أجوبة محققة عن أسئلة مفرقة

ابن عابدين

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، آمين (وبعد: فيقول الفقير محمد أمين بن عابدين- عُفِيَ عنه- آمين: وقعت حادثة الفتوى، أرسلت من طرابلس الشام في واقف أنشأ وقفه على نفسه، ثم من بعده، فعلى أولاده لصلبه للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم على أولاد كل، ثم على أولاد أولادهم مثل ذلك، ثم على أنسالهم وأعقابهم على الشرط والترتيب، على أن من مات منهم: عن ولد، أو ولد ولد عاد نصيبه إلى ولده، أو ولد ولده، ومن مات عقيما عاد نصيبه إلى من في درجته وذوي طبقته من أهل الوقف، يقدم الأقرب فالأقرب إلى الميت. ومن مات قبل الاستحقاق، وترك ولدا، أو ولد ولد، أو نسلا، أو عقبا استحق ما كان يستحقه والده إن لو كان حيا، ثم مات الواقف وأولاده، وانحصر بعض الوقف في بنت اسمها زينب، ولها ثلاثة أولاد: عبد القادر، وخديجة، وفاطمة. ماتت فاطمة في حياة أمها قبل استحقاق شيء من الوقف عن بنتها كاتبة، ثم ماتت خديجة في حياة أمها زينب بعد استحقاقها من الدرجة عن أولاد، ثم ماتت كاتبة في حياة جدتها زينب عن أولاد، ولم تستحق شيئا من الوقف، ثم ماتت زينب عن ابنها عبد القادر، وعن أولاد بنتها خديجة، وعن أولاد بنت بنتها فاطمة، فلمن يعود نصيبها؟ وإذا مات أحد من أهل درجة فاطمة فهل يستحق منه أولاد بنتها كاتبة لقيامهم مقامها؟ (فأجبت) بأنه يقسم نصيب زينب على ابنها عبد القادر، وعلى بنتها فاطمة للذكر مثل حظ الأنثيين، فما أصاب فاطمة يعطى لأولاد بنتها؛ لأنها ماتت قبل الاستحقاق، فيقومون مقام جدتهما، ولا شيء لأولاد خديجة؛ لأنها ماتت بعد الاستحقاق ممن في درجتها حقيقة، وشرط الواقف قيام الفرع مقام أصله لغير المستحق، ولا يقوم أولاد بنت فاطمة مقامها فيما كان يئول إلى فاطمة من الدرجة لو كانت حية؛ لأن صاحب الدرجة الجعلية يقوم مقام أصله فيما يستحقه أصله من أصوله لو كان حيا، لا فيما كان يستحقه من غيرهم، كمن مات عقيما عن: أخ، وأولاد أخ مات أبوهم قبل الاستحقاق، فلا شيء لأولاد الأخ، فهنا كذلك، والله أعلم. (ثم أرسل إلينا السؤال) مع جوابه ثانيا، وفي ظهره جواب من شخص من بيروت، وجواب آخر من مفتي جاه، وجواب آخر من مفتي صيدا. حاصل الأول: أنه لا استحقاق لأولاد البنت، فضلا عن أولاد بنت بنتها، وإن نصيب زينب يختص به ولدها عبد القادر فقط؛ لأنه مرتب بثم. وحاصل الثاني: نعم لا يشاركه أحد؛ لأنه مرتب بثم، وقد قال في الدر المختار، نقلا عن الأشباه: إن عبر الواقف بثم لا يشارك، وإن عبر بالواو يشارك، والذي لأمثالنا اتباع ما نقلوه،

وصاحب الدر متأخر، لا نعول إلا عليه. وحاصل الثالث: كذلك؛ لأن أولاد بنت فاطمة لا يقومون مقامها؛ لأن لها بنتا وهي كاتبة، وقول الواقف: من مات قبل استحقاقه، وترك ولدا، أو ولد ولد قام مقامه، المراد به: أن ولد الولد يقوم مقام أصله إن لم يكن لأصله ولد، فولد الولد لا يقوم مقامه مع وجود الولد، هذا حاصل ما أجابوا به وكلهم مخطئون. أما الثالث: فلأن أولاد كاتبة لم يقوموا مقام فاطمة في حياة أمهم، بل لما ماتت فاطمة قامت بنتها كاتبة مقامها، ولما ماتت كاتبة قام أولادها مقامها، وهي كانت قائمة مقام أمها فاطمة، فيقومون مقامها أيضا؛ لأنه مقام أمهم، فيستحقون ما كانت أمهم تستحقه لو كانت حية؛ عملا بقول الواقف: قام مقامه واستحق ما كان يستحقه، أن لو كان حيا. (وقد) أجاب بنظير ذلك الشيخ خير الدين الرملي في سؤال في فتاويه، بعد نحو ثلاثة كراريس من كتاب الوقف أول السؤال، سئل من دمشق: فيما إذا وقف رجل وقفه على نفسه إلخ، فراجعه؟ (وأما جواب الأول: فلأنه مبني على رواية عدم دخول أولاد البنات في الأولاد، والمرجح دخولهم كما بسطه العلامة خير الدين الرملي في فتاواه قبل السؤال الذي قدمناه بنحو ستة أوراق. وأفتى في موضع آخر بعدم الدخول، والمسألة شهيرة الخلاف، (وفي الإسعاف الصحيح ما قاله هلال؛ لأن اسم ولد الولد كما يتناول أولاد البنين يتناول أولاد البنات، ورجحه ابن الشحنة بأن فيه نص محمد عن أصحابنا، وهم شيخاه، وقد انضم إليه أن في هذا الزمان لا يفهمون، ولا يقصدون سواه، وعليه عرفهم مع كونه حقيقة اللفظ، انتهى. (وأفتى به ابن نجيم، وذكر العلامة الحلبي أنه أفتى به قاضي القضاة نور الدين الطرابلسي، على ما اختاره الإمام الخصاف، وقال: وعليه عمل الناس في جميع مكاتيبهم القديمة والحديثة، وقوله: لأنه مرتب بثم، ووافقه المجيب الثاني، وزاد ما نقله عن الدر تأييدا لكلامه وكلام المجيب الأول، فيحتاج إلى بيان ليظهر العيان؛ (فنقول: إن ما نقله عن الدر معزوا للأشباه غير محرر؛ لأن حاصل ما في الأشباه أن الواقف إذا قال: على أنه من مات قبل استحقاقه لشيء، وله ولد قام مقامه لو بقي حيا، فهل له حظ أبيه، ويشارك الطبقة الأولى أو لا؟ وهل تنقض القسمة بعد انقراض كل بطن أو لا؟ أفتى الإمام السبكي بعدم المشاركة، وبنقض القسمة، وخالفه الإمام السيوطي في المشاركة، ووافقه في نقض القسمة، (وقال صاحب الأشباه: أما مخالفته فيما ذكر فواجبة، وأما موافقته في نقض القسمة فقد أفتى بها بعض علماء العصر، وعزوه للخصاف، ولم يتنبهوا للفرق بين مسألة الخصاف ومسألة السبكي، فإن مسألة الخصاف ذكرها بالواو، ومسألة السبكي بثم، فإن كان الواقف عبر في البطون بالواو تنقض

القسمة، وإن عبر بثم فلا، هذا خلاصة ما ذكره في الأشباه. فما ذكره من التفصيل إنما هو في نقض القسمة، أما في المشاركة فهو موافق للسيوطي على أن من بعده رد عليه هذا التفصيل حتى ألف فيه رسالة العلامة المقدسي، وذكرها العلامة الشرنبلالي في مجموع رسائله الستين. وحاصل ما ذكره المقدسي: أن الحق مع من أفتى بنقض القسمة، سواء عبر بالواو أو بثم، كما قاله السبكي والسيوطي والبلقيني، والعلامة قاسم، والجلال المحلي، وابن الشحنة، والبرهان الطرابلسي، والزبن الطرابلسي والشهاب الرملي الشافعي، والبرهان ابن أبي شريف، وعلاء الدين الإخميمي وغيرهم، وقد أطال في الرد على صاحب الأشباه. (وحيث علمت ذلك ظهر لك: أن عبارة الدر غير محررة، ولا تحتمل الصحة بوجه من الوجوه، فكيف يجعلها المجيب الثاني دليلا على ما قاله؟ وليته سكت، بل قال: ولا نعول إلا عليه، والعجب ممن يفتي بلا مراجعة ولا تأمل. (وقد أجاب الشيخ خير الدين الرملي بالمشاركة مع التعبير بثم، حيث سئل عما إذا عبر الواقف بثم، ومات أحد مستحقي الوقف عن ولد، وأولاد أولادٍ ماتوا في حياة أبيهم قبل استحقاقهم لشيء، فأجاب: يقسم استحقاق الميت على ولده الحي، وعلى أولاده الذين ماتوا في حياته، فما أصاب الحي أخذه، وما أصاب الميتين دفع لأولادهم؛ عملا بقوله: على أنه من مات منهم، ومن أولادهم، وأولاد أولادهم قبل استحقاقه لشيء، وترك ولدا، أو ولد ولد استحق ما كان يستحقه لو كان حيا إلخ، وهذا لا شبهة فيه انتهى كلام الرملي. ولا يمكن القول بنقض القسمة في مسألتنا، ولا في مسألة الرملي؛ لأن الطبقة الأولى لم تنقرض لبقاء عبد القادر في مسألتنا، (وحيث علمت ما قررناه ظهر لك أنه لا كلام في دخول أولاد الأولاد الذين مات آباؤهم قبل الاستحقاق، وفي مشاركتهم لمن فوقهم، وأنه لا فرق في ذلك بين التعبير بالواو أو بثم؛ لأن نص الواقف على قيامهم مقام أصولهم أبطل الترتيب المستفاد من ثم بالنظر إليهم، فإن مذهبنا العمل بالمتأخر. (قال الإمام الخصاف: لو كتب في أول المكتوب بعد الوقف لا يباع ولا يوهب، وكتب في آخره على أن لفلان بيع ذلك، والاستبدال بثمنه كان له الاستبدال من قبل أن الآخر ناسخ للأول، ولو كان على عكسه امتنع بيعه انتهى. (وقال الإمام السيوطي في تأييد المشاركة: ولا ينافي هذا اشتراطه الترتيب في الطبقات بثم؛ لأن ذاك عام خصصه هذا، كما خصصه أيضا قوله: على أن من مات عن ولد إلخ، وأيضا قلنا: إذا علمناه بعموم اشتراط الترتيب لزم منه إلغاء هذا الكلام بالكلية، وأنه لا يعمل في صورة ويبقى قوله: ومن مات قبل استحقاقه إلخ مهملا لا يظهر له أثر في صورة بخلاف ما إذا علمناه، وخصصنا به عموم الترتيب، فإن فيه إعمالا للكلامين وجمعا بينهما، وهذا أمر ينبغي

أن يقطع به انتهى، كلام السيوطي، نقله عنه في الأشباه والله سبحانه وتعالى أعلم. (وقد سئلت): عن رجل أوصى بوصايا، وأقام عليها وصيا، ثم مات مصرا عليها، وهي تخرج من ثلث ماله ومن جملة ما قال: ألف قرش لصلة الرحم للفقراء المستحقين منهم الأقرب فالأقرب، ووجد من أرحامه الفقراء عند موته، عمات لأبوين، وأولادهن وهم بالغون، وأولاد عم لأبوين، وأولاد أخ غني صغار، وابن أخت صغير، أبوه غني، وبنت بنت خالة أب، وابن ابن عم أب؟ (فأجبت): بأنه يعطي أولا للعمات الغير المتزوجات بغني نصابَ زكاة إن لم يكن لهن مال، أو يكمل لهن النصاب إن كان لهن مال دونه، ثم يعطي لأولادهن البالغين، وأولاد العم، فيعطون كذلك سوية؛ الذكر والأنثى سواء، ثم من يليهم في القرب، إن فضل من الوصية شيء، كذلك فقد قالوا: الوصية والوقف يستقيان من محل واحد. (قال الإمام الخصاف: الوصية بمنزلة الوقف، وقال أيضا: الأقربية معتبرة على حسب النسب لا على حسب المواريث، وقال أيضا: إن بنت الأخ لأبوين أولى من ابن ابن الأخ، والعم والعمة سواء. (وقال في الإسعاف: ولو قال على قرابتي وأرحامي، أو رحمي تصرف الغلة إلى قرابته الموجودين يوم الوقف، لا أبويه ولا أولاده لصلبه، ويدخل المحارم، وغيرهم من أولاد الإناث، وإن بعدوا عندهما، وعند أبي حنيفة: تعتبر المحرمية، والأقرب فالأقرب، انتهى. (والظاهر: أن المرجح قولهما لما قال الخصاف جازما به، وتبعه في الإسعاف: بنت العمة أولى من عمة أبيه ولو لأبويه، وبنت خالته أولى من خال أبيه، وابن ابن الخال أولى من خال أمه، وعم أمه انتهى ملخصا. وقد علم مما نقلناه وجه إعطاء العمات وإن كن غير وارثات، ووجه إعطاء أولادهن بعدهن، وإن كانوا غير محارم، ووجه مشاركة أولاد العم لهم وإن كانوا عصبات، (وقال الإمام الخصاف: لو قال لذوي أرحامه فالغلة لجميع قرابته من قبل أبيه وأمه، فلو قرابته من قبل أبيه أكثر من قرابته من قبل أمه، فالغلة بينهم على عددهم، ثم قال: الرجال والنساء سواء. انتهى. (وبه علم وجه قولنا سوية، وقال الإمام الخصاف: كل من كان له أن يأخذ الزكاة فهو عندي فقير، (وقال في الإسعاف: أوصى بثلث ماله للأحوج فالأحوج من قرابته، وكان في قرابته من يملك مائة درهم مثلا، وفيهم من يملك أقل منها، يعطى ذو الأقل إلى أن يصير معه مائة، ثم يقسم الباقي بينهم جميعا بالسوية، ثم قال: ولو قال على فقراء قرابتي الأقرب فالأقرب؛ يبدأ بأقربهم إليه بطنا، فيعطي كل واحد مائتي درهم، ثم يعطي الذي يليه كذلك حتى تفرغ الغلة، وهذا استحسان، وفي القياس تعطى الغلة كلها للبطن الأقرب منه، ولا يعطى لمن بعده شيء انتهى. وصرحوا بأن

(وسئلت) عن واقفة وقفت حصصا معلومة

العمل على الاستحسان دون القياس إلا في مسائل، وبه علم وجه قولنا: نصاب زكاة، وقولنا: أو يكمل لهن النصاب إلخ، (وقال في الإسعاف: الأصل أن الصغير إنما يعد غنيا بغنى أبويه، أو جديه من جهة أبويه فقط، وأن الفقير والفقيرة يعدان غنيين بِغِنَى فروعهما وزوجها فقط، ولا يعد الفقير غنيا بغنى غيرهم من الأقارب، وهذا مذهب أصحابنا، ثم نقل عن الإمام الخصاف أنه اختار خلافه، ونقل عن الإمام هلال ردُّ ما قاله الإمام الخصاف، وبه علم وجه عدم إعطاء أولاد الأخ والأخت الغنيين، وإن كانوا أقرب من العمات، كما قال الإمام الخصاف: أولاد الإخوة ولو لأم وإن بعدوا يقدمون على الأعمام والعمات ولو لأبوين. ووجه قولنا: الغير المتزوجات بغني، ووجه قولنا: ثم يعطى لأولادهن البالغين إلخ إذ لو كانوا صغارا استغنوا بما يعطى لأمهاتهم، والله تعالى أعلم انتهى. تحريرا في أوائل ذي القعدة الحرام سنة 1230. (وسئلت) عن واقفة وقفت حصصا معلومة في عقارات كثيرة مشتركة بينها وبين جماعة وقفا مسجلا، ثم تقاسمت مع شركائها، وجمعت حصصها من العقارات المذكورة، وأخذتها في عقارين منها، فهل تصح هذه المقاسمة؟ (فأجبت): بأنها لا تنقض إن كان فيها مصلحة للوقف، كما في الإسعاف. (وسئلت) في جمادى الثانية سنة 1242 عن وقف، شرط واقفه فيه: أن من مات من الموقوف عليهم عن ولد، أو أسفل منه عاد نصيبه إلى ولده، أو الأسفل، ومن مات لا عن ولد، ولا أسفل منه عاد نصيبه إلى من في درجته، وذوي طبقته يقدم فيه الأقرب فالأقرب إلى المتوفى. مات الآن مستحق من أهل الوقف، وليس في درجته أحد، وتحته درجات متناولون بشرط الواقف، وفيهم شخص أقرب إلى المتوفى من غيره فلمن يعود نصيبه؟ (فأجبت): بأنه يعود إلى أصل الغلة، ويقسم بين جميع المستحقين لا إلى أعلى الدرجات، كما أفتى به بعضهم ولا إلى الأقرب إليه، كما أفتى به آخرون، واستندت في ذلك إلى الخصاف، والإسعاف، والدر المختار، وقد أوضحت هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابي: " تنقيح الحامدية "؛ فراجعها هناك لكي ترى العجب، فإن من أفتى بخلاف ذلك لم يستند إلى نقل، ولا عبرة بالعقل مع النقل، والله تعالى أعلم. (وسئلت من طرابلس في رجب سنة 1244): عن واقف شرط في وقفه شروطا، منها: أنه جعل ولاية النظر في وقفه لنفسه مدة حياته، ثم لمن أوصى إليه في ذلك، فإن لم يكن أوصى لأحد يكون النظر للأرشد فالأرشد من نسبه، ثم للشيخ إسماعيل الخطيب، ثم للسيد عبد الغني، ثم لمن أوصى إليه السيد عبد الغني، ثم لوصي وصيه، ثم لمن أوصى إليه وصي وصيه وهكذا. مات الواقف، وقد كان سلم وقفه للشيخ إسماعيل، ثم إن الشيخ إسماعيل ادعى عند القاضي العجز عن القيام بالوقف، ففرغ عن ذلك لأخي الواقف وعمه، وهما زيد وعمرو،

(وسئلت) في ذي الحجة الحرام سنة 1241 عن ذمي تشاجر مع مسلم

وقررهما القاضي في ذلك، وكتب لهما حجة مضى لها نحو ثلاثين سنة، ثم إن عبد الغني قبيل وفاته أوصى بالنظر قبل أن يصل إليه إلى بكر، قام بكر ينازع زيدا وعمرا في ذلك قائلا: إن الواقف لم يجعل الإيصاء بالنظر للشيخ إسماعيل، بل جعله للسيد عبد الغني، وإن السيد عبد الغني قد أوصى لبكر على وفق شرط الواقف، هذا خلاصة السؤال؟ وقد أرسل إلينا مع السؤال ورقة كتب فيها صورة أجوبة عنه من مفتي طرابلس، ومن مفتي حمص، ومن مفتي دمشق الشام سابقا، اتفقت كلها على أن الولاية لبكر، وأن من أوصى لهما الشيخ إسماعيل لا حق لهما في النظر. (وقد ظهر لي في الجواب خلاف هذا، وذلك: أن الواقف إنما جعل النظر للأرشد من نسبه، ثم للشيخ إسماعيل، ثم للسيد عبد الغني، ثم لوصي عبد الغني إلخ معلقا على شرط عدم الإيصاء من الواقف لأحد؛ لأنه قال: فإن لم يكن أوصى لأحد يكون للأرشد من نسبه، ثم للشيخ إسماعيل ثم وثم، فحيث علق ذلك على هذا الشرط فهم منه: أنه إن أوصى لأحد لا يكون الحكم كذلك، بل يكون شيئا آخر سكت عنه الواقف سهوا أو عمدا، ولا يمكن أن يجعل الحكم فيما إذا أوصى لأحد، كما إذا لم يوص؛ لأن مفهوم الشرط وغيره من المفاهيم معتبر في كلام الواقفين، وحينئذ فإن كان الواقف أوصى للشيخ إسماعيل صار الشيخ إسماعيل ناظرا، ويصح فراغه عن النظر لمن أراد؛ لأنه وصي الواقف وقائم مقامه، فالمفروغ لهما يصيران ناظرين ما داما حيين، وبعدهما ينصب القاضي من أقارب الواقف من رآه أهلا، فإن لم يوجد منهم أهل فمن الأجانب. وأما عبد الغني فليس له حق في النظر، ولا لوصيه من بعده؛ لما علمت من أن حق عبد الغني وغيره مشروط بما إذا لم يكن الواقف أوصى لأحد، وأما إن كان الواقف سلم النظر للشيخ إسماعيل ولم يوص له بذلك يصير ناظرا مدة حياته، وبعد موته يكون النظر للأرشد من نسب الواقف. (ونسب) الرجل: كل من يجتمع معه في أقصى أب له في الإسلام من جهة الأب دون الأم، فمن كان علويا -مثلا - فنسبه كل من يجتمع معه في علي من جهة الآباء، فإذا عجز الشيخ إسماعيل، وقرر القاضي المأذون له بذلك كلا من أخي الواقف وعمه صح؛ إن كانا أرشد من يوجد من نسب الواقف، وإلا فيقرر الأرشد من النسب، وأما عبد الغني، ووصيه فلا حق لهما مادام من نسب الواقف أهل للنظر؛ لتأخير الواقف لهما عن نسبه، هذا ما ظهر لي في الجواب، والله تعالى أعلم بالصواب. (وسئلت) في ذي الحجة الحرام سنة 1241 عن ذمي تشاجر مع مسلم، فقال له المسلم: يا كافر، فقال الذمي: لست بكافر، فقال له المسلم: قل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، فأجابه قائلا: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر. فقال له المسلم: الرسل كثيرون فأجابه كلهم بحضور

بينة من المسلمين، فهل يحكم بإسلامه أم لا؟ أفيدوا الجواب ولكم الثواب. (فأجبت) بقولي: الحمد لله تعالى، لا يحكم بإسلام الذمي المذكور بمجرد هذا الكلام، أما قوله: لست بكافر فلأنه يعتقد أنه مؤمن بنبيه وبكتابه، ويعتقد أن من لم يكن على دينه فهو كافر غير مهتد؛ لقوله تعالى: {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا}؛ أي قالت اليهود: كونوا هودا، وقالت النصارى: كونوا نصارى، ولقوله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء}. الآية. ثم لا شك أن الكتب الإلهية يصدق بعضها بعضا، وكذلك الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وكل الكتب والرسل آمرة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاليهود والنصارى مؤمنون بذلك؛ لأنهم أهل كتاب منزل، ونبي مرسل، لكنهم أنكروا رسالة نبينا محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم-، وإنزال القرآن عليه، فهم كفار بسبب ذلك. وإن كان اعتقادهم أنهم على الهدى، فإذا قال القائل منهم: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله لا يلزم منه أن يكون مؤمنا بنبينا وبكتابنا؛ لأنه لا يعتقد أن نبينا -صلى الله تعالى عليه وسلم - من رسل الله، وأن كتابنا من كتب الله، ونحن لم نكفره إلا لهذا الاعتقاد الباطل. ولو صرح بقوله: آمنت بجميع الرسل كلهم؛ فمراده: الرسل الذين يعتقد هو أنهم رسل الله، فلا يدل ذلك على إيمانه برسولنا -صلى الله تعالى عليه وسلم -؛ لاعتقاده عدم رسالته، (على أنه لو أتى بالشهادتين صريحا لا يحكم بإسلامه ما لم يتبرأ عن دينه، كما صرح به الجم الكثير من أئمتنا الحنفية، ونقله الإمام الطرسوسي في أنفع الوسائل عن الخانية، والذخيرة، والبدائع، والمحيط، والتتمة، وسير الملتقى، وشرح مختصر الطحاوي، وشرح السير الكبير، ونقل عبارات هذه الكتب، وأطال في ذلك، فراجعه إن شئت، وعزاه في باب المرتد من الدر المختار إلى الدرر، وفتاوى صاحب التنوير، وابن نجيم وغيرهما. (نعم) نقل عن فتاوى قارئ الهداية أنه قال: والذي أفتي به صحته بالشهادتين بلا تبرؤ، لكن ذكر في الفتاوى الحامدية أن قارئ الهداية لم يتابع على ذلك، أي؛ لأن من بعده كصاحب التنوير، وابن نجيم وغيرهما خالفوه، واشترطوا التبري اتباعا للمنقول في كتب المذهب، ولا بد من ذكر نبذة يسيرة، ليكون السامع على بصيرة، فنقول: قال في الذخيرة: إذا قال اليهودي والنصراني: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لا يحكم بإسلامه ما لم يقل: تبرأت عن ديني، ودخلت في دين الإسلام؛ لأن اليهودي قد يتبرأ من اليهودية، ويدخل في النصرانية، أو المجوسية، فيجوز أنه تبرأ عن اليهودية لدخوله في النصرانية لا في الإسلام. وعن بعض المشايخ إذا قيل لنصراني: أمحمد رسول الله بحق؟ فقال: نعم. لا يصير مسلما وهو الصحيح؛ لأنه يمكنه أن يقول: إنه رسول الله بحق إلى العرب والعجم

(وسئلت) سنة 1246 عن: رجل أوصى بألف، يخرج منها تجهيزه وتكفينه

لا إلى بني إسرائيل، وإذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم، أو قال: أسلمت، لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم يدعون ذلك لأنفسهم؛ لأن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له، وهم يدعون أن الحق ما هم عليه، فلا يكون مطلق هذا اللفظ دليل الإسلام في حقهم. انتهى ما في الذخيرة باختصار. وقد حقق هذا المقام بما لا مزيد عليه الإمام شمس الأئمة السرخسي في شرحه على السير الكبير للإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في آخر الكتاب في باب ما يكون به الرجل مسلما، فليراجعه من أراده، والله سبحانه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (وسئلت) سنة 1246 عن: رجل أوصى بألف، يخرج منها تجهيزه وتكفينه، والباقي يعمل بها مبرات، وأوصى لزيد بخمسمائة، ولعمارة مسجد كذا بخمسمائة، ولمسجد كذا بخمسمائة، وله مملوك قيمته خمسمائة، أعتقه في مرض موته، وأوصى له بألف وخمسمائة وخمسين، وبلغ ثلث تركته (3800)، وبلغت نفقه تجهيزه (300) فكيف تقسم؟ (فأجبت): بأن التجهيز والتكفين يخرج من أصل المال، والباقي يحسب من الوصية، فيكون الباقي لعمل المبرات سبعمائة، ويكون جملة الوصية (4250)، وقد ضاق الثلث عنها فينفذ الثلث فقط، وهو ثلاثة آلاف وثمانمائة، والعتق المنجز في مرض الموت مقدم على غيره، فيبدأ به أولا، فيخرج من الثلث المذكور قيمته خمسمائة، يبقى من الثلث (3300)، تقسم على أرباب الوصايا من غير تقديم لأحد على أحد، أما زيد والمملوك؛ فلأنهما معينان، وأما المسجدان فهما معينان أيضا، فصارت الوصية لهما بمنزلة الوصية للعبد المعين، فيما يظهر لي بخلاف الوصية للمبرات فإنها حق الله تعالى، ليس لها مستحق معين، لكنها جنس واحد فلا يقدم فيها شيء على شيء، بخلاف ما إذا كانت من أجناس كالوصية للحج، والكفارات، والمبرات، فإنه يقدم فيها الفرض، ثم الواجب، ثم التطوع على ما تقرر في محله، وح فيقسم الباقي من الثلث على سهام، والوصايا وهي خمسة وسبعون سهما، كل سهم منها خمسون قرشا؛ لأن جملة الوصية (4250)، فأخرج منها أولا (500) قيمة المملوك، فصار الباقي (3750)، وسهامها ما ذكرنا. وإذا قسم (3300) الباقية من الثلث على خمسة وسبعين سهما، يخرج كل سهم أربعة وأربعين قرشا، فالوصية للمبرات، كانت (700)، وهي أربعة عشر سهما يخصها (616)، ووصية كل من زيد والمسجدين كانت (500)، فتكون كل واحدة عشرة أسهم، فيخص كل واحدة أربعمائة وأربعون، ووصية المملوك كانت (1550)، وهي إحدى وثلاثون سهما، فيخصها (1364)، والحاصل: أن كل سهم خمسون وكل سهم ينقص منه ستة قروش، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(وسئلت) من نابلس في رمضان سنه 1248: عمن له على ميت دين

فزيد كان له (500) ينقص منها (60)، يبقى له (440)، والمسجدان كان لهما (1000) ينقص منها (120)، يبقى لهما (880)، والمملوك كان له (1550) ينقص منها (186)، يبقى له (1364)، والمبرات كان لها (700) تنقص (84)، يبقى لها (616)، فالمجموع (3300). (وسئلت) من نابلس في رمضان سنه 1248: عمن له على ميت دين، فبرهن على دينه ببيان السبب، فطلب الوارث من البينة أن يشهدوا ببقاء الدين بذمة الميت إلى أن توفي فهل يلزم الشهود ذلك أم لا؟ (فأجبت): قد وقع في هذه المسألة اضطراب، واختلاف آراء بين العلماء، والذي مشى عليه صاحب البحر: أنه لا بد أن يقول الشاهد: إنه مات وهو عليه، لكن خالفه تلميذه الغزي في منح الغفار، ونقل عن معين الحكام: أنه لا يشترط ذلك، وصرح العلامة المقدسي في شرحه على نظم الكنز بأن الأول ضعيف، وقوى الثاني بأنه الاحتياط في أمر الميت في وفاء دينه الذي يحجبه عن الجنة، وفي الأول تضييع حقوق أناس كثيرين لا يجدون من يشهد لهم على هذه الوجه، ويكفي في الاحتياط تحليف المدعي على بقاء دينه بذمة الميت، وذكر قريبا من ذلك صاحب نور العين في إصلاح جامع الفصوليين، والحاصل: أن المعتمد أنه لا يلزم الشاهدين ذلك، ويكتفي بحلف المدعي، والله سبحانه وتعالى أعلم. (وسئلت) في ذي الحجة سنة 1251 من نائب القدس الشريف: قد توقفنا في جواب من أفتى بأن التمليك يحتاج إلى التسليم كالهبة، واختلف إفتاء المفتين في بلادنا؛ فبعضهم أفتى بأنه لا يحتاج إلى التسليم، معتمدا في ذلك على ما صرح به الطحطاوي في حاشيته، عن الحموي في فصل مسائل متفرقة من الهبة فيمن وهب أمة، وبعضهم أفتى بأنه يحتاج إليه مثل الهبة، معتمدا في ذلك على ما يؤخذ من الفتاوى الخيرية، والتمرتاشية، والرحيمية في كتاب الهبة، من أنه لا فرق بين التمليك والهبة مع أن كلام الحموي في شرحه صريح في أنه غير الهبة. هذا حاصل السؤال؟ (فأجبت) بقولي: لا يخفى أن التمليك لفظ مشترك بين ما يكون بعوض وما يكون بدونه، وأن كلا منهما قد يكون تمليك عين، أو تمليك منفعة، فالأول: كالبيع، فإنه تمليك المال بعوض، وكالإجارة فإنها تمليك المنفعة بعوض، وكذا النكاح فإنه تمليك البضع بعوض، لكنه تمليك حكما، والثاني: كالهبة فإنها تمليك العين حالا بلا عوض، ومثلها الصدقة وكالوصية فإنها تمليك العين بعد الموت بلا عوض، وكذا العارية فإنها تمليك المنفعة بلا عوض، ولا شبهة أن هذه العقود مختلفة الأحكام، ولكل واحد منها شروط بعضها مشترك وبعضها مختص، بحيث حصل بينهما التباين، فإذا استعْمل لفظ التمليك في واحد منها

(وسئلت في محرم الحرام سنة أربعين ومائتين وألف): في رجل طلق زوجته المدخول بها ثلاثا في الحيض

فلا بد من قرينة لفظية، أو خالية تعين المراد، فإذا قال: ملكتك بضع أمتي بكذا فهو نكاح، فيشترط له شروط النكاح، وإذا قال: ملكتك منافعها شهرا بكذا فهو إجارة، وإذا أطلق فهو عارية، وإذا قال: ملكتكها بكذا فهو بيع، وإذا قال: ملكتكها بعد موتي فهو وصية، وإذا قال: ملكتكها الآن بلا عوض فهو هبة، ولا بد في كل واحد منها من شروطه؛ لترتيب الأحكام عليه، ولم نر أحدا من الفقهاء استعمل لفظ التمليك في معنى خاص، بحيث إذا أطلق انصرف إليه، أو بحيث يكون له أحكام خارجة عن أحكام العقود المذكورة ونحوها. فإذا قال: ملكتك رقبة هذه الدار، وأراد إنشاء التمليك في الحال على معنى خارج عن البيع أو الهبة أو نحوهما لا يصح التمليك، بل إن أراد البيع فلا بد من ذكر الثمن، وإن أراد الهبة فلا بد من التسليم، ولذا قال في آخر جامع الفصولين: إنه لو قال: ملكه تمليكا صحيحا، ولم يذكر أنه بعوض أو بدونه لا تصح الدعوى. ونقله أيضا في محاضر الخيرية، وبه أفتى في الحامدية، نعم غلب استعمال لفظ التمليك في عرف أهل زماننا في الهبة، فإذا أطلق ولم توجد قرينة صارفة له عن الهبة حمل عليها بقرينة العرف، فحيث أريد به الهبة فلا بد من شروطها، ولا تتم بدون تسليم. وعليه يحمل ما نقلتموه عن الخيرية والتمرتاشية والرحيمية، وما نقلتموه عن السيد الحموي: من أن التمليك غير الهبة، فذاك بالنظر إلى أصل الوضع إذ لا شك أن التمليك أعم من لفظ الهبة، والأعم غير الأخص، ومن ادعى أن التمليك يفيد الملك من غير أن يكون بيعا ولا هبة مثلا، فلا بد له من نقل صريح، ولم نر من ذكره، ومن عثر عليه في كلامهم، فليفده لنا وله الأجر الجزيل. هذا غاية ما وصل إليه فهم هذا الحقير الذليل، وفوق كل ذي علم عليم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (وسئلت في محرم الحرام سنة أربعين ومائتين وألف): في رجل طلق زوجته المدخول بها ثلاثا في الحيض، بأن قال لها: روحي طالقة ثلاثا، فهل لا يقع غير طلقة واحدة، كما نص على ذلك العلامة ابن كمال باشا في فتاواه، نقلا عن كتاب السير، وكمال الفقهاء؟ أم يقع عليه الطلاق الثلاث؟ وإذا قلتم: إنه لا يقع عليه إلا واحدة، أفتكون رجعية أم بائنة؟ أفيدوا الجواب، ولكم الثواب من الملك الوهاب. (فأجبت): بما صورته الحمد لله تعالى، يقع عليه الطلاق الثلاث، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، كما نطق به القرآن الكريم من غير تفرقة بين كونها حائضا أو غيرها، ودلت عليه الأخبار والآثار، وصرحت به كتب مذاهب الأئمة الأربعة الأخيار، وانعقد عليه الإجماع بعد صدر من الصدر الأول، ولم يقل بخلافه الآن إلا من لا يعول على قوله ولا يقبل، ففي الخلاصة، وكثير من كتب علمائنا التي لا تعد لو قضى القاضي فيمن (¬1) ¬

(¬1) (35) رسائل ابن عابدين

طلق امرأته ثلاثا جملة بأنها واحدة، أو بأن لا يقع شيء لا ينفذ، (وفي الزيلعي وغيره في كتاب القضاء: أن القضاء بمثل ذلك لا ينفذ بتنفيذ قاض آخر، ولو رفع إلى ألف حاكم ونفذه؛ لأن القضاء وقع باطلا؛ لمخالفته الكتاب والسنة والإجماع فلا يعود صحيحا بالتنفيذ انتهى. وقال المحقق الكمال ابن الهمام: وقول بعض الحنابلة بهذا المذهب باطل إلى أن قال: فما بعد الحق إلا الضلال، وقال الخطيب الشربيني من الشافعية، وحكى عن الحجاج بن أرطاه، وطائفة من الشيعة والظاهرية أنه لا يقع منها، أي: الثلاثة إلا واحدة، واختاره من المتأخرين من لا يعبأ به، واقتدى به من أضله الله تعالى انتهى. نقله في الفتاوى الخيرية، وأفتى ببطلان القول به أيضا. وقال في البحر في أول كتاب الطلاق: ولا حاجة إلا الاشتغال بالأدلة على رد قول من أنكر وقوع الثلاث جملة؛ لأنه مخالف للإجماع كما حكاه في المعراج، ولذا قالوا: لو حكم حاكم بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه؛ لأنه لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ لأنه خلاف لا اختلاف. وفي جامع الفصولين طلقها وهي حبلى أو حائض، أو طلقها قبل الدخول، أو أكثر من الواحدة، فحكم ببطلانه قاض، كما هو مذهب البعض لا ينفذ، وكذا لو حكم ببطلان طلاق من طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، أو في طهر جامعها فيه لا ينفذ، انتهى إلى هنا كلام البحر. (وقد صرح أيضا ببطلان الحكم في هذه المسائل في البحر في كتاب القضاء، وكذا في النهر والمنح والأشباه والنظائر والبزازية، وغيرها من كتب المذهب المعتبرة المتداولة المحررة، وأوضحها وأفصحها وأبينها وأصرحها عبارة الإمام الأجل، الذي أذعن لفضله أهل الوفاق والخلاف: القاضي أبو بكر الخصاف في كتابه " أدب القضا"، وشارحه الإمام حسام الدين عمر بن عبد العزيز، وذلك حيث قال في الباب الثاني والأربعين: قال -يعني الإمام الخصاف-: وكذلك رجل طلق امرأته ثلاثا، وهي حبلى، أو حائض، أو قبل أن يدخل بها، فقضى قاض بإبطال ذلك، أو أبطل بعضه، فرفع إلى قاض آخر لا يرى ذلك؛ فإنه يبطل قضاء القاضي بذلك، وينفذ على الزوج ما كان منه؛ لأن على قول أهل الزيغ إذا وقع الثلاث وهي حبلى، أو في حالة الحيض، أو في طهر جامعها فيه لا يقع أصلا. وعلى قول الحسن البصري: إذا وقع الثلاث تقع واحدة، لكن كلا القولين باطل؛ لأنه مخالف لكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد}. الآية، من غير فصل، والمراد منه الطلقة الثالثة. فمن قال: بأنه لا يقع شيء، أو تقع واحدة فقد أثبت الحل للزوج الأول بدون الزوج الثاني، وهو مخالف للكتاب، فإذا قضى القاضي لا ينفذ، فإذا رفع إلى قاض آخر له كان أن يبطله انتهى. وبهذه النقول الصريحة

(وسئلت) في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف: عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبا

علمت أن القول بوقوع واحدة من الثلاث على الحائض مبني على القول بأن الثلاث لا تقع جملة واحدة، بل تقع منها واحدة، أو لا يقع منها شيء أصلا، والمَبْنِيُّ والمُبْنَى عليه باطلان، وليس كل ما وجد في كتاب يجوز نقله والاعتماد عليه، ولا الإفتاء والقضاء به، وإنما يفتى بما تواردت عليه كتب المذهب، وعلمت صحته، وعدم تخطئة قائله، وإلا كان الناقل كجارف سيل، أو حاطب ليل يحمل الأفعى وهو لا يدرى، خصوصا من يطالع كتب الفتاوى، ويفتي منها قبل أن يمتزج الفقه بدمه ولحمه، ويصرف فيه جل همته وعزمه، فإن خطأه يكون أكثر من صوابه، ولا يحل لمن يعلم حاله الاعتماد على جوابه. ولهذا قال الإمام قاضي القضاة: شمس الدين الحريري أحد شراح الهداية في كتابه " إيضاح الاستدلال على إبطال الاستبدال"، نقلا عن الإمام صدر الدين سليمان: إن هذه الفتاوى هي اختيارات المشايخ فلا تعارض كتب المذهب، قال: وكذا كان يقول غيره من مشايخنا، وبه أقول انتهى. (وقال العلامة الشيخ خير الدين الرملي في مسائل شتى من فتاويه الخيرية ما نصه: ولا شك أن معرفة راجح المختلف فيه من مرجوحه، ومراتبه قوة وضعفا هو نهاية آمال المشمرين في تحصيل العلم، فالمفروض على المفتي والقاضي التثبت في الجواب، وعدم المجازفة فيهما؛ خوفا من الافتراء على الله بتحريم حلال وضده، ويحرم اتباع الهوى، والتشهي، والميل إلى المال الذي هو الداهية الكبرى والمصيبة العظمى؛ فإن ذلك أمر عظيم لا يتجاسر عليه إلا كل جاهل شقي. انتهى كلام الخيرية، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. (قال ذلك بلسانه، وكتبه ببنانه الفقير إلى عفو رب العالمين محمد أمين بن عمر عابدين، خادم العلم الشريف بدمشق الشام عفا عنه الملك السلام. (وسئلت) في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف: عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبًا من مراكب أهل الحرب؛ لحمل بضائعهم وتجاراتهم، ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة، وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة؛ لحفظ البضائع بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها، وأنه إن أخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا كذلك، ودفع له مبلغا تراضيا عليه، على أنه إن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامنا لجميع ما يأخذونه، فسافر بمركبه، فأخذه منه بعض القطاع في البحر من أهل الحرب، فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه، وضمانه بالعوض أم لا؟ (فأجبت): الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان؛ لأن ذلك المراكبي أجير

مشترك، والخلاف في ضمان الأجير المشترك مشهور، والمذهب أنه لا يضمن ما هلك في يده، وإن شرط عليه الضمان، وبه يفتى كما في التنوير، ثم إذا هلك ما بيده بلا صنع منه، ولا يمكنه دفعه والاحتراز عنه، كالحرق، والغرق، وخروج قطاع الطريق، والمكابرين لا يضمن بالاتفاق، لكنه في مسألتنا: لما أخذ أجرة على الحفظ بشرط الضمان صار بمنزلة المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة، فإنها إذا هلكت يضمن. والفرق بينه وبين الأجير المشترك: أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، والحفظ واجب عليه تبعا. أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصودا ببدل؛ فلذا ضمن، كما صرح بذلك الإمام فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير، وهنا لما أخذ البدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا، صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل، فيضمن لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا، أو فيما يمكن الاحتراز عنه؟ والذي يظهر الثاني؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه، وقد صرحوا بأن إغارة القطاع المكابرين مما لا يمكن الاحتراز عنه، فلا يضمن في صورتها حيث كان أخذ البضاعة من القطاع المكابرين الذين لا يمكن مدافعتهم. (لكن ذكر في التنوير، قبيل باب كفالة الرجلين، قال لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن، فسلك، وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن ضمن، وعلله في الدر المختار عن الدرر بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا انتهى. أي بخلاف المسألة الأولى، فإنه لا يضمن؛ لأنه لم يصرح بقوله: فأنا ضامن، وهذا إذا كان المال مع صاحبه، وفي صورتنا: المال مع الأجير، وقد ضمن للمستأجر صفة السلامة نصا، فيقتضي ضمانه بالأولى، وإن لم يكن الاحتراز لكن الظاهر أن مسألة التغرير المذكورة مشروطة بما إذا كان الضامن عالما بخطر الطريق؛ ليتحقق كونه غارا وإلا فلا تغرير. وسياق المسألة في جامع الفصولين، في فصل الضمانات يدل على ما قلنا، فإنه نقل عن فتاوى ظهير الدين قال له: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك، فأخذه اللصوص لا يضمن، ولو قال: لو مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن، والمسألة بحالها ضمن، فصار الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعارضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور، فصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو، فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به يضمن؛ إذ غره في ضمن العقد، وهو يقتضي السلامة. انتهى. (وحاصله: أن الغار يضمن إذا صرح بالضمان، أو كان التغرير في ضمن عقد المعاوضة، وإن لم يصرح بالضمان، كما في مسألة الطحان، وقد صرح

(وسئلت) في سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف من طرابلس الشام بما حاصله: في واقف وقف عقارات متعددة، وشرط

فيها بكون الطحان عالما بالنقب، وما ذاك إلا ليتحقق كونه غارا، كما يشير إليه تسميته بذلك؛ لأن من لا علم له بذلك لا يسمى غارا، فلو لم يكن العلم شرطا في الضمان لكان حقه أن يعبر عنه بالآمر لا بالغار، (ويؤيد ذلك أيضا أنه في جامع الفصولين نقل بعد ذلك عن المحيط: أن ما ذكره من الجواب في قوله: فإن أخذ مالك فأنا ضامن مخالف لما ذكره القدوري: أن ما قال لغيره من غصبك من الناس، أو من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك فهو باطل. انتهى. فأجاب عنه في نور العين بقوله: يقول الحقير: لا مخالفة أصلا، والقياس مع الفارق؛ لأن عدم الضمان في مسألة القدوري من جهة عدم التغرير فيها، بخلاف ما نحن فيه، فافترقا، والعجب من غفلة مثل صاحب المحيط مع أنه الفضل والذكاء بحر محيط انتهى. فقد أفاد أنه لا بد من التغرير، وذلك بكونه عالما بخطر الطريق كما قلناه، ففي مسألتنا: إن كان صاحب المركب غر المستأجر بأن كان عالما بالخطر يكون ضامنا، وإلا فلا، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم. (لكن ينبغي تقييد المسألة بما إذا كان صاحب المال غير عالم بخطر الطريق؛ لأنه إذا كان عالما لا يكون مغرورا؛ لما في القاموس: غره غرا وغرورا، وغرة بالكسر فهو مغرور وغرير: خدعه، وأطعمه بالباطل، فاغتر هو، وفي المغرب: الغرة بالكسر الغفلة، ومنه أتاهم الجيش وهم غارون؛ أي غافلون، وفي الحديث: [نهى عن بيع الغرر والخطر]، الذي لا يدرى أيكون أم لا؟ كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء. فقد ظهر أن العالم بما قصد غيره أن يغره به لا يكون مغرورا، أرأيت صاحب البر لو كان عالما بنقب الدلو، وأمره الطحان بوضعه فيه، هل يكون مغرورا؟ بل هو مفرط مضيع لماله، لا أثر لقول الطحان معه، ففي مسألتنا: لا بد أن يكون الأجير عالما بخطر الطريق، والمستأجر غير عالم به، فح يضمن، وإن كان الأجير غير عالم، أو المستأجر عالما، فلا ضمان على الأجير؛ لعدم تحقق التغرير، والله تعالى أعلم. (وسئلت) في سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف من طرابلس الشام بما حاصله: في واقف وقف عقارات متعددة، وشرط أن يبدأ من غلة وقفه بما يكون فيه عمارته ونماؤه وبقاء عينه، وما فضل من ذلك جعل له مصارف معينة، ثم وقف وقفا آخر وألحقه بالأول، وشرط فيه شروطه المذكورة، ومن جملة ما في الوقف الثاني دار شرطها لسكنى أولاده وذريته، ثم إن المتولَّى على الوقف سكن الدار المذكورة تبعا لشرط الواقف، واحتاجت الدار إلى المرمة والعمارة، فعمرها المتولى من ماله؛ لعدم مال حاصل من ريع الوقف، ويريد الآن الرجوع بما أنفقه عليها في ريع الوقف، فهل له ذلك أم ليس له ذلك؟ بل عمارة دار السكنى على الساكن كما نصوا عليه. (فأجبت: الحمد لله تعالى لا شبهة في أن من وقف دارا، وجعلها للسكنى

لا للاستغلال تكون عمارتها على الساكن، كما هو منصوص عليه في المتون والشروح والفتاوى، وكذا في الخصاف والإسعاف؛ لئلا يلزم مخالفة شرط الواقف؛ لأنه لو لم تكن عمارتها على الساكن لزم أن تؤجر وتعمر من الأجرة، فتكون للغلة، وقد شرطها الواقف للسكنى، ولا يخالف شرطه إلا لضرورة، كما لو كان الساكن فقيرا مثلا فح تؤجر بقدر ما تعمر به، وأما إذا كانت هذه الدار من جملة عقارات موقوفة مشتملة على مستغلات، وقد شرط الواقف عمارة وقفه من غلته، فإن كان استثنى هذه الدار من ذلك، فالحكم ما مر من أن عمارتها على الساكن، وإلا فتعمر من ريع وقفه، كبقية أماكن الوقف؛ اتباعا لشرط الواقف، كما لو شرط في ريعه مرمة محل آخر أجنبي، كمسجد، أو رباط، أو نحو ذلك، أو وقف أرضين وشرط أن ينفق من غلة أحدهما على الأخرى، كما نص عليه الإمام الخصاف. وما تقدم عن المتون وغيرها لا يخالف هذا؛ لأنه فيما إذا لم يشترط ذلك، ثم إذا كانت المرمة والعمارة لهذه الدار في غلة الوقف كما شرط الواقف، واحتاج الناظر إلى ذلك، وليس عنده من ريع الوقف ما ينفق منه، فأنفق من مال نفسه ليرجع، وأشهد على ذلك فله الرجوع، وإلا فلا، كما ذكره في البحر وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد حصل لي أولا نوع تردد في هذا الجواب، ثم عرض علي السائل هذا السؤال بخط مفتي اللاذقية الفقيه النبيه: السيد عبد الله السندي، وأجاب عنه بمثل ذلك، وعليه خطوط بموافقته لجماعة من العلماء؛ منهم الشيخ العلامة محمد البسطي مفتي الحنفية بمصر المحروسة، ومنهم العلامة الفقيه السيد أحمد البزري مفتي الحنفية بصيدا، ومنهم الشيخ صالح الغزي الحنيفي، ومنهم الشيخ محمد الشبراوي الشافعي الأزهري.

§1/1