشَّرْطِ مَزِيدُ بَيَانٍ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى لِلْمَنْسُوخِ غَيْرَ الْمُقْتَضَى لِلنَّاسِخِ، حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْبَدَاءُ، كَذَا قِيلَ. قَالَ إِلْكِيَا: لا ويشترط بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ النَّاسِخُ مُتَنَاوِلًا لِمَا تَنَاوَلَهُ الْمَنْسُوخُ، أَعْنِي: بِالتَّكْرَارِ وَالْبَقَاءِ؛ "إِذْ لَا يَمْتَنِعُ"* فَهْمُ الْبَقَاءِ بِدَلِيلٍ آخَرَ سِوَى اللَّفْظِ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ، فَلَا يَدْخُلُ النَّسْخُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ وَلَا يَتَأَقَّتُ. قَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ: وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، ووحدانيته، ونحوه، فلا يدخله النسخ، ومن ههنا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْأَخْبَارِ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ، وَكَذَا قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ: الضَّابِطُ فِيمَا يُنْسَخُ مَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ مِنْ حُسْنٍ إِلَى قُبْحٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالتَّأْبِيدِ وَجْهَيْنِ، حكاهما الماوردي، والروياني، وغيرهما.
أحدهما: المنع؛ لأن صريح التأبيد مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ النَّسْخِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، قَالَا: وَأَنْسُبُهُمَا الْجَوَازُ. قَالَ: وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانَ إِلَى مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ، وَنَسَبَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ" إِلَى الْمُحَقِّقِينَ، "قَالَ"* لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي لَفْظِ التَّأْبِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُبَالَغَةُ لَا الدوام.
المسألة الرابعة: جواز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَوَازُ النَّسْخِ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ اعْلَمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ، بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَسَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ كُلُّ النَّاسِ، كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ بَعْضُهُمْ، كَفَرْضِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ "التَّمَكُّنِ"* مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَكْلِيفِهِ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْضِيَ مِنَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مَا يَسَعُ الْفِعْلَ. وَقَدْ حُكي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنِ الْكَرْخِيِّ. وَأَمَّا النَّسْخُ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُعْلِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُجُوبِ شَيْءٍ عَلَى الْأُمَّةِ، ثُمَّ يَنْسَخُهُ قبل أن يعلموا بِهِ، فَحَكَى السَّمْعَانِيُّ فِي ذَلِكَ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْمَنْعِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَإِلْكِيَا. انْتَهَى. وَيَرِدُ عَلَى الْمَنْعِ مَا ثَبَتَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ عَلَى خَمْسٍ1. وَلَا وَجْهَ لِمَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، دُونَ النَّسْخِ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، ومنعت من
ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، فَإِذَا قَضَيْنَا بِصِحَّتِهِ، صَحَّ النَّسْخُ حِينَئِذٍ. قَالَ: وَاحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ خَمْسِينَ صَلَاةً، ثُمَّ نَسَخَهَا قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِوُجُوبِهَا، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ عَلِمَ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ "عِلْمِ"* جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَعِلْمُ الْجَمِيعِ لَا يُشْتَرَطُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ اسْتَقَرَّ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ "انْتَهَى"**. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْأُمَّةِ يَقْتَضِي وُقُوعَ النَّسْخِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا كُلِّفُوا بِهِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ اتَّفَقَتِ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِهِ. وَحَكَى الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: وَالثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ التَّعْرِيفِيَّةِ، فَمَنَعُوهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَوَّزُوهُ فِي الثَّانِي، كَتَكْلِيفِ الْغَافِلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. انْتَهَى. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ قَدْ عَلِمَ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوَسَّعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ غَدًا، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الفعل، ويؤمر بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، ثُمَّ نُسِخَ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتٍ يُمْكِنُ فِعْلُهَا فِيهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانَ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُمْ عَنْ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ. قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَقِّ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ -كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ- وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى الْمَنْعِ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ، وَالْجَصَّاصُ، وَالْمَاتُرِيدِيُّ، وَالدَّبُّوسِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا مَعَ أَنَّ الْمُقْتَضَى مَوْجُودٌ، وَهُوَ أنه
رَفْعُ تَكْلِيفٍ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَكَانَ نَسْخًا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَاءَ، وَلَا الْمُحَالَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي جَازَ النَّسْخُ لِأَجْلِهَا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ يَصِحُّ اعْتِبَارُهَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَقَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ تَبْدِيلَ حُكْمٍ بِحُكْمٍ، وَرَفْعَ شَرْعٍ بِشَرْعٍ "كَائِنٌ"* فِيهِمَا. وَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَكِنْ وَقَعَ نَسْخُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مُوَسَّعًا، أَوْ لِكَوْنِهِ أَرَادَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ، فَنُسِخَ، فَقَالَ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ، وجعلوا صورة الخلاف فيما إذ كَانَ النَّسْخُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَكَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ابْنُ بَرْهَانَ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْآمِدِيُّ، وَبِهِ صَرَّحَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ". وَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ وَشَرَعَ فِي فِعْلِهِ، فَنُسِخَ قَبْلَ تَمَامِ الْفِعْلِ. فَقَالَ الْقَرَافِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا. وَجَعَلَهَا الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ" مِنْ صِوَرِ الْخِلَافِ. فَمَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ جَوَّزَ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مَنَعَهَا. وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ النَّسْخُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَمُقْتَضَى اسْتِدْلَالِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِالِاتِّفَاقِ، ووجه بِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهِ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ الْوَقْتِ، وَإِذَا انْتَفَى فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ، لِامْتِنَاعِ رَفْعِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ فِي "الْإِحْكَامِ" بِالْجَوَازِ، وَأَنَّهُ لَا خلاف فيه. قيل: ولا يتأتى إلا ذا صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الأمر بالأداء يستلزم القضاء.
المسألة الخامسة: أنه لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أن يخلفه بدل أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أَنْ يَخْلُفَهُ بَدَلٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا سُتْرَةَ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ النَّسْخُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ لِأُمُورٍ مَعْرُوفَةٍ لَا إِلَى بَدَلٍ. وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ1، وَنَسْخُ ادِّخَارِ لُحُومِ الأضاحي2،
ونسخ تحريم المباشرة بقول سبحانه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُن} 1، وَنَسْخُ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُخَالِفُونَ، وَهُمْ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: كُلُّهُمْ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3، فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ لَفْظِ الْآيَةِ، كَمَا "يَدُلُّ عَلَيْهِ"* قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فَلَيْسَ لِنَسْخِ الْحُكْمِ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، وَلَوْ سَلَّمَنَا لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِسْقَاطَ ذَلِكَ الحكم المنسوخ خَيْرٌ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ" عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ الْبَدَلِ، فَقَالَ: وَلَيْسَ يُنْسَخُ فَرْضٌ أَبَدًا إِلَّا أُثْبِتَ مَكَانُهُ فَرْضٌ، كَمَا نُسِخَتْ قِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَثْبَتَ مَكَانَهَا الْكَعْبَةَ. قَالَ: وَكُلُّ مَنْسُوخٍ فِي كِتَابِ الله سبحانه وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ "الْمَرْوَزِيُّ"**: إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ يَنْقُلُ مِنْ حَظْرٍ إِلَى إِبَاحَةٍ، أَوْ مِنْ إِبَاحَةٍ إلى حظر، أو يخير عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْمَفْرُوضِ، كَمَا فِي الْمُنَاجَاةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَاجِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ، ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ أَزَالَ ذَلِكَ فَرَدَّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحَمْلُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي تَفْسِيرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِهِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وُقُوعُ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِلَا بَدَلٍ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ ارْتِفَاعُ التَّكْلِيفِ بِالشَّيْءِ، وَالنَّسْخُ مِثْلُهُ، لِأَنَّهُ رَفْعُ تَكْلِيفٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ، بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْوُقُوعِ.
المسألة السادسة: في النسخ إلى بدل يقع على وجوه
المسألة السادسة: في النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ ... الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِثْلَ الْمَنْسُوخِ فِي التَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَذَلِكَ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ1. الثَّانِي: نَسْخُ الْأَغْلَظِ بِالْأَخَفِّ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَذَلِكَ كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِالْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا2. الثَّالِثُ: نَسْخُ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ. وَالْحَقُّ: الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ كَمَا فِي نَسْخِ وَضْعِ الْقِتَالِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِفَرْضِهِ بَعْدَ ذَلِكَ3، وَنَسْخِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ بِفَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ4، ونسخ تحليل الخمر بتحريمها5، ونسخ
نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ تَجْوِيزِهَا1، وَنَسْخِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ2. وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3، وبقوله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 4. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْيُسْرُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ وَإِنَّ كَانَ بَعِيدًا لَكِنَّ وُقُوعَ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ لِلْأَخَفِّ بِالْأَغْلَظِ يُوجِبُ تَأْوِيلَ الْآيَةِ، وَلَوْ بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ هُمَا مِنَ الْيُسْرِ، وَالْأَغْلَظِيَّةُ فِي النَّاسِخِ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْسُوخِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ تَخْفِيفٌ وَيُسْرٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ الْأَغْلَظَ ثَوَابُهُ أَكْثَرُ، فَهُوَ خَيْرٌ من المنسوخ من هذه الحيثية.
المسألة السابعة: في جواز نسخ الأخبار
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ نَسْخِ الْأَخْبَارِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ خَبَرًا عَمَّا لَا يَجُوزُ تَغَيُّرُهُ، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ حَادِثٌ، فهذا لا يجوز نسخه بحال.
وإذا كَانَ خَبَرًا عَمَّا يَجُوزُ تَغَيُّرُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَالْمُسْتَقْبَلُ إِمَّا أَنْ يكن وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، أَوْ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ، كَالْخَبَرِ عَنْ وُجُوبِ الْحَجِّ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ النَّسْخِ لِهَذَا الْخَبَرِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ: لَا يَجُوزُ النسخ لشيء منها. وقال فِي "الْمَحْصُولِ": وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ. اسْتَدَلَّ الجمهور على الجواز أن الخبر إن عَنْ أَمْرٍ ماضٍ كَقَوْلِهِ: عَمَّرْتُ نُوحًا أَلْفَ سَنَةٍ. جَازَ أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ عَمَّرَهُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا، وَكَانَ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا كَقَوْلِهِ: لَأُعَذِّبَنَّ الزَّانِيَ أَبَدًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ أَرَادَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَانَ الْخَبَرُ كَالْأَمْرِ فِي تَنَاوُلِهِ الْأَوْقَاتَ الْمُسْتَقْبَلَةَ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ الْكُلِّ مَعَ إِرَادَةِ الْبَعْضِ لِمَا تَنَاوَلَهُ بِمَوْضُوعِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِنْ كَانَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَغَيُّرُهُ، بِأَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، كَصِفَاتِ اللَّهِ، وَخَبَرِ مَا كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَمَا يَكُونُ مِنَ السَّاعَةِ وَآيَاتِهَا، كَخُرُوجِ الدَّجَّالِ1 فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ"؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَغَيُّرُهُ، بِأَنْ يَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، أَوْ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ "مَوْضِعُ"* الْخِلَافِ. فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّانِ، وَعَبْدُ الجبار، والفخري الرَّازِيُّ، إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، وَنَسَبَهُ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" إِلَى الْمُعْظَمِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْمَنْعِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، كَمَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ2، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ كَمَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ3 فِي "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ". وَالْقَاضِي أَبُو بكر، وعبد الوهاب،
وَالْجُبَّائِيُّ، وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّهُ الْحَقُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فصل، ومنع في الْمَاضِي؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا، دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَزَمَ بِهِ سَلِيمٌ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ فِي "الْمِنْهَاجِ"1، وَسَبَقَهُمَا إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ ابن الْقَطَّانِ. أَقُولُ: وَالْحَقُّ: مَنْعُهُ فِي الْمَاضِي مُطْلَقًا، وَفِي بَعْضِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ الْخَبَرُ بِالْوَعْدِ، لَا بالوعيد، ولا بالتكليف، أما بالتكليف فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ حُكْمٍ عَنْ مُكَلَّفٍ، وَأَمَّا بالوعيد، فلكونه عفوا، و"هو"* لَا يَمْتَنِعُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ هُوَ حسن يمدح فاعله من غيره، ويتمدح بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَهُوَ كَذِبٌ صُرَاحٌ، إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَخْصِيصًا، أَوْ تَقْيِيدًا، أَوْ تَبْيِينًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ الْمَاضِي، فَلَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا إِلْمَامٌ بِمَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي بَعْضِ أَطْرَافِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا بِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِلْزَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا عَرَفْتَ، لَا فِي كُلِّهَا، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي "الْمُعْتَمَدِ" عَنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَ النَّسْخِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَمَّا عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ فِي الْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ إِخْلَافٌ، وَالْخُلْفُ فِي الْإِنْعَامِ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ. وَأَمَّا فِي الْوَعِيدِ فَنَسْخُهُ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ: وَلَا يعد ذلك خلفا، بل عفوا وكرما.
المسألة الثامنة: في نسخ التلاوة دون الحكم والعكس ونسخهما معا
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَالْعَكْسِ وَنَسْخِهِمَا مَعًا وَقَدْ جَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمَا ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ، كَنَسْخِ آية الوصية للوالدين والأقربين1 بآية
الْمَوَارِيثِ1، وَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِالْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا2. فَالْمَنْسُوخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ "مَرْفُوعُ"* الْحُكْمِ "وَالنَّاسِخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ"** وَإِلَى جَوَازِ ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ. وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمَ الْجَوَازِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الْحُكْمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التِّلَاوَةِ، وَهَذَا قُصُورٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَجَهْلٌ كَبِيرٌ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ، الْبَاقِيَةَ تِلَاوَتُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى قَدَمٍ فِي الْعِلْمِ. الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ، وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ، كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ3، وَنَسْخِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ بِصِيَامِ رَمَضَانَ4. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقِبْلَةَ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَزَعَمَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ، وَرُفِعَ رَسْمُ النَّاسِخَ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} 5 بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ"، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى، ثُمَّ نسخ لفظه وبقي حكمه6.
الرَّابِعُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ، وَنُسِخَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ"، فتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ1. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَالْعَشْرُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَالْخَمْسُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتُوهَا رَسْمًا، وَحُكْمُهَا بَاقٍ عِنْدَهُمْ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَوْلُهَا: "وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ" بِمَعْنَى أَنَّهُ يُتْلَى حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتْلُوهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ تِلَاوَتِهِ. وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ نَسْخِ اللَّفْظِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ، وَبِهِ جَزَمَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ دَلِيلِهِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ مَحْفُوظٌ، وَنَسْخُ كَوْنِهِ قُرْآنًا لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُودِهِ، وَلِهَذَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ. الْخَامِسُ: مَا نُسِخَ رَسْمُهُ لَا حُكْمُهُ، وَلَا يُعْلَمُ النَّاسِخُ لَهُ، وَذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى لَهُمَا ثالثها، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" 2. فَإِنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "التَّمْهِيدِ3: قِيلَ: إِنَّهُ فِي سُورَةِ ص. وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ بئر معونة أنهم قالوا: "بلغوا
قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا"1. وَكَمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ"، مِنْ حَدِيثِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ2 عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} 3 وَقَرَأَ فِيهَا: "إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الحنيفية، لا اليهودية والنصرانية، وَمَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَ"4. قَالَ الْحَاكِمَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ؛ فَهَذَا مِمَّا نُسِخَ لَفْظُهُ، وَبَقِيَ مَعْنَاهُ. وَعَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "التَّمْهِيدِ" مِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ وَحُكْمُهُ، وَحِفْظُهُ "يُنْسَى مَعَ رَفْعِ خَطِّهِ مِنَ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ حِفْظُهُ عَلَى وَجْهِ التِّلَاوَةِ، وَلَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ عَنِ اللَّهِ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ"* قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ نَحْوَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ5. السَّادِسُ: نَاسِخٌ صَارَ مَنْسُوخًا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا لَفْظٌ مَتْلُوٌّ، كَالْمَوَارِيثِ بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ، فإنه نسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة، ونسخ التوارث بالإسلام والهجرة بآي الْمَوَارِيثِ.. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَعِنْدِي أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ تَكَلُّفٌ، وَلَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا النَّسْخُ. وَجَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ التَّوْرِيثَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ قِسْمِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ نَاسِخُهُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، أَوِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، أَوْ نَسْخَهُمَا مَعًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ، فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ حكم من أحكامها، وما
تدل عليه من الْأَحْكَامُ حُكْمٌ آخَرُ لَهَا، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ نَسْخُهُمَا وَنَسْخُ أَحَدِهِمَا، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَبَايِنَةِ. وَلَنَا أَيْضًا: الْوُقُوعُ، وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ، كَمَا عَرَفْتَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ.
المسألة التاسعة: وجوه نسخ القرآن والسنة
المسألة التاسعة: وُجُوهِ نَسْخِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَا خِلَافَ فِي جواز نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَجَوَازِ نَسْخِ الْآحَادِ بِالْآحَادِ، وَنَسْخِ الْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ، أَوِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ. أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا: فَقَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَحَكَاهُ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَنَقَلَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ شَرْعًا وَأَمَّا الْوُقُوعُ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَسَلِيمٌ فِي "التَّقْرِيبِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، وَهَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "شَرْحِ الْكِفَايَةِ"، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ". وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى وُقُوعِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَالْغَزَالِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ زَمَانِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بَعْدَهُ، فَقَالُوا بِوُقُوعِهِ فِي زَمَانِهِ. احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ الثَّابِتَ قَطْعًا لَا يَنْسَخُهُ مَظْنُونٌ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُقُوعِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمَّا سَمِعُوا مُنَادِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَقُولُ: "أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَاسْتَدَارُوا"1 وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْقَرَائِنِ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا القائلون بالوقوع بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْسِلُ رُسُلَهُ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ "وَهُمْ آحاد"*،
وَكَانُوا يُبَلِّغُونَ الْأَحْكَامَ الْمُبْتَدَأَةَ وَنَاسِخَهَا. وَمِنَ الْوُقُوعِ: نَسْخُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} 1 الآية. "بنهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"2 وَهُوَ آحَادٌ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا أَجِدُ الْآنَ، وَالتَّحْرِيمُ وَقَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَمِنَ الْوُقُوعِ نَسْخُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ3 بِالنَّهْيِ عَنْهَا، وَهُوَ آحَادٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَمِمَّا يُرْشِدُكَ إِلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا صَحَّ مِنَ الْآحَادِ لِمَا هُوَ أَقْوَى مَتْنًا أَوْ دَلَالَةً مِنْهَا: أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا جَاءَ رَافِعًا لِاسْتِمْرَارِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَدَوَامِهِ، وَذَلِكَ ظَنِّيٌّ وَإِنَّ كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا، فَالْمَنْسُوخُ إِنَّمَا هُوَ هَذَا الظَّنِّيُّ، لَا ذلك القطعي، فتأمل هذا.
المسألة العاشرة: نسخ القرآن بالسنة المتواترة
المسألة العاشرة: نسخ القرآن بالسنة المتواترة مدخل ... المسألة العاشرة: نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ فِي "شَرْحِ مَقَالَاتِ الْأَشْعَرِيِّ"1: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 2، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " 3 "وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ"* لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وهو مذهب أبي حنيفة، وعامة المتكلمين.
وقال سليم الرازي: هو قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، والمعتزلة، وسائر المتكلمين. قال الدبوسي: إنه قَوْلُ عُلَمَائِنَا، يَعْنِي: الْحَنَفِيَّةَ. قَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ بِهِ عَامَّةُ شُيُوخِنَا، وَحَكَاهُ "أَبُو"* الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ: وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ لِلْحَدِيثِ، فَهُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ -كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً. وَبِهِ جَزَمَ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْخَفَّافُ1، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا حَكَاهُ ابْنُ فُورَكَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ أَكْثَرِهِمُ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ شَرْعًا لَا عَقْلًا. وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} 2 الْآيَةَ. قَالُوا: وَلَا تَكُونُ السُّنَّةُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، "وَلَا"** مِثْلَهُ، قَالُوا: وَلَمْ نَجِدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً مَنْسُوخَةً بِالسُّنَّةِ. وَقَدِ اسْتَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَنْعِ، حَتَّى قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ: هَفَوَاتُ الْكِبَارِ عَلَى أَقْدَارِهِمْ، وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ كَثِيرًا مَا "يَنْصُرُ"*** مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ كَبِيرٌ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَكْبَرُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مَنَعَ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، فَضْلًا عَنِ الْمُتَوَاتِرِ، فَلَعَلَّهُ يَقُولُ: دَلَّ عُرْفُ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ قَاطِعٌ مِنَ السَّمْعِ تَوَقَّفْنَا، وَإِلَّا فَمَنِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَحْكُمُ بِقَوْلِهِ فِي نَسْخِ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ، وَأَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ؟
وَالْمُغَالُونَ فِي حُبِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي مَهَّدَ هَذَا الْفَنَّ وَرَتَّبَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَخْرَجَهُ، قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ مَحْمَلٌ، فَتَعَمَّقُوا فِي مَحَامِلَ ذَكَرُوهَا، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ السُّنَّةَ شَرْعٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ شَرْعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ ثُبُوتًا عَلَى حَدِّ ثُبُوتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْقُرْآنِ فِي النَّسْخِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا فِي الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2، لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مَنْسُوخًا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ سَيُبَدِّلُهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، أَوْ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَمَا أَتَانَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَهُوَ كَمَا أَتَانَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3 وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} 4. قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: لَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ مُطْلَقَ السُّنَّةِ، بَلْ أَرَادَ السُّنَّةَ الْمَنْقُولَةَ آحَادًا، وَاكْتَفَى بِهَذَا الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي السُّنَّةِ الْآحَادُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَالصَّوَابُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ، وَأَدَبٌ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَهْمٌ لِمَوْقِعِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَى مُرَادِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ فَهِمُوا خِلَافَ مُرَادِهِ، حَتَّى غَلَّطُوهُ وَأَوَّلُوهُ. انْتَهَى. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ: إِنَّ السُّنَّةَ فِيهِ نَسَخَتِ الْقُرْآنَ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} 5 الآية، وقوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} 6، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 7 الآية مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ "عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"8، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 9، فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِأَحَادِيثِ الدِّبَاغِ10 عَلَى نِزَاعٍ طَوِيلٍ في كون ما في هذه الآيات منسوخة بالسنة.
نسخ السنة بالقرآن
نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ: وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَصَحَّحُوا جَمِيعًا الْجَوَازَ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: هُوَ قَوْلُ الْمُعْظَمِ. وَقَالَ سَلِيمٌ: هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ. وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ1: إِنَّهُ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ قَطُّ، وَلَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ مَا يَتَشَبَّثُ بِهِ الْمَانِعُ، لَا مِنْ عَقْلٍ، وَلَا مِنْ شَرْعٍ، بَلْ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 2 الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ نَسْخُ صُلْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ عَلَى أنْ يَرُدَّ لَهُمُ النِّسَاءَ، بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 3.
وَنَسْخُ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِر} 1 الْآيَةَ: وَنَسْخُ تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُن} 2 وَنَسْخُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 3. ونحو ذلك مما يكثر تعداده.
المسألة الحادية عشرة: نسخ القول والفعل من السنة
المسألة الحادية عشرة: نسخ القول والفعل من السنة ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ مِنَ السُّنَّةِ يَنْسَخُ الْقَوْلَ، كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ يَنْسَخُ الْفِعْلَ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ عَنْ ظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِالْفِعْلِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ، فَالْكُلُّ سُنَّةٌ وَشَرْعٌ. وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْعًا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ كَثِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّارِقِ: "فَإِنْ عَادَ فِي الْخَامِسَةِ فَاقْتُلُوهُ" 1 ثُمَّ رُفِعَ إِلَيْهِ سَارِقٌ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ2. فَكَانَ هَذَا التَّرْكُ نَاسِخًا لِلْقَوْلِ.
وَقَالَ: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ" 1، ثُمَّ رَجَمَ مَاعِزًا، وَلَمْ يَجْلِدْهُ2، فَكَانَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِجَلْدِ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِيَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجِنَازَةِ3، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ4، فَكَانَ نَسْخًا، وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" 5، ثُمَّ فَعَلَ غَيْرَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، وَتَرَكَ بَعْضَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي السُّنَّةِ لِمَنْ تَتَبَّعَهُ. وَلَمْ يَأْتِ الْمَانِعُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا مِنْ عَقْلٍ، وَلَا مِنْ شَرْعٍ، وَقَدْ تَابَعَ الشَّافِعِيَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ نَسْخِ الْأَقْوَالِ بِالْأَفْعَالِ ابْنُ عَقِيلٍ6 مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ: الشَّيْءُ إِنَّمَا يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَقْوَى مِنْهُ، يَعْنِي: وَالْقَوْلُ أَقْوَى من الفعل.
المسألة الثانية عشرة: القول في نسخ الإجماع والنسخ به
المسألة الثانية عشرة: القول في نسخ الإجماع والنسخ بِهِ الْإِجْمَاعُ لَا يَنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْسَخُ، فَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْإِجْمَاعُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُمُ الْمُخَالِفُ لِقَوْلِهِ لَغْوًا بَاطِلًا، لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ الْمُوَافِقُ "لِقَوْلِهِ"* لَا اعْتِبَارَ بِهِ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِقُولِهِ وَحْدَهُ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ. فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ فقد انْقَطَعَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِنْهُمَا. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ لِلْإِجْمَاعِ إِجْمَاعًا آخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الثَّانِي إِنْ كَانَ لَا عَنْ دَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ، فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ خَطَأً، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ خَطَأً، فَبِهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ نَاسِخًا أَوْ مَنْسُوخًا. وَلَا "يَصِحُّ"** أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مَنْسُوخًا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ، بِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ يَجُوزُ الْأَخْذُ بِكِلَيْهِمَا، ثُمَّ يَجُوزُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ -كَمَا مَرَّ فِي الْإِجْمَاعِ1- فَإِذَا أَجْمَعُوا بِطَلَ الْجَوَازُ، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا هُوَ النَّسْخُ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: إِنَّ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ. قَالَ: فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، أَيْ: لَا يَقَعُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانٍ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ نَاسِخٌ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، مِنْ "وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غسل الميت"2. انتهى.
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَيْسَ لِإِجْمَاعٍ حَظٌّ فِي نَسْخِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُشَرِّعُونَ، وَلَكِنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْغَلَطِ فِي الْخَبَرِ، أَوْ رَفْعِ حُكْمِهِ، لَا أَنَّهُمْ رَفَعُوا الْحُكْمَ، وَإِنَّمَا هُمْ أَتْبَاعٌ لِمَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِسَنَدِهِ، فَإِذَا رَأَيْنَا "نَصًّا"* صَحِيحًا، وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ، اسْتَدْلَلْنَا بذلك على نسخ، وَأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ اطَّلَعُوا عَلَى نَاسِخٍ، وَإِلَّا لَمَا خَالَفُوهُ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَرِدَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ: وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 وَكَلَامُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ مَحْفُوظٌ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ جَوَّزَ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ "الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ"2 وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ الْوَادِي، الَّذِي فِي الصَّحِيحِ حِينَ نَامَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فَمَا أَيْقَظَهُمْ إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "فَإِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ عَنْ صَلَاةٍ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَذْكُرُهَا، وَمِنَ الْغَدِ لِلْوَقْتِ" 3. قَالَ: فَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ بَعْدَ قَضَائِهَا حَالَ الذِّكْرِ وَفِي الْوَقْتِ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ "أَنَّهُ"** لَا يَجِبُ ولا يستحب.
المسألة الثالثة عشرة: القياس لا يكون ناسخا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْقِيَاسُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي "التَّقْرِيبِ" عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَالْأُصُولِيِّينَ، قَالُوا: لَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُسْتَعْمَلُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ النَّصُّ، وَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُحْتَمِلٌ، وَالنَّسْخُ يَكُونُ بِأَمْرٍ مَقْطُوعٍ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا يُخَالِفُهُ، وَلِأَنَّهُ إِنْ عَارَضَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا، فَالْقِيَاسُ فَاسِدُ الْوَضْعِ، وَإِنَّ عَارِضَ قِيَاسًا آخَرَ، فَتِلْكَ الْمُعَارَضَةُ إِنْ كَانَتْ بَيْنَ أَصْلِيِّ الْقِيَاسِ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّسْخُ قَطْعًا؛ إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ النُّصُوصِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا بِدَلِيلٍ تَوْقِيفِيٍّ، وَلَا حَظَّ لِلْقِيَاسِ فِيهِ أَصْلًا. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْقِيَاسَ يُنْسَخُ بِهِ الْمُتَوَاتِرُ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ. وَحَكَى عَنْ آخَرِينَ: أَنَّهُ "إِنَّمَا"* يُنْسَخُ بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ فَقَطْ. وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ: "أَنَّهُ يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لَا الْخَفِيِّ، وَقِيلَ: يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْقِيَاسِ"** إِذَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ، لَا مُسْتَنْبَطَةٌ. وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يُنْسَخُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ يَكُونُ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ أَصْلِهِ، وَهَلْ يَصِحُّ نَسْخُهُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ؟. فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، الْحَقُّ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْقِيَاسِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا، ورجحه صاحب "المحصول" وجماعة من الشافعية.
المسألة الرابعة عشرة: في نسخ المفهوم
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي نَسْخِ الْمَفْهُومِ وَقَدْ تقدم تقسميه إِلَى مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ، وَمَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ. أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ: فَيَجُوزُ "نَسْخُهُ"* مَعَ نَسْخِ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَيَجُوزُ نَسْخُهُ بِدُونِ نَسْخِ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" 1 فَإِنَّهُ نُسِخُ مَفْهُومُهُ، بِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَجَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" 2 وَفِي لَفْظٍ: "إِذَا لَاقَى الْخِتَانُ الْخِتَانَ" 3 فَهَذَا نَسَخَ مَفْهُومَ "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" وَبَقِيَ مَنْطُوقُهُ مُحْكَمًا، غَيْرَ مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَاجِبٌ مِنَ الْإِنْزَالِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا نَسْخُ الْأَصْلِ دُونَ الْمَفْهُومِ، فَفِي جَوَازِهِ احْتِمَالَانِ، ذَكَرَهُمَا الصَّفِّيُّ الْهِنْدِيُّ، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يجوز. وقال سَلِيمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اللَّفْظُ وَيَبْقَى دَلِيلُ الْخِطَابِ. وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلَّفْظِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يسقط الأصل ويكون الفرع باقيا4.
وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ: فَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ، والنسخ بِهِ، أَمْ لَا؟ أَمَّا جَوَازُ النَّسْخِ بِهِ، فَجَزَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِهِ فِي "التَّقْرِيبِ" وَقَالَ: لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الكتاب وظاهره، وجوازه بِمَا اقْتَضَاهُ فَحْوَاهُ وَلَحْنُهُ، وَمَفْهُومُهُ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعُمُومُ وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَ مُثْبِتِهَا؛ لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. انْتَهَى. وَكَذَا جَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ: لِأَنَّهُ مِثْلُ النُّطْقِ وَأَقْوَى. وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ مَا يُنْسَخُ بِمَنْطُوقِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي"، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "اللُّمَعِ"، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَصَحَّحُوا الْمَنْعَ، وَالْمَاوَرْدِيُّ نَقَلَهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ النَّصِّ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ. قَالَ: وَالثَّانِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ الْجَوَازُ. وَأَمَّا جَوَازُ نَسْخِهِ: فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُنْسَخَ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ. الثاني: أَنْ يُنْسَخَ تَبَعًا لِأَصْلِهِ. وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَجَعَلُوهُ مَعَ أَصْلِهِ كَالنَّصَّيْنِ، يَجُوزُ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ، وَنَقَلَهُ سَلِيمٌ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. "قَالَ"*: بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ اللَّفْظِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظَيْنِ، فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا، مَعَ بقاء حكم الآخر. والقول الثَّانِي: الْمَنْعُ، وَصَحَّحَهُ سَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ الرُّويَانِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ لَفْظِهِ مُوجِبٌ لِفَحْوَاهُ وَمَفْهُومِهِ، فَلَمْ يَجُزْ نَسْخَ الْفَحْوَى مَعَ بَقَاءِ مُوجِبِهِ، كَمَا لَا يُنْسَخُ الْقِيَاسُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: إِنْ كانت علة المنطوق لا تحتمل التغيير،
كَإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ، فَيَمْتَنِعُ نَسْخَ الْفَحْوَى؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ، وَإِنِ احْتَمَلَتِ النَّقْضَ جَازَ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، قَاصِدًا بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ "لِأَكْثَرَ مِنْهُ"*، ثُمَّ يَقُولُ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ عِلَّةِ حرمانه إلى العلة مواساته. وهذا التفصيل قوي جدا.
المسألة الخامسة عشرة: في الزيادة على النص
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ هَلْ تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ النَّصِّ أَمْ لَا؟ وذلك يختلف باختلاف الصور، فالزائد إما أن يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ أَوْ لَا. الْأَوَّلُ: الْمُسْتَقِلُّ: "وَهُوَ"* إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ، كَزِيَادَةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَيْسَ بِنَاسِخٍ، لِمَا "تَقَدَّمَهُ"** مِنَ الْعِبَادَاتِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ عِبَادَةٍ عَلَى الْعِبَادَاتِ لَا تَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَاتِ. انْتَهَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ فِي مِثْلِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ لِعَدَمِ التنافي. وإما أن تكون مِنْ جِنْسِهِ، كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 1؛ لأنها تجعلها غير الوسطي، و"هذا"*** قَوْلٌ بَاطِلٌ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا شُبْهَةَ دَلِيلٍ، فَإِنَّ الْوُسْطَى لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُتَوَسِّطَةَ في العدد، بل المراد بِهَا الْفَاضِلَةُ. وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُتَوَسِّطَةُ فِي الْعَدَدِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُخْرِجَةً لَهَا عَنْ كَوْنِهَا مِمَّا يُحَافَظُ عَلَيْهِ، فَقَدْ عُلِمَ تَوَسُّطُهَا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَصَارَتْ مُسْتَحِقَّةً لِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا وسطى.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: وَيَلْزَمُهُمْ زِيَادَةُ عِبَادَةٍ عَلَى الْعِبَادَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَزِيدَةَ تَصِيرُ أَخِيرَةً، وَتُجْعَلُ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ أَخِيرَةً غَيْرَ أَخِيرَةٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَأَلْزَمَهُمْ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ": بأنه لو كان عدد كل الوجبات قَبْلَ الزِّيَادَةِ عَشْرَةً، فَبَعْدَ الزِّيَادَةِ لَا يَبْقَى ذَلِكَ الْعَدَدُ، فَيَكُونُ نَسْخًا، يَعْنِي: وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ1. الثَّانِي: الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى الرَّكَعَاتِ، وَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجِلْدِ، وَزِيَادَةِ وَصْفِ الرَّقَبَةِ بِالْإِيمَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَغَيْرُهُمْ من المعتزلة كأبي علي، وأبي هاشم*، وَسَوَاءٌ اتَّصَلَتْ بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً من إجزاء الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِدُونِهَا، أَوْ غَيْرَ مَانِعَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَسْخٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي السَّبَبِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حِكْمَةٍ تُوجِبُ النَّسْخَ. حَكَاهُ الصَّيْمَرِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. قَالَ ابْنُ فُورَكَ، وَإِلْكِيَا: وَعُزِيَ إلى الشافعية أيضًا. الثالث: إن كان المزيد عليه ينفي الزِّيَادَةِ بِفَحْوَاهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، كَقَوْلِهِ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" 2 فَإِنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ، وَصَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ"، وَغَيْرُهُمَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إِنْ غَيَّرَتِ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغَيُّرًا شَرْعِيًّا، حَتَّى صَارَ لَوْ فَعَلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ.
ما كان يفعلها قبلها لم يتعد بِهِ، وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ "كَانَتْ"* نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ يَصِحُّ فِعْلُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ"، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمَا، وَحَكَاهُ سَلِيمٌ عَنِ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْإِسْتَرَابَادِيِّ1، وَالْبَصْرِيِّ2. الْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَتَّصِلَ بِهِ فَهِيَ نَسْخٌ، وَبَيْنَ أَنْ تَنْفَصِلَ عَنْهُ، فَلَا تَكُونُ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَيْضًا، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. السَّادِسُ: إِنْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُغَيِّرَةً لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كانت نسخًا، وإن لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِأَنْ كَانَتْ مُقَارَنَةً، لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ فُورَكَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ": وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ. السَّابِعُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إِنْ رَفَعَتْ حُكْمًا عَقْلِيًّا، أَوْ مَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَمْ تَكُنْ نَسْخًا؛ لِأَنَّا لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ الْأَحْكَامَ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ إِيجَابَهُ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ رَفْعَهَا يَكُونُ نَسْخًا، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ رَفْعَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَانَتْ نَسْخًا. حَكَى هَذَا التَّفْصِيلَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ" عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ فِي "الْمُعْتَمَدِ"، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ"، وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ فِي "الْبُرْهَانِ". قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إِنَّهُ أَجْوَدُ الطُّرُقِ وَأَحْسَنُهَا، فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كَمَا تَرَى. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ لَا حَاصِلَ لَهَا، وَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ عِنْدَ الْكُلِّ أَنَّ مَا رَفَعَ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَانَ نَسْخًا حَقِيقَةً، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامِ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، فَإِنَّ الْقَائِلَ: "أَنَا أَفْصِلُ"** بَيْنَ مَا رَفَعَ حكمًا
شَرْعِيًّا، وَمَا لَا يَرْفَعُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَهِيَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مِنْهُمْ هَلْ تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَتَكُونُ نَسْخًا، أَوْ لَا فَلَا تَكُونُ نَسْخًا؟ فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا "تَنْسَخُ، أَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا"* لَيْسَتْ بِنَسْخٍ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا رَفْعٌ أَمْ لَا. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَكَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يُنْسَخُ إِلَّا بِقَاطِعٍ، كَالتَّغْرِيبِ1، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ نَسْخًا نَفَاهُ؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَسْخًا قَبِلُوهُ؛ إِذْ لَا مُعَارَضَةَ. وَقَدْ رَدُّوا -يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ- بِذَلِكَ أَخْبَارًا صَحِيحَةً، لَمَّا اقْتَضَتْ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَرَدُّوا أَحَادِيثَ تُعَيِّنُ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ2، وَمَا وَرَدَ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ3، وَمَا وَرَدَ فِي إِيمَانِ الرَّقَبَةِ4، وَمَا وَرَدَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ5. انْتَهَى. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي طَالَتْ ذُيُولُهَا، وَكَثُرَتْ شُعَبُهَا، هَانَ عَلَيْكَ الْخَطْبُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ ما عرفته.
المسألة السادسة عشر: في النقصان من العبادة هل يكون نسخا
المسألة السادسة عشر: في النُّقْصَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا ... الْمَسْأَلَةُ السادسة عشرة: في النقصان من العبادة هل يكون نسخا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النُّقْصَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ نَسْخٌ لِمَا أُسْقِطَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا فِي جُمْلَةِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ أُزِيلَ وُجُوبُهُ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا، كَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ الْآمِدِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ. وَأَمَّا نَسْخُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، سَوَاءً كَانَ جُزْءًا لَهَا، كَالشَّطْرِ، أَوْ خَارِجًا كَالشَّرْطِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ. الْأَوَّلُ: أَنَّ نَسْخَهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ، بَلْ يَكُونُ بِمَثَابَةِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ، قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "الْمُعْتَمَدِ" عَنِ الْكَرْخِيِّ. الثَّانِي: أَنَّهُ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ ابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الشَّرْطِ، فَلَا يَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْجُزْءِ كَالْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَوَافَقَهُ الْغَزَالِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالُوا: لِأَنَّ الشَّرْطَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الْمَشْرُوطِ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ، وَهَذَا فِي الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ، أَمَّا الشَّرْطُ الْمُنْفَصِلُ، فَقِيلَ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ نَسْخَهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِمَّا لَا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قَبْلَ النَّسْخِ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجُزْءِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قَبْلَ النَّسْخِ بِدُونِهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخُهُ نَسْخًا لَهَا. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ". احْتَجَّ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الشَّرْطِ1 وَالشَّطْرِ2، بِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ، فلا يقتضي نسخ أحدهما نسخ الآخر.
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ لَافْتَقَرَتْ فِي وُجُوبِهَا إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ. وَإِنَّهُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ نَسْخَ الشَّطْرِ يَقْتَضِي نَسْخَ الْعِبَادَةِ، دُونَ نَسْخِ الشَّرْطِ، بِأَنَّ نُقْصَانَ الرَّكْعَةِ مِنَ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي رَفْعَ وُجُوبِ تَأْخِيرِ التَّشَهُّدِ، وَرَفْعَ إِجْزَائِهَا مِنْ دُونِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ بِدُونِ الرَّكْعَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ لِلْبَاقِي مِنَ الْعِبَادَةِ أَحْكَامًا مُغَايِرَةً لِأَحْكَامِهَا قَبْلَ رَفْعِ ذَلِكَ الشَّطْرِ، فَكَانَ النَّسْخُ مُغَايِرًا لِنَسْخِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ. وَأَيْضًا الثَّابِتُ فِي الْبَاقِي هُوَ الْوُجُوبُ الْأَصْلِيُّ، وَالزِّيَادَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى الْجَوَازِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنَّمَا الزَّائِلُ وُجُوبُهَا، فَارْتَفَعَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا إِلَى حكم شرعي، فلا يكون ذلك نسخا1.
المسألة السابعة عشرة: في الطريق التي يعرف بها كون الناسخ ناسخا
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كَوْنُ النَّاسِخِ نَاسِخًا وَذَلِكَ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقْتَضِيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ ما يدل على تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا وَتَأَخَّرَ الْآخَرُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ التَّقَدُّمُ فِي النُّزُولِ، لَا فِي التِّلَاوَةِ، فإن العدة بأربعة شهور وعشر سَابِقَةٌ عَلَى الْعِدَّةِ بِالْحَوْلِ فِي التِّلَاوَةِ، مَعَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ فِي اللَّفْظِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 1، فإن يَقْتَضِي نَسْخَهُ لِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 2. الثَّانِي: أَنْ يُعْرَفَ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا، أَوْ ما في معنى ذلك، كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها" 3.
الثَّالِثُ: أَنْ يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَجْمِهِ لِمَاعِزٍ وَلَمْ يَجْلِدْهُ1 فَإِنَّهُ يُفِيدُ نَسْخَ قَوْلِهِ: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمُهُ بِالْحِجَارَةِ" 2. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْسَخُ الْقَوْلَ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالْفِعْلِ عَلَى تَقَدُّمِ النَّسْخِ لِلْقَوْلِ بِقَوْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَنْسُوخًا بِمِثْلِهِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلُ مُبَيِّنٌ لِذَلِكَ. الرَّابِعُ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ، كَنَسْخِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ "شَهْرِ"* رَمَضَانَ، ونسخ الحقوق المعلقة بِالْمَالِ بِالزَّكَاةِ. ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَكَذَا حَدِيثُ "مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ" فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ" 3، قَالَ: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَسْخهِ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَدِلَّةِ بَيَانِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. قَالَ الْقَاضِي: يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَعَهُ خَبَرًا وَقَعَ بِهِ النَّسْخُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الصَّيْرَفِيُّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلًا عَلَى تَعَيُّنِ النَّصِّ لِلنَسْخِ، بَلْ جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّسْخِ وَالْغَلَطِ. الْخَامِسُ: نَقْلُ الصَّحَابِيِّ لِتَقَدُّمِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَتَأَخُّرِ الْآخَرِ؛ إِذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ وَاضِحٌ إِذَا كَانَ الْخَبِرَانِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَمَّا إِذَا قَالَ فِي الْمُتَوَاتِرِ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْآحَادِ، فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَنَقَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ. وَشَرَطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ كَوْنَ الرَّاوِي لَهُمَا وَاحِدًا. السَّادِسُ: كَوْنُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ شَرْعِيًّا، وَالْآخَرُ مُوَافِقًا لِلْعَادَةِ، فَيَكُونُ الشَّرْعِيُّ نَاسِخًا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِالنَّقْلِ عَنِ الْعَادَةِ، ثُمَّ يَرِدُ نَسْخُهُ وَرَدُّهُ إِلَى مَكَانِهِ. وَأَمَّا حَدَاثَةُ الصَّحَابِيِّ وَتَأَخُّرُ إِسْلَامِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دلال النَّسْخِ. وَإِذَا لَمْ يُعْلَمِ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَرَجَّحَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ ابْنُ الحاجب الوقف.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إِنْ عُلِمَ افْتِرَاقُهُمَا مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ، وَإِنْ جَوَّزَهُ قَوْمٌ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ، فَالْوَاجِبُ إِمَّا الْوَقْفُ عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا، أَوِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا لم يعلم شيء من ذلك1.
المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب في القياس وما يتصل به من الاستدلال
المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب في الْقِيَاسُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْفَصْلُ الأول: في تعريفه ... الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: تَقْدِيرُ شَيْءٍ عَلَى مِثَالِ شَيْءٍ آخَرَ، وَتَسْوِيَتُهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمِكْيَالُ مِقْيَاسًا، وَمَا يُقَدَّرُ بِهِ النِّعَالُ مِقْيَاسًا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ، أَيْ: لَا يُسَاوِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ قِسْتُ الشَّيْءَ، إِذَا اعْتَبَرْتُهُ، أَقِيسُهُ قَيْسًا وَقِيَاسًا، ومنه قيس الرأي، وسمي امرؤ الْقَيْسِ1 لِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ بِرَأْيهِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ "الصِّحَاحِ"، وَابْنُ أَبِي الْبَقَاءِ2 فِيهِ لُغَةً بِضَمِّ الْقَافِ، يُقَالُ: قُسْتُه أَقُوسُهُ قَوسًا؛ هُوَ عَلَى اللُّغَةِ الْأُولَى مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَعَلَى اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا، أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا، بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا، مِنْ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ3. كَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَاخْتَارَهُ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَّا. وَإِنَّمَا قَالَ: مَعْلُومٌ، لِيَتَنَاوَلَ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَجْرِي فِيهِمَا جَمِيعًا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِحَمْلِ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا إِعَادَةٌ لِذَلِكَ فَيَكُونُ تَكْرَارًا مِنْ غير فائدة.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا: بِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ "مُثْبِتٌ"* بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَاهِيَّةِ الْقِيَاسِ إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ آخَرَ، بِأَمْرٍ جَامِعٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ "أَيْضًا"**: بِأَنَّ إِثْبَاتَ لِفَظِ أَوْ فِي الْحَدِّ لِلْإِبْهَامِ، وَهُوَ يُنَافِي التَّعْيِينَ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْحَدِّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ مُسَاوَاةُ فَرْعٍ لأصل في علة الحكم، أو زيادته عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ أبو الحسين البصري: هو تَحْصِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ. وَقِيلَ: إِدْرَاجُ خُصُوصٍ فِي عُمُومٍ. وَقِيلَ: إِلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ. وَقِيلَ: إِلْحَاقُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: اسْتِنْبَاطُ الْخَفِيِّ مِنَ الْجَلِيِّ. وَقِيلَ: حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ. وَقِيلَ: "الْجَمْعُ بَيْنَ النَّظِيرَيْنِ"***، وَإِجْرَاءُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقِيلَ: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ1. وَقِيلَ: حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ2. وَقِيلَ: حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، بِضَرْبٍ مِنَ الشَّبَهِ3. وَعَلَى كُلِّ حَدٍّ مِنْ هَذِهِ الْحُدُودِ اعْتِرَاضَاتٌ يَطُولُ الْكَلَامُ بِذِكْرِهَا. وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي حَدِّهِ: اسْتِخْرَاجُ مِثْلِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ، لِمَا لَمْ يُذْكَرْ، بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا؛ فَتَأَمَّلْ هَذَا تَجِدْهُ صَوَابًا إِنْ شَاءَ الله.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الْقِيَاسِ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْحُكْمِ فَإِنَّهُ قَدِيمٌ، وَالْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فَإِنَّهُمَا حَادِثَانِ، وَالْجَامِعِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ "الْإِبْيَارِيُّ"*: الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وُضِعَ لَهُ اسْمُ الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِدْلَالُ الْمُجْتَهِدِ، وَفِكْرَةُ الْمُسْتَنْبَطِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ وَفَرْعِهِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضُوعِ1 الْقِيَاسِ: "فَقَالَ"** الرُّويَانِيُّ: وَمَوْضُوعُهُ طَلَبُ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، مِنَ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَعَانِيهَا؛ لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ دون ما ذكرناه.
الفصل الثاني: في حجية القياس
الفصل الثاني: في حجية القياس مدخل ... الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ اعْلَمْ: أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: كَمَا فِي الأودية، وَالْأَغْذِيَةِ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ الصَّادِرِ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى "أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ"* أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي "لَمْ"** يرد بها السمع.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعَقْلُ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعَقْلُ يَقْتَضِي المنع من التعبد به، والأولون قسمان: القسم الأول: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَقَعْ1. أَمَّا مَنِ اعْتَرَفَ بِوُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّمْعَ "دَلَّ"* عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هَلْ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: الْقَفَّالُ مِنَّا، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَّا، وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فقد أنكروا ذلك. والثاني: أن أبا الحسن الْبَصْرِيَّ زَعَمَ أَنَّ دَلَالَةَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ عَلَيْهِ ظَنِّيَّةٌ، وَالْبَاقُونَ قَالُوا: قَطْعِيَّةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقَاسَانِيَّ وَالنَّهْرَوَانِيَّ2 ذَهَبَا إِلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، أو يإيمائه3. وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: كَقِيَاسِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ قَالُوا بِسَائِرِ الْأَقْيِسَةِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّعَبُّدَ لَمْ يَقَعْ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يُوجَدْ فِي السَّمْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهِ، فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ، بَلْ تَمَسَّكَ فِي نَفْيِهِ بالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع العترة.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ التَّعَبُّدِ بِهِ، فَهُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: خَصَّصَ ذَلِكَ الْمَنْعَ بِشَرْعِنَا، وَقَالَ: لِأَنَّ مَبْنَى شَرْعِنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ. وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: الَّذِينَ قَالُوا: يَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ. انْتَهَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْمُثْبِتُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالثَّانِي: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَالثَّالِثُ: نَفْيُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَثُبُوتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ، وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ. وَالرَّابِعُ: نَفْيُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ والشَّرْعِيَّاتِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيُّ. انْتَهَى. وَالْمُثْبِتُونَ لَهُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ دَلِيلٌ بِالشَّرْعِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَرَدَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي "الرَّوْضَةِ"1، وَجَعَلَهُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنِ الْقِيَاسِ. قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَالنَّظَّامِ إِلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِقَوْلِهِ: يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ أيضًا اختلافًا آخر، وهو: هل دَلَالَةُ السَّمْعِ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَالْآمِدِيُّ إلى الثاني.
وأما المنكرون للقياس، فأول من باح بإنكاره النَّظَّامُ، وَتَابَعَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، كَجَعْفَرِ بْنِ حرب1، وجعفر بن مبشر2، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِيِّ3، وَتَابَعَهُمْ عَلَى نَفْيِهِ فِي "الْأَحْكَامِ" دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغْدَادِيُّ4 فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ "جَامِعِ الْعِلْمِ" أَيْضًا: لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي التَّوْحِيدِ، وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا دَاوُدَ، فَإِنَّهُ نَفَاهُ فِيهِمَا جَمِيعًا. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ، وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عن داود، والنهرواني، وَالْمَغْرِبِيِّ5، وَالْقَاسَانِيِّ: أَنَّ الْقِيَاسَ مُحَرَّمٌ بِالشَّرْعِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَأَمَّا دَاوُدُ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا حَادِثَةَ إِلَّا وَفِيهَا حُكْمٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ مَعْدُولٌ عَنْهُ بِفَحْوَى النَّصِّ وَدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ يُغني عَنِ الْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ دَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي "الْأَحْكَامِ": ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ جُمْلَةً، وَهُوَ قَوْلُنَا الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ به، والقول بالعلل باطل. انتهى.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ وَأَتْبَاعَهُ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَالِيُّ عَنِ الْقَاسَانِيِّ، والنَّهْرَوَانِيِّ الْقَوْلَ بِهِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْقِيَاسِ بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، فَالْقِيَامُ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ يَكْفِيهِمْ، وَإِيرَادُ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهَا، وَقَدْ جَاءُوا بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ، فَلَا نُطَوِّلُ الْبَحْثَ بِذِكْرِهَا. وَجَاءُوا بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ1، فَقَالُوا: دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بالقياس الشرعي الكتاب، والسنة، والإجماع.
الأدلة من القرآن الكريم
الأدلة من القرآن الكريم ... الأدلة من القرن الكريم: أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 1. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ "الْمُرُورُ"*، يُقَالُ: عَبَرْتُ عَلَى النَّهْرِ، "وَعَبَرْتُ النَّهْرَ"**، وَالْمَعْبَرُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُعْبَرُ عَلَيْهِ، والمِعْبَر: السَّفِينَةُ الَّتِي يُعْبَرُ فِيهَا، كَأَنَّهَا أَدَاةُ الْعُبُورِ، والعَبْرَة: الدَّمْعَةُ الَّتِي عَبَرَتْ مِنَ الْجَفْنِ، وَعَبَرَ الرُّؤْيَا: جَاوَزَهَا إِلَى مَا يُلَازِمُهَا. قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُجَاوَزَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهَا دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْقِيَاسُ عُبُورٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى حُكْمِ الْفَرْعِ، فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْأَمْرِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ الْمُجَاوَزَةُ فَقَطْ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّعَاظِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ: إِنَّهُ مُعْتَبَرٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ إِذَا لَمْ يَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِ مَعَادِهِ يُقَالُ: إِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، أَوْ قَلِيلُ الِاعْتِبَارِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} 2، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} 3، والمراد الاتعاظ.
الرَّابِعُ: يُقَالُ: السَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ حَقِيقَةٌ فِي الِاتِّعَاظِ، لَا فِي الْمُجَاوَزَةِ، فَحَصَلَ التَّعَارُضُ بَيْنَ مَا قُلْتُمْ وَمَا قُلْنَا، فَعَلَيْكُمْ بِالتَّرْجِيحِ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ مَعَنَا، فَإِنَّ الْفَهْمَ أَسْبَقُ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَقِيقَةٌ، لَكِنَّ شَرْطَ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَا يمنع، "وقد وجد ههنا مَانِعٌ"* فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} 1 فَقِيسُوا الذَّرَّةَ عَلَى الْبِرِّ كَانَ ذَلِكَ رَكِيكًا، لَا يَلِيقُ بِالشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهُ وَجَدَ مَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ على حقيقته. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُجَاوَزَةِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُجَاوَزَةِ أَمْرٌ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. بَيَانُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ عَلَى مَدْلُولِهِ، فَقَدْ عَبَرَ مِنَ الدَّلِيلِ إِلَى الْمَدْلُولِ، فَسَمِيُّ الِاعْتِبَارِ مُشْتَرِكٌ فِيهِ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ، وَبِالنَّصِّ، وَبِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَبِالْقِيَاسِ مِنَ الشَّرْعِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يُخَالِفُهُ الْآخَرُ بِخُصُوصِيَّتِهِ، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى مَا بِهِ الِامْتِيَازُ، لَا بِلَفْظِهِ، وَلَا بِمَعْنَاهُ، فَلَا يَكُونُ دَالًّا على النوع، الذي ليس إلا عبارة عن مَجْمُوعِ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ "وَجْهُهُ الِامْتِيَازُ، فَلَفْظُ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، لَا بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ"**. قَالَ: وَأَيْضًا فَنَحْنُ نُوجِبُ اعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ: الْأَوَّلُ: إِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّةِ الحكم، فههنا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا وَاجِبٌ. وَالثَّانِي: قِيَاسُ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ على تحريم التأفيف2. والثالث: الأقيسة في أمور الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهَا عِنْدَنَا وَاجِبٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُشَبِّهَ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ، فِي أَنْ لَا نَسْتَفِيدَ حُكْمَهُ إِلَّا مِنَ النَّصِّ. وَالْخَامِسُ: الِاتِّعَاظُ وَالِانْزِجَارُ، بِالْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ. فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَا يُسَمَّى اعْتِبَارًا؛ يَكُونُ خَارِجًا عَنْ عُهْدَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَثَبَتَ أن بيانه في صورة كَثِيرَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ دَلَالَةٌ أَلْبَتَّةَ عَلَى الأمر بالقياس الشرعي.
ثُمَّ "قَالَ"*: جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْمُجَاوَزَةِ أَوْلَى لوجهين: الأول: أنه يقال: فلان "اعتبر فاتعظ"** فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار، وذلك بوجب التَّغَايُرَ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ حَاصِلٌ فِي الِاتِّعَاظِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَسْتَدِلَّ بِشَيْءٍ آخَرَ عَلَى حَالِ نَفْسِهِ؛ لَا يَكُونُ مُتَّعِظًا، ثُمَّ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَيُجَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: بِالْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ قَاسَ هَذَا عَلَى هَذَا، فَاعْتَبَرَ، وَالْجَوَابُ الْجَوَابُ. وَيُجَابُ عَنِ الثَّانِي: بِمَنْعِ وُجُودِ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ فِي الِاتِّعَاظِ، فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَاتَّعَظَ بِهِ؛ لَا يُقَالُ فِيهِ: "إِنَّهُ"*** مُتَّصِفٌ بِالْمُجَاوَزَةِ، لَا لُغَةً، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا. وَأَيْضًا يُمْنَعُ وجود المجاوزة في القياس الشرعي، وليس في اللغة مَا يُفِيدُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مَأْمُورًا بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِكَوْنِهِ فِيهِ معنى الاعتبار، لكان كل اعتبار، أو عبورا مأمورا به، واللازم باطل، فالملزوم مِثْلُهُ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَشَرِّعِينَ، وَلَا مِنَ الْعُقَلَاءِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُرَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، أَوْ يُجْرِي دَمْعَ عَيْنِهِ، أَوْ يَعْبُرَ رُؤْيَا الرَّائِي، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَدْخَلُ فِي مَعْنَى الْعُبُورِ وَالِاعْتِبَارِ مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ، وَلَا الْتِزَامٍ، وَمَنْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ شَغَلَ الْحَيِّزَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ" عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} 1. قَالَ: فَهَذَا تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِعِدْلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2. وَأَوْجَبَ الْمِثْلَ، وَلَمْ يَقُلْ أَيَّ مِثْلٍ، فَوَكَلَ ذلك إلى اجتهادنا ورأينا.
وَأَمَرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَقَالَ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 1.انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ غَايَةَ مَا فِي آيَةِ الْجَزَاءِ هُوَ الْمَجِيءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّيْدِ، وَكَوْنُهُ مَثَلًا لَهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعَدْلَيْنِ، وَمُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِيجَابُ تَحَرِّي الصَّوَابِ فِي أَمْرِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 2 "فَأُولُو الْأَمْرِ"* هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الدَّلِيلِ عَنِ الْمَدْلُولِ، بِالنَّظَرِ فِيمَا يُفِيدُهُ مِنَ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ، أَوِ الْإِطْلَاقِ أَوِ التَّقْيِيدِ، أَوِ الْإِجْمَالِ أَوِ التَّبْيِينِ فِي نَفْسِ النُّصُوصِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَى اسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنْهُ. وَلَوْ سَلَّمْنَا انْدِرَاجَ الْقِيَاسِ تَحْتَ مُسَمَّى الِاسْتِنْبَاطِ، لَكَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا "بِمِثْلِ الْقِيَاسِ"** الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلَّتِهِ، وَقِيَاسِ الْفَحْوَى وَنَحْوِهِ، لَا بِمَا كَانَ مُلْحَقًا بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، الَّتِي هِيَ مَحْضُ رَأْيٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الشَّرْعِ بِمَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ، بَلْ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 3 الْآيَةَ. قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَمَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنَ الجهالة والنقص أجوز. و"يجاب عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ هَذَا مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَةِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَجَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ: إِنَّمَا جَازَ"*** ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَخْلُو مِنَ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ؛ لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ، بَلْ وَلَا نَظُنُّ ذَلِكَ، لما في فاعله من الجهالة والنقص.
وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ "أَيْضًا"* بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 1. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِمَنْعِ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ، وَلَا التزام، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر السابق على الأثر اللَّاحِقِ، وَكَوْنُ الْمُؤَثِّرِ فِيهِمَا وَاحِدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، الَّذِي هُوَ إِدْرَاجُ فَرْعٍ تَحْتَ أَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 2. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ، وَالْقِيَاسُ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مِثْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ، فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِمَنْعِ كَوْنِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْفَارِقِ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا تَسْوِيَةَ إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُتَوَازِنَةِ، وَلَا تَوَازُنَ إِلَّا عِنْدَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، لَا فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الرَّأْيِ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّنُونِ الزَّائِفَةِ، وَخَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الخيالات المختلفة.
أدلة القياس من السنة
أدلة الْقِيَاسِ مِنَ السُّنَّةِ: وَإِذَا عَرَفْتَ الْكَلَامَ عَلَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ، فَاعْلَمْ، أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَدَلُّوا لِإِثْبَاتِهِ مِنَ السنة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أحمد، أبو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو1 -ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: "كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ " قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ " قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهُ الَّذِي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ" 2. وَالْكَلَامُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ يَطُولُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِمَّا تُلقي بِالْقَبُولِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: أن اجْتِهَادَ الرَّأْيِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ في الطلب للحكم من النصوص الخفية.
ورد: بأنه قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، بَعْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْخَفِيَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الرَّدِّ: بِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَفْهُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الرَّأْيِ عَلَى مَا عَدَا الْقِيَاسَ فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِهِ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ كَمَا يَكُونُ بِاسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ والسنة يكون بِالتَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ فِي الْأَشْيَاءِ، أَوِ الْحَظْرِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، أَوِ التَّمَسُّكِ بِالْمَصَالِحِ، أَوِ التَّمَسُّكِ بِالِاحْتِيَاطِ. وَعَلَى تَسْلِيمِ دُخُولِ الْقِيَاسِ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلَّ قِيَاسٍ، بَلِ الْمُرَادُ الْقِيَاسَاتُ الَّتِي يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا، كَالْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ، وَالْقِيَاسِ الَّذِي قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْقِيَاسَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَسَالِكِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْخَيَالَاتِ الْمُخْتَلَّةِ، وَالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ. وَأَيْضًا فَعَلَى التَّسْلِيمِ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ؛ إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكْمُلْ، فَيُمْكِنُ عَدَمُ وِجْدَانِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ كَمُلَ الشَّرْعُ، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1؛ وَلَا مَعْنَى لِلْإِكْمَالِ إِلَّا وَفَاءُ النُّصُوصِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّرْعِ، إِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، أَوْ بِانْدِرَاجِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الشَّامِلَةِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وَقَوْلُهُ: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْقِيَاسَاتِ، كَقَوْلِهِ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يقضى" 4
وَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ، فَقَالَ: أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حرام، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ" 1. وَقَالَ لِمَنْ أَنْكَرَ وَلَدَهُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ أَسْوَدَ: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا أَلْوَانُهَا؟ " قَالَ: حَمُرٌ، قَالَ: "فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمِنْ أَيْنَ؟ " قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: "وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ" 2. وَقَالَ لِعُمَرَ، وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ، وَهُوَ صَائِمٌ: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ" 3. وَقَالَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" 4. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَاسَاتٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى صَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ5 جزءا في أقيسته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويجاب عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ صَادِرَةٌ عَنِ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ، الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا جَاءَنَا بِهِ عَنْهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 6. وَيَقُولُ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ الذي كلامنا فيه إنما هو قياس من لم تثبت لَهُ الْعِصْمَةُ، وَلَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَلَا كَانَ كَلَامُهُ وَحْيًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. الْأَمَّارَةِ، وَبِعَقْلِهِ الْمَغْلُوبِ بِالْخَطَإِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْقِيَاسَاتِ الصَّادِرَةِ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الأدلة من الإجماع
الأدلة من الإجماع: وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ1. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: وَقَدْ بَلَغَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِجَمَاهِيرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَمَدَ اشْتِهَارُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، شَرْقًا وَغَرْبًا، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ مُتَأَخِّرِينَ. قَالَ: وَهَذَا "مِنْ"* أَقْوَى الْأَدِلَّةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِمَنْعِ ثُبُوتِ هَذَا الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِذَلِكَ إِنَّمَا جَاءُونَا بِرِوَايَاتٍ عَنْ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَحْصُورِينَ، فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لِجَمِيعِهِمْ، مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَقْطَارِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ لِمَا قَالَهُ الْبَعْضُ، كَمَا ذَلِكَ معروف؟! بيانه أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْجِدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ2، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ "مَا سَلَكَهُ مِنَ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ3 عَلَى أَقْوَالٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ على بعض"**.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ، وَأُمٍّ، وَإِخْوَةٍ لِأُمٍّ، وَإِخْوَةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ1. وَهَكَذَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ، وَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَقَدْ أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقِيَاسَاتِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهَا، وَالَّتِي قُطِعَ فِيهَا بِنَفْيِ الْفَارِقِ. فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، الَّذِي اعْتَبَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وأثبتوه بِمَسَالِكَ تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ، وَتُسَافِرُ فِيهَا الْأَذْهَانُ، حَتَّى تَبْلُغَ إِلَى مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَتَتَغَلْغَلَ فِيهَا الْعُقُولُ، حَتَّى تَأْتِيَ بِمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ2، وَلَا مِنَ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ، فِي قَبِيلٍ وَلَا دَبِيرٍ3. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا" 4. وَجَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَبِمَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُصَحِّحُ دَلَالَتَهُ وَيُؤَيِّدُ بَرَاهِينَهُ. وَإِذَا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَاهُ وَتَقَرَّرَ لَدَيْكَ جَمِيعُ مَا قَرَّرْنَاهُ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَأْخُوذَ بِهِ هُوَ مَا وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهِ، وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ، عَلَى اصْطِلَاحِ مَنْ يُسَمِّي ذَلِكَ قِيَاسًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ مَفْهُومِ الموافقة.
ثُمَّ اعْلَمْ: أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ لَمْ يَقُولُوا بِإِهْدَارِ كُلِّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا، وَإِنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، أَوْ مَقْطُوعًا فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، بَلْ جَعَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقِيَاسِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ، مَشْمُولًا بِهِ، مُنْدَرِجًا تَحْتَهُ، وَبِهَذَا يَهُونُ عَلَيْكَ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ عِنْدَكَ مَا اسْتَعْظَمُوهُ، وَيَقْرُبُ لَدَيْكَ مَا بَعَّدُوهُ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ صَارَ لَفْظِيًّا، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ، وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ طَرِيقَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَافَ الْمَعْنَوِيَّ، لَا عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، ولا عرفا، وقد قدمنا لك أنما جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَسْتَحِقُّ تَطْوِيلَ ذُيُولِ الْبَحْثِ بِذِكْرِهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَنْهَضَ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ، فَإِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِخْبَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهَا دِينَهَا، وَبِمَا أَخْبَرَهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَهَا عَلَى الْوَاضِحَةِ الَّتِي لِيَلُهَا كَنَهَارِهَا. ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ صَحِيحٍ، وَفَهْمٍ صَالِحٍ أَنَّ فِي عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمُطْلَقَاتِهِمَا، وَخُصُوصِ نُصُوصِهِمَا مَا يَفِي بِكُلِّ حَادِثَةٍ تَحْدُثُ، وَيَقُومُ بِبَيَانِ كُلِّ نَازِلَةٍ تَنْزِلُ، عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَهُ، وَجَهِلَهُ من جهله.
الفصل الثالث: في أركان القياس
الفصل الثالث: في أركان القياس مدخل ... الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ، وَالْحُكْمُ. وَلَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَرْكَانِ فِي كُلِّ قِيَاسٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِالْحُكْمِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ إِلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ بِغَيْرِ أَصْلٍ، قَالَ: وَهُوَ مِنْ خَلْطِ الِاجْتِهَادِ بِالْقِيَاسِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ من أصل، "لأن الفروع"* لَا تَتَفَرَّعُ إِلَّا عَنْ أُصُولٍ. انْتَهَى. وَالْأَصْلُ يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا: مَا يَقْتَضِي الْعِلْمُ بِهِ الْعِلْمَ بِغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى إِلَّا بِهِ. وَمِنْهَا: الَّذِي يُعْتَبَرُ به ما سواه.
وَمِنْهَا الَّذِي يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا1. وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ2، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْمُعْتَزِلَةُ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْأَصْلُ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ بَرْهَانَ: إِنَّ هَذَا النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، يَرْجِعُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، فَلَا مُشَاحَّةَ3 فِيهِ، أَوْ إِلَى اللُّغَةِ "فَهُوَ يَجُوزُ"* إِطْلَاقُهُ عَلَى ما ذكر4، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْغَالِبِ، وَتَارَةً عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، كَقَوْلِهِمُ: الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَتَارَةً عَلَى إِرَادَةِ التَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِمْ: خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ مَحَلٍّ، وَإِيجَابُ الطَّهَارَةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: يُطْلَقُ الْأَصْلُ عَلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَعَلَى مَا يُعْرَفُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ "لَمْ"** يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، كَقَوْلِنَا: تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ أَصْلٌ. وَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْخَمْرُ أَوِ النَّصُّ، أَوِ الْحُكْمُ. قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ أَصْلًا. انْتَهَى. وَعَلَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ مَحَلَّ الْوِفَاقِ أَصْلًا، وَمَحَلَّ الْخِلَافِ فَرْعًا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِتَطْوِيلِ الْبَحْثِ فِي هَذَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ. فَالْأَصْلُ: هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَحَلِّ الْحُكْمِ، لَا لِنَفْسِ الْحُكْمِ، وَلَا لِدَلِيلِهِ. وَالْفَرْعُ: هُوَ الْمُشَبَّهُ، لَا لِحُكْمِهِ. وَالْعِلَّةُ: هِيَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَالْحُكْمُ: هُوَ ثَمَرَةُ الْقِيَاسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا ثَبَتَ لِلْفَرْعِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لأصله.
شروط القياس المعتبرة في المقيس عليه
شروط القياس المعتبرة في المقيس عليه ... الشروط الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْأَصْلِ: وَلَا يَكُونُ الْقِيَاسُ صَحِيحًا إِلَّا بِشُرُوطٍ اثْنَيْ عَشَرَ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهَا فِي الْأَصْلِ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْفَرْعِ، ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا.
فِيهِ بِأَنْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ حُكْمٌ ابْتِدَاءً، أو شرع ونسخ ولم يمكن بناء الفرع عليه. الثاني: أن يكن الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ شَرْعِيًّا، فَلَوْ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَحْثَنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَثْبُتُ الْقِيَاسُ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، جَوَّزَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يُجَوِّزِ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ سَمْعِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا لَمْ تَكُنْ طَرِيقُهُ سَمْعِيَّةً لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَنْفِي التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ العقلين، لا عند من يثبتها. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ، وَهُوَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ. وَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْمُخَالَفَةِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ حُكْمَهُمَا "حُكْمُ"* النُّطْقِ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْقِيَاسِ "فَيَلْحَقُ"** بِهِ. انْتَهَى1. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهِمَا الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، كَمَا يُثْبِتُهُمَا بِالْمَنْطُوقِ. وَأَمَّا مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي عَدَمُ الْجَوَازِ مَا لَمْ يُعْرَفِ النَّصُّ الَّذِي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، كَالنَّصِّ، فَإِذَا جَازَ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، جَازَ عَلَى الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ. الخامس: أن لا يكون الأصل الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ فَأَجَازُوهُ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ؛ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ إِنِ اتَّحَدَتْ كَانَ ذِكْرُ الْأَصْلِ الثَّانِي تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ، فَيُسْتَغْنَى عَنْهُ بِقِيَاسِ الْفَرْعِ الثَّانِي عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنِ اختلفت لم
ينعقد القياس الثاني، لعدم اشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَقَسَّمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنَ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ نَفْسُ الْمَعْنَى، الَّذِي ثَبَتَ بِهِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي قِيسَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: الْجَوَازُ. وَالثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: الْمَنْعُ، وَهُوَ الَّذِي يَصِحُّ "عِنْدِي"* الْآنَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِثْبَاتِ حُكْمٍ فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ فِي "الْقَوَاطِعِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الْغَزَالِيُّ غَيْرَهُ. السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ شَامِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ، أَمَّا لَوْ كَانَ شَامِلًا لَهُ، خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْعًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ ضَائِعًا، لِخُلُوِّهِ عَنِ الْفَائِدَةِ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ احْتِيجَ إِلَى إِثْبَاتِهِ أَوَّلًا، وَجَوَّزَ جَمَاعَةٌ الْقِيَاسَ عَلَى الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي نَفْسِهِ لَا يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ، فَسُقُوطُ ذَلِكَ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْلَى. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَصْلِ، فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَقَطْ، لِيَنْضَبِطَ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ. وَشَرَطَ آخَرُونَ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَارَ فِي "الْمُنْتَهَى" أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِنْ كَانَ مُقَلِّدًا لَمْ يَشْتَرِطِ الْإِجْمَاعَ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اشْتَرَطَ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقْتَدِيًا بِإِمَامٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَلَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَمْنَعَهُ. الثَّامِنُ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ ذَا قِيَاسٍ مُرَكَّبٍ، وَذَلِكَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَحَدِهِمَا بِعِلَّةٍ "وَعِنْدَ الْآخَرِ بِعِلَّةٍ"** أُخْرَى يَصْلُحُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَهَذَا يُقَالُ لَهُ: مُرَكَّبُ الْأَصْلِ، "وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ*** لِاخْتِلَافِهِمْ فِي نَفْسِ
الْوَصْفِ، وَلَكِنْ مَنَعَ أَحَدُهُمَا وَجُودَهَا فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا يُقَالُ لَهُ مُرَكَّبُ الْوَصْفِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ، هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَصْلِ أَمْ لَا؟ وَكَلَامُ الصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ بِالْأَوَّلِ، وَخَالَفَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وغيرهما، فجعلوه متناولا لقسمين، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَالْجُمْهُورُ على اعتباره، وَخَالَفَهُمْ جَمَاعَةٌ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ، وَقَدْ طَوَّلَ الْأُصُولِيُّونَ، وَالْجَدَلِيُّونَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. التَّاسِعُ: أَنْ لَا نَكُونَ مُتَعَبِّدِينَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَانْ تَعَبَّدْنَا فِيهِ بِالْقَطْعِ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَقَدْ ضَعَّفَ الْإِبْيَارِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ، وَقَالَ: بَلْ مَا تَعَبَّدْنَا فِيهِ بِالْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ، الَّذِي يُفِيدُهُ1. وَقَدْ قسم المحققون القياس إلى ما لا يفيد العلم، وإلى ما يُفِيدُهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ": لَعَلَّ هَذَا الشَّرْطَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ "الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ، فَلَوْ كَانَ قَطْعِيًّا، وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ قَطْعًا، وَوُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعًا، فَقَدْ عَلِمْنَا الْحُكْمَ قَطْعًا، وَمَنْ نَظَرَ لِأَنَّ دَلِيلَ"* الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا، وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ وَوُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعًا فَنَفْسُ الْإِلْحَاقِ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ. الْعَاشِرُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ2، وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ، وَمَا يُشَابِهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ إِثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ مَعَ مُنَافِيهِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْخَارِجُ عَنِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الفخر الرازي، والآمدي، وابن الحاجب وغيره. وَأَطْلَقَ ابْنُ بَرْهَانَ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، جَوَازُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُدِلَ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ فَمَنَعُوهُ، وَكَذَلِكَ منع منه الكرخي إلا بإحدى خلال:
إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْأُصُولِ قَدْ نَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ. ثَانِيَتُهَا: أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى تَعْلِيلِ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ. ثَالِثَتُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ عَلَى بَعْضِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُغَلَّظًا، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ ثَابِتًا قَبْلَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، أَوِ الضِّدَّيْنِ1، وَهُوَ مُحَالٌ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ شُرُوطًا، وَالْحَقُّ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا. فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ مُعَلَّلٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ2 وَالشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى. وَمِنْهَا: أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرَ مَحْصُورٍ بِالْعَدَدِ. قَالَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَمِنْهَا: الِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، قَالَهُ الْبَعْضُ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَمِنْهَا: تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلٍّ بوضوح، ذكره البعض وخالفهم الجمهور*
مباحث العلة
مباحث العلة: تعريف العلة: وَاعْلَمْ: أَنَّ الْعِلَّةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّهَا الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.
قَالَ ابْنُ فُورَكَ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الشَّبَهِ، وَمَنَعَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَاسِيِّينَ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ إِذَا لَاحَ بَعْضُ الشَّبَهِ. وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ قِيَاسٍ. وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لما يتغير الشئ بِحُصُولِهِ، أَخْذًا مِنَ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ؛ لأن تأثرها فِي الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِي ذَاتِ الْمَرِيضِ، يُقَالُ: اعْتَلَّ فُلَانٌ، إِذَا حَالَ عَنِ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ، وَهُوَ مُعَاوَدَةُ الشُّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِهَا يُعَاوِدُ النَّظَرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمُعَرِّفَةُ لِلْحُكْمِ، بِأَنْ جُعِلَتْ عَلَمًا عَلَى الْحُكْمِ، إِنْ وُجِدَ الْمَعْنَى وُجِدَ الْحُكْمُ، قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ" عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَصَاحِبُ "الْمِنْهَاجِ"1. الثَّانِي: أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا، لَا بِجْعَلِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى جَعْلِ جَاعِلٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا مُوجِبَةً بِذَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ قَرِيبٌ لَا باس به. الرابع: أنها الوجبة بِالْعَادَةِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْبَاعِثُ عَلَى التَّشْرِيعِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ صَالِحَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ. السَّادِسُ: أَنَّهَا الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّازِيِّ، وابنِ الْحَاجِبِ. السَّابِعُ: أَنَّهَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا. وَلِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ، فَيُقَالُ لَهَا: السَّبَبُ، وَالْأَمَارَةُ، وَالدَّاعِي، وَالْمُسْتَدْعِي، وَالْبَاعِثُ، وَالْحَامِلُ، وَالْمَنَاطُ، وَالدَّلِيلُ، وَالْمُقْتَضِي، وَالْمُوجِبُ، وَالْمُؤَثِّرُ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى "صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ كَالْحُكْمِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْحُكْمِ، كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى"* الْعِلَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلَيْنِ يُعْلَمُ بِأَحَدِهِمَا أَنَّهَا عِلَّةٌ، وَبِالْآخَرِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْلَمُ صِحَّةُ الْعِلَّةِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وارتفاعه بارتفاعها.
الشروط المعتبرة في العلة
الشروط المعتبرة في الْعِلَّةِ: وَلَهَا شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً. هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَمُرَادُهُمْ بِالتَّأْثِيرِ: الْمُنَاسَبَةُ، قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": مَعْنَى كَوْنِ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ: هُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ عِنْدَ ثُبُوتِهَا لِأَجْلِهَا، دُونَ شَيْءٍ سِوَاهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إنها جالبة لحكم وَمُقْتَضِيَةٌ لَهُ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا، بِأَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهَا لِحِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، لَا حِكْمَةٍ مُجَرَّدَةٍ لِخَفَائِهَا، فَلَا يَظْهَرُ إِلْحَاقُ غَيْرِهَا بِهَا. وَهَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا نَفْسَ الْحُكْمِ، وَهِيَ الْحَاجَةُ إِلَى جَلْبِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ؟ قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": يَجُوزُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَمْتَنِعُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِهَا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا، أَيْ: مَظِنَّتِهَا بَدَلًا عَنْهَا، مَا لم يعارضه قياس1.
الثالث: أن تكون ظاهرة جلبة، وَإِلَّا لَمْ يُمْكِنْ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْفَرْعِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَخْفَى مِنْهُ، أو مساويه لَهُ فِي الْخَفَاءِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي "جَدَلِهِ"1. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً بِحَيْثُ لَا يَرُدُّهَا نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يُعَارِضَهَا مِنَ الْعِلَلِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَقْوَى أَحَقُّ بِالْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ النَّصَّ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ مِنَ الْقِيَاسِ. السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً، أَيْ: كُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ، لِتَسْلَمَ مِنَ النَّقْضِ وَالْكَسْرِ، فَإِنْ عَارَضَهَا نَقْضٌ أَوْ كَسْرٌ بَطَلَتْ. السَّابِعُ: أَنْ لَا تَكُونَ عَدَمًا فِي الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ، أَيْ: لَا يبطل الحكم الوجودي بالوصف العدمي، قاله الجماعة. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازِهِ. قَالَ الْمَانِعُونَ: لَوْ كَانَ الْعَدَمُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ؛ لَكَانَ مُنَاسِبًا أو مظنة، واللازم باطل. وأجيب يمنع بُطْلَانِ اللَّازِمِ. الثَّامِنُ: أَنْ لَا تَكُونَ الْعِلَّةُ المتعدية هي المحل، أو جزء مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ تَعْدِيَتِهَا. التَّاسِعُ: أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِهِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ. الْعَاشِرُ: أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُهَا مُسَلَّمَةً، أَوْ مَدْلُولًا عَلَيْهَا. كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُعَلَّلًا بِالْعِلَّةِ الَّتِي يُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ، بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ "كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ2*. الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنْ لَا تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْفَرْعِ حُكْمًا، وَلِلْأَصْلِ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَهُ3. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ لَا تُوجِبَ ضِدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ شَاهِدَةً لحكمين متضادين، قاله الأستاذ أبو منصور.
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ ثُبُوتُهَا عَنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ رَدَّ الْفَرْعِ إِلَيْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا شَرْعِيًّا كَالْحُكْمِ. ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي "جَدَلِهِ". السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا مُقَدَّرًا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، خِلَافًا لِلْأَقَلِّينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. الثَّامِنَ عَشَرَ: إن كانت مستنبطة، فالشرط أن لا تر جع عَلَى الْأَصْلِ بِإِبْطَالِهِ، أَوْ إِبْطَالِ بَعْضِهِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى تَرْكِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ؛ إِذِ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّصِّ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ، وَالْفَرْعُ لَا يَرْجِعُ عَلَى إِبْطَالِ أَصْلِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ بِالْإِبْطَالِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: إِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً، فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تُعَارَضَ بِمُعَارِضٍ منافٍ، مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ1. الْعِشْرُونَ: إِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً، فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، أَيْ: حُكْمًا غَيْرَ مَا أَثْبَتَهُ النَّصُّ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى، تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: إِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ شَرْطٌ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُوجِبَةً لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَيْهَا مُتَنَاوِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ، لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ حِينَئِذٍ عَنِ الْقِيَاسِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا تَكُونَ مُؤَيِّدَةً لِقِيَاسِ أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ عَلَى أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ. فهذه شرط العلة.
ما لا يعتبر من الشروط في العلة
ما لا يعتبر من الشروط في العلة: وَقَدْ ذُكِرَتْ لَهَا شُرُوطٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ. مِنْهَا: مَا شَرَطَهُ فِيهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ تَعَدِّي الْعِلَّةِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ وُقِفَتْ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي غَيْرِهِ.
وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً، أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا: صَحَّ التَّعْلِيلُ بِهَا1. حَكَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ، وَخَالَفَهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، فَنَقَلَ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. انْتَهَى. وَأَمَّا إذا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ مُسْتَنْبَطَةً: فَهِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ: بِالْمَنْعِ. وَبِمِثْلِهِ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: بِالْجَوَازِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": كَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الْغُلَاةِ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَيَقُولُ: هِيَ أَوْلَى مِنَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ وُقُوفَهَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَنِ الْأَصْلِ "كَمَا أَوْجَبَ تَعَدِّيهَا ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ فيغيره فَصَارَ وُقُوفُهَا مُؤَثِّرًا"* فِي النَّفْيِ، كَمَا كَانَ تَعَدِّيهَا مُؤَثِّرًا فِي الْإِثْبَاتِ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ فَاسِدٌ، واستدلال باطل. ومنها: أن لا يَكُونَ وَصْفُهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا، عِنْدَ قَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةً؟! وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ. وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُكْمِهِ عِنْدَ قَوْمٍ. وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بَلْ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ وَمِنْهَا: الْقَطْعُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ عِنْدَ قَوْمٍ، مِنْهُمُ: الْبَزْدَوِيُّ. وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، لَا عند الجمهور.
القول في تعدد العلل
القول في تَعَدُّدِ الْعِلَلِ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ مَعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ1؛ فَإِنْ كَانَ الِاتِّحَادُ بِالنَّوْعِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ بِالشَّخْصِ، كَتَعْلِيلِ إِبَاحَةِ قَتْلِ زَيْدٍ بِرِدَّتِهِ، وَقَتْلِ عَمْرٍو بِالْقِصَاصِ، وَقَتْلِ خَالِدٍ بِالزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الْجَوَازِ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاتِّحَادُ بِالشَّخْصِ، فَقِيلَ: لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِهِ بِعِلَلٍ عَقْلِيَّةٍ. وَحَكَى الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا وَجَبَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ بِعِلَّتَيْنِ، فَقِيلَ: لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِارْتِفَاعِهِمَا جَمِيعًا. وَقِيلَ: يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ إِحْدَاهُمَا. وَأَمَّا تَعَدُّدُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، مَعَ الِاتِّحَادِ فِي الشَّخْصِ، كَتَعْلِيلِ قتل زيد بكونه قتل مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَزِنًى مَعَ الْإِحْصَانِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ تَعْلِيلُ إِبَاحَةِ دَمِهِ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ. الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، مَنْصُوصَةً كَانَتْ أَوْ مُسْتَنْبَطَةً. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِهِمْ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ". قَالَ: وَبِهَذَا نَقُولُ؛ لِأَنَّ الْعِلَلَ عَلَامَاتٌ وَأَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ، لَا مُوجِبَةٌ لَهَا، فَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": إِنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. الثَّالِثُ: الْجَوَازُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ2، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَأَتْبَاعُهُ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ هَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي نَقْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ عَنِ القاضي، كما صرح به في "مُخْتَصَرُ الْمُنْتَهَى"، وَلَكِنَّ النَّقْلَ عَنِ الْقَاضِي مُخْتَلِفٌ كما عرفته.
الرَّابِعُ: الْجَوَازُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ دُونَ الْمَنْصُوصَةِ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى"، وَابْنُ الْمُنِيرِ فِي "شَرْحِهِ لِلْبُرْهَانِ"، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْجَوَازِ. وَكَمَا ذَهَبُوا إِلَى الْجَوَازِ فَقَدْ ذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى الوقوع، ولم يمنع من ذلك عقل ولا شرع.
الشروط المعتبرة في الفرع
الشروط المعتبرة في الْفَرْعِ: وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَرْعِ فَأُمُورٌ أربعة: أحدهما: مُسَاوَاةُ عِلَّتِهِ لِعِلَّةِ الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: مُسَاوَاةُ حُكْمِهِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى حكم الأصل.
الفصل الرابع: في الكلام على مسالك العلة وهي طرقها الدالة عليها
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وهي طرقها الدالة عليها مدخل ... الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وَهِيَ طُرُقُهَا الدَّالَّةُ عَلَيْهَا وَلَمَّا كَانَ لَا يُكْتَفَى فِي الْقِيَاسِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْجَامِعِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، بَلْ لَا بُدَّ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ الْأَدِلَّةُ إِمَّا بالنص، أَوِ الْإِجْمَاعُ، أَوِ الِاسْتِنْبَاطُ، احْتَاجُوا إِلَى بَيَانِ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ أَضَافَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ إِلَى الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلًا رَابِعًا، وَهُوَ الْعَقْلُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْجُمْهُورُ، بَلْ جَعَلُوا طَرِيقَ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ هُوَ السَّمْعُ فَقَطْ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ. فَقَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": هِيَ عَشْرَةٌ: النَّصُّ، وَالْإِيمَاءُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمُنَاسَبَةُ، وَالتَّأْثِيرُ، وَالدَّوَرَانُ، وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، وَالشَّبَهُ، وَالطَّرْدُ، وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ. قال: وأمور أخر اعتبرها قوم، هي عِنْدَنَا ضَعِيفَةٌ. انْتَهَى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي تَقْدِيمِ مَسْلَكِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَسْلَكِ النَّصِّ، أَوْ مَسْلَكِ النَّصِّ عَلَى مَسْلَكِ الْإِجْمَاعِ. فَمَنْ قَدَّمَ الْإِجْمَاعَ نَظَرَ إِلَى كَوْنِهِ أَرْجَحَ مِنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ. وَمَنْ قَدَّمَ النَّصَّ نَظَرَ إِلَى كَوْنِهِ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ فِي التَّأْلِيفِ، فَلَا مُشَاحَّةَ فِيهِ1. وَسَنَذْكُرُ من المسالك ههنا أحد عشر مسلكا:
المسلك الأول: الإجماع
الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: الْإِجْمَاعُ وَهُوَ نَوْعَانِ: إِجْمَاعٌ عَلَى عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، كَتَعْلِيلِ وِلَايَةِ الْمَالِ بِالصِّغَرِ، وَإِجْمَاعٍ عَلَى أَصْلِ التَّعْلِيلِ -وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ- كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ مُعَلِّلٌ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَاذَا هِيَ1. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الْقِيَاسِيِّينَ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقِيَاسِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، فَلَا تَتِمُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ بِدُونِهِمْ. وَقَدْ تَكَلَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" لِدَفْعِ هَذَا فَقَالَ: بِأَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَيْسُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَلَا مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَدَرَتْ عَنِ الِاجْتِهَادِ وَالنُّصُوصُ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ. انتهى. وهذا كلام يقتضي من قاله الْعَجَبَ، فَإِنَّ كَوْنَ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَيْسُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلَاتِ، وَأَقْبَحِ التَّعَصُّبَاتِ، ثُمَّ دَعْوَى أَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُعْرَفِ النَّصُّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَهَذَا يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى نَفْيِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، بَلْ يَكْتَفُونَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ فَزَادُوا هَذَا الْمَسْلَكَ ضَعْفًا إِلَى ضَعْفِهِ.
المسلك الثاني: النص على العلة
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ" وَنَعْنِي بِالنَّصِّ: مَا يَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى الْعِلَّةِ ظَاهِرَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ قَاطِعَةً أَوْ مُحْتَمَلَةً. أَمَّا الْقَاطِعُ: فَمَا يَكُونُ صَرِيحًا، وَهُوَ قَوْلُنَا: لِعِلَّةِ كَذَا، أَوْ لِسَبَبِ كَذَا، أَوْ لِمُؤَثِّرِ كَذَا، أَوْ لِمُوجِبِ كَذَا، أَوْ لِأَجْلِ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 1. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ قَاطِعًا فَثَلَاثَةٌ: اللَّامُ، وَإِنَّ، وَالْبَاءُ. أَمَّا اللَّامُ: فَكَقَوْلِنَا ثَبَتَ لِكَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2. وَأَمَّا "إِنَّ" فَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ" 3. وَأَمَّا الْبَاءُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4 هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَتَى وجدنا في كلام الشارع ما يد ل عَلَى نَصْبِهِ أَدِلَّةً وَإِعْلَامًا ابْتَدَرْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى مَا يُسْلَكُ. وَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْأَخْذِ بِالْعِلَّةِ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَخْذُ بِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، أَمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي النَّافُونَ لِلْقِيَاسِ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا لَفْظِيًّا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الخطب، ويصغر ما تعاظم مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: إِنَّ الْأَخْذَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَيْسَ قِيَاسًا وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِمْسَاكٌ بِنَصِّ لَفْظِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ عَنْ كُلِّ مَا تَجْرِي الْعِلَّةُ فِيهِ، كَانَ الْمُتَعَلِّقُ به مستدلا بلفظ قاضٍ بالعموم5.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ، وَهِيَ: كَيْ، وَاللَّامُ، وَإِذَنْ، وَمِنْ، وَالْبَاءُ، وَالْفَاءُ، وَإِنَّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَهِيَ: لِعِلَّةِ كَذَا، لِمُوجِبِ كَذَا، بِسَبَبِ كَذَا، لِمُؤَثِّرِ كذا، لأجل كذا، "لجزاء كذا، لعلم كذا"*، لمقتضى كَذَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: عَلَّلْتُ بِكَذَا، وَشَبَّهْتُ كَذَا بِكَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ السِّيَاقِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا. وَقَدْ قَسَّمُوا النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ إِلَى صَرِيحٍ، وَظَاهِرٍ. قَالَ الْآمِدِيُّ: فَالصَّرِيحُ هُوَ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا فِي اللُّغَةِ لَهُ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، بَلِ الْمَنْطُوقُ بِالتَّعْلِيلِ فِيهِ عَلَى حَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمَعْنَى. انْتَهَى. ثُمَّ الصَّرِيحُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ. أَعْلَاهَا أَنْ يَقُولَ: لِعِلَّةِ كَذَا، أَوْ لِسَبَبِ كَذَا، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَبَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: لِأَجْلِ كَذَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ كَذَا. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ دُونَ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ تُعْلَمُ بِهِ الْعِلَّةُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لِأَجْلٍ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْعِلَّةِ، بِوَاسِطَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا لِأَجْلِهَا الْحُكْمُ، وَالدَّالُّ بِلَا وَاسِطَةٍ أَقْوَى، وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَبَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: كَيْ يَكُونَ كَذَا، فَإِنَّ الْجُوَيْنِيَّ فِي "الْبُرْهَانِ" جَعَلَهَا مِنَ الصَّرِيحِ، وَخَالَفَهُ الرَّازِيُّ. وَبَعْدَهُ: إذًا، فَإِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ، وَالْغَزَالِيَّ، جَعَلَاهُ مِنَ الصَّرِيحِ، وَجَعَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ" مِنَ الظَّاهِرِ. وَبَعْدَهُ: ذَكَرَ الْمَفْعُولَ لَهُ نَحْوَ: ضَرَبْتُهُ تَأْدِيبًا. وَأَمَّا الظَّاهِرُ: فَيَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ، أَعْلَاهَا: اللَّامُ، ثُمَّ أنْ الْمَفْتُوحَةُ الْمُخَفَّفَةُ، ثُمَّ إنْ الْمَكْسُورَةُ السَّاكِنَةُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ، ثُمَّ إنَّ الْمُشَدِّدَةَ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها من الطوافين عليكم" 1.
قَالَ صَاحِبُ "التَّنْقِيحِ": كَذَا عَدُّوهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَالْحَقُّ: أَنَّهَا لِتَحْقِيقِ الْفِعْلِ، وَلَا حَظَّ لَهَا فِي التَّعْلِيلِ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْحَدِيثِ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِبْيَارِيُّ إِجْمَاعَ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِدُ لِلتَّعْلِيلِ، قَالَ: وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ" لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ طَهَارَةِ سُؤْرِهَا هِيَ الطَّوَافُ، وَلَوْ قَدَّرْنَا مَجِيءَ قَوْلِهِ: "مِنَ الطَّوَّافِينَ" بِغَيْرِ إِنَّ لَأَفَادَ التَّعْلِيلَ، فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ لَعُدِمَتْ العلة بِعَدَمِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهَا، وَإِلَّا لَوَجَبَ فَتْحُهَا، وَلَاسْتُفِيدَ التَّعْلِيلُ مِنَ اللَّامِ. ثُمَّ الْبَاءُ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَضَابِطُهُ أَنْ يصلح غالبا في موضوعها اللَّامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} 2؛ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ الْآمِدِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ قَوْلَهُ تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُقَابَلَةُ، كقوله: هَذَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بَعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا. ثُمَّ الْفَاءُ: إِذَا عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْخُلَ عَلَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ، وَيَكُونَ الْحُكْمُ مُتَقَدِّمًا، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا" 4. الثَّانِي: أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْحُكْمِ، وَتَكُونَ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6. لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْ زَنَى فَاجْلِدُوهُ، وَمَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ. ثُمَّ لَعَلَّ؛ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ مِنَ النحاة، فإنهم قَالُوا: إِنَّهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ الْمَحْضِ، مُجَرَّدَةً عَنْ مَعْنَى التَّرَجِّي، لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِذْ: ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ نَحْوَ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} 7.
ثُمَّ حَتَّى: كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ "مَالِكٍ"*، نَحْوَ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} 1، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} 2، {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 3 وَلَا يَخْفَى مَا فِي عَدِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ جُمْلَةِ دَلَائِلِ التَّعْلِيلِ مِنَ الضَّعْفِ الظاهر. وقد عد منها صاحب "التنقيط": لَا جَرَمَ، نَحْوَ: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} 4. وعد أيضًا جميع أدوات الشرط وَالْجَزَاءِ. وَعَدَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْهَا الْوَاوَ. وَفِي هَذَا مِنَ الضَّعْفِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عارف بمعاني اللغة العربية.
المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ وَضَابِطُهُ: الِاقْتِرَانُ بِوَصْفٍ، لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَوْ نَظِيرُهُ لِلتَّعْلِيلِ لكان بعيدا، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ ذِكْرَهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا لِفَائِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ إِمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً، أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ، أو شرطا، "والأطهر"*: كَوْنُهُ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: الْأَوَّلُ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ بِالْفَاءِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى الْعِلَّةِ، وَيَكُونَ الْحُكْمُ مُتَقَدِّمًا، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: " فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا" 1. ثَانِيهِمَا: أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى الْحُكْمِ، وَتَكُونَ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً، وَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ دَخَلَتْ عَلَى كَلَامِ الشَّارِعِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيديهما} 2، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} 3.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى رِوَايَةِ الرَّاوِي، كَقَوْلِهِ: "سها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَجَدَ"1، وَ"زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ"2، كَذَا فِي "الْمَحْصُولِ" وَغَيْرِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا، لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَعَرَّى عَنِ الْفَائِدَةِ إِمَّا مَعَ سُؤَالٍ فِي مَحَلِّهِ، أَوْ سُؤَالٍ فِي نَظِيرِهِ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: "اعْتِقْ رَقَبَةً" 3. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِقَاعَ عِلَّةٌ لِلْإِعْتَاقِ، وَالسُّؤَالٌ مُقَدَّرٌ فِي الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ. الثَّانِي كَقَوْلِهِ: وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ: إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ، وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ، أَفَيَنْفَعُهُ إِنْ حَجَجْتُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ4. فَذَكَرَ نَظِيرَهُ، وَهُوَ دَيْنُ الْآدَمِيِّ، فَنَبَّهَ عَلَى كَوْنِهِ، عِلَّةً فِي النَّفْعِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْعَبَثُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ شَرْطَ فَهْمِ التَّعْلِيلِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ جَوَابًا؛ إِذْ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ اسْتِئْنَافًا، لَا جَوَابًا، وَذَلِكَ كَمَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ، فَأَخْبَرَهُ تِلْمِيذُهُ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ، فَأَمَرَهُ عَقِبَ الْإِخْبَارِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، بَلِ الْأَمْرُ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَتَرْكِ مَا لَا يَعْنِيهِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ لوصف، نحو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ" 5. فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاسْتِحْقَاقِ لِلسَّهْمِ وَالسَّهْمَيْنِ هُوَ الوصف المذكور.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ عَقِبَ الْكَلَامِ أَوْ في سياق شَيْئًا، لَوْ لَمْ يُعَلِّلْ بِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَنْتَظِمِ الْكَلَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1؛ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَأَحْكَامِهَا، فَلَوْ لَمْ يُعَلِّلِ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ، أَوْ شَاغِلًا عَنِ الْمَشْيِ إِلَيْهَا؛ لَكَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ مُطْلَقًا. النَّوْعُ الْخَامِسُ: رَبْطُ الْحُكْمِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِهِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، نَحْوَ: أَكْرِمْ زَيْدًا الْعَالِمَ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْإِكْرَامَ لِأَجْلِ الْعِلْمِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 2. أَيْ: لِأَجْلِ تَقْوَاهُ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3. أَيْ: لِأَجْلِ تَوَكُّلِهِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَقَّبُ الشَّرْطَ. النَّوْعُ السَّابِعُ: تَعْلِيلُ عَدَمِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} 4. {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} 5، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} 6. النَّوْعُ الثَّامِنُ: إِنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ لِفَائِدَةٍ، وَلَا لِحِكْمَةٍ بِقَوْلِهِ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 7، وَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} 8، وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 9. النَّوْعُ التَّاسِعُ: إِنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلِينَ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} 10. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 11
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْمُومَإِ إِلَيْهِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَنْوَاعِ السَّابِقَةِ، فَاشْتَرَطَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ فُهِمَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، كَمَا فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقض الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 1 اشْتُرِطَ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَحَكَى الْهِنْدِيُّ تَفْصِيلًا، وَهُوَ اشْتِرَاطُهُ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ،. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ تَفْصِيلًا آخَرَ: وَهُوَ إِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ يَتَنَاوَلُ مَعْهُودًا مُعَيَّنًا؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَوْ كَانَ مُنَاسِبًا، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا، وَأَمَّا إِذَا علق بعام ومنكر فهو تعليل.
المسلك الرابع: الاستدلال على علية الحكم بفعل النبى صلى الله عليه وسلم
الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" وَصُورَتُهُ: أن يفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا بَعْدَ وُقُوعِ شَيْءٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ، كَأَنْ يَسْجُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّهْوِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ إِنَّمَا كَانَ لِسَهْوٍ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، كَرَجْمِ مَاعِزٍ. وَهَكَذَا التَّرْكُ لَهُ حُكْمُ الْفِعْلِ، كَتَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلطِّيبِ، وَالصَّيْدِ، وَمَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الإحرام.
المسلك الخامس: السبر والتقسيم
الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ: وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ الْمَيْلُ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ الْجُرْحُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ الْمِسْبَارُ، وَسُمِّيَ
هَذَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاظِرَ يُقَسِّمُ الصِّفَاتِ وَيَخْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا "فِي أَنَّهُ"* هَلْ تَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا؟ وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهَذَا هو المنحصر. والثاني: أن لا يكون كذلك، وهذا هو الْمُنْتَشِرُ. فَالْأَوَّلُ: أَنْ تُحْصَرَ الْأَوْصَافُ الَّتِي يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهَا لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتِبَارُهَا فِي الْمَقِيسِ، وَإِبْطَالُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا بِدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ الْإِبْطَالُ إِمَّا بِكَوْنِهِ مُلْغًى، أَوْ وَصْفًا طَرْدِيًّا، أَوْ يَكُونُ فِيهِ نَقْضٌ، أَوْ كَسْرٌ، أَوْ خَفَاءٌ، أَوِ اضْطِرَابٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ1. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالِمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، أَوْ حَادِثًا، بَطَلَ أَنْ يكون قديما، فثبت أنه حادث. وقد يكون في الظنيات، نحو أن نقول: فِي قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْبُرِّ فِي الرِّبَوِيَّةِ: بَحَثْتُ عَنْ أَوْصَافِ الْبُرِّ فَمَا وَجَدْتُ ثَمَّ مَا يَصْلُحُ لِلرِّبَوِيَّةِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ إِلَّا الطَّعْمَ، وَالْقُوتَ، وَالْكَيْلَ، لَكِنَّ الطَّعْمَ وَالْقُوتَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِدَلِيلِ كَذَا، فَتَعَيَّنَ الْكَيْلُ2. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَحُصُولُ هَذَا الْقِسْمِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَسِرٌ جِدًّا. وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْمَسْلَكِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِمُنَاسِبٍ، خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَأَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقَعِ الِاتِّفَاقُ لَمْ يكون هَذَا الْمَسْلَكُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ إِبْطَالِ كَوْنِهِ عِلَّةً أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ. وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حاصرا لجميع الأوصاف، وذلك بأن يوافقه الْخَصْمُ عَلَى انْحِصَارِهَا فِي ذَلِكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ إِظْهَارِ وَصْفٍ زَائِدٍ، وَإِلَّا فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يَقُولَ: بَحَثْتُ عَنِ الْأَوْصَافِ فَلَمْ أَجِدْ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْبَحْثِ. وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْهُمُ: الْأَصْفَهَانِيُّ، فَقَالَ: قَوْلُ الْمُعَلِّلِ فِي جَوَابِ طَالِبِ الْحَصْرِ: بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ بعلة أخرى فأبرزها، وإلا فليلزمك
مَا يَلْزَمُنِي، قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ سَبْرَهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْمَدْلُولُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ طَالِبُ الْحَصْرِ الانحصار ببحثه ونظره، وجهله لا يجوب عَلَى خَصْمِهِ أَمْرًا، وَاخْتَارَ ابْنُ بَرْهَانَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُنْتَشِرُ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَوْ دَارَ وَلَكِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا عَدَا الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ فِيهِ ظَنِّيًّا. فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، لَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَلَا فِي الظَّنِّيَّاتِ، حَكَاهُ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هُوَ الصَّحِيحُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ دُونَ الْمَنَاظِرِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْأَسَالِيبِ"1: إِنَّهُ يُفِيدُ الطَّالِبَ مَذْهَبَ الْخَصْمِ، دُونَ تصحيح مذهب المستدل؛ إذ لا يمتنع أَنْ يَقُولَ: مَا أَبْطَلْتُهُ بَاطِلٌ، وَمَا اخْتَرْتُهُ بَاطِلٌ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَعَزَاهُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي، وَسَائِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ضِمْنًا، وَتَصْرِيحًا، فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ2. فَمِنَ الضِّمْنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} إلى قوله: {حَكِيمٌ عَلِيم} 3، ومن التصريح قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} إلى قوله: {الظَّالِمِين} 4. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنْ يَكُونَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ مَسْلَكًا. قَالَ الْأَبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ "الْبُرْهَانِ": السَّبْرُ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِبَارِ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَضَبْطِهَا، وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَظْهَرُ إِبْطَالُهُ مِنْهَا، فَإِذًا لَا يَكُونُ مِنَ الْأَدِلَّةِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الْأُصُولِيُّونَ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ المنير: "ومن الأسئلة"* القاصمة لمسلم السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَا يَخْلُو فِي.
نفس الأمر من أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، أَوْ شَبَهًا، أَوْ طَرْدًا، "لِأَنَّهُ"* إِمَّا إِنْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ لَا، فَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً لِلْفَهْمِ أَوْ كُلِّيَّةً لَا تَنْضَبِطُ. فَالْأَوَّلُ: الْمُنَاسَبَةُ. وَالثَّانِي: الشَّبَهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَصْلًا فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُنَاسِبَةٌ أَوْ شَبَهٌ "يَعْنِي لُغِيَ"** السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، وَإِنْ كَانَ عُرْيًا عَنِ الْمُنَاسَبَةِ قطعا، لم ينفع السبر والتقسيم أيضًا1.
المسلك السادس: المناسبة
المسلك السادس: المناسبة مدخل ... الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: الْمُنَاسَبَةُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْإِخَالَةِ، وَبِالْمَصْلَحَةِ، وَبِالِاسْتِدْلَالِ، وَبِرِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ، وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا: تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ، وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ. وَمَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ: هِيَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، مَعَ السَّلَامَةِ عَنِ الْقَوَادِحِ، لَا بِنَصٍّ وَلَا غَيْرِهِ. وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَاءَمَةُ، وَالْمُنَاسِبُ الْمُلَائِمُ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": النَّاسُ ذَكَرُوا فِي تَعْرِيفِ الْمُنَاسِبِ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمُفْضِي إِلَى مَا يُوَافِقُ الْإِنْسَانَ تَحْصِيلًا وَإِبْقَاءً، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ التَّحْصِيلِ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَعَنِ الْإِبْقَاءِ بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ لِأَنَّ مَا قُصِدَ إِبْقَاؤُهُ فَإِزَالَتُهُ مَضَرَّةٌ، وَإِبْقَاؤُهُ دَفْعٌ لِلْمَضَرَّةِ. ثُمَّ هَذَا التَّحْصِيلُ وَالْإِبْقَاءُ، قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، وَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا. وَالْمَنْفَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّذَّةِ، أَوْ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَيْهَا، وَالْمَضَرَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَلَمِ، أَوْ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَيْهِ، وَاللَّذَّةُ قِيلَ فِي حَدِّهَا: إِنَّهَا إِدْرَاكُ الْمُلَائِمِ، وَالْأَلَمُ: إِدْرَاكُ الْمُنَافِي. وَالصَّوَابُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْدِيدُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَظْهَرِ مَا يَجِدُهُ الْحَيُّ مِنْ نَفْسِهِ، وَيُدْرِكُ بِالضَّرُورَةِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يُتَعَذَّرُ تَعْرِيفُهُ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْمُلَائِمُ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فِي الْعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَذِهِ اللُّؤْلُؤَةُ تُنَاسِبُ هَذِهِ اللُّؤْلُؤَةَ
في الجمع بينها فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ مُتَلَائِمٍ. انْتَهَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي تَعْرِيفِهَا الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَغْرَاضِ، وَالْقَائِلُونَ بِتَعْلِيلِهَا بِهَا. فَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: إِنَّهَا الْمُلَائِمُ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فِي الْعَادَاتِ، أَيْ: مَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَقْصِدُ الْعُقَلَاءُ تَحْصِيلَهُ عَلَى مَجَارِي الْعَادَةِ بِتَحْصِيلٍ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ. وَالْآخَرُونَ قَالُوا: إنها ما تجلب للإنسان نفع، أو تدفع عنه ضرا1. وَقِيلَ: هِيَ مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تلقته بالقبول، كذا قال الدبوسي. وقيل: وَعَلَى هَذَا فَإِثْبَاتُهَا عَلَى الْخَصْمِ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقُولُ: عَقْلِي لَا يَتَلَقَّى هَذَا بِالْقَبُولِ، ومن ثم قال الدبسوي: هُوَ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ: لا للمناظر. قال الغزالي: والحق بأنه يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ عَلَى الْجَاحِدِ بِتَبْيِينِ مَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ عَلَى وَجْهٍ مَضْبُوطٍ، فَإِذَا أَبْدَاهُ الْمُعَلِّلُ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى جَحْدِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ إِلَّا ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّ الْمُنَاسِبَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ يَحْصُلُ عَقْلًا مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ خَفِيًّا، أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ اعْتُبِرَ مَلَازِمُهُ، وَهُوَ الْمَظِنَّةُ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَ لا يعرف الغيب، كالسفر للمشقة، والفعل المقضي عُرْفًا عَلَيْهِ بِالْعَمْدِ فِي الْعَمْدِيَّةِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ، وَهُوَ اقْتِرَانُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الْمُنَاسِبِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ: الْمُنَاسَبَةُ مَعَ الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ، وَلَوْ كَانَ الِاقْتِرَانُ دَاخِلًا فِي الْمَاهِيَّةِ لَمَا صَحَّ هَذَا. وَأَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ "بِالظَّاهِرَةِ"* الْمُنْضَبِطَةِ جَائِزٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ قَائِلُ هَذَا الْحَدِّ، وَالْوَصْفِيَّةُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِيهَا مَعَ تَحَقُّقِ الْمُنَاسَبَةِ. وَقَدِ احْتَجَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى إِفَادَتِهَا لِلْعِلِّيَّةِ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بِهَا، فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، إِذَا غَلَبَ على "ظنهم"** أنه يُضَاهِيَهُ لِمَعْنًى أَوْ يُشْبِهَهُ. وَرُدَّ2 بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِكُلِّ ظَنٍّ غَالِبٍ، فَلَا يَبْعُدُ التَّعَبُّدُ مَعَ نَوْعٍ مِنَ الظَّنِّ الْغَالِبِ، وَنَحْنُ "لَا" *** نَعْلَمُ ذَلِكَ النَّوْعَ. ثُمَّ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فَالْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ عَلَى العمومات الدالة على الأمر بالقياس.
انقسام المناسب من حيث الظن واليقين
انقسام المناسب من حيث الظن واليقين: وَاعْلَمْ: أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِالْمُنَاسِبِ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا، كَمَصْلَحَةِ الْبَيْعِ لِلْحِلِّ، أَوْ ظَنًّا، كَمَصْلَحَةِ الْقِصَاصِ لِحِفْظِ النَّفْسِ، وَقَدْ يحتملهما عَلَى السَّوَاءِ، كَحَدِّ الْخَمْرِ، لِحِفْظِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ مساوٍ لِلْإِحْجَامِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيُ الْحُصُولِ أَرْجَحَ، كَنِكَاحِ الْآيِسَةِ لِتَحْصِيلِ التَّنَاسُلِ، وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالثَّالِثِ، وَبَعْضُهُمْ بِالرَّابِعِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْأَصَحُّ يَجُوزُ إِنْ كَانَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي أَغْلَبِ الصُّوَرِ مِنَ الْجِنْسِ مُفْضِيًا إِلَى الْمَقْصُودِ، وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ غَيْرُ ثَابِتٍ1، فَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: يُعْتَبَرُ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَالْأَصَحُّ لَا يُعْتَبَرُ، سَوَاءٌ مَا لَا تَعَبُّدَ فِيهِ، كَلُحُوقِ نَسَبِ الْمَشْرِقِيِّ بِالْمَغْرِبِيَّةِ، وَمَا فِيهِ تَعَبَّدٌ، كَاسْتِبْرَاءِ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا فِي المجلس.
انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي
انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي: المناسب ينقسم إِلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ. وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَمَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَمَحَلِّ التَّحْسِينِ. الْأَوَّلُ: الضَّرُورِيُّ وَهُوَ الْمُتَضَمِّنُ "حِفْظَ"* قصود مِنَ الْمَقَاصِدِ الْخَمْسِ، الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ، بَلْ هِيَ مُطْبِقَةٌ عَلَى حِفْظِهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: حِفْظُ النَّفْسِ بِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَتَهَارَجَ الْخَلْقُ، وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَصَالِحِ. ثانيها: حِفْظُ الْمَالِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَعَدِّي، فَإِنَّ الْمَالَ قِوَامُ الْعَيْشِ، وَثَانِيهِمَا: الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ. ثَالِثُهَا: حِفْظُ النَّسْلِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا، وَإِيجَابِ العقوبة عليه بالحد.
رَابِعُهَا: حِفْظُ الدِّينِ بِشَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، وَالْقِتَالِ لِلْكُفَّارِ. خَامِسُهَا: حِفْظُ الْعَقْلِ بِشَرْعِيَّةِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ قِوَامُ كُلِّ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، فَاخْتِلَالُهُ يُؤَدِّي إِلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَى دَعْوَى اتِّفَاقِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي الشَّرَائِعِ "السَّابِقَةِ"*، وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُبَاحَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ هُوَ مَا لَا يَبْلُغُ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، كَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنِ الْقَفَّالِ، ثُمَّ نَازَعَهُ فَقَالَ: تَوَاتَرَ الْخَبَرُ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ إِلَى حَدٍّ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ. وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي "شَرْحِ مُسْلِمٍ"1، وَلَفْظُهُ: وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُسْكِرَ لَمْ يَزَلْ مُحَرَّمًا فَبَاطِلٌ، لَا أَصْلَ لَهُ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَقَدْ تَأَمَّلْتُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فلم أجد فيهما إلا إِبَاحَةَ الْخَمْرِ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَمِ السُّكْرِ، بَلْ فِيهِمَا التَّصْرِيحُ بِمَا يَتَعَقَّبُ الْخَمْرَ مِنَ السُّكْرِ، وَإِبَاحَةُ ذَلِكَ؛ "فَلَا"** يَتِمُّ دَعْوَى اتِّفَاقِ الْمَلَلِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهَكَذَا تَأَمَّلْتُ كُتُبَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ أَصْلًا. وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ سَادِسًا، وَهُوَ حِفْظُ الْأَعْرَاضِ، فَإِنَّ عَادَةَ الْعُقَلَاءِ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَعْرَاضِهِمْ، وَمَا فُدِيَ بِالضَّرُورِيِّ فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ أَوْلَى، وَقَدْ شُرِعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ الْحَدُّ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَجَاوَزُ عَمَّنْ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَمَّنْ جَنَى عَلَى عِرْضِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ قَائِلُهُمْ: يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا ... وَتَسْلَمَ أَعْرَاضٌ لَنَا وَعُقُولُ2 قَالُوا: وَيَلْتَحِقُ بِالْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ مُكَمِّلُ الضَّرُورِيِّ، كَتَحْرِيمِ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، وَتَحْرِيمِ الْبِدْعَةِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ، الدَّاعِي إِلَيْهَا، وَالْمُبَالِغَةِ فِي حِفْظِ النَّسَبِ، بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ، وَاللَّمْسِ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى ذلك.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحَاجِيُّ وَهُوَ مَا يَقَعُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، لَا مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، كَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَسَاكِنِ، مَعَ الْقُصُورِ عَنْ تَمَلُّكِهَا، وَامْتِنَاعِ مَالِكِهَا عَنْ بَذْلِهَا عَارِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ. ثُمَّ اعْلَمْ: أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ قَدْ تَكُونُ جَلِيَّةً، فَتَنْتَهِي إِلَى الْقَطْعِ، كَالضَّرُورِيَّاتِ، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً كَالْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لَا لدليل إلى مجرد احتمال اعتبار الشَّرْعِ لَهَا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ التَّأْثِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: التَّحْسِينِيُّ وَهُوَ قِسْمَانِ: الأول: ما هو غير مُعَارِضٌ لِلْقَوَاعِدِ، كَتَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ، فَإِنَّ نَفْرَةَ الطِّبَاعِ عنها لقذارتها مَعْنًى يُنَاسِبُ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا، حَثًّا عَلَى مَكَارِمِ الأخلاق، كما قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث} 1، "وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ"*، وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" 2. وَمِنْهُ سَلْبُ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَالْعَبْدُ نَازِلُ الْقَدْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُلَائِمٍ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّاهِدِ، وَإِيصَالِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَدَفْعِ الْيَدِ الظَّالِمَةِ عَنْهُ مِنْ مَرَاتِبِ الضَّرُورَةِ، وَاعْتِبَارُ نُقْصَانِ الْعَبْدِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ مِنْ مَرَاتِبِ التَّحْسِينِ، وَتَرْكُ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ التَّحْسِينِ بَعِيدٌ جِدًّا، نَعَمْ لَوْ وُجِدَ لَفْظٌ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ، وَيُعَلَّلُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَأَمَّا مَعَ الِاسْتِقْلَالِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، فَفِيهِ هَذَا الْإِشْكَالُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مُسْتَنَدًا أَوْ وَجْهًا. وَأَمَّا سَلْبُ وِلَايَتِهِ، فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ؛ "إِذْ ولاية"** الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا،
وَالْعَبْدُ مُسْتَغْرَقٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، فَتَفْوِيضُ أَمْرِ الطِّفْلِ إِلَيْهِ إِضْرَارٌ بِالطِّفْلِ، أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَتَّفِقُ أَحْيَانًا، كالرواية والفتوى"1.
انقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع وعدمها
انقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع وعدمها: ثُمَّ اعْلَمْ: أَنَّ الْمُنَاسِبَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهُ، بِالْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ، وَعَدَمِهَا، إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ، أَوْ يُعْلَمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ، أَوْ لَا يُعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الرُّجْحَانُ، وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ: إِيرَادُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، لَا التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ، وَلَا الْإِيمَاءُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ مُسْتَفَادَةً مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: شَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ.
قال الغزالي في "شفاء العليل"1: الْمَعْنَى بِشَهَادَةِ أَصْلٍ مُعَيِّنٍ لِلْوَصْفِ أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْحُكْمَ أُثْبِتَ شَرْعًا عَلَى وَفْقِهِ. وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: لِأَنَّهُ إِمَّا أن يُعْتَبَرُ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ. الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ، وَهُوَ خُصُوصُ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَعُمُومُهُ فِي عُمُومِهِ، كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عَلَى الْقَتْلِ "بِالْجَارِحِ"*، فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، بِجَامِعِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا، فَإِنَّهُ قَدْ عَرَفَ تَأْثِيرَ خُصُوصِ كونه قتلا عمدا عدوانا فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ. وَمِثْلُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَةَ السُّكْرِ اقْتَضَتْ حَقِيقَةَ التَّحْرِيمِ، فَالنَّبِيذُ يُلْحَقُ بِالْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ، وَبَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى الْمُنَاسِبَ الْمُلَائِمَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بين القياسين. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي جِنْسِهِ، كَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ عَلَى الْإِخْوَةِ لِأَبٍ فِي النِّكَاحِ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ فِي الْإِرْثِ، فَإِنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ نَوْعٌ وَاحِدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ تَأْثِيرُهُ فِي التَّقْدِيمِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلَكِنْ عُرِفَ تَأْثِيرُهُ فِي جِنْسِهِ؛ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِمْ، فِيمَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ عَدَمِ "الْأَمْرِ"**، كَمَا فِي الْإِرْثِ، وهذا القسم دون ما قبله؛ لأن المقارنة بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَقْرَبُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ، كَقِيَاسِ إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ عَنِ الْحَائِضِ، عَلَى إِسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ عَنِ الْمُسَافِرِ، بِتَعْلِيلِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَشَقَّةُ جِنْسٌ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ، يُسْتَعْمَلُ عَلَى صِنْفَيْنِ، إِسْقَاطُ قَضَاءِ الْكُلِّ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الْبَعْضِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْهَامَ فِي الْعِلَّةِ أَكْبَرُ مَحْذُورًا مِنَ الْإِبْهَامِ فِي الْمَعْلُولِ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِبَارُ جِنْسِ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ كَتَعْلِيلِ كَوْنِ حَدِّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ بِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الِافْتِرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ قِيَاسًا عَلَى الْخَلْوَةِ، فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَظِنَّةَ الْوَطْءِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ، وَهَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا عُلِمَ إِلْغَاءُ الشَّرْعِ لَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: بِوُجُوبِ الصَّوْمِ ابْتِدَاءً فِي كَفَّارَةِ الْمِلْكِ الَّذِي وَاقَعَ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا الِانْزِجَارُ، وَهُوَ لَا ينزجر بالعتق، فهذا وإن كان.
قِيَاسًا لَكِنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ، حَيْثُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْقَوْلُ بِهِ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَكَانَ بَاطِلًا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ وَلَا إِلْغَاؤُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَقَدِ اشْتَهَرَ انْفِرَادُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْقَوْلِ بِهِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ يَكْتَفُونَ بِمُطْلَقِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَوْصَافُ إِنَّمَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا إِذَا ظن التفات الشرع إليها، وكل ما كَانَ الْتِفَاتُ الشَّرْعِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ ظَنُّ كَوْنِهِ مُعْتَبَرًا أَقْوَى، وَكُلَّمَا كَانَ الْوَصْفُ وَالْحُكْمُ أَخَصَّ كَانَ ظَنُّ كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ آكَدَ، فَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنْهُ. وَأَمَا الْمُنَاسِبُ الَّذِي عُلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا. وَأَمَا الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَاهُ، أَوِ اعْتَبَرَهُ، فَذَلِكَ يَكُونُ بِحَسَبِ أَوْصَافٍ هِيَ أَخَصُّ مِنْ كَوْنِهِ وَصْفًا مَصْلَحِيًّا، وَإِلَّا فَعُمُومُ كَوْنِهِ وَصْفًا مَصْلَحِيًّا مَشْهُودٌ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَغَيْرُ الْمُعْتَبَرِ هُوَ الْمُرْسَلُ، فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا، أَوْ ثَبَتَ إِلْغَاؤُهُ فَمَرْدُودٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مُلَائِمًا فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ بِقَبُولِهِ، وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْمُخْتَارُ رَدُّهُ، وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً، قَطْعِيَّةً، كُلِّيَّةً. انْتَهَى. وَسَنَذْكُرُ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بَحْثًا مُسْتَقِلًّا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ1.
انقسام المناسب من حيث التأثير والملاءمة وعدمهما
انقسام المناسب من حيث التأثير والملاءمة وعدمهما: الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُنَاسِبَ: إِمَّا مُؤَثِّرٌ، أَوْ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ: إِمَّا مُلَائِمٌ، أَوْ غَيْرُ مُلَائِمٍ. "وَغَيْرُ الْمُلَائِمِ"* إِمَّا غَرِيبٌ، أَوْ مُرْسَلٌ، أَوْ مُلْغًى. الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْمُؤَثِّرُ: وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ النَّصُّ، أَوِ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً، تَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عين الحكم أو نوعه في نوعه.
الصِّنْفُ الثَّانِي: الْمُلَائِمُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ الْوَصْفِ، لَا بِنَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَسُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وَهَذِهِ المرتبة دونما قَبْلَهَا. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْغَرِيبُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ الْوَصْفِ فَقَطْ، وَلَا يَعْتَبِرَ عَيْنَ الْوَصْفِ في جِنْسِ الْحُكْمِ، وَلَا عَيْنَهُ وَلَا جِنْسَهُ فِي جنسه بنص وإجماع، كالإسكار في تحريم الخمر، فإنه اعتبر عين الْإِسْكَارَ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرْتِيبِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْإِسْكَارِ فَقَطْ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْغَرِيبِ: تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، إِلْحَاقًا بِالْقَاتِلِ الْمَمْنُوعِ مِنَ الْمِيرَاثِ، تَعْلِيلًا بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ، لَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يُعْهَدِ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْخَاصِّ، فَكَانَ غَرِيبًا لِذَلِكَ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: الْمُرْسَلُ غَيْرُ الْمُلَائِمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الحاجب الا تفاق عَلَى رَدِّهِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. الصِّنْفُ الْخَامِسُ: الْغَرِيبُ غَيْرُ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالِاتِّفَاقِ، واختلفوا: هل تنخرم المناسبة بالمعاوضة الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَفْسَدَةٍ، أَوْ فَوَاتِ مصلحة تساوي المصلحة، أو ترجح عَلَيْهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَنْخَرِمُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَاخْتَارَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ1 وَابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ؛ وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ، وَالْمَصْلَحَةَ إِذَا عَارَضَهَا مَا يُسَاوِيهَا لَمْ تُعَدَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ مَصْلَحَةً. الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَنْخَرِمُ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي "الْمِنْهَاجِ"، وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُعَارَضَةُ دَالَّةً عَلَى انْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فهي قادحة "بلا خلاف*.
المسلك السابع: الشبه
المسلك السابع: الشبه مدخل ... الْمَسْلَكُ السَّابِعُ: الشَّبَهُ وَيُسَمِّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ، وَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ؛ إِذِ الشَّبَهُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَوْنِ الْفَرْعِ شَبِيهًا بِالْأَصْلِ، بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ1. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَسْتُ أَرَى فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةً أَغْمَضَ مِنْهُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، فَقِيلَ: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ؟! كَذَا قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي". قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": ذَكَرُوا فِي تَعْرِيفِهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ أن الوصف: إما أن يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ بِذَاتِهِ، وَإِمَّا لَا يُنَاسِبُهُ بِذَاتِهِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِمَا يُنَاسِبُهُ بِذَاتِهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُنَاسِبَهُ بِذَاتِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ مَا يُنَاسِبُهُ بِذَاتِهِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ. وَالثَّانِي: الشَّبَهُ. وَالثَّالِثُ: الطَّرْدُ. الثَّانِي: الْوَصْفُ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ بِالنَّصِّ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لذلك الحكم، وإما أن لا يَكُونَ كَذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الشَّبَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ يُظَنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عُلِمَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَوْصَافِ لَيْسَ كَذَلِكَ يَكُونُ ظَنَّ إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ أَقْوَى مِنْ ظَنِّ إِسْنَادِهِ إِلَى غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي "شَرْحِ الْبُرْهَانِ" عَنِ الْقَاضِي: أَنَّهُ مَا يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى وَصْفٍ مُخَيَّلٍ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُنَازِعُ فِي إِيهَامِ الِاشْتِمَالِ عَلَى مُخَيَّلٍ، إِمَّا حَقًّا أَوْ عِنَادًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالَّذِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ" مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِكَثْرَةِ إِشْبَاهِهِ لِلْأَصْلِ فِي الْأَوْصَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي شَابَهَ الْفَرْعُ بِهَا الْأَصْلَ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَقِيلَ: الشَّبَهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَلَكِنْ عُرِفَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ القريب في الجنس القريب.
وَاخْتُلِفَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرْدِ، فَقِيلَ: إِنَّ الشَّبَهَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَصْفٍ يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالطَّرْدُ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ الطَّرْدِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنِ النَّقْضِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمُسْتَصْفَى"1: الشَّبَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الطَّرْدِ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبِ الْحُكْمَ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هَذَا، فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادُوا بِهِ، وَبِمَا فَصَلُوهُ عَنِ الطَّرْدِ الْمَحْضِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الشَّبَهِيَّ وَالطَّرْدِيَّ يَجْتَمِعَانِ فِي عَدَمِ الظُّهُورِ فِي الْمُنَاسِبِ، وَيَتَخَالَفَانِ فِي أَنَّ الطَّرْدِيَّ عُهِدَ مِنَ الشَّارِعِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ شَبَهًا؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَمِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ، فَهُوَ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ. وَفَرَّقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ الشَّبَهِ وَالطَّرْدِ؛ بِأَنَّ الطَّرْدَ نِسْبَةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ وَنَفْيُهُ عَلَى السَّوَاءِ، وَالشَّبَهُ نِسْبَةُ الثُّبُوتِ إِلَيْهِ مُتَرَجِّحَةٌ عَلَى نِسْبَةِ النَّفْيِ، فَافْتَرَقَا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَيَتَمَيَّزُ، يَعْنِي: الشَّبَهَ عَنِ الطَّرْدِيِّ، بِأَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ، وَعَنِ الْمُنَاسِبِ الذَّاتِيِّ بِأَنَّ مُنَاسَبَتَهُ عَقْلِيَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ كَالْإِسْكَارِ فِي التَّحْرِيمِ. مِثَالُهُ: طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَاءُ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، فَالْمُنَاسَبَةُ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَاعْتِبَارُهَا فِي مَسِّ المصحف والصلاة يوهم المناسبة. انتهى.
الخلاف في حجية الشبه
الْخِلَافُ فِي حُجِّيَّةِ الشَّبَهِ: وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حُجَّةً أَمْ لَا عَلَى مَذَاهِبَ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنِ ادَّعَى التَّحْقِيقَ مِنْهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَأَبُو بِكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ1. الثالث: اعتباره في الأشباه الرَّاجِعَةِ إِلَى الصُّورَةِ. الرَّابِعُ: اعْتِبَارُهُ فِيمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ، بِأَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ، فَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْقِيَاسُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُشَابِهَةُ فِي الصُّورَةِ أو المعنى، وإليه ذهب الفخر
الرَّازِيُّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ. الْخَامِسُ: إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ كَانَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ، إِنْ حَصَلَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِلَّا فَلَا، وَأَمَّا الْمُنَاظِرُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ مُطْلَقًا، هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي "الْمُسْتَصْفَى"1. وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ، بِأَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي "سَمَّيْتُمُوهُ"* شَبَهًا إِنْ كَانَ مُنَاسِبًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنَاسِبٍ فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى عَمَلِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالشَّبَهِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَصْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا كَانَ مَرْدُودًا بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ مَا لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا إِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ، أَوْ عُرِفَ بِالنَّصِّ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَهُوَ غَيْرُ مَرْدُودٍ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّا نُعَوِّلُ فِي إِثْبَاتِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فاَعتَبروٌا} 2 عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزَمًا لِلْمُنَاسِبِ كَالْمُنَاسِبِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الظَّنُّ بِحَالٍ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَةِ، كَمَا سَبَقَ تقريره في أول مباحث القياس3.
المسلك الثامن: الطرد
الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ: الطَّرْدُ قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْوَصْفُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا، وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ، إِذَا كَانَ الْحُكْمُ حَاصِلًا مَعَ الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، وَهَذَا الْمُرَادُ مِنَ الِاطِّرَادِ وَالْجَرَيَانِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَائِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فَقَالَ: مَهْمَا رَأَيْنَا الْحُكْمَ حَاصِلًا مَعَ الْوَصْفِ فِي صورة واحدة، يحصل ظن العلية.
احْتَجُّوا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّادِرَ فِي كُلِّ بَابٍ يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْوَصْفَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الْمُغَايِرَةِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ مُقَارِنًا لِلْحُكْمِ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْوَصْفَ حَاصِلًا فِي الْفَرْعِ، وَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ "بِهِ"* عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ إِلْحَاقًا لِتِلْكَ الصُّورَةِ بِسَائِرِ الصُّوَرِ. وَثَانِيهِمَا: إِذَا رَأَيْنَا فَرَسَ الْقَاضِي وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْأَمِيرِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا كَوْنُ الْقَاضِي فِي دَارِ الْأَمِيرِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ مُقَارَنَتَهُمَا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ أَفَادَ ظَنَّ مُقَارَنَتِهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِأَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الِاطِّرَادَ: عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْوَصْفِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ إِلَّا وَيُوجَدُ مَعَهُ الْحُكْمُ، وَهَذَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ مَعَهُ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا أَثْبَتُّمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَأَثْبَتُّمْ عِلِّيَّتَهُ بِكَوْنِهِ مُطَّرِدًا، لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَدَّ مَعَ الْمَحْدُودِ، وَالْجَوْهَرَ مَعَ الْعَرْضِ، وَذَاتَ اللَّهِ مَعَ صِفَاتِهِ: حَصَلَتِ الْمُقَارَنَةُ فيها مع عدم العلية. والجواب "عن الأول"**: أَنَّ نَسْتَدِلَّ بِالْمُصَاحَبَةِ فِي كُلِّ الصُّوَرِ غَيْرِ الْفَرْعِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ غَايَةَ كَلَامِكُمْ حُصُولُ الطَّرْدِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، مُنْفَكًّا عَنِ الْعِلِّيَّةِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ ظَاهِرًا، كَمَا أَنَّ الْغَيْمَ الرَّطْبَ دَلِيلُ الْمَطَرِ، ثُمَّ عَدَمُ نُزُولِ الْمَطَرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا. وَأَيْضًا: الْمُنَاسَبَةُ، وَالدَّوَرَانُ، وَالتَّأْثِيرُ، وَالْإِيمَاءُ قَدْ يَنْفَكُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنِ الْعِلِّيَّةِ،، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي كونها دليلا على العلية ظاهرا "فكذا ههنا"***. انْتَهَى. وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ الطَّرْدَ وَالدَّوَرَانَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الطَّرْدِ وَالدَّوَرَانِ: أَنَّ الطَّرْدَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُقَارَنَةِ فِي الْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ، وَالدَّوْرَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُقَارَنَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا. وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ لِلطَّرْدِ الْمَذْكُورِ فِي "الْمَحْصُولِ" قَالَ الْهِنْدِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا1 فِي كَوْنِ الطَّرْدِ حُجَّةً، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُمْ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَانَ اللَّهُ بِهِ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "التَّبْصِرَةِ" عَنِ الصَّيْرَفِيِّ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ مَقْبُولٌ جَدَلًا، وَلَا يُسَوَّغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ عملا و"لا"* الْفَتْوَى بِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ، وَاقْتَدَى بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ، فَصَارُوا يَطْرُدُونَ الْأَوْصَافَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَيَقُولُونَ إِنَّهَا قَدْ صَحَّتْ، كَقَوْلِهِمْ فِي مَسِّ الذَّكَرِ "مَسُّ"** آلَةِ الْحَدَثِ، فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ؛ لِأَنَّهُ طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ، فَأَشْبَهَ الْبُوقَ، وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: إِنَّهُ سَعْيٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَلَا يَكُونُ رُكْنًا، كَالسَّعْيِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ بِنَيْسَابُورَ1، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هَذَا سُخْفٌ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَسَمَّى أَبُو زَيْدٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الطَّرْدَ حُجَّةً، وَالِاطِّرَادَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ حَشْوِيَّةَ أَهْلِ الْقِيَاسِ. قَالَ: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء.
المسلك التاسع: الدوران
الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ: الدَّوَرَانُ وَهُوَ: أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ، وَيَرْتَفِعَ بِارْتِفَاعِهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالتَّحْرِيمِ مَعَ السُّكْرِ فِي الْعَصِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، فَلَمَّا حَدَثَ السُّكْرُ فِيهِ وُجِدَتِ الْحُرْمَةُ، ثُمَّ لَمَّا زَالَ السُّكْرُ بِصَيْرُورَتِهِ خَلًّا زَالَ التَّحْرِيمُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ السُّكْرُ1. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي إِفَادَتِهِ لِلْعِلِّيَّةِ. فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْعِلِّيَّةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ، بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُوجِبُ
الحكم بذاتها، وإنما هي علامة منصوبة، فإذا دَارَ الْوَصْفُ مَعَ الْحُكْمِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ "كَوْنُهُ مُعَرَّفًا"*. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ كُلُّ مَنْ يَعْزِي إِلَى الْجَدَلِ إِلَى أَنَّهُ أَقْوَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ مِنْ أَقْوَى الْمَسَالِكِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ، لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَعَ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْلُولَ دَارَ مَعَ الْعِلَّةِ وَجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ قَطْعًا، وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ مُتَلَازِمَانِ، مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ اتفاقا، والمتضايفان كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ مُتَلَازِمَانِ وَجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ، لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَوُجُوبِ تَصَاحُبِ الْمُتَضَايِفَيْنِ، وَإِلَّا لما كانا متضايفين.
المسلك العاشر تنقيح النماط
المسلك العاشر تنقيح النماط ... الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ 1 التَّنْقِيحُ فِي اللُّغَةِ: التهذيب والتميز، يقال: كَلَامٌ مُنَقَّحٌ، أَيْ: لَا حَشْوَ فِيهِ، وَالْمَنَاطُ هُوَ الْعِلَّةُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَتَعْبِيرُهُمْ بالمناط عن العلة من باب المجازي اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا عُلِّقَ بِهَا كَانَ كَالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَصَارَ ذَلِكَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهُ. انْتَهَى. وَمَعْنَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إِلَّا كَذَا، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجَبِ لَهُ، كَقِيَاسِ الْأُمَّةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السَّرَايَةِ، فإنه لا فارق بَيْنَهُمَا إِلَّا الذُّكُورَةُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ؛ إِذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ قِيَاسٌ خَاصٌّ، مندرج تحت مطلق القياس،
وَهُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يكون ظنيا، وهو الأكثر، وقطعيا ولكن حُصُولَ الْقَطْعِ فِيمَا فِيهِ الْإِلْحَاقٌ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِي الْإِلْحَاقِ فِيهِ بِذِكْرِ الْجَامِعِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى، بَلْ فِي الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَلَا نَعْرِفُ بَيْنَ الْأُمَّةِ خِلَافًا فِي جَوَازِهِ، وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيُّ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ثَابِتٌ بَيْنَ مَنْ يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ، لِرُجُوعِهِ إِلَى الْقِيَاسِ. وَقَدْ زَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ هُوَ مَسْلَكُ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ظَاهِرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي دَلَالَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ، إِمَّا اسْتِقْلَالًا أَوِ اعْتِبَارًا، وَفِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ، لَا لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ.
المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط
الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ: تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَهُوَ: أَنْ يقع الاتفاق على علية وصف بنص، وإجماع، فَيُجْتَهَدَ فِي وُجُودِهَا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ، كَتَحْقِيقِ أَنَّ النَّبَّاشَ سَارِقٌ. وَسُمِّيَ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاطَ وَهُوَ الْوَصْفُ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَاطٌ، وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِ وَجُودِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا قِيَاسًا1. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا الْقِيَاسَ مِنْ أَصْلِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِيَاسُ عِلَّةٍ. وَقِيَاسُ دَلَالَةٍ. وَقِيَاسٌ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ. فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْعِلَّةِ، كَمَا يُقَالُ فِي النَّبِيذِ: إِنَّهُ مُسْكِرٌ فَيَحْرُمُ كَالْخَمْرِ. وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ: هُوَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِيهِ الْعِلَّةُ، بَلْ وَصْفٌ مُلَازِمٌ لَهَا، كَمَا لَوْ عُلِّلَ فِي قِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الخمر برائحة المشتد.
وَالْقِيَاسُ الَّذِي فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، هُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا قَسَّمُوا الْقِيَاسَ إِلَى جَلِيٍّ، وَخَفِيٍّ. فَالْجَلِيُّ: مَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على العبد في أحكام العتق، فإنا علم قَطْعًا أَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فِيهَا مِمَّا لَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّارِعُ، وَأَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ذَلِكَ، فَحَصَلَ لَنَا الْقَطْعُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. وَالْخَفِيُّ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ نَفْيُ الْفَارِقِ فِيهِ مظنونا في كَقِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ؛ إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ خُصُوصِيَّةُ الْخَمْرِ مُعْتَبَرَةً، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ.
الفصل الخامس: فيما لا يجري فيه القياس
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ: حكم جريان القياس في الأسباب: فَمِنْ ذَلِكَ الْأَسْبَابُ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الشَّافِعِيَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهَا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي فِيهَا. وَمَعْنَى الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ: أَنْ يَجْعَلَ الشَّارِعُ وَصْفًا سَبَبًا لِحُكْمٍ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ، فَيُحْكَمُ بِكَوْنِهِ سَبَبًا. وَذَلِكَ نَحْوُ: جَعْلِ الزِّنَا سَبَبًا لِلْحَدِّ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ اللِّوَاطُ، فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَدِّ. احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ عِلِّيَّةَ سَبَبِيَّةِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَهِيَ قَدْرٌ مِنَ الْحِكْمَةِ، يَتَضَمَّنُهَا الْوَصْفُ الْأَوَّلُ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمَقِيسِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْآخَرُ، أَيْ: لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهَا فِيهِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْحِكْمَةِ، وتغاير الوصفين، فيجوز اختلاف قدر الْحِكْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ السَّبَبِيَّةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِيَاسِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ، وَبِهِ يُمْكِنُ التَّشْرِيكُ فِي الْحُكْمِ. وَأَيْضًا: الْحِكْمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً، يُمْكِنُ جَعْلُهَا مَنَاطًا لِلْحُكْمِ أَوْ لَا تَكُونُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: قَدِ اسْتَغْنَى الْقِيَاسُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْوَصْفَيْنِ، وَصَارَ الْقِيَاسُ فِي الْحُكْمِ.
المترتب على الحكمة، وهي الجامع بينهما، فتحد الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَفْرُوضِ. وَعَلَى الثَّانِي: فإما أن يَكُونُ لَهَا مَظِنَّةٌ، أَيْ: وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، تنضبط هي به أولا، فَعَلَى الْأَوَّلِ صَارَ الْقِيَاسُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَاتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ أَيْضًا. وَعَلَى الثَّانِي: لَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا مِنْ حِكْمَةٍ أَوْ مَظِنَّةٍ، فَيَكُونُ قِيَاسًا خَالِيًا عَنِ الْجَامِعِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ: بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ، وَذَلِكَ كَقِيَاسِ الْمُثْقَلِ عَلَى الْمُحَدَّدِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ، وَقِيَاسِ اللِّوَاطَةِ عَلَى الزِّنَا فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْحَدِّ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَغَايَرَ فِيهِ السَّبَبُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَيِ: الْوَصْفُ المتضمن للحكمة، وكذا العلة، وهي الحكمة، وههنا السَّبَبُ سَبَبٌ وَاحِدٌ، يَثْبُتُ لَهُمَا، أَيْ: لِمَحِلَّيِ الْحُكْمِ، وَهُمَا الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَفِي الْمُثْقَلِ وَالْمُحَدَّدِ السَّبَبُ هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ، وَالْعِلَّةُ الزَّجْرُ لِحِفْظِ النَّفْسِ، وَالْحُكْمُ الْقِصَاصُ، وَفِي الزِّنَا وَاللِّوَاطَةِ السَّبَبُ إِيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، مُشْتَهًى طَبْعًا، وَالْعِلَّةُ الزَّجْرُ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَالْحُكْمُ وُجُوبُ الْحَدِّ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَرُدُّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ الْمَانِعِينَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْقِصَاصِ فِي الْمُثْقَلِ، ولا بالحد في اللواط، وإنما يرد على مَنْ قَالَ بِمَنْعِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ. قَالَ الْمُحَقِّقُ السَّعْدُ: وَالْحَقُّ أَنَّ رَفْعَ النِّزَاعِ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَعْنِي: بِكَوْنِهِ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ لَا يَقْصِدُونَ إِلَّا ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْوَصْفَيْنِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجَامِعِ، وَيَعُودُ إِلَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ.
القياس في الحدود والكفارات
القياس في الحدود والكفارات: وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ لَا؟ فَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُمْ1. احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ الْحُدُودَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْدِيرَاتٍ لَا تُعْقَلُ، كَعَدَدِ الْمِائَةِ فِي الزِّنَا، وَالثَمَانِينَ فِي الْقَذْفِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ الْحِكْمَةَ فِي اعْتِبَارِ خُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى فِي حِكْمَةِ الْأَصْلِ، وَمَا كَانَ يُعْقَلُ مِنْهَا، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، لِكَوْنِهَا قَدْ جنت بالسرقة.
فَقُطِعَتْ، فَإِنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْقِيَاسِ لِاحْتِمَالِهِ الْخَطَأَ تُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ، وَهَكَذَا اخْتِلَافُ تَقْدِيرَاتِ الْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ، كَمَا لَا تُعْقَلُ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مِنْهَا، لَا فِيمَا لَا يُعْقَلُ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيهِ، كَمَا فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَلَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِيَّتِهِمَا فِي امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ. وَأُجِيبَ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي الْقِيَاسِ، لِاحْتِمَالِهِ الْخَطَأَ، بِالنَّقْضِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّ احْتِمَالَ الْخَطَإِ فِيهِمَا قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُفِيدَانِ الْقَطْعَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِهِمَا. وَالْجَوَابُ: الْجَوَابُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، بِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ يَتَنَاوَلُهُمَا بِعُمُومِهِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِيهِمَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ حَدُّوا فِي الْخَمْرِ بِالْقِيَاسِ، حَتَّى تَشَاوَرُوا فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الِافْتِرَاءِ"1. فَأَقَامَ مَظِنَّةَ الشَّيْءِ مَقَامَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنَّ الْقِيَاسَ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، لاقتضائه الظَّنِّ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِيهِمَا، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ عَدَمَ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، كَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي ذَلِكَ شُذُوذٌ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ: أَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّلِ بِهِ الحكم في الأصل. واستدل مَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ فِيمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ: بأن الأحكام الشرعية متماثلة؛ لأنه يشتملها حد واحد، وهو حد الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، وَالْمُتَمَاثِلَانِ يَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ التَّمَاثُلَ، وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّوْعِ، فَإِنَّ الْأَنْوَاعَ الْمُتَخَالِفَةَ قَدْ تَنْدَرِجُ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَيَعُمُّهَا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَدُّ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَمَاثُلُهَا، بَلْ تَشْتَرِكُ فِي الْجِنْسِ، وَيَمْتَازُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِأَمْرٍ يُمَيِّزُهُ، وَحِينَئِذٍ فَمَا كَانَ يَلْحَقُهَا بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ مِنَ الْجَوَازِ وَالِامْتِنَاعِ يَكُونُ عَامًّا، لَا مَا كَانَ يَلْحَقُهَا باعتبار غيره.
الفصل السادس: في الاعتراضات
الفصل السادس: في الاعتراضات مدخل ... الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي الِاعْتِرَاضَاتِ أَيْ: مَا يَعْتَرِضُ بِهِ الْمُعْتَرِضُ عَلَى كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُطَالَبَاتٍ، وَقَوَادِحَ، ومعارضة؛ لأن الكلام الْمُعْتَرِضِ: إِمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَسْلِيمَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ أَوْ لَا. الْأَوَّلُ: الْمُعَارَضَةُ. وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ ذَلِكَ الدَّلِيلَ أَوْ لَا. الْأَوَّلُ: الْمُطَالَبَةُ. وَالثَّانِي: الْقَدْحُ. وَقَدْ أَطْنَبَ الْجَدَلِيُّونَ فِي هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَوَسَّعُوا دَائِرَةَ الْأَبْحَاثِ فِيهَا، حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا ثَلَاثِينَ اعْتِرَاضًا، وَبَعْضُهُمْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهَا عَشْرَةً، وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ رَاجِعَةً إِلَيْهَا، فَقَالَ هِيَ: فَسَادُ الْوَضْعِ، فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، عدم التأثير، القول بالموجب، النقض، القلب، المنع، التقسيم، المعارضة، المطالبة. قال: ولكل مُخْتَلَفٌ فِيهِ إِلَّا الْمَنْعَ، وَالْمُطَالَبَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمَنْعِ وَالْمُطَالَبَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ فِي الْمَنْعِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ "الْعَنْبَرِيُّ"*، وَخَالَفَ فِي الْمُطَالَبَةِ شُذُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ": إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعٍ، أَوْ مُعَارَضَةٍ، وَإِلَّا لَمْ تُسْمَعْ، وَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَهَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا كَالْعِلَاوَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا عِلْمُ الْجَدَلِ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ": إِنَّهَا أَرْبَعَةٌ: النَّقْضُ، وَعَدَمُ التأثير، والقول بالموجب، والقلب. انتهى. وسنذكر ههنا منها ثمانية وعشرين اعتراضا.
الاعتراض الأول: النقض
الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ: النَّقْضُ وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اعْتَرَفَ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ كَانَ نَقْضًا صَحِيحًا، عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ قَادِحًا، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهُ قَادِحًا فَلَا يُسَمِّيهِ نَقْضًا، بَلْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ بَالَغَ أَبُو زَيْدٍ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُسَمِّيهِ نَقْضًا1. وَيَنْحَصِرُ النَّقْضُ فِي تِسْعِ صُوَرٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِمَّا مَنْصُوصَةٌ قَطْعًا، أَوْ ظَنًّا، أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ، وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا: إِمَّا لِمَانِعٍ، أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، أو بدونها. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلَّةً مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً عن سواء كَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ أَوْ لَا لِمَانِعٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَرَجَّحُوا أَنَّهُ مَذْهَبُهُ2. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ مُطْلَقًا فِي كَوْنِهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَ النَّقْضِ، وَيَتَعَيَّنُ بِتَقْدِيرِ مَانِعٍ، أَوْ تَخَلُّفِ شَرْطٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أكثر أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وَأَحْمَدَ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ، وَيَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ، حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْمُعْظَمِ، فَقَالَ: ذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ النَّقْضَ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ. وَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": زَعَمَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفَ إِذَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ لَمْ يَقْدَحِ التَّخْصِيصُ فِي عِلِّيَّتِهِ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ، عَكْسُ الَّذِي قَبْلَهُ، حَكَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إِذَا كَانَ لِمَانِعٍ أَوْ عَدَمِ شَرْطٍ، وَيَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: لَعَلَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ، وَفِي كَلَامِ الآمدي ما يدفعه.
المذهب السادس: أنه لا يقدح حيث وجود مَانِعٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعُ قَدْحٍ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ. الْمَذْهَبُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فِي صُورَتَيْنِ، إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءِ شَرْطٍ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ بِدُونِهِمَا. وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ: فَإِنْ كَانَ النَّصُّ ظَنِّيًّا، وَقُدِّرَ مَانِعٌ، أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يَجُزْ، أَيْ: لَمْ يَكُنْ وقوعه؛ لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدَّلِيلُ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ إِلَّا بِظَاهِرٍ عَامٍّ، وَلَا يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إِلَّا لِمَانِعٍ، أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ. الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي عِلَّةِ الْوُجُوبِ وَالْحَلِّ، دُونَ عِلَّةِ الْحَظْرِ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ يَقْدَحُ إِنِ انْتَقَضَتْ عَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَهَا عِلَّةً، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِنِ اطَّرَدَتْ عَلَى أَصْلِهِ أُلْزِمَ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ: وَهُوَ مِنْ حَشْوِ الْكَلَامِ، لَوْلَا أَنَّهُ أُودِعَ كِتَابًا مُسْتَعْمَلًا لَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى. الْمَذْهَبُ الْعَاشِرُ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً لَمْ يَرِدِ النَّقْضُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُنْقَضُ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النَّقْضَ يُفِيدُ عَدَمَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ. الْمَذْهَبُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنِ اتَّجَهَ فَرْقٌ بَيْنَ مَحَلِّ التَّعْلِيلِ، وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ بطلت عليته؛ لكونه المذكور أولا جزء مِنَ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَتْ عِلَّةً تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَتَّجِهْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مجمعا عليه، أو ثابتا بمسلك قاطع "سَمْعِيٍّ"* بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ. الْمَذْهَبُ الثَّانِيَ عَشَرَ: إِنْ "تَخَلَّفَ"** الحكم عن العلة "له"*** ثَلَاثُ صُوَرٍ. الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يَعْرِضَ فِي جَرَيَانِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ اطِّرَادِهَا، فَإِنَّهُ يَقْدَحُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْتَفِيَ الْعِلَّةُ لَا لِخَلَلٍ فِي نَفْسِهَا، لَكِنْ لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، فَهَذِهِ لا تقدح. الثالثة: أن يختلف الْحُكْمُ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ، لَكِنْ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلَّهَا، أَوْ شَرْطَهَا، فَلَا يَقْدَحُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَفِي كَلَامِهِ طُولٌ. الْمَذْهَبُ الثالث عشر: إن كان النقص مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ فَلَا يَقْدَحُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قد يكون
صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَيَنْقُضُهُ الْمُسْتَدِلُّ، فَلَا يَكُونُ نَقْضُهُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْقُضُهُ عَلَى أَصْلِهِ، وَيَكُونُ أَصْلُ غَيْرِهِ مُخَالِفًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَرِضِ قَدَحَ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ إِنْ ثَبَتَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ، أَوِ الدَّوْرَانِ، وَكَانَ النَّقْضُ بِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا لِمَانِعٍ، لَمْ يَقْدَحْ فِي عِلِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ لَا لِمَانِعٍ قَدَحَ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَنَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِينَ. الْمَذْهَبُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ فُسِّرَتْ بِالْمُوجِبَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مَعَ الِانْتِقَاضِ، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِالْمُعَرِّفَةِ، فَيُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مَعَ الِانْتِقَاضِ، وَهَذَا رَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، لَا لَفْظِيٌّ، عَلَى كل حال. قال الزركشي: في "البحر": واعمل أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْعِلَّةِ مَنْقُوضٌ بِكَذَا؛ فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ، وَيُطَالِبُهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِهَا فِي مَحَلِّ النَّقْضِ، وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ مَسْمُوعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. انْتَهَى1. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَيْدِ الدَّافِعِ لِلنَّقْضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، بَلْ غَيْرُ الْمُنَاسِبِ مَقْبُولٌ، مَسْمُوعٌ اتِّفَاقًا، وَالْمَانِعُونَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالشَّبَهِ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": هَلْ يَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِقَيْدٍ طَرْدِيٍّ؟ أَمَّا الطَّارِدُونَ فَقَدْ جوزوه، وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزوه، وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ أَجْزَاءِ العلة إذا لم يكون مُؤَثِّرًا لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعُ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرًا، وَهَكَذَا قال إمام الحرمين في "الْبُرْهَانِ"، ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الطَّرْدِيُّ يُشِيرُ إِلَى مَسْأَلَةٍ تُفَارِقُ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ بِفِقْهٍ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، قَالَ: وَلَوْ فُرِضَ التَّقْيِيدُ بَاسِمٍ غَيْرِ مُشْعِرٍ بِفِقْهٍ، وَلَكِنْ مُبَايَنَةُ الْمُسَمَّى بِهِ لِمَا عَدَاهُ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ النُّظَّارِ، فَهَلْ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِمِثْلِهِ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ؟ اخْتَلَفَ فيه الجدليون، والأقرب تصحيحه؛ لأنه اصطلاح2.
الاعتراض الثاني: الكسر
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: الْكَسْرُ وَهُوَ إِسْقَاطُ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَإِخْرَاجُهُ عَنِ الِاعْتِبَارِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ في حد العلة1.
هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْجَدَلِيِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ: بِأَنَّهُ وُجُودُ الْمَعْنَى فِي صُورَةٍ، مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ: وُجُودُ مَعْنَى تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ كَالنَّقْضِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ": الْكَسْرُ: وَهُوَ نَقْضُ الْمَعْنَى، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالنَّقْضِ. وَمِثَالُهُ: أَنْ يُعَلِّلَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ بِالْمَشَقَّةِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ يَنْتَقِضُ بِمَشَقَّةِ أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْكَسْرَ غَيْرُ مُبْطِلٍ. وَأَمَّا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُمُ: الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، فَجَعَلُوهُ مِنَ الْقَوَادِحِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: الْكَسْرُ نَقْضٌ يَرِدُ عَلَى بَعْضِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ بِالنَّقْضِ الْمَكْسُورِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، إِلَّا إِذَا بَيَّنَ الْخَصْمُ إِلْغَاءَ الْقَيْدِ، وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِالْكَسْرِ إِلَّا إِذَا بَيَّن أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ، وَأَمَّا إِذَا بَيَّن، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ قَادِحٌ، وَقَوْلُ الْآمِدِيِّ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ غير قادح مردود. قال الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "التَّلْخِيصِ": وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَسْرَ سُؤَالٌ مَلِيحٌ، وَالِاشْتِغَالَ بِهِ يَنْتَهِي إِلَى بَيَانِ الْفِقْهِ، وَتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِفْسَادِ الْعِلَّةِ بِهِ، وَيُسَمُّونَهُ النَّقْضَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَالْإِلْزَامَ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ، وَأَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ. انْتَهَى. وَقَدْ جَعَلُوا مِنْهُ مَا رواه البيهقي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ دُعي إِلَى دَارٍ فَأَجَابَ، ودُعي إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَلَمْ يُجِبْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّ فِي دَارِ فُلَانٍ كلبا"، فقيل: وفي هذه الدار سنور، فقال: "السنور سبع" 1.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْهِرَّةَ يَكْسِرُ المعنى، فأجاب بالفرق، هو أَنَّ الْهِرَّةَ سَبُعٌ، أَيْ: لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، كَذَا قِيلَ. قَالَ فِي "الْمَنْخُولِ": قَالَ الْجَدَلِيُّونَ: الْكَسْرُ يُفَارِقُ النَّقْضَ، فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى إِخَالَةِ الْمُعَلِّلِ، لَا عَلَى عِبَارَتِهِ، وَالنَّقْضُ يَرِدُ عَلَى الْعِبَارَةِ، قَالَ: وَعِنْدَنَا لَا مَعْنَى لِلْكَسْرِ، فَإِنَّ كُلَّ عِبَارَةٍ لَا إِخَالَةَ فِيهَا، فَهِيَ طَرْدٌ مَحْذُوفٌ، فَالْوَارِدُ عَلَى الْإِخَالَةِ نَقْضٌ، وَلَوْ أُورِدَ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ كَوْنِهِمَا مُخْتَلِفَيْنِ، فَهُوَ بَاطِلٌ لا يقبل1.
الاعتراض الثالث: عدم العكس
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الْعَكْسِ وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ عَلَى مَنْعِ تَقْدِيمِ أَذَانِ الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ: صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا كَالْمَغْرِبِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ مَنْعُ التَّقْدِيمِ لِلْأَذَانِ عَلَى الْوَقْتِ مَوْجُودٌ فِيمَا قُصِرَ مِنَ الصَّلَوَاتِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ اجْتِمَاعَ الْعِلَلِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَالْعَكْسُ لَازِمٌ مَا لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ "بِتَوْقِيفٍ"*، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُهُ، بِخِلَافِ مَا أَلْزَمْنَاهُ فِي النَّقْضِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ داعٍ إِلَى الِانْتِشَارِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ إِشْعَارَ النَّفْيِ بِالنَّفْيِ مُنْحَطٌّ عَنْ إِشْعَارِ الثُّبُوتِ بِالثُّبُوتِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا يَرِدُ سُؤَالُ الْعَكْسِ، إِلَّا أن يتفق المتناظران على اتحاد العلة.
الاعتراض الرابع: عدم التأثير
الاعتراض الرابع: عدم التأثير وقد ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ قَوِيٌّ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنَّهُ مِنْ أَصَحِّ مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ. وقال ابن السَّمْعَانِيُّ: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا سُؤَالَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ، وَلَسْتُ أَرَى لَهُ وَجْهًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعَلِّلُ التَّأْثِيرَ لِعِلَّتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ مَا أُقِيمَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا بالتأثير، وقد
جَعَلَهُ الْقَائِلُونَ بِهِ مُنْقَسِمًا إِلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: عدم التأثير في الوصف "لكونه"* طَرْدِيًّا وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عَدَمِ الْعَكْسِ السَّابِقِ قَبْلَ هَذَا كَقَوْلِهِمْ صَلَاةُ الصُّبْحِ لَا تُقْصَرُ فَلَا تُقَدَّمُ عَلَى وَقْتِهَا كَالْمَغْرِبِ فَقَوْلُهُمْ: لَا تقصر "وصف"** طردي بالنسبة إلى عدم التَّقْدِيمِ. الثَّانِي: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ "بِكَوْنِهِ"*** مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي الْأَصْلِ لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْغَرَضِ، كَقَوْلِهِمْ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ مَبِيعٌ غير مرئي كالطير في الهواء؛ فلا يصح فَيُقَالُ: لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَرْئِيٍّ فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنِ التَّسْلِيمِ كافٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الطَّيْرِ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا. وَحَاصِلُهُ: مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُلْغِي مِنَ الْعِلَّةِ وَصْفًا، ثُمَّ يُعَارِضُهُ الْمُسْتَدِلُّ بِمَا بَقِيَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فَسَادُ الْعِلَّةِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: بَلْ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذلك القيد له أثر في الجمل، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ بَعْدَ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَيْدَ لَيْسَ مَحَلَّهُ، وَلَا وَصْفًا لَهُ، فَذِكْرُهُ لَغْوٌ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ الثَّالِثِ، فَإِنَّهُ مُتَهَيِّئٌ لِأَنْ يَصِيرَ عند عدم صحة شهادته أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ رُكْنًا. الثَّالِثُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا؛ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي الْحُكْمِ، إِمَّا ضَرُورِيَّةً، كَقَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ "عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْأَحْجَارِ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا معصية، فاشترط فيها العد كَالْجِمَارِ"****. وَإِمَّا غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ، كَقَوْلِهِمُ: الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالظُّهْرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: مَفْرُوضَةٌ حَشْوٌ لَوْ حُذِفَ لَمْ يَضُرَّ. الرَّابِعُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْفَرْعِ، كَقَوْلِهِمْ: زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ: "تَزَوَّجَتْ***** مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، "فَيُقَالُ"******: غَيْرُ كُفْءٍ لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْجَوَازُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. والثاني: المنع.
وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، وَهُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ مَعَ تَبْيِينِ مَحَلِّ السُّؤَالِ، وَالْجَوَازُ مَعَ عَدَمِهِ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. الْخَامِسُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ فِي الدَّلِيلِ وَصْفًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يُتْلِفُونَ الْأَمْوَالَ: مُشْرِكُونَ أَتْلَفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ كَالْحَرْبِيِّ، فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُكْمِ، فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ الضَّمَانَ يُوجِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا مَنْ نَفَاهُ يَنْفِيهِ مُطْلَقًا.
الاعتراض الخامس: القلب
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ: الْقَلْبُ قَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْقَالَبُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَالْأَوَّلُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ فِي الْأَقْيِسَةِ. وَمِثْلُهُ فِي الْمَنْصُوصِ: بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ فِي تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ" 1. فَأَثْبَتَ إِرْثَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَيْكَ لَا لَكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، أَيْ: لَيْسَ الْجُوعُ زَادًا، وَلَا الصَّبْرُ حِيلَةً. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْقَلْبُ مُعَارَضَةٌ إِلَّا فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ فِي الْعِلَّةِ، وَفِي سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ يُمْكِنُ. وَالثَّانِي: لَا يُمْكِنُ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ وَفَرْعَهُ أَصْلُ الْمُعَلِّلِ وَفَرْعُهُ، وَيُمْكِنُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ، أَمَّا فِيمَا وَرَاءَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارَضَةِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ دَعْوَى؛ "لِأَنَّ"* مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي تلك المسألة على ذلك الوجه. انتهى.
وَجَعَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشُرَّاحُ كَلَامِهِ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ لِتَنَافِيهِمَا. وَثَانِيهِمَا: إِبْطَالُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ ابْتِدَاءً، إما صريحا، أو بالالتزام. ومثال الأول: أن يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: الِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ لُبْثٌ، فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءٍ، فَلَا يَكْفِي أَقَلُّهُ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبُعِ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، هَذَا الصَّرِيحُ. وَأَمَّا الِالْتِزَامُ: فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: بَيْعُ غَيْرِ الْمَرْئِيِّ بَيْعُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ: كَالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، كَالنِّكَاحِ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اعْتِبَارِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّهُ قَادِحٌ. وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَقَالَ: إِنَّ الْحُكْمَيْنِ، أَيْ: مَا يُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَمَا يُثْبِتُهُ الْقَالَبُ، إِنْ لَمْ يَتَنَافَيَا فَلَا قَلْبَ؛ إِذْ لَا مَنْعَ مِنَ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِحُكْمَيْنِ غَيْرِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَإِنِ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنِ الرَّدُّ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بعينه، فلا يكون قلبا؛ إذ لا بد فِيهِ مِنَ الرَّدِّ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ لِذَاتِهِمَا، فَلَا جَرَمَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْقَالِبُ الْحُكْمَ الْآخَرَ فِي الْفَرْعِ بِالرَّدِّ إِلَى الْأَصْلِ، امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَازِمٌ جَدَلًا لَا دِينًا1. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقَلْبَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، حَيْثُ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 2 فِي مَسْأَلَةِ الساحة، قال: وفي "هدم"* البناء ضرار
بِالْغَاصِبِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُنَا: وَفِي بَيْعِ صَاحِبِ السَّاحَةِ "لِسَاحَتِهِ"* إِضْرَارٌ بِهِ1. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: "لَا"** يَصِحُّ سُؤَالُ الْقَلْبِ، قَالَ: وَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ، يَشْهَدُ لَكَ وَيَشْهَدُ عَلَيْكَ، قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَالِبَ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلِيلِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَارَضَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: هُوَ بَاطِلٌ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ، جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً، وَالْعِلَّةِ مَعْلُولًا، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنْ لَا عِلَّةَ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَالْمَعْلُولَ هُوَ الْحُكْمُ الْوَاجِبُ لَهَا. وَقَدْ فَرَّقُوا بين القلب والمعارض بِوُجُوهٍ: مِنْهَا مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ. وقال القاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّهُ مُعَارَضَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَالْحَقُّ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ، اشْتَرَكَ فِيهِ الْأَصْلُ وَالْجَامِعُ، فَكَانَ أَوْلَى بالقبول.
الاعتراض السادس: القول بالموجب
الِاعْتِرَاضُ السَّادِسُ: الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، أَيِ: الْقَوْلُ بِمَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وَحَدُّهُ: تَسْلِيمُ مَا جَعَلَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُوجَبَ الْعِلَّةِ، مَعَ اسْتِبْقَاءِ الْخِلَافِ. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَذَلِكَ بِأَنْ يَظُنَّ الْمُعَلِّلُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسْتَلْزَمٌ لِمَطْلُوبِهِ، مِنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَلْزَمٍ. قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَعْرِيفِ الرَّازِيِّ لَهُ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: حَدُّوهُ بِتَسْلِيمِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ بَيَانُ غلظ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى إِيجَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شاةٌ" 1 فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَقُولُ بِمُوجَبِ هَذَا الدَّلِيلِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، "فَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحَدُّ"*، وَلَيْسَ قَوْلًا بِالْمُوجَبِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَظْهَرَ عُذْرٌ لِلْمُسْتَدِلِّ عُذْرٌ مُعْتَبَرٌ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ: أن يذكر المستدل إحدى المقدمتين، ويسكت عن الْأُخْرَى، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ، فَيَقُولَ الْخَصْمُ بِمُوجَبِ الْمُقَدِّمَةِ، وَيَبْقَى عَلَى الْمَنْعِ لِمَا عَدَاهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُسْتَدِلُّ تَلَازُمًا بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَبَيْنَ مَحَلٍّ آخَرَ، فَيَنْصِبَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ بِالْمُوجَبِ وَمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارَضَةِ: أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى خُرُوجِ الدَّلِيلِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْمُعَارَضَةُ فِيهَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ لِلدَّلِيلِ دَلَالَةً عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُمَانَعَةِ، وَلَا بُدَّ فِي "تَوَجُّهِهِ"** مِنْ شَرْطٍ، وَهُوَ أَنْ يُسْنَدَ الْحُكْمُ الَّذِي يُنْصَبُ لَهُ الْعِلَّةُ إِلَى شَيْءٍ، مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي مَاءِ الزَّعْفَرَانِ: مَاءٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ، وَالْمُخَالَطَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوُضُوءِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: الْمَخَالِطُ لَا يمنع، لكنه ليس بماء مطلق2.
قَالَ فِي "الْمَنْخُولِ"1: الْأُصُولِيُّونَ يَقُولُونَ تَارَةً: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ لَيْسَ اعْتِرَاضًا، وَهُوَ لَعَمْرِي كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ؛ لِأَنَّهَا إِذَا جَرَتِ الْعِلَّةُ وَحُكْمُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ فَلَأَنْ تَجْرِي وَحُكْمُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إِبْدَاءُ سَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: يَجِبُ لِقُرْبِهِ إِلَى ضَبْطِ الْكَلَامِ، وَصَوْنِهِ عَنِ الْخَبْطِ، وَإِلَّا فَقَدَ يَقُولُ بِالْمُوجَبِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى بِمَا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْجَوَابُ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَآخِذِ مَذْهَبِهِ، قَالَ الْآمِدِيُّ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
الاعتراض السابع: الفرق
الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ: الْفَرْقُ وَهُوَ إِبْدَاءُ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْفَرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ شَبَهًا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ شَبِيهَةً، بِأَنْ يَجْمَعَ الْمُسْتَدِلُّ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَيُبْدِي الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْكَلَامُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ انْتَهَى. وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَرْقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ هُوَ، وَلَيْسَ كُلَّمَا انْفَرَدَ "بِهِ"* الْأَصْلُ بِوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ يَكُونُ مُؤَثِّرًا، مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُلْغًى لِلِاعْتِبَارِ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ الْوَصْفُ الْفَارِقِ قَادِحًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قاطعا للجمع: "بأن"** كون أَخَصَّ مِنَ الْجَمْعِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، أَوْ مِثْلَهُ فَيُعَارِضُهُ. قَالَ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ فِي حِدَّهِ: الْفَرْقُ قَطْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ؛ إِذِ اللَّفْظُ أَشْعَرُ بِهِ. وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَقِيقَتُهُ الْمَنْعُ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِذِكْرِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ، أَوْ فِي الْأَصْلِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّ الْفَرْقَ لَيْسَ سؤالا على حياله، وإنما هو
مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ بِمَعْنًى أَوْ مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَهُوَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ، كَمَا اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَجُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْفُقَهَاءِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُعْتَرَضُ عَلَى الْفَارِقِ مَعَ قَبُولِهِ فِي الْأَصْلِ بِمَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ.
الاعتراض الثامن: الاستفسار
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ: الِاسْتِفْسَارُ وَقَدْ قَدَّمَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الِاعْتِرَاضَاتِ، وَمَعْنَاهُ: طَلَبُ شَرْحِ مَعْنَى اللَّفْظِ إِنْ كَانَ غَرِيبًا، أَوْ مُجْمَلًا، وَيَقَعُ بِهَلْ، أَوِ الْهَمْزَةِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ شَرْحُ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ سُؤَالٌ مَقْبُولٌ مُعَوَّلٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ غَلِطَ مَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا، لَمْ يَظْهَرْ وِفَاقٌ وَلَا خِلَافٌ. وَقَدْ يَرْجِعُ الْمُخَالِفُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ "عَنْ* أن يتضح له محل النزاع، ولكن لَا يَقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ اشْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَى إِجْمَالٍ، أَوْ غَرَابَةٍ، فَيَقُولَ الْمُعْتَرِضُ. أَوَّلًا: اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُجْمَلٌ، أَوْ غَرِيبٌ بِدَلِيلِ كَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ التَّفْسِيرُ. وَحَكَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْجَدَلِيِّينَ أَنْكَرَ كَوْنَهُ اعْتِرَاضًا؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ فَرْعُ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ1. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ لِلِاعْتِرَاضَاتِ قَدْ جَعَلُوهُ طَلِيعَةَ جَيْشِهَا، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا؛ إِذِ الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْدَشُ بِهِ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ، وَالِاسْتِفْسَارُ ليس من هذا القبيل.
الاعتراض التاسع: فساد الاعتبار
الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعُ: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ أَيْ: أَنَّهُ لَا يمكن اعتبار القياس في ذلك الحكم، لمخالفه للنص، أو الإجماع، أو كان الحكم ما لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ1، أَوْ كَانَ تَرْكِيبُهُ مشعرا بنقيد الحكم المطلوب.
وَخَصَّ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ بِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، فَقَدَّمُوا الْقِيَاسَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَجَوَابُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَحَدِ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الطَّعْنُ فِي سَنَدِ النَّصِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. أَوْ مَنْعُ ظُهُورِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ الْمُسْتَدِلُّ، أَوْ بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ ظاهرة، وأن مَدْلُولَهُ لَا يُنَافِي حُكْمَ الْقِيَاسِ. أَوِ الْمُعَارَضَةُ لَهُ بِنَصٍّ آخَرَ حَتَّى يَتَسَاقَطَا، وَيَصِحَّ الْقِيَاسُ. أَوْ أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَرْجَحُ مِنَ النَّصِّ الَّذِي عُورِضَ "بِهِ"*، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى ذلك.
الاعتراض العاشر: فساد الوضع
الاعتراض العاشر: فساد الوضع 1 وذلك بإبطال ضع الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَخْصُوصِ، بِأَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْجَامِعَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ. وَالْوَصْفُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّقِيضَانِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُضَيَّقًا، وَالْآخِرُ مُوَسَّعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا مُخَفَّفًا، وَالْآخِرُ مُغَلَّظًا، أَوْ أَحَدُهُمَا إِثْبَاتًا، وَالْآخِرُ نَفْيًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ وَالِاعْتِرَاضِ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ أَعَمُّ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ، فَكُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَلَا عَكْسَ وَجَعَلَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: هُمَا شَيْئَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا بينهما، وقالوا: فساد الوضع، وهو: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الْعِلَّةِ "ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ، وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ هُوَ: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى الْعِلَّةِ"* خلاف ما يقتضيه النص.
وَقِيلَ: فَسَادُ الْوَضْعِ: هُوَ إِظْهَارُ كَوْنِ الْوَصْفِ مُلَائِمًا لِنَقِيضِ الْحُكْمِ، مَعَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ، وَمِنْهُ: الاحتراز عند تَعَدُّدِ الْجِهَاتِ لِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ تَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ، وَعَنْ تَرْكِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ مُلَاءَمَةِ الْوَصْفِ لِلنَّقِيضِ دُونَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ؛ إِذْ هُوَ عِنْدَ فَرْضِ اتِّحَادِ الْجِهَةِ خُرُوجٌ عَنْ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى الْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَذَكَرَ أبو زيد أن هَذَا السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى الطَّرْدِ، وَالطَّرْدُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَقْوَى مِنَ النَّقِيضِ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ إِذَا فَسَدَ لَمْ يَبْقَ إلا الانتقال، والنقض يمكن الاحتراز عنه. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي "شَرْحِ الْمَحْصُولِ": هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمَنَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ؛ إِذْ لَا تُوَجُّهَ لَهُ لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنِ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ. وَجَوَابُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِبَيَانِ وُجُودِ الْمَانِعِ فِي أَصْلِ المعترض.
الاعتراض الحادي عشر: المنع
الِاعْتِرَاضُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الْمَنْعُ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْمُمَانَعَةُ: أَرْفَعُ سُؤَالٍ عَلَى الْعِلَلِ. وَقِيلَ: "إِنَّهَا"* أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ بِالِاتِّفَاقِ إِلَى مَا يُعَلَّلُ، وَإِلَى مَا لَا يُعَلَّلُ، فَمَنِ ادَّعَى تَعْلِيلَ شَيْءٍ كُلِّفَ بِبَيَانِهِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّمَا "يَتَّجِهُ"** هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ تَحْرِيرًا، فَإِنَّ الْفَرْعَ فِي الْعِلَّةِ الْمُحَرَّرَةِ يَرْتَبِطُ بِالْأَصْلِ. قَالَ إِلِكْيَا: هَذَا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ إِذَا أَتَى بِالْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا السُّؤَالِ مَعْنًى, الثَّانِي: مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَقْتَضِي انْقِطَاعَ الْمُسْتَدِلِّ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي انْقِطَاعَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِهِ جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَإِلِكْيَا الطَّبَرِيُّ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، الْمَشْهُورُ بَيْنَ النُّظَّارِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الحاجب.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَنْعُ جَلِيًّا فَهُوَ انْقِطَاعٌ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: يَتْبَعُ عُرْفَ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ، فَإِنَّ الْجَدَلَ مَرَاسِيمُ، فَيَجِبُ إِتِّبَاعُ الْعُرْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدْرِكٌ غَيْرُهُ جَازَ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ1
الاعتراض الثاني عشر: التقسيم
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِيَ عَشَرَ: التَّقْسِيمُ وَهُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ، وَالْآخِرُ مُسَلَّمٌ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا، غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي أَحَدِهِمَا. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعًا، وَالْآخِرُ مُسَلَّمًا، بَلْ قَدْ يَكُونَانِ مُسَلَّمَيْنِ، لَكِنَّ الَّذِي يَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ "مَا"* يَرِدُ عَلَى الْآخَرِ؛ إِذْ لَوِ اتَّحَدَ "مَا"** يَرِدُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا مَمْنُوعَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لَا يُفِيدُ. وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ قَبُولِ هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ إِبْطَالَ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا له؛ إذ لعله غير مراده. مثال: فِي الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ، إِذَا فَقَدَ الْمَاءَ وَجَدَ سَبَبَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ -وَهُوَ تَعَذُّرُ الْمَاءِ- فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا الْمُرَادُ بِكَوْنِ تَعَذُّرِ الْمَاءِ سَبَبًا لِلتَّيَمُّمِ، هَلْ تَعَذُّرُ الْمَاءِ مُطْلَقًا، أَوْ تَعَذُّرُهُ فِي السَّفَرِ، أَوِ الْمَرَضِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ مَنْعٌ بَعْدَ تَقْسِيمٍ، فَيَأْتِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي صَرِيحِ الْمَنْعِ مِنْ كونه مقبولا أو مردودا، وموجبا لِلِانْقِطَاعِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ. وَجَوَابُهُ: أَنْ يُعَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَلَوْ عُرْفًا أو ظاهرا.
الاعتراض الثالث عشر: اختلاف الضابط بين الأصل والفرع
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثَ عَشَرَ: اخْتِلَافُ الضَّابِطِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ اخْتِلَافُ الضَّابِطِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْجَامِعِ، كَقَوْلِهِمْ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ:
تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا، فَلَزِمَهُمُ الْقِصَاصُ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ التَّسَبُّبِ، كَالْمُكْرَهِ، فَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إنما هو الْحِكْمَةِ، وَهِيَ الزَّجْرُ، وَالضَّابِطُ فِي الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ، وَفِي الْأَصْلِ الْإِكْرَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ بِالْحِكْمَةِ وَحْدَهَا، وَضَابِطُ الْفَرْعِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِضَابِطِ الْأَصْلِ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ. وَجَوَابُهُ: بِبَيَانِ كَوْنِ التَّعْلِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مَضْبُوطًا عُرْفًا، أَوْ بِبَيَانِ الْمُسَاوَاةِ في الضابط1.
الاعتراض الرابع عشر: اختلاف حكمي الأصل والفرع
الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعَ عَشَرَ: اخْتِلَافُ حُكْمَيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قِيلَ: إِنَّهُ قَادِحٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ مُمَاثَلَةُ الفرع للأصل في علته وحكمه، فإن اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لَمْ تَتَحَقَّقِ الْمُسَاوَاةُ، وَذَلِكَ كَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ فِي نِكَاحِهَا، قِيَاسًا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي مَالِهَا.
الاعتراض الخامس عشر: منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم الأصل
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ مَا يَدَّعِيهِ المستدل علة لحكم الأصل منع كون ما يدعيه المستدل علة لحكم الأصل، موجودا في الأصل، فضلا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةَ. مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ فِي الْكَلْبِ: حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا، فَلَا يَقْبَلُ جِلْدَهُ الدَّبَّاغُ، كَالْخِنْزِيرِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِنْزِيرَ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سبعا. والجواب عن هذا الِاعْتِرَاضِ: بِإِثْبَاتِ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ بِمَا هُوَ طَرِيقُ ثُبُوتِ مِثْلِهِ، إِنْ كَانَ حِسِّيًّا فَبِالْحِسِّ، وَإِنْ كَانَ عَقْلِيًّا فَبِالْعَقْلِ، وَإِنْ كَانَ شرعيا فبالشرع.
الاعتراض السادس عشر: منع كون الوصف المدعى عليته علة
الِاعْتِرَاضُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ عِلَّةً قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى": وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْئِلَةِ لِعُمُومِهِ، وَتَشَعُّبِ مَسَالِكِهِ، وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ، وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى اللَّعِبِ فِي التَّمَسُّكِ بِكُلِّ طَرْدِيٍّ. انْتَهَى. مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ فِي الْكَلْبِ: حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سبعا، فلا يقبل جلده الدباغ "كالخنزير، فيقول: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ لَا يَقْبَلُ الدِّبَاغَ"*، مُعَلَّلًا بِكَوْنِهِ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ. وَجَوَابُهُ: بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِهَا الْمَذْكُورَةِ سابقا.
الاعتراض السابع عشر: القدح في المناسبة
الِاعْتِرَاضُ السَّابِعَ عَشَرَ: الْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَهُوَ إِبْدَاءُ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، أَوْ مُسَاوِيَةٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَةِ. وَجَوَابُهُ: تَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا.
الاعتراض الثامن عشر: القدح في إفضائه إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم له
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقَدْحُ فِي إِفْضَائِهِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَهُ مِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ مُصَاهَرَةِ الْمَحَارِمِ عَلَى التَّأْبِيدِ: إِنَّهَا الْحَاجَةُ إِلَى ارْتِفَاعِ الْحِجَابِ. وَوَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى رَفْعِ الْفُجُورِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ رَفْعَ الْحِجَابِ، وَتَلَاقِيَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يُفْضِي إِلَى الْفُجُورِ، وَأَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِتَحْرِيمِ التَّأْبِيدِ؛ إِذْ يَرْتَفِعُ الطَّمَعُ الْمُفْضِي إِلَى مُقَدِّمَاتِ الْهَمِّ وَالنَّظَرِ، الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفُجُورِ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ، بَلْ سَدُّ بَابِ النِّكَاحِ أَفْضَى إِلَى الْفُجُورِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ حَرِيصَةٌ عَلَى مَا مُنِعَتْ مِنْهُ، وَقُوَّةُ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْيَأْسِ عَنِ الْحَلِّ مَظَنَّةُ الْفُجُورِ. وَجَوَابُهُ بِبَيَانِ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: التَّأْبِيدُ يَمْنَعُ عَادَةً مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْهَمِّ وَالنَّظَرِ، وَبِالدَّوَامِ يَصِيرُ كَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ.
الاعتراض التاسع عشر: كون الوصف غير ظاهر
الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعَ عَشَرَ: كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ ظَاهِرٍ كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ ظَاهِرٍ، كَالرِّضَا فِي الْعُقُودِ. وَجَوَابُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِهِ ظَاهِرًا، كَضَبْطِ الرِّضَا بصيغ العقود، ونحو ذلك.
الاعتراض العشرون: كون الوصف غير منضبط
الاعتراض العشرون: كون الوصف غير منضبط كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، كَالْحِكَمِ، وَالْمَصَالِحِ، مِثْلُ الْحَرَجِ، وَالْمَشَقَّةِ، وَالزَّجْرِ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ ذَوَاتُ مَرَاتِبَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَلَا مُتَمَيِّزَةٍ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالزَّمَانِ، وَالْأَحْوَالِ. وَجَوَابُهُ بِتَقْرِيرِ الِانْضِبَاطِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ أو بوصفه.
الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة
الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة مدخل ... الاعتراض الحادي والعشرون: الْمُعَارَضَةِ وَهِيَ: إِلْزَامُ الْمُسْتَدِلِّ الْجَمْعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا. كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقِيلَ: هِيَ إِلْزَامُ الْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا قَالَ بِنَظِيرِهِ، وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ، وَهِيَ "أَعَمُّ"* مِنِ اعْتِرَاضِ النَّقْضِ، فَكُلُّ نَقْضٍ مُعَارَضَةٌ، وَلَا عَكْسَ، كَذَا قِيلَ1. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ هُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ أَثْبَتَ اعْتِرَاضَ الْمُعَارَضَةِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَالْجَدَلِ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُؤَالٍ صَحِيحٍ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَا فِي الثَّابِتِ مِنْهَا، فَقِيلَ: إِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْهَا مُعَارَضَةُ الدَّلَالَةِ بِالدَّلَالَةِ وَالْعِلَّةِ بِالْعِلَّةِ، وَلَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى "وَذَكَرَ الْكَعْبِيُّ فِي "جَدَلِهِ"2 أنه يجوز معارضة الدعوى بالدعوى"**.
أقسام المعارضة
أَقْسَامُ الْمُعَارَضَةِ: وَالْمُعَارَضَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ. وَمُعَارَضَةٌ فِي الْفَرْعِ. وَمُعَارَضَةٌ فِي الْوَصْفِ. أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ: فَبِأَنْ يَذْكُرَ عِلَّةً أُخْرَى فِي الْأَصْلِ سِوَى الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا.
الْمُسْتَدِلُّ، وَتَكُونَ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً "فِي الْفَرْعِ"* وَيَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا كَانَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُعْتَرِضُ، لَا بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ سُؤَالُ الْفَرْقِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي يُبْدِيهَا الْمُعْتَرِضُ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ، كَمُعَارَضَةِ الْكَيْلِ بِالطُّعْمِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ، بَلْ هِيَ جُزْءُ عِلَّةٍ، كَزِيَادَةِ الْجَارِحِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْمُعْتَرِضُ مُسَلَّمَةً مِنْ خَصْمِهِ، أَوْ مُحْتَمِلَةً احْتِمَالًا رَاجِحًا، أَمَّا إِذَا تَعَارَضَتِ الِاحْتِمَالَاتُ، فَقِيلَ: يُرَجَّحُ وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ. وَقِيلَ: وَصْفُ الْمُعْتَرِضِ. وَقِيلَ: لَا وَجْهَ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، بَلْ هُوَ مِنَ التحكم الْمَحْضِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا مَعَ عَدَمِ التَّرْجِيحِ، هَلْ تَقْتَضِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ إِبْطَالَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْأَصْلَ عَنِ الْفَرْعِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبَيِّنَ ثُبُوتَهُ فِي الْفَرْعِ، لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ وَإِلَّا بَطَلَ الْجَمْعُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ الْبَيَانُ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ قَصَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ. وَجَوَابُ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ يَكُونُ إِمَّا بِمَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، أَوْ بِمَنْعِ الْمُنَاسَبَةِ، أَوْ مَنْعِ الشَّبَهِ، إِنْ أَثْبَتَهُ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ لَا تَتِمُّ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي عَارَضَ بِهِ فِي الْأَصْلِ مُنَاسِبًا، أَوْ "شَبَهًا"**؛ إِذْ لَوْ كَانَ طَرْدِيًّا لَمْ تَصِحَّ الْمُعَارَضَةُ، أَوْ بِمَنْعِ كَوْنِ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ ظَاهِرًا، أَوْ بِمَنْعِ كَوْنِهِ مُنْضَبِطًا، أَوْ بِبَيَانِ إِلْغَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُعَارَضَةُ، أَوْ بِبَيَانِ رُجُوعِهِ إِلَى عَدَمِ وُجُودِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ، لَا إِلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ فِي الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الفرع: فهي أن يعارض حكم الفرع لما يَقْتَضِي نَقِيضَهُ أَوْ ضِدَّهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ فَيَقُولُ: مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْوَصْفِ وَإِنِ اقْتَضَى ثُبُوتَ
الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ، يَقْتَضِي نَقِيضَهُ، أَوْ ضِدَّهُ، بِنَصٍّ هُوَ كَذَا، أَوْ بإجماع عَلَى كَذَا، أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ، لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْوَصْفِ، أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ لَهُ. وَقَدْ قَبِلَ هَذَا الِاعْتِرَاضَ، أَعْنِي: الْمُعَارَضَةَ فِي الْفَرْعِ، بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْجَدَلِ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ فَقَالُوا: إِنَّ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ قَدْ تَمَّتْ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ "إِلَّا فِيمَا"* إِذَا كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ بِفَوَاتِ شَرْطٍ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْوَصْفِ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِضِدِّ حُكْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي عَيْنِ حُكْمِهِ، مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْوُضُوءِ: إِنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ، فَتَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ. فَيَقُولُ الْمُعَارِضُ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَلَا بُدَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّرْجِيحِ. وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ: نَفْسُ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ "يَدُلُّ"** عَلَى خِلَافِ مَا تُرِيدُهُ، ثم يوضح ذلك بما يكون محتملا.
الاعتراض الثاني والعشرون: سؤال التعدية
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى غَيْرَ مَا عينه المستدل، ويعارضه بم ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُسْتَدِلِّ: مَا عَلَّلْتَ بِهِ، وَإِنْ تَعَدَّى إِلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَكَذَا مَا عَلَّلْتُ بِهِ أَنَا، يَتَعَدَّى إِلَى فَرْعٍ آخَرَ، مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وذلك كأن يقول المستدل: بكر، فجاز خيراها كَالصَّغِيرَةِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: الْبَكَارَةُ، وَإِنْ تَعَدَّتْ إِلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ، فَالصِّغَرُ مُتَعَدٍّ إِلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي "قَبُولِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ"*، فَقَبِلَهُ الْبَعْضُ وَرَدَّهُ الْبَعْضُ، وَأَدْرَجَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي اعْتِرَاضِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ. وَجَوَابُهُ: إِبْطَالُ مَا اعترض به وحذفه عن درجة الاعتبار.
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبَيِّنَ أنه لا أثر لما أشار إِلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْدِيَةِ، أَوْ لَا يَجِبُ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجِبُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: يَجِبُ.
الاعتراض الثالث والعشرون: سؤال التركيب
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: سُؤَالُ التَّرْكِيبِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ: شَرْطُ حُكْمِ الْأَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَا قِيَاسٍ مُرَكَّبٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ: مُرَكَّبُ الْأَصْلِ. وَمُرَكَّبُ الْوَصْفِ. وَمَرْجِعُ الْأَوَّلِ: مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، أَوْ مَنْعُ الْعِلَّةِ. وَمَرْجِعُ الثَّانِي: مَنْعُ الحكم، أو منع وجود العلة في الفرع. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهِ، فَبَعْضُهُمْ قَبِلَهُ، وَبَعْضُهُمْ رده.
الاعتراض الرابع والعشرون: منع وجود الوصف المعلل به في الفرع
الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ به في الفرع ... الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ به في الوصف كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي أَمَانِ الْعَبْدِ: أَمَانٌ صَدَرَ عَنْ أَهْلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِلْأَمَانِ. وَجَوَابُهُ بِبَيَانِ مَا يَثْبُتُ "بِهِ"*أَهْلِيَّتُهُ مِنْ حِسٍّ، أَوْ عَقْلٍ، أَوْ شَرْعٍ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ مُنْدَرِجًا فِيمَا تقدم.
الاعتراض الخامس والعشرون: المعارضة في الفرع
الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الِاعْتِرَاضِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ
الاعتراض السادس والعشرون: المعارضة في الوصف
الِاعْتِرَاضُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُعَارَضَةُ فِي الْوَصْفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا فِي الِاعْتِرَاضِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُمَا هُنَا وَهُنَاكَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أهل الأصول والجدل جعلوا المعارضة "ثَلَاثَةَ اعْتِرَاضَاتٍ: الْمُعَارَضَةُ"* فِي الْأَصْلِ اعْتِرَاضًا، وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ اعْتِرَاضًا، وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْوَصْفِ اعْتِرَاضًا، وبعضهم جعلوا الثَّلَاثَ الْمُعَارَضَاتِ اعْتِرَاضًا وَاحِدًا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي مثل ذلك، فهو مجرد اصطلاح.
الاعتراض السابع والعشرون: اختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع
الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ كَأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: يُحَدُّ اللَّائِطُ كَمَا يُحَدُّ الزَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا إِيلَاجٌ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، مشتها طبعا. فيقول المعترض: المصلح فِي تَحْرِيمِهِمَا مُخْتَلِفَةٌ: فَفِي الزِّنَا مَنْعُ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَفِي اللِّوَاطَةِ دَفْعُ رَذِيلَةِ اللِّوَاطَةِ. وَحَاصِلُهُ: مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ، بِإِبْدَاءِ خُصُوصِيَّةٍ، وَلِهَذَا أَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ فِي اعْتِرَاضِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ اعْتِرَاضًا مُسْتَقِلًّا. وَجَوَابُهُ بِإِلْغَاءِ الْخُصُوصِيَّةِ.
الاعتراض الثامن والعشرون: أن يدعي المعترض المخالفة بين حكم الأصل وحكم الفرع
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ بين حكم الأصل وحكم الفرع مدخل ... الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَحُكْمِ الْفَرْعِ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَحُكْمِ الْفَرْعِ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ، فَيُوجَدُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ كَمَا وُجِدَ فِي الْأَصْلِ. وَحَاصِلُ هَذَا: أَنَّ دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ لِلْمُخَالَفَةِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، فَيَرْجِعُ إِلَى اعْتِرَاضِ الْقَلْبِ، أَوْ بِغَيْرِهِ، فَيَكُونُ اعْتِرَاضًا خَاصًّا، خَارِجًا عَمَّا تَقَدَّمَ، وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مُنْدَرِجًا فِيمَا تقدم. وههنا فوائد متعلقة بهذه الاعتراضات:
الفائدة الأولى: في لزوم إيراد الأسئلة مرتبة
الفائدة الأولى: في لزوم إيراد الأسئلة مرتبة ... الْفَائِدَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا: هَلْ يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ أَنْ يورد الأسئلة مرتبة بعضا مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَعْضِ إِذَا أَوْرَدَ أَسْئِلَةً مُتَعَدِّدَةً، أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، بَلْ يُقَدِّمُ مَا شَاءَ، وَيُؤَخِّرُ مَا شَاءَ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِيرَادُهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ لَأَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ، كَمَا لَوْ
جَاءَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ بَعْدَ النَّقْضِ، أَوْ بَعْدَ "الْمُطَالَبَةِ"* فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بَعْدَ تَسْلِيمٍ، وَإِنْكَارٌ بَعْدَ إِقْرَارٍ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: إِنِ اتَّحَدَ جِنْسُ السُّؤَالِ كَالنَّقْضِ، وَالْمُعَارَضَةِ، وَالْمُطَالَبَةِ، جَازَ إِيرَادُهَا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ سُؤَالٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا، كَالْمَنْعِ مَعَ الْمُطَالَبَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ، وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَقَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ عَنْ أَكْثَرِ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَنْعَ، ثُمَّ الْمُعَارَضَةَ، وَنَحْوَهَا، وَلَا يَعْكِسُ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَإِلَّا لَزِمَ الْإِنْكَارَ بعد الإقرار. قال جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ: التَّرْتِيبُ الْمُسْتَحْسَنُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُطَالَبَاتِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُثْبِتْ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ لَمْ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ بِالْقَوَادِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ الْأَدِلَّةِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، ثُمَّ إِذَا بَدَأَ بِالْمَنْعِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ مَنْعَ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الدَّعْوَى، ثم منع ظهره، ثُمَّ مَنْعَ انْضِبَاطِهِ، ثُمَّ مَنْعَ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْمُنُوعِ شَرَعَ في القوادح، فيبدأ بالقول بالموجب، لِوُضُوحِ مَأْخَذِهِ، ثُمَّ بِفَسَادِ الْوَضْعِ، ثُمَّ بِالْقَدْحِ في المناسبة، ثم بالمعاوضة. وقال الأكثر من القدماء كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي "أَدَبُ الْجَدَلِ": إِنَّهُ يَبْدَأُ بِالْمَنْعِ مِنَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا لَمْ يَجِبْ عَلَى السَّائِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ مَمْنُوعًا، أَوْ مُسَلَّمًا، وَلَا كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، أَوْ بِغَيْرِهَا، ثُمَّ يُطَالِبُهُ بِإِثْبَاتِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ، ثُمَّ بِاطِّرَادِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ بِتَأْثِيرِهَا ثُمَّ بِكَوْنِهِ غَيْرَ فَاسِدِ الْوَضْعِ، ثُمَّ بِكَوْنِهِ غَيْرَ فَاسِدِ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَدَلِيِّينَ، وَالْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ الِاسْتِفْسَارُ، ثُمَّ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ، ثُمَّ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ مَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ، وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ، وَالْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ، وَالتَّقْسِيمُ، وَعَدَمُ ظُهُورِ الْوَصْفِ، وَانْضِبَاطِهِ وَكَوْنُ الْحُكْمِ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْإِفْضَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ النَّقْضُ وَالْكَسْرُ، ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ، وَالتَّعْدِيَةُ، وَالتَّرْكِيبُ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَمُخَالَفَةُ حُكْمِهِ حُكْمَ الْأَصْلِ، ثُمَّ الْقَلْبُ، ثُمَّ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا1 قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَسْئِلَةِ تَرْجِعُ إلى المنع والمعارضة، ووجه ذلك: أنه
مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ، فَقَدْ تَمَّ الدَّلِيلُ، وَحَصَلَ الْغَرَضُ، مِنْ إِثْبَاتِ الْمُدَّعِي، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ، فَيَكُونُ مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَسْئِلَةِ بَاطِلًا، فَلَا يُسْمَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ الْمُنُوعِ إِلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى جَمِيعِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ إِلَّا بِبَيَانِ انْتِفَاءِ الْمُعَارَضَةِ عن جميعها.
الفائدة الثانية: في الانتقال عن محل النزاع إلى غيره قبل امام تمام الكلام فيه
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إلى غيره قبل امام تمام الكلام فيه ... الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إِلَى غَيْرِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ فِيهِ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لَمْ يَتَأَتَّ إِفْحَامُ الْخَصْمِ، وَلَا إِظْهَارُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ إِظْهَارُ الْحَقِّ، وَإِفْحَامُ الْمُخَالِفِ لَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنَ السَّائِلِ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سُؤَالِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَيَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَازِمٌ، فَبَانَ خِلَافُهُ، فَمَكِّنُونِي مِنْ سُؤَالٍ آخَرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ انْحِدَارًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، فَإِنْ كَانَ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، كَمَا لَوْ أَرَادَ التَّرَقِّي مِنَ الْمُعَارَضَةِ إِلَى الْمَنْعِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ نَفْسَهُ، وَقِيلَ: يُمَكَّنُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْإِرْشَادُ.
الفائدة الثالثة: في الفرض والبناء
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ فِي الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: الْأُولَى: أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي بَعْضِ شُعَبِهَا وَفُصُولِهَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا. فَإِنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَوَاضِحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْكَلَامَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّ، وَثَبَتَ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِهَا، ثَبَتَ فِي الْبَاقِي بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي غَيْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا على مسألة فروعية1، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهَا وَاحِدَةً، أو مختلفة، فإن كانت.
وَاحِدَةً جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْجَدَلِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: لَا يَجُوزُ الْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَابِ أَنْ يُطَابِقَ السُّؤَالَ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْفَرْضِ شَامِلَةً لسائر الأطراف. قال: المستحسن مِنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي طَرَفٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ سُؤَالِ السَّائِلِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِشْعَارِ انْتِشَارِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ، وَعَدَمِ وَفَاءِ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِاسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ فِيهَا. وَحَاصِلُهُ: إِنْ ظَهَرَ انْتِظَامُ الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ فِي الصُّورَتَيْنِ كَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَهْجَنًا، وَفَائِدَتُهُ كَوْنُ الْعِلَّةِ قَدْ تَخْفَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَتَظْهَرُ فِي بَعْضٍ آخَرَ، فَالتَّفَاوُتُ بِالْأَوَّلِيَّةِ خَاصَّةٌ، وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ.
الفائدة الرابعة: في جواز التعلق بمناقضات الخصوم
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْمَذْهَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ فِي الْمُنَاظَرَةِ. فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجَدَلِ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَى الْخَصْمِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي تَفْصِيلًا حَسَنًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَتِ الْمُنَاقَضَةُ عَائِدَةً إِلَى تَفَاصِيلِ أَصْلٍ لَا يَرْتَبِطُ فَسَادُهَا وَصِحَّتُهَا بِفَسَادِ الْأَصْلِ وَصِحَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بها، وإلا جاز.
الفائدة الخامسة: في السؤال والجواب
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: السُّؤَالُ إِمَّا اسْتِفْهَامٌ مُجَرَّدٌ، وَهُوَ الِاسْتِخْبَارُ عَنِ الْمَذْهَبِ، أَوْ عَنِ الْعِلَّةِ، وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ عَنِ "الدَّلَالَةِ"* أَيِ: الْتِمَاسُ وَجْهِ دَلَالَةِ الْبُرْهَانِ، ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِنُفُوذِ الدَّلِيلِ وَجَرَيَانِهِ. وَسَبِيلُ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالَ، ثُمَّ طَرْدَ الدَّلِيلِ، ثُمَّ السَّائِلَ فِي الِابْتِدَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَذْهَبِ مَنْ يَسْأَلُهُ، أَوْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ، فَسُؤَالُهُ لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ فَسُؤَالُهُ رَاجِعٌ إِلَى الدَّلِيلِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يَسْتَشْهِدُ بِهِ الْمُجِيبُ، فَسُؤَالُهُ عَنْهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْخِلَافُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الخلاف في الشاهد، فالسؤال عنه أولى.
الفصل السابع: في الاستدلال
الفصل السابع: في الاستدلال مدخل ... الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، مَا لَيْسَ بِنَصٍّ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ. لَا يُقَالُ: هَذَا مِنْ تَعْرِيفِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِبَعْضٍ، وَهُوَ تَعْرِيفٌ بِالْمُسَاوِي، فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، بَلْ هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنْوَاعِهِ: فَقِيلَ هِيَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: التَّلَازُمُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عِلَّةٍ، وَإِلَّا كَانَ قِيَاسًا. الثَّانِي: اسْتِصْحَابُ الْحَالِ. الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قبلنا. قال الْحَنَفِيَّةُ: وَمِنْ أَنْوَاعِهِ نَوْعٌ رَابِعٌ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ. وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: وَمِنْ أَنْوَاعِهِ نَوْعٌ خَامِسٌ، وَهُوَ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ. وَسَنُفْرِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَحْثًا، وَنُلْحِقُ بِهَا فَوَائِدَ، لِاتِّصَالِهَا بِهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
البحث الأول: في التلازم
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي التَّلَازُمِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: لِأَنَّ التَّلَازُمَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ حُكْمَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِمَّا مُثْبَتٌ أَوْ مَنْفِيٌّ، وَحَاصِلُهُ: إِذَا كَانَ تَلَازُمَ تساوٍ فَثُبُوتُ كُلٍّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْآخَرِ، وَنَفْيُهُ نَفْيُهُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقَ اللُّزُومِ، فَثُبُوتُ الْمَلْزُومِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ اللَّازِمِ، مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَنَفْيُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَلْزُومِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ "وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ انْفِصَالٌ حَقِيقِيٌّ فَثُبُوتُ كلٍّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ، وَنَفْيُهُ ثُبُوتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْعَ جَمْعٍ، فَثُبُوتُ كلٍّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَإِنْ كَانَ مَنْعَ خُلُوٍّ فَنَفْيُ كلٍّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ"*. وَخُلَاصَةُ هذا البحث يرجع إلى الاستدلال بالأقسية الِاسْتِثْنَائِيَّةِ، وَالِاقْتِرَانِيَّةِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُمْ: وُجِدَ السَّبَبُ وَالْمَانِعُ أَوْ فُقِدَ الشَّرْطُ. ومنها: انتفاء الحكم لانتفاء مدركه.
وَمِنْهَا: الدَّلِيلُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ أَقْوَالٍ، يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ، ثُمَّ قَسَّمَهُ إِلَى الِاقْتِرَانِيِّ وَالِاسْتِثْنَائِيِّ، وَذَكَرَ الْأَشْكَالَ الْأَرْبَعَةَ وَشُرُوطَهَا، وَضُرُوبَهَا. انْتَهَى. فَلْيُرْجَعْ فِي هَذَا الْبَحْثِ إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ. وَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يَجْرِي إِلَّا فِيمَا فِيهِ تَلَازُمٌ، أَوْ تَنَافٍ، فَالتَّلَازُمُ: إِمَّا أن يكون طردا أو عكسا، أي: من الطَّرَفَيْنِ، أَوْ طَرْدًا لَا عَكْسًا، أَيْ: مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، وَالتَّنَافِي لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لَكِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَيْ: إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَإِمَّا طَرْدًا فَقَطْ، أَيْ: إِثْبَاتًا، وَإِمَّا عَكْسًا فَقَطْ، أَيْ: نَفْيًا. الْأَوَّلُ: الْمُتَلَازِمَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَذَلِكَ كَالْجِسْمِ وَالتَّأْلِيفِ؛ إِذْ كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ جِسْمٌ، وَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتَيْنِ، وَبَيْنَ النفيين، كلامهما طَرْدًا وَعَكْسًا، كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا كَانَ مُؤَلَّفًا، وَكُلَّمَا كَانَ مُؤَلَّفًا كَانَ جِسْمًا، وَكُلَّمَا لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا، وَكُلَّمَا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا. الثَّانِي: الْمُتَلَازِمَانِ طَرْدًا فَقَطْ، كَالْجِسْمِ وَالْحُدُوثِ؛ إِذْ كُلُّ جِسْمٍ حَادِثٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، فَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتَيْنِ طَرْدًا فَيَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا كَانَ حَادِثًا، لَا عَكْسًا، فَلَا يَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ حَادِثًا كَانَ جِسْمًا، وَيَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ النَّفْيَيْنِ، عَكْسًا، فَيَصْدُقُ كُلَّمَا لَمْ يَكُنْ حَادِثًا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا، لَا طَرْدًا، فَلَا يَصْدُقُ كُلَّمَا لَمْ يَكُنْ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ حَادِثًا. الثَّالِثُ: الْمُتَنَافِيَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا، كَالْحُدُوثِ وَوُجُوبِ الْبَقَاءِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي ذَاتٍ، فَتَكُونُ حَادِثَةً وَاجِبَةَ الْبَقَاءِ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ، فَيَكُونُ قَدِيمًا غَيْرَ وَاجِبِ الْبَقَاءِ، فَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، وَبَيْنَ النَّفْيِ وَالثُّبُوتِ، طَرْدًا وَعَكْسًا، أَيْ: مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَيَصْدُقُ لَوْ كَانَ حَادِثًا لَمْ يَجِبْ بَقَاؤُهُ، ولو وجب بقاؤه لم يكن حادثا، ولو لَمْ يَكُنْ حَادِثًا فَلَا يَجِبُ بَقَاؤُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ بَقَاؤُهُ فَلَا يَكُونُ حَادِثًا. الرَّابِعُ: الْمُتَنَافِيَانِ طَرْدًا لَا عَكْسًا، إِي: إِثْبَاتًا لَا نَفْيًا، كَالتَّأْلِيفِ وَالْقِدَمِ؛ إِذْ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ هُوَ مُؤَلَّفٌ وَقَدِيمٌ، لَكِنَّهُمَا قَدْ يَرْتَفِعَانِ، كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّلَازُمُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، طَرْدًا وَعَكْسًا، أَيْ: مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَيَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا، وَكُلَّمَا كَانَ قَدِيمًا "لَمْ يَكُنْ جِسْمًا، وَلَا يَصْدُقُ كُلَّمَا كَانَ جِسْمًا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا، وَكُلَّمَا كَانَ قَدِيمًا"* كَانَ جِسْمًا. الْخَامِسُ: الْمُتَنَافِيَانِ عَكْسًا، أَيْ: نَفْيًا، كَالْأَسَاسِ وَالْخَلَلِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَرْتَفِعَانِ، فَلَا يُوجَدُ مَا لَيْسَ لَهُ أَسَاسٌ، وَلَا يَخْتَلُّ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي كُلِّ مَا لَهُ أَسَاسٌ قَدْ يَخْتَلُّ بوجه آخر، وهذا يجري
فِيهِ تَلَازُمُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، طَرْدًا وَعَكْسًا، فَيَصْدُقُ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَسَاسٌ، فَهُوَ مُخْتَلٌّ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَلًّا فَلَيْسَ لَهُ أَسَاسٌ، وَلَا يَصْدُقُ كُلُّ مَا كَانَ لَهُ أَسَاسٌ فَلَيْسَ بِمُخْتَلٍّ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُخْتَلًّا فَلَيْسَ لَهُ أَسَاسٌ. وَمَا قَدَّمْنَا عَنِ الآمدي: أن من أنواع الاستدلال قولهم: وجب السَّبَبُ إِلَخْ، هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ لِأَهْلِ الْأُصُولِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى دَلِيلٍ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ: وُجِدَ دَلِيلُ الْحُكْمُ، لَا يَكُونُ دَلِيلًا مَا لَمْ يُعَيَّنْ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْمَدْلُولَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ دَلِيلٌ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلدَّلِيلِ إِلَّا مَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ. وَالصَّوَابُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ، لَا دَلِيلٌ، وَلَا مُجَرَّدُ دَعْوَى. وَاعْلَمْ: أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّلَازُمِ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ السَّابِقَةِ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ، مَا عَدَا الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَى نفس العلة.
البحث الثاني: الاستصحاب
الْبَحْثُ الثَّانِي: الِاسْتِصْحَابُ أَيْ: اسْتِصْحَابُ الْحَالِ لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ، أَوْ عَدَمِيٍّ، عَقْلِيٍّ، أَوْ شَرْعِيٍّ1. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ بَقَاءُ ذَلِكَ الْأَمْرِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُغَيِّرُهُ، فَيُقَالُ: الْحُكْمُ الْفُلَانِيُّ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى، وَكُلَّمَا كَانَ فِيمَا مَضَى، وَلَمْ يُظَنَّ عَدَمُهُ، فَهُوَ مَظْنُونُ الْبَقَاءِ. قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي": وَهُوَ آخِرُ مَدَارِ الْفَتْوَى، فَإِنَّ الْمُفْتِي إِذَا سُئِلَ عَنْ حَادِثَةٍ، يَطْلُبُ حُكْمَهَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا مِنِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي زَوَالِهِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِهِ فَالْأَصْلُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ، انْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَقْوَالٍ2: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَبِهِ قَالَتِ الْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، وحكاه ابن الحاجب عن الأكثر. الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الحنفية، والمتكلمين، كأبي الحسين البصري،
قَالُوا: لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ يَفْتَقِرُ إِلَى الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَهَذَا خَاصٌّ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْعِيَّاتِ، بِخِلَافِ الْحِسِّيَّاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى الْعَادَةَ فِيهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ يُجْرِ الْعَادَةَ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، فَلَا تُلْحَقُ بِالْحِسِّيَّاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ تَخْصِيصُ النَّفْيِ بِالْأَمْرِ الوجودي. ومنهم من نقل عن الْخِلَافُ مُطْلَقًا. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْخِلَافِ فِي الْوُجُودِيِّ وَالْعَدَمِيِّ جَمِيعًا، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ؛ إِذْ تَفَارِيعُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حُجَّةٌ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْمَنْقُولُ فِي كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، وَلَكِنْ يَصْلُحُ لِلرَّفْعِ وَالدَّفْعِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ "وَذَلِكَ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كان الظاهر بقاؤها، صَلُحَ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، فَلَا يُوَرَّثُ مَالُهُ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَرِثُ عَنْ أَقَارِبِهِ"* الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل، فإنه "لم"**كلف إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا سِوَاهُ جَازَ لَهُ التَّمَسُّكُ "بِهِ"***وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إِذَا تَنَاظَرُوا لَمْ يَنْفَعِ الْمُجْتَهِدَ قَوْلُهُ لَمْ أَجِدْ دَلِيلًا عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ لَا لِلرَّفْعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ إِلْكِيَا: وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا "بِأَنَّ"**** اسْتِصْحَابَ الْحَالِ صَالِحٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، إِحَالَةً عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ، لَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا1 أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ لَا غَيْرَ، نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِهِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمُسْتَصْحِبَ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ سِوَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، صح ذلك2، وإن كان
غرضه إثبات خلاف قول خصمه، من وجهة يُمْكِنُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ فَلَا يَصِحُّ1. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَنْقِيحِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُطْلِقُهُ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُ النِّزَاعِ، فَنَقُولُ: لِلِاسْتِصْحَابِ صُوَرٍ: إِحْدَاهَا: اسْتِصْحَابُ مَا دَلَّ الْعَقْلُ أو الشرع عَلَى ثُبُوتِهِ وَدَوَامِهِ، كَالْمِلْكِ عِنْدَ جَرَيَانِ الْقَوْلِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَشَغْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ جَرَيَانِ إِتْلَافٍ أَوِ الْتِزَامٍ، وَدَوَامِ الْحِلِّ فِي الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ تقرير المنكاح، فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ مُعَارِضٌ. قَالَ، الثَّانِيَةُ: اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى تَغَيُّرِهِ، كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ "أَيْ"*: مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشرع. قال، الثَّالِثَةَ: اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ، وَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. قَالَ، الرَّابِعَةُ: اسْتِصْحَابُ الدَّلِيلِ، مَعَ احْتِمَالِ الْمُعَارِضِ، إِمَّا تَخْصِيصًا إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا، أَوْ نَسْخًا إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا، فَهَذَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ "بِالْإِجْمَاعِ"**. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا النَّوْعِ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَنَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"، وَإِلْكِيَا فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي "الْقَوَاطِعِ"؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ اللَّفْظِ، لَا مِنْ نَاحِيَةِ الِاسْتِصْحَابِ2. قَالَ، الْخَامِسَةُ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِأَنْ يُتَّفَقَ عَلَى حكم في حاله، ثم يتغير صِفَةُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَيَسْتَدِلُّ مَنْ لم يغير الحكم باستصحاب الحال.
مِثَالُهُ: إِذَا اسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْمُتَيَمِّمَ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّتِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَاسْتُصْحِبَ إِلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ مُبْطِلَةٌ. وَكَقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ: يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاء، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ1. وَهَذَا النوع ومحل الْخِلَافِ، كَمَا قَالَهُ فِي "الْقَوَاطِعِ" وَهَكَذَا فَرَضَ أَئِمَّتُنَا الْأُصُولِيُّونَ الْخِلَافَ فِيهَا، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمُ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْغَزَالِيُّ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الطَّوَائِفِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: إِنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ، بَلْ إِنِ اقْتَضَى الْقِيَاسُ أَوْ غَيْرُهُ إِلْحَاقَهُ بِمَا قَبْلُ أُلْحِقَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَالصَّيْرَفِيِّ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ، قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": إِنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ شُيُوخُ أَصْحَابِنَا، فَيَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ. انْتَهَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ، قَائِمٌ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به.
البحث الثالث: شرع من قبلنا
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَبِّدًا قبل البعثة بِشَرْعٍ أَمْ لَا؟ ... الْبَحْثُ الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا وَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متعبدا بشرع أم لا؟ كان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ أَمْ لَا؟ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: فَقِيلَ: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَبِّدًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِشَرِيعَةِ آدَمَ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ الشَّرَائِعِ. وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ نُوحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} 2.
وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} 1 وقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} 2. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ"3: وَعَزَى إِلَى الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَبِهِ نَقُولُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ" عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ. وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ النَّاسِخُ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ4. وَقِيلَ كَانَ عَلَى شَرْعٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَلَا يُقَالُ: كَانَ مِنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ عَلَى شَرْعِهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ": وَإِلَيْهِ كَانَ يَمِيلُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ كُلِّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا وَانْدَرَسَ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمُلَخَّصِ". وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي بِشَرْعِ مَنْ تَعَبَّدَهُ اللَّهُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ، حَكَاهُ فِي "الْمَنْخُولِ" عَنْ إِجْمَاعِ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ" وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ جُمْهُورُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا؛ إِذْ لَوْ تَعَبَّدَ بِاتِّبَاعِ أَحَدٍ لَكَانَ غَضًّا مِنْ نُبُوَّتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ الْعَقْلِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ شَرِيعَةٌ، وَرَجَّحَ هَذَا الْمَذْهَبَ، أَعْنِي: عَدَمَ التَّعَبُّدِ بِشَرْعٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْقَاضِي، وَقَالَ: هَذَا مَا نَرْتَضِيهِ وَنَنْصُرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى دِينٍ لَنُقِلَ، وَلَذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يظن به الكتمان.
وَعَارَضَ ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ أَصْلًا لَنُقِلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الْمُعْتَادِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. قَالَ: فَقَدْ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتِ الْعَادَةُ انْخَرَقَتْ فِي أُمُورِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْصِرَافِ "هِمَمِ"* النَّاسِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُقُوطِ مَا "رَتَّبَهُ"* عَلَيْهَا. وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، وَبِهِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ القشيري، وإلكيا، والغزالي، والآمدي، والشريف المرتضى، واختار النَّوَوِيُّ فِي "الرَّوْضَةِ"، قَالُوا: إِذْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةُ عَقْلٍ، وَلَا ثَبَتَ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ" بَعْدَ حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ: وَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ لَكِنْ أَيْنَ السَّمْعُ فِيهِ. انْتَهَى. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَظْهَرُ لَهَا فَائِدَةٌ، بَلْ تَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ، وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَكِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ شَرَفُ تِلْكَ الْمِلَّةِ التي تبعد بِهَا، وَفَضَّلَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مِلَّتِهِ. وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام، فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَ الْبَحْثِ عَنْهَا، عَامِلًا بِمَا بَلَغَ إِلَيْهِ مِنْهَا، كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ السيرة، وَكَمَا تُفِيدُهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مِنْ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِاتِّبَاعِ تِلْكَ الْمِلَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ لَهَا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَمْ يكن إلا عليها.
المسألة الثانية: هل كان صلى الله عليه وسلم بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله أم لا؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَمْ لَا عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِهَا1، بَلْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي آخر عمره.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي"، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ1 لَمْ يُرْشِدْهُ إِلَّا إِلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ. وَصَحَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ حَزْمٍ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 2. وَبَالَغَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالَتْ: بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلًا، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهُ، نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَارَهُ "ابْنُ بَرْهَانَ"*. وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِهِمْ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي واختاره ابن الحاجب. قال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي الْمَالِكِيَّةَ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3 الآية، فإن ذلك مما استدل بِهِ فِي شَرْعِنَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِكَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فِي شَرْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبًا فِي شَرْعِهِ. واستدلوا أيضًا بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" 4 وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 5 وَهِيَ مَقُولَةٌ لِمُوسَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، لَمَا كَانَ لِتِلَاوَةِ الْآيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ فَائِدَةٌ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابن عباس أنه سجد في صورة ص، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 6 فاستنبط التشريع من هذه الآية.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ1 "فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ"* وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَحَبَّتِهِ لِلْمُوَافَقَةِ فَائِدَةٌ. وَلَا أَوْضَحَ وَلَا أَصْرَحَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ من قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 2. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْوَقْفُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَابْنُ بَرْهَانَ. وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَنَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، أَوْ لِسَانِ مَنْ أَسْلَمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ3 وَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا، وَلَا مَخْصُوصًا، فَإِنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّعَبُّدِ، لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِطْلَاقُهُمْ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَأْبَاهُ.
البحث الرابع: الاستحسان
البحث الرابع: الاستحسان واختلف في حقيقته: فَقِيلَ: هُوَ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْعُدُولُ عن قياس إلى قياس أقوى1.
وقيل: هو الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ لِمَصْلَحَةِ الناس. وقيل: تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِأَقْوَى مِنْهُ. وَنُسِبَ الْقَوْلُ بِهِ إلى أبي حنيفة، وحكى عنه أَصْحَابِهِ، وَنَسَبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى مَالِكٍ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا حُكِيَ عَنِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ": قَالَتْ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُمُ. انْتَهَى. وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنِ استحسن فقد شرع. قال الروياني: ومعناه أَنَّهُ يَنْصِبُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غَيْرَ الشَّرْعِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ": الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ1، وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ الِاسْتِحْسَانُ فِي الدِّينِ؛ لَجَازَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَجَازَ أَنْ يُشْرَعَ فِي الدِّينِ فِي كُلِّ بَابٍ، وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ شَرْعًا. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ أُمُورًا لَا تَصْلُحُ لِلْخِلَافِ؛ لأن بعضها مقبولا اتِّفَاقًا، وَبَعْضَهَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَمَا هُوَ مَرْدُودٌ اتِّفَاقًا، وَجَعَلُوا مِنْ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْقَبُولِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعُدُولُ عَنْ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ أَقْوَى، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِأَقْوَى مِنْهُ، وَجَعَلُوا مِنَ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْقَدِحُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ "فَالْعَمَلُ"* بِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَنَّهُ شَاكٌّ، فَهُوَ مَرْدُودٌ اتِّفَاقًا؛ إِذْ لَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ. وَجَعَلُوا مِنَ الْمُتَرَدِّدِ أَيْضًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الثَّابِتَةَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَ نصًّا "أو"** قياسا، مِمَّا ثَبَتَ حُجِّيَّتُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا آخَرَ، لَمْ تَثْبُتْ حُجِّيَّتُهُ، فهو مردود قطعا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ1. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ سَمَّوْهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ. وَقَالَ الْأَبْيَارِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ، لَا عَلَى مَا سَبَقَ، بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الاستدلال المرسل على القياس. ومثال: لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ، فَقِيلَ: يَرُدُّ، وَقِيلَ: يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ. قَالَ أَشْهَبُ: الْقِيَاسُ الْفَسْخُ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إِنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَمْ يمضِ، إِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِهِ نَصِيبَ الرَّادِّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلَ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ، وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ بِهِ عَلَيْهِمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ "وَالَّذِي يَقُولُونَ بِهِ أَنَّهُ الْعُدُولُ فِي الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ"*، فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يُعْرَفُ اسْمًا لِمَا "يُقَالُ بِهِ"** وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَفَّالُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَا دلت عليه الْأُصُولُ بِمَعَانِيهَا، فَهُوَ حَسَنٌ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، قَالَ: فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ مِنِ اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ، مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ، من أصل ونظيره، فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ على ضربين: أحدهما: واجب بالإجماع، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوِ الْعَقْلِيُّ، لِحُسْنِهِ2، فَهَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ "إِبَاحَتُهُ، أَوْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ التَّخْفِيفُ"*** فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ، وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا. انْتَهَى.
فَعَرَفْتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِحْسَانِ فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهُوَ تَكْرَارٌ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَارَةً، وَبِمَا يُضَادُّهَا أُخْرَى.
البحث الخامس: المصالح المرسلة
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فيها في مباحث القياس، وسنذكر ههنا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ، وَلِكَوْنِهَا قَدْ ذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي مَبَاحِثِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ، وَأَطْلَقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهَا اسْمَ الِاسْتِدْلَالِ1. قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنِ الْخَلْقِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: هِيَ أَنْ يُوجَدَ مَعْنًى يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ، مُنَاسِبٌ عَقْلًا، وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: هِيَ مَا لَا تَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ وَلَا جُزْئِيٍّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَوْلِ بِهَا عَلَى مَذَاهِبَ. الْأَوَّلُ: مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهَا مُطْلَقًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ": وَأَفْرَطَ فِي الْقَوْلِ بِهَا حَتَّى جَرَّهُ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ يَقْتَضِيهَا فِي غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا مُسْتَنَدًا، وَقَدْ حُكِيَ الْقَوْلُ بِهَا عن الشافعي، في "قوله"* القد يم، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا نُسِبَ إِلَى مَالِكٍ مِنَ الْقَوْلِ بِهَا، وَمِنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: وَقَدِ اجْتَرَأَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَجَازَفَ فِيمَا نَسَبَهُ إِلَى مَالِكٍ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي هذا الوصل، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ مَالِكٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فِي هَذَا النَّوْعِ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلَا يكاد يخلو غيرهما من اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحٌ فِي الاستعمال لها على غيرهما. انتهى.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ وَيَقْعُدُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ. الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، أَوْ لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ، جَازَ بناء الأحكام عليها، وإلا فلا. وحكاه ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشافعين وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى "اعْتِمَادِ"* تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِشَرْطِ "مُلَائَمَتِهِ"** لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ. الرَّابِعُ: إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً، قَطْعِيَّةً، كُلِّيَّةً، كَانَتْ مُعْتَبَرَةً، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تُعْتَبَرْ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرُورِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ1، وَبِالْكُلِّيَّةِ أَنْ تَعُمَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، لَا لَوْ كَانَتْ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَاخْتَارَ هَذَا الْغَزَالِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَمَثَّلَ الْغَزَالِيُّ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُسْتَجْمِعَةِ "الشَّرَائِطِ"*** بِمَسْأَلَةِ التُّرْسِ؛ وَهِيَ مَا إِذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا رَمَيْنَا قَتَلْنَا مُسْلِمًا مِنْ دُونِ جَرِيمَةٍ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكْنَا الرَّمْيَ لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُونَهُمْ، ثُمَّ يَقْتُلُونَ الْأَسَارَى الَّذِينَ تترسوا بهم، فحفظ المسلمين بقتل مَنْ تَتَرَّسُوا بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ "الشَّارِعَ"**** يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ، كَمَا يَقْصِدُ حَسْمَهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَحَيْثُ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى الْحَسْمِ، فَقَدْ قَدَرْنَا عَلَى التَّقْلِيلِ، وَكَانَ هَذَا الْتِفَاتًا إِلَى مَصْلَحَةٍ، عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً لِلشَّرْعِ، لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْحَصْرِ وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ "مُعَيَّنٌ"*****، فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً، كُلِّيَّةً، قَطْعِيَّةً، فَخَرَجَ بِالْكُلِّيَّةِ ما إذا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةٍ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا، فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ، وَبِالْقَطْعِيَّةِ مَا إِذَا شَكَكْنَا فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ يتسلطون عند عدم رمي الترس "وبالضرورية مَا إِذَا تَتَرَّسُوا فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ"****** إِذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلى أخذ القلعة.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي اعْتِبَارِهَا، وَأَمَّا ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: هُوَ احْتِكَامٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ هُوَ تصوير بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً، وَلَا شَرْعًا، أَمَّا عَادَةً: فَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقِلَّةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ؛ إِذْ هُوَ عَبَثٌ وَعِنَادٌ، وَأَمَّا شَرْعًا: فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ قَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوُّهَا عَلَيْهَا لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهَا1. قَالَ: وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، لِتَضْيِيقِهِ فِي قَبُولِهَا بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وَجُودُهُ. انْتَهَى. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَفْرِضُ الْمَسَائِلَ النَّادِرَةَ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا، بَلِ الْمُسْتَحِيلَةَ لِرِيَاضَةِ "الْأَذْهَانِ"*، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَافَّةُ الْخَلْقِ، وتصوير الغزالي إنما هُوَ فِي أَهْلِ مَحَلَّةٍ بِخُصُوصِهِمُ، اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ، لَا جَمِيعُ الْعَالَمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَسْتُ أُنْكِرُ عَلَى مَنِ اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَصَالِحِ، لَكِنَّ الِاسْتِرْسَالَ فِيهَا، وَتَحْقِيقَهَا مُحْتَاجٌ إِلَى نَظَرٍ سَدِيدٍ، وَرُبَّمَا يَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَطَعَ لِسَانَ الْحُطَيْئَةِ2 بِسَبَبِ الْهَجْوِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَحَمْلُهُ عَلَى التَّهْدِيدِ الرَّادِعِ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَطْعِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا يَجُرُّ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا يُسَمَّى مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً. قَالَ: وَشَاوَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ فِي قَطْعِ أُنْمُلَةِ شَاهِدٍ، وَالْغَرَضُ مَنْعُهُ عَنِ الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ قَطْعِهَا، وَكُلُّ "هَذِهِ"** مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِرْسَالٌ قَبِيحٌ فِي أَذَى المسلمين. انتهى. ولنذكر ههنا فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال.
فوائد تتعلق بالاستدلال
فوائد تتعلق بالاستدلال: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ اعْلَمْ: أَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَمِمَّنْ نَقَلَ هَذَا الِاتِّفَاقَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى أَقْوَالٍ1: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. الثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَبِهِ قَالَ أكثر الحنفية، ونقل عن مالك، وهو قديم قولي الشَّافِعِيِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْقِيَاسُ، فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قول صحابي، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي "الرِّسَالَةِ". قَالَ: وأقوال الصحابة إذا تفرقا نَصِيرُ مِنْهَا إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ، أَوِ السنة، أو الإجماع، أو كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ، وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْقَوْلَ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَهُ فِيهِ مُوَافَقَةٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ، صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا، وَلَا سُنَّةً، وَلَا إِجْمَاعًا، وَلَا شَيْئًا يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ، أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ. انْتَهَى. وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، إِذَا عَضَّدَهُ الْقِيَاسُ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ. قَالَ الْقَاضِي في "التقريب": إنه الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ لَهُ إِلَّا التَّوْقِيفُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالتَّحَكُّمَ فِي دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُقَلِّدْ إِلَّا تَوْقِيفًا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، قَالَ: وَمَسَائِلُ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ. انْتَهَى2. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا، وَدَلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْقِيفِ، فَلَيْسَ مِمَّا نحن بصدده.
وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَبِيَّنَا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا رَسُولٌ وَاحِدٌ، وَكِتَابٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ مَأْمُورَةٌ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ "وَبَيْنَ"* مَنْ بَعْدَهُمْ، فِي ذَلِكَ، فَكُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَقُومُ الْحُجَّةُ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِمَا، فقد قَالَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا "لَمْ"** يَثْبُتْ، وَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ شَرْعًا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَتَقَوُّلٌ بالغ فعن الْحُكْمَ لِفَرْدٍ أَوْ أَفْرَادٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ، أَوْ أَقْوَالَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهَا وَتَصِيرُ شَرْعًا ثَابِتًا مُتَقَرِّرًا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، مِمَّا لَا يُدَانُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ الرُّكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِرُسُلِ اللَّهِ، الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ بِالشَّرَائِعِ إِلَى عِبَادِهِ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ بلغ فالعلم والدين عظم الْمَنْزِلَةِ أَيَّ مَبْلَغٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ الصُّحْبَةِ مَقَامٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْفَضِيلَةِ، وَارْتِفَاعِ الدَّرَجَةِ، وَعَظَمَةِ الشَّأْنِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلِهَذَا "صَارَ مُدُّ"*** أَحَدِهِمْ لَا "تَبْلُغُ إِلَيْهِ"**** مِنْ غَيْرِهِمُ الصَّدَقَةُ بِأَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجِّيَّةِ قَوْلِهِ، وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِاتِّبَاعِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا ثَبَتَ عَنْهُ فِيهِ حَرْفٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا مَا تَمَسَكَّ بِهِ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهتديتم" 1 فهذا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ فِي أَدْنَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالْخَطْبِ الْجَلِيلِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَزِيدَ عَمَلِهِمْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، الثَّابِتَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَحِرْصَهُمْ عَلَى اتباعها، ومشيهم "في"***** طَرِيقَتِهَا، يَقْتَضِي أَنَّ اقْتِدَاءَ الْغَيْرِ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَاتِّبَاعِهَا هِدَايَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ لِمَ قُلْتَ كَذَا "أَوْ"****** لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، لَمْ ٍْْْيعجز مِنْ إِبْرَازِ الْحُجَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ولَمْ يَتَلَعْثَمْ فِي بَيَانِ ذَلِكَ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَمْلِ يُحْمَلُ مَا صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أبي بكر
وَعُمَرَ" 1 وَمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْهَادِينَ" 2. فَاعْرِفْ هَذَا، وَاحْرِصْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْكَ وَإِلَى سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَسُولًا إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْمُرْكَ بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا شَرَعَ لَكَ عَلَى لِسَانِ سِوَاهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَرْفًا واحدا ولا جعل شيئًا من الْحُجَّةَ عَلَيْكَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ، كَائِنًا مَنْ كان.
الفائدة الثانية: الأخذ بأقل ما قيل
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ فَإِنَّهُ أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَحَكَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّظَرِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرٍ عَلَى أَقَاوِيلَ، فَيَأْخُذُ بِأَقَلِّهَا إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ. قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: هُوَ أَنْ يَرِدَ الفعل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبنيا لمجمل، ويحتاج إلى تحديده، فيصار إلى اقل مَا يُوجَدُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ إِنَّهُ دِينَارٌ1. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ أن يختلف الصحابة في تقدير، فَيَذْهَبُ بَعْضُهُمْ إِلَى مِائَةٍ مَثَلًا، وَبَعْضُهُمْ إِلَى خَمْسِينَ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ دَلَالَةٌ تُعَضِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صُيِّرَ إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلَالَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَأْخُذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ. وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ، وَحَكَى اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالْمُسَاوَاةِ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ بِالثُّلُثِ فَكَانَ هَذَا أقلها. وقسم ابن السمعاني المسألة إلى قسمين: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا أَصْلُهُ الْبَرَاءَةُ، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَسُقُوطِهِ كَانَ سُقُوطُهُ أَوْلَى، لِمُوَافَقَةِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهِ، كَدِيَةِ الذِّمِّيِّ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى قَاتِلِهِ، فَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّهِ دَلِيلًا؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، كَالْجُمُعَةِ الثَّابِتِ فَرْضُهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَدِ انْعِقَادِهَا، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ دَلِيلًا لِارْتِهَانِ الذِّمَّةِ بِهَا، فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِالشَّكِّ. وَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ دَلِيلًا؟ فيه وجهان.
أحدهما: أن يَكُونُ دَلِيلًا، وَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ بِالْأَكْثَرِ إِجْمَاعًا، وَفِي الْأَقَلِّ خِلَافٌ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ. الثَّانِي: لَا يَكُونُ دَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مِنَ الْخِلَافِ دَلِيلٌ. انْتَهَى1. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَخْذَ بِأَقَلِّ ما قيل مُتَرَكِّبًا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أَمْكَنَ ضَبْطُ أَقْوَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَحَكَى قَوْلًا بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيلَ، لِيَخْرُجَ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي التَّقْدِيرِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْأَدِلَّةِ فَفَرْضُ الْمُجْتَهِدِ "أَنْ يَأْخُذَ"* بِمَا صَحَّ له منها، مع الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، أَوِ التَّرْجِيحِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ مَخْرَجٍ صَحِيحٍ، الْوَاقِعَةَ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ مَقْبُولَةٌ، يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا، وَالْمَصِيرُ إِلَى مَدْلُولِهَا، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّقْدِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَذَاهِبِ، فَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ "الْمُجْتَهِدِ"** بِمَذَاهِبِ النَّاسِ، بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ نَظَرُهُ، من الأخذ بالأقل، أو بالأكثر، أَوْ بِالْوَسَطِ. وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ أَسِيرُ إِمَامِهِ فِي جَمِيعِ "مَسَائِلِ"** دِينِهِ، وَلَيْتَهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ "أَدَبَ الطَّلَبِ"2، وَفِي الرِّسَالَةِ الْمُسَمَّاةِ "الْقَوْلَ المفيد في حكم التقليد"3. وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ، كَذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْأَخْذِ بِأَخَفِّ مَا قِيلَ، وَقَدْ صَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 5 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعثت بالحنيفية السمحة
السَّهْلَةِ" 1 وَقَوْلِهِ: "يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا" 2 وَبَعْضُهُمْ صَارَ إِلَى الْأَخْذِ بِالْأَشَقِّ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِي مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يُسْرٌ، وَالشَّرِيعَةَ جَمِيعَهَا سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ. وَالَّذِي يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ وَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ هُوَ مَا صَحَّ دَلِيلُهُ، فَإِنْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ الْأَخَفُّ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ، أَوِ الْأَشَقُّ مُرَجَّحًا، بَلْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى المرجحات المعتبرة.
الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟؟ "
الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُثْبِتَ لِلْحُكْمِ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا النَّافِي لَهُ، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّفْيِ. نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَنَقَلَهُ ابن القطان عن أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ، وَالصَّيْرَفِيُّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مدعٍ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 1 فَذَمَّهُمْ عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مُبَيَّنًا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 في جواب قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} 3، ولا يخافك أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِنَّ النَّافِيَ غَيْرُ مدعٍ، بَلْ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَنْعِ، مُتَمَسِّكٌ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا هُوَ مُكَذِّبٌ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ، بَلْ وَاقِفٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ الدَّلِيلُ، وَتَضْطَرَّهُ الْحُجَّةُ إِلَى الْعَمَلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَهُوَ نَصْبٌ لِلدَّلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُمُ الْبُرْهَانَ لِادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، إِلَّا ابْنَ حَزْمٍ، فَإِنَّهُ رَجَّحَ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ.. قَالُوا: لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ، فَمَنْ نفى الحكم فله أَنْ يَكْتَفِيَ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ قَوِيٌّ جِدًّا. فَإِنَّ النَّافِيَ عُهْدَتُهُ أَنْ يَطْلُبَ الْحُجَّةَ مِنَ الْمُثْبِتِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهَا، وَيَكْفِيهِ فِي عَدَمِ إِيجَابِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْهَا إِلَّا دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلنَّقْلِ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي النَّفْيِ الْعَقْلِيِّ، دُونَ الشَّرْعِيِّ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَابْنُ فُورَكَ: الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيِّ، بِخِلَافِ الضَّرُورِيِّ، وَهَذَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ الضَّرُورِيَّ يُسْتَغْنَى بِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا يخالف فيه مُخَالِفٌ إِلَّا عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ، أَوِ اعْتِرَاضِ الشُّبْهَةِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَلِكَ بِبَيَانِ ضَرُورِيَّتِهِ، وَلَيْسَ النزاع إلا في غير الضروري. المذهب الخامس: أن النافي إن كن شاكًّا فنفيه لَمْ يَحْتَجْ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ نَافِيًا لَهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ اسْتِدْلَالِيَّةً لَا إِنْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً، فَلَا نِزَاعَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ. كَذَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ النَّافِيَ عَنْ مَعْرِفَةٍ يَكْفِيهِ "تَكْلِيفُ"* الْمُثْبِتِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، أَوْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِحُكْمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى خَصْمِهِ، وَعَلَى غَيْرِهِمَا. المذهب السادس: أن النافي نَفَى الْعِلْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، وَإِنْ نَفَاهُ مُطْلَقًا احْتَاجَ إِلَى الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ، كَمَا أَنَّ الْإِثْبَاتَ حُكْمٌ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ": وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْحَقُّ. انْتَهَى1. قُلْتُ: بَلِ الْحَقُّ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ. الْمَذْهَبُ السَّابِعُ: أَنَّهُ إِنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ عِلْمًا بِالنَّفْيِ احْتَاجَ إِلَى الدَّلِيلِ، وَإِلَّا فَلَا. هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَذْهَبِ الْخَامِسِ.
الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَمْ أَجِدْ فِيهِ دَلِيلًا بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا احْتَاجَ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكَ. الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُوجِبَةٌ، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ. وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُوجِبَةٍ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّفْيِ، فَيُطَالَبُ بِهِ مُطَالَبَةً مَقْبُولَةً فِي الْمُنَاظَرَةِ أَمْ لَا! وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ الْعَالِمُ: بَحَثْتُ وَفَحَصْتُ فَلَمْ أَجِدْ دَلِيلًا، هَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَدَمُ الْوِجْدَانِ دَلِيلًا لَهُ، فَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ ظَنُّ عَدَمِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ": إِنْ صَدَرَ هَذَا عَنِ الْمُجْتَهِدِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى قُبِلَ مِنْهُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "بَحَثْتُ فَلَمْ أَظْفَرْ" يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، أَمَّا انْتِهَاضُهُ فِي حَقِّ خَصْمِهِ فَلَا.
الفائدة الرابعة: سد الذرائع
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: سَدُّ الذَّرَائِعِ الذَّرِيعَةُ: هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الذَّرَائِعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مَنْعُهَا. اسْتَدَلَّ الْمَانِعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} 1وَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} 2 وما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" 3. وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يريبك" 4.
وَقَوْلِهِ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَقَّافُونَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ" 1. وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" 2. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ تَأْصِيلًا، وَعَمِلُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا، ثُمَّ قَرَّرَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفْضِي إِلَى الْوُقُوعِ" فِي الْمَحْظُورِ إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُقُوعُ"* قَطْعًا أَوْ لَا؟ الْأَوَّلُ لَيْسَ من هَذَا الْبَابِ، بَلْ مِنْ بَابِ مَا لَا خَلَاصَ مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا بِاجْتِنَابِهِ، فَفِعْلُهُ حَرَامٌ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَالَّذِي لَا يَلْزَمُ، إِمَّا أَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمَحْظُورِ غَالِبًا، أَوْ يَنْفَكَّ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالذَّرَائِعِ عِنْدَنَا، فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِيهِ، "وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُرَاعِيهِ"**، وَرُبَّمَا يُسَمِّيهِ التُّهْمَةَ الْبَعِيدَةَ، وَالذَّرَائِعَ الضَّعِيفَةَ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: مَالِكٌ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ بِهَا، وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِهَا، إِلَّا مِنْ حَيْثُ زِيَادَتِهِمْ فِيهَا. قَالَ: فَإِنَّ مِنَ الذَّرَائِعِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَالْمَنْعِ مِنْ حَفْرِ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي طَعَامِهِمْ، وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُلْغًى إِجْمَاعًا، كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ، فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى الْمُحَرَّمِ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، كَبُيُوعِ الْآجَالِ، فَنَحْنُ "نَعْتَبِرُ"* الذَّرِيعَةَ فِيهَا، وَخَالَفْنَا غَيْرَنَا فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ، أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا، لَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِنَا. قَالَ: وبهذا تعمل بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ} 1، وَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 2 فَقَدْ ذَمَّهُمْ بِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ، لِحَبْسِ الصَّيْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ" 3 الْحَدِيثَ. وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِّقَيْنِ، وَتَحْرِيمِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرِّبَا، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ**: "لا تُقبل شهادة خضم و [لا] ظنين"4 خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَمَنْعِ شَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ. قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَا تُفِيدُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَهُوَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرُوا أَدِلَّةً خَاصَّةً بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمُ الْقِيَاسَ، وَحِينَئِذٍ فَلْيَذْكُرُوا الْجَامِعَ، حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِدَفْعِهِ بِالْفَارِقِ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دَلِيلَهُمُ الْقِيَاسُ. قَالَ: بَلْ مِنْ أدل مَحَلِّ النِّزَاعِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ أَمَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: "إِنِّي بِعْتُ مِنْهُ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ نَقْدًا بِسِتِّمِائَةٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ، وَأَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ"5 قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابن رُشْدٍ: وَهَذِهِ الْمُبَايَعَةُ كَانَتْ بَيْنَ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، فيُخرّج قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ. مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الذَّرَائِعِ، وَلَعَلَّ زَيْدًا لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وعبده.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهَا، وَاجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ قَوْلُهَا مُعَارَضٌ بِفِعْلِ زَيْدِ بْنِ أرقم، ثم إنها إنما أَنْكَرَتْ ذَلِكَ لِفَسَادِ التَّعْيِينِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فَاسِدٌ لجهالة الْأَجَلِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْعَطَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالثَّانِي بِنَاءٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ فَاسِدًا. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: الذَّرِيعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُقْطَعُ بِتَوْصِيلِهِ إِلَى الْحَرَامِ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، يَعْنِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَالثَّانِي: مَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُ، وَلَكِنِ اخْتَلَطَ بِمَا يُوَصِّلُ، فَكَانَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ سَدُّ الْبَابِ، وَإِلْحَاقُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ، الَّتِي قُطِعَ بِأَنَّهَا لَا تُوَصِّلُ إِلَى الْحَرَامِ بِالْغَالِبِ مِنْهَا، الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَهَذَا غُلُوٌّ فِي الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ. وَالثَّالِثُ: مَا يُحْتَمَلُ وَيُحْتَمَلُ، وَفِيهِ مَرَاتِبُ "مُتَفَاوِتَةٌ"* وَيَخْتِلَفُ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِهَا. قَالَ: وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ "فِي جَمِيعِهَا"** إِلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ؛ لِانْضِبَاطِهِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذَا الْبَابِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَعَاصِيهِ، فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" 1 وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَيُلْحَقُ بِهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" 2 وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" 3 وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ" 4 وَهُوَ حديث حسن أيضا.
الفائدة الخامسة: دلالة الاقتران
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ وَقَدْ قَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو يُوسُفَ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكَى ذَلِكَ الْبَاجِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ ابْنَ نَصْرٍ1 يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرًا. وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 2 قَالَ: فَقَرَنَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ الْخَيْلُ. وَأَنْكَرَ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: إِنَّ الِاقْتِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاقْتِرَانَ فِي الْحُكْمِ. وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ "لَهَا"* بِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ. وأجاب الجمهور: بأن الشركة إنما تكن فِي الْمُتَعَاطِفَاتِ النَّاقِصَةِ، الْمُحْتَاجَةِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ، فَإِذَا تَمَّتْ بِنَفْسِهَا فَلَا مُشَارَكَةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} 3 فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُولَى، وَلَا تشاركها في الرسالة، ونحو ذلك كثير من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ، وَلَا يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، فَمَنِ ادَّعَى خِلَافَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلِاقْتِرَانِ، بَلْ لِلدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا، بِأَنْ لَا يُذْكَرَ خَبَرُهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانَةُ طَالِقٌ وفلانة، فلا خلاف في المشاركة، ومثله عطفت الْمُفْرَدَاتِ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ فِي الْعِلَّةِ، فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها، لا لأجل الاقتران.
وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوُجُوبُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ. انْتَهَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا لِقَرِينَتِهَا، إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا قَرِينَةُ الْحَجِّ فِي الْأَمْرِ وهو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَكَانَ احْتِجَاجُهُ بِالْأَمْرِ دُونَ الِاقْتِرَانِ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ"2: فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: "غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَأَنْ يَمَسَّ الطِّيبَ"3 "فِيهِ"* دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالسِّوَاكِ، وَالطِّيبِ، وَهَمَّا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْهُمْ فِي "الْبَحْرِ" أَنَّهَا إِذَا عُطِفَتْ جُمْلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ، فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، لَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، "وَقَدْ"** لَا تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةُ أَصْلًا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} 4 فإن قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، ولا هي داخل فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ نَاقِصَةً شَارَكَتِ الْأُولَى فِي جَمِيعِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا بَنَوْا بَحْثَهُمُ الْمَشْهُورَ فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" 5 وَقَدْ سَبَقَ الكلام فيه.
الفائدة السادسة: دلالة الإلهام
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: دَلَالَةُ الْإِلْهَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، فِي "بَابِ"* الْقَضَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا وَفَرْعًا عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ هَلْ يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ "فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عَنْ دَلِيلٍ"**، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اعتماد الإلهام، منهم فِي "تَفْسِيرِهِ" فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ فِي "فَتَاوِيهِ"1، فَقَالَ: إِلْهَامُ خَاطِرِ الْحَقِّ مِنَ الْحَقِّ. قَالَ: وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ الصَّدْرُ، وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ "مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ"***. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِ "التَّذْكِرَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ"2: ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِشَرْطِ التَّقْوَى، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 3 أَيْ: مَا تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 4 أَيْ: عَنْ كُلِّ مَا يَلْتَبِسُ عَلَى غَيْرِهِ وَجْهُ الْحُكْمِ فِيهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} 5. فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إِذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ، وَسَلَّمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وامتثال المأمورات؛ "إذ"**** وخبره صِدْقٌ وَوَعْدُهُ حَقٌّ. وَاحْتَجَّ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ6 على الإلهام بقوله تعالى:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 1 وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} 2 فَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ مُجَرَّدُ الْإِلْهَامِ. ثُمَّ إِنَّ مِنَ "الْإِلْهَامِ"* عُلُومًا تَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ الزكية المطمئنة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من أمتي المحدثين والمكلمين *، وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ" 3 وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 4 فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ. قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ5 فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ: أَيْ: مُلْهَمُونَ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ "نِهَايَةِ الْغَرِيبِ"6: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمُ الْمُلْهَمُونَ، وَالْمُلْهَمُ: هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِي نَفْسِهِ الشَّيْءُ، فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً، وَهُوَ نَوْعٌ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فقالوه. وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ" 7 فَذَلِكَ في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ أَبَاحَ الْمُفْتِي، أَمَّا حَيْثُ حَرَّمَ فَيَجِبُ الِامْتِنَاعُ، ثُمَّ لَا نَقُولُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ، فَرُبَّ قَلْبٍ مُوَسْوَسٌ يَنْفِي كُلَّ شَيْءٍ، وَرُبَّ قَلْبٍ مُتَسَاهِلٌ يَطِيرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْقَلْبَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِ الْعَالِمِ الْمُوَفَّقِ لِدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ، فَهُوَ الْمَحِكُ الَّذِي يُمْتَحَنُ بِهِ حَقَائِقُ الْأُمُورِ، وَمَا أَعَزَّ هَذَا الْقَلْبَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الْإِيمَانِ"1: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ فِي مَنَامِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ ما عسى يَحْتَاجَ إِلَيْهِ، أَوْ يُحَدَّثَ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: "وَكَيْفَ يُحَدَّثُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ الْمَلَكُ عَلَى لِسَانِهِ"2. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ 3 أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي: يُلْقِي فِي رَوْعِهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ تُثْبَتُ الْعُلُومُ بِالْإِلْهَامِ لَمْ "يَكُنْ"* لِلنَّظَرِ مَعْنًى، وَنَسْأَلُ الْقَائِلَ بِهَذَا عَنْ دَلِيلِهِ، فَإِنِ احْتَجَّ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ "فَقَدْ** نَاقَضَ قَوْلَهُ. انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ: بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِلْهَامِ لَا يَحْصُرُ الْأَدِلَّةَ فِي الْإِلْهَامِ، حَتَّى يَكُونَ اسْتِدْلَالُهُ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ، نَعَمْ إِنِ اسْتَدَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلْهَامِ بِالْإِلْهَامِ، كَانَ فِي ذَلِكَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ. ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِدْلَالِ لِثُبُوتِ الْإِلْهَامِ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، مِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ دَعْوَى هَذَا الْفَرْدِ لِحُصُولِ الْإِلْهَامِ لَهُ صَحِيحَةٌ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُوَسْوَسَةٍ ولا بمتساهلة.
"الْفَائِدَةُ"* السَّابِعَةُ: فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُ العمل به. وقيل: لا يكون حجة، لا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٍّ، وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ لَكِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ لِلرِّوَايَةِ، لِعَدَمِ حِفْظِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ، مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا ثَابِتًا. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1، وَلَمْ يَأْتِنَا دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا قَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ، أَوْ فَعَلَ فيها فعلا يكون دليلا وحجة، بل قد قبضه الله إليه بعد أَنْ كَمَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا شَرَعَهُ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِلْأُمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْبَعْثَةُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ، وَتَبَيِينِهَا بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ رَسُولًا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَوْ قَدَّرْنَا ضَبْطَ النَّائِمِ لَمْ يَكُنْ مَا رَآهُ مِنْ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ.
المقصد السادس: من مقاصد هذا الكتاب في الاجتهاد والتقليد
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي الاجتهاد والتقليد الفصل الأول: في الإجتهاد المسألة الأولى: في حد الاجتهاد مدخل ... المقصد السادس: في الاجتهاد والتقليد أما الفصل الأول: في الاجتهاد فَفِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَهْدِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالطَّاقَةُ، فَيَخْتَصُّ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، لِيَخْرُجَ عَنْهُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ. قَالَ "فِي الْمَحْصُولِ": وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ. يُقَالُ: استفرع وُسْعَهُ فِي حَمْلِ الثَّقِيلِ، وَلَا يُقَالُ: اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي حَمْلِ النَّوَاةِ. وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: فَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي النَّظَرِ فِيمَا لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ لَوْمٌ، مَعَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فيه، و"هذا"* سبيل مسائل الفروع، و"لذلك"** تُسَمَّى هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ، وَالنَّاظِرُ فِيهَا مُجْتَهِدًا، وَلَيْسَ هَكَذَا حَالُ الْأُصُولِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ، بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ. فَقَوْلُنَا: بَذْلُ الْوُسْعِ يُخْرِجُ مَا يَحْصُلُ مَعَ التَّقْصِيرِ، فَإِنَّ مَعْنَى بَذْلِ الْوُسْعِ: أَنْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ. وَيَخْرُجُ بِالشَّرْعِيِّ اللُّغَوِيُّ، وَالْعَقْلِيُّ، وَالْحِسِّيُّ، فَلَا يُسَمَّى مَنْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي تَحْصِيلِهَا مُجْتَهِدًا اصْطِلَاحًا، وَكَذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ في تحصيل الحكم العلمي، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى اجْتِهَادًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى اجْتِهَادًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ1. وَيَخْرُجُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ نَيْلُ الْأَحْكَامِ مِنَ النُّصُوصِ ظَاهِرًا، أَوْ حِفْظُ الْمَسَائِلِ، أَوِ اسْتِعْلَامُهَا مِنَ الْمُفْتِي، أَوْ بِالْكَشْفِ عَنْهَا فِي كُتُبِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ اللُّغَوِيُّ، فَإِنَّهُ لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي.
وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذَا الْحَدِّ لَفْظَ الْفَقِيهِ فَقَالَ: بَذْلُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَذْلَ غَيْرِ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ لَا يُسَمَّى اجْتِهَادًا اصْطِلَاحًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَزَادَ قَيْدَ الظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ فِي الْقَطْعِيَّاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ السمعاني: وهو أَلْيَقُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الِاجْتِهَادُ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ معانٍ: أَحَدُهَا: الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ، لِجَوَازِ وُجُودِهَا خَالِيَةً عَنْهُ، لَمْ يُوجِبْ ذلك العلم بالمطلوب، فلذلك كَانَ طَرِيقَةَ الِاجْتِهَادِ. وَالثَّانِي: مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، كَالِاجْتِهَادِ فِي الْوَقْتِ، والقبلة، والتقويم. والثالث: الاستدلال بالأصول. وقال الْآمِدِيُّ: هُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، عَلَى وَجْهٍ يُحِسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزَ عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَ اجْتِهَادُ الْمُقَصِّرِ، فَإِنَّهُ لا يعد في الاصطلاح اجتهادا معتبرا.
الشروط الواجب توفرها في المجتهد
الشروط الواجب توفرها في المجتهد: إذا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمُجْتَهِدُ: هُوَ الْفَقِيهُ الْمُسْتَفْرِغُ لِوُسْعِهِ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يكون بالغا عاقلا، قد ثبت لَهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَآخِذِهَا، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بجميع الكتاب والسنة، بل ما يَتَعَلَّقُ مِنْهُمَا بِالْأَحْكَامِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، وَدَعْوَى الِانْحِصَارِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ إنما هو بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ، بَلْ مَنْ لَهُ فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَتَدَبُّرٌ كَامِلٌ، يَسْتَخْرِجُ الْأَحْكَامَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ لِمُجَرَّدِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ. قِيلَ: وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ دَلَالَةً أَوَّلِيَّةً بِالذَّاتِ، لَا بِطْرِيقِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ. وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اقْتِصَارَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا هُوَ
لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ1 أَفْرَدَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فِي تَصْنِيفٍ وَجَعَلَهَا خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَا فِيهَا مِنَ الْقِصَصِ وَالْمَوَاعِظِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَكْفِي الْمُجْتَهِدَ مِنَ السُّنَّةِ، فَقِيلَ: خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا يُقَالُ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْمَحْصُولِ": هِيَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الضَّرِيرُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنَ الْحَدِيثِ حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُفْتِيَ: يَكْفِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: "مِائَتَا أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ"* ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: أَرْجُو. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَالتَّغْلِيظِ فِي الْفُتْيَا، أَوْ يَكُونُ أَرَادَ وَصْفَ أَكْمَلِ الْفُقَهَاءِ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأُصُولُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُ جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، وَلَوْ تُصُوِّرَ لَمَا حَضَرَ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ مَا رُوي. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ يَجَمْعُ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ2، وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ لِلْبَيْهَقِيِّ3، أَوْ أَصْلٌ وَقَعَتِ الْعِنَايَةُ فِيهِ بِجَمِيعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، وَيُكْتَفَى فِيهِ بِمَوَاقِعِ كُلِّ بَابٍ، فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ، وَنَازَعَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، فَإِنَّهَا لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام،
وَلَا مُعْظَمَهَا، وَكَمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ حُكْمِيٍّ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي "شَرْحِ الْعُنْوَانِ": التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ عِنْدَنَا، لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَا تَحْوِي السُّنَنَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَاطِ، وَبَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ التَّفْرِيطِ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَجَامِيعُ السُّنَّةِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَهْلُ الْفَنِّ، كَالْأُمَّهَاتِ السِّتِّ1 وَمَا يَلْتَحِقُ بِهَا: مُشْرِفًا عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمَسَانِيدُ2، وَالْمُسْتَخْرَجَاتُ3، وَالْكُتُبُ الَّتِي الْتَزَمَ مُصَنِّفُوهَا الصِّحَّةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً لَهُ، مُسْتَحْضَرَةً فِي ذِهْنِهِ، بَلْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا، بِالْبَحْثِ عَنْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَهُ تَمْيِيزٌ بَيْنَ الصَّحِيحِ مِنْهَا، وَالْحَسَنِ، وَالضَّعِيفِ، بِحَيْثُ يَعْرِفُ حَالَ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَعْرِفَةً يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيثِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحَالِ الرِّجَالِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَتَمَكَّنَ بِالْبَحْثِ فِي كُتُبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الرِّجَالِ، مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِمَا يُوجِبُ الْجَرْحَ، وَمَا لَا يُوجِبُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمَا هُوَ مَقْبُولٌ مِنْهَا، وَمَا هُوَ مَرْدُودٌ، وَمَا هُوَ قَادِحٌ مِنَ الْعِلَلِ، وَمَا هُوَ غَيْرُ قَادِحٍ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَيَرَى أَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَقَلَّ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنَ الْمَسَائِلِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَفْسِيرُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْغَرِيبِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ أن يكون متمكنا
مِنِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ مُؤَلَّفَاتِ الْأَئِمَّةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَرَّبُوهَا أَحْسَنَ تَقْرِيبٍ، وَهَذَّبُوهَا أَبْلَغَ تَهْذِيبٍ، وَرَتَّبُوهَا عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ تَرْتِيبًا لَا يَصْعُبُ الْكَشْفُ عَنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا، وَخَوَاصِّ تَرَاكِيبِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ لَطَائِفِ الْمَزَايَا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِعِلْمِ النَّحْوِ، وَالصَّرْفِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، حَتَّى يثبت لَهُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ هَذِهِ "الْفُنُونِ"* مَلَكَةٌ، يَسْتَحْضِرُ بِهَا كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عند وروده عليه، فإنه ذَلِكَ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ نَظَرًا صَحِيحًا، وَيَسْتَخْرِجُ مِنْهُ الْأَحْكَامَ اسْتِخْرَاجًا قَوِيًّا. وَمَنْ جَعَلَ الْمِقْدَارَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ هُوَ مَعْرِفَةَ "مختصر من"** ختصراتها، أَوْ كِتَابٍ مُتَوَسِّطٍ مِنَ الْمُؤَلَّفَاتِ الْمَوْضُوعَةِ فِيهَا، فَقَدْ أَبْعَدَ، بَلِ الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْمُمَارَسَةِ لَهَا، وَالتَّوَسُّعُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مُطَوَّلَاتِهَا مِمَّا يَزِيدُ الْمُجْتَهِدَ قُوَّةً فِي الْبَحْثِ، وَبَصَرًا فِي الِاسْتِخْرَاجِ، وَبَصِيرَةً فِي حُصُولِ مَطْلُوبِهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْمَلَكَةُ الْقَوِيَّةُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْمَلَكَةُ بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ، وَكَثْرَةِ الْمُلَازَمَةِ لِشُيُوخِ هَذَا الْفَنِّ. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ مُجْتَهِدٍ1 وَغَيْرِهِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِعِلْمِ أصول الفقه، لاشتماله على "ما تمس"*** حاجة إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطَوِّلَ الْبَاعَ فِيهِ، وَيَطَّلِعَ عَلَى مُخْتَصَرَاتِهِ، وَمُطَوَّلَاتِهِ، بِمَا تَبْلُغُ "إِلَيْهِ"****طَاقَتُهُ، فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ عِمَادُ فُسْطَاطِ الِاجْتِهَادِ، وَأَسَاسُهُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ أَرْكَانُ بِنَائِهِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ نَظَرًا يُوصِلُهُ إِلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فِيهَا، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَاكَ تَمَكَّنَ مِنْ رد الفروع إلى أصولها، بأيسر علم، وَإِذَا قَصَّرَ فِي هَذَا الْفَنِّ صَعُبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَخَبَطَ فِيهِ وَخَلَطَ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"؛ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ: إِنَّ أَهَمَّ الْعُلُومِ لِلْمُجْتَهِدِ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ. انْتَهَى.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ أَعَظْمَ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: الْحَدِيثِ، وَاللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ1. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَشَرَطَهُ جماعة منهم الغزالي، والفخر الرازي، ولم يشترطه الْآخَرُونَ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَدُورُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حَاكِمًا فَهُوَ لَا يَجْعَلُ مَا حَكَمَ بِهِ دَاخِلًا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ، فمنهم من "اشتراط"* ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، فَقَالَ: يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالضَّرُورِيَّاتِ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالتَّصْدِيقِ "بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ"**. وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِدَقَائِقِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْآمِدِيُّ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْفُرُوعِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إِلَى اشْتِرَاطِهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقٌ لِتَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، قَالُوا: وإلا لزم الدور، وكيف يحتاج إليه، وَهُوَ الَّذِي يُوَلِّدُهَا، بَعْدَ حِيَازَتِهِ لِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ جَعَلَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ عِلْمَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْعِلْمُ بِهَا بِدُونِهِ كَمَا قَدَّمْنَا2. وَجَعَلَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةَ الْقِيَاسِ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ، وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِهِ، وشعبة من شعبه.
موضع الاجتهاد
موضع الاجتهاد: وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ، وَالْمُجْتَهِدِ، فَاعْلَمْ: أَنَّ المجتهد فيه، هو الحكم الشرعي العملي1. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْمُجْتَهَدُ فِيهِ: هُوَ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَاحْتَرَزْنَا بِالشَّرْعِيِّ عَنِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَمَسَائِلِ الْكَلَامِ. وَبِقَوْلِنَا: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَنْ وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، والزكاة، وما اتفقت عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ جَلِيَّاتِ الشَّرْعِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْمَسْأَلَةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ هِيَ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُجْتَهِدُونَ، مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادِيَّةً، فَلَوْ عَرَفْنَا كَوْنَهَا اجْتِهَادِيَّةً بِاخْتِلَافِهِمْ فِيهَا لزم الدور.
المسألة الثانية: هل يجوز خلو العصر عن المجتهدين أم لا؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، قَائِمٍ بِحُجَجِ اللَّهِ، يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَنْ يَقُومُ بِهِ الْكِفَايَةُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي "كَلَامِ"* الْأَئِمَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَتْوَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاجْتِهَادُ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: فَرْضِ عَيْنٍ، وَفَرْضِ كِفَايَةٍ، وَنَدْبٍ. فَالْأَوَّلُ: على حالين: "أحدهما" **: اجْتِهَادٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ. والثاني: اجتهد فيما تعين عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ، فَإِنْ ضَاقَ فَرْضُ الْحَادِثَةِ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِلَّا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي.
وَالثَّانِي: عَلَى حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْتَفْتِي حَادِثَةٌ، فَاسْتَفْتَى أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، تَوَجَّهُ الْفَرْضُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَأَخَصُّهُمْ بِمَعْرِفَتِهَا مَنْ خُصَّ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا، فَإِنْ أَجَابَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ سَقَطَ الْفَرْضُ، وَإِلَّا أَثِمُوا جَمِيعًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَرَدَّدَ الْحُكْمُ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي النَّظَرِ، فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ فِيهِ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْهَا. وَالثَّالِثُ: عَلَى حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِيمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ الْعَالِمُ مِنْ غَيْرِ النَّوَازِلِ، يَسْبِقُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ قَبْلَ نُزُولِهِ. وَالثَّانِي: أن يستفتيه قبل نزولها. انتهى. ولا يخافك أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الِاجْتِهَادِ فَرْضًا، يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" 1. وَقَدْ حَكَى الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنِ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ". قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي "الْوَسِيطِ"2: قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَجِيبٌ، وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَابِلَةِ، وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْفَقِيهَ الْفَطِنَ لِلْقِيَاسِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، لَا النَّاقِلِ فَقَطْ. وَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالزُّبَيْرِيُّ3، وَنَسَبَهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِلَى الْفُقَهَاءِ، قَالَ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَخْلَى زَمَانًا من قائم بحجة، زال.
التَّكْلِيفُ؛ إِذِ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِذَا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتِ الشَّرِيعَةُ. قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، كَمَا قَالَ الْخَصْمُ، فَلَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُدِمَ الْفُقَهَاءُ لَمْ تُقَمِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، وَلَوْ عُطِّلَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتِ النِّقْمَةُ بِالْخَلْقِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شَرَارِ النَّاسِ "1 وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مَعَ الْأَشْرَارِ. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، لَكِنْ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ، بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَقَالَ فِي "شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ": وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لها من سالك إلى الحق على وضاح الحجة، إلى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أَنَّهُ قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ الْقَفَّالُ، وَلَكِنَّهُ نَاقَضَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ لِلشَّافِعِيِّ، وإنما وافق رأيه رأيه، كما "نقل"* ذَلِكَ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ2، وَقَالَ: قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ، فَقَدْ عَاصَرَ الْقَفَّالَ، وَالْغَزَالِيَّ، وَالرَّازِيَّ، وَالرَّافِعِيَّ، مِنَ الْأَئِمَّةِ الْقَائِمِينَ بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْوَفَاءِ وَالْكَمَالِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ إِلْمَامٌ بِعِلْمِ التَّارِيخِ، وَاطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ عَصْرٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا، بَلْ قَدْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُلُومِ فَوْقَ مَا "اعْتَبَرَهُ"** أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى مَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذِهِ "الْأُمَّةِ"*** مِنْ كَمَالِ الْفَهْمِ، وَقُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعَارِفِ، فَهَذِهِ دَعْوَى مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلَاتِ، بَلْ هِيَ جَهَالَةٌ مِنَ الْجَهَالَاتِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَيَسُّرِ الْعِلْمِ لِمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ، وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ عُصُورِهِمْ، فَهَذِهِ أَيْضًا دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يسره الله.
لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَيْسِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِينَ؛ لِأَنَّ التَّفَاسِيرَ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَدْ دُوِّنَتْ، وَصَارَتْ فِي الْكَثْرَةِ إلى حد لا يكن حَصْرُهُ، وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ قَدْ دُوِّنَتْ، وَتَكَلَّمَ "الْأَئِمَّةُ"* عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجِيحِ، وَالتَّصْحِيحِ، وَالتَّجْرِيحِ بِمَا هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ يَرْحَلُ لِلْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَالِاجْتِهَادُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ مِنَ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا مَنْ لَهُ فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَعَقْلٌ سَوِيٌّ. وَإِذَا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ وَجَدْتَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ إِنَّمَا أُتوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَكَفُوا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَاشْتَغَلُوا بِغَيْرِ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَكَمُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِمَا وَقَعُوا فِيهِ، "وَاسْتَصْعَبُوا"** مَا سَهَّلَهُ الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلب أَنْوَاعَ عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ شَافِعِيَّةً، فَهَا نَحْنُ "نُوَضِّحُ"*** لَكَ مَنْ وُجِدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بَعْدَ عَصْرِهِمْ، مِمَّنْ لَا يُخَالِفُ مُخَالِفٌ فِي أَنَّهُ جَمَعَ أَضْعَافَ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ، فَمِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ1، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ زَيْنُ الدَّيْنِ الْعِرَاقِيِّ2، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ3، ثم تلميذه السيوطي4؛ فهؤلاء ستة
أَعْلَامٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تِلْمِيذُ مَنْ قَبْلَهُ، قَدْ بَلَغُوا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعِلْمِيَّةِ مَا يَعْرِفُهُ من يعرف مصنفاتهم حق معرفتنا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِمَامٌ كَبِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُحِيطٌ بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ إِحَاطَةً مُتَضَاعِفَةً، عَالِمٌ بِعُلُومٍ خَارِجَةً عَنْهَا. ثُمَّ فِي الْمُعَاصِرِينَ لِهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُمَاثِلِينَ لَهُمْ، وَجَاءَ بَعْدَهُمْ مَنْ لَا يَقْصُرُ عَنْ بُلُوغِ مَرَاتِبِهِمْ، وَالتَّعْدَادُ لِبَعْضِهِمْ، فَضْلًا عَنْ كُلِّهِمْ يَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ. وَقَدْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ" مَا لَفْظُهُ: وَلَمْ يَخْتَلِفِ اثْنَانُ فِي أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ العيد. انتهى. و"حكاية"* هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذَا الشَّافِعِيِّ يَكْفِي فِي مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي. وبالجملة فتطويل الْبَحْثِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَأْتِي بِكَثِيرِ إفادة، فَإِنَّ أَمْرَهُ أَوْضَحُ مِنْ كُلِّ وَاضِحٍ، وَلَيْسَ مَا يَقُولُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ بلازم لمن فتح الله على أَبْوَابَ الْمَعَارِفِ، وَرَزَقَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ تَقْلِيدِ الرِّجَالِ، وَمَا هَذِهِ بِأَوَّلِ فاقرة1 جاء بها المقلدون، ولا هي أول مقالة قَالَهَا الْمُقَصِّرُونَ. وَمَنْ حَصَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ، وَقَصَرَ فَهْمَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ عَصْرُهُ، فَقَدْ تَجَرَّأَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عَلَى شَرِيعَتِهِ الْمَوْضُوعَةِ لِكُلِّ عِبَادِهِ، ثُمَّ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ تَعَبَّدَهُمُ الله بالكتاب والسنة. ويا لله الْعَجَبَ مِنْ مَقَالَاتٍ هِيَ جَهَالَاتٌ، وَضَلَالَاتٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَسْتَلْزِمُ رَفْعَ التَّعَبُّدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا تَقْلِيدُ الرِّجَالِ، الَّذِينَ هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَتَعَبُّدِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانُوا فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لِهَؤُلَاءِ إِلَّا التَّقْلِيدُ لِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ، مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ الْبَاطِلَةِ، وَالْمَقَالَةِ الزَّائِفَةِ، وَهَلِ النَّسْخُ إِلَّا هَذَا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 2.
المسألة الثالثة: في تجزء الاجتهاد
المسألة الثالثة: في تجزء الاجتهاد ... الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تجزُّؤ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ قَدْ تَحَصَّلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَا هُوَ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْأَدِلَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ له أن يجتهد فيها أو لا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا، عِنْدَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَتَجَزَّأُ، وَعَزَاهُ الصَّفِيُّ الندي إِلَى الْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "النُّكَتِ"1 عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُمَكِّنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ، حَتَّى تَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَآخِذِ أَحْكَامِهِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَآخِذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالرَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُنْتَصِبًا لِلِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي نَوْعٍ مِنَ الْفِقْهِ، رُبَّمَا كَانَ أَصْلُهَا فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَجَزَّأِ الِاجْتِهَادُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَاللَّازِمُ منتفٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ سُئِلَ فَلَمْ يُجِبْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سُئِلَ عَنْ مَسَائِلَ، فَأَجَابَ فِي الْبَعْضِ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ بِلَا خِلَافٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَأَجَابَ فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا، وَقَالَ فِي الْبَاقِي: لَا أَدْرِي. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَانِعٍ، أَوْ لِلْوَرَعِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ السَّائِلَ مُتَعَنِّتٌ، وَقَدْ يَحْتَاجُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ إِلَى "مَزِيدِ"* بَحْثٍ، يَشْغَلُ الْمُجْتَهِدَ عَنْهُ شَاغِلٌ فِي الْحَالِ. وَاحْتَجَّ "النَّافُونَ"** بِأَنَّ كُلَّ مَا يُقَدَّرُ جَهْلُهُ بِهِ يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِالْحُكْمِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ظَنُّ عَدَمِ الْمَانِعِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَفْرُوضَ حُصُولُ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. وَيُرَدُّ هَذَا الْجَوَابُ: بِمَنْعِ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ من لا
يَقْتَدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَا يَقْتَدِرُ عَلَيْهِ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَأَكْثَرُ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيَأْخُذُ بَعْضُهَا بِحُجْزَةِ بَعْضٍ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْ عُلُومِهِ مَرْجِعُهُ إِلَى ثُبُوتِ الْمَلَكَةِ، فَإِنَّهَا إِذَا تَمَّتْ كَانَ مُقْتَدِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَإِنِ احْتَاجَ بَعْضُهَا إِلَى "مَزِيدِ"* بِحْثٍ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ يَقْتَدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَثِقْ مِنْ نَفْسِهِ لِتَقْصِيرِهِ، وَلَا يَثِقْ بِهِ الْغَيْرُ لِذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَى بَعْضُ الْمُقَصِّرِينَ بِأَنَّهُ قَدِ اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَةٍ "دُونَ مَسْأَلَةٍ"** فَتِلْكَ الدَّعْوَى يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُهَا بِأَنْ يَبْحَثَ مَعَهُ مَنْ هُوَ مُجْتَهِدٌ اجْتِهَادًا مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يُورِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَالِكِ وَالْمَآخِذِ "مَا لَا يَتَعَقَّلُهُ"***، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِمَا إِذَا عَرَفَ بَابًا دُونَ بَابٍ، أَمَّا مَسْأَلَةٌ دُونَ مَسْأَلَةٍ فَلَا يَتَجَزَّأُ قَطْعًا، وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْأَبْيَارِيُّ1. انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ "بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ"**** فِي امْتِنَاعِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِحُصُولِ الْمُقْتَضَى وَعَدَمِ الْمَانِعِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ، أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ دُونَ مَسْأَلَةٍ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُجَوِّزُ لِلْغَيْرِ مَا قَدْ بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ، فَإِنْ قَالَ: قَدْ غَلَبَ ظَنُّهُ بِذَلِكَ؛ فَهُوَ مُجَازِفٌ، وتتضح مجازفته بالبحث معه.
المسألة الرابعة: جواز الاجتهاد للأنبياء
المسألة الرابعة: جواز الاجتهاد للأنبياء ... المسألة الرابعة: جوز الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا تَعَبُّدُهُمْ بِالِاجْتِهَادِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، حَكَى هَذَا الْإِجْمَاعَ ابْنُ فُورَكَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَنَحْوِهَا، حَكَى هَذَا الْإِجْمَاعَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ. وَذَلِكَ كَمَا قُلْتُ وَقَعَ مِنْ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِرَادَتِهِ بِأَنْ يُصَالِحَ غَطَفَانَ عَلَى "ثلث"* ثمار
الْمَدِينَةِ1، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ تَلْقِيحِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ2. فَأَمَّا اجْتِهَادُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّصِّ بِنُزُولِ الْوَحْيِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3 وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى النُّطْقِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 4؛ وقد حَكَى هَذَا الْمَذْهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": كُلُّ مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ أَحَالَ تَعَبُّدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِهِ"*. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ ابْنِ حَزْمٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سُئِلَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، وَيَقُولُ: "مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي هَذَا شَيْءٌ"، كَمَا قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ زَكَاةِ الْحَمِيرِ؟ فَقَالَ: "لَمْ يَنْزِلْ عَلِيَّ "فِي ذَلِكَ" ** إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 5"6، وَكَذَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ. وَمِنَ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا خَاطَبَ عِبَادَهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْأَمْثَالَ، وأمره
بِالتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَجَلُّ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَأَعْظَمُ الْمُعْتَبِرِينَ "بِهَا"* وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} 1؛ وَلَوْ سُلِّمَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ اجْتِهَادِهِ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ بِالْوَحْيِ، لَمْ يَكُنْ نُطْقًا عَنِ الْهَوَى، بَلْ عَنِ الْوَحْيِ، وَإِذَا جَازَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ يَجْتَهِدَ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ كَوْنِهِ مُعَرَّضًا لِلْخَطَأِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ لِمَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ بِالْأَوْلَى. وَأَيْضًا قَدْ وَقَعَ "ذَلِكَ"** كَثِيرًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّا مِنْهُ فَمِثْلُ قَوْلِهِ: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ" 2 "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ" 3، وَقَوْلِهِ لِلْعَبَّاسِ: "إِلَّا الإذخر" 4 لم يَنْتَظِرِ الْوَحْيَ فِي هَذَا، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" 5 وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ فَمِثْلُ قُصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ6. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ؛ لَجَازَتْ مُخَالَفَتُهُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ. وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي قَالَهُ بِالِاجْتِهَادِ هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْ لَوَازِمِ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ جَوَازُ الْمُخَالَفَةِ؛ إِذْ لَا قَطْعَ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْإِصَابَةِ، وَمُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ، فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ اجْتِهَادِهِ يَكُونُ لَهُ حُكْمُ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لَازِمًا لِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، لِعَدَمِ اقْتِرَانِهِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ اجْتِهَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ. وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ لماتأخر فِي جَوَابِ سُؤَالِ سَائِلٍ، فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا تَأَخَّرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْيُ الَّذِي عَدَمُهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ الْجَوَابُ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِثْبَاتِ فِي الْجَوَابِ، وَالنَّظَرِ فيما ينبغي النظر
فِيهِ فِي الْحَادِثَةِ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْوَقْفُ عَنِ القطع بشيء من ذلك، زعم الصيرفي في "شرح الرسالة" أنه مذهب الإمام الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ حَكَى الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا مِنْهَا. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، والغزالي. ولا وجه للوقف في هذه الْمَسْأَلَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُقُوعِ، عَلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً ظَاهِرَةً قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ} 1 فَعَاتَبَهُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ لَمْ يُعَاتِبْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ قَوْلِهِ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقت الْهَدْيَ" 2 أَيْ: لَوْ عَلِمْتُ أَوَّلًا مَا عَلِمْتُ آخِرًا مَا فَعَلْتُ، ذَلِكَ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا عَمِلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، كَمُعَاتَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 3. وكما في معاتبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} 4 إلى آخر ما قصه الله من ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ. وَالِاسْتِيفَاءُ لِمِثْلِ هَذَا يفضي إلى بسط طويل، وفيما ذكرنا يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يأتِ الْمَانِعُونَ بِحُجَّةٍ تستحق المنع، أو التوقف لأجلها.
المسألة الخامسة: في جواز الاجتهاد في عصره صلى الله عليه وسلم
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ "الْأَكْثَرُ"* إِلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مِنْهُمُ الْقَاضِي. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ فصَّل بَيْنَ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ، فَأَجَازَهُ لِمَنْ غَابَ عَنْ حَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ1، دُونَ من كان في حضرته الشريفة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَنَقَلَهُ إِلْكِيَا عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَمَالَ إِلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الْأَقْوَى عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: بِشَرْطِ تَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنْ كَانَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْأَحْكَامِ، كَإِيجَابِ شَيْءٍ، أَوْ تَحْرِيمِهِ، فَلَا يَجُوزُ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي السَّنَابِلِ2 مِنَ الْإِفْتَاءِ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ، كَاجْتِهَادِهِمْ فِيمَا يَجْعَلُونَهُ عَلَمًا لِلدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ3؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِيجَابُ شَرِيعَةٍ تُلْزِمُ. وَكَاجْتِهَادِ قَوْمٍ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ هُمُ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجنة ووجوههم كالقمر
لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ، وبيَّن لَهُمُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُمْ1، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ، كَمَا وقع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنْ يحكم في بني قريطة2. وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ، إِلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ، وَيَعْلَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَرِّرَهُ عَلَيْهِ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَلْبِ الْقَتِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسدٍ مِنْ أُسدِ اللَّهِ فَيُعطيك سَلَبَهُ"3 فقرره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَحْوِ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّحِيفَةِ4"*. وَالْحَقُّ: مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيْنَ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِتَعَيُّنِ السُّؤَالِ
مِنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"* فِيمَا نَابَهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَبَيْنَ مَنْ كَانَ غَائِبًا عها، فَيَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ. وَقَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَمَا وَقَعَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ صَلَاتِهِ بِأَصْحَابِهِ، وَكَانَ جُنُبًا وَلَمْ يَغْتَسِلْ، بَلْ تَيَمَّمَ وَقَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} 1، فقرره النبي عَلَى ذَلِكَ2. وَكَمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالنِّدَاءِ يَوْمَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ بِأَنَّهُ "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" فَتَخَوَّفَ نَاسٌ مِنْ فَوْتِ الْوَقْتِ، فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ فَمَا عَنَّفَ أَحَدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ3. وَمِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ: تَقْرِيرُ مُعَاذٍ عَلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ4، لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، يَنْتَهِضُ مَجْمُوعُهَا لِلْحُجِّيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَجْمُوعٍ مُسْتَقِلٍّ5. وَمِنْهُ بَعْثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ قَاضِيًا، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بالقضاء، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ" 6 أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: أَنَّ ثَلَاثَةً وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ، فَأَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ فِي الْوَلَدِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَبَلَغَ "ذَلِكَ"** النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:
"لَا أَعْلَمُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ" 1، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا "كَثِيرٌ"*. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عليه في ذَلِكَ، وَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْوَاقِعَ مِنَ الصَّحَابِيِّ إِنْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حجة وشرعا بالتقرير، لَا بِاجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، عِنْدَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا عِنْدَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ، وَإِنْ بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"** وَأَنْكَرَهُ، أَوْ قَالَ بِخِلَافِهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فائدة؛ لأنه قد بطل بالشرع.
المسألة السادسة: فيما ينبغي للمجتهد أن يعمله في اجتهاده ويعتمد عليه
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَهُ في اجتهاده ويعتمد عليه فعيه أَوَّلًا: أَنْ يَنْظُرَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ فِيهِمَا قَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَخَذَ بِالظَّوَاهِرِ مِنْهُمَا، وَمَا يُسْتَفَادُ بِمَنْطُوقِهِمَا وَمَفْهُومِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَظَرَ في أفعال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ لِبَعْضِ أُمَّتِهِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، إِنْ كَانَ يَقُولُ بِحُجِّيَّتِهِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَسَالِكِ الْعِلَّةِ، كُلًّا أَوْ بَعْضًا1. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لِلْمُجْتَهِدِ، فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ عَرْضُهَا عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، ثُمَّ الْآحَادِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ، بَلْ يَلْتَفِتُ إِلَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ فِي الْمُخَصَّصَاتِ، مِنْ قِيَاسٍ، وَخَبَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُخَصَّصًا حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى ظَاهِرٍ، مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، نَظَرَ إِلَى الْمَذَاهِبِ فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِجْمَاعًا خَاضَ فِي الْقِيَاسِ، وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا، وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، فَتُقَدَّمُ قَاعِدَةُ الرَّدْعِ عَلَى مُرَاعَاةِ الِاسْمِ، فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ فِي الْمَنْصُوصِ، وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ، وَإِلَّا انْحَدَرَ به إلى الْقِيَاسُ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ، وَلَا يُعَوِّلُ على طرد. انتهى.
وَإِذَا أَعْوَزَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَنْ يُقَدِّمَ طَرِيقَ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى التَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى1. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الاجتهاد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا، فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ. ثانيها: مَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ شِبْهِ النَّصِّ، كَالْعَبْدِ، لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مملوك، فهذا صحيح، غير مدفوع عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ لَهُ جَعَلُوهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ. ثَالِثُهَا: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ، كَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 2 فَإِنَّهُ "يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ"* أَحَدُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ. رَابِعُهَا: مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ إِجْمَاعِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} 3 فيصح الاجتهاد في قدرة الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ. خَامِسُهَا: مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 4 فَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إِذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. سَادِسُهَا: مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ، كَقَوْلِهِ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} 5 فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ بِمُدَّيْنِ، بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْآدَمِيِّ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّين، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ بِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ، أَنَّ لكل مسكين مدا.
سابعا: مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ أَمَارَاتِ النَّصِّ، كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لِمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1 فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَيْهَا، مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ. ثَامِنُهَا: مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلٍ، فَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، فَقِيلَ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ. وَقِيلَ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ. انْتَهَى. وَعِنْدِي: أَنَّ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْ تَتَبُّعِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَجَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ دَأْبَهُ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ، وَاسْتَعَانَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَمَدَّ مِنْهُ التَّوْفِيقَ، وَكَانَ مُعْظَمُ هَمِّهِ، وَمَرْمَى قَصْدِهِ، الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِّ، وَالْعُثُورَ عَلَى الصَّوَابِ، مِنْ دُونِ تَعَصُّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَجَدَ فِيهِمَا مَا يَطْلُبُهُ، فَإِنَّهُمَا الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ، وَالْبَحْرُ الَّذِي لَا يَنْزِفُ، وَالنَّهْرُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ كُلُّ وَارِدٍ عَلَيْهِ الْعَذْبَ الزُّلَالَ، وَالْمُعْتَصَمُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ خَائِفٍ، فَاشْدُدْ يَدَيْكَ عَلَى هَذَا، فَإِنَّكَ إِنْ قَبِلْتَهُ بِصَدْرٍ مُنْشَرِحٍ، وَقَلْبٍ مُوَفَّقٍ، وَعَقْلٍ قَدْ حَلَّتْ بِهِ الْهِدَايَةُ، وَجَدْتَ فِيهِمَا كُلَّ مَا تَطْلُبُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُرِيدُ الْوُقُوفَ عَلَى دَلَائِلِهَا كَائِنًا مَا كَانَ. فَإِنِ اسْتَبْعَدْتَ هَذَا الْمَقَالَ، وَاسْتَعْظَمْتَ هَذَا الْكَلَامَ، وَقُلْتَ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ أَدِلَّةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تَفِي بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ، فَمِنْ نَفْسِكَ أُتيت، وَمِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِكَ أُصبت، وَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي2، وَإِنَّمَا تَنْشَرِحُ لِهَذَا الْكَلَامِ صُدُورُ قَوْمٍ "مُوَفَّقِينَ"* وَقُلُوبُ رِجَالٍ مُسْتَعِدِّينَ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ. لَا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكن حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ3 لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ ... وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا4 دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى ... فَإِذَا "عشقت"** فعند ذلك عنف5
المسألة السابعة: في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والتي الحق فيها مع واحد
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ وَالَّتِي الْحَقُّ فِيهَا مَعَ وَاحِدٍ الفرع الأول: العقليات ... الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فيه مصيب والتي الحق فيها مع واحد اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ، وَالْمَسَائِلُ الَّتِي الْحَقُّ فِيهَا مَعَ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. وَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ يَحْصُلُ فِي فَرْعَيْنِ. الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: الْعَقْلِيَّاتُ وَهِيَ عَلَى أنواع: الأول: لم يكن الْغَلَطُ فِيهِ مَانِعًا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، وَالتَّوْحِيدِ، وَالْعَدْلِ. قَالُوا: فَهَذِهِ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِثْلُ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ1، وَخَلْقِ الْقُرْآنِ2، وَخُرُوجِ الموحدين من النار3، وما
يُشَابِهُ ذَلِكَ، فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، فَمَنْ أَصَابَهُ فقد أصاب، ومن أخطأ فقيل: يفكر. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً، كَمَا فِي تَرَكُّبِ الْأَجْسَامِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ، قَالُوا: فَلَيْسَ الْمُخْطِئُ فِيهَا بِآثِمٍ، وَلَا الْمُصِيبُ فِيهَا بِمَأْجُورٍ؛ إِذْ هَذِهِ وَمَا يُشَابِهُهَا يَجْرِي مَجْرَى الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِ "مَكَّةَ"* أَكْبَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ" أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ، ثُمَّ حَكَى عَنِ الْعَنْبَرِيِّ1 أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ، وحُكي أَيْضًا عَنِ الْجَاحِظِ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ الْمُعَانِدِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَمَّا "الْجَاحِظُ"** فَجَعَلَ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ فِي جَمِيعِهَا غَيْرَ آثِمٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَكَانَ الْعَنْبَرِيُّ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نَافِي الْقَدَرِ: هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ، وَقَدِ اسْتُبْشِعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي اجْتِهَادِهِمْ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ، كَالرُّؤْيَةِ، وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسِ؛ فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ": اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْعَنْبَرِيِّ، فَقَالَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ: إِنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ "فِي الدِّينِ تَجْمَعُهُمُ الْمِلَّةُ"***، وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصوبون، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ صَوَّبَ الْكَافِرِينَ المجتهدين دون الراكبين البدعة.
قَالَ: وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا، يَعْنِي: الْعَنْبَرِيَّ، وَالْجَاحِظَ، فَنَقُولُ: أَنْتُمَا أَوَّلًا: مَحْجُوجَانِ "بِالْإِجْمَاعِ"* قَبْلَكُمَا وَبَعْدَكُمَا. ثَانِيًا: إِنْ أَرَدْتُمَا بِذَلِكَ مُطَابَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقَدِ، فَقَدْ خَرَجْتُمَا عَنْ حَيِّزِ الْعُقَلَاءِ، وَانْخَرَطْتُمَا فِي سِلْكِ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ أَرَدْتُمَا الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْجَاحِظِ، فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ مِنَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، الْخَارِجَةُ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ تَرُدُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْوِيبِ بِأَهْلِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ: مِمَّا خَاضَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ، وَأَجْمَعُوا قَبْلَ الْعَنْبَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إِدْرَاكُ بُطْلَانِهِ. وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، إِمَامِ مَذْهَبِ الظَّاهِرِ، أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِ الْعَنْبَرِيِّ. وَحَكَى قَوْمٌ عَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالْجَاحِظِ أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ في طلب الحق، ومن أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَحَا الْغَزَالِيُّ "قَرِيبًا مِنْ هَذَا"** الْمَنْحَى فِي كِتَابِ "التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ"1 وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا نقل عن العنبري، والجاحظ، إن أرادا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَنْ بَذَلَ الْوُسْعَ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأُصُولِيَّاتِ، يَكُونُ مَعْذُورًا غَيْرَ مُعَاقَبٍ، فَهَذَا أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْتَقَدُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ، وَكُلِّفَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِهِ غَايَةَ الْجَهْدِ، لَزِمَ تَكْلِيفُهُ بِمَا لَا يُطَاقُ. قَالَ: وَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ مِنَ الْإِصَابَةِ فِي الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَعَلَّهُ لَا يَقُولُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فِي الْأُصُولِ: "كَالْمُجَسِّمَةِ2"*** فَلَا شَكَّ فِي تَأْثِيمِهِ وَتَفْسِيقِهِ وَتَضْلِيلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِهِ، وَلِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، وَغَيْرُهُمَا: وَأَظْهَرُ مَذْهَبِهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ اختيار القاضي في كتاب "إكفار"**** المتأولين3
وَقَالَ ابْنُ عَبدِ السَّلَامِ: رَجَعَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا "بِالْمَوْصُوفَاتِ"*. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ1 لا يفكر، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تُكَفِّرُ مَنْ يُكَفِّرُكَ، فَعَادَ إلى القول بالتفكير، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ، وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْآخَرَ. وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تَرْكَ التَّكْفِيرِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُكَفَّرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وَجُودَهُ، وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّكْفِيرَ لِمُجْتَهَدِي الْإِسْلَامِ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعَقْلِ عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ لَا يُبَالِي بِدِينِهِ، وَلَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَعَلَى ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَغَالِبُ الْقَوْلِ بِهِ نَاشِئٌ عَنِ العصبية، وبعضه ناشئ عن شبه واهية، وليست مِنَ الْحُجَّةِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَحِلُّ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي أَيْسَرِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ، وَمَدْحَضَةُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَمَذْهَبَ خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ يَدْفَعُ ذَلِكَ دَفْعًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى شُبَهَةٍ دَاحِضَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَسْطِ الْكَلَامِ على هذا المرام، فموضعه علم الكلام.
الفرع الثاني: المسائل الشرعية
الفرع الثاني: المسائل الشرعية فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمُ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الباقلاني، ومن المعتزلة أبو الهذيل، وأبو علي، وأبو هاشم، وأبتاعهم إِلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا كان منها قطعيا مَا كَانَ مِنْهَا قَطْعِيًّا مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ، كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَا، وَالْخَمْرِ، فَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا بِمُصِيبٍ، بَلِ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، فَالْمُوَافِقُ لَهُ مُصِيبٌ، وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَكَفَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِمُخَالَفَتِهِ لِلضَّرُورِيِّ، وَإِنْ كَانَ.
فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَلَيْسَتْ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقِيلَ: إِنْ قَصَّرَ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَهُوَ مُخْطِئٌ غَيْرُ آثِمٍ. قَالَ ابن السعاني: ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحان مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ، لِيُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، وَمَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 1 وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 2. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَسَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا طَوِيلًا، وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَذَهَبَ جَمْعٌ جَمٌّ إِلَى أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا حَقٌّ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصِيبٌ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، عَنِ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيَّنٌ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ، فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ، فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا وَحَرَامًا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُخطِّئ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْتَرِضُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ كَانَ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقًّا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْطِئَةِ وَجْهٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَأَنَّ جَمِيعَهَمْ مُخْطِئٌ إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَ وَاحِدٍ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلَهُ. وأنكر ذلك أبو سحاق الْمَرْوَزِيِّ، وَقَالَ: إِنَّمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ المتأخرين، ممن لا معرفة له بِمَذْهَبِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرَيُّ: وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قال في بعض المسائل كقولنا، وفي بعضها كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَابْنِ "سُرَيْجٍ"*، وَأَبِي حَامِدٍ، بِمِثْلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ كَجٍّ عَلَى هَذَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ بَعْضِهِمْ بعضا، فيما اختلفوا فيه،
وَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ. قَالَ ابْنُ فورك: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدهما: أن الحق في وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ، فَمَنْ وَضَعَ النَّظَرَ مَوْضِعَهُ أَصَابَ، وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ وَفَقَدَ الصَّوَابَ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، لِعُذْرٍ فِي تَرْكِهِ، كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا قَدْ كُلِّفَ إِصَابَةَ الْعَيْنِ، لَكِنَّهُ خُفٍّفَ أَمْرُ خِطَابِهِ، وَأُجِرَ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَعَلَيْهِ نص في كتاب "الرسالة" و"أدب الْقَاضِي"1. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَتَكَلَّفُوا إِصَابَتَهُ، وَكُلُّهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كُلِّفُوا الرَّدَّ إِلَى الْأَشْبَهِ عَلَى طَرِيقِ الظَّنِّ. انْتَهَى. وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْمُخَالِفَ لَهُ مُخْطِئٌ آثِمٌ، وَيَخْتَلِفُ خَطَؤُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، فَقَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً، وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرَةً. وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْأَصَمُّ وَالْمَرِيسِيُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ، وحُكي عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَدْ طَوَّلَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَوْرَدُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَاسْتَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ"، وَلَمْ يَأْتُوا بما يشفي طالب الحق. وههنا دَلِيلٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَيُوَضِّحُ الْحَقَّ إِيضَاحًا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ رَيْبٌ لِمُرْتَابٍ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ في الصحيح، ومن طُرُقٍ: "أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ، فَلَهُ أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا" 2. فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُكَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ يُوَافِقُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مُصِيبٌ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَيْنِ، وَبَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ يُخَالِفُهُ، وَيُقَالُ لَهُ مُخْطِئٌ، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه.
مصيبًا، و"إطلاق"* اسْمِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَجْرٌ، فَمَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَجَعَلَ الْحَقَّ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا، وَخَالَفَ الصَّوَابَ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمُجْتَهِدِينَ قِسْمَيْنِ، قِسْمًا مُصِيبًا، وَقِسْمًا مخطئا، ولو كان كل واحد مِنْهُمْ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَعْنًى. وَهَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمُخَالِفَهُ آثم، فإن هذا الْحَدِيثَ يَرُدُّ عَلَيْهِ رَدًّا بَيِّنًا، وَيَدْفَعُهُ دَفْعًا ظاهرا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى مَنْ لَمْ يُوَافِقِ الْحَقَّ فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْأَجْرِ، فَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ أن الحق واحد، ومخالفه مخطئ مَأْجُورٌ، إِذَا كَانَ قَدْ وفَّى الِاجْتِهَادَ حَقَّهُ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْبَحْثِ، بَعْدَ إِحْرَازِهِ لِمَا يَكُونُ بِهِ مُجْتَهِدًا. وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذَا حَدِيثُ: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ" 1 فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ وَاحِدًا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ: "وَإِنْ طَلَبَ مِنْكَ أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا" 2. وَمَا أَشْنَعَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْجَاعِلُونَ لِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وجل متعددا بتعدد الْمُجْتَهِدِينَ، تَابِعًا لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الِاجْتِهَادَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ كَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ شَرِيعَتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، هِيَ أَيْضًا صَادِرَةٌ عَنْ مَحْضِ الرَّأْيِ، الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ لَهُ دَلِيلٌ، وَلَا عَضَّدَتْهُ شُبْهَةٌ تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ، وَهِيَ أَيْضًا مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، سلفها خلفها، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، مَا زَالُوا يُخَطِّئُونَ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ مَا هُوَ أَنْهَضُ مِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ، فَهُوَ لَا يَدْرِي بِمَا فِي بُطُونِ الدَّفَاتِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَسْرِهَا مِنَ التَّصْرِيحِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ بتخطئه بعضهم البعض واعتراض بعضهم على بعض.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمِثْلِ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ1 فَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا قَالَهُ سُلَيْمَانُ، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} 2 وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لما كان لتخصيص سليمان بذلك المعنى. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 3 فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، مِنَ الْقَطْعِ وَالتَّرْكِ هُوَ بِإِذْنِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ بِخُصُوصِهَا، هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ إِلَّا فِيمَا لَمْ يَرِدِ النَّصُّ فِيهِ "بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ"* بِخُصُوصِهَا، هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أُمُورٍ، يَخْتَارُ الْمُكَلَّفُ مَا شَاءَ مِنْهَا، كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ يَجِبُ على الكل، حتى يفعله البعض، فيسقط عن الْبَاقِينَ، كَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا وَافْهَمْهُ حَقَّ فَهْمِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَصْوِيبِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ صَلَّى قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، لِمَنْ خَشِيَ فَوْتَ الْوَقْتِ، وَمِمَّنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" 4 فَالْجَوَابُ عَنْهُ كَالْجَوَابِ عَمَّا قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّثْرِيبِ لِمَنْ قَدْ عَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ الْحَقَّ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَجْزَأَهُ مَا عَمِلَهُ بِاجْتِهَادِهِ، وَصَحَّ صُدُورُهُ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ قَدْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي تَحَرِّي الْحَقِّ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِصَابَةِ وَالصَّوَابِ، فَإِنَّ إِصَابَةَ الْحَقِّ "هِيَ"** الْمُوَافَقَةُ، بِخِلَافِ الصَّوَابِ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ وَلَمْ يُصِبْهُ، مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَدْ فَعَلَ مَا كُلِّفَ بِهِ، وَاسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا لِلْحَقِّ وَمُوَافِقًا لَهُ. وَإِذَا عرفت هذا الحق مَعْرِفَتِهِ، لَمْ تَحْتَجْ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَقَدْ حَرَّرَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَذَاهِبِ تَحْرِيرًا جَيِّدًا فَقَالَ: الْوَاقِعَةُ الَّتِي وَقَعَتْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا نَصٌّ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ "يَجْتَهِدَ"*** الْمُجْتَهِدُ أَوْ لَا، الثَّانِي عَلَى قِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إما أن يقصر في
طَلَبِهِ أَوْ لَا يُقصر، فَإِنْ وَجَدَهُ وَحَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِوَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ، وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعِلْمِ، وَلَكِنْ قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ، بَلْ بَالَغَ في الاستشكاف وَالْبَحْثِ، وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ "مَا إِذَا لَمْ"* يَجِدْهُ، مَعَ الطَّلَبِ الشَّدِيدِ وَسَيَأْتِي1. وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، فإن كان "للتقصير"** فِي الطَّلَبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي التَّنْقِيبِ عَنْهُ، وَأَفْرَغَ الْوُسْعَ فِي طَلَبِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْهُ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الرَّاوِي الَّذِي عِنْدَهُ النَّصُّ، أو عرفه و"لكن"*** مَاتَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ قَطْعًا، وَهَلْ هُوَ مُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ، عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَالْأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، وَأَمَّا "الَّتِي لَا نَصَّ"**** فِيهَا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ فِيهَا قَبْلَ اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا، بَلْ "حُكْمُهُ"***** تَابِعٌ لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَهَذَا الثَّانِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْقَاضِي، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، كَأَبِي الْهُذَيْلِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وأبي هاشم، وأتباعهم، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا خِلَافُهُ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، فَهَلْ وُجِدَ فِيهَا مَا لَوْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بِحُكْمٍ، لَمَا حُكِمَ إِلَّا بِهِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُصَوِّبِينَ، وَإِلَيْهِ صَارَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وابن سريج، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، قَالَ: وَأَمَّا الثَّانِي: فقول الخلص من المصوبة. انتهى.
المسألة الثامنة: أنه لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة واحدة قولان متناقضان في وقت واحد
المسألة الثامنة: أنه لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة واحدة قولان متناقضان في وقت واحد ... المسألة الثامنة: لا يجوز أن يكون للمجتهد فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لا يجوز أن يكون للمجتهد فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمَا إِنْ تَعَادَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَلَا التَّرْجِيحُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَقْفُ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى الصُّورَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، تعين عليه الأخذ به، وبهذا تعلم امْتِنَاعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ شَخْصٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا فِي وَقْتَيْنِ فَجَائِزٌ، لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَظُهُورِ مَا هُوَ أَوْلَى، بِأَنْ يَأْخُذَ بِهِ "وَيَدَعَ"* مَا كَانَ قَدْ أَخَذَ بِهِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ، عِنْدَ تَعَادُلِ الْأَمَارَتَيْنِ، فَمَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ جَوَّزَ ذَلِكَ لَهُ. وَمَنْ قَالَ بالوقف لم يجوز. فإن كان لمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوع عن القول الأول بدلالته على تغيير اجتهاده الأول. وإذا أَفْتَى الْمُجْتَهِدُ مَرَّةً بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، ثُمَّ سُئِلَ ثَانِيًا عَنْ تِلْكَ الْحَادِثَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا يَكُونُ ذَاكِرًا، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا جَازَ لَهُ الْفَتْوَى بِهِ، وَإِنْ نَسِيَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الِاجْتِهَادَ، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلَافِ فَتْوَاهُ فِي الْأَوَّلِ أَفْتَى بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا، وَإِنْ "أَدَّاهُ"** إِلَى مُوَافَقَةِ مَا قد أفتى به أو لا "أَفْتَى بِهِ"*** وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفِ الِاجْتِهَادَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفَتْوَى. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ كَانَ طَرِيقًا قَوِيًّا، حَصَلَ لَهُ الْآنَ ظَنٌّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوِيَّ حَقٌّ، جَازَ لَهُ الْفَتْوَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ، وَأَمَّا إِذَا حَكَمَ الْمُجْتَهِدُ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، وَتَرَجَّحَ لَهُ مَا يُخَالِفُ الِاجْتِهَادَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَهَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ باجتهاده مَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ آخَرُ بِاجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَيَتَسَلْسَلُ، وَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ نَصْبِ الْحُكَّامِ، وَهِيَ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ، مَا لَمْ يَكُنْ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ نَقَضَهُ اتِّفَاقًا، وَإِذَا حَكَمَ الْمُجْتَهِدُ بِمَا يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ، فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَا يُخَالِفُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا آخَرَ، فِيمَا يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَجْتَهِدَ، فَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ آخَرَ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، لَا فِيمَا لَا يَخُصُّهُ، فَلَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا مِنْ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ. وَلِأَهْلِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ كلام طويل، وليست محتاجة إلى التطوير، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إِلَّا محض الرأي.
المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد
المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد ... المسألة التاسعة: في جوز تَفْوِيضِ الْمُجْتَهِدِ قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تعالى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِلْعَالِمِ: احْكُمْ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إلا بالصواب؟ فقطع بوقوعه مويس بْنُ عِمْرَانَ1 مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَطَعَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِامْتِنَاعِهِ. وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي امْتِنَاعِهِ وَجَوَازِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. انْتَهَى. وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّفْوِيضِ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْمُجْتَهِدِ، أَنْ يَحْكُمَ بِمَا رَآهُ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَفْوِيضِ الْحُكْمِ بِمَا شَاءَ الْمُفَوَّضُ، وَكَيْفَ اتَّفَقَ لَهُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ امْتِنَاعِهِ لِغَيْرِهِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ سَاقِطٌ جِدًّا، وَتَفْوِيضُ مَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ، بِأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، مَعَ كَوْنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَخْتَلِفُ مَسَالِكُهَا، وَتَتَبَايَنُ طَرَائِقُهَا، وَلَا عِلْمَ لِلْعَبْدِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا، وَلَا بِمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لمسلم أن يقول بجوازه، ولا يردد فِي بُطْلَانِهِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْجَامِعَ لِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ، الْمُتَمَكِّنَ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، إِذَا بَحَثَ وَفَحَصَ، وَأَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ، فَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَجَّحَهُ، وَقَالَهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ مَا أَرَادَ، وَيَفْعَلَ مَا اخْتَارَ، مِنْ دُونِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ الْقَطْعِ: بِأَنَّ هَذَا الْعَالِمَ الَّذِي زَعَمَ الزَّاعِمُ جَوَازَ تَفْوِيضِهِ مُكَلَّفٌ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، مَأْخُوذٌ بِمَا أُخِذُوا بِهِ، مَطْلُوبٌ مِنْهُ مَا طُلِبَ مِنْهُمْ، فَمَا الَّذِي رَفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ غَيْرُهُ، وَمَا الَّذِي أَخْرَجَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْخِطَابِ، بِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَهَلْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ إِلَّا مُجَرَّدُ جَهْلٍ بَحْتٍ، وَمُجَازَفَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِتَفْوِيضِ الْعَبْدِ، مَعَ جَهْلِهِ بِمَا فِي أَحْكَامِ اللَّهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ "هَكَذَا"* قَدْ يَقَعُ اخْتِيَارُهُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَعَلَى مَا لَا مَصْلَحَةَ فيه.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} 1 فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْوِيضٌ لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ، وَإِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ نَادِرًا فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ، وَجَمِيعُ إِصْدَارِهِمْ وَإِيرَادِهِمْ هُوَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ يُقَرِّرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَرْضَاهُ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنِ اجْتِهَادَاتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقع الْجَوَابَاتِ مِنْهُ عَلَى "مَنْ"* سَأَلَهُ مِنْ دُونِ انْتِظَارِ الْوَحْيِ، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ" 2 وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ لَمَّا سَمِعَ أَبْيَاتِ قُتَيْلَةَ بِنْتِ الحارث"3: "لَوْ بَلَغَنِي هَذَا لَمَنَنْتُ عَلَيْهِ" أَيْ: عَلَى أخيها النضر بن الحارث4 أَحَدِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَالْقِصَّةُ وَالشِّعْرُ مَعْرُوفَانِ. وَأَمَّا اعْتِذَارُ مَنِ اعْتَذَرَ عَنِ الْقَائِلِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ بِالْجَوَازِ، وَلَمْ يَقُلْ بِالْوُقُوعِ، فَلَيْسَ هَذَا الِاعْتِذَارُ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ تَجْوِيزَ مِثْلِ هَذَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِمَّا لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ بِهِ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّفْوِيضِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَإِلَى الْمُجْتَهِدِينَ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، فَلَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ إِلَّا التَّفْوِيضَ "لِمَنْ"** كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنْ يَحْكُمَ بِمَا شَاءَ، وَكَيْفَ اتَّفَقَ، وَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ غَالِبَ مَا جَاءُوا بِهِ "فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ، وَلَا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، بَلْ جَمِيعُ مَا جَاءُوا بِهِ"*** جَهْلٌ عَلَى جهل، وظلمات بعضها فوق بعض.
الفصل الثاني: في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتي والمستفتي
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّقْلِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من أحكام المفتي والمستفتي المسألة الأولى: في حد التقليد، والمفتي، والمستفي ... الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّقْلِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من أحكام المفتي وَالْمُسْتَفْتِي وَفِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّ التَّقْلِيدِ، وَالْمُفْتِي، وَالْمُسْتَفْتِي أَمَّا التَّقْلِيدُ: فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِلَادَةِ، الَّتِي يُقَلِّدُ غَيْرَهُ بِهَا، وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ، فَكَأَنَّ الْمُقَلِّدَ جَعَلَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، الَّذِي قَلَّدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدَ كَالْقِلَادَةِ فِي عُنُقِ مَنْ قَلَّدَهُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ1. فَيَخْرُجُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَمَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَرُجُوعُ الْعَامِّيِّ إِلَى الْمُفْتِي، وَرُجُوعُ الْقَاضِي إِلَى شَهَادَةِ الْعُدُولِ، فَإِنَّهَا قَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْعَمَلُ بِقَوْلِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَقْصِدِ السُّنَّةِ، وَفِي مَقْصِدِ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا رُجُوعُ الْقَاضِي إِلَى قَوْلِ الشُّهُودِ: فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنَ الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا رُجُوعُ الْعَامِّيِّ إِلَى قَوْلِ الْمُفْتِي، فَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ قَبُولُ رِوَايَةِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهَا، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَيْضًا: لَيْسَتْ قَوْلَ الرَّاوِي، بَلْ قَوْلَ مَنْ رَوَى عَنْهُ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "التَّحْرِيرِ": التَّقْلِيدُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ إِحْدَى الْحُجَجِ بِلَا حُجَّةٍ. وَهَذَا الْحَدُّ أَحْسَنُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: هُوَ قَبُولُ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ تَظْهَرُ عَلَى قَوْلِهِ. وَقِيلَ: هُوَ قَبُولُ قول الْغَيْرِ دُونَ حُجَّتِهِ، أَيْ: حُجَّةِ الْقَوْلِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ قَبُولُ رَأْيِ مَنْ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِلَا حُجَّةٍ. وَفَوَائِدُ هَذِهِ القيود معروفة بما تقدم.
وَأَمَّا الْمُفْتِي فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، ومثله قول من قال: إن المفتي الفقيه؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِي مُصْطَلَحِ أَهْلِ الأصول. والمستفتي من ليس بمجتهد، ومن لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْ حَدِّ الْمُقَلِّدِ، عَلَى جَمِيعِ الْحُدُودِ، الْمَذْكُورَةِ، أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَمَلَ بِهِ لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شيء؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلَهُ نَفْسُ الْحُجَّةِ1. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "التَّعْلِيقِ": لَا خِلَافَ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، يُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَأَمَّا قبول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ "يُبْنَيَانِ"* عَلَى الْخِلَافِ فِي حَقِيقَةِ التَّقْلِيدِ مَا هُوَ؟ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ، مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّقْلِيدِ ههنا غَيْرُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحُ، وَلِهَذَا قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَعْلِ القبول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْلِيدًا، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقَبُولَ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ عَنْ وَجْهِهِ، وَفِي وُقُوعِ اسْمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمَ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ"2: وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ، وبه صرح إمام الحرمين في "التخليص" حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ يَهُونُ موقعها عن ذَوِي التَّحْقِيقِ. انْتَهَى. وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ التَّقْلِيدَ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ "عَلَيْهِ"** لَا يَشْمَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ المطلوب. قال ابن دقيق الْعِيدِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجْتَهِدُونَ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ أَقْوَالِهِمُ الْوَحْيُ، فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ يَجْتَهِدُونَ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْوَحْيُ، أَوِ الِاجْتِهَادُ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَقَدْ عَلِمْنَا السَّبَبَ، وَاجْتِهَادُهُمُ اجْتِهَادٌ مَعْلُومُ الْعِصْمَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الآخذ بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّاجِعَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ، بَلْ هُوَ صائر إلى دليل وعلم يقين. انتهى.
المسألة الثانية: حكم التقليد في أصول الدين
المسألة الثانية: حكم التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ العقلية، وهي المتعلقة بوجود الباري وَصِفَاتِهِ، هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا أَمْ لَا؟ فَحَكَى الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَمْ يَحْكِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ في "المختصر" إلا عن العنبري. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "شَرْحِ التَّرْتِيبِ"1 عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الطَّوَائِفِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي التَّوْحِيدِ. وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الشَّامِلِ"2: لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ إِلَّا الْحَنَابِلَةُ. وَقَالَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يُخَالِفُ فِيهِ إِلَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا الْأَخْذُ بِقَوْلِ مَنْ يُقَلِّدُهُ، وَلَا يَدْرِي أَهْوَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَلَوِ اعْتَقَدَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالدَّلِيلِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، وَإِنْ فُسِّقَ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ، وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَخْرُجَ فيها عن جملة المقلدين. انتهى. فيا لله الْعَجَبَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي تَقْشَعِرُّ لَهَا الْجُلُودُ، وَتَرْجُفُ عِنْدَ سَمَاعِهَا الْأَفْئِدَةُ، فَإِنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى جُمْهُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَتَكْلِيفٌ لَهُمْ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ وَلَا يُطِيقُونَهُ، وَقَدْ كَفَى الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا قَارَبُوهَا الْإِيمَانُ الْجُمَلِيُّ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَلَا أَخْرَجَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِتَقْصِيرِهِمْ عَنِ الْبُلُوغِ إِلَى العلم بذلك أدلته.
وَمَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ فُسِّقَ، فَلَا يَصِحُّ التَّفْسِيقُ عَنْهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلْ مَذْهَبُ سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِيمَانِ الْجُمَلِيِّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ خَيْرُ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، بَلْ حَرَّمَ كَثِيرٌ منهم النظر إلى ذلك، وجعله في الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَلَمْ يَخْفَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِهِمْ، حَتَّى عَلَى أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ1: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ كَتَبَةِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الدَّلِيلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ غير واجب، وإنما الغرض هو الرجوع إلى قَوْلُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَرَوْنَ الشُّرُوعَ فِي مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ كُفْرًا، وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَالنَّظَرَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ إِلَى حُصُولِ الْعِلْمِ، حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُؤْمِنًا، وَزَالَ عَنْهُ كُلْفَةُ طَلَبِ الْأَدِلَّةِ، وَمَنْ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّافِي، مِنَ الشُّبْهَةِ وَالشُّكُوكِ، فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَكْمَلِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ وَأَجَلِّهَا، حِينَ لَمْ يَكِله إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَا سِيَّمَا الْعَوَامُّ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَجِدُهُ فِي صِيَانَةِ اعْتِقَادِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ يُشَاهِدُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ. انْتَهَى. وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْعَوَامِّ "وَجَدَ هَذَا"* صَحِيحًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ نَجِدُ الْإِيمَانَ فِي صَدْرِهِ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِيِّ، وَنَجِدُ بَعْضَ الْمُتَعَلِّقِينَ بِعِلْمِ الْكَلَامِ، الْمُشْتَغِلِينَ بِهِ، الْخَائِضِينَ فِي مَعْقُولَاتِهِ الَّتِي يَتَخَبَّطُ فِيهَا أَهْلُهَا لَا يَزَالُ يَنْقُصُ إِيمَانُهُ، وَتَنْتَقِضُ مِنْهُ عُرْوَةٌ عُرْوَةٌ، فَإِنْ أَدْرَكَتْهُ الْأَلْطَافُ الرَّبَّانِيَّةُ نَجَا، وَإِلَّا هَلَكَ، وَلِهَذَا تَمَنَّى كَثِيرٌ مِنَ الْخَائِضِينَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، الْمُتَبَحِّرِينَ فِي أَنْوَاعِهَا، فِي آخِرِ أَمْرِهِ، أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِ الْعَجَائِزِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِطْلَاعٌ عَلَى أَخْبَارِ النَّاسِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْقُشَيْرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، مِنَ الْمُحَقِّقِينَ صِحَّةَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ أبي الحسن الْأَشْعَرِيِّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِيجَابُ مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَعِيدٌ جِدًّا عَنِ الصَّوَابِ، وَمَتَى أَوْجَبْنَا ذَلِكَ فَمَتَى يُوجَدُ مِنَ الْعَوَامِّ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَتَصْدُرُ عَقِيدَتُهُ عَنْهُ، كَيْفَ وَهُمْ لَوْ عَرَضْتَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ "الْأَدِلَّةَ** لَمْ يَفْهَمُوهَا، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَلَقَّنَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ، وَيَلْقَى بِهِ رَبَّهُ، مِنَ الْعُلَمَاءِ يَتْبَعُهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهَا بِقَلْبٍ طَاهِرٍ عَنِ الْأَهْوَاءِ، وَالْأَدْغَالِ2، ثُمَّ
يعض عليها بالنواجز، فلا يحول ولا يزول، ولو قطع أربا، فهنيئًا لهم بالسلامة، والبعد عن الشبهات الداخلية عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْوَرَطَاتِ الَّتِي تَوَغَّلُوهَا، حَتَّى أَدَّتْ بِهِمْ إِلَى الْمَهَاوِي وَالْمَهَالِكِ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّبُهَاتُ الْعَظِيمَةُ، فَصَارُوا مُتَحَيِّرِينَ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُتَوَرِّعٌ عَفِيفٌ، إِلَّا الْقَلِيلُ، فَإِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ وَرَعِ الْأَلْسِنَةِ، وَأَرْسَلُوهَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ بِجُرْأَةٍ وَعَدَمِ مَهَابَةٍ وَحُرْمَةٍ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَا مِنْ دَلِيلٍ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ إِلَّا وَلِخُصُومِهِمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهِ الْقَوِيَّةِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَدْرِ مَا يَنَالُ الْمُسَلَّمُ بِهِ بِرَدِّ الْخَاطِرِ، وَإِنَّمَا "الْمُنْكَرُ"* إِيجَابَ التَّوَصُّلِ إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اقتعدوه وَسَامُوا بِهِ الْخَلْقَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ أَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَكْفِيرِ الْعَوَامِّ أَجْمَعَ، وَهَذَا هُوَ الْخُطَّةُ الشَّنْعَاءُ، وَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَإِذَا كَانَ السواد الأعظم هم العوام، وبهم قوم الدِّينِ، وَعَلَيْهِمْ مَدَارُ رَحَى الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، الَّتِي تَجْمَعُ الْمِائَةَ الْأَلْفَ مَنْ يَقُومُ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا، إِلَّا العدد الشاذ النَّادِرُ، وَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ عَدَدَ الْعَشْرَةِ. انْتَهَى.
المسألة الثالثة: حكم التقليد في المسائل الشرعية الفرعية
المسألة الثالثة: حكم التقليد في المسائل الشرعية الْفَرْعِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، هَلْ يجوز التقليد فيها أم لا1؟ المذهب الأول: ذهب جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا2. قَالَ الْقَرَافِيُّ: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ، وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ. قَالَ: وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ، وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: وَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سَوْطًا، عَلَى أَنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَى السياط. قال ابن حزم: فههنا مَالِكٌ يَنْهَى عَنِ التَّقْلِيدِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ "مُخْتَصَرِهِ"3 أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَنْهَى عَنْ تقليده، وتقليد غيره. انتهى.
وَقَدْ ذَكَرْتُ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُصَرِّحَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي سَمَّيْتُهَا "الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ" فَلَا نُطَوِّلُ الْمُقَامَ بِذِكْرِ ذَلِكَ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، فَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْمُجْتَهِدِ بِرَأْيِهِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَهَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ يَجْتَثَّانِ التَّقْلِيدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، حَيْثُ لَمْ يَحْكُوا هَذَا القول إلا عن بعض المعتزلة. والمذهب الثاني: وَقَابَلَ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بَعْضُ الْحَشْوِيَّةِ وَقَالَ: يَجِبُ مُطْلَقًا1، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَقْنَعُوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ، حَتَّى أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ التَّقْلِيدَ جَهْلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَلِّدُونَ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ، وَلَا سِيَّمَا وَأَئِمَّتُهُمُ الْأَرْبَعَةُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا فَحَمَلُوا كَلَامَ أَئِمَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمُجْتَهِدِينَ من الناس، لا المقلدين، فيا لله الْعَجَبُ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إلى الأكثر، وجعل الحجة لهم بالإجماع عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، فَتِلْكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِيهِمْ أَلْبَتَّةَ، وَلَا عَرَفُوا التَّقْلِيدَ، وَلَا سَمِعُوا بِهِ، بَلْ كَانَ الْمُقَصِّرُ مِنْهُمْ يَسْأَلُ الْعَالِمَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ، فَيُفْتِيهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدْ عَرَفْتَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ، لَا بِالرِّوَايَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُوجِبُونَ لِلتَّقْلِيدِ، وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ مِنْ قوله سبحانه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} 2 إلا السائل عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَا عَنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي عُمُومِ السُّؤَالِ، كَمَا زَعَمُوا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ كَوْنِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ رِجَالًا، كَمَا يُفِيدُهُ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا، حَيْثُ قَالَ:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} 1؛ وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي عَصْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَوُجُودُ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مُنْذُ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم لكل مَنْ يَعْرِفُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا أَنَّ الْمَنْعَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، إذا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَاصَّةً، فَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي مَقْصِدِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَقْوَالِ الْمُقَلِّدِينَ فِي شَيْءٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِمْ إِجْمَاعٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ، فَضْلًا عَمَّنْ أَوْجَبَهُ، بِحُجَّةٍ يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهَا قَطُّ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِرَدِّ شَرَائِعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى آرَاءِ الرِّجَالِ، بَلْ أُمِرْنَا بِمَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2 أَيْ: كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ مَنْ يُرْسِلُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْحُكْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ الله، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ3. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ اسْتِبْعَادِ أَنْ يَفْهَمَ الْمُقَصِّرُونَ نُصُوصَ الشَّرْعِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلتَّقْلِيدِ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كما ذكروه، فههنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد، وهي سُؤَالُ الْجَاهِلِ لِلْعَالِمِ عَنِ الشَّرْعِ فِيمَا يَعْرِضُ له، لا عن رأيه البحث وَاجْتِهَادِهِ الْمَحْضِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ عَمَلُ الْمُقَصِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُقَلِّدِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي كَثِيرٍ من الآيات: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} 4 {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5، {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 6، وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى التَّمَامِ، فَلْيَرْجِعْ إِلَى الرِّسَالَةِ الَّتِي قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا وَإِلَى الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ "أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ". وَمَا أَحْسَنَ مَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ هَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ، لَا التَّقْلِيدُ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ، وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ، وَالْأَمْوَالَ؟، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ؛ لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ لَهُ: تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِكَ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ؛ لأنه لا يقول
إلا بحجة خفيت عن معلمك، كما لم يقل معلمك إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْكَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ، "و"* كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ، وَأَقَلُّ عِلْمًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ، وَأَغْزَرُ عِلْمًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ1. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ"2. انْتَهَى. قلت: تتميمًا لهذا الكلام: وعندما يُنْتَهَى إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الصَّحَابِيُّ أَخَذَ عِلْمَهُ مِنْ أَعْلَمِ الْبَشَرِ، الْمُرْسَلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ، الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ عُلُومِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ، وَلَا فِعْلَهُ، وَلَا اجْتِهَادَهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. وَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ، يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا نَهَى كِبَارُ الْأَئِمَّةِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ "مِنْ تَحْقِيقِ"** حَالِ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بِالرَّأْيِ، لَا بِالرِّوَايَةِ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُطَالِبٍ بِحُجَّةٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَيَسُوغُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فِيمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْمُجْتَهِدَ صَاحِبَ شَرْعٍ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَعْدَ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَمَكَّنُ كَامِلٌ وَلَا مُقَصِّرٌ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى هَذَا بِحُجَّةٍ قَطُّ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الدَّعَاوَى، وَالْمُجَازَفَاتِ فِي شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَلَوْ جَازَتِ الْأُمُورُ الشَّرْعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، لادَّعى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَقَالَ مَنْ شاء بما شاء.
المسألة الرابعة: حكم إفتاء المقلد
المسألة الرابعة: حكم إفتاء المقلد اختلفو هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ إِمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ، أَوْ بِمَذْهَبِ إِمَامٍ آخَرَ؟ فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَوْضُوعُ هَذَا الِاسْمِ، يَعْنِي: الْمُفْتِيَ، لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ و"علم"* حَمْلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَكَذَلِكَ السُّنَنُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا، فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اسْتُفْتِيَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْمُفْتِي مَنِ اسْتُكْمِلَ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ: الِاجْتِهَادُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْكَفُّ عَنِ التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ، قَالَ: وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ فِي الِاجْتِهَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُفْتِيَ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى بِمَا يَحْكِيهِ عَنِ الْمُفْتِينَ، فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَحْكِيَ عَنْ مَيِّتٍ أَوْ حَيٍّ، فَإِنْ حَكَى عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِلْمَيِّتِ، "بِدَلِيلِ أَنَّ"** الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِهِ حَيًّا، وَيَنْعَقِدُ عَلَى مَوْتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ قَوْلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ صُنِّفَتْ كُتُبُ الفقه مع فناء أرباها؟ قُلْتُ: لِفَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: اسْتِفَادَةُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ، وَكَيْفَ بُني بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَالثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَلَا يُفتى بِغَيْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَفِي كَلَامِهِ هَذَا التَّصْرِيحُ بِالْمَنْعِ مِنْ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ، وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ فِي "الْمَنْخُولِ" إِجْمَاعَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ1.
قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إِنَّهُ الْقِيَاسُ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، كَمَنْ تَجَدَّدَ فِسْقُهُ بَعْدَ عَدَالَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حُكْمُ عَدَالَتِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَصْفٌ لَهُ، وَبَقَاءُ الْوَصْفِ بَعْدَ زَوَالِ الْأَصْلِ مُحَالٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْدِيدِهِ لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاؤُهُ، عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَتَقْلِيدُهُ بِنَاءً عَلَى وَهْمٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِجِوَازِ فَتْوَى الْمُقَلِّدِ، حِكَايَةً عَنْ مُجْتَهِدٍ، لَيْسَ عَلَى إطلاقه. وذهب جماعة إلى أنه يجز لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُفْتِي أَهْلًا لِلنَّظَرِ، مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي أَفْتَى بِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْقَفَّالِ، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى الْأَكْثَرِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، وَبَعْضُهُمْ نَسَبَهُ إِلَى الرَّازِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ الْمَنْعُ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَنِهِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَالْمُجْمِعُونَ لَيْسُوا بِمُجْتَهِدِينَ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِجْمَاعُهُمْ بِحَالٍ1. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ، يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ أَوِ اسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوِيَتِهِمْ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، إِذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ، ثم حكى لمقلد قَوْلَهُ، فَإِنَّهُ يُكتفى بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفُتْيَا، هَذَا مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يَرْجِعْنَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ إِلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ أزواجهن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرْسَلَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فِي قِصَّةِ الْمَذْيِ2، وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ، فَإِنَّ مَرَاجَعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ ذَاكَ مُمْكِنَةٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ مُتَعَذِّرَةٌ، وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ، مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ الْيَوْمَ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَفِي كَلَامِ هَذَا الْمُحَقِّقِ ما لا يخف عَلَى الْفَطِنِ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ إِلَخْ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ مَنْ حَدَثَتْ لَهُ الْحَادِثَةُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ من يعرف ما شرعه الله في
الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، كَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ يَعْرِفُ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ عَنْ رَأْيِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ فِي حَادِثَتِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عَلَى الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ إِلَخْ، فَمِنْ أَغْرَبِ مَا يَسْمَعُهُ السَّامِعُ، لَا سِيَّمَا عَنْ مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ، وَأَيُّ ظَنٍّ لِهَذَا الْعَامِّيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِظُنُونِ الْعَامَّةِ، الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الشَّرِيعَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظَنَّ غَالِبِهِمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} 1. وَأَمَّا قَوْلُهُ مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ إِلَخْ، فَنَقُولُ: نَعَمْ ذَلِكَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، فَكَانَ مَاذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِفْتَاءٍ عَنْ رَأْيِ مَنْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، بَلِ اسْتِفْتَاءٌ عَنِ الشرع في ذلك الحكم، فإن كان المسول يَعْلَمُهُ رَوَاهُ لِلسَّائِلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَالَ "السَّائِلَ"* عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى مَنْ يَعْلَمُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وهكذا فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَطْلُبُ مِنَ الْعَامِّيِّ وَالْمُقَصِّرِ إِذَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ وَحَدَثَتْ لَهُ حَادِثَةٌ إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ هَكَذَا، فَيَسْأَلُ عُلَمَاءَ عَصْرِهِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَتَابِعُوهُمْ يَسْأَلُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ فِيهِمْ، وَمَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ، ولا عما يقولونه بِمَحْضِ الرَّأْيِ. فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ مُرَادُ هَذَا الْمُحَقِّقِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَسْتَفْتُونَ الْمُقَلِّدَ عَمَّا صَحَّ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ بِالدَّلِيلِ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ مُرَادُهُ هَذَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِإِدْخَالِ "الْمُجْتَهِدِ"** فِي الْبَيِّنِ، وَمَا ثَمَرَةُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ وَيَكُونُ الْمَسْئُولُ "مِمَّنْ"*** لَا يَجْهَلُهُ، فَيُفْتِيهِ حِينَئِذٍ بِفَتْوَى قُرْآنِيَّةٍ، أَوْ نبوية، ويدع السؤال عن مذاهب النسا، وَيَسْتَغْنِي بِمَذْهَبِ إِمَامِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا إِرْسَالُ عَلِيٍّ لِلْمِقْدَادِ فَهُوَ إِنَّمَا أَرْسَلَهُ لِيَرْوِيَ لَهُ مَا يَقُولُهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الْمَعْصُومُ عَنِ الْخَطَأِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ، مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ، فَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذَا الْإِطْبَاقَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَغَيْرُ الْمُجْتَهِدِ لَا يَدْرِي بِحُكْمِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَإِذَا لَمْ "يَدْرِ بِهِ"**** فَهُوَ حاكم.
بِالْجَهْلِ، "وَالْحُكْمُ بِالْجَهْلِ"* لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى أَحَدٍ. وذهبت طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ إِذَا عُدِمَ الْمُجْتَهِدُ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إنه يجوز للمقلد الْحَيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا شَافَهَهُ بِهِ أَوْ يَنْقُلَهُ إِلَيْهِ مَوْثُوقٌ بِقَوْلِهِ، أَوْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمَيِّتِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عَلِمَ الْعَامِّيُّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلَهَا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا وَاسْتِنْبَاطًا لَمْ يَجُزْ قَالَا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ دَلَالَةٌ تُعَارِضُهَا أَقْوَى مِنْهَا. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ": مَنْ حَفِظَ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ، وَأَقْوَالَ النَّاسِ بِأَسْرِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَقِيسَ، وَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى، وَلَوْ أفتى فإنه لا يجوز.
المسألة الخامسة: حكم سؤال العالم بالكتاب والسنة
المسألة الخامسة: حكم سُؤَالِ الْعَالِمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ يَسْأَلُ الْعَالِمَ، وَالْمُقَصِّرَ يَسْأَلُ الْكَامِلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالدِّينِ، وَكَمَالِ الْوَرَعِ، عَنِ الْعَالِمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْعَارِفِ بِمَا فِيهِمَا، الْمُطَّلِعِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ في فهمهما، مِنَ الْعُلُومِ الْآلِيَّةِ، حَتَّى يَدُلُّوهُ عَلَيْهِ، وَيُرْشِدُوهُ إِلَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ حَادِثَتِهِ "طَالِبًا"* مِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ فِيهَا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ مَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِنْ مَعْدِنِهِ، وَيَسْتَفِيدُ الْحُكْمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَيَسْتَرِيحُ مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ الْمُتَمَسِّكُ بِهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْخَطَأِ، الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ، الْمُبَايِنِ لِلْحَقِّ، وَمَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَنْهَجَ، وَمَشَى فِي هَذَا الطَّرِيقِ، لَا يَعْدَمُ مَطْلَبَهُ، وَلَا يَفْقِدُ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَوْجَدَ لِهَذَا الشَّأْنِ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَيَعْرِفُهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا مِنْ مَدِينَةٍ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَّا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْمُقَصِّرِ حُكْمَ الْمُقَصِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَرْوُونَ النُّصُوصَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَعْمَلُونَ عَلَى مَا يُرْشِدُونَهُمْ إليه، ويدلونهم عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَكْفِي الْعَامِّيَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْفَتْوَى بِأَنْ يَرَى النَّاسَ مُتَّفِقِينَ عَلَى سُؤَالِهِ، مُجْتَمِعِينَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَلَا يَسْتَفْتِي مَنْ "كان"** مجهول.
الْحَالِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَحَكَى فِي "الْمَحْصُولِ" الِاتِّفَاقَ عَلَى الْمَنْعِ، وَشَرَطَ الْقَاضِي أَخْبَارَ مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَكْفِي خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، فَاكْتَفَوْا بِخَبَرِ عَدْلَيْنِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ "الْمَنْخُولِ"*، فَقَالَ: وَاشْتِرَاطُ تَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ امْتِحَانَهُ بِالْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَمُرَاجَعَتَهُ فِيهَا، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْجَوَابِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ برهان في "الوجيز": قيل: يقول له مجتهد أَنْتَ، وَأُقَلِّدُكَ؟ فَإِنْ أَجَابَهُ قَلَّدَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ، وَجَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بأنه يكفيه خبر العدل الواحد من فِقْهِهِ وَأَمَانَتِهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْأَخْبَارِ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ جَمَاعَةٌ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، الْمُسَوِّغَةِ لِلْأَخْذِ عَنْهُمْ، فَالْمُسْتَفْتِي مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَإِلْكِيَا: إِنَّهُ يَبْحَثُ عَنِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ، فَيَسْأَلُهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْأَعْلَمَ أَهْدَى إِلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فَتْوَى عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مُخَيَّرٌ يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْقَاضِي، وَالْآمِدِيُّ. وَاسْتَدَلُّوا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمَفْضُولِ، مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالْأَخَفِّ. وَقِيلَ: يَبْحَثُ عَنِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ، فَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَبْحَثُ عَنِ الْأَعْلَمِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى الرِّوَايَةِ دُونَ الرَّأْيِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا يَأْخُذُ، مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ أَخَذَ بِالْأَخَفِّ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ أَخَذَ بِالْأَغْلَظِ، حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَسْأَلُ الْمُخْتَلِفِينَ عَنْ حُجَّتِهِمَا إِنِ اتَّسَعَ عَقْلُهُ لِفَهْمِ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ بِأَرْجَحِ الْحُجَّتَيْنِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهُ لِذَلِكَ أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ، قَالَهُ الكعبي.
المسألة السادسة: حكم الالتزام بمذهب معين
المسألة السادسة: حكم الالتزام بمذهب مُعَيَّنٍ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ، هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: يَلْزَمُهُ؛ وَرَجَّحَهُ إِلْكِيَا. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بَرْهَانَ وَالنَّوَوِيُّ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَا تَحْمِلِ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِكَ فَيُحرجوا، دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ النَّاسِ. وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الطَّلَاقِ فَقَالَ: يَقَعُ يَقَعُ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلَ: فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ1. وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ، لَا قَبْلَهُمُ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَعَ زَعْمِ قَائِلِهِ أَنَّهُ اقْتَضَاهُ الدَّلِيلُ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَسْمَعُهُ السَّامِعُونَ، وَأَغْرَبِ مَا يَعْتَبِرُ بِهِ الْمُنْصِفُونَ. أَمَّا إِذَا الْتَزَمَ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خلاف آخر، وهو أنه هل يجوز له أَنْ يُخَالِفَ إِمَامَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ؟ فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِالْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ الَّتِي قَلَّدَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ، وَاخْتَارَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِ إِمَامِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَى مِنْ مَذْهَبِهِ جَازَ لَهُ، وَإِلَّا لم يجز، وبه قال القدوري الحنفي2.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ الَّذِي أَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مِمَّا يَنْقُضُ الْحُكْمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ صَدْرُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَاصِدًا لِلتَّلَاعُبِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ نَاقِضًا لِمَا قَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَقَدِ ادَّعَى الْآمِدِيُّ، وابن الحاجب: أنه يجوز قبل العلم، لَا بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِمَا: بِأَنَّ الْخِلَافَ جار فِيمَا ادَّعَيَا الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. أَمَّا لَوِ اخْتَارَ الْمُقَلِّدُ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَالْأَخَفُّ لَهُ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُفَسَّقُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُفَسَّقُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ، كَانَ فَاسِقًا. وَخَصَّ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ التَّفْسِيقَ بِالْمُجْتَهِدِ، إِذَا لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إِلَى الرُّخْصَةِ، وَاتَّبَعَهَا الْعَامِّيُّ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ؛ لِإِخَلَالِهِ بِفَرْضِهِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ، فَأَمَّا الْعَامِّيُّ إِذَا قَلَّدَ فِي ذَلِكَ فَلَا يُفَسَّقُ؛ لِأَنَّهُ قَلَّدَ مَنْ سُوِّغَ اجْتِهَادُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: "إِنَّهُ"* يُنْظَرُ إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا اشْتَهَرَ تَحْرِيمُهُ فِي الشَّرْعِ أَثِمَ، وَإِلَّا لَمْ يَأْثَمْ. وَفِي "السُّنَنِ" لِلْبَيْهَقِيِّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: "مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ". وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "يَتْرُكُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُتْعَةَ، وَالصَّرْفَ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ السَّمَاعَ، وَإِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ الْحَرْبَ وَالطَّاعَةَ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ النَّبِيذَ"1. وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي2 قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ3 فرفع إليَّ كتابا
"نَظَرْتُ"* فِيهِ، وَقَدْ جُمِع فِيهِ الرُّخَصَ، مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَالَ: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ؟ "فَقُلْتُ: الْأَحَادِيثُ"** عَلَى مَا رُوِيَتْ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلَّا وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
المقصد السابع: من مقاصد هذا الكتاب في التعادل والترجيح
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي التعادل والترجيح الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَاهُمَا، وَفِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، وفي شروطه ... المقصد السابع: في التعادل والترجيح الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَاهُمَا، وَفِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، وَفِي شُرُوطِهِ أَمَّا التَّعَادُلُ: فَهُوَ التَّسَاوِي، وَفِي الشَّرْعِ اسْتِوَاءُ الْأَمَارَتَيْنِ. وَأَمَّا التَّرْجِيحُ: فَهُوَ إِثْبَاتُ الْفَضْلِ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْمُتَقَابِلَيْنِ، أَوْ جَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا، وَيُقَالُ مَجَازًا لِاعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ. وَفِي الاصطلاح: اقتران الأمارة بما تقوى عَلَى مُعَارِضَتِهَا. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": التَّرْجِيحُ تَقْوِيَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَيُعْلَمُ الْأَقْوَى فَيُعْمَلُ بِهِ، وَيُطْرَحُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا طَرَفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ كَوْنِهِمَا "طَرِيقَيْنِ لَوِ*" انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَرْجِيحُ الطَّرَفِ عَلَى مَا لَيْسَ بِطَرَفٍ. انْتَهَى. وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَصْحِيحُ الصَّحِيحِ، وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": اعلم أن الله لينصب عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَدِلَّةً قَاطِعَةً، بَلْ جعلها ظنية، قصدا للتوسيع على المتكلفين، لِئَلَّا يَنْحَصِرُوا فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ، فَقَدْ تَتَعَارَضُ فِي الظَّاهِرِ، بِحَسَبِ جَلَائِهَا وَخَفَائِهَا، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، والعمل الأقوى. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعْيِينِ الْأَقْوَى أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ دليلان، وأمارتان، فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَا جَمِيعًا، أَوْ "يُلْغَيَا جَمِيعًا، أَوْ"** يُعْمَلَ بِالْمَرْجُوحِ أَوِ الرَّاجِحِ، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ. قَالَ: أَمَّا حَقِيقَتُهُ، يَعْنِي التَّعَارُضَ فَهُوَ تَفَاعُلٌ، مِنَ العُرض، بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَهُوَ النَّاحِيَةُ وَالْجِهَةُ، كَأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَارِضَ يَقِفُ بَعْضُهُ فِي عُرض بَعْضٍ، أَيْ نَاحِيَتِهِ وَجِهَتِهِ، فَيَمْنَعُهُ مِنَ النُّفُوذِ إلى حيث وجه.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ. وَلِلتَّرْجِيحِ شُرُوطٌ: الْأَوَّلُ: التَّسَاوِي فِي الثُّبُوتِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا مِنْ حيث الأدلة. الثَّانِي: التَّسَاوِي فِي الْقُوَّةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، بَلْ يُقَدَّمُ الْمُتَوَاتِرُ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. الثَّالِثُ: اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ، مَعَ اتِّحَادِ الْوَقْتِ وَالْمَحَلِّ وَالْجِهَةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ مَثَلًا فِي وَقْتِ النِّدَاءِ مَعَ الْإِذْنِ بِهِ فِي غَيْرِهِ. وَحَكَى إمام الحرمين في تعارض الظاهرين من الكتاب والسنة مذاهب: أحدهما: يُقَدَّمُ الْكِتَابُ لِخَبَرِ مُعَاذٍ1. وَثَانِيهُمَا: تُقَدَّمُ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِلْكِتَابِ، وَالْمُبَيِّنَةُ لَهُ. وَثَالِثُهَا: التَّعَارُضُ، وَصَحَّحَهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَزَيَّفَ2 الثَّانِيَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي السُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ لِلْكِتَابِ، بَلِ الْمُعَارِضَةِ لَهُ. وَأَقْسَامُ التَّعَادُلِ وَالتَّرْجِيحِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَشْرَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، والإجماع، "والقياس"*. فيقع التعارض بين الكتاب والكتب، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ. وَيَقَعُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ. وَيَقَعُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ، وَبَيْنَ الإجماع والقياس، وبين القياسين؛ فهذه ثلاثة، والجميع عَشَرَةٌ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْأَكْثَرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالتَّرْجِيحِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: عِنْدَ التَّعَارُضِ يَلْزَمُ التَّخْيِيرُ، أَوِ التَّوَقُّفُ، لَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا خَبَرَ عَائِشَةَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ3 عَلَى خَبَرِ "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ"4، وَقَدَّمُوا خَبَرَ مَنْ رَوَى مِنْ أَزْوَاجِهِ أَنَّهُ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصْبِحُ جُنُبًا1 عَلَى مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أنه "من أصبح جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ" 2. وَقَبِلَ عَلِيٌّ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ من غيره إلا بعد تحليفه3، وقيل أَبُو بَكْرٍ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لِمُوَافَقَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ لَهُ4. وَقَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ لِمُوَافَقَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَهُ5. الثَّانِي: أَنَّ الظَّنَّين إِذَا تَعَارَضَا، ثُمَّ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَانَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنًا عُرْفًا، فَيَجِبُ شَرْعًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ" 6. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِالرَّاجِحِ، لَزِمَ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَتَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعَقْلِ. وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّرْجِيحَ لَوِ اعْتُبِرَ فِي الْأَمَارَاتِ لَاعْتُبِرَ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالْحُكُومَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ لَكَانَتِ الْعِلَّةُ فِي اعْتِبَارِهِ تَرَجِيحَ الْأَظْهَرِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ هُنَا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 7 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ" 8 يَقْتَضِي إِلْغَاءَ زِيَادَةِ الظن.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَطْعِيٌّ، وَالظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ ههنا صَحِيحٌ إِلَّا حَدِيثَ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا" وَحَدِيثَ: "نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ" فَلَا أَصْلَ لَهُمَا، لَكِنَّ مَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ لَمَّا قَالَ لَهُ إِنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ مُكْرَهًا، فَقَالَ: "كَانَ ظَاهِرُكَ عَلَيْنَا" 1، وكما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ" 2 وَكَمَا فِي أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَذَمِّ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا، وَأَمْرِهِ بِلُزُومِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ3. وَيُجَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُنْكِرُونَ بِجَوَابٍ أَحْسَنَ مِمَّا ذَكَرَهُ، أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ: فَيُقَالُ: نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ مَا ذَكَرْتُمْ، فإن ظَهَرَ التَّرْجِيحُ لِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، أَوْ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الرَّاجِحِ. وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي: فَيُقَالُ: لَا دَلَالَةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي الْآيَةِ، بِوَجْهٍ مِنَ الوجوه، وما قوله: "نحن نحكم بالظاهر" "فلا يبقى" * الظَّاهِرُ ظَاهِرًا بَعْدَ وُجُودِ مَا هُوَ أَرْجَحُ منه.
المبحث الثاني: في التعارض بين دليلين قطعيين
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ مدخل ... الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعَارُضُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، هَكَذَا حَكَى الِاتِّفَاقَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ". قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": التَّرْجِيحُ لَا يَجُوزُ فِي الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ شَرْطَ الْيَقِينِيِّ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ، أَوْ لَازِمَةٍ عَنْهَا لُزُومًا ضَرُورِيًّا: إِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ وَسَائِطَ شَأْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ عُلُومٍ أَرْبَعَةٍ.
الأول: العلم الضروري بأحقية الْمُقَدِّمَاتِ، إِمَّا ابْتِدَاءٌ أَوِ انْتِهَاءٌ. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ "بِصِحَّةِ تَرْكِيبِهَا. وَالثَّالِثُ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِلُزُومِ النَّتِيجَةِ عَنْهَا. وَالرَّابِعُ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ"* بِأَنَّ مَا يَلْزَمُ عَنِ الضَّرُورِيِّ لُزُومًا ضَرُورِيًّا فَهُوَ ضَرُورِيٌّ. فَهَذِهِ الْعُلُومُ الْأَرْبَعَةُ يَسْتَحِيلُ حُصُولُهَا فِي النَّقِيضَيْنِ مَعًا، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَهُوَ سَفْسَطَةٌ، وَإِذَا عُلِمَ ثُبُوتُهَا امْتَنَعَ التَّعَارُضُ. الثَّانِي: التَّرْجِيحُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْوِيَةِ، وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ لَا يَقْبَلُ التَّقْوِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَارَنَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ، وَلَوْ عَلَى أَبْعَدِ الْوُجُوهِ، كَانَ ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يَقْبَلِ التَّقْوِيَةَ. انْتَهَى. وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ شُرُوطَ التناقض في القضايا الشخصية ثمانية: اتحاد الموضوعان وَالْمَحْمُولِ، وَالْإِضَافَةِ، وَالْكُلِّ، وَالْجُزْءِ، فِي الْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ، وَفِي الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ. وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ "تَاسِعًا"* وَهُوَ: اتِّحَادُهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} 1 وَرَدَّ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى وَحْدَةِ الْإِضَافَةِ، أَيْ: تَرَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُكَارَى، مَجَازًا، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَمْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ الثَّمَانِيَةَ إِلَى ثَلَاثَةٍ: الِاتِّحَادُ فِي الْمَوْضُوعِ، وَالْمَحْمُولِ، وَالزَّمَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا إِلَى اثْنَيْنِ: الِاتِّحَادُ فِي الْمَوْضُوعِ، والمحمول؛ لاندراج وَحْدَةِ الزَّمَانِ تَحْتَ وَحْدَةِ الْمَحْمُولِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي النِّسْبَةِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِيهَا لا يخص الضروريات، وإنما ذكرناها ههنا لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ بِهَا. وَمِمَّا لَا يَصِحُّ التَّعَارُضُ فِيهِ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَنَاقِضَيْنِ قَطْعِيًّا، وَالْآخَرُ ظنيا؛ لأن الظن ينتفي بالقطع النقيض، وَإِنَّمَا يَتَعَارَضُ الظَّنِّيَّانِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَعَارِضَانِ نَقْلِيَّيْنِ، أَوْ عَقْلِيَّيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَقْلِيًّا، وَالْآخَرُ عَقْلِيًّا، وَيَكُونُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بِمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ مَنَعَ جَمَاعَةٌ وُجُودَ دَلِيلَيْنِ يَنْصِبُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةٍ مُتَكَافِئَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِحَيْثُ [لَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ وَقَالُوا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ مِنَ الْآخَرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ جَازَ خَفَاؤُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَجُوزُ تَعَارُضُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ إِلْكِيَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قَالَ الْعَنْبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَرَهُ وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَحْمَدَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ. قَالَ إِلْكِيَا وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ قَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً حديثات صَحِيحَانِ مُتَضَادَّانِ يَنْفِي أَحَدُهُمَا مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ وَالتَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ انْتَهَى. وَفَصَّلَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَيَمْتَنِعُ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَيَجُوزُ، وَحَكَى الماوردي والرياني عَنِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ التَّعَارُضَ عَلَى جِهَةِ التَّكَافُؤِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ مِنَ الْآخَرِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُصِيبَ فِي الْفُرُوعِ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا مَعْنَى لِتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ عَلَى ظَاهِرٍ لأن الكل صواب عنده. واختاره الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ تَعَادُلَ الْأَمَارَتَيْنِ عَلَى حكم في فعلين متابيين جائز واقع وَأَمَّا تَعَارُضُهُمَا مُتَبَايِنَيْنِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِبَاحَةِ والتحريم فإنه جائز عقلاً ممتنع شرعاً.] (2)
عمل المجتهد عند العجز عن الترجيح
عمل الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّرْجِيحِ وَاخْتَلَفُوا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِ التَّعَادُلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مَعَ عَجْزِ الْمُجْتَهِدِ عَنِ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ آخَرَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَتَسَاقَطَانِ، وَيُطْلَبُ الْحُكْمُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، أَوْ يَرْجِعُ الْمُجْتَهِدُ إِلَى عُمُومٍ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَنَقَلَهُ إِلْكِيَا عَنِ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ، وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ نِسْبَتَهُ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ شُيُوخِنَا وَهُوَ خَطَأٌ، بَلِ
الْوَاجِبُ الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا جَمِيعًا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ تَسَاقَطَا، وَلَا يُعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ فَيُخَيَّرُ، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" عَنِ الْقَاضِي وَنَصَرَهُ. وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ" وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ؛ إِذِ الْوَقْفُ فِيهِ لَا إِلَى غَايَةٍ وَأَمَدٍ؛ إِذْ لَا يُرْجَى فِيهِ ظُهُورُ الرُّجْحَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَسْأَلَتِنَا، بِخِلَافِ التَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَقِيلَ: يَصِيرُ إِلَى التَّوْزِيعِ، إِنْ أَمْكَنَ تَنْزِيلُ كُلِّ أَمَارَةٍ عَلَى أَمْرٍ، حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ". وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الواجبات فالتخيير، وإن كان في الإباحة والتحريم فَالتَّسَاقُطُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي "الْمُسْتَصْفَى". وَقِيلَ: يُقَلِّدُ عَالِمًا أَكْبَرَ مِنْهُ، وَيَصِيرُ كالعامي لعجزه عن الاجتهاد، حكاه إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَالْحُكْمِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَتَجِيءُ فِيهِ الْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ، حَكَاهُ إِلْكِيَا الطَّبَرَيُّ، فَهَذِهِ تِسْعَةُ مَذَاهِبَ فِيمَا كَانَ مُتَعَارِضًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّرْجِيحِ.
المبحث الثالث: في وجوه الترجيح بين المتعارضين لا في نفس الأمر، بل في الظاهر
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ فِي الظَّاهِرِ مدخل ... الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ فِي الظَّاهِرِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكِ الْمَرْجُوحِ، وَقَدْ سَمَّى بَعْضُهُمْ هَذَا الْمُخَالِفَ فِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ فَقَالَ هُوَ الْبَصْرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِـ"جُعَل"* كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي، وَاسْتَبْعَدَ الْإِبْيَارِيُّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِعْمَالِ التَّرْجِيحِ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ "أَهْلِ"** الْإِسْلَامِ. وَشَرَطَ الْقَاضِي فِي التَّرْجِيحِ شَرْطًا غير ما قد ذكرنا فِي الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ الْمَظْنُونِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مِنَ الظُّنُونِ، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الظُّنُونُ الْمُسْتَقِلَّةُ بأنفسها؛ لانعقاد إجماع الصحابة عليها، وما راء ذلك يبقى على الأصل، والترجيح.
عَمَلٌ بِظَنٍّ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ "دَلِيلًا"*. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ كَمَا انْعَقَدَ عَلَى الْمُسْتَقِلِّ. وَمِنْ شُرُوطِ التَّرْجِيحِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهَا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِوَجْهٍ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ المصير إليه، وَلَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَتَرْكِ الآخر. انتهى. وبه قال الفقهاء جميعا.
أنواع الترجيح
أنواع الترجيح الترجيح باعتبار الإسناد ... أَنْوَاعُ التَّرْجِيحِ: وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّرْجِيحَ قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَتْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ. وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ. وَالنَّوْعُ السَّادِسُ: التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْحُدُودِ السمعية. النوع الأول: الترجيح باعتبار الإسناد 1 الصورة الأولى: الترجيح بكثرة الرواة، فيرجح ما رواته أكثر على ما رُوَاتِهِ أَقَلَّ، لِقُوَّةِ الظَّنِّ بِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَشَبَّهَهُ بِالشَّهَادَاتِ، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الرُّجُوعُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ قُطِعَ بِاتِّبَاعِ الْأَكْثَرِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْإِلْغَاءِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ تَعَارَضَ لَهُمْ خَبَرَانِ هَذِهِ صِفَتُهُمَا لَمْ يُعَطِّلُوا الْوَاقِعَةَ، بَلْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ هَذَا. قَالَ: وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ، وَخَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ، كَثُرَتْ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا، فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى ما يؤدي إليه اجتهاد الناظر.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ صَارَ "إِلَيْهِ"* الْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا غَلَبَ على ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ، فَرُبَّ عدلٍ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عَدْلَيْنِ، لِشِدَّةِ يَقَظَتِهِ وَضَبْطِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْمَفْرُوضَ فِي التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَكْثَرِ مِنَ الرُّوَاةِ مِثْلُ الْأَقَلِّ فِي وَصْفِ الْعَدَالَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هو مُرَجَّحٌ مِنْ أَقْوَى الْمُرَجِّحَاتِ، فَإِنَّ الظَّنَّ يَتَأَكَّدُ عِنْدَ تَرَادُفِ الرِّوَايَاتِ، وَلِهَذَا يَقْوَى الظَّنُّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ مُتَوَاتِرًا. انْتَهَى. أَمَّا لَوْ تَعَارَضَتِ الْكَثْرَةُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَدَالَةُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ1: أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحُ الْكَثْرَةِ. وَثَانِيهُمَا: تَرْجِيحُ الْعَدَالَةِ، فَإِنَّهُ رُبَّ عَدْلٍ يَعْدِلُ أَلْفَ رَجُلٍ فِي الثِّقَةِ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ شُعْبَةَ بْنَ الْحَجَّاجِ كَانَ يَعْدِلُ "مِائَتَيْنِ"**، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَتِ الْوَسَائِطُ فِيهِ قَلِيلَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ إِسْنَادُهُ عَالِيًا؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ وَالْغَلَطَ فِيمَا كَانَتْ وَسَائِطُهُ أَقَلَّ، دُونَ مَا كَانَتْ وَسَائِطُهُ أَكْثَرَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ الْكَبِيرِ عَلَى رِوَايَةِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ، إِلَّا أَنْ يعلم أن الصغير مثله في الضبط، وأكثر ضَبْطًا مِنْهُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: "أَنَّهَا"*** تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ فَقِيهًا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: "أَنَّهَا"**** تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْمَعْنَى مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. النَّوْعُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْثَقَ مِنَ الْآخَرِ. النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْفَظَ مِنَ الْآخَرِ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر.
النَّوْعُ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُتَّبِعًا وَالْآخَرُ مُبْتَدِعًا. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْقِصَّةِ. النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبَاشِرًا لِمَا رَوَاهُ دُونَ الْآخَرِ1. النَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كثير المخالطة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون الآخرة؛ لأن كثرة الْمُخَالَطَةَ تَقْتَضِي زِيَادَةً فِي الِاطِّلَاعِ. النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مُلَازَمَةً لِلْمُحَدِّثِينَ مِنَ الْآخَرِ. النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْآخَرِ. النَّوْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَالْآخَرُ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ. النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِالْمُمَارَسَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَالْآخَرُ بِمُجَرَّدِ التَّزْكِيَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. النَّوْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ بِعَدَالَتِهِ دُونَ الْآخَرِ. النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ عُدِّلَ مَعَ ذِكْرِ أَسْبَابِ التَّعْدِيلِ، وَالْآخَرُ عُدِّلَ بِدُونِهَا. النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْمُزَكُّونَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُزَكِّينَ لِلْآخَرِ. النَّوْعُ الْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَ الْمُزَكُّونَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ بَحْثًا عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ مِنَ الْمُزَكِّينَ لِلْآخَرِ. النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَ المزكون لأحدهما أعلم من المزكين للآخر؛ لأنه مَزِيدَ الْعِلْمِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْإِصَابَةِ. النَّوْعُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ حَفِظَ اللفظ، فهو أرجح ممن روى بالمعنى، أَوِ اعْتَمَدَ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ رِوَايَةَ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْحِفْظِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَسْرَعَ حِفْظًا مِنَ الْآخَرِ، وَأَبْطَأَ نِسْيَانًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَرْجَحُ، أَمَّا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْرَعَ حِفْظًا، وَأَسْرَعَ نِسْيَانًا، وَالْآخَرُ أَبْطَأَ حِفْظًا، وَأَبْطَأَ نِسْيَانًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآخَرَ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُوثَقُ بِمَا حَفِظَهُ وَرَوَاهُ وُثُوقًا زَائِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ الْأَوَّلُ2.
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ يوافق الحافظ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ يَتَفَرَّدُ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ دَامَ حَفِظُهُ، وَعَقْلُهُ وَلَمْ يَخْتَلِطْ عَلَى مَنِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَلَمْ يُعرف هَلْ رَوَى الْخَبَرَ حَالَ سَلَامَتِهِ أَوْ حَالَ اخْتِلَاطِهِ. النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ أَشْهَرَ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ مِنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ "يَمْنَعُهُ"*مِنَ الْكَذِبِ. النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ كَانَ مَشْهُورَ النَّسَبِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا؛ لِأَنَّ احْتِرَازَ الْمَشْهُورِ عَنِ الْكَذِبِ أَكْثَرُ. النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْرُوفَ الِاسْمِ، وَلَمْ يَلْتَبِسِ اسْمُهُ بَاسِمِ أَحَدٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَنْ يَلْتَبِسُ اسْمُهُ بَاسِمِ ضَعِيفٍ. النَّوْعُ التاسع والعشرون: أنها تقدم رِوَايَةُ مَنْ "تَحَمَّلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ تَحَمَّلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ. النَّوْعُ الثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تقدم رواية من"**أخر إِسْلَامُهُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا رَوَاهُ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ مَنْسُوخًا، وهكذا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ بِعَكْسِ ذَلِكَ. النَّوْعُ الْحَادِي والثلاثون: أنها تقدم رِوَايَةُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الذُّكُورَ أَقْوَى فَهْمًا، وَأَثْبَتُ حِفْظًا، وَقِيلَ: لَا تُقَدَّمُ. النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَحَرُّزَهُ عَنِ الْكَذِبِ أَكْثَرُ، وَقِيلَ: لَا تُقَدَّمُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ ذَكَرَ سَبَبَ الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَلَيْهِ على من اختلفوا عليه. النوع الخامس والثلاثين: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ اسْتِيفَاءً لِلْحَدِيثِ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّهَا تُرَجَّحُ رِوَايَتُهُ. النَّوْعُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ سَمِعَ شِفَاهًا عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. النَّوْعُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِلَفْظِ حَدَّثَنَا وأخبرنا فإنه أرجح من لفظ أنبأنا.
وَنَحْوِهِ، قِيلَ: وَيُرَجَّحُ لَفْظُ حَدَّثَنَا عَلَى لَفْظِ أَخْبَرَنَا. النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ سَمِعَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ. النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى بِالسَّمَاعِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى بِالْإِجَازَةِ. النَّوْعُ الْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى الْمُسْنَدَ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى الْمُرْسَلَ. النَّوْعُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْخَارِجَةِ عَنْهُمَا. النَّوْعُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ: أَنَّ وُجُوهَ التَّرْجِيحِ كَثِيرَةٌ، وَحَاصِلُهَا: أَنَّ مَا كَانَ أَكْثَرَ إِفَادَةً لِلظَّنِّ فَهُوَ رَاجِحٌ، فَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمُرَجِّحَاتِ، فَعَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُرَجِّحَ بَيْنَ مَا تَعَارَضَ مِنْهَا.
الترجيح باعتبار المتن
التَّرْجِيحُ بِاعْتِبَارِ الْمَتْنِ: وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بِاعْتِبَارِ الْمَتْنِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَدَّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، كَذَا قِيلَ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِمَعْنَى الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ، وَالْعَمَلُ بِالْعَامِّ فِيمَا بَقِيَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ، بَلْ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَفْصَحُ عَلَى الْفَصِيحِ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ بِأَنَّهُ لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَى. وَقِيلَ: لَا يُرَجَّحُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ البليغ يتكلم بالأفصح والفصيح. النوع الثالث: أن يُقَدَّمُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي قَدْ خُصِّصَ، كَذَا نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ دُخُولَ التَّخْصِيصِ يُضْعِفُ اللَّفْظَ، وَيَصِيرُ بِهِ مَجَازًا، قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَدْ خُصِّصَ قَدْ أُزِيلَ عَنْ تَمَامِ مُسَمَّاهُ. وَاعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: بِأَنَّ الْمُخَصَّصَ رَاجِحٌ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّ، الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ، "وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ تَقْدِيمَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ"*؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ قَدْ قَلَّتْ أَفْرَادُهُ، حَتَّى قارب النص؛ إذ كان عَامٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِي أَقَلِّ مُتَنَاوَلَاتِهِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَرِدْ عَلَى سَبَبٍ عَلَى الْعَامِّ الوارد على سبب، كذا قال
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"، وَإِلْكِيَا، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ"، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ" وَالرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ". قَالُوا: لِأَنَّ الْوَارِدَ عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ مُتَّفَقٌ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مُخْتَلَفٌ فِي عُمُومِهِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأَفْرَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعَامَّيْنِ فَلَا. انْتَهَى1. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي عُمُومِ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هُوَ كَائِنٌ فِي سَائِرِ الْأَفْرَادِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عَلَى الْمَجَازِ، لِتَبَادُرِهَا إِلَى الذِّهْنِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَغْلِبِ الْمَجَازُ. النَّوْعُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ أَشْبَهُ بِالْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً، أَوْ عُرْفِيَّةً عَلَى مَا كَانَ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً. قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": وهذا ظاهر في اللفظ الذي "صَارَ"* شَرْعِيًّا، لَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا صَارَ شَرْعِيًّا، لَا فِيمَا لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا. النَّوْعُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْإِضْمَارِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ. النَّوْعُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا كَانَ دَالًّا عَلَى الْمُرَادِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ. النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ فِيهِ الْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُعَلَّلِ أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّلًا. النَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا ذُكِرَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى مَا ذُكِرَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ مُتَأَخِّرَةً، وَقِيلَ بالعكس. النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا ذُكِرَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ، كَقَوْلِهِ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا" 2 عَلَى الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا. النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمَقْرُونُ بِالتَّهْدِيدِ عَلَى مَا لم يقرن به.
النوع الخامس عشر: أنه يُقَدَّمَ الْمَقْرُونُ بِالتَّأْكِيدِ عَلَى مَا لَمْ يُقْرَنْ بِهِ. النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مَقْصُودًا بِهِ الْبَيَانُ عَلَى مَا لَمْ يقصد به. النوع السابع عشر: أنه يُقَدَّمَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَقِيلَ بالعكس، "قيل"*: لَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ النَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ. النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ النَّهْيُ عَلَى الْإِبَاحَةِ. النَّوْعُ الْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَمْرُ عَلَى الْإِبَاحَةِ. النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَقَلُّ احْتِمَالًا عَلَى الْأَكْثَرِ احْتِمَالًا. النَّوْعُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ عَلَى الْمُشْتَرَكِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَشْهَرُ فِي الشَّرْعِ، أَوِ اللُّغَةِ، أَوِ الْعُرْفِ، عَلَى غَيْرِ الْأَشْهَرِ فِيهَا. النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يَدُلُّ بِالِاقْتِضَاءِ عَلَى مَا يَدُلُّ بِالْإِشَارَةِ، وَعَلَى ما يدل بالإيماء على مَا يَدُلُّ بِالْمَفْهُومِ، مُوَافَقَةً وَمُخَالَفَةً. النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ الْعَامِّ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُ تَأْوِيلَ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ. النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُقَيَّدُ عَلَى الْمُطْلَقِ. النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا "كَانَتْ"** صِيغَةُ عُمُومِهِ بِالشَّرْطِ الصَّرِيحِ، عَلَى مَا كَانَ صِيغَةُ عُمُومِهِ بِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَوْ جَمْعًا مُعَرَّفًا أَوْ مُضَافًا وَنَحْوَهُمَا. النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى وَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْهُودِ، فَتَصِيرُ دَلَالَتُهُ أَضْعَفَ، عَلَى خِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي هَذَا، وَفِي الَّذِي قبله.
الترجيح باعتبار المدلول
الترجيح باعتبار المد لول وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الأصل والبراءة على ما كان ناقلان وقيل
بِالْعَكْسِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ1. وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّهُ أَرْجَحُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُثْبَتُ عَلَى الْمَنْفِيِّ، نَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَعَ الْمُثْبِتِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ النَّافِي، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ فِي "الْمُسْتَصْفَى". النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يُفِيدُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَلَى مَا يُفِيدُ لُزُومَهُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حُكْمُهُ أَخَفَّ عَلَى مَا كَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى عَلَى مَا تَعُمُّ بِهِ. النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا لِحُكْمَيْنِ، وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُوجِبُ لِحُكْمَيْنِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةٍ لَمْ يَنْقُلْهَا الْآخَرُ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ عَلَى الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفِيُّ، مِنْ أَهْلِيَّةِ الْمُكَلَّفِ. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفِيَّ أَكْثَرُ مَثُوبَةً، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ. النَّوْعُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا فِيهِ تَأْسِيسٌ عَلَى مَا فِيهِ تَأْكِيدٌ. وَاعْلَمْ: أن المرجع فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ هُوَ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقُ، فَيُقَدِّمُ مَا كَانَ عِنْدَهُ أَرْجَحَ عَلَى غيره إذا تعارضت.
الترجيح بحسب الأمور الخارجة
الترجيح بحسب الأمور الخارجة: وأما المرجحات بحسب الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا عَضَّدَهُ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ دَلِيلٌ آخَرُ1. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَالْآخَرُ فِعْلًا، فَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ لَهُ صِيغَةً، وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْحُكْمِ، عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، كضرب
الأمثال ونحوها، فإنها ترجح العبارة عَلَى الْإِشَارَةِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا عمل أَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَوْلَى بِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَلَا فِي عَمَلِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ مَعَ الْأَقَلِّ، وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ الْقِلَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُوَافِقُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. النَّوْعُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَوَارَثَهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا1. النَّوْعُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُوَافِقُ. النَّوْعُ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، دُونَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَشْبَهُ. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا فَسَّرَهُ الرَّاوِي لَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مُرَجِّحَاتٍ فِي هَذَا الْقِسْمِ زَائِدَةً عَلَى مَا ذكرناه ههنا، وقد ذكرناه فِي الْأَنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهَا بِهَا أَلْصَقُ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمُرَجِّحَاتِ الْخَارِجَةِ إِذَا تَعَارَضَ عُمُومَانِ، بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 2 مع قوله: {أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 3 فَإِنَّ الْأُولَى خَاصَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ، عَامَّةٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْمِلْكِ، أَوْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِيَةَ عَامَّةٌ فِي الْأُخْتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، خَاصَّةٌ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من نام عن صلاة ونسيها فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" 4 مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ5، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عَامٌّ فِي الأوقات، خاص في الصلاة المقضية، وَالثَّانِيَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ، خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، فإن علم المتقدم من العموميين، والمتأخر منهما، كان المتأخر
نَاسِخًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى التَّرْجِيحِ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، بِالْمُرَجِّحَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِذَا اسْتَوَيَا إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وَدَلَالَةً رَجَعَ إِلَى المرجحات الخارجية. فإن لَمْ يُوجَدْ مُرَجِّحٌ خَارِجِيٌّ وَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ: هَلْ يُخَيَّرُ الْمُجْتَهِدُ في العمل بِأَحَدِهِمَا، أَوْ يَطْرَحُهُمَا، وَيَرْجِعُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ إِنْ وُجِدَ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؟. وَنَقَلَ سليم الرزي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْوَقْتِ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْأُصُولِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَقْفُ، إِلَّا بِتَرْجِيحٍ يَقُومُ عَلَى أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُمُ التَّرْجِيحُ الْعَامُّ، الَّذِي لَا يَخُصُّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ، كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْعُمُومِ، ثُمَّ حُكي عَنِ الْفَاضِلِ أَبِي سَعِيدٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى1 أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمَا، فَإِنْ دَخَلَ أَحَدَهُمَا تَخْصِيصٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا بِالْعُمُومِ رُجِّحَ عَلَى مَا كَانَ عُمُومُهُ اتِّفَاقِيًّا. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَهَذَا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحادث النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ فِي صَلَاةِ الجنازة ضعفت دلالتها، فتقدم عليه أَحَادِيثُ الْمَقْضِيَّةِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ نَقُولُ دلالة: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا فِي النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ أَوْلَى مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ما سبقت لبيان حكم الجمع.
الترجيح بين الأقيسة
الترجيح بين الأقسية: وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ: فَلَا خِلَافَ "أَنَّهُ يكون"* بين ما هو معلوم منها.
وَأَمَّا مَا كَانَ مَظْنُونًا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا، وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ تَرْجِيحٌ، وَإِنَّمَا الْمَظْنُونُ عَلَى حَسَبِ الِاتِّفَاقِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: "وَبِنَاءً"* عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَجَالِ الْمَظْنُونِ مَطْلُوبٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَطْلُوبٌ فَلَا طَرِيقَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا الْمَظْنُونُ عَلَى حَسَبِ الْوِفَاقِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذِهِ هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لِلِاجْتِهَادِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ1: وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يُرِدْ مَا حَكَاهُ عَنْهُ، وَقَدْ عَقَدَ فُصُولًا فِي "التَّقْرِيبِ" فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْعِلَلِ عَلَى بَعْضٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ يَعْنِي إِنْكَارَ التَّرْجِيحِ فِيهَا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ نَوْعٌ عَلَى نَوْعٍ، عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا "يَظُنُّهُ"** الْمُجْتَهِدُ رَاجِحًا، وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ فِي آحَادِ النَّوْعِ الْقَوِيِّ شَيْءٌ يَتَأَخَّرُ عَنِ النَّوْعِ الضَّعِيفِ. انْتَهَى. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الأقيسة يكون على نوع: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ الْعِلَّةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ النَّوْعُ الثَّالِثُ: بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: بِحَسَبِ دَلِيلِ الْحُكْمِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ. النَّوْعُ السَّادِسُ: بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ. النَّوْعُ السَّابِعُ: بِحَسَبِ الْفَرْعِ. 1- أَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا بِحَسَبِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ أَقْسَامٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمُعَلَّلُ بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْحِكْمَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْمُعَلَّلِ بِنَفْسِ "الْحِكْمَةِ"***، لِلْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَهْلِ الْقِيَاسِ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ، فَيُرَجَّحُ التَّعْلِيلُ بِالسَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمَشَقَّةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: "أنه يرجح"**** التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ؛ لِأَنَّ العدم لا
يَكُونُ عِلَّةً، إِلَّا إِذَا عُلِمَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحِكْمَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ حِكْمَةً بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ عَلَى الْمُعَلَّلِ حِكْمَةً بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعَدَمِيِّ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ عِلَّةً إِلَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسِبِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْأَمَارَةِ، هَكَذَا قَالَ صَاحِبُ "الْمِنْهَاجِ" وَاخْتَارَهُ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ فِي هَذَا احْتِمَالَيْنِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى الْمُعَلَّلِ بِالْقَاصِرَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وابن برهان. قام إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَإِنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْقَاصِرَةُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَضِدَةٌ بِالنَّصِّ، وَرَجَّحَهُ فِي "الْمُسْتَصْفَى"1. الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُتَعَدِّيَةُ الَّتِي فُرُوعُهَا أَكْثَرُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ الَّتِي فُرُوعُهَا أَقَلُّ، لكثرة الفائدة. قال الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، "وَزَيَّفَهُ"* صَاحِبُ "الْمَنْخُولِ"، وَكَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِذَلِكَ. الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَلُ الْبَسِيطَةُ عَلَى العلة الْمُرَكَّبَةِ، كَذَا قَالَ الْجَدَلِيُّونَ، وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ؛ إِذْ يُحْتَمَلُ فِي الْعِلَلِ الْمُرَكَّبَةِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهَا هِيَ بَعْضَ الْأَجْزَاءِ لَا كُلَّهَا، وَأَيْضًا الْبَسِيطَةُ يَكْثُرُ فُرُوعُهَا وَفَوَائِدُهَا، وَيَقِلُّ فِيهَا الِاجْتِهَادُ، فَيَقِلُّ الْغَلَطُ، عَلَى مَا فِي الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَكَّبَةُ أَرْجَحُ، قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ": وَلَعَلَّهُ الصَّحِيحُ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. الْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ عَلَى الْعِلَّةِ الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الزَّائِدَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْأَوْصَافِ يقل فيها التفريع. قيل: وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى هَذَا الْمُرَجِّحِ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ من الأصوليين، إذا كانت القليلة
الْأَوْصَافِ دَاخِلَةً تَحْتَ الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ، فَإِنْ كَانَتْ غير داخلة، مثل أن تكون أَوْصَافُ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ أَوْصَافِ الْأُخْرَى، فَاخْتَلَفُوا فِي ذلك، فقيل: تُرَجَّحُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ: "تُرَجَّحُ"* الْكَثِيرَةُ الْأَوْصَافِ. الْقِسْمُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ عَلَى العدمي، وكذا الوصف المشتمل على وجودين عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى وُجُودِيٍّ وَعَدَمِيٍّ، كَذَا فِي "الْمَحْصُولِ". الْقِسْمُ الْعَاشِرُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ "الْمَحْسُوسَةُ"** عَلَى الْحُكْمِيَّةِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي مُقَدِّمَاتُهَا قَلِيلَةٌ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي مُقَدِّمَاتُهَا كَثِيرَةٌ؛ لِأَنَّ صِدْقَ الْأُولَى وَغَلَبَةَ الظَّنِّ بِهَا أَكْثَرُ مِنَ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. الْقِسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ: "أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الْمُطَّرِدَةُ الْمُنْعَكِسَةُ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهَا بِخِلَافِ الْأُخْرَى1. الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ ***: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْأُولَى، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ فَفِيهَا خِلَافٌ. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: إِنَّ عِلَّةَ التَّسْوِيَةِ أَوْلَى، لكثرة الشبه فيها. 2- وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الْمَعْلُومَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا بَدِيهِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَ وُجُودُهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَعْلُومَةً "بِالْبَدِيهَةِ"****، وَالْأُخْرَى بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي وُجُودُهَا بَدِيهِيٌّ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي "وجودها حسي".
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمَعْلُومُ وُجُودُهَا عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونِ وَجُودُهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا كَانَ دَلِيلُ وُجُودِهِ"* أَجْلَى وَأَظْهَرَ عِنْدَ الْعَقْلِ فهو أرجح مما لم يكن كذلك. 3- وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ، فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ 1: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي ثَبَتَ عِلِّيَّتُهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتْ عِلِّيَّتُهَا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَلَا وَجْهَ لِخِلَافِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُرَجَّحُ العلة التي ثبتت عليتها بدليل ظاهر على العلة التي ثبتت عِلِّيَّتُهَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَصٍّ وَلَا ظَاهِرٍ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ التي ثبتت عليتها بالمناسبة على العلة التي ثبتت عليتها بالشبه والدوران، لقوة لمناسبة وَاسْتِقْلَالِهَا بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ. وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ عِلِّيَّتُهَا بِالْمُنَاسَبَةِ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالسَّبْرِ، وقيل: بالعكس، وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ فِي السَّبْرِ الْمَقْطُوعِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُتَعَيِّنٌ، لِوُجُوبِ تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الْمَظْنُونِ، بَلِ الْخِلَافُ فِي السَّبْرِ الْمَظْنُونِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: "أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا كَانَ وَاقِعًا فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ. الْقِسْمُ السَّادِسُ **: أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ ثَابِتًا بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الضَّرُورَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ. الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ مُعْتَبَرًا نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا مُعْتَبَرًا نَوْعُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَعَلَى مَا كَانَ مِنْهَا مُعْتَبَرًا جِنْسُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ، وعلى ما كان منها مغيرا جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ الْمُعْتَبَرُ نَوْعُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَالْمُعْتَبَرُ جِنْسُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُعْتَبَرِ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: الْأَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْمُعْتَبَرِ نَوْعُهُ في جنس الحكم على "عكسه***.
الْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ عِلِّيَّتُهَا بالدوران على الثابتة بِالسَّبْرِ وَمَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ. الْقِسْمُ التَّاسِعُ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ عِلِّيَّتُهَا "بِالسَّبْرِ عَلَى الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالشَّبَهِ وَمَا بَعْدَهُ. الْقِسْمُ الْعَاشِرُ: أنها تقدم العلة عِلِّيَّتُهَا بِالشَّبَهِ"* عَلَى الْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالطَّرْدِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَذَا تُرَجَّحُ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا بِالْإِيمَاءِ وَادَّعَى فِي "الْمَحْصُولِ" اتِّفَاقَ الْجُمْهُورِ على أن ما ثبتت عليته بالإيماء راجح على ما ثبتت عِلِّيَّتُهُ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ، مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، وَالدَّوَرَانِ، وَالسَّبْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ". قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هَذَا ظَاهِرٌ إِنْ قُلْنَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُنَاسِبَةُ فِي الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا تُشْتَرَطُ فَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَيْهَا، كَالْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْإِيمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ بِدُونِهَا. الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الثَّابِتَةُ بنفي الفارق على غيرها. 4- وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ دَلِيلِ الْحُكْمِ، فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ 1: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا دَلِيلُ أَصْلِهِ قَطْعِيٌّ عَلَى مَا دَلِيلُ أَصْلِهِ ظَنِّيٌّ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ دَلِيلُ أَصْلِهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا كَانَ دَلِيلُ أَصْلِهِ النَّصُّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَالتَّأْوِيلَ، وَالنَّسْخَ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَقْبَلُهَا. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُحْتَمَلُ تَقَدُّمُ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ عَلَى الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعُ النَّصِّ، لِكَوْنِهِ الْمُثْبِتَ لَهُ، وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ "الْمِنْهَاجِ". الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ الَّذِي هُوَ مُخْرِجٌ مِنْ أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ عَلَى مَا كَانَ مُخْرِجًا مِنْ أَصْلٍ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ الْخَاصُّ بِالْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْعَامِّ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقَوَاعِدُ، قَالَهُ الْقَاضِي. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ عَلَى سُنَنِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى تَعْلِيلِهِ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا لَمْ يَدْخُلْهُ النَّسْخُ بالاتفاق على ما وقع فيه الخلاف.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ دَلِيلُ أَصْلِهِ أقوى بوجه من الوجوه المعتبرة. 5- وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ 1: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ نَاقِلَةً عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مُقَرَّرَةً، كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ النَّاقِلَةَ أَثْبَتَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالْمُقَرِّرَةَ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقَرِّرَةَ أَوْلَى؛ لِاعْتِضَادِهَا بِحُكْمِ الْعَقْلِ الْمُسْتَقِلِّ بِالنَّفْيِ، لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَّةُ النَّاقِلَةُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى تَرْجِيحِ النَّاقِلَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وبه جزم إلكيا؛ لأن النافية مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَالْأُخْرَى تَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ الدليل، فلا معارضة بينهما. وقيل: هنا مُسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بِالْعِلَلِ لَا يَجُوزُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مُثْبِتَةً عَلَى مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ نَافِيَةً، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَدَّمَ قَوْمٌ الْمُثْبِتَةَ عَلَى النَّافِيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الَّذِي لَا يُثْبِتُ إِلَّا شَرْعًا كَالْإِثْبَاتِ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا أَصْلِيًّا يَرْجِعُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي النَّاقِلَةِ وَالْمُقَرِّرَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي الْعِلَّةِ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ، لِاسْتِوَاءِ الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي فِي الِافْتِقَارِ إِلَى الدَّلِيلِ، قَالَ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا يَقْتَضِي الْحَظْرَ عَلَى مَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي حَدًّا، وَالْآخَرُ يُسْقِطُهُ، فَالْمُسْقِطُ "مُقَدَّمٌ"*. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أن يكون أحدهما يقتضي "العتق"** وَالْآخَرَ يُسْقِطُهُ، فَالْمُقْتَضِي "لِلْعِتْقِ"*** مُقَدَّمٌ. وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبْقِيًا لِلْعُمُومِ "عَلَى عُمُومِهِ وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِهِ. وَقِيلَ: يَجِبُ تَرْجِيحُ مَا كَانَ مُبْقِيًا لِلْعُمُومِ"****؛ لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ فِي وُجُوبِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَمِنْ حَقِّ الْعِلَّةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ "النُّصُوصَ"*****، فَإِذَا أَخْرَجَتْ ما اشتمل عليه العام كانت مخالفة للأصول التي
يَجِبُ سَلَامَتُهَا عَنْهُ، كَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَحَكَى الزَّرْكَشِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُخَصِّصَةَ له أولى؛ لأنها زائدة. 6- وأما المرجحات بحسب بالأمور الْخَارِجَةِ، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ القياس الموافق للأصول، بأن تكون عِلَّةُ أَصْلِهِ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُمَهِّدَةِ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَ مُوَافِقًا لِأَصْلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي الْأُصُولِ الْكَثِيرَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ اعْتِبَارِهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ. هَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، "وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ". الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ أَكْثَرَ فُرُوعًا عَلَى مَا كَانَ أَقَلَّ، لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ"* وَجَزَمَ بِالْأَوَّلِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ "وَزَيَّفَهُ"** الْغَزَالِيُّ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حُكْمُ أَصْلِهِ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالِاخْتِلَافِ فِي الثَّانِي. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مُطَّرِدًا فِي الْفُرُوعِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ ما انضمت عِلَّتِهِ عِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الِانْضِمَامَ يَزِيدُ قُوَّةً، وَقِيلَ: "لَا يُرَجَّحُ"*** بِذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ أَبُو زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ فَتْوَى صَحَابِيٍّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ المتقدم في حجية قول الصحابي. وأما المرجحات بحسب الفرع، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُشَارِكًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ، أَوْ عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ، أَوْ جِنْسِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُشَارِكًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ، أَوْ عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْمُشَارِكُ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشَارِكِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْعُمْدَةُ فِي التعدية.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مَقْطُوعًا بِوُجُودِ عِلَّتِهِ فِي الْفَرْعِ عَلَى الْمَظْنُونِ وُجُودُهَا فِيهِ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتًا فِيهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا، وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ هَذِهِ "الْمُرَجِّحَاتِ فِيمَا تَقَدَّمَ"* "لصلاحية ما هناك هنا"** لذكر ذلك فيه. وَأَمَّا الْمُرَجِّحَاتُ بَيْنَ الْحُدُودِ السَّمْعِيَّةِ، فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْحَدُّ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ عَلَى الْحَدِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ أَوِ الْمُشْتَرِكَةِ أَوِ الْغَرِيبَةِ، أَوِ الْمُضْطَرِبَةِ، وَعَلَى مَا دَلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَرِيبٌ إِلَى الْفَهْمِ، بَعِيدٌ عَنِ الْخَلَلِ وَالِاضْطِرَابِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْرَفُ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَعْرَفُ عَلَى الْأَخْفَى؛ "لِأَنَّ الْأَعْرَفَ"*** أَدَلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنَ الْأَخْفَى. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْحَدُّ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الذَّاتِيَّاتِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْعُرْضِيَّاتِ، لِإِفَادَةِ الْأَوَّلِ تَصَوُّرَ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ، دُونَ الثَّانِي. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مَدْلُولُهُ أَعَمَّ مِنْ مَدْلُولِ الْآخَرِ، لِتَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ، وَقِيلَ: بَلْ يُقَدَّمُ الْأَخَصُّ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِنَقْلِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِكَوْنِ الْأَصْلِ عَدَمُ النَّقْلِ. الْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا أَقْرَبَ إِلَى الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ عَنْهُ شَرْعًا، أَوْ لُغَةً. الْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ طَرِيقُ اكْتِسَابِهِ أَرْجَحَ مِنْ طَرِيقِ اكْتِسَابِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِعَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، ثُمَّ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِأَحَدِهِمَا. الْقِسْمُ التاسع: أنه يقدم ما كان موافقًا لعمل الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. الْقِسْمُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْإِجْمَاعِ. الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِعَمَلِ أَهْلِ الْعِلْمِ. الْقِسْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ عَلَى مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ. الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ النَّفْيِ عَلَى مَا كان مقررًا لحكم الإثبات.
الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِإِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَلَى مَا كَانَ مُوجِبًا لَهَا. الْقِسْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَا كَانَ مُقَرِّرًا لِإِيجَابِ الْعِتْقِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَفِي غَالِبِ هَذِهِ الْمُرَجِّحَاتِ خِلَافٌ يُسْتَفَادُ مِنْ مَبَاحِثِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَيُعْرَفُ بِهِ مَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَطُرُقُ التَّرْجِيحِ كَثِيرَةٌ جَدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَدَارَ التَّرْجِيحِ عَلَى مَا يَزِيدُ النَّاظِرَ قُوَّةً فِي نَظَرِهِ، عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، مُطَابِقٍ لِلْمَسَالِكِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَا كَانَ مُحَصِّلًا لِذَلِكَ فَهُوَ مرجح معتبر.
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب مدخل ... خاتمة لمقاصد هذا الكتاب: اعلم: أنا قد قدرنا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ الْخِلَافَ فِي كَوْنِ الْعَقْلِ حَاكِمًا أَوْ لَا. وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ، وَيَحْكُمُ فِيهَا، كَصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالنَّقْصِ، وَمُلَاءَمَةِ الْغَرَضِ، وَمُنَافَرَتِهِ. وَأَحْكَامُ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ مُدْرَكَاتِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ، كَمَا انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: الْوُجُوبُ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَالثَّانِي: التَّحْرِيمُ، كَالظُّلْمِ. وَالثَّالِثُ: النَّدْبُ، كَالْإِحْسَانِ. وَالرَّابِعُ: الْكَرَاهَةُ، كَسُوءِ الْأَخْلَاقِ. وَالْخَامِسُ: الْإِبَاحَةُ، كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي ملكه. وهما مسألتان.
المسألة الأولى
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلِ الْأَصْلُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ، أَوْ يَخُصُّ نَوْعَهُ، الْإِبَاحَةُ، أَوِ الْمَنْعُ، أَوِ الْوَقْفُ1؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ2، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى الْجُمْهُورِ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حُكْمُ الشَّيْءِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ، أَوْ يخص نوعه، فإذا لم.
يوجد الدليل كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمَنْعُ. وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى الْوَقْفِ بِمَعْنَى لَا يَدْرِي هَلْ "هُنَاكَ"* حُكْمٌ أَمْ لَا؟ وَصَرَّحَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 1 فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ حُرْمَتُهُ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَتُهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنَ الْمُقَيَّدِ، فَلَوْ ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، لَثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ فِي زِينَةِ اللَّهِ، وَفِي الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْحُرْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ ثَبَتَتِ الْإِبَاحَةُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 2 وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّبِ الْحَلَالُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَوَجَبَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُسْتَطَابُ طَبْعًا، وَذَلِكَ يقتضي حل المنافع بأسرها. واحتجوا أيضًا بقول تَعَالَى: " {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 3، وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى"**: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} 4 الْآيَةَ فَجَعَلَ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةَ، وَالتَّحْرِيمَ مُسْتَثْنًى. وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 5. وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إن أعظم "المسلمين في الْمُسْلِمِينَ جُرمًا مَنْ" *** سَأل عَنْ شَيْءٍ فَحُرِّمَ على "المسلمين " **** من أجل مسألته " 6.
وَبِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السمن، "والجبن"*، وَالْفِرَاءِ، قَالَ: "الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ" 1 وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ قَطْعًا، وَلَا عَلَى الْمُنْتَفِعِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ، كَالِاسْتِضَاءَةِ بِضَوْءِ السِّرَاجِ، وَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّ الْجِدَارِ. وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهُ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَهَا يَنْتَفِعُ بِهَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهَا عَلَى الْمَالِكِ، وَيَقْتَضِي سُقُوطَ التَّكَالِيفِ بِأَسْرِهَا. وَوَجْهُ عَدَمِ وُرُودِهِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الْمُنْتَفِعِ، وَلَا انتفاع بالمحرمات، وبترك الواجبات يضرره ضَرَرًا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهَا، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا لَمْ يُبَيَّنْ حُكْمُهُ بِبَيَانٍ يَخُصُّهُ أَوْ يَخُصُّ نَوْعَهُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لِهَذِهِ الْأَعْيَانِ لِحِكْمَةٍ، أَوْ لغير حكمة، والثاني باطل؛ لقوله تعالى: {خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} 2، وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 3 وَالْعَبَثُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِحِكْمَةٍ، وَلَا تَخْلُو هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِعَوْدِ النَّفْعِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ إِلَيْنَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِاسْتِحَالَةِ الِانْتِفَاعِ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْعُ الْمُحْتَاجِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ أَيْنَمَا كَانَ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِرُجُوعِ ضَرَرِهِ إِلَى الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ.
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} 1 وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ، أو حكم نوعه، وأما ما قد فصله وَبُيِّنَ حُكْمُهُ، فَهُوَ كَمَا بَيَّنَهُ بِلَا خِلَافٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} 2 قَالُوا: فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَيْسَ إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ فَلَا نَعْلَمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ قَالُوهُ بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ3، فَلَا تَرُدُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي دَوَاوِينَ الْإِسْلَامِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَالْمُؤْمِنُونَ وقَّافُون عِنْدَ الشُّبْهَاتِ" 4 الْحَدِيثَ. قَالَ: فأرشد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَرْكِ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، ولم يجعل الأصل فيها أَحَدَهُمَا. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ. فَإِنِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ فَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" إِلَّا مَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ طَلْقٌ، أَوْ حَرَامٌ وَاضِحٌ، بَلْ تَنَازَعَهُ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَرَامِ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَمَّا مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ5، سَلْمَانَ وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ6 فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام" 7 الحديث.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي قَدْ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكِيهَا، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْغَيْرِ، وإنما النزع فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَلَمْ تَصِرْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تحريمها، لا بِدَلِيلٍ عَامٍّ وَلَا خَاصٍّ، وَكَالنَّبَاتَاتِ الَّتِي تُنْبِتُهَا الأرض، مما لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَلَا كَانَتْ مِمَّا يَضُرُّ مُسْتَعْمِلَهُ بَلْ مِمَّا يَنْفَعُهُ.
المسألة الثانية
المسألة الثانية: اختلفو فِي وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا: فَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وافقهم وجبوه بِالْعَقْلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الشَّرْعُ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. قَالُوا: وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لِحُكْمِ الْعَقْلِ "تَنَزُّلًا"* فَلَا حُكْمَ لِعَقْلٍ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، فَلَا إِثْمَ فِي تَرْكِهِ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِفَائِدَةٍ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَتَقْرِيرُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَا لِفَائِدَةٍ، لَكَانَ عَبَثًا، وَهُوَ قَبِيحٌ، فَلَا يَجِبُ عَقْلًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِيجَابُ مَا كَانَ عَبَثًا. وَأَمَّا تَقْرِيرُ بُطْلَانِ اللَّازِمِ، فَلِأَنَّ الْفَائِدَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ متعالٍ "عَنِ الْفَائِدَةِ"**، وَلِأَنَّهُ لا منفعة فهي لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَأَمَّا انْتِفَاعُ الْعَبْدِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَلِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِمَنْعِ كَوْنِهِ لَا فَائِدَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَسَنَدُ هَذَا الْمَنْعِ، بِأَنَّ فَائِدَتَهُ للعبد في
الدُّنْيَا هِيَ دَفْعُ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ، وذلك للزوم الخطور على باب كل عَاقِلٍ، إِذَا رَأَى مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ، وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، أَنَّ الْمُنْعِمَ قَدْ أَلْزَمَهُ بِالشُّكْرِ كَمَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ أَنَّهُ مُطَالَبٌ لَهُ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا. وَمَنَعَ الْأَشْعَرِيَّةُ لُزُومَ الْخُطُورِ الْمُوجِبِ لِلْخَوْفِ فَلَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهُ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْمَنْعِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ هُوَ مَنْعٌ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهَذَا الْمَنْعِ لِذَلِكَ الْمَنْعِ أَنَّ سَنَدَهُ لَا يَصْلُحُ لِلسَّنَدِيَّةِ، فَذَلِكَ مَنْعٌ مُجَرَّدٌ لِلسَّنَدِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وُجُودُ الْخَوْفِ، فَهُوَ على خطر الوجود، وبالشكر يَنْدَفِعُ احْتِمَالُ وَجُودِهِ، وَهُوَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ. ثُمَّ "جَاءَتِ"* الْأَشْعَرِيَّةُ بِمُعَارَضَةٍ لِمَا ذَكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: وَلَوْ سُلِّمَ فَخَوْفُ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ مُعَارَضٌ بِخَوْفِ الْعِقَابِ عَلَى الشُّكْرِ، إِمَّا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ مَا يَتَصَرَّفُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَالِاسْتِهْزَاءِ، وَمَا مَثَلُهُ إِلَّا كَمَثَلِ فَقِيرٍ حَضَرَ مَائِدَةَ مَلِكٍ عَظِيمٍ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ، فَطَفِقَ يَذْكُرُهَا فِي الْمَجَامِعِ، "وَيَشْكُرُهُ"** عَلَيْهَا شُكْرًا كَثِيرًا مُسْتَمِرًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ اسْتِهْزَاءً مِنَ الشَّاكِرِ بِالْمَلِكِ؛ فَكَذَا هُنَا، بَلِ اللُّقْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ وَمَا يَمْلِكُهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَشُكْرُ الْعَبْدِ أَقَلُّ قَدْرًا فِي جَنْبِ اللَّهِ مِنْ شُكْرِ الْفَقِيرِ لِلْمَلِكِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَا يَخْفَاكَ أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع على غَايَةٍ مِنَ السُّخْفِ، يَنْدَفِعَانِ بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ سَقَطَ مَا جَاءُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَهُوَ التَّكْذِيبُ الْبَحْتُ وَالرَّدُّ الصُّرَاحُ. ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا هِيَ عَلَى غَايَةِ الْعَظَمَةِ عِنْدَ الشَّاكِرِ، فَإِنَّ أَوَّلَهَا وُجُودُهُ، ثم تكميل آلائه، ثُمَّ إِفَاضَةُ النِّعَمِ عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ شُكْرُهُ عَلَيْهَا اسْتِهْزَاءً. وَقَدِ اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَشَاعِرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "تَحْرِيرِهِ"، فَقَالَ: وَلَقَدْ طَالَ رَوَاجُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى تَهَافُتِهَا، يَعْنِي جُمْلَةَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِرَاضِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ تَابِعٌ لِعَقْلِيَّةِ مَا فِي الفعل،
فَإِذَا عُقِلَ فِيهِ حُسْنٌ يُلْزِمُ بِتَرْكِ مَا هُوَ فِيهِ الْقُبْحُ، كَحُسْنِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، الْمُسْتَلْزِمِ تَرْكَهُ الْقُبْحَ، الَّذِي هُوَ الْكُفْرَانُ بِالضَّرُورَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَقْلُ حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الشُّكْرِ قَطْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِلَا مَرَدٍّ، لَمْ يَبْقَ لَنَا حَاجَةٌ فِي تَعْيِينِ فَائِدَةٍ، بَلْ نَقْطَعُ بِثُبُوتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، عِلْمَ عينها أو لا، وَلَوْ مَنَعُوا، يَعْنِي: الْأَشْعَرِيَّةَ اتِّصَافَ الشُّكْرِ بِالْحُسْنِ، واتصاف الكفران بالقبح، لم تصر مسألة عَلَى التَّنَزُّلِ مَعْنًى، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَلَى التنزيل. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ انْفِصَالَ الْمُعْتَزِلَةِ بِدَفْعِ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ إِنَّمَا يَصِحُّ حَامِلًا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الشُّكْرُ، وَهُوَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُمْ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ، فَيَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ. قَالَ شَارِحُهُ: لِغَرَابَتِهِ وَسَخَافَتِهِ، كَيْفَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الشُّكْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا. انْتَهَى. وَمَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مُؤَلَّفَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الدَّلِيلَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ، فَقَالُوا: مَنْ رَأَى النِّعَمَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا، وَتَوَاتُرَ أَنْوَاعِهَا خَشِيَ أَنَّ لَهَا صَانِعًا يَحِقُّ لَهُ الشُّكْرُ؛ إِذْ وُجُوبُ شُكْرِ كُلِّ مُنْعِمٍ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْ خَشِيَ ذَلِكَ خَافَ مَلَامًا عَلَى الْإِخْلَالِ، وَتَبِعَهُ عَلَى الْإِخْلَالِ ضَرَرٌ عَاجِلٌ، وَالنَّظَرُ كَاشِفٌ لِلْحَيْرَةِ، دَافِعٌ لِذَلِكَ الْخَوْفِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِالنَّظَرِ حَسُنَ فِي الْعَقْلِ ذَمُّهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، فَإِذَا نَظَرَ زَالَ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَيَلْزَمُهُ فَائِدَةُ الْأَمْنِ مِنَ الْعِقَابِ، عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا بِأَنْ يَشْكُرَ، وَإِمَّا بأن يكشف له النظر أَنَّهُ لَا مُنْعِمَ، فَلَا عِقَابَ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِي الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ. وَأَمَّا الْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ: فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِأَمْرِ الْعِبَادِ بِشُكْرِ رَبِّهِمْ، وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي زِيَادَةِ النِّعَمِ، وَالْأَدِلَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ النَّبَوِيَّةُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جَدًّا. وَحَاصِلُهَا: فَوْزُ الشَّاكِرِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفَّقَنَا اللَّهُ تعالى لشكر نعمه، ودفع عنا جميع قمه. قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِلَى هُنَا انْتَهَى مَا أَرَدْنَا جَمْعَهُ، بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى نِعَمِ رَبِّهِ، الطَّالِبِ مِنْهُ مَزِيدَهَا عَلَيْهِ وَدَوَامَهَا لَهُ، مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّوْكَانِيِّ، غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ، وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ يَوْمَ الأربعاء، لعله الرَّابِعَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ، سَنَةَ 1231، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أولًا وآخرصا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله صحبه.
الفهارس
الفهارس فهرس الآيات القرآنية ... 1- فهرس الآيات القرآنية: الآية رقمها الجزء/ الصفحة سورة البقرة {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ من قبلك} 4 1/ 305 {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} 21 1/ 34 {يا أيها الناس} 21 1/ 322، 323 {فأتوا بسورة من مثله} 23 1/ 254 {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بعوضة فما فوقها} 26 2/ 98 {خلق لكم ما في الأرض جميعا} 29 2/ 284 {وعلم آدم الأسماء كلها} 31 1/ 43 {ثم عرضهم} 31 1/ 43 {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا} 34 1/ 249، 261 {قلنا اهبطوا منها جميعا} 38 1/ 320 {واقيموا الصلاة} 43 1/ 253، 258 و2/ 12 {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} 48 1/ 300 {وادخلوا الباب سجدا} 58 1/ 81 {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 65 2/ 195 {كونوا قردة} 65 1/ 254 {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلا الله وبالوالدين إحسانا} 83 2/ 54 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} 104 2/ 193 {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بخير منها أو مثلها} 106 2 / 59، 61، 69 ، 70 {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} 110 1/ 307 {وأقيموا الصلاة} 110 1/ 343 و2/ 27 {وآتوا الزكاة} 110 2/ 28
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى} 111 2/ 191 {قل هاتوا برهانكم} 111 1/ 255 و2/ 191 {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} 143 1/185، 204 {قد نرى تقلب وجهك في السماء} 144 2/ 71 {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} 150 2/ 98 {يا أيها الذين أمنوا} 153 1/ 322، 323 {إن الصفا والمروة من شعائر الله} 158 1/ 82 {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر} 158 2/ 190 {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 169 1/ 202 {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} 180 2/ 68، 70 {فعدة من أيام آخر} 184 2/ 11 {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} 185 2/ 72 {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر} 185 2/ 61، 190 {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 187 1/ 304 {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} 187 2/ 41 {وأتموا الصيام إلى الليل} 187 1/ 379 فالآن باشروهن} 187 2/ 59، 72 {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} 188 1/ 202 {حتى لا تكون فتنة} 193 2/121 {وأتموا الحج والعمرة لله} 196 2/198 {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وسبعة إذا رجعتم} 196 2/11 {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رجعتم تلك عشرة كاملة} 196 2/ 23، 225 {الحج أشهر معلومات} 197 1/327 و2/ 48 {ولا تقربوهن حتى يطهرن} 222 1/ 378 {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} 228 1/ 385 و2/ 16 {لا تضار والدة بولدها} 233 2/ 16 {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أربعة أشهر وعشرا} 234 1/ 386 {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} 236 2/ 225
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} 237 2/ 16، 225 {حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى} 238 1/ 343 و2/ 79 {وأحل الله البيع} 275 1/ 349 {يا أيها الذين آمنوا تقوا الله وذروا ما بقي من الربا} 278 1/ 321 {ولا يضار كاتب ولا شهيد} 282 2/ 16 {واستشهدوا} 282 1/ 254 {واتقوا لله ويعلمكم الله} 282 2/ 199 {والله على كل شيء قدير} 284 2/ 42 {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} 286 1/ 32 {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا به} 286 1/ 32 سورة آل عمران {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ متشابهات} 7 1/ 90 {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يقولون آمنا به} 7 1/ 90 {وما يعلم تأويله إلا الله} 7 2/ 33 {ربنا لا تزغ قلوبنا} 8 1/279 {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} 31 1/ 97، 106، 314 {واسجدي واركعي مع الراكعين} 43 1/ 82 {ومكروا ومكر الله} 54 1/ 73 {فإن أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} 68 2/ 178 {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا ما حرم إسرائيل على نفسه} 93 2/ 238 {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلا} 97 1/ 383، 385 و2/ 82 {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} 97 1/ 69 {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عن المنكر} 110 1/ 185، 205 {قل موتوا بغيظكم} 119 1/ 255 {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} 130 2/ 41 {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} 133 1/ 262 {الذين قال لهم الناس} 173 1/ 397
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {كل نفس ذائقة الموت} 185 1/ 355 {والله على كل شيء قدير} 189 1/ 355 سورة النساء {أو ما ملكت أيمانكم} 3 2/ 272 {الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} 10 1/ 305 {يوصيكم الله في أولادكم} 11 1/ 388 {فإن كان له إخوة} 11 1/ 311 {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 12 2/ 9 {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوافهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} 15 2/ 64 {حرمت عليكم أمهاتكم} 23 1/ 328، 332، 355 و2/ 16، 17 {وأن تجمعوا بين الأختين} 23 2/ 272 {ربائبكم اللاتي في حجوركم} 23 2/ 42 {ولا تقتلوا أنفسكم} 29 1/ 292 و2/ 223 {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عنكم سيئاتكم} 31 1/ 144 {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تقولون} 43 1/ 38 {طيعوا الله وأطيعوا الرسول} 59 1 /106 في شيء فردوه إلى الله ورسوله} 59 1/ 208 و2/ 245 {وأقيموا الصلاة} 77 2/ 28 {من يطع الرسول فقد أطاع الله} 80 1/ 97 {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} 83 2/ 98 {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 92 1/ 81 {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} 115 1/ 198 {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أنثى} 124 1/ 318 {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} 160 2/ 120
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} 165 1/ 31 {يبين الله لكم أن تضلوا} 176 1/ 70 سورة المائدة {وأيديكم إلى المرافق} 2 1/ 391 {حرمت عليكم الميتة} 3 1/ 290، 328 و2/ 16، 17، 70 {اليوم أكملت لكم دينكم} 3 2/ 100، 202 {أحل لكم الطيبات} 5 2/ 284 {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} 6 2/ 27 إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} 6 2/ 121 {وأيديكم إلى المرافق} 6 1/ 378، 379 {إلى المرافق} 6 1/ 363 {وامسحوا برءوسكم} 6 2/ 17 {وإن كنتم جنبا فاطهروا} 6 1/ 257 {ادخلوا عليهم الباب} 23 1/ 70 {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} 32 2/ 118 {أو تقطع أيديهم وأرجلهم} 33 1/ 81 {والسارق} 38 1/ 289 {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} 38 1/ 81، 292، 342، 397 و2/ 19، 28، 29 120، 121 {يا أيها الرسول} 40 1/ 323 {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} 45 2/ 180 {والجروح قصاص} 45 2/ 160 {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} 48 2/ 180 {فاستبقوا الخيرات} 48 1/ 262 {والله يعصمك من الناس} 67 1/ 117 {ثم عموا وصموا كثير منهم} 71 1/ 380
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة وما من إله إلا الله واحد} 73 1/ 125 {إنما الخمر والميسر} 90 2/ 72 {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} 92 1/ 97 {فجزاء مثل ما قتل من النعم} 95 2/ 97 {يحكم به ذوا عدل منكم} 95 2/ 97 {لا تسألوا عن أشياء} 101 1/ 279 سورة الأنعام {لأنذركم به ومن بلغ} 19 1/ 322 {ما فرطنا في الكتاب من شيء} 38 2/ 100 {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مبين} 59 1/ 86 و2/ 100 {أولئك الذي هدى الله فبهداهم اقتده} 90 2/ 180 {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} 99 1/ 255 {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيسبوا الله} 108 2/ 195 {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} 119 2/ 286 {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام} إلى قوله: {حكيم عليم} 139 2/ 126 {وآتوا حقه يوم حصاده} 141 2/ 23 {ثمانية أزواج} إلى قوله: {الظالمين} 142-143 2/ 126 {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إليَّ محرما على طاعم يطعمه} 145 2/ 68، 70، 284 سورة الأعراف {ما منعك أن تسجد إذ أمرتك} 12 1/ 249، 261 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لعباده والطيبات من الرزق} 32 2/ 284 {فهل وجدتم ما وعبد ربكم حقا قالوا نعم} 44 1/ 333 {مسخرات بأمره} 54 1/ 242، 243 {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} 71 1/ 222 {فماذا تأمرون} 110 1/ 245 {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} 138 1/ 311 {اخلفني في قومي} 142 1/ 250 {واختار موسى قومه سبعين رجلا} 155 1/ 132 {ويحرم عليهم الخبائث} 157 2/ 131 {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} 161 1/ 81
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} 163 1/ 397 و2/ 193 سورة الأنفال {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} 13 2/ 108، 120 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يجعل لكم فرقانا} 29 2/ 199 {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 38 1/ 35 {فأن لله خُمُسَه} 41 2/ 27 {إن يكن منكم عشرون صابرون} 65 1/ 131 {الآن خفف الله عنكم} 66 2/ 84 {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتى يثخن في الأرض} 67 2/ 233 سورة التوبة {فاقتلوا المشركين} 5 1/ 342، 362، 388، 394 {حتى يعطوا الجزية} 29 1/ 379، 394 و2/ 121 {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 31 2/ 245 {والذين يكنزون الذهب والفضة} 34 1/ 332 {فبشرهم بعذاب أليم} 34 1/ 68 {وقاتلوا المشركين كافة} 36 1/ 301 {عفا الله عنك لم أذنت لهم} 43 2/ 220 {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} 71 2/ 123 {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} 82 1/ 255 {والسابقون الأولون} 100 1/ 185 {خذ من أموالهم صدقة} 103 1/ 316 {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} 122 1/ 136 سورة يونس {فأجمعوا أمركم} 7 1/ 193 {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تلقاء نفسي} 15 2/ 70 {والله يدعو إلى دار السلام} 25 1/ 331 {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يأتهم تأويله} 39 2/ 191
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {ألقوا ما أنتم ملقون} 80 1/ 255 سورة هود {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رزقها} 6 1/ 355 {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} 40 1/ 242 {وأهلك} 40 2/ 27 {أتعجبين من أمر الله} 73 1/ 242 {وما أمر فرعون برشيد} 97 1/ 242 سورة يوسف {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} 2 1/ 65 {وفوق كل ذي علم عليم} 76 2/ 231 {واسأل القرية} 82 1/ 69 {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} 103 1/ 368 سورة الرعد {الله خالق كل شيء} 16 1/ 383 سورة إبراهيم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 4 1/ 43، 65 {قل تمتعوا} 30 1/ 254 {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} 34 1/ 304 {ولا تحسبن الله غافلا} 42 1/ 279 سورة الحجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 9 2/ 75 {وإنا له لحافظون} 9 1/ 313 {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} 30 1/ 303 {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا من اتبعك من الغاوين} 42 1/ 368 {ادخلوها بسلام آمنين} 46 1/ 254 {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} 85 2/ 123 {ولا تمدن عينيك} 88 1/ 279
الآية رقمها الجزء/ الصفحة سورة النحل {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} 8 2/ 197 {لتأكلوا منه لحما طريا} 14 2/ 41 {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} 16 2/ 226 {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} 39 1/ 125 {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ له كن فيكون} 40 1/ 251 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تعلمون بالبينات والزبر} 43-44 2/ 245 {لتبين للناس ما نزل إليهم} 44 1/ 385، 387 {لا جرم أن لهم النار} 62 2/ 131 {وأوحى ربك إلى النحل} 68 2/ 200 {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} 89 1/ 208، 386 {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} 90 2/ 99 {إنما يعلمه بشر} 103 2/ 219 {فكلوا مما رزقكم الله} 114 1/ 254 {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حلال وهذا حرام} 116 2/ 286 {إن إبراهيم كان أمة} 120 1/ 236 {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حنيفا} 123 2/ 178، 180 سورة الإسراء {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} 15 1/ 31 {فلا تقل لهما أف} 23 1/ 392، 394 {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 36 1/ 148 {واستفزز من استطعت} 64 1/ 71، 254 {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} 110 1/ 298 سورة الكهف {أيكم أحسن عملا} 7 1/ 299 {وإذا اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الكهف} 16 2/ 120 {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نسيت} 23-24 1/ 364
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {فمن شاء فليؤمن ... } 29 1/71 سورة طه {الرحمن على العرش استوى} 5 2/ 33 {وأقم الصلاة لذكري} 14 2/ 180 {فاقض ما أنت قاض} 72 1/ 255 {أفعصيت أمري} 93 1/ 250 {وعصى آدم ربه فغوى} 121 1/ 100 {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ من قبل أن نذل ونخزى} 134 1/ 31 سورة الأنبياء {فسألوا أهل الذكر} 7 2/ 244 {بل فعله كبيرهم هذا} 63 1/ 101 {ففهمناها سليمان} 79 2/ 234 {وعلمناه صنعة لبوس لكم} 80 1/ 42 {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه} 87 1/ 101 {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جهنم} 98 2/ 27 {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} 101 1/ 305و 2/ 27 سورة الحج {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} 2 2/ 261 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السموات ومن في الأرض} 18 1/ 61 {وكثير من الناس} 81 1/ 61 {تجري في البحر بأمره} 65 1/ 242، 243 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 78 2/ 190 سورة المؤمنون {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ، حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أو ما ملكت أيمانهم} 5-6 1/ 332 {وإن لكم في الأنعام لعبرة} 21 2/ 95 {كلوا من الطيبات} 51 1/ 255 {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض} 71 2/ 249
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {قال رب ارجعون} 99 1/313 {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا} 115 2/123، 285 سورة النور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جلدة} 2 1/ 292 و2/ 120 {الزانية والزاني} 2 1/ 81 {والذين يرمون المحصنات} 4 1/ 373 {سبحانك هذا بهتان عظيم} 16 2/ 215 {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} 33 1/ 253 {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} 44 2/ 95 {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} 63 1/ 106، 250 سورة الفرقان {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} 68-69 1/ 34 {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحق} 68-69-70 1/ 34 سورة الشعراء {إنا معكم مستمعون} 15 1/ 311 {بل ألقوا ما أنتم ملقون} 43 1/ 255 {كذبت قوم نوح المرسلين} 105 1/ 312 سورة النمل {وأوتيت من كل شيء} 23 1/ 385 {فناظرة بم يرجع المرسلون} 35 1/ 312 {فلما جاء سليمان} 36 1/ 312 {أيكم يأتيني بعرشها} 38 1/ 298، 299 سورة القصص {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} 7 2/ 200 {يجبى إليه ثمرات كل شيء} 57 1/ 385
الآية رقمها الجزء/ الصفحة سورة العنكبوت {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 14 1/ 361 سورة الروم {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} 22 1/ 42 سورة الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} 21 1/ 106، 107، 116 {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت ويطهركم تطهيرا} 33 1/ 222 {إن المسلمين والمسلمات} 35 1/ 319 {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 36 1/ 250 {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عليه أمسك عليك زوجك} 37 2/ 220 {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} 49 1/ 386 {إن الله وملائكته يصلون على النبي} 56 1/ 60 {إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا} 67 2/ 245 سورة سبأ {لا يعزب عنه مثقال ذرة} 3 1/ 300 {من رجز أليم} 5 1/ 222 {افترى على الله كذبا أم به جنة} 8 1/ 124 {وقليل من عبادي الشكور} 13 1/ 368 سورة فاطر {إليه يصعد الكلم الطيب} 10 2/ 33 سورة يس {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 78 2/ 99 {قُلْ يحييها الذي أنشأها أول مرة} 79 2/ 99 {كن فيكون} 82 1/ 255
الآية رقمها الجزء/ الصفحة سورة الصافات {إني سقيم} 89 1/ 101 {فانظر ماذا ترى} 102 1/ 255 سورة ص {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنُفِخَتْ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا له ساجدين} 72 1/ 257 ر {قرآنا عربيا} 28 1/ 65 {يا عبادي} 53 1/ 323 {الله خالق كل شيء} 62 1/ 306، 383، 385 سورة فصلت {وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة} 6-7 1/ 34 {فقضاهن سبع سموات} 11 1/ 250 {اعلموا ما شئتم} 40 1/ 254 {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آياته} 44 2/ 123 سورة الشورى {ليس كمثله شيء} 11 1/ 70و 2/33 {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نوحا} 13 2/ 172 {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ في القربى} 23 1/222 {فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمحو الله الباطل} 24 2/ 198 {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرض} 27 2/ 123 سورة الزخرف {إنا وجدنا آباءنا} 23 2/ 245 {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لمن يكفر بالرحمن} 33 2/ 123 سورة الدخان {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} 38 2/ 285 {ذق إنك أنت العزيز الكريم} 49 1/ 254
الآية رقمها الجزء/ الصفحة سورة الجاثية {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} 13 2/ 284 {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} 29 2/ 49 سورة الأحقاف {جزاء بما كانوا يعملون} 14 2/ 120 {تدمر كل شيء بأمر ربها} 25 1/ 385 سورة محمد {حتى نعلم المجاهدين منكم} 31 2/121 سورة الفتح {لقد رضي الله عن المؤمنين} 18 1/ 185 {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار} 29 1/185 و2/197 سورة الحجرات {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} 6 1/ 136، 140 {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} 7 1/ 144 {والله بكل شيء عليم} 16 1/ 354، 355 سورة الذاريات {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} 56 2/ 118 سورة الطور {فاصبروا أو لا تصبروا} 16 1/ 254 سورة النجم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 3 2/ 218 {إِنْ هُوَ إِلَّا وحي يوحى} 4 2/ 70، 101، 218 {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ما أنزل الله بها من سلطان} 23 1/ 42، 43
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 28 1/ 148 سورة القمر {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} 50 1/ 242 سورة الرحمن {كل من عليها فان} 26 1/ 355 {يا معشر الجن والإنس} 33 1/ 301 سورة المجادلة {فصيام شهرين متتابعين} 4 2/ 11 {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات} 11 2/ 231 {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 13 2/ 84 سورة الحشر {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} 2 2/ 96 {فاعتبروا يا أولي الأبصار} 2 2/ 95، 273 {فاعتبروا} 2 2/ 138 {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} 4 2/ 118، 130 {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أصولها فبإذن اللَّهِ} 5 2/ 234 {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عنه فانتهوا} 7 1/ 97، 106، 314، 324 و2/ 24، 72، 101 {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} 20 1/ 305 {أصحاب الجنة هم الفائزون} 20 1/ 306 سورة الممتحنة {فلا ترجعوهن إلى الكفار} 10 2/ 71 {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} 11 2/ 70 سورة الجمعة {هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم} 2 1/ 322 {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} 3 1/ 322
الآية رقمها الجزء/ الصفحة {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذكر الله} 9 1/ 394 و2/48 {وذروا البيع} 9 2/ 123 سورة المنافقون {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إن المنافقين لكاذبون} 1 1/ 124 {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل} 8 1/ 126 سورة الطلاق {يا أيها النبي} 1 1/ 323 {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} 2 2/ 123، 199 {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} 3 2/ 123 {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} 4 1/ 386 {أسكنوهن} 6 1/388 {لينفق ذو سعة من سعته} 7 2/ 225 {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 7 1/32 سورة التحريم {فقد صنعت قلوبكما} 4 1/ 310 {لا تعتذروا اليوم} 7 1/ 279 سورة القلم {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} 35 2/ 123 سورة الحاقة {كلوا واشربوا} 24 1/ 254 سورة المعارج {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} 28 1/ 254 سورة نوح {رب اغفر لي} 28 1/ 254 سورة الجن {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جهنم} 23 1/ 250
الآية رقمها الجزء/ الصفحة سورة المزمل {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ منه قليلا} 2-3 1/ 368 {فعصى فرعون الرسول} 16 2/ 5 سورة المدثر {ما سلككم من سقر، قالوا لم نك من المصلين} 42-43 1/ 34 سورة القيامة {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 18 2/27 {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بيانه} 19 2/ 27 {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} 36 2/ 123 سورة المرسلات {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} 48 1/ 249 {ويل يومئذ للمكذبين} 49 1/ 249 سورة التكوير {علمت نفس ما أحضرت} 14 1/ 70 {والليل إذا عسعس} 17 1/ 59 سورة الانفطار {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جحيم} 13-14 1/ 332 سورة الشمس {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} 7-8 2/ 200 سورة البينة {لم يكن الذين كفروا} 1 2/ 66 سورة الزلزلة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يعمل مثقال ذرة شرا يره} 7-8 1/ 292 و2/ 218
فهرس أطراف الأحاديث النبوية
2- فهرس أطراف الأحاديث النبوية: طرف الحديث الجزء والصفحة "أ" ابدءوا بما بدأ الله 1/ 82 أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة 1/ 221 أتأمرني بذلك "ألا تفارق زوجها" 1/ 251 أتي بسارق فقعيه من المفصل 1/ 105 أتاهم واحد "أهل قباء" فأخبرهم أن القبلة تحولت 1/ 136 و2/ 67 أجاركم الله من ثلاث خلال 1/ 206 اجتهد رأيي ولا آلو "قول معاذ" 1/ 152 آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ 2/ 25 ادرءوا الحدود بالشبهات 1/ 153 ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله 2/ 14 إذا اختلف البيعان 2/ 43 إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم 1/ 282 إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ أَنْ يستثني 1/ 364 إذا سَهَا أَحَدُكُمْ عَنْ صَلَاةٍ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَذْكُرُهَا 2/ 75 إذا شرب سكر 2/ 145 إذا قعد بين شعبها الأربع 2/ 77 إذا لاقى الختان الختان 2/ 77، 258 إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر 2/ 101 أذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبس الحرير "للحكة" 1/ 398 أرأيت لو تمضمضت بماء 2/ 25، 101، 219 أرأيت لو كان على أبيك دين 2/ 100، 122، 219 أرأيت لو وضعها في حرام 2/ 101
ارتدت العرب قاطبة 1/ 301 استفت قلبك 2/ 196، 200 أشار بأصابعه إلى أيام الشهر ثلاث مرات 1/ 118 أصحابي كالنجوم 1/ 186، 221، 2/ 188 أعتق رقبة 2/ 112 أفينفعه إن حججت عنه 2/ 112 اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر 1/ 122 و2/ 188 اقتلوا أهل الأوثان 1/ 394 اقتلوا الأسودين في الصلاة 1/ 158 أقرأني جبريل على حرف 1/ 88 أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ 1/ 297 أقضي بنحو ما أسمع 1/ 149 إلا الإذخر 1/ 366 و2/ 219 ألا إن القبلة قد حولت. 2/ 67 ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه 1/ 96 و2/ 219 إلا سهيل بين بيضاء 1/ 367 امحه واكتب محمد 2/ 222 أمر بقتل الأسودين في الصلاة 1/ 158 أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله إلا الله 1/ 369 أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن 1/ 331 أمين هذه الأمة أبو عبيدة 1/ 221 إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام 2/ 286 إن عاد "السارق" في الخامسة فاقتلوه 2/ 72 أنزل القرآن على سبعة أحرف 1/ 88 أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النار 2/ 25 أن الخراج بالضمان 1/ 156 أن الحاكم إذا اجتهد 2/ 232 إن اله أجاركم من ثلاث خلال 1/ 206 أن الله عز وجل قال "قد فعلت" عند الدعوات 1/ 32 إن الله لا يقبض العلم انتزاعا 1/ 203
إن للموت فزعا 2/ 73 إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ مَا نَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذكر إلا الرجال فنزل قوله تعالى {إن المسلمين والمسلمات} 1/ 319 إن في دار فلان كلبا 2/ 150 إن من أمتي المحدثين والمكلمين 2/ 200 إنا آخذوها وشطر ماله 2/ 85 إنا معاشر الأنبياء لا نورث 1/ 388 إنما أقضي بنحو ما أسمع 1/ 149 و2/ 260 إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ 1/ 101، 102 إنما أنا شافع 1/ 251 إنما الأعمال بالنيات 1/ 156، 290، 327 و2/ 82 إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ 1/ 325 إِنَّمَا نُؤَاخِذُكُمْ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ 1/ 149 إنما هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ 1/ 252 أنه مج في فيه "محمود بن الربيع" مجة 1/ 140 أنه دعي إلى دار فأجاب 2/ 150 أنه وَاصَلَ أَيَّامًا تَنْكِيلًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنِ الوصال 1/ 104 أنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه 1/ 119 إنها من الطوافين عليكم 2/ 118، 119 إنها أخته "قول سيدنا إبراهيم في سارة" 1/ 101 إني أوتيت القرآن ومثله معه 1/ 96 إني بعت منه عبدا 2/ 195 إني صائم 2/ 22 أيما إهاب دبغ فقد طهر 1/ 336 و2/ 71 أينقص إذا جف 1/ 155، 333، و2/ 25 الأئمة من قريش 1/ 302 الإثم ما حاك في صدرك 2/ 196 الاثنان فما فوقهما جماعة 1/ 312 الأعمال بالنيات 1/ 156
"ب" بئس خطيب القوم أنت 1/ 82 بئما اشتريت 2/ 195 بشروا ولا تنفروا 2/ 190 بعثت إلى الناس كافة 1/ 322 بعثت بالحنيفية السمحة 2/ 190 بعثت لأتمم مكارم الأخلاق 2/ 131 بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا 2/ 65 البينة على المدعي 1/ 156 البر بالبر والذهب بالذهب 1/ 337 "ت" تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك 1/ 160 تحول أهل قباء عن بيت المقدس وهم في الصلاة 1/ 136 ترك رسول الله صلاة الليل جماعة 1/ 120 تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها 1/ 103 تعلموا الفرائض وعلموها الناس 1/ 203 تيمم عمرو بن العاص للجنابة 1/ 292 و2/ 223 "ث" الثيب الثيب جلد مائة والرجم 2/ 73، 85 "ج" جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا 1/ 336 جمع رسول الله بين الصلاتين في السفر 1/ 289 "ح" حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/ 160 حجوا كما رأيتموني أحج 2/ 25 الحرب خدعة 1/ 156 حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة 1/ 325 الحلال بين والحرام بين 2/ 194، 286 الحلال ما أحله الله 2/ 285
الحنطة بالحنطة 2/ 24 "خ" خذوا عني مناسككم 1/ 105 و2/ 25 خير القرون قرني 1/ 173، 186 الخال وارث من لا وارث له 2/ 153 الخراج بالضمان 1/ 156، 334 "د " دباغها ظهورها 1/ 336 دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ 2/ 193، 196 "ر" رب حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ 1/ 167 رخص رسول الله لصاحب العرايا 1/ 152 رجم رسول الله ماعزا ولم يجلده 2/ 73، 85 رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عبد 1/ 221 رفع القلم عن ثلاث 1/ 37 رُفِعَ إِلَيْهِ سَارِقٌ فِي الْخَامِسَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ 2/ 72 رفع عن أمتي الخطأ النسيان 1/ 327 و2/ 21 "ز" زنى ماعز فرجم 2/ 112 "س" سأل النبي الجارية عن حال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 1/ 178 سُئِلَ عَنْ زَكَاةِ الْحَمِيرِ فَقَالَ لَمْ يَنْزِلْ عليَّ فِي ذَلِكَ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} 2/ 218 سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ولا تقتلوا أنفسكم} 1/ 292 السنور سبع 2/ 150 سها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسجد 2/ 112 سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي 2/ 246 "ش" الشهر هكذا وهكذا وأشار بيده 2/ 24
"ص" صلوا كما رأيتموني أصلي 1/ 104، 113، 314 و2/ 25، 73 صلى بعد العصر ركعتين قضاء لسنة الظهر 1/ 115 صلى بعد العصر ركعتين وداوم عليهما 1/ 115 الصلاة الوسطي 1/ 344 صلى بعد غيبوبة الشفق 1/ 313 صلى في الكعبة 1/ 314 "ط" الطعام بالطعام 1/ 337 "ع" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي 1/ 95، 221 و2/ 189 عليكم بالسواد الأعظم 2/ 260 العجماء جبار 1/ 156 "غ" غسل الجمعة على كل محتمل 2/ 198 "ف" فإن عاد في الخامسة فاقتلوه 2/ 72 فرضت الصلاة خمسين صلاة 2/ 56 فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قول السيدة عائشة رضي الله عنها 1/ 106 فلا يدري أنه "السفر" كان طويلا أو قصيرا 1/ 290 في أربعين شاة شاة 1/ 393 في الغنم السائمة زكاة 2/ 39 في سائمة الغنم زكاة 1/ 329، 393 و2/ 43 "ق" قال سليمان: لأطوفن الليلة 1/ 367 قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا 2/ 66
قرأ {لم يكن الذين كفروا} وَقَرَأَ فِيهَا إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ 2/ 66 قضى رسول الله أن الخراج بالضمان 1/ 315 قضى رسول الله بالشاهد واليمين 1/ 315 و2/ 82 قضى رسول الله بالشفعة للجار 1/ 314 قضى رسول الله يد سارق من المفصل 1/ 105 القضاة ثلاثة 2/ 233 "ك" كان ظاهرك علينا 1/ 149 و2/ 260 كان فيما أنزل علينا عشر رضعات متتابعات فنسخ بخمس 2/ 65 كان لا يأذن بالقتال إلا لمن بلغ سن التكليف 1/ 38 كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا بالقيام في الجنازة2/ 73 كان يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عليه 2/ 181 كان يستغفر الله في كل يوم 1/ 101 كان يصبح جنبا 2/ 259 كتب إلى عماله في الصدقات 1/ 118 كَذَبَ سَعْدٌ وَلَكِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فيه الكعبة 1/ 126 كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد 1/ 282 كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مرتين 1/ 126 كل ذلك لم يكن 1/ 297 كُل مما يليك 1/ 253 كلوا وأطعموا وادخروا 2/ 59 كنا نخابر على عهد رسول الله فنهى عن ذلك 1/ 166 كنا نخرج صدقة عيد الفطر صاعا من تمر 1/ 165 كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها 2/ 84، 269 كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة 1/ 388 كيف تقضي إذا عرض لك قضاء 1/ 152 و2/ 99-223، 245 كيف يحدث؟ قال يتكلم الملك على لسانه 1/ 153 و2/ 201 "ل" لَا أَعْلَمُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ 2/ 223
لا أنقض أمرا كان قبلي 1/ 311 لا إنما أنا شافع 1/ 251 لا تبيعوا الذهب بالذهب 1/ 158 لا تجتمع أمتي على ضلالة 1/ 207 لا تخمروا رأسه فإنه يبعث ملبيا 2/ 120 لا ترجعوا بعدي كفارا 1/ 203 لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يأتيهم أمر الله 1/ 207، 218 لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَنْ أمر الله 1/ 207 لا تصروا الإبل 1/ 152 لا تصلوا في مبارك الإبل 1/ 279 لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين 2/ 195 لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا كذا 1/ 170 لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق 2/ 213 لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ أُمَّتِي 1/ 202 لا صلاة إلا بطهور 1/ 370 و2/ 19 لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب 2/ 19، 82 لا صلا ة لجار المسجد إلا في المسجد 2/ 19 لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ الليل 2/ 19 لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ الليل 1/ 193 لا ضرر ولا ضرار 2/ 154 لا طلاق في إغلاق 1/ 158 لا ميراث لقاتل 1/ 389 لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة 1/ 389 لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ 2/ 222 لا نكاح إلا بولي 1/ 370 و2/ 19 لا وصية لوارث 1/ 389 و2/ 68 لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد 2/ 41 لا يرث المسلم الكافر 1/ 388 لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَنْهُ عصابة من المسلمين 2/ 207 لا يسلط على الأمة عدو يستأصل شافتها 2/ 186 لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ 2/ 223، 234
لا يقتل مسلم بكافر 1/ 344، 345 و2/ 198 لا يقضي القاضي وهو غضبان 2/ 124 لا يُؤَمَّنَّ الرجل في سلطانه 1/ 371 لا يقلدن أحدكم دينه رجلا 2/ 246 لأغزون قريشا 1/ 365 لأطوفن الليلة 1/ 367 لعن الله اليهود 2/ 193، 195 لقد همت أَنْ أُخَالِفَ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ 1/ 118 للراجل سهم وللفارس سهمان 2/ 122 لَمْ يَنْزِلْ عليَّ فِي شَأْنِهَا إِلَّا هَذِهِ الآية 1/ 292 لن تجتمع أمتي على الضلالة 1/ 206 لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سقت الهدي 2/ 220، 238 لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بلغ مد أحدهم 1/ 186 لو بلغني هذا لمننت عليه 2/ 238 لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ 2/ 65 لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك 1/ 251 ليس الأخوان إخوة في لسان قومك 1/ 311 "م" مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ 1/ 97 مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حسن 1/ 346 و2/ 259، 260 ما نهيتكم عنه فاجتنبوه 1/ 252 مُره فليراجعها 1/ 274 مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع 1/ 274 مسح كل رأسه في الوضوء 2/ 18 مسح بعض رأسه في الوضوء 2/ 18 من أخضر مئزره فاقتلوه 1/ 38 من أشراط الساعة أن يرتفع العلم 1/ 203 من أصبح جنبا فلا صوم له 2/ 259
من بدل دينه فاقتلوه 1/ 318 مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ 2/ 194 مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يعنيه 1/ 156 من حلف على شيء فرأى 1/ 365 من سن سنة حسنة فله أجرها 1/ 95 من غسل ميتا 2/ 74 من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام 1/ 208 من قتل قتيلا فله سلبه 2/ 27 مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دخل الجنة 1/ 177 مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا 2/ 75، 180، 272 الماء طهور لا ينجسه شيء 1/ 334 الماء من الماء 2/ 77، 258 "ن" نحن معاشر الأنبياء لا نورث 1/ 301 نحن نحكم بالظاهر 1/ 148 و2/ 259، 260 نهى رسول الله عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ 2/ 68، 77 نهى رسول الله عن الصلاة بعد العصر 1/ 115 نهى عن بيع الذهب بالذهب 1/ 158 نهى عن الصوم في يوم العيد 1/ 283 نهى عن صوم أيام التشريق 2/ 22 نهى عن بيع الغرر 1/ 314، 315 نهى عن قتل الصبيان حتى يبلغوا 1/ 38 "هـ" هل لك من إبل 2/ 108 هَمَّ بمصالحة الأحزاب على ثلث ثمار المدينة 1/ 118 هو الطهور ماؤه 1/ 155، 160، 304 هو رجل يهديني السبيل 1/ 58
"و" وَإِنْ طَلَبَ مِنْكَ أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ عَلَى حكم الله 2/ 233 والله لأغزون قريشا 1/ 365، 366 ولا يعضد شجرها 1/ 366 "ي" يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ مَا نرى الله ذكر إلا الرجال فنزلت {إن المسلمين والمسلمات} 1/ 319 يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ 1/ 368 يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ 2/ 101 يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ 1/ 179، 207 يسروا ولا تعسروا 2/ 190
فهرس الأعلام المترجمين
3 - فهرس الأعلام المترجمين: اسم العلم المترجم له الجزء / الصفحة "أ" الآمدي = علي بن أبي علي بن محمد التغلبي إبراهيم الحربي = إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي 1/ 171 إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروزي 1/ 345 إبراهيم بن إسماعيل الطوسي العنبري 1/ 139 إبراهيم بن أبي يحيى أبو إسحاق 1/ 182 إبر اهيم بن خالد أبو ثور البغدادي 1/ 213 إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج 2/ 298 إبراهيم بن سعد بن إبراهيم "أبو إسحاق" 1/ 201 إبراهيم بن سيار أبو إسحاق النظام 1/ 124 إبراهيم بن عبد الرحمن العذري 2/ 179 إبراهيم بن علي بن أحمد "الطرطوسي" 1/ 6 إبراهيم بن علي بن يوسف "جمال الدين الشيرازي" 1/ 46 إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الإسفراييني 1/ 41 إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي "نفطويه" 1/ 311 إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي 1/ 216 الأبهري = محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح أبو بكر الأبياري = علي بن إسماعيل بن علي ابن الأثير = المبارك بن محمد بن محمد الشيباني أحمد بن إبراهيم الجرجاني أبو بكر الإسماعيلي 1/ 163 أحمد بن إدريس "شهاب الدين" أبو العباس القرافي 1/ 110 أحمد بن بشر بن عامر أبو حامد المروزي 1/ 107 أحمد بن حسن الرصاص 1/ 280 أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي "ابن الخباز" 1/ 360
أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي 1/ 168 أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني "أبو عبد الله" 2/ 46 أحمد بن حنبل صاحب المذهب 1/ 133 أحمد بن سليمان البصري 2/ 212 أحمد بن شعيب بن علي النسائي 1/ 148 أحمد بن أبي طاهر أبو حامد الإسفراييني 1/ 224 أحمد بن بن طلحة أبو العباس "المعتضد بالله" 2/ 253 أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري 1/ 120 أحمد بن عبد الغفار الفارسي أبو علي 1/ 67 أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح 1/ 98 أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي 1/ 142 أحمد بن علي بن ثعلب بن ساعاتي 1/ 309 أحمد بن علي الرازي الجصاص 1/ 137 أحمد بن علي بن عبيد الله أبو طاهر البغدادي 1/ 225 أحمد بن علي بن محمد "ابن حجر العسقلاني" 2/ 214 أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس القرطبي 1/ 220 أحمد بن عمر بن سريج البغدادي "شيخ الإسلام" 1/ 49 أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي 1/ 57 أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسين بن القطان 1/ 110 أحمد بن محمد بن جعفر 2/ 252 أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي 1/ 184 أحمد بن محمد بن علي الأنصاري "ابن الرفعة" 2/ 10 أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي 1/ 145 أحمد بن محمد بن منصور 2/ 49 أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال 1/ 180 أحمد بن نصر الداودي 2/ 197 أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس إمام الكوفيين 1/ 57 أحمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو عبد الرحمن الشافعي 1/ 223 الأحوال = عثمان بن سعيد الأخفش = سعيد بن مسعدة أبو الحسن
الأزهري = محمد بن أحمد بن الأزهر الأستراباذي = الحسن بن محمد بن شرفشاه إسحاق = إسحاق بن راهويه 1/ 170 أبو إسحاق الزجاج = إبراهيم بن السري بو إسحاق = إبراهيم بن يوسف جمال الدين الشيرازي أبو إسحاق = إبراهيم بن محمد الإسفراييني أبو إسحاق النظام = إبراهيم بن سيار بن هانئ أبو إسحاق المروزي = إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق = كعب بن ماتع أسعد بن سهل بن حنيف 1/ 174 الإسفراييني = إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن إسحاق إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم بن عليه 1/ 135 إسماعيل بن إسحاق بن حماد 2/ 253 إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر 1/ 301 إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني 1/ 334 الإسماعيلي = أحمد بن إبراهيم الجرجاني الإسكافي = محمد بن عبد الله الاشعري = علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن أشهب = عبد العزيز القيسي أبو عمرو 1/ 213 الأصبحي = مالك بن أنس بن مالك إمام دار الهجرة الإصطخري = الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد الأصفهاني = محمد بن محمود بن محمد "شمس الدين" الأصم = محمد بن يعقوب بن يوسف أبو العباس الأعمش = سليمان بن مهران الأسدي إلكيا الهراسي = علي بن محمد بن علي "عماد الدين" إلكيا الطبري = إلكيا الهراسي إمام الحرمين = عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو أمامة = أسعد بن سهل بن حنيف امرؤ القيس بن حجر بن الحارث 2/ 89 ابن الأنباري = أبو بكر محمد بن القاسم الأوزاعي = عبد الرحمن بن عمرو بن يُخْمَد أبو عمرو
"ب" الباجي = سليمان بن خلف أبو الوليد البخاري = عبيد الله بن مسعود "صدر الإسلام" البخاري = محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله أبو البركات ابن تيمية = عبد السلام بن عبد الله الحراني "مجد الدين" ابن برهان = أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح ابن بري = عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي البزدوي = علي بن محمد بن الحسين أبو الحسن البستي = محمد بن حبان أبو حاتم بشر المريسي بن غياث المغزلي 2/ 109 ابن أبي البقاء = عبد الله بن الحسين أبو بكر = محمد بن عبد الله التميمي أبو بكر السراج = محمد بن السري بن سهل السراج أبو بكر الأصبهاني = محمد بن الحسن بن فورك أبو بكر الباقلاني = محمد بن الطيب أبو بكر = عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني أبو بكر = محمد بن أحمد "علاء الدين" السمرقندي ابو بكر = محمد بن العباس الخوارزمي أبو بكر = محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي البلخي = الحكم بن عبد الله بن مسلمة أبو مطيع البيضاوي = عبد الله بن عمر أبو سعيد "ناصر الدين" البيهقي = أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر "ت" الترمذي = محمد بن عيسى بن سَوْرَة الضرير "ث" ثعلب = أحمد بن يحيى بن زيد أبو العباس الثلجي = محمد بن شجاع أبو عبد الله التلمساني = عبد الله بن محمد بن علي ثوبان بن جحدر "مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1/ 96 أبو ثور = إبراهيم بن خالد البغدادي
الثوري = سفيان بن سعيد بن مسروق "ج" الجاحظ = عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجبائي = محمد بن عبد الوهاب بن سلام أبو علي جرول بن أوس العبسي 2/ 186 الجرجاني = عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني = علي بن محمد الجرجاني = محمد بن يحيى أبوعبيد الله ابن جريح = عبد الملك بن عبد العزيز الجصاص = أحمد بن علي الرازي جعفر بن حرب أبو الفضل 2/ 94 جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري الزيدي 1/ 59 جعفر بن مبشر 2/ 94 أبو جعفر الطوسي = محمد بن الحسين بن علي أبو جعفر = محمد بن جرير الطبري أبو جعفر = يزيد بن القعقاع جُعل = الحسن بن علي بن إبراهيم جميل بن زيد 1/ 222 ابن جني = عثمان بن جني أبو الفتح جهم بن صفوان السمرقندي 1/ 214 الجواليقي = موهوب بن أحمد أبو منصور الجوزجاني = إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو سليمان الجوهري = إسماعيل بن حماد الجويني = عبد الملك بن عبد الله إمام الحرمين "ح" ابن الحاجب = عثمان بن عمر أبو عمرو "جمال الأئمة" الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله 1/ 134 الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة 2/ 99 أبو حاتم = محمد بن حبان بن أحمد أبو حازم = سلمة بن دينار المخزومي
الحاكم = محمد بن عبد الله بن حمدوية أبو حامد = محمد بن محمد بن أحمد الغزالي أبو حامد الإسفراييني = أحمد بن أبي طاهر أبو حامد المروزي = أحمد بن بشر بن عامر ابن حبان = محمد بن حبان بن أحمد ابن حجر الهيثمي = أحمد بن محمد بن علي بن حجر ابن حجر العسقلاني = أحمد بن علي بن محمد الحربي =إبراهيم بن إسحاق بن بشير ابن حزم = علي بن أحمد بن سعيد عالم الأندلس الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي 1/ 67 الحسن بن أحمد بن زيد أبو سعيد الإصطخري 1/ 105 الحسن بن إسماعيل 1/ 59 الحسن بن إسماعيل بن الحسين المغربي الصنعاني 1/ 116 الحسن بن الحسين بن أبي هريرة أبو علي 1/ 106 أبو الحسن الأشعري = علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن الرماني = علي بن عيسى بن عبد الله أبو الحسن السهيلي = علي بن أحمد الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري 2/ 15 الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي 1/ 301 الحسن بن علي بن أبي طالب 1/ 139 الحسن بن محمد بن شرفشاه الأستراباذي 2/ 81 الحسن = الحسن بن يسار أبو سعيد 1/ 174 أبو الحسن = علي بن محمد بن الحسين أبو الحسن الكرخي = عبيد الله بن الحسن بن دلال الحسين بن صالح بن خيران أبو علي 1/ 106 الحسين بن عبد الله أبو علي ابن سينا الرئيس 1/ 54 الحسين بن علي الزيدي المؤيد بالله 1/ 81 الحسين بن علي بن أبي طالب 1/ 139 الحسين بن علي بن إبراهيم أبو عبد الله البصري المعروف بجُعل 1/ 153 الحسين بن علي أبو عبد الله الصيمري 1/ 289 الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي 1/ 133
الحسين "أو الحسن" بن القاسم أبو علي الطبري 1/ 285 الحسين بن الحسن بن محمد أبو عبد الله الحليمي 1/ 145 حسين بن محمد بن أحمد أبو علي "القاضي" 1/ 100 الحسين بن يوسف بن علي = ابن المطهر الحلي 1/ 356 أبو الحسين الخياط = عبد الرحيم بن محمد أبو الحسين بن القطان = أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي أبو الحسين البصري = محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين الصيمري = مفلح بن الحسين أبو الحسين بن اللبان = محمد بن عبد الله بن اللبان الحطيئة = جرول بن أوس العبسي الحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي 1/ 248 الحكم بن عتيبة أبو محمد 1/ 238 حماد بن أسامة 1/ 182 حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي 1/ 95 ابن حمدان = أحمد بن حمدان "أبو عبد الله" حمزة بن حبيب بن عمارة شيخ القراء 1/ 87 حمزة بن أبي حمزة النصيبي 1/ 222 الحليمي = الحسين بن الحسن بن محمد أبو عبد الله أبو حنيفة = النعمان بن ثابت أبو حيان = محمد بن يوسف بن علي "خ" ابن الخباز = أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي ابن خروف = علي بن محمد بن علي الحضرمي ابن خزيمة = محمد بن إسحاق أبو الخطاب الحنبلي = محفوظ بن أحمد بن الحسن الخطابي = حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطابي الخطيب = أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الخلال = أحمد بن محمد بن هارون خلف بن هشام بن ثعلب أبو محمد البزار 1/ 87 الخليل بن أحمد بن عمر أبو عبد الرحمن الفراهيدي 1/ 311 الخوارزمي = محمد بن العباس
الخوارزمي = محمد بن محمد بن العباس ابن خويز منداد = محمد بن أحمد بن عبد الله ابن خيران = الحسين بن صالح أبو علي "د" الدارقطني = علي بن عمر بن أحمد داود بن الحصين أبو سليمان 1/ 142 أبو داود = سليمان بن الأشعث السجستاني داود بن علي بن خلف الظاهري 1/ 133 الدبوسي = عبد الله بن عمر أبو زيد ابن درستويه = عبد الله بن جعفر النحوي الدقاق = محمد بن محمد بن جعفر ابن دقيق العيد = محمد بن علي بن وهب ابن الدهان = سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري أبو محمد الدينوري = يوسف "ذ" ابن أبي ذئب = محمد بن عبد الرحمن أبو الحارث الذهبي = محمد بن أحمد بن عثمان "ر" ابن الرفعة = أحمد بن محمد بن علي الرازي = سليم بن أيوب أبو الفتح الرازي = محمد بن عمر المعروف "بالفخر الرازي" الرافعي = عبد الكريم بن محمد أبو القاسم الربيع = الربيع بن سليمان بن عبد الجبار 1/ 168 رزين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي أبو الحسن 1/ 170 ابن رشد = محمد بن أحمد بن رشد أبو الوليد المالكي الرصاص = أحمد بن حسن ابن رفاعة السلامي = معان بن رفاعة الروياني = عبد الواحد بن إسماعيل أبو المحاسن "ز" زبان بن العلاء بن عمار التميمي 1/ 87
ابن الزبعري = عبد الله بن الزبعري بن قيس الزجاج = إبراهيم بن السري بن سهل زر بن حبيش 2/ 66 الزركشي = محمد بن بهادر بن عبد الله أبو زرعة الرازي = عبيد الله بن عبد الكريم أبو زكريا = يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء أبو زكريا = يحيى بن شرف النووي. ابو زكريا = يحيى بن معين الزمخشري = محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي "جار الله" الزنجي = مسلم بن خالد الزهري = محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب زهير بن حرب بن شداد الحرشي 1/ 207 أبو زيد = عبد الله بن عمر الدبوسي زين الدين العراقي = عبد الرحيم بن الحسين "س" ابن الساعاتي = أحمد بن علي بن ثعلب سالم بن عبد الله 1/ 174 السبكي = عبد الوهاب بن علي أبو نصر السراج = محمد بن السري أبو بكر النحوي السرخسي = محمد بن أحمد "شمس الأئمة" ابن سريج = أحمد بن عمر البغدادي شيخ الإسلام السعد = مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني سعيد بن جبير أبو محمد الكوفي 1/ 175 أبو سعيد الإصطخري = حسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد = عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد = محمد بن يحيى بن منصور سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري بن الدهان أبو محمد 1/ 311 سعيد بن مسعدة البلخي "أبو الحسن الأخفش" 2/ 42 سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي 1/ 174 سعيد بن منصور 1/ 364 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري 1/ 141
سفيان بن عيينة بن أبي عمران 1/ 167 سلمة بن دينار المخزومي أبو حازم 1/ 175 أبو سلمة بن عبد الله بن عبد الرحمن الزهري 1/ 174 سليمان بن الأشعث السجستاني أبو داود 1/ 365 و2/ 207 سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي 1/ 219 سليمان بن خلف الوليد الباجي 1/ 143 سليمان بن مهران الأسدي الأعمش 1/ 365 أبو سليمان الجوزجاني = موسى بن سليمان الحنفي أبو سليمان = حمد بن محمد بن إبراهيم سليم بن أيوب الرازي أبو الفتح 1/ 110 ابن السمعاني = منصور بن محمد السمرقندي = محمد بن أحمد أبو بكر أبو السنابل بن بعكك الصحابي الجليل 2/ 221 السهروردي = عمر بن محمد بن عبد الله "شهاب الدين" أبو سهل الصعلوكي = محمد بن سليمان السهيلي = عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد أبو الحسن الخثعمي سيبويه = عمرو بن عثمان أبو بشر ابن سيد الناس = محمد بن محمد بن أحمد السيرافي = الحسن بن عبد الله بن المزربان ابن سيرين = محمد بن سيرين ابن سينا = الحسين بن عبد الله أبو علي الرئيس السيوطي = عبد الرحمن بن أبي بكر "جلال الدين" "ش" الشافعي = محمد بن إدريس أبو عبد الله صاحب المذهب أبو شامة المقدسي = عبد الرحمن بن إسماعيل الشريف = علي بن محمد الجرجاني الشريف المرتضى = علي بن الحسين شعبة = شعبة بن الحجاج 1/ 171 الشعبي = عامر بن شراحيل شمس الأئمة = محمد بن أحمد السرخسي الشيخ الحسن = الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي
أبو الشيخ الأصفهاني = عبد الله بن محمد بن جعفر الشيرازي = إبراهيم بن علي أبو إسحاق "ص" صاحب المصادر = محمود بن علي الرازي صاحب المفهم = أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي صاحب الميزان = محمد بن أحمد السمرقندي صاحب النكت = الحسين بن عيسى صاحب اللباب = مطهر بن الحسن صاحب الهداية = علي بن أبي بكر المرغيناني صالح مولى التوءمة المدني 1/ 182 ابن الصباغ = عبد السيد بن محمد أبو نصر الصيدلاني = محمد بن داود بن محمد صفي الدين الهندي = محمد بن عبد الرحيم ابن الصلاح = عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الصيرفي = محمد بن عبد الله أبو بكر "ض" ضرار بن عمرو 1/ 132 "ط" أبو طالب = عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم أبو طاهر البغدادي = أحمد بن علي بن عبيد الله أبو طاهر الدباس = محمد بن محمد بن سفيان طاهر بن عبد الله بن طاهر أبو الطيب الطبري 1/ 109 طاوس بن كيسان أبو عبد الرحمن الفارسي 1/ 366 الطائي = محمد بن أحمد أبو عبد الله الطبري = محمد بن جرير أبو جعفر الطحاوي = أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطرسوسي = إبراهيم بن علي بن أحمد الطيالسي = سليمان بن داود بن الجارود أبو الطيب الطبري = طاهر بن عبد الله بن طاهر
"ع" عاصم بن أبي النجود 1/ 87 عامر بن سنان الصحابي 1/ 126 عامر بن شراحيل 1/ 174 ابن عامر = عبد الله بن عامر بن يزيد عباد بن سليمان بن علي أبو سهل الصيمري 1/ 41 العبادي = محمد بن أحمد بن محمد بن عباد أبو العباس = أحمد بن إدريس شهاب الدين القرافي أبو العباس القرطبي = أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي العباس بن الوليد أبو الفضل العذري البيروتي 1/ 213 عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة 2/ 93 عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي أبو القاسم 1/ 128 عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي 1/ 302 عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي 1/ 368 عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء 2/ 89 عبد الله بن الزبعرى "أبو سعد" 2/ 27 عبد الله بن عامر بن ربيعة الأموي 1/ 174 عبد الله بن عامر بن يزيد "مقرئ الشام 1/ 87 عبد الله بن عدي بن عبد الله 1/ 222 عبد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي 1/ 33 عبد الله بن عمر بن ناصر الدين البيضاوي أبو سعيد 1/ 247 عبد الله بن محمد بن علي "ابن التلمساني 2/ 44 عبد الله بن كثير بن عمرو 1/ 87 عبد الله بن المبارك الحنظلي 1/ 167 عبد الله بن محمد بن جعفر الأصفهاني 1/ 171 عبد الله بن مسلم بن قتيبة 1/ 367 عبد الله بن وهب أبو محمد الدينوري 1/ 217 و2/ 200 عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني 1/ 135، 234 أبو عبد الله البصري = الحسين بن علي أبو عبد الله الصمري = الحسين بن علي بن محمد أبو عبد الله الحاكم = محمد بن عبد الله بن حمدويه
أبو عبد الله = محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني أبو عبد الله الثلجي = محمد بن شجاع الثلجي البغدادي أبو عبد الله = محمد بن علي بن عمر المكي المازري أبو عبد الله الجرجاني = محمد بن يحيى ابن عبد الباري 1/ 96 ابن عبد البر = يوسف بن عبد الله بن محمد الأندلسي عبد الجبار بن أحمد أبو الحسن الهمذاني "القاضي" 1/ 59 عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن 1/ 360 عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار "عضد الدين" 1/ 330 عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة المقدسي 1/ 103 عبد الرحمن بن أبي بكر "جلال الدين السيوطي" 2/ 214 عبد الرحمن بن عبد الوهاب الناصح الحنبلي 2/ 101 عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم أبو طالب 1/ 81 عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي 1/ 97 عبد الرحمن بن محمد بن فوران 1/ 139 عبد الرحمن بن مهدي العنبري أبو سعيد 1/ 96 أبو عبد الرحمن الشافعي = أحمد بن يحيى بن عبد العزيز عبد الرحيم بن الحسين "زين الدين العراقي" 2/ 214 عبد الرحيم بن زيد بن الحواري العمي 1/ 221 عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري 1/ 99، 143 عبد الرحيم بن محمد أبو الحسين الخياط 1/ 234 عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني "مجد الدين" 1/ 381 عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي أبو هاشم 1/ 41 ابن عبد السلام = عبد العزيز بن عبد السلام "سلطان العلماء" عبد السيد بن محمد أبو نصر بن الصباغ 1/ 109 عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري 1/ 336 عبد العزيز بن عبد السلام "سلطان العلماء" 2/ 34 عبد العزيز القيسي = أشهب عبد القاهر بن طاهر أبو منصور البغدادي 1/ 115 عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني "شيخ العربية" 1/ 74 عبد الكريم بن محمد أبو القاسم الرافعي 1/ 225
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي الجويني 1/ 19 عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح 1/ 182 عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون 1/ 310 عبد الواحد بن إسماعيل أبو المحاسن الروياني 1/ 110 عبد الوهاب بن علي أبو نصر السبكي 1/ 137 عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمد القاضي 1/ 142 عبد الوهاب بن عطاء أبو نصر الخفاف 2/ 69 العبدري = رزين بن معاوية أبو عبيد = القاسم بن سلام النحوي عبيد الله بن الحسن 2/ 228 عبيد الله بن الحسين الكرخي الحنفي 1/ 60 عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي 1/ 171 عبيد الله بن عدي بن الخيار 1/ 173 عبيد الله بن عمر البغدادي أبو القاسم 2/ 94 عثمان بن جني أبو الفتح 1/ 67 عثمان بن سعيد بن بشار أبو القاسم الأنماطي "الأحول" 1/ 391 عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان أبو عمرو بن الصلاح 1/ 142 عثمان بن عمر بن أبي بكر أبو عمرو "جمال الدين" 1/ 46 أبو عثمان = عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ ابن عدي = عبد الله بن عدي بن عبد الله 1/ 176 ابن العربي = محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر عروة بن الزبير بن العوام القرشي أبو عبد الله 1/ 176 العسكري = الحسن بن عبد الله بن سهل العضد = عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار ابن عطية = عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن أبو بكر عطاء بن أبي رباح بن أسلم القرشي 1/ 366 العقيلي = محمد بن عمرو بن موسى أبو جعفر العكبري = عبد الله بن الحسين علقمة بن قيس بن عبد الله 1/ 174 علم الدين العراقي 1/ 354 علي بن أحمد أبو الحسن السهيلي 1/ 212
علي بن أحمد بن سعيد بن حزم عالم الأندلسي 1/ 99 علي بن أحمد بن محمد الواحدي 2/ 178 علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن الأشعري 1/ 41، 247 علي بن إسماعيل بن علي الأبياري 1/ 157 علي بن أبي بكر المرغيناني 2/ 44 علي بن الحسين بن موسى "الشريف المرتضى" 1/ 128 علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي 1/ 87 أبو علي الطبري = الحسين بن القاسم أبو علي الفارسي = الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي علي بن عقيل بن محمد شيخ الحنابلة 2/ 73 علي بن أبي علي محمد التغلبي الآمدي 1/ 49 ابن عقيل = علي بن عقيل بن محمد علي بن عمر أحمد البغدادي "ابن القصار" 1/ 371 علي بن عمر بن أحمد "الدارقطني" 1/ 169 علي بن عيسى الرماني النحوي 1/ 348 علي بن محمد بن عبد الملك "ابن القطان" 1/ 143 علي بن محمد الماوردي أبو الحسن 1/ 135 علي بن محمد بن الحسين البزدوي أبو الحسن 1/ 209 علي بن محمد بن علي "إلكيا الهراسي" 1/ 98 علي بن محمد الشريف الجرجاني 1/ 21 علي بن محمد بن علي الحضرمي "ابن خروف" 1/ 312 علي بن المديني بن عبد الله أبو الحسن 1/ 179 أبو علي الجبائي = محمد بن عبد الوهاب بن سلام ابن علية = إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم 1/ 186 عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي 2/ 199 عمران بن حطان 1/ 142 أبو عمران = إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ 1/ 123 عمرو بن أبي سلمة أبو حفص التنيسي 1/ 182 عمرو بن عبيد أبو عثمان البصري 2/ 187
عمرو بن عثمان أبو بشر الفارسي "سيبويه" 1/ 80 عمرو "أو عمر" بن محمد الليثي "أبو الفرج المالكي" 1/ 175 أبو عمرو = زبان بن العلاء بن عمار أبو عمرو = عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي العنبري = إبراهيم بن إسماعيل الطوسي عياض بن موسى أبو الفضل 1/ 98 عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى 1/ 151 أبو عيسى الوراق = محمد بن هارون ابن عيينة = سفيان بن عيينة بن أبي عمران "غ" الغزالي = محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد ابن غيلان = غيلان بن سلمة الثقفي 1/ 331 "ف" ابن فارس = أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين أبو الفتح = سليم بن أيوب بن سليم الرازي أبو الفتح = عثمان جني ابن أبي فديك = محمد بن إسماعيل بن مسلم الفراء = محمد بن الحسين بن محمد أبو يعلى الفراء = يحيى بن زياد الأسدي أبو زكريا أبو الفرج = عمرو بن محمد الليثي المالكي الفوراني = عبد الرحمن بن محمد بن فوران ابن فورك = محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني الفيروزآبادي 1/ 46 "ق" أبو القاسم الأنماطي = عثمان بن سعيد بن بشار البغدادي أبو القاسم الرافعي = عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القاسم بن سلام أبو عبيد اللغوي 1/ 80 أبو القاسم بن كج = يوسف بن أحمد بن كج القاضي القاساني = محمد بن إسحاق أبو بكر القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق 1/ 174
القاضي جعفر = جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري أبو القاسم البغدادي = عبيد الله بن عمر ابن قتيبة = عبد الله بن مسلم بن قتيبة القاضي حسين = حسين بن محمد بن أحمد أبو علي القاضي عياض = عياض بن موسى أبو الفضل قتادة = قتادة بن عامة أبو الخطاب البصري 1/ 175 القدوري = أحمد بن محمد بن جعفر أبو الحسين القرافي = أحمد بن إدريس شهاب الدين أبو العباس القرطبي = أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس القرطبي = محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري ابن القشيري = عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن ابن القصار = علي بن عمر بن أحد البغدادي القطان = يحيى بن سعيد بن فروخ القفال = محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر ابن قيم الجوزية = محمد بن أبي بكر "ك" ابن كج = يوسف بن أحمد بن يوسف بن كج ابن كثير = عبد الله بن كثير بن عمرو الكرابيسي = الحسين بن علي بن يزيد الكرخي = عبيد الله بن الحسين الحنفي الكسائي = علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي كعب بن ماتع الحميري "كعب الأحبار" 2/ 181 الكعبي = عبد الله بن أحمد بن محمود أبو القاسم "ل" الليث بن سعد أبو الحارث 1/ 169 ابن ابي ليلى = محمد بن عبد الرحمن "م" الماتريدي = محمد بن محمد بن محمود أبو منصور ابن الماجشون = عبد الملك بن عبد العزيز المازري = محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المكي
مالك بن أنس بن مالك صاحب المذهب 1/ 108 ابن مالك = محمد بن عبد الله الماوردي = علي بن محمد أبو الحسن المبارك بن محمد بن محمد الشيباني ابن الأثير 1/ 163 مبارك بن أبان 1/ 391 ابن المبارك = عبد الله بن المبارك المبرد = محمد بن يزيد أبو العباس مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي شيخ القراء 1/ 365 ابن مجاهد = محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله المحاسبي = الحارث بن أسد أبو عبد الله أبو المحاسن = عبد الواحد بن إسماعيل محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب البغدادي 1/ 398 و2/ 44 محمد بن أحمد بن الأزهر 1/ 301 محمد بن أحمد أبو بكر "وأبو منصور" علاء الدين السمرقندي 1/ 211 محمد بن أحمد بن أبي بكر أبو عبد الله القرطبي 1/ 112 محمد بن أحمد "شمس الأئمة السرخسي" 1/ 33 محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز منداد 1/ 134 محمد بن أحمد بن عثمان "شمس الدين الذهبي" 1/ 145 محمد بن أحمد بن رشد أبو الوليد المالكي 1/ 112 محمد بن أحمد بن محمد بن عباد "العبادي" 1/ 351 محمد بن أحمد بن محمد الطائي أبو عبد الله 1/ 112 محمد بن إدريس صاحب المذهب 1/ 59 محمد بن إسحاق القاساني أبو بكر 1/ 135 محمد بن إسحاق بن خزيمة 1/ 170 محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري 1/ 138 محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك 1/ 181 محمد بن بحر الأصفهاني أبو مسلم 2/ 52 محمد بن أبي بكر بن أيوب "ابن قيم الجوزية" 1/ 366 محمد بن بهادر بن عبد الله "بدر الدين" الزركشي 1/ 101 محمد بن جرير أبو جعفر الطبري 1/ 99 أبو محمد الجويني = عبد الله بن يوسف
محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي 1/ 142 محمد بن الحسن بن علي الطوسي أبو جعفر 1/ 136 محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني 1/ 213 محمد بن الحسن بن فورك أبو بكر الأصبهاني 1/ 41 محمد بن الحسين محمد أبو يعلى الفراء 1/ 119 محمد بن خازم أبو معاوية السعدي 1/ 365 محمد بن داود 1/ 311 محمد بن داود بن علي بن خالف الظاهري 1/ 135 محمد بن داود بن محمد الصيدلاني 2/ 135 محمد بن السري أبو بكر بن السراج النحوي 1/ 303 محمد بن سليمان أبو سهل الصعلوكي 2/ 230 محمد بن سيرين البصري 1/ 157 محمد بن شجاع الثلجي أبو عبد الله 1/ 292 محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني 1/ 49 محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي 1/ 109 محمد بن عبد الله بن حمدوية أبو عبد الله 1/ 176 محمد بن عبد الله بن الحسن أبو الحسين ابن اللبان 1/ 135 محمد بن عبد الله الإسكافي 2/ 94 محمد بن عبد الله بن عبد الحكم 2/ 283 محمد بن عبد الله بن مالك "جمال الدين" النحوي 1/ 359 محمد بن عبد الله التميمي أبو بكر الأبهري 1/ 151 محمد بن عبد الله محمد أبو بكر ابن العربي 1/ 111 محمد بن عبد الرحمن أبو الحارث ابن أبي ذئب 1/ 181 محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى 1/ 141 محمد بن عبد الرحيم أبو عبد الله صفي الدين الهندي 1/ 99 محمد بن عبد الواحد كمال الدين ابن الهمام 1/ 47 محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي 1/ 79 محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر القفال الشاشي 1/ 107 محمد بن علي بن الطيب أبو الحسين البصري 1/ 60 محمد بن علي بن عمر أبو عبد الله المكي المازري 1/ 113 محمد بن علي بن وهب بن دقيق العيد 1/ 136
محمد بن عمر بن أحمد أبو موسى المديني 1/ 364 محمد بن عمر بن الحسين "الفخر الرازي" 1/ 19 محمد بن عمر بن واقد الأسلمي 1/ 189 محمد بن عمرو بن موسى أبو جعفر العقيلي 1/ 179 محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الضرير 1/ 149 محمد بن عيسى أبو عبد الله المغربي 2/ 94 محمد بن القاسم بن بشار أبو بكر الأنباري 2/ 50 محمد بن محمد بن أحمد "ابن سيد الناس" 2/ 214 محمد بن محمد بن أحمد الغزالي 1/ 33 محمد بن محمد بن جعفر الدقاق 1/ 109 محمد بن محمد بن سفيان أبو طاهر الدباس 1/ 171 محمد بن محمد بن العباس الخوارزمي 1/ 229 محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي 1/ 248 محمد بن محمود بن محمد "شمس الدين الأصفهاني" 1/ 46 محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري 1/ 167 محمد بن المنكدر بن عبد الله القرشي التيمي 1/ 176 محمد بن المنتاب 1/ 292 محمد بن نصر المروزي أبو عبد الله 1/ 238 محمد بن هارون أبو عيسى الوراق 1/ 223 محمد بن الهذيل البصري أبو هذيل 1/ 131 محمد بن يحيى بن منصور "أبو سعيد" 2/ 273 محمد بن يحيى بن مهدي أبو عبد الله الجرجاني 1/ 235 محمد بن يزيد المبرد "أبو العباس" 1/ 298 محمد بن يعقوب بن يوسف أبو العباس الأصم 1/ 135 محمد بن يوسف بن علي أبو حيان 1/ 300 محمود بن علي الرازي 1/ 310 محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي "جار الله الزمخشري" أبو القاسم 1/ 46 المرتضى = علي بن الحسين بن موسى ابن المديني = علي بن المديني عبد الله أبو الحسن المرغيناني = علي بن أبي بكر
المروزي = محمد بن نصر أبو عبد الله المريسي = بشر بن غياث المزني = إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزي = يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف مسروق بن الأجدع بن مالك 1/ 174 مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني "سعد الدين" 1/ 46 مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري 1/ 138 مسلم بن خالد بن مسلم الزنجي المخزومي 1/ 182 أبو مسلم الأصفهاني = محمد بن بحر الأصفهاني مسيلمة بن ثمامة الكذاب 1/ 75 المطرزي = ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي مطهر بن الحسن أبو سعد 1/ 299 ابن المطهر = الحسين بن يوسف بن علي معان بن رفاعة السلامي 1/ 179 أبو معاوية = محمد بن خازم السعدي المعتضد بالله = أحمد بن طلحة أبو العباس المعري = أحمد بن عبد الله بن سليمان المعظم = عيسى بن محمد الحنفي المغربي = محمد بن عيسى أبو عبد الله المغربي مفلح بن الحسين الصيمري 1/ 152 مقاتل بن سليمان أبو الحسن البلخي 2/ 207 مكحول = مكحول الشامي أبو عبد الله الفقيه 1/ 386 أبو منصور الماتريدي = محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الجواليقي = موهب بن أحمد أبو منصور = عبد القاهر بن طاهر البغدادي منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني الشافعي 1/ 108 و2/ 71 ابن مهدي = عبد الرحمن بن مهدي العنبري موسى بن سليمان الحنفي أبو سليمان الجوزجاني 1/ 213 أبو موسى المديني = محمد بن عمر بن أحمد موهوب بن أحمد أبو منصور الجواليقي 1/ 301 المؤيد بالله = الحسين بن علي الزيدي
"ن" الناصح الحنبلي = عبد الرحمن بن عبد الوهاب ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي 1/ 391 و2/ 206 نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي 1/ 87 نافع مولى ابن عمر 1/ 134 النخعي = إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النسائي = أحمد بن شعيب بن علي أبو نصر = عبد السيد بن محمد الصباغ ابن نصر = أحمد بن نصر الداودي النصيبي = حمزة بن أبي حمزة النضر بن شميل بن خرشة أبو الحسن 2/ 31 النظام = إبراهيم بن سيار أبو إسحاق النعمان بن ثابت أبو حنيفة صاحب المذهب 1/ 147 نفطويه = إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي النهرواني 2/ 92 النووي = يحيى بن شرف أبو زكريا النضر بن الحارث بن علقمة 2/ 238 "هـ" أبو هاشم = عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي أبو الهذيل = محمد بن الهذيل البصري ابن أبي هريرة = الحسن بن الحسين أبو علي هشام بن الحكم 1/ 135 ابن الهمام = محمد بن عبد الواحد "كمال الدين" الهندي = محمد بن عبد الرحيم "صفي الدين" "و" الواقدي = محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أبو الوفا = علي بن عقيل بن محمد شيخ الحنابلة الواحدي = علي بن أحمد بن محمد أبو الوليد = سليمان بن خلف الباجي الوليد بن عبد الملك بن مروان أبو العباس 1/ 186
الوليد بن كثير الحافظ المخزومي 1/ 182 أبو الوليد = محمد بن أحمد بن رشد المالكي ابن وهب = عبد الله بن وهب أبو محمد "ي" يحيى بن كثير بن درهم العنبري 1/ 386 يحيى بن حسان أبو زكريا 1/ 181 يحيى بن زياد الأسدي أبو زكريا الفراء 1/ 80 يحيى بن سعيد بن فروخ القطان 1/ 147 يحيى بن سعيد = يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو 1/ 175 يحيى بن شرف النووي أبو زكريا 1/ 100 يحيى بن أبي كثير أبو نصر الطائي 1/ 97 يحيى بن معين أبو زكريا البغدادي 1/ 96 يحيى بن يحيى بن بكر بن عبد الرحمن 1/ 167 يزيد بن القعقاع أبو جعفر 1/ 87 يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف الأنصاري 1/ 141 يعقوب بن إسحاق بن زيد 1/ 87 أبو يعقوب الرازي = يوسف بن الحسين أبو يعلى = محمد بن الحسين بن محمد "القاضي" يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم "القاضي" 1/ 111 يوسف بن الزكي 1/ 183 يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف أبو الحجاج المزي 1/ 149 يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الأندلسي 1/ 96 يوسف بن الحسين أبو يعقوب الرازي 1/ 219 أبو يوسف = يعقوب بن إبراهيم الأنصاري
فهرس الكتب الواردة في المتن
4- فهرس الكتب الواردة في المتن: اسم الكتاب المؤلف الجزء والصفحة "أ" الإحكام لابن حزم 1/ 163، 196، 214، 37، و2/ 58، 94 أحكام القرآن للإمام الشافعي رضي الله عنه 2/ 18، 94 اختلاف الحديث للإمام الشافعي رضي الله عنه 1/ 318 أدب الجدل لأبي الحسن السهيلي 1/ 213، 227 و2/ 44، 169 أدب الطلب ومنتهى الأدب للإمام الشوكاني 2/ 190، 245 أدب القاضي للإمام الشافعي 2/ 232 الأساليب لأبي المعالي الجويني 2/ 126 الأصول للإمام الشاشي 1/ 313 الإعراب لابن حزم 1/ 237 الإفادة للقاضي عبد الوهاب 1/ 300، 314، 32، 357، 398 إكفار المتأولين ـ 2/ 229 إلجام العوام عن علم الكلام لأبي حامد الغزالي 2/ 33 الإلماع للقاضي عياض 1/ 169 الأم للإمام الشافعي 2/ 47 أنواع البروق في أنواع الفروق = القواعد للقرافي
الأوسط لابن برهان 1/ 231، 326، 338 و2/ 6، 62، 67، 81، 192، 193 "ب" البحر للروياني 1/ 231، 238، 2/ 248 البحر المحيط للزركشي 1/ 101، 107، 110، 143، 211، 225 232، 240، 241، 298، 303، 308، 320، 333، 339، 391 و2/ 24، 34، 56، 70، 78، 82، 149، 156، 198، 199، 212 215، 240، 257، 260 البرهان لإمام الحرمين الجويني 1/ 98، 107، 111 293، 334، 344 و2/ 37، 46، 58، 117، 119، 126، 149، 176 184، 269 "ت" تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي 1/ 183 تاريخ النبلاء للحافظ الذهبي 1/ 183 و2/ 33، 34 التبصرة لأبي إسحاق الشيرازي 1/ 134 و2/ 29، 140 التحرير للمحقق ابن الهمام 1/ 299، 304، 390، و2/ 288 التحقيق لعبد العزيز بن أحمد 2/ 46 التذكرة في أصول الدين للتميمي 2/ 199 التعليقة لأبي حامد الغزالي 1/ 347 التعليقة للقاضي حسين 1/ 139 و2/ 176، 240 التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي 2/ 229 تفسير خمسمائة آية من القرآن لمقاتل بن سليمان 2/ 210 تفسير الرازي للإمام الرازي 1/ 308، 382 تفسير الماتريدي لأبي منصور الماتريدي 2/ 6 التقريب للرازي 1/ 307 و2/ 45، 57
التقريب لأبي بكر الباقلاني 1/ 155، 159، 180، 185، 215، 223، 232، 293، 315، 333، 335، 372، 391 و2/ 45، 48، 57، 67، 77، 1110، 117، 124، 138، 177، 187، 191، 218، 240، 263، 269، 280 التقويم لأبي زيد الدبوسي 1/ 111، 308 التلخيص للإمام الجويني 1/ 356، 400 و2/ 240 التلخيص للقاضي عبد الوهاب 1/ 298 و2/ 150 التلويح لإلكيا الطبري 1/ 308، 318، 2/ 45 التلويح للسعد التفتازاني 1/ 248 التمهيد لأبي الخطاب الحنبلي 2/ 46 التمهيد لابن عبد البر 2/ 65، 66 تهذيب الكمال للحافظ المزي 1/ 183 التنقيح ــ 2/ 120، 121 "ث" الثقات لابن حبان 1/ 142، 150 "ج" جامع الأصول لابن الأثير 1/ 163 جامع العلم لابن عبد البر 1/ 96 و2/ 94 الجدل لأبي منصور البغدادي 1/ 229 الجدل للكعبي 2/ 164 الجدل للآمدي 2/ 112، 113 "خ" الخصائص لابن جني 1/ 233 "د" الدلائل "دلائل الأعلام" للصيرفي 1/ 233 و2/ 62
"ر" الرسالة للإمام الشافعي 1/ 237، 410 و2/ 24، 54، 59، 182، 187، 232 الرسالة المكملة في أدلة البسملة للشوكاني 1/ 89 الروضة لابن قدامة 2/ 93 "ز" الزواجر في الكبائر لابن حجر 1/ 145 زوائد الروضة للحافظ النووي 1/ 100 و2/ 93 الزيادات للعبادي 1/ 353 "س" سنن البيهقي لأحمد بن الحسين 2/ 253 سنن أبو داود لأبي داود 2/ 207، 208 السير الكبير للشيباني 2/ 39 "ش" الشامل لإمام الحرمين الجويني 2/ 241 شرح أدب الكاتب لأبي منصور الجواليقي 1/ 311 شرح الإمام لابن دقيق العيد 1/ 165، 371، 393، 397 و2/ 213 شرح البرهان للأبياري 1/ 157، 164، 329 و2/ 116، 126، 136 شرح البرهان لابن المنير 2/ 49 شرح البزدوي = كشف الأسرار شرح الترتيب للإسفراييني 2/ 141 شرح الرسالة للجويني 1/ 135 و2/ 198، 220، 232، 250
شرح السير للسرخسي 2/ 45 شرح العنوان لابن دقيق العبد 1/ 322، 347 و2/ 108، 213 شرح كتاب سيبويه للسيرافي 1/ 301 شرح الكفاية لأبي الطيب 1/ 111 و2/ 67 شرح اللمع للشيرازي 2/ 37، 39 شرح المحصول للأصفهاني 1/ 213، 329، 354، 357 و2/ 5، 58، 160 شرح مختصر المنتهى لعضد الدين 1/ 330، 359 شرح صحيح مسلم للنووي 2/ 130 شرح مقالات الأشعري لابن فورك 2/ 68 شرح المنتقى للشوكاني = نيل الأوطار شعب الإيمان للبيهقي 2/ 101 شفاء العليل للغزالي 2/ 133 "ص" الصحاح للجوهري 1/ 375 و2/ 89 صحيح البخاري للإمام البخاري 1/ 138 و2/ 211 صحيح مسلم للإمام مسلم 1/ 138، 146، 389 و2/ 211 "ض" الضعفاء للعقيلي 1/ 179 "ع" العدة لابن الصباغ 1/ 356، 412 العلل للترمذي 1/ 49 العلل للخلال 1/ 180
"غ" غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 344 "ف" فتاوى ابن الصلاح لابن الصلاح 2/ 199 الفتيا للجاحظ 1/ 187 فتح القدير للإمام الشوكاني 1/ 91 فقه العربية لابن فارس 1/ 95، 312، 372 و2/ 32 الفقيه والمتفقه للحافظ البغدادي 2/ 75 "ق" القواطع لابن السمعاني 1/ 298، 356 و2/ 107، 176 القواعد للأصفهاني 1/ 372 القواعد للقرافي 2/ 46 القول المفيد في حكم التقليد للشوكاني 2/ 190، 244 "ك" الكافي للخوارزمي 1/ 229 و2/ 136، 174، 180 الكفاية للخطيب البغدادي 1/ 185 الكتاب للصيرفي 2/ 50 الكتاب لأبي إسحاق المروزي 2/ 59 كتاب سيبويه لسيبويه 1/ 81، 312 كتاب ابن فورك ـــ 1/ 224 الكشاف للزمخشري 2/ 47 كشف الأسرار = شرح البزدوي العلاء البخاري 1/ 335
"ل" اللباب لمطهر بن الحسن 1/ 299 اللمع للشيرازي 1/ 109، 159، 160، 229، 232، 340، 383 و2/ 9، 25، 40، 67، 78، 73، 269 "م" المحصول لابن العربي 1/ 111 المحصول للرازي 1/ 41، 47، 67، 91، 107، 108، 111، 120، 143، 146، 180، 184، 193، 198، 206، 213، 236، 241، 247، 258، 259، 269، 273، 285، 305، 307، 309، 315، 318، 324، 326، 328، 329، 331، 334، 339، 341، 346، 348، 358، 363، 369، 370، 375، 378، 381، 382، 384، 388، 390 و2/ 5، 7، 9، 10، 12، 13، 21، 27، 39، 44، 50، 51، 62، 76، 79، 80، 89، 92، 110، 111، 116، 118، 122، 127، 134، 125، 136، 138، 139، 146، 147، 149، 153، 156، 157، 205، 207، 209، 211، 212، 224، 236، 237، 241، 247، 251، 257، 258، 260، 264، 269، 276، 277، 278، 284 المختصر للمزني 2/ 146، 150، 240، 243 مختصر التقريب للجويني 1/ 232 و2/ 13، 27، 136، 178 مختصر المنتهى لابن الحاجب 1/ 326، 360، 390، 391 و2/ 52، 115، 116، 134، 137، 155، 162، 182، 228، 275 مدارج السالكين لابن القيم 1/ 366 المدخل للبيهقي 1/ 168 المرشد لابن القشيري 2/ 178، 179 المسائل لابن قتيبة 1/ 367
مسائل الخلاف في أصول الفقه لأبي عبد الله الصيمري 1/ 289 المستدرك للحاكم النيسابوري 1/ 364 و2/ 66 المستصفى للغزالي 1/ 226، 262، و22/ 137، 138، 263، 271، 275 المصادر في الأصول لمحمود بن علي الرازي 1/ 134، 310 و2/ 17 المطالب العالية للفخر الرازي 2/ 53 المطلب لابن الرفعة 2/ 10 المعالم للرازي 1/ 110 المعتمد لأبي الحسين 1/ 232، 325، 334، 358 و2/ 18، 29، 45، 80، 81، 83 المعتمد لأبي عبد الله البصري 2/ 17 معرفة السنن للبيهقي 2/ 207 المفهم شرح مسلم للقرطبي المالكي 1/ 314 المقاييس لابن فارس 1/ 193 الملخص للقاضي عبد الوهاب 1/ 142، 217، 358 و2/ 21، 46 الملل والنحل لابن حزم 1/ 99 المنتهى ــ 2/ 107 المنخول للغزالي 1/ 103، 112، 139، 184، 226، 227، 334 و2/ 15، 157، 178، 251، 257 المنهاج للبيضاوي 2/ 63، 110، 135 الموطأ للإمام مالك 1/ 218، 238 الميزان للذهبي 1/ 184 ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي 1/ 215، 302، 303 "ن" الناسخ والمنسوخ ـ 2/ 62
نتائج الفكر للسهيلي 2/ 46 النكت للشيرازي 2/ 216 النهاية للجويني 1/ 104، 308، 378، 392 النهاية للصفي الهندي 1/ 304 و2/ 37 نهاية الغريب = النهاية في غريب المحدثين لابن الأثير 2/ 200 نيل الأوطار في شرح المنتقى من الأخبار للشوكاني 1/ 89 "هـ" الهداية للمرغيناني 2/ 44 "و" الوجيز لابن برهان 1/ 216، 231، 233، 358 و2/ 29، 46، 114، 115، 178، 185، 263 الوسيط للغزالي 2/ 212 الودائع لابن سريج 1/ 237 الوهم والإيهام لابن القطان 1/ 143
فهرس الفرق
5- فهرس الفرق: الفرقة الجزء / الصفحة الأشعرية 1/ 28، 32، 36، 38، 98، 111، 133، 136، 222، 375، و2/ 38، 57، 67، 87، 88، 89 الإمامية 1/ 133، 136، 222 البراهمة 1/ 128، 131 الخطابية 1/ 213 الخوارج 1/ 201، 212، 213 الدهرية 1/ 130 الرافضة 1/ 102، 135، 212، 213، و2/ 53 الزيدية 1/ 222 السمنية 1/ 128، 131 الشمعونية 2/ 52 الظاهرية 1/ 67، 160، 212، 213، 229، 330، 383 و2/ 38، 52، 59، 60، 174 القدرية 1/ 212 الفلاسفة 1/ 55 المجسمة 2/ 229 المجوس 2/ 228 المرجئة 1/ 293 المشبهة 2/ 32 المعتزلة 1/ 28، 36، 38، 41، 64،
66، 79، 89، 102، 105، 109، 111، 136، 175، 189، 212، 245، 247، 248، 249، 258، 264، 275، 284، 305، 307، 326، 357، 393 و2/ 13، 28، 29، 38، 44، 57، 59، 67، 69، 93، 94، 105، 120، 140، 180، 230، 231، 235، 237، 241، 287، 288، 289 النصاري 1/ 126 و2/ 288 الموسوية 2/ 52 الواقفية 1/ 293، 294 اليهود 1/ 126 و2/ 193، 195، 228
فهرس الأبيات الشعرية والأمثال العربية
6- فهرس الأبيات الشعرية والأمثال العربية: تخبرك العينان ما القلب كاتم ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر لم يعرف قائله 1/ 120 لأمر ما يسود من يسود قائله: أنس بن مدركة 1/ 242 وبلده ليس بها أنس إلا اليعافير ولا العيس قائله: جران العود 1/ 360 نَبِيٌّ مِنَ الْغِرْبَانِ لَيْسَ عَلَى شَرْعٍ يُخْبِرُنَا أن الشعوب إلى صدع قائله: أبو العلاء المعري 1/ 120 دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى فَإِذَا عشقت فعند ذلك عنف قائله: عمرو بن الفارض 2/ 227 ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل قائله: امرؤ القيس 1/ 254 يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا وَتَسْلَمَ أَعْرَاضٌ لنا وعقول قائله: أبو الطيب المتنبي 2/ 130 لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه قائله: أبو الطيب المتنبي 2/ 226 أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني قائله: سحيم بن وثيل الرياحي 1/ 69 لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ وَلَا الصبابة إلا من يعانيها قائله: الأبلة البغدادي 2/ 226 فهرس الأمثال: لأمر ما جدع قصير أنفه 1/ 242 على نفسها جنت براقش 2/ 226
فهرس الأماكن والبلدان
7- فهرس الأماكن والبلدان: المكان أو البلد الجزء/ الصفحة بئر معونة 2/ 65 البصرة 1/ 80، 213، 220 سمرقند 1/ 248 الصفا 1/ 82 قباء 1/ 136 الكوفة 1/ 30، 213، 220 المدينة 1/ 176، 220 مصر 1/ 220 المروة 1/ 82 مكة 1/ 220 نيسابور 2/ 140 اليمامة 1/ 75
فهرس مراجع التحقيق
8- فهرس مراجع التحقيق: الإتقان في علوم القرآن، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، منشورات رضى ببيدار عزيزي. أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله "ابن العربي"، تحقيق علي محمد البيجاوي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي بيروت الطبعة الثانية سنة 1985 الاستيعاب في أسماء الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله "ابن عبد البر"، طبعة دار الكتاب العربي بيروت مطبوع مع كتاب الإصابة. الإصابة في تمييز الصحابة، لشهاب الدين أحمد بن علي بن محمد "ابن حجر العسقلاني"، طبعة دار الكتاب العربي بيروت. أصول الشاشي، لنظام الدين الشاشي، طبعة دار الكتاب العربي بيروت. أصول السرخسي، للإمام محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق أبي الوفا الأفغاني، طبعة دار المعرفة بيروت. إعلاء السنن، للتهانوي، الطبعة الثانية في الباكستان عام 1383 هـ. الأعلام، لخير الدين الزركلي، بطبعة دار العلم للملايين بيروت، الطبعة العاشرة 1992. الأم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، طبعة دار المعرفة بيروت، بإشراف محمد زهدي النجار. البداية والنهاية في التاريخ، للحافظ إسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير، طبعة مكتبة المعارف بيروت. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للقاضي محمد بن علي الشوكاني، طبعة دار المعرفة بيروت. البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف، للشيخ إبراهيم بن محمد الحسيني، طبعة مكتبة مصر، تحقيق عبد المجيد هاشم. تاج التراجم في طبقات الحنفية، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، طبعة دار القلم دمشق 1992. تاريخ بغداد، لأحمد بن علي البغدادي الخطيب، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
التبصرة في اصول الفقه، للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق الدكتور محمد حسين هيتو، طبعة دار الفكر دمشق. تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، للشيخ إبراهيم بن محمد البيجوري، طبعة دار الكتب العلمية بيروت. دريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، طبعة دار الفكر بيروت. تذكرة الحفاظ، للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. التعريفات، لعلي بن محمد الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري، طبعة دار الكتاب العربي بيروت. تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم"، لإسماعيل بن عمر بن كثير، طبعة دار المعرفة بيروت بتقديم الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي. تفسير الصاوي "حاشية الصاوي على الجلالين" طبعة دار الفكر بيروت 1986. تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، طبعة دار الشام للتراث بيروت. التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، لسعد الدين التفتازاني، طبعة دار الكتب العلمية بيروت. التمهيد، لابن عبد البر، طبعة مطبعة فضالة في المغرب. تهذيب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي "ابن حجر العسقلاني"، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، للسيد أحمد الهاشمي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت الطبعة الثانية عشرة. الجواهر المضية في طبقات الحنيفية، لأبي محمد عبد القادر بن محمد القرشي، تحقيق الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية في هجر 1993. حاشية الدمياطي على شرح الورقات، لأحمد بن محمد الدمياطي، طبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر. خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار، لزين الدين قاسم بن قطلوبغا، تحقيق الدكتور زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولى دار ابن كثير. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لصفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، طبعة مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب، تقديم عبد الفتاح أبو غدة. الدراية في تخريج أحاديث الهداية، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة دار المعرفة. ذيل تذكرة الحفاظ، للحافظ أبي المحاسن محمد بن علي الدمشقي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، طبعة مصطفي البابي الحلبي بالقاهرة.
روضة الطالبين وعمدة المفتين، للإمام يحيى بن شرف النووي، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1991. سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي طبعة دار الفكر، تحقيق عبد الرحمن محمد. سنن الدراقطني، للحافظ علي بن عمر الدارقطني، طبعة عالم الكتب بيروت. سنن الدارمي، لعبد الرحمن بن الفضل بن بهرام، طبعة دار الريان سنة 1407هـ. سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، طبعة دار الجنان بيروت. السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، طبعة دار الفكر. سنن ابن ماجة، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار الحديث القاهرة. سنن النسائي، لأحمد بن شعيب النسائي، طبعة دار المعرفة بيروت 1994. سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين الذهبي، طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة 1990. السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام، تقديم طه عبد الرءوف سعد، طبعة شركة الطباعة المتحدة مصر. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. شرح السراجية، للسيد الشريف الجرجاني، تحقيق الشيخ عدنان درويش. شرح السلم المنورق لدمنهوري، تحقيق عبد السلام شنار. شرح شواهد المغني "فتح القريب المجيد في إعراب شواهد مغني اللبيب"، لشيخ محمد علي طه الدرة، طبعة الرازي دمشق. شرح صحيح مسلم، ليحيى بن شرف النووي، طبعة دار مكتبة الغزالي دمشق. الصحاح في اللغة والعلوم، لإسماعيل بن حماد الجوهري، طبعة دار الحضارة العربية بيروت، الطبعة الأولى 1974، تقديم الشيخ عبد الله العلايلي. صحيح البخاري "الجامع الصحيح"، لمحمد بن إسماعيل البخاري، طبعة دار المعرفة مع فتح الباري. صحيح ابن خزيمة، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1992، تحقيق الدكتور محمد مصطفي الأعظمي. صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. ضوابط المعرفة، لعبد الرحمن حسن حبنكة، طبعة دار القلم. فتح العزيز في شرح الوجيز، لأبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، طبعة دار الفكر بيروت، وهو بهامش المجموع. الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، طبعة دار المعرفة بيروت. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت، 1993، بهامش المستصفى. كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، للإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري،
طبعة دار الكتاب الإسلامي القاهرة. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفي بن عبد الله "حاجي خليفة"، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. لسان العرب، لأبي الفضل محمد بن منظور، طبعة دار صادر بيروت، 1992. لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني "أحمد بن علي"، طبعة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق عبد الله محمد درويش، طبعة دار الفكر بيروت. المجموع شرح المهذب، للإمام يحيى بن شرف النووي، طبعة دار الفكر بيروت. المحصول في علم الأصول، لفخر الدين الرازي، طبعة مطبعة جامعة الأمير محمد بن سعود الإسلامية، تحقيق الدكتور طه جابر العلواني. مختصر المزني، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، طبعة دار المعرفة بيروت، وهو ملحق بالأم للشافعي. المستدرك على الصحيحين، للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله "الحاكم النيسابوري"، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، طبعة دار الكتب العلمية بيروت 1990. المستصفى من علم الأصول، للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، طبعة دار إحياء التراث العربي. مسند الإمام أحمد بن حنبل، طبعة دار المكتب الإسلامي ودار صادر بيروت، 1978. مسند أبو عوانة الإسفراييني، طبعة دار المعرفة. مسند أبي يعلي، للإمام الحافظ أحمد بن علي الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد، طبعة دار الثقافة العربية، 1992 دمشق بيروت. مصابيح السنة، للحسين بن محمود البغوي، طبعة دار المعرفة بيروت، تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي للإمام أحمد بن محمد الفيومي، طبعة المكتبة العلمية بيروت. المصنف، للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعائي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبعة المكتب الإسلامي بيروت، 1983. المصنف، لابن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، طبعة الدار السلفية الهند. معجم الأدباء لياقوت بن عبد الله الحموي، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت. معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، طبعة مركز مكتب الإعلام الإسلامي 1984.
المعجم الوسيط، قام بإخراجه الدكتور إبراهيم أنيس وجماعة، طبعة دار الفكر. مفاتيح العلوم، للإمام محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي، تحقيق إبراهيم الأبياري، طبعة دار الكتاب العربي بيروت 1984. مقدمة ابن الصلاح، لأبي عمرو بن الصلاح، طبعة دار الفكر دمشق، تحقيق الدكتور مصطفي ديب البغا. الملل والنحل، للشهرستاني "محمد بن عبد الكريم" طبعة دار المعرفة، تحقيق محمد سيد كيلاني. المنتقى، لأبي محمد بن عبد الله بن الجارود، طبعة مؤسسة الكتب الثقافية دار الجنان، تعليق عبد الله البارودي. المنخول من تعليقات الأصول، للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق الدكتور محمد حسين هيتو، طبعة دار الفكر دمشق،1980. الموطأ، للإمام مالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار إحياء التراث العربي، 1985. ميزان الأصول في نتائج العقول، للشيخ علاء الدين أبو بكر محمد بن أحمد السمرقندي، تحقيق الدكتور عبد الملك عبد الرحمن السعدي، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الدينية. نسمات الأسحار شرح إفاضة الأنوار، للإمام محمد بن عابدين الحنفي، طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر. نصب الراية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة 1407هـ. الهداية "شرح بداية المبتدي" للإمام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني، تحقيق محمد عدنان درويش، طبعة دار الأرقم بن أبي الأرقم. هدية العارفين، لإسماعيل باشا البغدادي، طبعة دار إحياء التراث العربي.
فهرس موضوعات الجزء الثاني
فهرس موضوعات الجزء الثاني: الموضوع الصفحة الباب الخامس: في المطلق والمقيد المبحث الأول: في حدهما 5 الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ 6 المبحث الثالث: في شرط حمل المطلق على المقيد 9 الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: فِي جَرَيَانِ مَا ذُكِرَ فِي تخصيص العام في تقييد المطلق 10 الباب السادس: في المجمل والمبين الفصل الأول: في حدهما 12 تعريف المجمل 12 تعريف المبين 13 الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي وُقُوعِ الْإِجْمَالِ فِي الْكِتَابِ والسنة 14 الفصل الثالث: في وجوه الإجمال 15 الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَا لَا إِجْمَالَ فِيهِ 16 الْفَصْلُ الخامس: في مراتب البيان للأحكام 23 الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحاجة 26 الباب السابع: في الظاهر والمؤول الفصل الأول: في حدهما 31 الفصل الثاني: فيما يدخله التأويل 32 الفصل الثالث: في شروط التأويل 34
الباب الثامن: في المنطوق والمفهوم المسألة الأولى: في حدهما 36 أقسام المنطوق 36 أقسام المفهوم 37 المسألة الثانية: في مفهوم المخالفة 38 المسألة الثالثة: في شروط القول بمفهوم الْمُخَالَفَةِ 40 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ 42 النوع الأول: مفهوم الصفة 42 النوع الثاني: مفهوم العلة 43 النوع الثالث: مفهوم الشرط 43 النوع الرابع: مفهوم العدد 44 النوع الخامس: مفهوم الغاية 45 النوع السادس: مفهوم اللقب 45 النوع السابع: مفهوم الحصر 46 النوع الثامن: مفهوم الحال 48 النوع التاسع: مفهوم الزمان 48 النوع العاشر: مفهوم المكان 48 الْبَابُ التَّاسِعُ: مِنَ الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ فِي النَّسْخِ المسألة الأولى: في حده 49 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَوُقُوعِهِ شرعا 52 الحكمة من النسخ 53 المسألة الثالثة: في شروط النسخ 55 الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ اعْتِقَادِ المنسوخ والعمل به 56 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّسْخِ أن يخلفه بدل 58 المسألة السادسة: في النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ 60 الْمَسْأَلَةُ السابعة: في جواز نسخ الأخبار 61 الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ والعكس ونسخهما معًا 63
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي وُجُوهِ نَسْخِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ 67 الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ 68 نسخ السنة بالقرآن 71 المسألة الحادية عشرة: في نسخ القول والفعل من السنة 72 المسألة الثانية عشرة: في القول في نسخ الإجماع والنسخ به 74 المسالة الثالثة عشرة: في القياس لا يكون ناسخا 76 المسألة الرابعة عشرة: في نسخ المفهوم 77 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ 79 المسألة السادسة عشرة: في النُّقْصَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا 83 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كون الناسخ ناسخا 84 المقصد الخامس: من مقاصد هذا الكتاب في الْقِيَاسُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ 89 الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي حُجِّيَّةِ القياس 91 الأدلة من القرآن الكريم 95 الأدلة من السنة المطهرة 99 الأدلة من الإجماع 102 الفصل الثالث: في أركان القياس 104 شروط القياس المعتبرة في المقيس عليه 105 مباحث العلة 109 الشروط المعتبرة في العلة 111 ما لا يعتبر من الشروط في العلة 113 القول في تعدد العلل 115 شروط المقيس "الفرع" 116 الفصل الرابع: في الكلام عن مسالك العلة 116 المسلك الأول: الإجماع 117 المسلك الثاني: النص على العلة 118 المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه 121 الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 124
المسلك الخامس: السبر والتقسيم 124 المسلك السادس: المناسبة 127 أقسام المناسب من حيث الظن واليقين 129 انقسام المناسب إلى حقيقي وإقناعي 129 انْقِسَامُ الْمُنَاسِبِ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ وَعَدَمِهَا إِلَى ثلاثة أقسام 132 انْقِسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَعَدَمُهُ وَالْمُلَاءَمَةُ وعدمها 134 المسلك السابع: الشبه 136 الخلاف في حجيته 137 المسلك الثامن: الطرد 138 المسلك التاسع: الدوران 140 المسلك العاشر: تنقيح المناط 141 المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط 142 الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ 143 حكم جريان القياس في الأسباب 144 القياس في الحدود والكفارات 144 الفصل السادس: في الاعتراضات 146 الاعتراض الأول: النقض 147 الاعتراض الثاني: الكسر 149 الاعتراض الثالث: عدم العكس 151 الاعتراض الرابع: عدم التأثير 151 الاعتراض الخامس: القلب 153 الاعتراض السادس: القول بالموجب 156 الاعتراض السابع: الفرق 157 الاعتراض الثامن: الاستفسار 158 الاعتراض التاسع: فساد الاعتبار 158 الاعتراض العاشر: فساد الوضع 159 الاعتراض الحادي عشر: المنع 160 الاعتراض الثاني عشر: التقسيم 161 الاعتراض الثالث عشر: في اختلاف الضابط بين الأصل والفرع 161 الاعتراض الرابع عشر: في اختلاف حكمي الأصل والفرع 162 الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ مَا يَدَّعِيهِ المستدل علة لحكم الأصل 162 الِاعْتِرَاضُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عليته علة 162 الاعتراض السابع: القدح في المناسبة 163
الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقَدْحُ فِي إِفْضَائِهِ إِلَى المصلحة المقصودة من شرع الحكم له 163 الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعَ عَشَرَ: كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ ظَاهِرٍ 163 الِاعْتِرَاضُ الْمُوفِي عِشْرِينَ: كَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ 163 الاعتراض الحادي والعشرون: المعارضة 164 أقسام المعارضة 164 الاعتراض الثاني والعشرين: سؤال التعدية 166 الاعتراض الثالث والعشرون: سؤال التركيب 167 الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ به في الفرع 167 الاعتراض الخامس والعشرون: المعارضة في الفرع 167 الاعتراض السادس والعشرون: المعارضة في الوصف 167 الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ فِي الأصل والفرع 168 الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ الْمُخَالَفَةَ بين حكم الأصل وحكم الفرع 168 الفائدة الأولي: في لزوم إيراد الأسئلة مرتبة 168 الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إلى غيره 170 الفائدة الثالثة في الفرض والبناء 170 الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ 171 الفائدة الخامسة: في السؤال والجواب 171 الفصل السابع: في الاستدلال 172 البحث الأول: في التلازم 172 البحث الثاني: في الاستصحاب 174 البحث الثالث: في شرع من قبلنا وفيه مسألتان 177 المسألة الأولى: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَبِّدًا قبل البعثة بشرع أم لا؟ 177 المسألة الثانية: هل كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ 179 البحث الرابع: الاستحسان 181 البحث الخامس: المصالح المرسلة 184 فوائد تتعلق بالاستدلال 187 الفائدة الأولى: في قول الصحابي 187 الفائدة الثانية: الأخذ بأقل من قيل 189 الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل أم لا؟ 191 الفائدة الرابعة: سد الذرائع 193 الفائدة الخامسة: دلالة الاقتران 197
الفائدة السادسة: دلالة الإلهام 199 الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 202 الْمَقْصِدُ السَّادِسُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي الاجتهاد والتقليد الفصل الأول: في الاجتهاد 205 المسالة الأولى: في حده 205 الشروط الواجب توافرها في المجتهد 206 موضع الاجتهاد 211 المسلة الثانية: هل يجوز خلو العصر من المجتهدين أم لا؟ 211 المسألة الثالثة: في تجزُّؤ الاجتهاد 216 المسالة الرابعة: في جواز الاجتهاد للأنبياء 217 الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 221 الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِيمَا يَنْبَغِي لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَهُ في اجتهاده ويعتمد عليه 224 الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي كُلُّ مُجْتَهِدٍ فيها مصيب 227 الفرع الأول: العقليات وهي على أنواع 227 الفرع الثاني: المسائل الشرعية 230 الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَسَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا قَاطِعَ بها 231 المسألة الثامنة: أنه لا يجوز أن يكون للمجتهد في مسألة واحدة قولان متناقضان في وقت وحد 235 المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد 237 الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّقْلِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من أحكام المفتي والمستفتي 239 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَدِّ التَّقْلِيدِ وَالْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي 239 المسألة الثانية: في حكم التقليد في أصول الدين 241 المسالة الثالثة: في حكم التقليد في المسائل الشرعية الفرعية 243 المسألة الرابعة: في حكم إفتاء المقلد 247 المسألة الخامسة: في حكم سؤال العالم بالكتاب والسنة 250 المسالة السادسة: في حكم الالتزام بمذهب معين 252
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ: مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْكِتَابِ فِي التعادل والترجيح الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَاهُمَا وَفِي الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ وفي شروطه 257 المبحث الثاني: في عدم التعارض بين دليلين قطعيين 260 عمل المجتهد عند العجز عن الترجيح 262 الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: فِي وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ 263 أنواع الترجيح 264 الترجيح باعتبار الإسناد 264 القول في الترجيح باعتبار المتن 268 الترجيح باعتبار المدلول 270 الترجيح بحسب الأمور الخارجة 271 الترجيح بين الأقيسة 273 التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ 276 التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ للحكم 277 الترجيح بحسب دليل الحكم 278 الترجيح بحسب كيفية الحكم 279 الترجيح بحسب الأمور الخارجة 280 الترجيح بحسب الفرع 280 الترجيح بحسب الحدود السمعية 281 خاتمة لمقاصد هذا الكتاب: وفيها مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلِ الْأَصْلُ فِيمَا وَقَعَ الخلاف الإباحة أو المنع أو الوقف 283 المسألة الثانية: في وجوب شكرا المنعم عقلا 287
الفهارس فهرس الآيات القرآنية 291 فهرس أطراف الأحاديث النبوية 308 فهرس الأعلام المترجمين 319 فهرس الكتب الوارد ذكرها في المتن 342 فهرس الفرق 351 فهرس الآبيات الشعرية والأمثال العربية 353 فهرس الأماكن والبلدان 354 فهرس مراجع التحقيق 355 فهرس موضوعات الجزء الثاني 360