أصول الدعوة - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة.

الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (بعض الآفات التي تُصيب بعض الدعاة) العجلة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: إن حديثنا عن بعض الآفات التي تُصيب بعض الدعاة، فيرجعون عن الطريق ويقعدون عن الدعوة، ويتخلفون عن المسير، ومن هذه الآفات العجلة وضعف اليقين والتقصير في عمل اليوم والليلة. أما العجلة: فهي آفة خطيرة تُصيب الداعية؛ فتَحرمه الوصول إلى غايته وإصابة هدفه، رُوي: "أن نستور بعث صاحبَيْه إلى الملك يدعوانه إلى دين عيسى -عليه السلام- وأمرهما أن يرفِقا به، وأن يدعواه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فخالف الصاحبان وصيّة مرسلهما؛ فدخلا على الملك فأغلظا له القول وعنّفاه، فأخذهما وحبساهما وآذاهما، فقال لهما نستور: ما مَثَلكما إلا كمثل امرأة لم تلد حتى كبرت سنها فولدت، فاستعجلت شباب ولدها؛ لتنتفع به، فأطعمته أكثر مما يطيق فقتلته، فلم تحقق هدفها". ومن هنا قيل: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه" وأصل هذا المثل في السنة النبوية المطهرة قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يرث القاتل)) فمن قتل مورثه استعجالًا للميراث؛ يُعاقب بنقيض قصده، فيحرم من الميراث؛ فالعجلة آفة مذمومة نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((التأنّي من الله، والعجلة من الشيطان)).

قال ابن القيم: إنما كانت العجلة من الشيطان؛ لأنها خفَّة وطيش وحدّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار، والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور، وهي متوّلدة بين خلقين مذمومين هما: التفريط والاستعجال قبل الوقت. والذي يتتبع نصوص الوحيين يرى فيها الكثير والكثير من النهي عن العجلة فمنها النهي عن العجلة في طلب العلم قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16 - 19) قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: هذا تعليم من الله -عز وجل- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في كيفية تلقي الوحي من الملك؛ فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته؛ فأمره الله -عز وجل- إذا جاء الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفّل الله تعالى له أن يجمعه -يعني: ما أوحيه ما في صدره- وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه، ولهذا قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي: بالقرآن كما قال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، ثم قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك {وَقُرْآنَهُ} أي: أن تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونفهمك معناه كما أردنا وشرعنا. وقال السعدي -رحمه الله-: وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم ألا يبادر المُتعلم للعلم قبل أن يفرغ المعلم من المسألة التي شرع فيها؛ فإذا فرغ منها سأله عما

أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرّدّ أو الاستحسان ألا يبادر برده أو قبوله قبل الفراغ من ذلك الكلام؛ ليتبيّن ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهمًا يتمكّن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب. ومن الاستعجال في العلم التصدّر للتعليم قبل التأهُّل له، والتصدّر للفتيا قبل التأهّل لها، والتسرع بالجواب قبل إدراك السؤال. ومنها: النهي عن العجلة في نقل الأخبار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر؛ كراهة أن تصيبوا قومًا بجهالة -أي: قومًا بُرآء مما قذفوا به- بغية أذيّتهم بجهالة لاستحقاقهم إياه، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم؛ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، أي: فتندموا على إصابتكم إياهم بالخيانة التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخافه الندم في العواقب. ولقد كان للعجلة في نقل الأخبار بلا تثبت أثرها السيئ في انتشار حديث الإفك الذي روّجه المنافقون ضدّ الطاهرة المبرأة النزيهة العفيفة أمنا عائشة -رضي الله عنها- حتى قال الله في هذه العجلة: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15) وهي سورة فيها الخفّة والاستهتار، وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة، ولا اهتمام؛ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبّر ولا تروٍّ، ولا فحص ولا إمعان نظر؛ حتى لكأن القول لا يمرّ على الآذان، ولا تتملاه الرءوس، ولا تتدبره القلوب {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ} بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم؛ إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقّاها العقول، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.

وبعد إنكار العجلة عليهم في نقل الأخبار يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الاستعجال؛ فيقول تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (النور: 17) فلا بد من التروّي ولا بد التأني، ولا بد من التثبت والتبين، ومنها النهي عن العجلة في الحكم على الناس قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: 94) أي: إذا سافرتم في الغزو فتبينوا؛ أي: فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ورويّة، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء: 94) أي: لا تقولوا بغير تدبر لمن حياكم بتحية الإسلام أو من ألقى إليكم مقاليد الاستسلام والانقياد لست مؤمنًا، وإنما أظهر ما أظهر متعوذًا؛ بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رجل في غُنيمة له؛ فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا بتلك الغنيمة؛ فأنزل الله في ذلك قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء: 94) "، فلا يجوز التعجّل في الحكم على الناس بالكفر قبل البيان، بل لا يجوز للعامة أن يشغلوا أنفسهم بمسألة التكفير، فإن باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئًا. ومنها النهي عن العجلة في القضاء: عن علي -رضي الله عنه- قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا فقلت: يا رسول الله، تُرسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبيّن لك القضاء)) قال علي: فما زلت قاضيًا، أو ما شككت في قضاء بعد".

ومنها النهي عن العجلة في الدعاء: قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} (الإسراء: 11) قال ابن كثير -رحمه الله-: يخبر الله تعالى عن عجلة الإنسان في دعائه في بعض الأحيان على نفسه، أو ولده، أو ماله بالشر، أي: بالموت أو الهلاك، أو الدمار، واللعنة، ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (يونس: 11)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خَدَمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله -تبارك وتعالى- ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم)). ومن العجلة في الدعاء: أن يستعجل الإنسان عقوبة ذنبه في الدنيا قبل الآخرة. عن أنس -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاد رجلًا من المسلمين قد خَفَت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هل كنت تدعوا بشيء أو تسأله إيَّاه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة؛ فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سبحان الله لا تطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)). قال: فدعا الله له فشفاه. ومن العجلة في الدعاء: أن يدعو الداعي قبل أن يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على رسوله -صلى الله عليه وسلم. عن فضالة بن عُبيد قال: "سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يدعو في صلاته لم يُمجّد الله ولم يصلّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عجلت أيها المصلي)) ثم علَّمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يُصلي؛ فمجد الله وحمده وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ادعُ تُجب، وسَلْ تُعْطَ)) ".

ومن العجلة في الدعاء: استعجال الإجابة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)). ومن الاستعجال المذموم: الحرص على تجميع الناس، وتكثير عددهم حول الداعية دون تمحيص ولا تربية، وإنما فقط لمجرَّد تكثير العدد، وهذا الاستعجال فيه من المضارّ والمخاطر ما فيه، ففي الاستعجال خطورة كبيرة تتمثَّل في عدة نقاط؛ منها: أن الاستعجال يجمع أعضاء بُسطاء الفكرة، ضعفاء التربية، تجربة قليلة، وطريق هذه الدعوة شاقّ يُشترط على السير فيه التزام التقوى، ولذلك يحصل التساقط في الطريق، وهذا خطر كبير. ومنها: أن الدعوة في نشأتها وبدايتها تقوم على أكتاف الأقوياء؛ لتكوين القاعدة الصلبة، والاستعجال يُخالف ذلك. ومنها: أن كثرة الضعفاء في هذه المرحلة داخلَ الصف الإسلامي تُؤدّي إلى تأخير ساعات النصر وإشغال المربِّين، وإضاعة طاقتهم في نوعية ساذجة تأخذ منهم أوقاتهم وجهودهم التي ينبغي عليهم أن يصرفوها في أعمال أخرى يرفعون فيها من مستوى الشباب في المجالات المختلفة، وينتج عن ذلك خطورة واضحة لا شكّ فيها. ومنها: أن عملية الاستعجال سيكون من نتاجها بعد فترة تجميع فئة من الضعفاء تشغل المربّين في تصريفها في مجال يتناسوا معها، وبالتالي تنشأ قضية جديدة تأخذ منهم جهدًا فكريًّا وتنظيمًا هي في غنًى عنه الآن، وفي هذه المرحلة من العمل؛ لذلك ينبغي على الداعية المربي أن يتريَّث على إخوانه في المحاضر التربوية وغيرهم من الدعاة الجُدد في انتهاز الفرص في تربيتهم جميعًا، تربية مركزة قائمة على

ضعف اليقين.

المُكث لا على الاستعجال، وبذلك يكون قد وافق الأسلوب القرآني في التربية، فإن مما ذكره الله تعالى في القرآن قوله -عز وجل-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الفرقان: 32) قال تعالى: {كَذَلِكَ} أي: نزلناه مفرقًا {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (الفرقان: 32)، وقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (الإسراء: 106)، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدّث ومعلم وواعظ أن يتأمّل في توجيه ربه سبحانه، في تدبيره أمر الخلق وبعث الرسل إليهم، فكلما حدث موجب أو حصل موسم أتى بما يُناسب ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والمواعظ الموافقة لذلك. فعلى الدُّعاة إلى الله -عز وجل- أن يبذلوا جهدهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعليهم ألا يستعجلوا جني ثمار ما بذلوه من الجهد في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن الله -تبارك وتعالى- أكثر على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الأمر بالصبر، والنهي عن الاستعجال قال الله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: 35)، فعليك أيها الداعية أن تغرس وتحرث، وأن تترك الإنبات لله -عز وجل-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56). ضعف اليقين ومن الآفات التي تُصيب الداعية فتُقعده عن دعوته: ضعف اليقين واليأس من الناس، واليأس من النصر إذا تأخّر النصر؛ لذلك كثر في القرآن الكريم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبر، وبيان أن العاقبة له كما كانت لإخوانه المرسلين من قبله قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49)، وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35)، وقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا

وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (الأنعام: 34)، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110) وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: 120) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (الأنبياء: 105، 106) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171 - 173)، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر: 51) وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33). ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثّ أصحابه على الصبر ويبشّرهم بالنصر في أحلك الظروف وأصعبها حتى يستمروا في الثبات على الدين والانتشار به هاهنا وهاهنا، دون يأس يُقعدهم، ودون تشاؤم يصدهم عن تبليغ دعوة ربهم، عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: ((شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: قد كان من كان قبلكم يُؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، فيوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُفرق فرقتين ما يصده ذلك عن دينه، والله)) قسم يدل على الثقة المتناهية الثقة الكاملة في وعد الله -عز وجل- الذي أشارت إليه تلك الآيات التي صدّرنا بها الحديث: ((والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)). ويوم الخندق: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب: 10، 11) في هذا اليوم، وفي هذه الظروف، وفي هذه

الأثناء وهم يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة عجزوا عن كسرها، فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إني نازلٌ، أنا قادم لأكسر هذه الصخرة التي عجزت عنها معاولكم؛ فجاء -عليه الصلاة والسلام- وقد ربط على بطنه، ونزل فأتى هذه الصخرة ورفع المعول قائلًا: بسم الله فطار ثلثها، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأرى قصورها من مكاني هذا، ثم ضرب الضربة الثانية فطار الثلث الثاني من تلك الصخرة فقال: الله أكبر أعطيك مفاتيح فارس، والله إني لأرى قصورها من مكاني هذا، ثم ضرب الضربة الثالثة فصارت هباء منثورًا فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله لأني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)). هكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يبَشِّرُ أصحابه بأن النصر قريب، وبأن المستقبل لهذا الدين مهما اشتدّت الأزمات، وعظمت الخطوب، ومهما حاول أعداء الدين أن يُطفئوا نور الله -عز وجل- فإنهم لن يصلوا إلى تلك الغاية كما أخبر الله -عز وجل-: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة: 32)، ولقد ظلّ -صلى الله عليه وسلم- يُبشر أصحابه بالنصر والتمكين، وفتح بلاد المشركين، وأكثر عليهم في ذلك؛ تضمينًا لقلوبهم، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((بَشّر هذه الأمة بالثناء والدين، والرفعة والنصر، والتمكين في الأرض)). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها))، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله استقبل بي الشام وولّى ظهري اليمن، وقال لي: يا محمد، إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقًا، وما خلف ظهرك مددًا، ولا يزال الإسلام يزيد وينقص الشرك وأهله؛ حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جورًا، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم)). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل

والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يُعز الله به الإسلام، وذلًّا يزل الله به الكفر)). وهذه كلها بشارات عامة. وقد بَشّر -صلى الله عليه وسلم- بفتح بعض البلاد وسماها، ففتحت كما بشر -صلى الله عليه وسلم- من هذه البلاد: أرض الكنانة، مصرنا الحبيبة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يُسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإنّ لهم ذمة ورحمًا))، ومنها: اليمن والشام والعراق، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((تُفتح اليمن فيأتي قومٌ يبثّون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قومٌ يبثون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح العراق فيأتي قوم يبثون فيحلمون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون)). فبشر -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بفتح مصر واليمن والشام والعراق، وقد فُتحت تلك البلاد كما أخبر -صلى الله عليه وسلم. وهناك بلاد بشر -صلى الله عليه وسلم- بفتحها ولمَّا تفتح، من هذه البلاد: روما عاصمة إيطاليا، عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نكتب؛ إذ سُئل -صلى الله عليه وسلم- أي: المدينتين تُفتح أولًا القسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل تُفتح أولًا)) يعني: قسطنطينية، وقد فتحت قسطنطينية، ونحن في انتظار فتح رومية كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي لا ينطق عن الهوى كما أخبر عن ربه -سبحانه وتعالى. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((عُصيِّبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى)). بل إنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن رفع الخلافة، ثم أخبر عن عودتها، رفع الخلافة التي سقطت كما هو معلوم في العام الرابع والعشرين من الميلاد بعد التسعمائة والألف، سقطت الخلافة كما أخبر -عليه الصلاة والسلام- وإخباره هذا ليس من عنده إنما هو من الله -عز وجل-

القائل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 26، 27) أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن سقوط الخلافة، ثم أخبر عن عودتها وارتفاع رايتها؛ حتى لا ييأس الدعاة بعد سقوط الخلافة من عودتها، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًّا فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت -صلى الله عليه وسلم)). فأخبر -عليه الصلاة والسلام- أنه بعد النبوّة خلافة، وبعد الخلافة ملك عاضّ وملك جبري، وبعد الملك العاض والملك الجبري خلافة على منهاج النبوة تنتهي بها الدنيا كما بدأت بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فيا أيّها الداعية هذه النصوص التي ذكّرتك بها تبعث في نفسك الأمل، وتجعلك لا تيأس ولا تفتر، بل امضِ قُدمًا في طريق دعوتك، وأنت متفائل، وأنت على يقين من أن المستقبل لهذا الدين، وتأمّل التاريخ على مداره بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- والأزمنة المتتابعة إلى اليوم، تأمّل وخُذ من التاريخ العبر والدروس حتى لا تيأس أبدًا، ولا يضعف يقينك أن المستقبل لهذا الدين مهما كانت العقبات، ومهما عظمت الخطوب، ومهما ازدادت الكروب، ومهما تقوَّى وتحصّن أعداء الدين ضد أهل الدين إلا أن الله لا بد أن يُظهر دينه كما وعد، والتاريخ أكبر شاهد. وإليك هذه الوقائع الثلاث: من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد أن استلم أبو بكر -رضي الله عنه- مقاليد الخلافة؛ ففي هذا الوقت من خلافة أبي بكر عظم الخطب، واشتدّ الحال، ونجم النفاق، وارتدّ من ارتد من أحياء العرب، وظهر مدعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، ولم يبقَ للجمعة مقام في بلد سوى مكة

والمدينة، وأصبح المسلمون كما يقول عروة بن الزبير -رضي الله عنهما-: كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم؛ حتى وجد من المسلمين من قال لأبي بكر -رضي الله عنه-: يا خليفة رسول الله، أغلقك بابك، والزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين -يعني: الموت- ولكن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يعترِه اليأس، ولم يستحوذ عليه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث الجسام كلها بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم. هو الذي قال للدنيا قولته الخالدة: "أينقص الدين وأنا حي". وهو الذي قال لعمر -رضي الله عنه- حين جاء يعاتبه على قتال مانعي الزكاة: "مه يا عمر، رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، أجبّار في الجاهلية وخوَّار في الإسلام، ماذا عسيت أن أتألَّفهم بسحر مفتعل، أم بشعر يُفترى هيات هيات، مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي؛ فوالله لأجاهدنّهم ما استمسك السيف في يدي، فوالله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فوالله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال؛ فعلمت أنه الحق". وأبو بكر هو الذي أنفذ جيش أسامة -رضي الله عنه- وقال لمعارضيه: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني؛ لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته ما كنت أحلّ عقدًا عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيديه. ولم يزل أبو بكر -رضي الله عنه- يُخطّط ويجاهد ويرسل البعوث، ويسهر على مصالح الرعية؛ حتى استطاع أن يتغلَّب على الصعاب، وأن يقضي على الثورات والفتن، وأن ينتصر على المرتدّين ومدّعي النبوة، ومانعي الزكاة، ومبطلي

الصلاة، وأن يعيد للمسلمين عزتهم، ولليائسين تفاؤلهم، وللإسلام دولته، وللخلافة هيبتها. من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لمّا استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية، والمسجد الأقصى ما يُقارب قرنًا من الزمان؛ حتى ظن الكثير من المسلمين وغير المسلمين ألَّا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألَّا رجاء في ردّ أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ومن كان يظن أن هذه البلاد ستتحرّر في يوم ما على يد البطل المغوار صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويُصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما خرَّب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكًا ذريعًا. من كان يظن أن بلاد الإسلام بعد هذا الذي حدث ستتحرر في يوم ما على يد البطل المقدام قطز في معركة عين جالوت الحاسمة، ويصبح للمسلمين من المجد والعظمة والرفعة. أيها الداعية؛ إن هذه الكوارث الثلاث التي وقعت في عصور مختلفة، وانتفاضة الأمة الإسلامية بعدها، ونهوض العرب يلتقي على نقطة واحدة، وهي وجود قيادة مؤمنة راسخة العقيدة، قوية الإيمان بوعد الله ونصره، وبصلاح الإسلام، وبالقوة الكامنة فيه، شديدة التمسك بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، مجردة عن كل أنانية وعصبية جاهلية، ويلتقي هؤلاء القادة على أنهم كلهم كانوا يدعون إلى الإسلام، ويقاتلون بسيف محمد -عليه الصلاة والسلام- واستحقوا بذلك نصر الله، وتأييده الخارق للعادة، وظهرت المعجزة وكان حزب الله هم المفلحون كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 173).

التقصير في عمل اليوم والليلة.

إن الثقة بوعد الله، والتفاؤل بانتصار دين الله هو مقدمة الفوز والنصر، وإن القوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع شبابها ورجالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة في كل زمان ومكان، والله -سبحانه وتعالى- مع المتقين المخلصين المجاهدين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحافظين لحدود الله {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 5)، ووعد الله حق لن يتخلف {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139)، فلا يضعف يقينك، ولا تيأس أخي الداعية مهما أحاطت بك الخطوب، وعظمت بك وبالمسلمين الكروب، واعلم أن الله تعالى منجز وعده. التقصير في عمل اليوم والليلة ومن الآفات التي تصيب الداعية فتوهن قوته وتضعفه: تقصيره في عمل اليوم والليلة: أعني: تقصير الداعية في القيام بوظيفة اليوم والليلة من العبادات النوافل المستحبة كالصلاة، والصيام، والأذكار، ونحوها مما هو مندوب من العبادات؛ فلا يعقل أن يقصر الداعية في الواجبات، ولكن التقصير قد يكون في نوافل العبادات، ومن الصلاة النوافل وقراءة القرآن والأذكار، مع أن ذكر الله -عز وجل- من أعظم أسباب قوة الداعية المعنوية والحسية، قال الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28). ولما ذهب علي -رضي الله عنه- مع زوجه فاطمة -رضي الله عنها- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكوان إليه ما لاقته فاطمة من التعب والنصب والعناء، من حملها ما تحتاج على رأسها، وطحنها

بيدها، وغير ذلك من وظيفة المرأة في بيتها جاءت إلى رسول الله تشكو ما أصابها من التعب والنصب، وتسأله خادمًا يعينها على واجباتها المنزلية، فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن قال لعلي وفاطمة: ((ألا أدلّكما على خير لكما من خادم، إذا أويتما إلى فراشكما عند النوم تسبحان الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدان ثلاثًا وثلاثين، وتكبران أربع وثلاثين؛ فذلكما خير لكما من خادم)). قال العلماء: في إرشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًّا وفاطمة إلى ذكر الله -عز وجل- بدلًا من الخادم إشارة إلى أن ذكر الله -عز وجل- يُعين البدن كما يعين القلب، ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر يقول: ((أرحنا بالصلاة يا بلال، أرحنا بالصلاة يا بلال))، والله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه: 14)، ولقد أمر الله -سبحانه وتعالى- الدعاة بكثرة ذكره عند المواجهة، فقال لموسى -عليه السلام- وقد كلفه بالذهاب إلى فرعون: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (طه: 42)، وقال الله تعالى للمؤمنين عند القتال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45). وإذا كان الداعية يدعو الناس إلى التقرب إلى الله -عز وجل- بما يُحب من نوافل العبادات؛ فإن الداعية أولى وأحق بذلك أن يكون هو أكثر الناس لله ذكرًا؛ فعلى الداعية أن يُحافظ على الصلوات الخمس في الجماعة، وإن لم يرَ الجماعة واجبة؛ فليحافظ عليها لفضلها، وما يترتب عليها من الأجر والثواب، فصلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في سوقه وبيته سبعًا وعشرين ضعفًا، ثم إن تواجد الداعية في المسجد خمس مرات في اليوم والليلة فرصة عظيمة للالتقاء بالناس ودعوتهم وتذكيرهم، واقتراب الداعية من الناس سببٌ لقربهم منه

ومحبتهم له، ولا سيما إن أجاب دعوتهم وقضى حاجتهم وأعطاهم من جاهه ووقته وماله. وعلى الداعية أن يكون أحرص الناس على التبكير بالرواح إلى المسجد، والمحافظة على السنن الرواتب القبلية والبعدية، ولا سيما التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من صلى لله تعالى ثنتي عشرة ركعة كل يوم بنى الله له بيتًا في الجنة))، وهي ركعتان قبل الصبح، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وعلى الداعية أن يحافظ على الأذكار المشروعة دُبر كل صلاة، وعليه أن يحافظ على أذكار الصباح، وأذكار المساء، وأذكار النوم، وأن يحافظ على الأذكار المطلقة والمقيدة، وأن يكون كما تعلّم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال له رجل: ((يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فمرني بشيء أتشبّث به، فقال: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)). وعلى الداعية أن يأخذ حظه من صلاة الضحى، تلك الصلاة التي سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- "صلاة الأوَّابين" فقد خرج على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((صلاة الأوَّابين حين ترمض الفصال من الضحى)). وعلى الداعية أن يأخذ حظه من قيام الليل، تلك الصلاة التي جعلها الله تعالى دليل الإيمان، وعنوان الإحسان فقال -عز وجل-: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 15 - 17) وقال

تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: 15 - 18)، ولقد فرّق الله -تبارك وتعالى- بين القائمين والنائمين فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9). وعلى الداعية أن يكون شديد الصلة بمصدر دعوته الأول وهو القرآن الكريم فيُعنى به تلاوة وتدبرًا وفهمًا، وعلى الداعية أن يكون له ورد من القرآن كل يوم بحيث يختم كل ثلاثة أو كل أسبوع، ولا يزيد على ذلك ولا يتأخر عن ختم القرآن أكثر من أسبوع؛ فلأن جاز ذلك لعامة المسلمين فلا يجوز للدعاة خاصة، فإن القرآن الكريم هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والصراط المستقيم، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتبعه، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1)، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41، 42)، تلاوته قربة يُتقرَّب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- وتجارة رابحة وصفها الله -تبارك وتعالى- بعدم البوار والكساد، فقال -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر: 29، 30). والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من قرأ حرف من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا "الم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي القرآن شفيعًا لصاحبه)).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفّعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشّفَعَان))، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)). فهذه بعض وظائف اليوم والليلة التي قد يقع فيها تقصير من بعض الدعاة، والتقصير في هذه الوظائف يؤثّر على الداعية معنويًّا، وروحانيًّا، وإنما الداعية بقلبه وروحه لا ببدنه ولسانه، ولذلك كانت هذه الوظائف من أهم الوظائف التي أمر الله -تبارك وتعالى- بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أول ما كلّفه بالدعوة، اقرءوا إن شئتم سورة المزمل بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (المزمل: 1 - 9). نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا من الدعاة إليه بسلوكنا وعملنا قبل أن نكون دعاة بأقوالنا، فإن عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، وحسبنا قول شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88). فهذه أيها الداعية بعض الآفات التي قد تعترضك في طريقك، فتقعدك عن دعوتك، وتجعلك تترك السير في ركاب الدعوة إلى الله -عز وجل- فكن منها على حذر، والله يحفظك ويعصمك من الزلل هو ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 2 أصول العقيدة (1).

الدرس: 2 أصول العقيدة (1).

علاقة الدعوة بأصول الإسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (أصول العقيدة (1)) علاقة الدعوة بأصول الإسلام إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: إن الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لعباده كما قال سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) وهو الدين الذي لا يقبل الله دين سواه كما قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام} (آل عمران: 19) وقال -عز وجل-: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) والإسلام الذي هو دين الله -عز وجل- عقيدة وعبادة ومعاملة؛ عقيدة تصل الإنسان بالله -عز وجل- {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الشورى: 11، 12). وعبادة يؤديها الإنسان وفاءً بحق الله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره يرجو بها رضوان الله والجنة؛ ويخاف إن تركها عقاب الله والنّار؛ فهو دائمًا كما وصف الله أولياءه: {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (الزمر: 9) وهو مع ذلك محسنٌ في معاملة الناس، كما أمره الله -عز وجل- شعاره دائمًا: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون} (البقرة: 279) فالعدل عنده أساس المعاملة، وهو مع ذلك قد يعفو عن من ظلمه، ويصل من قطعه، ويحلم على من يجهل عليه؛ لأن الإسلام أمره بالإحسان فيما بينه وبين الله، وأمره بالإحسان فيما بينه وبين الناس، وأخبر الله -سبحانه وتعالى- أنه يحب المحسنين، وأنه يجزي المحسنين بالإحسان إحسانًا كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس: 26).

والمسلم مطالب بأن يُحَكّم الإسلام كله في حياته كلها كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 208). ومعنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا من رضيتم بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، يا من صدقتم بالله ورسوله، والكتاب الذي نزله على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أي: استسلموا لله -تبارك وتعالى- استسلامًا مطلقًا، وأطيعوا الله -عز وجل- في كل ما أمركم به بأن تمتثلوه وتفعلوه. وفي كل ما نهاكم عنه بأن تتركوه وتجتنبوه، {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فيما يدعوكم إليه من العصيان والفسوق عن أمر الله -عز وجل- بترك ما به أمر، أو فعل ما عنه نهى وزجر. {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} استسلموا لله -عز وجل- وأطيعوه طاعة مطلقة واقبلوا منه كل ما شرع لكم من العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، والجهاد والاقتصاد والسياسة والاجتماع، ونحو ذلك من كل ما شرع الله -تبارك وتعالى- لا تأخذوا العقيدة وتتركوا العبادة، لا تأخذوا العقيدة وتتركوا العمل؛ فإن العمل الصالح هو عنوان سلامة العقيدة إن العقيدة إن سلمت وصحت أنتجت ولا بد وأثمرت العمل الصالح، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 24، 25) فإذا صحت العقيدة في القلب صلح العمل على الجوارح ولذلك اقترن العمل الصالح بالإيمان في كثير من آي القرآن الكريم.

وشهد الله للموفقين الذين جمعوا بين العقيدة الصحيحة والعمل الصالح ببلوغ حقيقة الإيمان؛ فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 2 - 4) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 74). يقول الدكتور عبد الكريم زيدان في (أصول الدعوة): وأحكام الإسلام بالنسبة لما تتعلق به: تنقسم إلى الأقسام الآتية: أولًا أحكام العقيدة الإسلامية، وهي تتعلق بأمور العقيدة كالإيمان بالله واليوم الآخر وهذه هي الأمور الاعتقادية. ثانيًا: أحكام الأخلاق وهي المتعلقة بما يجب أن يتحلى به المسلم، وما يجب أن يتخلى عنه. كوجوب الصدق وحرمة الكذب. ثالثًا: أحكامٌ تتعلق بتنظيم علاقة الإنسان بخالقه كالصلاة والصيام وغيرها من العبادات، رابعًا: أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم وهذه على أنواع: أ- أحكام الأسرة: من نكاح وطلاق وإرث ونفقة إلى غير ذلك، وتُسمى هذه الأحكام في الاصطلاح الحديث بأحكام الأسرة، أو قانون الأحوال الشخصية. ب- أحكام تتعلق بعلاقات الأفراد ومعاملاتهم كالبيع والإجارة والرهن والكفالة، وهي التي تُسمى في الاصطلاح الحديث بأحكام المعاملات المالية أو بالقانون المدني. جـ- أحكام تتعلق بالقضاء والدعوة، وأصول الحكم والشهادة واليمين والبينات، وهي تتدخل فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات.

تعريف العقيدة وأصولها الستة.

د- أحكام تتعلق بمعاملات الأجانب غير المسلمين، عند دخولهم إلى إقليم الدولة الإسلامية، والحقوق التي يتمتعون بها، والتكاليف التي يلتزمون بها، وهذه الأحكام تتدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي الخاص. هـ- أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في السلم والحرب، وتدخل فيما يُسمى اليوم بالقانون الدولي العام. وأحكام تتعلق بنظام الحكم وقواعده، وكيفية اختيار رئيس الدولة وشكل الحكومة، وعلاقات الأفراد بها، وحقوقهم إزاءها وهي تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدستوري. ز- أحكام تتعلق بموارد الدولة الإسلامية ومصارفها وتنظيم العلاقات المالية بين الأفراد والدولة، وبين الأغنياء والفقراء، وهي تدخل في القانون المالي بمختلف فروعه. حـ- أحكام تتعلق بتحديد علاقة الفرد بالدولة، من جهة الأفعال المنهي عنها؛ أعني: الجرائم ومقدار عقوبة كل جريمة، وهذه تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الجنائي ويلحق بهذه الأحكام الإجراءات التي تتبع في تحقيق الجرائم وإنزال العقوبات بالمجرمين، وكيفية تنفيذها، وهي تدخل فيما يسمى اليوم بقانون تحقيق الجنائيات أو بقانون المرافعات الجزائية. تعريف العقيدة وأصولها الستة العقيدة: هي مجموعة من قضايا الحق البدهية المسلمة بالعقل والسمع والفطرة؛ يعقد عليها الإنسان قلبه، ويثني عليها صدره جازمًا بصحتها، قاطعًا بوجودها وثبوتها، لا يرى خلافها أنه يصح أو يكون أبدًا؛ وذلك كاعتقاد الإنسان بوجود خالقه وعلمه به، وقدرته عليه ولقائه به بعد موته، ونهاية حياته ومجازاته إياه على كسبه الاختياري، وعلمه غير الاضطراري، وكاعتقاده بغنى ربه تبارك

الركن الأول: الإيمان بالله.

وتعالى عنه، وافتقاره هو إليه وفي كل شأنه حتى في أنفاسه التي يرددها؛ فبالله تعالى حياته، وعليه وحده توكله واعتماده، إذ هو محض رجائه إذا طمع، ومأمن خوفه إذا خاف بحبه يحب، وببغضه يبغض، هو مولاه الذي لا مولى له غيره، ومعبوده الذي لا معبود له سواه، لا يرى ربوبية غيره ولا يعتقد ألوهية سواه. وعقيدة المؤمن تقوم على أركان ستة، معلومة من الدين بالضرورة؛ وهي: الإيمان بالله، وملائكة، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر كله خيره وشره حلوه ومره، من الله تعالى يقول الله -سبحانه وتعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 136) وفي حديث عمر -رضي الله عنه- المشهور في سؤال جبريل -عليه السلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان قال -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى)). الركن الأول: الإيمان بالله فالركن الأول من أركان الإيمان هو: الإيمان بالله -عز وجل-: والإيمان بالله -سبحانه وتعالى- على أربع مراتب؛ هي: الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته. أما الإيمان بوجود الله تعالى؛ فإن العلماء استدلوا عليه بأربعة أنواع من الأدلة هي: العقل والشرع والفطرة والحس. أما الاستدلال بالعقل والشرع؛ فإن الناظر في ملكوت السموات والأرض يرى فيهما الكثير والكثير من الآيات الدالة على

وجود الله تعالى؛ فهذه السموات بارتفاعها وشدة بنائها، وما فيها من كواكب ونجوم تسير بانتظام، بلا خلل ولا صدام، كل في فلك يسبحون. هذه السموات بارتفاعها وإمساكها عن الوقوع على الأرض تدل على أن لهذا الكون مدبرًا؛ لأن العقل السليم يحيل أن توجد هذه السموات وما فيها بنفسها، كما تحيل أن توجد من غير موجد؛ وهذا هو ما قرره ربنا -سبحانه وتعالى- بقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} (الطور: 35، 36) هذه الأرض وما فيها وما عليها، هذه الأرض باتساعها وطولها وما عليها من جبال، وما يجري فيها من بحار وأنهار، وما يخرج منها من زروع وثمار؛ كل ذلك من صنع من؟ صنع ربي {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} (النمل: 88). والمتأمل في كتاب ربنا سبحانه يجد الرب -عز وجل- كثير ما يشير إلى هذه الآيات ويأمر بالنظر المتأمل فيها يقول سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 28، 29) ويقول سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (النازعات: 27 - 33) ويقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: 1 - 4). ويقول سبحانه: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 17 - 20) أفلا ينظرون

ويتأملون ويتدبرون، فيعلمون أن لهذا الكون إله؛ فبهذا كان العرب قديمًا يستدلون على الله -سبحانه وتعالى- حتى قيل لبعضهم: بم عرفت ربك؟ فقال: إن البعر يدل على البعير، وإن الأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؛ أفلا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير. وأما الاستدلال بالفطرة والحس على جود الله -عز وجل-: فإن كل إنسان إذا نزلت به نازلة وعجز عن دفعها، وجد نفسه مندفعًا إلى النداء والاستغاثة بالله وحده دون سواه؛ فيقول مضطرًا: يا الله يا الله؛ فإذا به يجاب إلى ما سأل، فيكشف عنه ما سأل كشفه، أو يعطى ما طلبه. وهذا شيء محسوس ومجرب دعت إليه الفطرة التي فطر الناس عليها، وهو دليل على وجود الله السميع البصير، اللطيف الخبير وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل: 62). أما المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالله -عز وجل- فهي: الإيمان بربوبيته -سبحانه وتعالى-: ومعنى الإيمان بالربوبية: الإيمان بأن الله وحده هو الخالق الرازق المحي المميت مالك الملك ومدبر الأمر كما قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك: 1) وقال -عز وجل-: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 83) وقال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 26، 27). فالله سبحانه وحده هو خالق الخلق، ومالك الملك لا خالق غيره، ولا مالك سواه، وهو -سبحانه وتعالى- هو الذي يُدبر أمر كل شيء فما شاء كان، وإن لم يشأ العباد،

وما لم يشأ لم يكن وإن شاء العباد، وبهذا استدل عقلاء العرب على ربوبية الله سبحانه، قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. المرتبة الثالثة: الإيمان بألوهية الله -عز وجل-: ومعناه: الاعتقاد والإقرار بأن الله وحده هو المستحق للعبادة دون غيره؛ فكما خلق وحده يجب أن يُعبد وحده ولذلك قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 21، 22) وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الروم: 40). وبالدعوة إلى ألوهية الله -عز وجل- وإفراده وحده بالعبادة أرسل الله الرسل وأنزل الكتب قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) وقال سبحانه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: 2) ولذلك اتفقت كلمة الأنبياء على: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} (الأعراف: 59). وهذا التوحيد هو سبب النجاة من النار، والفوز بالجنة وتركه هو سبب الهلاك والعذاب، قال الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 172، 173). وعن جابر قال: "أتى

النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار)). أما المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالله -عز وجل- فهي: الإيمان بأسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العلا: فالله -سبحانه وتعالى- ذات وكل ذات لا بد لها من أسماء وصفات، وأسماء الله وصفاته توقيفية لا يجوز لأحد أن يُسمي الله تعالى أو يصفه إلا بما سمى الله به نفسه أو سماه به رسله، وكل ما سمى الله به نفسه، وجب الإيمان به من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف، ولا تحريف وقوفًا عند قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11). هذه العقيدة: عقيدة الإيمان بالله -عز وجل- وتوحيده سبحانه لها آثارها العظيمة في حياة الإنسان؛ فالله -سبحانه وتعالى- بَيّن أن المؤمن الموحد إنسان مطمئن البال، مُستقرٌ في حياته، لا يصيبه القلق ولا الضجر؛ لأنه أسلم وجهه لله -سبحانه وتعالى- وحده، ودان له بالسمع والطاعة؛ فهو لا يتلقى الأمر إلا منه، ولا يتلقى النهي إلا منه وقد فرق الله -سبحانه وتعالى- بين المؤمن الموحد الذي يدين لله -تعالى- وحده بالسمع والطاعة، وبين المشركين الذين يعبدون آلهة كثيرة فقال -عز وجل-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) فشبه الله تعالى النفس الموحدة لربها، بالعبد الذي يملكه رجل واحد؛ فجميع تصرفات هذا العبد تأتي حسب رغبة سيده، وبهذا تهدئ نفسه وتستقيم حياته، وتنسجم تصرفاته، وفق نظام معين وعلى نسق واحد. أما العبد الذي يملكه عدة شركاء متشاكسين، لا يؤمن أن يتصرف اليوم على نمط يعاكس تصرفاته بالأمس، وتبقى نفسه نهبًا للمخاوف والهواجس، كذلك العبد

المشرك الذي يعلم بفطرته عظمة الله، ويشرك مع الله آلهة أخرى؛ فتراه تارة ينافق الناس، وتارة يتخذ إلهه هواه، وتارة يستعبده المال، وتارة يتعلق بالحياة؛ فينخلع قلبه من الموت أو المرض، وهو في كل ذلك قلق لا يطمئن على نفسه ولا على ماله وعلى شيء من ملذاته؛ لأنه لا يؤمن بمصير معين، ولا يخضع لإلهٍ واحد، بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير. كما أن عقيدة التوحيد والإيمان بالله -عز وجل- تُربي عقل الإنسان على سعة النظر، وحب الاطلاع على أسرار الكون، والطموح إلى معرفة ما وراء الحس؛ فكل ما في الكون مما نرى وما لا نرى من السموات والكرسي والعرش والملائكة، كل ذلك من ملك الله، وكل كائن صغير أو كبير يسبح بحمد الله ويشهد بعظمته، وقد أمرنا القرآن الكريم أن نتأمل ذلك كله، نتأمل خلق السموات والأرض والبحار والأنهار والإبل والدواب والنحل، وبين لنا أن ما من شيء إلا والله يعلمه صغيرًا كان أو كبيرًا، قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام: 59). وبالتوحيد وإفراد الله تعالى بكل صفات الألوهية يبتعد الإنسان عن التعلل بالآمال الكاذبة؛ فلا تنفع عند الله شفاعة الشافعين، إلا لم يأذن له الله ويرضى، وما من أحد يفيده قربه من الله إلا عن طريق العمل الصالح؛ فليس إليه قرابة رحم ولا صلة أبوة، ولا صحبة سابقة لأحد من العالمين؛ الكل عباده والكل محاسبون مجزيون بأعمالهم خيرها وشرها، ويتسلح الإنسان إذا آمن بالله حق الإيمان بالطمأنينة والرجاء، مع السعي والتوكل على الله، وعدم التواكل. فالمؤمن الموحد مطمئن بعد أن عرف أن الله قريب، يجب دعوة الداعين، ويتوب على التائبين وينصف المظلومين، وقد وسعت رحمته كل شيء؛ فضلًا من الله ونعمة.

الركن الثاني: الإيمان بالملائكة.

الركن الثاني: الإيمان بالملائكة أما الركن الثاني من أركان الإيمان فهو: الإيمان بالملائكة: وقد جاء ذكر الملائكة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} (البقرة: 31) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة: 161) إلى غير ذلك والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان كما أخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- حيث قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)) فمن أنكر وجود الملائكة فقد كفر بالله -عز وجل- كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 136) ومن عداهم أو أحدهم فقد كفر أيضا قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 98) عن ابن عباس: "أن اليهود سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من صاحبك من الملائكة؟ قال: ((جبريل)) قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو كان ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر؛ لكان. فأنزل الله -عز وجل- الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 98) ". وعالم الملائكة من عوالم الغيب التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي، ومن تكلم عن الملائكة بغير ما قال الوحي فيهم، فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا، وقد

عرفنا من الوحي أصل خلقتهم وبعض صفاتهم الخلقية والخلقية، وعلاقتهم بالله تعالى وبالكون وعلاقتهم بالإنسان عمومًا وبالمؤمنين خصوصًا. أما عن أصل خلقتهم؛ فإنهم خلقوا من نور، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق من آدم مما وصف لكم)) أما صفاتهم الخلقية فهم خلق عظيم، ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (فاطر: 1). عن الشيباني قال: سألت ذر عن قول الله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النجم: 9، 10) قال: "أخبرنا عبد الله أن محمد -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل له ستمائة جناح"، وعن جابر بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أوذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش؛ إنما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) أما صفاتهم الخلقية فإن الله -سبحانه وتعالى- وصفهم بأنهم كرامٌ بررة ومن أخص صفاتهم الحياء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد دخل عليه عثمان: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)). والملائكة لا يصفون بذكورة ولا أنوثة وقد ضلت العرب إذ جعلت الملائكة إناثًا؛ فكذبهم الله تعالى، وأخبر أنهم سيسألون عن قولهم هذا؛ فقال -عز وجل-: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزخرف: 19) أما علاقة الملائكة بالله -عز وجل- فالملائكة خلق من خلق الله، وعباد من عباده مخلقون مملكون مربون، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 26 - 29).

وهم مشغلون بعبادة الله بالليل وبالنهار؛ لا يكلون ولا يملون {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: 20) كما وصفهم من خلقهم -سبحانه وتعالى- وأما علاقتهم بالكون؛ فهم يدبرون حركته ويرعون شئونه بتكليف من الله لهم، كما قال سبحانه: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (النازعات: 5) وقال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} (الذاريات: 4) والمراد الملائكة تدبر أمر المخلوقات بإذن الله طاعة لله، لا ابتداء من أنفسهم؛ فإنهم كما وصفهم الله {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون} (الأنبياء: 27). وقد وَكّل الله تعالى بالسموات ملائكة وبالجبال ملائكة وبالسحاب ملائكة وبالمطر ملائكة، ووكل بالوحي ملائكة وبالموت ملائكة وبالجنة ملائكة، وبالنار ملائكة وعلاقة الملائكة بالإنسان تبدأ من حين تقع النطفة في الرحم، حتى يخرج بشرًا سويًّا، ثم لا يفارقونه حتى يستقر في القرار الأبدي في الجنة أو النار. عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- وكل بالرحم ملكًا يقول: يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة؛ فإذا أراد أن يقضي خلقه، قال: أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد؛ فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه)). أما علاقة الملائكة بالمؤمنين؛ فإنها علاقة مودة ومحبة ورحمة، يدل عليها استغفارهم للمؤمنين وسؤالهم الله -عز وجل- أن يدخلهم الجنة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (غافر: 7 - 9). وللإيمان بالملائكة أثره في حياة المؤمن؛ فإن من لوازم الإيمان بالملائكة تربية النفس على النظام والطاعة، وترتيب الأمور وإخلاص الله -سبحانه وتعالى- وإفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة

الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين.

كما تفعل الملائكة في تسبيحهم لله، وتعظيمهم له، يمكن للمؤمنين أن يقتدوا بهم ويهتدوا بهديهم، كما خرج النبي -عليه الصلاة والسلام- يومًا على أصحابه وقد تفرقوا في صفوفهم قال: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها)). قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها يا رسول الله قال: ((يتمون الصف الأول فالأول ويتراصون في الصف)). كما أن إيمان المؤمن بأن الملائكة تستغفر الله له، وتدعوا له، يزيد من عزته وكرامته ومعرفته عند الله -عز وجل- حيث سخر له الملائكة الكرام البررة يحفظونه ويستغفرون له، ويطلبون من ربه أن يحفظه من عذاب النار. الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين أما الركن الثالث من أركان الإيمان؛ فهو: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين: قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)). وحاجة الناس إلى الرسل والكتب فوق كل حاجة، وضرورتهم إليهم فوق كل ضرورة، وهم الذين يعرفون الناس بفاطرهم، وبارئهم، وأسمائه وصفاته، والطريق الموصلة إليه، وما يجب له عليهم، وما أوجبه لهم عليه. فمن اتبعهم فقد هدي إلى صراط مستقيم، وفاز بسعادة الدنيا. وكان في الآخرة من ورثة جنة النعيم، ومن كذبهم وخالفهم فقد ضل سواء السبيل وهو في

الآخرة من الخاسرين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (المائدة: 12) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} (غافر: 69 - 72). والإيمان بجميع المرسلين واجب والكفر ببعضهم كفر بجميعهم، ولذلك قال الله تعالى على لسان رسوله والمؤمنين: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 285) وجعل الله تعالى التفريق بينهم كفرًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (النساء: 150، 151). وقد بعث الله تعالى مائة وأربع وعشرين ألف نبي وأرسل منهم ثلاثمائة وخمس عشرة رسول عن أبي أمامة قال: قلت: يا نبي الله، أي: الأنبياء أول؟ قال: ((آدم عليه السلام)) قلت: يا نبي الله، أو نبي كان آدم؟ قال: ((نعم، نبي مكلم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم قال له يا آدم قبل)). قال: قلت: يا رسول الله، كما وفى عدد الأنبياء قال: ((مائة ألف وأربع وعشرين ألف الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمس عشرة جما غفيرًا)). فالإيمان بهذه الجملة على العموم واجب، والإيمان بمن سمي منهم في القرآن الكريم على وجه الخصوص

واجب فإن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78). وقد سمى الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم خمسة وعشرين رسولًا؛ فوجب الإيمان بهم على وجه التعيين، ووجب الإيمان بإخوانهم على وجه العموم والإجمال؛ ومن الإيمان بالرسل الإيمان بأنهم أفضل الخلق على الإطلاق، وأكثرهم علمًا، وأحسنهم عملًا، وأصدقهم حديثًا، وأكملهم أخلاقًا، وبأن الله خصهم بفضائل لا يحصلها غيرهم، وأن الله لم يخصهم بطبائع غير طبائع البشر، إنما اختارهم رجالًا يأكلون ويشربون، يبولون ويتغوطون، ويتزوجون ويتناسلون، ويمشون في الأسواق يبيعون ويشترون؛ فالواجب احترامهم وتوقيرهم من غير إفراط ولا تفريط، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهموها الله -عز وجل- عباد مكرمون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورًا. وهم من جملة البشر تعتريهم الأسقام والأوجاع، وينالهم الأذى من الأعداء، ويموتون كما يموت سائر الناس وربما يقتلون. ومن الإيمان بالرسل الإيمان بأن محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين كما قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا؛ فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية؛ فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)). فمن ادعى النبي بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد افترى على الله الكذب كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (الأنعام: 93). عن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

((إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)). ودلائل نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- كثيرة؛ أفردها بعض أهل العلم بمصنفات عظيمة مطولة، وأعظم دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- وأبقاها على مدار الزمان القرآن الكريم الذي تحدى به العرب أجمعين، أن يأتوا بشيء من مثله؛ فعجزوا بل إنهم لم يحاولوا لعلمهم اليقيني بعجزهم قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس: 37) وقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) وقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23 - 24). يعني: اتقوها بالإيمان بالقرآن الكريم وبمن أنزل عليه، وهو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الله -عز وجل- لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بأنه رسوله حقًّا؛ فمن كفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر حتى بجميع المرسلين الذين يزعم أنه قد آمن بهم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (النساء: 150، 151). هذا وإن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا؛ يقتضي التسليم المطلق والتام لما جاء به، أو أخبر عنه، ويقتضي تصديقه وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه، دون حرج

أو ضيق أو مناقشة أو جدال، أو تعقيب أو أخذ البعض وترك البعض الآخر؛ فإن كل هذه الأشياء تناقض مقتضى الإيمان به -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا؛ ولهذا جاءت النصوص القرآنية كلها تؤكد وتبين هذه الأمور وغيرها، التي هي مقتضيات الإيمان بنبوته -صلى الله عليه وسلم- فمن هذه النصوص الواردة في القرآن العظيم قول رب العالمين سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 132). {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 31، 32) {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36). فهذه النصوص وأمثالها في القرآن كثير تذكر المؤمنين بمقتضى إيمانهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا؛ وبلوازم هذا الإيمان، فمرة تأمرهم بطاعته؛ لأن طاعته هي طاعة الله -عز وجل- أو هي طاعة لله -عز وجل. وإن جزاء المطيعين جنات النعيم، وإن جزاء المخالفين عذاب النار وطورًا تبين لهم أن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يستلزم أخذ ما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والانتهاء عما نهى عنه، وإنما يقضي به -صلى الله عليه وسلم- واجب الطاعة لا خيار فيه للمسلم؛ وإن الرجوع عند الاختلاف يجب أن يكون إلى الله والرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن الإيمان الحقيقي بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يستلزم الرضا بما يحكم ويقضي به ويخبر عنه. وإن حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أتباعه عظيم

فمن حقه علينا فداه أبي وأمي ونفسي ومالي وأهلي محبته أكثر من النفس والولد، والأهل والمال والناس أجمعين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين)). ثانيًا: توقيره -صلى الله عليه وسلم- وتبجيله واحترامه حيًّا وميتًا قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (النور: 63) لأن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ليس كواحد من الناس إنه رسول الله، وعلى الناس أن يوقروه ويجلوه ويشرفوه، حتى في ندائهم له؛ فعليهم أن يقولوا له: "يا أيها النبي" و"يا أيها الرسول"؛ فإن الله -عز وجل- الذي خلقه وسواه وبعثه لم يناديه باسمه المجرد أبدًا؛ فأولى بذلك وأحق أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 3 أصول العقيدة (2).

الدرس: 3 أصول العقيدة (2).

الركن الرابع: الإيمان بالكتب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (أصول العقيدة (2)) الركن الرابع: الإيمان بالكتب إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين ركن من أركان الدين كما قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177) وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة: 285)، وفي حديث جبريل المشهور حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان قال: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). وقد أمرنا الله تعالى -نحن المسلمين- بالإيمان بالكتب التي أنزلها على المرسلين السابقين فقال سبحانه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136)، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46)، وكذلك أمر الله تعالى أهل الكتاب بالإيمان بما أنزل إلينا فقال -عز وجل-: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 40، 41). وعلّق الله -سبحانه وتعالى- هداية أهل الكتاب على إيمانهم بمثل ما آمنا فقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 137)، والإيمان بالكتب

معناه: الإيمان بكل ما أنزل الله من كتاب على وجه العموم والإجمال كما قال الله تعالى: لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى: 15). ثم من الإيمان بالكتب الإيمان بما سمى الله تعالى منها في القرآن الكريم على وجه الخصوص؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- لم يسمِّ كل كتاب أنزله على المرسلين في القرآن الكريم، وإنما سمى بعضها وسكت عن أكثرها؛ فمن الإيمان بالكتب الإيمان بكلها على وجه العموم والإجمال، والإيمان بالبعض المسمى في القرآن على وجه الخصوص والتعيين. ومن الكتب التي سماها الله تعالى في القرآن: التوراة، والإنجيل، وزبور داود، وصحف إبراهيم وموسى قال تعالى: {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (آل عمران: 1 - 4)، وقال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (النساء: 163)، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (الأعلى: 18، 19). ومن الجدير بالذكر أن أهل الكتاب قد غيروا كتبهم وحرفوها، وزادوا فيها ونقصوا منها، أخبرنا ذلك رب العالمين الذي أنزل تلك الكتب، وهو بكل شيء عليم قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75)، وقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79)، وإذا ثبت أن أهل الكتاب حرفوا كتبهم فلا يجوز الجزم بأن شيئًا فيها بعينه هو كلام الله -عز وجل.

وإن كُنّا نؤمن بعموم الكتاب وأنه من عند الله؛ فنحن نؤمن بأن الله -تعالى- أنزل على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، لكن لا نستطيع أن نجزم بشيء في التوراة، ولا في الإنجيل بأنه بنفسه كلام الله -عز وجل؛ لأن الله أخبرنا أنهم حرفوا وغيروا وبدلوا وزادوا ونقصوا. أما القرآن الكريم فهو محفوظ بحفظ الله من التغيير والتبديل، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. (فصلت: 41، 42)، ومن يكفر بالقرآن فهو كافر بالله سبحانه، قال تعالى مخاطبًا نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} (البقرة: 99) أي: الخارجون عن الإيمان إلى الكفر وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (البقرة: 89، 90). ومن الإيمان بالقرآن الكريم اتباعه والعمل به، والتّحاكم إليه قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة: 121)، وللمفسرين في تأويل حق التلاوة أقوال: أولها: أنهم تدبروه؛ فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما. وثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته وخشعوا عند قراءته في صلاتهم وخلواتهم. وثالثها: أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه، وفوضوه إلى الله تعالى. ورابعها: أنهم يقرءونه كما أنزل الله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولونه على غير حق.

وخامسها: أن تُحمل الآية على كل هذه الوجوه؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد وهو تعظيمها والانقياد لها لفظًا ومعنًى، فوجب حمل هذا القدر المشترك تكثيرًا لفوائد كلام الله تعالى. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (الشمس: 2)، ففسر ابن عباس التلاوة بالاتباع، واستمد هذا المعنى من قول ربنا -عز وجل-: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (الشمس: 1، 2) أي: تبعها، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل، ولا يُحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا غير تأويله. وللقرآن الكريم أثره الكبير في حياة المؤمن، فالله تعالى سمى القرآن الكريم نورًا وهدى ورحمة وشفاء، قال الله -سبحانه وتعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)، وقال سبحانه: {يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15، 16)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57). وقد جعل الله -تبارك وتعالى- روحًا تحيى بها أرواح بني آدم فقال -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52)، فإذا كانت الروح هي سر حياة الأبدان؛ فإن روح الأرواح هو القرآن الكريم، فمن آمن بالقرآن الكريم واتبعه فهو حي، ومن كفر بالقرآن الكريم وكذبه فهو ميت، وإن كان يدبّ على وجه

الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر.

الأرض؛ قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 122). وقد ضمن الله -تبارك وتعالى- القرآن الكريم كل ما يحتاجه الناس إليه في دينهم ودنياهم وآخرتهم، قال الله سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 38)، وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89)، وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9). يهدي للتي هي أقوم على وجه العموم والشمول، لا على وجه الخصوص؛ فالقرآن لا يهدي للتي هي أقوم في مسألة دون مسألة، ولا يهدي للتي هي أقوم في أمر دون أمر، ولا يهدي للتي هي أقوم في مشكلة دون مشكلة ولا في قضية دون قضية، ولكن القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل القضايا، وفي كل المشاكل، وفي كل الوقائع والأحداث والأمور. فعزّة المؤمن في اتباع القرآن، وسعادته في التمسك به، وطمأنينة قلبه في قراءته وتلاوته: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28). الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر أما الركن الخامس من أركان الإيمان فهو: الإيمان باليوم الآخر: والمراد باليوم الآخر: يوم القيامة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- جعلهما يومين اثنين اليوم وغدًا، اليوم الدنيا وغدًا الآخرة، والإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، قال الله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ

مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 1 - 4)، وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177). وفي حديث جبريل المشهور لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما الإيمان؟ كان جوابه -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر)) والإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان، ولذلك كثيرًا ما يُقرن الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في مواضع من القرآن الكريم منها هذه الآية التي ذكر الله فيها أركان الإيمان: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} فقدم الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69)، وقال سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 228). فالإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان، وإنكاره والكفر به، والتكذيب به كفرٌ بالله -عز وجل- يوجب الخلود في النيران، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5)، ولقد بعث الله تعالى الرسل إليه داعين وبلقائه منذرين قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الزمر: 71).

وهذا اعتراف من أصناف الكافرين الداخلين جهنم أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أنذرتهم لقاء يومهم هذا، ولما كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وكان هو الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: ((بعثتُ أنا والساعة كهاتين؛ وضم السبابة والوسطى)) لما كان كذلك فقد بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أحوال الآخرة وأهوالها بيانًا لم يسبق له نظير في الكتب السابقة، حتى إن الله تعالى أخبر أن الحِكْمة من الإيحاء إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- هي إنذار الناس لقاء الله؛ فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (غافر: 15 - 17). ولما جادل المشركين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أنذرهموه من البعث بعد الموت {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (الإسراء: 49) أمره ربه أن يُقسم لهم على وقوع ما كذبوه فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (يونس: 53)، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (سبأ: 3)، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن: 7). ولم يكتفِ رَبّنا -سبحانه وتعالى- بقسم نبيه -صلى الله عليه وسلم- حتى أقسم هو -سبحانه- على وقوع البعث فقال -عز وجل-: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ

أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} (مريم: 66 - 70)، فمن كذب الله ورسوله بعد ذلك فالنار أولى به كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} (الفرقان: 11 - 14). ومع ذلك فإن الله سبحانه قد أزاح كل إشكال وأبطل كل شبهة عرضت للذين أنكروا البعث، وكذبوا بلقاء الله؛ ليهلك من هلك على بينة ويحي من حي عن بينة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} (الحج: 5) إنا خلقناكم أول مرة؛ فكيف نعجز عن إعادتكم مرة ثانية وأنتم تعلمون دائمًا أن المرة الثانية أهون وأيسر من المرة الأولى، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم: 27)، فإن كنتم في ريب من البعث فاعلموا أنا خلقناكم، فلن نعجز عن إعادتكم مرة ثانية كما قال -عز وجل-: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} (الواقعة: 62) يعني: فلولا تذكرون فتعلمون أن الذي أنشأكم أول مرة قادر على النشأة الأخرى. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الحج: 5 - 7)،

وقال سبحانه: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} (الإسراء: 98، 99)، وقال سبحانه: {ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (ق: 1 - 4)، فلما استبعدوا البعث بعد موتهم وتمزق أجسامهم، واختلاطها بالتراب اختلاطًا يصعب تمييزها في نظرهم، قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي: من لحومهم وعظائمهم وأشعارهم، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3، 4). ولما أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، كذبهم الله تعالى وبيَّن لهم الحكمة في البعث بعد الموت فقال -عز وجل-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل: 38، 39)، وذلك لكمال حكمته -سبحانه وتعالى- حيث جعل الدنيا دار عمل لا دار جزاء؛ ولقد كان من الناس الصالحون، ومنهم دون ذلك، ومنهم الظالمون ومنهم مظلومون، ومنهم المسلمون ومنهم القاسطون، ومنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، والموت يعمّ الجميع {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فلو أهملوا بعد الموت ولم يبعثوا لاستووا، وقد نفى الله تعالى التسوية بينهم فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (السجدة: 18)، وقال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم: 35، 36)، وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28).

فحكمة الله إذًا تقتضي أن يرجع الناس إليه ليجزيهم بما كانوا يعملون، ويقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ولذلك قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: 30، 31)، وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الجاثية: 17). هذا وإن للإيمان باليوم الآخر تأثيرًا كبيرًا في سلوك الإنسان وانضباطه، وشتان بين رجلين يؤمن أحدهما بالبعث والحساب الجزاء، ويكفر الآخر بذلك؛ فالثاني ضابطه هواه؛ وقائده شهوته ومركبه لذاته، يفعل ما يشاء من غير خوف من حساب أو جزاء، والأول ضابطه الإيمان وقائده الخوف ومركبه الطاعة، إذا همَّ بسوء تذكر أنه مجزيٌّ به فأقلع عنه، وإذا أقدم على ظلم إنسان تذكر أنه سيقتصّ منه يوم القيامة فرجع عن ظلمه، وقد فرق القرآن الكريم بين الرجلين قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 17، 18)، وقال سبحانه: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة: 44، 45)، وقال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً

الركن السادس: الإيمان بالقدر.

وَسُرُورًا} (الإنسان: 5 - 11)، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 38 - 47)، وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون: 1 - 3). فهنيئًا لمن أيقن بلقاء الله واستعد له، والويل كل الويل لمن كذب بلقاء الله ولم يستعد له، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس: 7 - 10). الركن السادس: الإيمان بالقدر أما الركن السادس من أركان الإيمان فهو: الإيمان بالقدر: والقدر: اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر، يُقال: قَدَرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق كقول ربنا سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) أي: خلقهن، فلا فرق بين القضاء والقدر بل كل منهما بمعنى الآخر، وإذا أُطلق أحدهما شمل الآخر، والإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان، وقد تظاهرت عليه الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع صحابة، وأهل الحل والعقد من السلف

والخلف قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49)، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2)، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (الأحزاب: 38)، وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى: 1 - 3)، وقال تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (طه: 40)، وقال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِيٍنٍ* فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (المرسلات: 20 - 23). وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن جبريل -عليه السلام- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت)). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كُلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس))، وقد نفى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عمَّن لم يؤمن بالقدر؛ ففي الحديث عن جابر بن عبد لله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن عبد حتى حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)). وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنّ رَسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاثةٌ لا يقبلُ الله منهم صرفًا، ولا عدلًا، عاقّ، ومنان، ومكذب بالقدر)). والإيمانُ بالقدر على أربع مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء، ومعناه أن يؤمن العبد أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، وأن الله تعالى قد علم الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات، وعلم ما كان وما يكون وما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق: 12)،

وقال تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ * وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد: 8، 9)، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود: 6)، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام: 59). وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون فقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الأنعام: 27، 28) فأخبر -سبحانه وتعالى- عن الكافرين أهل النار أنهم حين سيقوا إليها وُقفوا عليها، فلما رأوا تتلظّى؛ تمنَّوا أن يردهم الله تعالى إلى الدنيا، ويكونوا من المؤمنين، فكذبهم الله تعالى فيما قالوا فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، فعلم أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا من الكفر والتكذيب، وقال -عز وجل-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنفال: 22، 23). وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: ((قيل: يا رسول الله، أعُلم أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم. قيل: ففيما يعمل العاملون؟ قال: كلٌّ ميسر لما خلق له)) وعن علي -رضي الله عنه- بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ينكت في الأرض؛ إذ رفع رأسه إلى السماء ثم قال: ((ما منكم من أحد إلا قد عُلم مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا: أفلا نتكل يا رسول؟ قال: لا، اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له)). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أولاد المشركين، فقال: الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين)).

فالمرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء. والمرتبة الثانية: الإيمان بأن الله -سبحانه وتعالى- قد كتب ما علمه من أحوال عباده في كتاب محفوظ عنده في سمائه كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج: 70)، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد: 22)، وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يونس: 61). عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة))، وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف)). أما المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر، فهي: الإيمان بإرادة الله تعالى ومشيئته: أن يؤمن العبد أن كل شيء يجري بتقدير الله تعالى ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة العباد إلا

ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل من يشاء ويقدر ويبتلي عدلًا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعالٍ على الأضداد والأنداد، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا غالب لأمره، قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة: 13)، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (المائدة: 48)، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (الحج: 14)، وقال -عز وجل-: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (الأنعام: 125)؛ لذلك أدَّب الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بألا يجزم بفعل شيء غدًا، إلا أن يردَّه إلى مشيئة الله فقال -عز وجل-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف: 23، 24). وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه حاجة، قال اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء))، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يُصرّفه حيث يشاء))، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندًّا، قل: ما شاء الله وحده)). المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله سبحانه هو خالق كل شيء لا خالق غيره، ولا شريك له في الخلق، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} (الزمر: 62)، وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (غافر: 62)، وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (الأنعام: 102)، ومن الأشياء أعمال الناس، فأعمال الناس من خلق الله تعالى كما قال -عز وجل-: {واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.

وليس معنى القدر الإكراه والإجبار، ونفي قدرة الإنسان وقدرته ومشيئته، فللإنسان قدرته واختياره ومشيئته، قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 2، 3)، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) وقال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 27، 28)، ولكن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب سبحانه، غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم لهم أبدًا، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} (الأنبياء: 23). قال الإمام الخطابي -رحمه الله-: قد يحسبك كثير من الناس أنّ معنى القضاء والقدر إجبار الله -سبحانه وتعالى- العبد، وقهره على ما قدّره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله -سبحانه وتعالى- بما يكون من اكتساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق خيرها وشرها. هذا؛ وإن للإيمان بالقدر فوائد: من فوائد الإيمان بالقدر العزم والقضاء على ما يختاره الإنسان ويريده، فالمسلم إذا استشار إخوانه واستخار ربه في أمر ما أراده، مضى في طريق ما يريد غير متردّد أبدًا؛ لأنه توكل على الله -سبحانه وتعالى- وقد علم أن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، فهو المقدر للأشياء كلها. ومن فوائد الإيمان بالقدر عدم الندم أو الحسرة على ما فات؛ فالمؤمن لا ينوح على الماضي بالتندم والتحسر؛ لأن ذلك لن يردّ عنه شيئًا مما فات، ولأنه إنما حصل على ما كتب الله له، ولا اعتراض على قدر الله ما دام قد وقع، ولكن له أن يعتبر حياته من الخطأ أو الذم في حديث: ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين)).

ومن فوائد الإيمان بالقدر: الجرأة أمام الموت، فالموت حق لن يتخلف عن نفس بشرية، ولكن الموت لا يكون إلا بعد استيفاء كل نفس أجلها التي كتب الله لها كما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران: 185)، وقال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلً ا} (آل عمران: 145)، وذلك يجعل المؤمن شجاعًا لا يتأخر عن اللقاء إذا دُعي إليه؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- بيَّن أن الشجاعة لا تنقص من العمر، وأن الجبن لا يزيد فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (آل عمران: 156). ومن فوائد الإيمان بالقدر: الرضا والطمأنينة والتسليم لأمر الله -عز وجل- فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن: 11)، وقد قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155 - 157) عن صهيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كل خيره، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)). فيجب على كل مؤمن أن يوطّن نفسه على الرضا بالقضاء حتى يكون شعاره في هذه الحياة: يا رب ما مسني قدر بكره أو رضا ... إلا اهتديت به إليك طريقًا أمضي القضاء على الرضا مني به ... إني علمتك في القضاء رفيقًا

ونختم بشبهة قد تثار حول القدر: إن كان القدر بهذه الأهمية، فلماذا لم يُذكر في القرآن الكريم؟ إن الله تعالى ذكر أركان الإيمان خمسة في الآية التي تردّدت كثيرًا في هذا الدرس وسابقه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177) ولم يذكر الركن السادس وهو الإيمان بالقدر. والجواب: لم يصرح ربنا -سبحانه وتعالى- بالإيمان بالقدر؛ لأنه بعد الشرح والبيان لمعنى الإيمان بالقدر يتبين لنا أن الإيمان بالقدر متعلق بالله -عز وجل، وبأسمائه وصفاته؛ فهو إذًا داخل في عموم الإيمان بالله. ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن ذلك وفصّله، وعدّ الإيمان بالقدر الركن الثالث من أركان الإيمان، وصدقه على ذلك جبريل عليه السلام، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) وقال سبحانه في حق نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 1 - 4). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 4 العبادة.

الدرس: 4 العبادة.

الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (العبادة) الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: عبادة الله وحده لا شريك له هي الغاية من خلق الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 56 - 58) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 21، 22). وعبادة الله -عز وجل- هي حق الله سبحانه على العباد كما في الحديث، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: ((كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا على حمار فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال -صلى الله عليه وسلم-: حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)). والعبادة التي خلق الله تعالى الخلق من أجلها، وجعلها حقًّا لازمهم له -سبحانه وتعالى- يقول فيها شيخ الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يُحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالإيمان والإحسان، والخشية والرغبة، والرهبة، واليقين، والتوكل، وكالصلاة، والصيام، والجهاد، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما يحبه الله تعالى ويرضاه. ونبدأ بالركن الأعظم بعد الشهادتين وهو: الصلاة، فنقول -وبالله تعالى التوفيق-:

للصلاة في الإسلام منزلة لا تعدلها منزلة أية عبادة أخرى، فهي عمود الدين، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) وهي أول ما فرض الله تعالى من العبادات، فرضها بمخاطبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير واسطة ليلة المعراج، وكانت في الحديث المشهور خمسين، فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه التخفيف حتى قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (ق: 29) ((هي خمس في العمل وخمسون في الأجر والثواب)). وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، كما جاء الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهي آخر وصية وصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في مرض موته جعل يقول: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)). وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلاة فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238)، ومدح -سبحانه وتعالى- الذين هم على صلواتهم يحافظون، ووعدهم الفردوس أعلى درجات الجنة فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون: 9 - 11). وكما مدح الله -سبحانه وتعالى- الذين هم على صلواتهم يحافظون؛ فقد ذم الذين عن صلاتهم ساهون فقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم: 59)، وليس المراد بإضاعة الصلاة هنا تركها بالكلية، ولكن المراد بإضاعتها السهو عنها حتى يخرج وقتها أحيانًا كما في الآية الثانية قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (الماعون: 5)، فسماهم مصلين ولو كانوا لا يصلون ما استحقوا هذا الاسم، فهم

يصلون ولكن عن صلاتهم ساهون، يُخرجون الوقت عن وقته، يصلون الفجر بعد طلوع الشمس، والظهر بعد العصر، والمغرب بعد العشاء، وهكذا، فتوعّد الله -تبارك وتعالى- هؤلاء بالويل والغي، وقد قيل: إن الويل والغي واديان في جهنم تستغيث جهنم بالله من شدة حرهما. وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 38 - 48). ولقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلاة في الحضر والسفر والخوف والأمن فقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238، 239). وبلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن رخَّص فيها ما لم يرخص في غيرها حتى لا يبقى عذر لمعتذر يعتذر به عن عدم إقامتها، فرخص لمن فقد الماء أو عجز عن استعماله أن يتمم، كما رخص لمن عجز عن القيام في الصلاة أن يصلي قاعدًا؛ فإن عجز فعلى جنبه، فعلى المسلمين أن يتقوا الله -تبارك وتعالى- وأن يحافظوا على الصلوات كما أمرهم ربهم، ويعلموا أن الله -تبارك وتعالى- ما فرض عليهم الصلاة إلا لما لهم فيها من الفوائد التربوية؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما صرح ربنا سبحانه في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45).

والصلاة تُطهر المصلي من الأخلاق الدنيئة، والصفات القبيحة، كما قال سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19 - 23). والصلاة تعين على أمور الدين والدنيا كما قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة: 153) يقول العلامة السعدي -رحمه الله- في بيان فوائد الصلاة: من فضائلها أنها أعظم عبادة يحصل فيها الخضوع والذل لله، وامتلاء القلب من الإيمان به وتعظيمه، وذلك مادة سعادة القلب الأبدية ونعيمه، ولا يمكن تغذيته بمثل الصلاة، والصلاة أعظم غذاء وسقي لشجرة الإيمان؛ فالصلاة تثبت الإيمان وتنميه، وتنمي ما يثمره الإيمان من فعل الخير والرغبة فيه، وكذلك تنهى عن الشر قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أكبر} (العنكبوت: 45)، فأخبر أن فيها الغذاء بذكر الله والشفاء بنهيها عن الفحشاء والمنكر، وأي شيء أعظم من هذا وأجلّ وأكمل. وللصلاة خمس فوائد كل واحدة خير من الدنيا وما عليها: تكميل الإسلام التي هي أكبر أركانه، وتكفير السيئات، وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، وزيادة القرب من رب السموات، وزيادة الإيمان في القلب ونوره، وقد شرع الشارع الاجتماع للصلوات الخمس والجمعة، والعيد لما في الاجتماع من حصول التنافس في الخيرات والتنشيط عليها، والتعلم والتعليم لأحكامها. ومن فوائدها الطبية البدنية وهي مصلحة تابعة لغيرها ما فيها من الرياضة المتنوعة النافعة للبدن، المقوية للأعضاء، والحركة المذيبة للأخلاط الغليظة، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على المحافظة على الصلاة.

الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة.

الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة أما العبادة الثانية فهي الزكاة، والزكاة: اسم لهذا القدر من المال الذي يدفعه الأغنياء للفقراء، وسُمية زكاة؛ لأنها تزكّي المال وتنميه كما تزكي صاحبها وتطهّره من دنس البخل والشح، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103)، والزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، وفريضة من فرائض الدين، وقد دلّ على فرضيتها الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103)، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43)، وقال تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ} (الحج: 78). وقد قُرنت الزكاة بالصلاة في اثنتين وثمانين آية، وفي الحديث المشهور قال -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت))، ولما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى اليمن قال له: ((إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فادعهم إلى شهادة إلا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فإيَّاك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). وأجمعت الأمة على وجوب الزكاة وأنها أحد فرائض الدين، وقد كثر في القرآن الكريم وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الحث على إخراج الزكاة والترغيب في أدائه،

والترهيب من منعها، قال الله تعالى: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان: 1 - 5)، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} (الذاريات: 15، 16) ثم فسر إحسانهم فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: 17، 18)، وهذا إحسانهم بينهم وبين الله سبحانه، ثم قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19)، وهذا إحسانهم فيما بينهم وبين الناس. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (التوبة: 71)، وقال تعالى في التحذير من البخل بالزكاة: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 180)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تفسير هذه الآية: ((من آتاه الله مالًا؛ فلم يؤدِّ زكاته؛ مُثِّل له ماله شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذه بلهزمتيه -يعني: شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك))، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الآية السابقة. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34، 35)، وفي تفسير هذه

الآية أيضًا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صُفّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم؛ فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار)). فإذا وجبت الزكاة على مسلم أو مسلمة، وشروط وجوبها معروفة من كتب الفقه؛ وجب على المسلم أن يُبادر بإخراج زكاته طيبة بها نفسه، محتسبًا أجرها عند الله -سبحانه وتعالى- فإن فعل فقد وقع أجره على الله، وإذا امتنع أخذ الحاكم منه الزكاة قهرًا، وأخذ شطر ماله عقوبة؛ ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء))، وإذا اجتمع أهل بلد على منع الزكاة، وكانت لهم شوكة وغلبة قاتلهم الحاكم حتى يأخذها منهم قهرًا، كما فعل خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق -رضي الله عنه. ففي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر -رضي الله عنهما-: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله))، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها، قال عمر -رضي الله عنه-: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق".

هذا؛ وإن لإيتاء الزكاة فوائد طيبة تعود على المزكي بالخير في الدنيا وفي الآخرة: يقول العلامة السعدي -رحمه الله- في ذكر فوائد الزكاة: إنها أعظم شعائر الدين وأكبر براهين الإيمان، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والصدقة برهان)) أي: برهان على إيمان صاحبه ودينه، ومحبته لله -سبحانه وتعالى- حيث جاد لله بماله المحبوب للنفوس، ومنها أنها تُزكي وتنمي المعطي والمعطى، وتنمي المال الذي أخرجت منه، فليست فائدة الزكاة قاصرة على المزكي المعطي، بل إن فائدتها تشمل المزكي المعطي والفقر المُعطَى، أما تزكيتها للمعطي فإنها تزكي أخلاقه وتطهره من الشح والبخل والأخلاق الرذيلة، وتنمي أخلاقه فيتصف بأوصاف الكرماء المحسنين الشاكرين، فإن إيتاء الزكاة من أعظم الشكر لله. والشكر دائمًا معه المزيد كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)، والزكاة تنمي الأجر والثواب، فإن الزكاة والنفقة تضاعف أضعافًا كثيرة بحسب إيمان صاحبها وإخلاصه ونفعها ووقوعها موقعها، وهي تشرح الصدر وتفرح النفس، وتدفع عن العبد من البلايا والأسقام شيئًا كثيرًا، فكم جلبت من نعمة دينية ودنيوية، وكم دفعت من نقم ومكاره وأسقام، وكم خففت الآلام، وكم أزالت من عداوات وجلبت مودة وصدقات، وكم تسببت لأدعية مستجابة من قلوب صادقات، وهي أيضًا تنمي المال المخرج منه، فإنها تقيه الآفات وتحلّ فيه البركة الإلهية؛ ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما نقصت صدقة من مال)). لا، والله ما نقصت صدقة من مال، بل الصدقة تزيد المال، فقد قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39).

الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام.

وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من صباح يوم إلا وينزل ملكان يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا)) فهذا بعض فوائد الزكاة للمعطي الذي يجود بها. أما نفعها للمعطى؛ فإن الله قد أمر بدفعها للمحتاجين من الفقراء والمساكين، والغارمين، وفي الرقاب، وللمصالح التي يحتاج المسلمون إليها، فمتى وضعت في محلها اندفعت الحاجات والضرورات، واستغنى الفقراء أو خف فقرهم، وقامت المصالح النافعة العمومية، فأي فائدة أعظم من ذلك وأجل. فلو أن الأغنياء أخرجوا زكاة أموالهم، ووضعت في محالّها لقامت المصالح الدينية والدنيوية، وزالت الضرورات، واندفعت شرور الفقراء، وكان ذلك أعظم حاجزٍ، وسدٍّ يمنع عبث المفسدين، ولهذا كانت الزكاة من أعظم محاسن الإسلام لما اشتملت عليه من جلب المصالح والمنافع ودفع المضار. الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام أما العبادة الرابعة فهي الصيام: صيام رمضان، وصيام رمضان واجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 183 - 185).

وقد عدّه النبي -صلى الله عليه وسلم- ركنًا من أركان الإسلام كما في الحديث المشهور: ((بني الإسلام على خمس: شهادة إلا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)). وقد أجمعت الأمة على أن صوم رمضان أحد أركان الإسلام، وفضل الصيام عظيم؛ فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثّ أصحابه على الصيام ويبين لهم فضله وثوابه، ومما أُثر عنه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قوله: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله -عز وجل-: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)). ((للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن في الجنة باب يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد)). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي ربي منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)). فعلى المسلمين والمسلمات أن يحافظوا على صيام شهر رمضان، وأن يصوموه إيمانًا واحتسابًا ((فمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه))، وعليهما أن يعودا صبيانهما الصيام من صغرهم ليعتادوا على الصيام، فلا يشقّ عليهم إذا صار واجبًا عليهم بعد البلوغ، كما كانت تفعل نساء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

عن الربُيّع بنت معوذ قالت: أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار ((من أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم، قالت: فكنا نصومه بعدُ، ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهما على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)). هذا؛ وإن للصيام أحكامًا فقهية مردّها إلى علم الفقه، لكننا نقول: إن للصيام آدابًا يستحب للصائم أن يأخذ نفسه منها، ومن أهمها الكفّ عن اللغو والرفث ونحوهما مما يتنافى مع الصوم، وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله؛ فليقل إني صائم))، وعنه -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من لم يدع قول الزور والعمل، فليس الله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، وقد أثر عن بعض السلف أنه قال: "إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك، وليكن عليك يوم صومك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء". هذا؛ وإن للصيام فوائد تعود على الصائمين أعظمها ما صرّح به ربنا -سبحانه وتعالى- في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، فذكر تعالى للصوم هذه الفائدة العظمى، المحتوية على فوائد كثيرة، وهي قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: ليكون صيام وسيلة لكم إلى حصول التقوى، ولتكونوا بالصيام من المتقين، وذلك أن التقوى اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من فعل المحبوبات لله ورسوله، وترك ما يكرهه الله ورسوله.

فالصيام هو الطريق الأعظم لحصول هذا الغاية الجليلة التي توصل العبد إلى السعادة والفلاح؛ فإن الصائم يتقرب إلى الله بترك ما تشتهي نفسه من طعام وشراب، وتوابع ذلك؛ تقديمًا لمحبة الله على محبة النفس، ولذلك اختص الله تعالى لنفسه الصيام من بين سائر الأعمال، فقال: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزِي به)). وبالصيام يزداد الإيمان ويتمرّن العبد على الصبر النفسي الدافع لاندفاع النفس البهيمية في شهواتها الضارة، وبالصيام يستعين العبد على كثير من العبادات من صلاة وقراءة وذكر وصدقة، ويرجع النفس عن الوقوع في الأمور المحرمة من أقوال وأفعال، وذلك من أصول التقوى، وبالصيام يعرف العبد نعمة الله عليه في أقداره على ما يتمتع به من مأكل ومشرب ومنكح وتوابع ذلك، فالامتناع منها في وقت وحصول المشقة بذلك، وإباحته في بقية أوقاته يذوق طعم الجوع والظمأ، ويعرفه مقدار النعمة ويحنو على إخوانه المعدمين الذين لا يكادون يجدون القوت دائمًا. وبالصيام يكون العبد صابرًا على الطاعات، وعن المخالفات، وعلى أقدار الله المؤلمة بصبره عن المفطرات التي يؤلم النفس تركها، ويكون من الشاكرين لله بمعرفة مقدار نعمة الله عليه بالسعة والغنى، وبنعمته الكبرى بتوفيقه للصيام. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصيام يُكفّر الذنوب المتقدمة كلها، وأن الله يحبه ويرضى عن صاحبه، ويعطيه أجرًا عظيمًا، وأن من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنّما صام الدهر، ومن صام من كل دهر ثلاثة أيام، فكذلك، فإن الحسنة بعشرة أمثالها، وذلك يعدل صيام الدهر، فضلًا من الله ومنة، ومن تيسير الله للصيام وتسهيله: أن الله تعالى شرعه في وقت واحد وشهر واحد؛ ليتفق

الركن الرابع بعد الصلاة: الحج.

المسلمون كلهم على صيامه وتهون المشقة باشتراكهم في الصيام، فإن الاشتراك في العبادة له نفع عظيم، ومساعدة جسيمة، ولله في العبادات حكم وأسرار ولطف كبير، ولله الفضل وله الحمد والشكر والثناء الحسن الجميل. الركن الرابع بعد الصلاة: الحج الرابع من العبادات: الحج: قال الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 96، 97)، فالحج ركن من أركان الإسلام وفريضة من فرائضه كما هو مشهور في حديث ابن عمر: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة إلا إله الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا)). ومن رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده المؤمنين أنه لم يوجب عليهم الحج إلا مرة واحدة في العمر واشترط لوجوب الحد الاستطاعة؛ فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، فالحج واجب على كل مسلم بالغ عاقل حرٍّ مستطيع، وتتحقق الاستطاعة بأمن الطريق والصحة، وملك النفقة التي تكفيه لذهابه وإيابه؛ شريطة أن تكون فاضلة عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقتهم، من امرأة، وولد، وخادم، ونحو ذلك. ويُشترط في حق المرأة أن تكون مستطيعة أن يصحبها زوج أو محرم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يخلونّ رجل بامرأة إلا

ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني امرأتي خرجت حاجّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: انطلق فحج مع امرأتك)). فالاستطاعة في حق المرأة مشروطة بالشروط المذكورة في حق الرجل، وتزيد عليه أن يصحبها زوج أو محرم؛ لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة أن تسافر وحدها. والمحرم هو: من يحرم على المرأة أبدًا كالأب والابن، والأخ وابن الأخ وابن الأخت، ونحوهم مما حرم الله علي النساء، كما ذكر ذلك في كتابه، ومتى تحقَّقت الاستطاعة في حق المسلم أو المسلمة؛ وجب المبادرة بالحج من العام نفسه؛ فإن الحج في أرجح أقوال العلماء واجب على الفور لا على التراخي؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة وتعرض الحاجة))، والله سبحانه يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (لقمان: 34)، والزمان أكبر شاهد على ضرورة التعجل بالحج؛ ففي كل عام تتغير القوانين وتزيد التكاليف، فالسعيد الموفق من عجل بتبرئة ذمته بأداء فريضة ربه {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. هذا؛ وإن للحج فقهًا يُعرف من كتب الفقه إن شاء الله تعالى، لكننا نقول: إن الحج كعبادة الله -سبحانه وتعالى- فرضها الله على المسلمين المستطيعين كما بينا في هذه العبادة فوائد عظيمة، بيّنها العلامة السعدي -رحمه الله- فقال: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّ الحجّ أحدُ أركان الإسلام ومبانيه العظام، وأن من حج البيت فلم يرفث، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وكل هذا في الصحيحين.

وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الحج والعمرة ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وورد في فرضه وفضله وثوابه أحاديث كثيرة، وذلك لما فيه من المنافع العامة والخاصة، وقد بيَّن ربنا -سبحانه وتعالى- مجمل حكمه ومنافعه حيث قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 27، 28) أي: منافع دينية واجتماعية ودنيوية، وقال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} (المائدة: 97)، فإن به تقوم أحوال المسلمين، ويقوم دينهم ودنياهم، فلولا وجود البيت الحرام في الأرض وعمارته بالحج والعمرة والتعبدات الأخرى؛ لآذن هذا العالم بالخراب. ولهذا كان من أمارات الساعة واقترابها هدم البيت الحرام بعد عمارته وتركه بعد زيارته؛ فإن الحج مبني على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها، فإن حقيقته استزارت المحبوب لأحبابه، وإيفادهم إليه؛ ليحظوا بالوصول إلى بيته، ويتمتعوا بالتذلل له والانكسار له في مواضع النسك، ويسألوه جميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم؛ فيجزل لهم من قراه ما لا يصفه الواصفون، وبذلك تتحقق محبتهم لله، ويظهر صدقهم بإنفاق نفائس أموالهم، وبذل مُهَجهم في الوصول إليه. فإن أفضل ما بذلت في الأموال، وأتعبت فيه الأبدان، وأعظمه فائدة وعائدة ما كان في هذا السبيل، وما تُوسّل به إلى هذا العمل الجليل، ومع ذلك فقد وعدهم بإخلاف النفقات، والحصول على الثواب الجزيل والعواقب الحميدة. ومن فوائد الحج: أن فيه تذكرة لحال الأنبياء والمرسلين، ومقامات الأصفياء المخلصين، كما قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125)،

والصحيح في تفسيرها أن هذا عام في جميع مقاماته في الحج من الطواف وركعتيه، والسعي والوقوف بالمشاعر، ورمي الجمار، والهدي، وتوابع ذلك. ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- يقول في كل مشعر من مشعر الحج: ((خذوا عني مناسككم)). فهو تذكير بحال إبراهيم الخليل والمصطفين من أهل بيته، وتذكير بحال سيد المرسلين وإمامهم ومقاماته في الحج التي هي أجل المقامات، وهذا التذكير أعلى أنواع التذكيرات؛ فإنه تذكير بأحوال عظماء الرسل إبراهيم، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ومآثرهم الجليلة، وتعبداتهم الجميلة. والمتذكر بذلك مؤمن بالرسل معظم لهم، متأثر بمقاماتهم السامية، مقتضيًا بآثارهم الحميدة، ذاكرٌ لمناقبهم وفضائلهم فيزداد به العبد إيمانًا ويقينًا. كما أن الحج شُرع لما فيه من ذكر الله الذي به تطمئن القلوب، ويصل به العبد إلى أكمل مطلوب. ومن فوائد الحج: أن المسلمين يجتمعون في وقت واحد، وموضع واحد على عمل واحد، ويتصل بعضهم ببعض، ويتم التعاون والتعارف، ويكون وسيلة للسعي في التعرف المصالح المشتركة بين المسلمين والسعي في تحصيلها بحسب القدرة والإمكان، وبذلك تتحقق الوحدة الدينية، والأخوة الإيمانية، ويرتبط أقصى المسلمين بأدناهم، فيتفاهمون، ويتعارفون، ويتشاورون في كل ما يعود بنفعهم، وبذلك يكتسب العبد من الأصدقاء والأحباب ما هو أعظم المكاسب، ويستفيد بعضهم من بعض. وأما توابع ذلك من المصالح الدنيوية بالتجارات والمكاسب الحاصلة في مواسم الحج، ومواضع النسك، فإنها تفوق العدّ، وكل هذا داخل في قول ربنا: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 28). إنه لموسم عظيم لا يشبه شيء من مواسم

الأقطار، كم أُنفقت فيه نفائس الأموال، وكم أتعبت في السعي إليه الأبدان، وكم حصل فيه شيء كثير من أصناف التعبدات، وكم أريقت في تلك المواضع العبرات، وكم أقيلت في العثرات، وغفرت الذنوب والسيئات، وكم فرجت فيه الكربات، وقضيت الحاجات، وكم ضجّ المسلمون فيه بالدعوات المستجابات، وكم تمتع فيه المحبون بالافتقار إلى رب السموات، وكم أسبغ الباري فيه عليهم من ألطاف ومواهب وكرامات، وكم عاد المسرفون على أنفسهم كيوم ولدتهم الأمهات، وكم حصل فيه من تعارف نافع واستفاد منه العبد من صديق صادق، وكم تبادلت فيه الآراء والمنافع المتنوعة، وكمّ تم للعبد فيه من مآب ومطالب متعددة، ولله الحمد والمنّة. هذه هي أصول العبادات الصلاة والصيام والزكاة والحج هذه الشرائع المتقدم ذكرها، قد تبين أنها من أعظم الضرورات، وأنه لا غنى للخلق عنها للفوائد الجلية المترتبة عليها، والأضرار الكثيرة الناشئة عن فقدها، وأنها أعظم منن الله على عباده، وأعظم محاسن الدين الإسلامي، وأن كل دين خلا منها، وكل طريق فقدت منه؛ فإنه شر محض، وضرر صرف، وأنه إذا وجد خير في شخص أو طائفة من الناس؛ فانظر وتأمّل تجد بلا شك أصله ومنبعه مأخوذ من الدين الإسلامي، وإن غُيّرت صبغته، وسمي بغير اسمه، كما أنك لا تجد شرًّا ولا ضررًا إلا وجدت منبعه بمخالفة الدين الإسلامي، لا يشذّ عن هذا شيء، فالخير حيث كان الدين، والشر حيث فُقد الدين، والحمد لله الذي من علينا الإسلام، وشرح صدورنا له، وحبب إلينا الإيمان. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 5 الأخلاق.

الدرس: 5 الأخلاق.

علاقة الأخلاق بالعقيدة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الأخلاق) علاقة الأخلاق بالعقيدة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: إن الأخلاق الحميدة الكريمة الطيبة هي ثمرة العقيدة الصحيحة والعبادة الصالحة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا)) فكلما ازداد إيمان المؤمن حسن خلقه. وفي علاقة الأخلاق بالعقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: لفظ الإيمان إذا أُطلق في القرآن والسنة يُراد به ما يُراد بلفظ البر وبلفظ التقوى وبلفظ الدين، وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) فكان كل ما يحب الله تعالى يدخل في اسم الإيمان، وإذا كان الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب وأنه لا بد فيه من شيئين: الأول تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته، وهذا هو التوحيد، والآخر عمل القلب وهو التوكل على الله وحده، ونحوه مثل حب الله ورسوله وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده- كانت أعمال القلب من الحب والإخلاص والخشية والتوكل ونحوها داخلة في الإيمان بهذا المعنى، وكانت هذه الأخلاق الفاضلة ونحوها داخلة في الإيمان. وأما البدن فلا يمكن أن يتخلف عن مراد القلب؛ لأنه إذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب))، وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طاب جنوده".

إنه إذا كان عمل القلب من الأمور الباطنة وعمل الجسد من الأمور الظاهرة فإن الظاهر تابعٌ للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي الذي كان يعبث بيديه وجوارحه: "لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه"، وهكذا، فإنه لما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان لم يفرق الله -عز وجل- بينها وبينه في قوله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (الحجرات: 7) فأدخل في الإيمان جميع الطاعات؛ لأنه سبحانه حبب إليهم ذلك حب تدين، وكره إليهم الكفر والفسوق وسائر المعاصي كراهة تدين، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)) لأن الله -سبحانه وتعالى- حبب إلى المؤمنين الحسنات وكره إليهم السيئات. إن الأخلاق الفاضلة من نحو صدق الحديث وأداء الأمانة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر، وتلاوة القرآن وكذلك حبّ الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك كلها داخلة في مفهوم العبادة؛ وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وبها أرسل الله جميع الرسل كما قال سبحانه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) ولذلك اتفقت كلمة الأنبياء أجمعين على {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59)، والدين كله داخل في العبادة التي تتضمن غاية الذُّلّ لله بغاية المحبة

له، ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركنًا أساسيًّا من أركانه. إن هذه الأخلاق الإيمانية هي وجه من الوجوه التي يتفاضل فيها الناس فيما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصانه؛ ولذلك يقول -رحمه الله-: من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، كما يتفاضلون في سلامة القلوب من الرياء والكبر والعجب والرحمة للخلق والنصح لهم ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، ومصداق هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)). ثم يبين -رحمه الله- أن الإيمان هو مصدر الأخلاق في الإسلام، فيقول -رحمه الله-: لما كانت الأخلاق من الإيمان بهذه المثابة كان الإيمان هو مصدر الإلزام الخلقي، بمعنى: أن الإيمان له قوته الإيجابية التي تعمل على تنمية المشاعر وتنقيتها، وأن القوة الإيمانية تترك بصماتها على اتجاهات السلوك الإنساني، ولا سيما في مجال العلاقات الإنسانية، يقول الله -تبارك وتعالى- في بيان حقيقة الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 2 - 4) فلقد نصَّت هذه الآيات على خمس صفات للمؤمن الحق، وهذه الخمس -كما يقول ابن تيمية- تتضمن ما عداها، فإنه سبحانه ذكر وجل القلوب إذا ذكر الله، وزيادة الإيمان إذا تليت الآيات، مع التوكل على الله وإقام الصلاة والإنفاق في سبيل الله، فكان هذا مستلزمًا للباقي؛ لأن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه، وإذا كان وجل القلب من ذكر الله يتضمن خشيته ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور.

علاقة الأخلاق بالعبادة.

وقد استخلص من ذلك بعض الباحثين أن الالتزام الخلقي الناتج عن الإيمان تكون له دومًا مصادره أو روافده التي تزكيه وتزيد من عمقه وثباته، سواء في مجال الإقدام على الخير أو في مجال الابتعاد عن الشر، وكلاهما لازمٌ للآخر حسب ما تقضي بذلك طبيعة الإيمان. هذه هي علاقة الأخلاق بالعقيدة. علاقة الأخلاق بالعبادة أما علاقة الأخلاق بالعبادة؛ فقد بيّنها الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- حيث قال في مقدمة كتابه (خلق المسلم): لقد حدَّد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته والمنهاج المبين في دعوته بقوله: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، فكأن الرسالة التي خطَّت مجراها في تاريخ الحياة وبذل صاحبها جهدًا كبيرًا في مدِّ شعاعها وجمع الناس حولها، كأن هذه الرسالة لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم حتى يسعوا إليها على بصيرة. والعبادات التي شُرعت واعتبرت أركانًا في الإيمان به ليست طقوسًا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها، كلا كلا، فالفرائض الذي ألزم بها كل منتسب إليه هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة وأن يظلَّ مستمسك بهذه الأخلاق مهما تغيَّرت أمامه الظروف، إنها أشبه بالتمارين الرياضية التي يُقبل الإنسان عليها بشغف ملتمسًا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة. والقرآن الكريم والسنة المطهرة يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق؛ فالصلاة الواجبة عندما أمر الله تعالى بها أبان الحكمة من إقامتها فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45)، فالإبعاد عن

الرذائل والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة، والزكاة المفروضة ليست ضريبة تُؤخذ من الجيوب بل هي غرس لمشاعر الحنان والرأفة وتوطيدٌ لعلاقات التعارف والألفة بين شتَّى الطبقات، وقد نص القرآن الكريم على الغاية من إخراج الزكاة بقول الله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103)، فتنظيف النفس من أدران النقص والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى، ومن أجل ذلك وسَّع النبي -صلى الله عليه وسلم- في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((تبسّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلالة لك صدقة، وإماطة الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة)). وهذه التعاليم في البيئة الصحراوية التي عاشت دهورًا على التخاصم تُشير إلى الأهداف التي رسمها ا، لله وقاد العرب في الجاهلية المظلمة إليها. وكذلك شرع الإسلام الصوم، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائمًا من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة، وإقرارًا لهذا المعنى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((من لم يدعُ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، والقرآن الكريم يذكّر بثمرة الصوم فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة التي كُلف به المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه قد يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعاني الخلقية، ومثلًا لما قد تحتويه الأديان أحيانًا من تعبدات غيبية، وهذا الحسبان خطأ؛ فإن الله -تبارك

تعريف الأخلاق وأهميتها.

وتعالى- قال عن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197). هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام، وعرفت على أنها أركانه الأصلية نستميل منها متانة الأواصر التي تربط الدين بالخلق، إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((إنما بعثتم لأتمم مكارم الأخلاق)). فالصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام هي مدارك الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكي قلبه وينقيه لبه، ويهذب بالله وبالناس صلته، فقد هوى قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه: 74 - 76). تعريف الأخلاق وأهميتها ما هي الأخلاق؟ الجواب: الأخلاق جمع: خلق، والخلق في اللغة: الطبع والسجية. وفي اصطلاح العلماء -كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالي، رحمه الله-: الخلق هيئة في النفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية. وللأخلاق في الإسلام أهمية بالغة؛ وذلك لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان وما يصدر عنه، بل نستطيع أن نقول: إن سلوك الإنسان موافقٌ لما هو مستقر في

نفسه من معانٍ وصفات، وما أصدق كلمة أبي حامد الغزالي إذ يقول: فإن كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، فأفعال الإنسان إذًا موصولة دائمًا بما في نفسه من معانٍ وصفات صلة فروع الشجرة بأصولها المغيبة في التراب، ومعنى ذلك: أن صلاح أفعال الإنسان إنما هو بصلاح أخلاقه؛ لأن الفرع بأصله، إذا صلح الأصل صلح الفرع وإذا فسد الأصل فسد الفرع، والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًاَ} (الأعراف: 58)، ولهذا كان النهج السديد في إصلاح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون بإصلاح النفوس وتزكيتها، وغرس معاني الأخلاق الجيدة فيها، ولهذا أكد الإسلام على صلاح النفوس، وبيّن أن تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء، ويسر وعسر ورخاء، وضيق وطمأنينة وقلق، وعز وذل، كل ذلك ونحوه تبعٌ لتغيير ما بأنفسهم من معانٍ وصفات، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11). وتظهر أهمية الأخلاق أيضًا من ناحية أخرى؛ ذلك أن الإنسان قبل أن يفعل شيئًا أو يتركه يقوم بعملية وزنٍ وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الأخلاق المستقرة في نفسه، فإذا ظهر الفعل أو الترك مرضيًّا مقبولًا انبعث في النفس رغبة فيه واتجاهٌ إليه ثم إقدامٌ عليه، وإن كان الأمر خلاف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته وأحجمت عنه تركًا كان أو فعلًا. إن عملية الوزن هذه قد تكون سريعة جدًّا وغير محسوس بها إلى درجة أن الإنسان قد يفعل الشيء أو يتركه بدون روية أو تفكير، وفي بعض الأحيان لا تتم عملية الوزن والتقييم إلا بعد تأمل ومضيّ وقت طويل، وقد لا تتم هذه العملية فيقع الإنسان في تردّد بين الفعل والترك، ولكن في جميع الأحوال لا بد من عملية الوزن والتقييم لكل فعل أو ترك بلا استثناء.

مكانة الأخلاق في الإسلام.

إن وزن الأفعال والتروك بميزان الأخلاق، وصحة هذا الوزن أو فساده ومدى التزام الإنسان بمقتضاه وتنفيذه له، كل ذلك يتوقف على نوع المعاني الأخلاقية التي يحملها؛ من حيث جودتها أو رداءتها ومدى رسوخها في نفسه وانصباغها بها وحماسه لها وغيرته عليها وشعوره بضرورتها إليه، فلا يكفي لظهور أثر الأخلاق في فعل الإنسان وتركه أن يعرف الإنسان الجيد والرديء من الأخلاق، ويخزن هذه المعرفة في رأسه، ويتكلم بها في المناسبات، بل لا بد من انصباغ كيانه بها ورسوخه في أعماق نفسه؛ بحيث تصير له كاللون الأسود والأبيض بالنسبة للبشرة السوداء أو البيضاء، وأن تكون حاضرة في ذهنه مسيطرةً على سلوكه، متحمسًا لها، غيورًا عليها إلى درجة الإيمان بأن الحياة لا تصلح عضوًا للتفريط بمعنًى من معانٍ الأخلاق الفاضلة الإسلامية التي يحملها. ومن أجل هذا أكّد الإسلام على معاني الأخلاق المطلوبة وشوّق إليها وحث النفوس عليها وكررها وأعادها حتى يتذكر المسلم دائمًا وينصبغ بها فيكون أثرها واضحًا في سلوكه. مكانة الأخلاق في الإسلام وللأخلاق في الإسلام مكانة عظيمة جدًّا، تظهر من وجوه كثيرة نذكر منها ما يأتي: أولًا: تعليل الرسالة بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارم الأخلاق: جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)). ثانيًا: تعريف الدين بحسن الخلق: فقد جاء في حديث مرسل، أن رجل جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((حسن الخلق))، وهذا

يعني: أن حسن الخلق ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدين بدونه، كالوقوف في عرفات بالنسبة للحج؛ فقد جاء في الحديث الشريف: ((الحج عرفة)) أن ركن الحج العظيم الذي لا يكون الحج إلا به هو الوقوف في عرفات. ثالثًا: من أكثر من يرجح كفّة الحسنات يوم الحسنات يوم الحساب حسن الخلق، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة حسن الخلق)). رابعًا: المؤمنون يتفاضلون في الإيمان، وأفضلهم في الإيمان أحسنهم أخلاقًا، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا))، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن أكمل الناس إيمانًا قال: ((أحسنهم خُلقًا)). خامسًا: إن المؤمنون يتفاوتون في الظفر في حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقربهم منه يوم القيامة، وأكثر المسلمين ظفرًا بحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرب منه من حسنت أخلاقهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)). سادسًا: إن حسن الخلق أمرٌ لازم وشرط لا بد منه للنجاة من النار والفوز بالجنة، وإن التفريط بهذا الشرط لا يغني عنه كل عمل صالح حتى الصلاة والصيام، ففي الحديث أنه قيل: يا رسول الله فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: ((لا خير فيها، هي في النار)). سابعًا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ربه بأن يحسِّن خلقه، وهو ذو الأخلاق الحسنة، وكان يسأل الله أن يهديه إلى أحسن الأخلاق، صحّ بذلك الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا قام من الليل قال: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق؛ فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيّئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت))، كما كان

خصائص الأخلاق في الإسلام.

يقول: ((اللهم كما حسّنت خَلقي حسن خُلقي))، ومعلوم أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يدعو إلا بما يحبه الله ويقربه منه. ثامنًا: مدح رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- بحسن الخلق، فقال عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، والله تعالى لا يمدح رسوله إلا بالشيء العظيم مما يدل على عظيم منزلة الأخلاق في الإسلام. تاسعًا: كثرة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الأخلاق، أمرًا بالجيد منها ومدحًا للمتصفين به، ومع المدح ثواب، ونهيًا عن الرديء منها، وذم المتصفين به ومع الذم العقاب، ولا شك أن كثرة الآيات في موضوعات الأخلاق يدل على أهميتها، ومما يزيد في هذه الأهمية أن هذه الآيات منها ما نزل في مكة قبل الهجرة، ومنها ما نزل في المدينة بعد الهجرة؛ مما يدل على أن الأخلاق أمر مهم جدًّا لا يستغني عنه المسلم، وإن مراعاة الأخلاق تَلزم المسلم في جميع الأحوال؛ فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرآن بها في سوره المكية والمدنية على حدٍّ سواء. خصائص الأخلاق في الإسلام ويتميز نظام الأخلاق في الإسلام بجملة خصائص؛ منها: تفصيل الأخلاق وشمولها في الوسيلة والغاية، وارتباطها بمعاني الإيمان والتقوى ووقوع الجزاء فيها، وسنبين هذه الخصائص بإيجاز إن شاء الله تعالى. أما التعميم والتفصيل في الأخلاق: فقد دعا الإسلام إلى الأخلاق الكريمة دعوة عامة؛ من ذلك قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وقوله سبحانه:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} (النحل: 91)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن)) فهذه دعوةٌ عامة إلى التحلّي بمكارم الأخلاق، إلا أن الإسلام لم يكتفِ بهذه الدعوة العامة حتى فصّل القول في الأخلاق الحميدة التي يجب على المسلم أن يتخلق بها، كما فصل القول في الأخلاق الرديئة التي يجب على المسلم أن يتخلى عنها، والحكمة في هذا البيان المفصل توضيح معاني الأخلاق وتحديدها؛ لئلا يختلف الناس فيها وتتدخل الأهواء في تحديد المراد منها، ومن مظاهر رحمة الله بعباده أن بيَّن لهم ما يتقون وما يأخذون وما يتركون. وفي القرآن والسُّنة أمثلة تفصل الأخلاق الحميدة والأخلاق الرديئة: قال الله -تبارك وتعالى- في الأمر بالوفاء بالعهد: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: 34)، وقال في الأمر بالعدل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152)، وقال في النهي عن الكبر: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (الإسراء: 37)، وقال في النهي عن تغيير الشهادة: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8)، وقال في التعاون على البر والتقوى والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2)، وقال في الحث على الصبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200)، وقال في الأمر بالصدق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119)،

وقال في التحذير من الكذب: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28)، وقال في التحذير من الكِبر: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36)، وقال في الأمر بالثبات على الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)، وقال في التحذير من الرّدّة: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217). والذي يتتبع آيات القرآن الكريم يجد فيها كثيرًا من الآيات الجامعة لكثير من مكارم الأخلاق، كما يجد فيها كثير من الآيات التي تنهى عن مساوئ الأخلاق: يقول الله -تبارك وتعالى- في جوامع الأخلاق الحميدة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون: 1 - 11)، ويقول -سبحانه وتعالى- في جملة آيات نهى فيها عن بعض الأخلاق الدنيئة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 11، 12).

كذلك جاءت السنة بتفصيل مكارم الأخلاق التي ينبغي للمسلم أن يتخلَّق بها، والتحذير من مساوئ الأخلاق التي لا يجوز للمسلم أن يتخلق بها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خُلق الحياء: ((الحياء لا يأتي إلا بخير))، ويقول: ((إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء))، ويقول في النهي عن الغضب وقد قال له رجل أوصني قال: ((لا تغضب))، ويقول في الحث على التعاون: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))، ويقول في الحث على الرفق: ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه))، ويقول في الأخلاق الدنيئة التي لا يجوز للمسلم أن يتخلق به: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو لمسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره الشريف ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)). هذا ما جاء في القرآن والسنة عن الخاصية الأولى من خصائص الأخلاق في الإسلام وهي التعميم والتفصيل في الأخلاق. ومن خصائص نظام الأخلاق في الإسلام: الشمول، ونعني به أن دائرة الأخلاق الإسلامية واسعة جدًّا، فهي تشمل جميع أفعال الإنسان الخاصة به أو المتعلقة بغيره سواء أكان الغير فردًا أو جماعة أو دولة، فلا يخرج شيء عن دائرة الأخلاق ولزوم مراعاة معاني الأخلاق مما لا نجد له نظيرًا في أية شريعة سماوية سابقة ولا في أية شريعة وضعية.

ونذكر هنا على سبيل التمثيل فقط مدى مراعاة الأخلاق في علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول؛ ليتبين لنا مدى حرص الإسلام على التمسك بمعاني الأخلاق، ووجه اختيارنا لهذه العلاقات هو ما شاع بين الناس ويؤيّده الواقع أن العلاقات بين الدول لا تقوم على أساس مراعاة الأخلاق؛ حتى إن أحدهم قال: لا مكان للأخلاق في العلاقات الدولية، ولهذا كان الخداع والتضليل الغدر والكذب من البراعة في السياسة. إن الإسلام يرفض هذا النظر السقيم، ويعتبر ما هو قبيح في علاقات الأفراد قبيحًا أيضًا في علاقات الدول، ويعتبر ما هو مطلوب وجميل في علاقات الأفراد مطلوبًا وجميلًا أيضًا في علاقات الدول؛ ولهذا كان من المقرر في شرع الإسلام أن على الدولة الإسلامية أن تلتزم بمعاني الأخلاق، وهذا التقرير موجود في القرآن الكريم كما هو موجود في السنة النبوية المطهرة وفي أقوال الفقهاء، يقول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال: 58) يقول الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: إذا كانت بينك وبين قوم معاهدة صلح فخفت منهم خيانة أن ينقضوا عهدهم ويغدروا بك ويبدءوك بالحرب؛ فلا تخونهم أنت ولا تبادر بنقض العهد ولا تبادر بالحرب، وإنما أعلمهم بأن المعاهدة قد انتهت، وأن الحرب قد أُعلنت، أعلمهم بنقض عهدهم حتى تستوي أنت وهم في العلم بأن المعاهدة قد انتهت، فيكونوا على حذر منك كما تكون أنت على حذر منهم، إن الله لا يحب الخائنين ولو كانت الخيانة في حق الكافرين، سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله والله أكبر، يحثُّ ربنا -سبحانه وتعالى- على الوفاء والالتزام بالمعاهدة مع الكافر حتى لو خاف المسلمون من الكافرين غدرًا وخيانة لا يجوز لهم أن يبادروا بنقض العهد والغدر والخيانة، بل يجب على

المسلمين أن يُعْلِموا من خافوا غدرهم وخيانتهم أن المعاهدة قد انتهت، وأن زمن السلم قد انتهى وقد بدأ زمن الحرب. ثانيًا: كان من شروط معاهدة الحديبية بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين مشركي قريش أن من يأتي من قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا يردُّه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤيه، وبعد الفراغ من كتابة المعاهدة جاء مجندل من قريش مسلمًا معلنًا إسلامه يستصرخ المسلمين أن يؤوه ويحموه من قريش، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا، وإنا لا نغدر بهم)). ثالثًا: قال الفقهاء: لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمان منهم؛ لأن خيانتهم غدر ولا يصلح في دين الإسلام الغدر. رابعًا: قال فقهاء الحنابلة: إذا أطلق الكفار الأسير المسلم واستحلفوه أن يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم لزمه الوفاء، لقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} (النحل: 91) ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنا لا يصلح في ديننا الغدر)). خامسًا: إذا كانت دار الحرب تأخذ من رعايا الإسلام الداخلين إلى إقليمها ضريبة على أموالهم التي معهم؛ بحيث تستأصل هذه الأموال أو تأخذ من أموالهم القليلة ضريبة كبيرة لا تتناسب مع أموالهم- فإن دار الإسلام لا تقابلهم بالمثل، ويعلل الفقهاء قولهم هذا بأن فعل أهل دار الحرب غدر وظلم، فلا نقابلهم بالغدر والظلم؛ لأننا نهينا على التخلق بمثل هذه الأخلاق وإن تخلقوا هم بها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لتهتدي لولا أن هدانا الله. والخصيصة الثالثة لنظام الأخلاق في الإسلام: أن الالتزام بمقتضى الأخلاق مطلوب في الوسائل والغايات، فلا يجوز الوصول إلى الغاية الشريفة بالوسيلة

الخسيسة؛ ولهذا لا مكان في مفاهيم الأخلاق الإسلامية للمبدأ الخسيس الذي يقول: الغاية تبرّر الوسيلة وهو مبدأ انحدر إلينا من ديار الكفر، يدل على ضرورة مشروعية الوسيلة ومراعاة معاني الأخلاق فيها قول ربنا: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال: 72)، فهذه الآية الكريمة تُوجب على المسلمين نصرة إخوانهم المظلومين قيامًا بحق الأخوة في الدين، ولكن إذا كانت نصرتهم تستلزم نقض العهد مع الكفار الظالمين لم تجز النصرة؛ لأن وسيلتها الخيانة ونقض العهد، والإسلام يمقت الخيانة ويكره الخائنين. وأخيرًا، هل يمكن اكتساب الأخلاق وتقويمها؟ والجواب: نعم، إن الأخلاق من حيث الجملة يمكن تقويمها وتعديلها كما يمكن اكتساب الجيد منها والتخلي عن قبيحها وبالعكس، والدليل على ذلك: أن الشرع أمر بالتخلق بالأخلاق الحسنة ونهى عن التخلق بالأخلاق الرديئة، فلو لم يكن ذلك ممكنًا مقدورًا للإنسان لما ورد به الشرع؛ لأن الإسلام لا يأمر بالمستحيل، ومن القواعد الأصولية في الفقه الإسلامي: لا تكليف إلا بمقدور، أو لا تكليف بمستحيل، والله -سبحانه وتعالى- قد أمر الإنسان بتزكية نفسه، والتزكية إنما تتمّ بالتخلي عن الأخلاق الدنيئة والتحلي بالأخلاق الحميدة، ومعنى ذلك: أن الإنسان قادرٌ على أن يتخلى عن الأخلاق الردئية ويتحلى بالأخلاق الجيدة الجميلة، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10). وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأخلاق نوعان: أخلاق جبلية فطر عليها الإنسان، وأخلاق مكتسبة يستطيع أن يكتسبها؛ ففي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأشج عبد

القيس: ((إن فيك خصلتين يحيبهما الله تعالى: الحلم، والأناة)) قال: يا رسول الله، أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: ((بل الله جبلك عليهما)) فقال: الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله، وفي الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم)) فكما أن الإنسان يُولد غير عالم كما قال ربنا سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (النحل: 78) يعني: لتتعلموا، فمن تعلم صار عالمًا، كذلك من كانت أخلاقه رديئة فإنه يستطيع أن يتخلَّى عنها، ومن كان يفقد الأخلاق الجيدة فإنه يستطيع أن يتخلق بها بالتمرين والتدريب. وهناك وسائل يستطيع الإنسان أن يستعملها لتقويم أخلاقه؛ منها العلم، ومنها الاهتمام الكامل بتقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس، وعلى رأس هذه المعاني الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، ومنها مباشرة الأعمال الطيبة التي جعلها الله تعالى وسيلة لتقويم الأخلاق، ومنها ترك الأعمال الخبيثة الفاسدة التي تفسد الأخلاق، ومن أهمها الدعاء بحسن الخلق، لما سبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((اللهم كما حسنت خلقي حسن خلقي))، ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت))، ومنها مخالطة المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة ومجالستهم والسماع منهم، فإن الطبع يسرق من الطبع والصاحب ساحب؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تُصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي))، ومنها ترك البيئة الفاسدة وترك صحبة الأشرار ذوي الأخلاق الفاسدة؛ لأنهم سيؤثرون في الذي يصحبهم، ومنها اتخاذ القدوة الحسنة وخير القدوة على

الإطلاق رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال له ربه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وجعله الأسوة الحسنة في كل شيء فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب: 21). هذه بعض الوسائل المهمة في تقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها. وختامًا، اعلم أن الأخلاق إذا كانت مهمة لكل مسلم فإن الأخلاق الحميدة تتأكد في حق الداعية إلى الله عز وجل؛ لأنه بهذه الأخلاق يكسب الناس فيُقبلون عليه ويدخلون في دين الله تبعًا له، كما قال الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) فاحرص أيها الداعية على أن تتحلى بمكارم الأخلاق، وأن تتخلَّى عن الأخلاق الدنيئة التي تنفّر الناس منك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 6 خصائص الإسلام.

الدرس: 6 خصائص الإسلام.

خاصية العالمية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (خصائص الإسلام) خاصية العالمية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد: والإسلام كدينٍ ختم الله -تبارك وتعالى- به الشرائع والنبوات على يدِ محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- له خصائص كثيرة ومميزات كثيرة؛ منها كون هذه الرسالة عالمية لا تخصُّ جنسًا دون جنس ولا قومًا دون قوم، ولا أرضًا دون أرض ولا بيئة دون بيئة، فحديثنا اليوم عن خاصية من خصائص الإسلام وهي العالمية. من المعلوم من الدين بالضرورة أن أركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وآيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا. أول هذه الأركان الخمسة الركن الأساس الأعظم: شهادة إلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومن الإيمان برسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بعموم رسالته وأنه -صلى الله عليه وسلم- فُضِّل على الأنبياء بكون رسالته للناس عامة، وكان كل نبي قبله يُبعث لقومه خاصة، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، منها قول ربنا -سبحانه وتعالى-: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 26 - 28)، وقوله سبحانه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم: 51، 52)، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 103، 104): {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ

بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام: 90). فهذه الآيات كلها بيَّنت أن رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالة عامة للعالمين، لا تختصّ بقومٍ دون قوم ولا بجنسٍ دون جنس، بل هي للعالمين كافة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الآيات التي تحدَّثت عن عالمية رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها مكية، أي: نزلت في أول الوحي وفي أول الرسالة، وبيَّنت أن محمدًا مبعوث من الله -تبارك وتعالى- ومرسل إلى الناس كافة، وأنه لن يجيء الناس بعد رسول الله محمد رسول ولن ينزل عليهم بعد القرآن كتابٌ من السماء، فالله -تبارك وتعالى- ختم النبوة بمحمد -صلى الله عليه وسلم، فالقارات الخمس إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى كتاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وحده صوت السماء بين الناس، إلى أن يُحشروا للحساب فيقال لهم: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} (الروم: 56)، وآية صدق ذلك أنه قد مضت على بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعة عشر قرنًا وما نزل من السماء وحي ولا بُعث في الناس رسول، فهذه آيات من آيات صدق النبي -صلى الله عليه وسلم، وأن رسالته عامة وأنه خاتم النبيين. وإنما لفتنا النظر إلى أن الآيات التي قرأناها آنفًا في الاستدلال بها على عالمية رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لفتنا النظر إلى أنها كلها مكية؛ لندحض بذلك فريةً افتراها بعض المستشرقين، فزعموا أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بدأ عربي الرسالة معنيًّا بقومه وحدهم، فلما نجح في إخضاعهم أغراه النجاح بتوسيع الدعوة فزعم أنه للخلق كلهم، وهذا تفكير متهافت بين السخف؛ فقد رأيت بالاستقراء أن عالمية الرسالة تم التصريح بها في أوائل ما نزل من الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

أما الأحاديث عنه -صلى الله عليه وسلم- التي صرح فيها بعموم رسالته إلى الناس كافة، فهي كما قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) قال ابن كثير -رحمه الله-: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: قل يا نبينا: يا أيها الناس -وهذا خطاب للأحمر والأصفر والعربي والعجمي- إني رسول الله إليكم جميعًا، أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته -صلى الله عليه وسلم- أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس أجمعين كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (هود: 17)، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 20)، فأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للذين آتوا الكتاب من اليهود والنصارى، وأن يقول للأميين، وهم العرب {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: والآيات في هذا كثيرة كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصى، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة: أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "كانت بين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبًا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو الدرداء ونحن عنده: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أما صاحبكم هذا فقد غامر؛ أي: غاضب وحاقد)) قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلَّم، وجلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقصّ عليه الخبر، قال أبو الدرداء: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله، لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت:

يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعًا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت)) ". وعن ابن عباس مرفوعًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقول فخرًا: بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود، ونصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وأُحلت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا)). وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به- إلا كان من أصحاب النار)). فرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالة عامة لكل الأزمنة والأجيال، ليست رسالة موقوتة بعصر معين أو زمن مخصوص ينتهي أثرها بانتهائه، كما كان الشأن في رسالات الأنبياء السابقين على محمد -صلى الله عليهم وسلم أجمعين- فقد كان كل نبي قبله يُبعث لمرحلة زمنية محدودة، حتى إذا ما انقضت بعث الله نبيًّا آخر، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو خاتم النبيين ورسالته هي رسالة الخلود التي قدَّر الله بقاءها إلى أن تقوم الساعة ويُطوى بساط هذا العالم، فهي تتضمن هداية الله الأخيرة للبشرية، فليس بعد الإسلام شريعة ولا بعد القرآن كتاب ولا بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيّ، ولم يسبق لنبي قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- أن أعلن أن رسالته هي الخاتمة، وألا نبي بعده، بل بشرت التوراة التي أنزلها الله على موسى بمن يأتي بعد موسى، وبشر الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى بمن يأتي بعد عيسى -عليه السلام.

إن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي رسالة المستقبل المديد ولا شك، وهي أيضًا رسالة الماضي البعيد، إنها في جوهرها وأصولها الاعتقادية والأخلاقية رسالة كل نبي أُرسل وكل كتاب أُنزل، فالأنبياء جميعًا جاءوا بالإسلام ونادوا بالتوحيد واجتناب الطاغوت، كما صرح بذلك رب العالمين -سبحانه وتعالى- حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36). لقد أعلن كل نبي بعثه الله تعالى قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه من المسلمين، قالها نوح وإبراهيم ومن بعدهم من الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى حكاية عن نوح -عليه السلام-: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل: 91)، وقال إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (البقرة: 128)، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132)، ودعا موسى ربه قائلًا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)، وقال موسى -عليه السلام- لقومه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (يونس: 84)، ولما آمن السحرة برب العالمين وهددهم فرعون بالقتل والتعذيب قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126) وبعث سليمان بن داود -عليهما السلام- إلى بلقيس ملكة سبأ يدعوها إلى الإسلام، قالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 30، 31)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أمره ربه أن يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين}. فرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- في جوهرها هي رسالة كل نبي جاء من عند الله منذ عهد نوح إلى محمد -صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي

أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) فهي رسالة كل الزمن، وهي أيضًا الرسالة الشاملة التي تُخاطب كل الأمم وكل الأجناس وكل الشعوب وكل الطبقات، إنها ليست رسالة لشعبٍ خاص يزعم أنه وحده شعب الله المختار وأن الناس جميعًا يجب أن يخضعوا له، وليست رسالة لإقليم معين يجب أن تدين له كل أقاليم الأرض وتُجبى إليه ثمراتها وأرزاقها، وليست رسالة لطبقة معينة مهمّتها أن تسخّر الطبقات الكبرى لخدمة مصالحها أو اتباع أهوائها أو السير في ركابها؛ سواء أكانت هذه الطبقة المسيطرة من الأقوياء أم الضعفاء، من السادة أم من العبيد، من الأغنياء أم من الفقراء والصعاليك، إنها رسالتهم جميعًا، وليست لمصلحة طائفة منهم دون سواها، وليس فهمها ولا تفسيرها ولا الدعوة إليها حكرًا على طبقة خاصة، كما قد يتوهّم كثيرٌ من الناس، إنها هداية رب الناس لكل الناس، ورحمة الله لكل عباد الله، كما قال الله تعالى في الآيات التي نبَّهنا على مكيتها، وأنها من أول ما نزل على رسول الله، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). فإذا قال قائل: ولماذا كانت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي خاتمة الرسالات وشريعته هي خاتمة الشرائع؟ فالجواب: نقول وبالله -تبارك وتعالى- التوفيق: إذا قيل لماذا كانت الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، أما كان من الأفضل والأنفع استمرار تنزّل الشرائع الإلهية وإبقاء باب الرسالات الإلهية مفتوحة، فالجواب: لا، وألف لا؛ لأن تنزّل الشرائع ليس من قبيل العبث واللهو، وإنما هو لسدّ نقص في تشريع سابق أو لإكماله بتشريع لاحق مناسب لمستوى البشرية. وحيث إن الشريعة الإسلامية

كاملة تامّة سدّت كل ما لم تأتِ به الشرائع السابقة، وأكَّدت ما جاءت به هذه الشرائع السابقة، فلا حاجة إذًا ولا داعي لمجيء شريعة أخرى؛ لأن الله -تبارك وتعالى- ما قبض رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ولا توفَّاه حتى أنزل عليه في حجة الوداع قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، فمع هذا الكمال والتمام لا داعي لمجيء شريعة أخرى، وحيث لا شريعة أخرى فلا رسولَ آخر بعد محمد -صلى الله عليه وسلم. وعموم الشريعة الإسلامية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو الزيادة كل ذلك يستلزم عقلًا وعدلًا أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها، وجميع ما جاءت به على نحو يحقّق مصالح الناس في كل عصر ومكان، ويفي بحاجتهم ولا يضيق بها، ولا يتخلف عن أي مستوى عالٍ يبلغه المجتمع البشري، إن هذا والحمد لله متوافرٌ في الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى وهو العليم الخبير إذ جعلها عامة في المكان والزمان، وخاتمة لجميع الشرائع، جعل قواعدها وأحكامها صالحةً لكل زمان ومكان، ومهيئة للبقاء والاستمرار لهذا العموم. والدليل على ذلك أن الله -تبارك وتعالى- شرع الأحكام لكل ما يحتاجه الناس من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فمدار الشريعة كلها على تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل؛ أي: في الدنيا والآخرة، ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل أيضًا، حتى إن بعض الفقهاء قال وقوله حق: إن الشريعة كلها مصالح إما درء مفاسد أو جلب مصالح. فهذا هو الدليل من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة على عالمية رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم، وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يُبعث لقومه خاصة كما كان الأنبياء قبله يُبعثون إلى قومهم خاصة، وإنما فضّله الله -تبارك وتعالى- وميزه على سائر من سبقه من الأنبياء والمرسلين بأن جعله خاتم النبيين وجعل رسالته رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.

خاصية الإنسانية.

خاصية الإنسانية من خصائص الإسلام العامة الإنسانية، فالإسلام يمتاز بنزعته الإنسانية الواضحة الثابتة الأصيلة، في معتقداته وعباداته وتشريعاته وتوجيهاته، إنه دين الإسلام، والدليل على ذلك هو هذا القرآن المصدَر الأول للإسلام، إذا نظرنا إلى المصدر الأول للإسلام وهو القرآن الكريم كتاب الله رب العالمين، وتدبرنا آياته، وتأملنا موضوعاته واهتماماته نستطيع أن نصفه بأن كتاب الإنسان؛ فالقرآن كله إما حديث إلى الإنسان أو حديث عن الإنسان، إن كلمة الإنسان تكررت في القرآن الكريم ثلاثًا وستين مرة، فضلًا عن ذكر الإنسان بألفاظ أخرى مثل بني آدم، التي ذُكرت ستّ مرات، وكلمة الناس التي تكررت مائتين وأربعين مرة في القرآن كله مكيّه ومدنيّه، ولعل من أبرز الدلائل على ذلك أن أول ما نزل من آيات القرآن الكريم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس آيات من سورة العلق ذُكرت كلمة الإنسان في اثنتين منها، ومضمونها كلها العناية بأمر الإسلام. استمع أخي الداعي إلى هذه الآيات: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (العلق: 1 - 6) إن هذه الآيات الكريمة التي تُكتب في أقل من سطرين، والتي بدأ بها الوحي الإلهي تاريخًا جديدًا للبشرية، إن هذه الآيات تُعبّر أوضح التعبير عن نظرة الإسلام إلى الإنسان وعلاقته بالله تعالى وعلاقة الله تعالى به، إنها خطابٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكل إنسان يفهم الخطاب من بعده، الإنسان في هذه الآيات مأمورٌ أن يقرأ، والقراءة هنا رمزٌ لكل عمل نافع يقوم به الإنسان، وإنما خصّ

القراءة بالذكر لأنها نقطة الانطلاق للإنسان ومفتاح رقيه، ولأن العمل في الإسلام يجب أن يقوم على العلم، والعلم مفتاحه القراءة، وأمر الإنسان بالقراءة معناه: قدرته على أن يفعل، وقدرته على أن يترك أيضًا، وهذا يعني إثبات مسئولية الإنسان ودور إرادته، فالآلة الصماء لا تؤمر ولا تنهى. ولم يؤمر الإنسان هنا بمجرد القراءة، بل أمر بقراءة مقيدة باسم ربه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الخالق، والقرآن هنا حريص على التعبير عن ذات الله -سبحانه تعالى- في هذا المقام باسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب وهو الإنسان، وذلك لما يوحي به اسم الرب من معاني التربية والرعاية والترقية في مدارج الكمال، وما توحي به الإضافة والخطاب من القرب والاختصاص والتكريم، وقد تكرر اسم الرب هكذا مرتين مع وصفه مرة بالخالقية ومرة بالأكرمية: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} فعلاقة الإنسان ليست بمجرد رب ولا برب كريم فقط، بل برب أكرم بل بالرب الأكرم على الإطلاق؛ لأنه سبحانه يعطي بغير حساب وبغير عوض ولا مقابل. وذكر القرآن الكريم من دلائل أكرمية رب العالمين أنه سبحانه الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، فالله تعالى بالنسبة للإنسان مُعلم، والإنسان مُتعلِّم ما لم يكن يعلم، هذه ميزته استعدادٌ للتعلم بالقراءة والكتابة بالقلم، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (النحل: 78) هذه هي أولى الآيات نزولًا على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو أول نص نزل به الوحي الإلهي على محمد -صلى الله عليه وسلم، وهو نص فريد ورائع حقًّا، حرص على تأكيد أمور معينة من أول لحظة: من هذه الأمور: أن الإنسان مخلوق مكلف.

ثانيًا: العناية بشأن الإنسان حيث ذُكر في أول الآيات نزولًا مرتين. ثالثًا: أول ما أُمر به الإنسان القراءة التي هي مفتاح التعلم. رابعًا: تعظيم شأن القراءة؛ حيث أُمر بها مرتين. خامسًا: أول أداة ذكرها الوحي هي القلم. سادسًا: أول ما وصف الله به نفسه في أول الآيات نزولًا الرب الخالق الأكرم المعلم. سابعًا: أول ما وصف به الله الإنسان القدرة على التعلم، ثم إن القرآن الكريم قد بيّن للإنسان حقيقته وجلّاها له حتى لا يزهو ويتكبّر ويفتخر، وحتى لا يزدري نفسه ويحتقرها، فذكر الله -تبارك وتعالى- الإنسان في القرآن الكريم بأصل نشأته، قال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (السجدة: 7 - 9)، وقال الله -تبارك وتعالى- عن الإنسان الأول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 28، 29) وهكذا لفت القرآن الكريم نظر الإنسان إلى حقارة ذلك الماء الذي خلقه الله منه في رحم أمه من ماء مهين، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} (الطارق: 6، 7) {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِين} (يس: 77) فذكر الله -تبارك وتعالى- الإنسان بأصله وأن أصله ماء مهين نطفة قذرة، ذكر الله تعالى الإنسان بأصله ليهذّب كبرياءه فيجعله متواضعًا واقعيًّا في حياته، كما قال بعضهم: من كان أوله نطفة قذرة وآخره جيفة نتنة وهو بين ذلك يمشي وبين جنبيه الأقذار كيف يتكبر؟!

فذكر الله -تبارك وتعالى- الإنسان بأصل خلقه من ماء مهين من ماء دافق؛ ليندِّد بغطرسة الإنسان ويهذّب كبرياءه فيجعله متواضعًا واقعيًّا في حياته، ثم بيَّن له عناية الله -عز وجل- به في ظلمات الرحم، حينما أنشأه جنينًا وربَّاه في بطن أمه حتى أتم خلقه {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون} (الزُّمَر: 6)، ويقول سبحانه مبينًا الأطوار التي يمرّ بها الإنسان في بطن أمه حتى يخرج بشرًا سويًّا في أحسن صورة يقول سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12 - 14) ذكر الله -تبارك وتعالى- الإنسان برحمته به وتربيته له في بطن أمه؛ ليثير عنده عاطفة العرفان بالجميل والشكر للخالق والخشوع لله، فكان من نتيجة هذه التربية القرآنية دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السجود: ((سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)). وفي مقابل ذلك كله بيّن الإسلام للنوع البشري أنه ليس من الذلة والمهانة والابتذال في درجةٍ يتساوى فيها مع الحيوان والجماد وسائر المخلوقات، فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (الحج: 65)، وقال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (الجاثية: 13) فقد رزق الله تعالى الإنسان قدرة جعله بها يسيطر على ما حوله من الكائنات وسخرها له، ومنعه من أن يذلّ نفسه لشيء

منها، وجعله آمنًا من كل المخاوف إزاء كل هذه الكائنات، بل أشعره بأنها طوع يده سخرها الله تعالى لمصلحته، وهذه خطوة تربوية ربانية ينشِّئ بها القرآن الكريم الإنسان على الشعور بالكرامة وعزّة النفس، ويشعره في الوقت ذاته بفضل الله -عز وجل، فإذا ركب شيئًا مما سخر الله له كالطائرة والسيارة والبهائم الحيوانية؛ ذكر الله تبارك وتعالى مسبّحًا شاكرًا بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (الزخرف: 13، 14). ومما كرّم الله تعالى به الإنسان أن جعله قادرًا على التمييز بين الخير والشر، فألهم الله تعالى النفس الإنسانية فجورها وتقواها، وغرس في جبلّتها الاستعداد للخير والشر، وجعل عند الإنسان إرادة يستطيع بها أن يختار بين الطرق المودّية للخير والسعادة أو الطرق الموصلة إلى الشقاء، وبيَّن له أن هدفه في هذه الحياة أن يترفّع بنفسه عن سبل الشر وأن يزكّي نفسه، أن ينمّيها ويطهّرها ويسمو بها في وقت معًا نحو الفضيلة والاتصال بالله -عز وجل- قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10). وأخبر الله -تبارك وتعالى- الإنسان بما جُبل إليه من دنايا الأخلاق وقبيح الصفات، ثم أرشده إلى وسائل التزكية التي بها يزكو ويطهر فيصلح لمجاورة الرب -سبحانه وتعالى- في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19 - 21)، فلما أخبر الإنسان بما جُبل عليه من دنايا الأخلاق وقبيح الصفات أرشده إلى وسائل التزكية فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ

أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} (المعارج: 22 - 35). فالجنة هي مأوي ومنزل الإنسان إذا زكّى نفسه وطهرها، أما من دسَّاها فقد خاب وخسر، ولذلك لعن الله -عز وجل- قومًا دعاهم غرورهم إلى أن يكذبوا بهذه الحقيقة فزعموا أن النفس الإنسانية لا تطغى قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} (الشمس: 11 - 13) ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء، لكن القوم كذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقبها، فكان جزاء طغيانهم أن سوى الله بهم وبمدينتهم الأرض؛ لأنهم اختاروا طريق الشر ومعصية الله ورسوله قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه: 74 - 76). ومما كرم الله به الإنسان وفضله أن وهبه القدرة على التعلم والمعرفة، وزوّده بكل أدوات هذه القدرة، كما قال في الآيات التي سبقت في أول سورة العلق: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3 - 5) بل إن الله -سبحانه وتعالى- علم آدم وهو في السماء قبل أن ينزل الأرض، وأظهر شرفه للملائكة بالعلم قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: 31 - 33).

وزوَّد الله -تبارك وتعالى- الإنسان بكل الحواس التي يستطيع بها أن يتعلم ما أمره الله به أن يتعلمه فقال عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) فالسمع معناه إحراز المعرفة التي اكتسبها الآخرون، والبصر معناه تنميتها بما يُضاف إليها من ثمرات الملاحظة والبحث، والفؤاد معناه تنقيتها من أدرانها وأوشابها ثم استخلاص النتائج منها، وهذه القوى الثلاث إذا تضافرت بعضها على بعض نتجت عنها المعرفة التي منَّ الله بها على بني آدم، والتي بها وحدها استطاع الإنسان أن يهزم سائر المخلوقات ويسخرها لإرادته، ولقد عاب الله -تبارك وتعالى- أقوامًا لم ينتفعوا بهذه الحواس التي وهبهم الله -تبارك وتعالى- إيَّاها، وتوعدهم على إهمالها بالنار فقال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179). من أهم أهداف التعلم عند الإنسان والفكر: أن يتعلم الإنسان شريعة الله -عز وجل- كما قال الله تعالى حكاية عن الأبوين إبراهيم وإسماعيل أنهما دعوا الله ربهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم} (البقرة: 129)، كما أن من أهم الأهداف التي وُهِب الإنسان من أجلها هذه الحواسّ أن يتفكّر في نفسه وفي الكون من حوله، فإن الله -تبارك وتعالى- أمر بذلك فقال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20 - 21)، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 20).

ولم يكتفِ الإنسان بتكريم الإنسان وتفضيله وتمييزه على الكائنات، بل حمَّله مقابل ذلك مسئولية عظيمة، وكلفه بتكاليف كثيرة، رتَّب عليها الجزاء الوفاق؛ حمّله مسئولية تطبيق شريعة الله وتحقيق عبادته، تلك المسئولية التي أبتْ سائر المخلوقات أن تحملها وأشفقت من حملها كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 72 - 73)، وكما جعل الله تعالى للإنسان حرية وإرادة وقدرة على التمييز بين الخير والشر، كذلك جعله مجزيًّا يوم القيامة بما اختار لنفسه في الدنيا من الخير أو الشر، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 8)، وجعل الله تعالى مسئولًا عن الحواسّ التي وهبه إيَّاها؛ ليتفكر بها في خلق الله -عز وجل- فقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36)، هذا الشعور بالمسئولية يُربِّي في نفس الإنسان الوعي واليقظة الدائمة، والبعد عن المزالق وعدم الاستسلام للأهواء والعدالة، والبُعد عن الظلم والبغي، والاستقامة في كل سلوك الإنسان وشئونه. كذلك قرَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسئولية الإنسان عن ماله وعن عمره وعن شبابه وعن علمه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)). وجماع المسئوليات مسئولية الإنسان عن عبادة الله -عز وجل- وتوحيده وإخلاص العبادة له وحده كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا

مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18)، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر: 66). فعبادة الله وحده لا شريك له هي مسئولية الإنسان في هذه الحياة، فإن قام بها دخل جنة عالية قطوفها دانية فيها من النعيم ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإن استكبر عن عبادة الله -عز وجل- الذي خلقه فسواه دخل نارًا حامية كما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60)، وقال سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 172 - 173). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة.

الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة.

معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة) معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: وعلم أصول الدعوة كغيره من العلوم له مبادئ تبصّر الطالب به، وتعرفه بغايته وهدف دراسته، وقد جمع بعضهم هذه المبادئ في قوله: إن مبادئ أي علمٍ كان عشرٌ تزيد من درى عرفانا الحد والواضع ثم الاسم والنسبة الموضوع ثم الحكم وغاية وفضله استمداد مسائل بها الهنا يزداد وهذه المبادئ العشرة: اسمٌ لمجموعة من المعاني والمعارف يتوقف عليها شروع الطالب والباحث في طلب العلم وتحصيله، وسنحاول بإذن الله -عز وجل- في هذا الدرس أن نلمّ بهذه المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة. وحتى نتعرف على معنى أصول الدعوة كلقب أطلق على هذا العلم، يلزمنا أن نعرف أولًا مفردات هذا اللقب، وهي كلمة أصول، وكلمة الدعوة. فنقول: الأصول في اللغة: جمع أصل وهو ما يُبنى عليه غيره، وضده الفرع: وهو ما يُبنى على غيره. وأما اصطلاح الفقهاء أو العلماء: فإن الأصل يطلق على عدة معانٍ؛ منها الدليل، تقول: الأصل في وجوب الدعوة الكتاب والسنة؛ يعني: الدليل على وجوب الدعوة الكتاب والسنة، ومن معاني الأصل: الراجح كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة أي: الراجح حمل الكلام في الأصل على الحقيقة، ويطلق الأصل أيضًا على القاعدة المستمرة، كقولهم: إباحة الميتة على خلاف الأصل، على خلاف القاعدة، فالقاعدة في المحرمات: يحرم أكل الميتة، ولكن أبيح أكل

الميت على خلاف الأصل؛ أي: على خلاف القاعدة، والمختار من هذه الاصطلاحات مما يناسب موضوعنا هو المصطلح الأخير وهو القواعد الثابتة. أما كلمة الدعوة: فإنها تدور مادتها على معنى الطلب والنداء إلى أمرٍ والحثّ والحض عليه، فمن دعا بالشيء فقد طلب إحضاره، ومن دعا إلى الشيء فقد حثّ على قصده وسأل غيره أن يجيبه إليه. وقد تكون الدعوة إلى الخير وتكون إلى الشر، كما تكون إلى الحق وإلى الباطل، وتكون إلى الجنة وإلى النار، قال الله -تبارك وتعالى- عن الشيطان وأعوانه: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 221)، وقال عن فرعون وملئه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (القصص: 41) وقال الله تعالى عن نفسه: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (يونس: 25)، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)). أما الدعوة اصطلاحًا: فإن كلمة الدعوة في اصطلاحها الشرعي وعند أهلها من الدُّعاة والعاملين يُعرف معناها بتقدير مضافٍ إليه محذوف لاشتهاره، فهي دعوة الله أو دعوة الإسلام؛ أي: أنها دعوة إلى الله أو دعوة إلى دين الإسلام، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 108)، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب: 45، 46)، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125)، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، فالدعوة اصطلاحًا: نداء الناس إلى الله تعالى إيمانًا به وتصديقًا، وإلى دين الإسلام إجابة وتحقيقًا، قال

الإمام الطبري: الدعوة هي دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا به. أما أصول الدعوة كلقب أطلق على هذا العلم، فإن العلماء قد تكلموا فيه، فقال بعضهم: المراد بعلم أصول الدعوة الضوابط الكاملة للسلوك الإنساني وتقرير الحقوق والواجبات، والذي نختاره لتعريف علم أصول الدعوة باعتباره اللقبي: أنه علمٌ بقواعد وأحكام وأسباب وآداب يُتوصل بها إلى تمام تبليغ الإسلام للبشر عامة وتعليم وتربية المستجيبن كافة، وتحقيق التمكين لهذا الدين خاصة. ومما تجدر ملاحظته أن العلم بالقواعد والأحكام والأسباب والآداب لا يُغفل نوازل الدعوة المعاصرة من حيث القضايا والأدوات والإمكانيات والملكات، كما يستوعب تاريخ الدعوات ومنهجية العلماء وطريقة المجددين المصلحين في الدعوة والإصلاح، كما تجدر العناية بأن الدعوة إلى الله تُعنى بأمتي الإجابة والدعوة معًا، والمقصود بأمة الدعوة: كل من أرسل إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم العالمون أجمعون، كما سيجيء في بيان خصائص الإسلام ومنها العالمية، فأمة الدعوة هم جميع العالمين، وأما أمة الإجابة فالمقصود بهم الذين أجابوا دعوة النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم، فالدعوة تتجه إلى أهل الإسلام وأهل الكتاب، كما أنها تتجه إلى من لا يتدين بدينٍ أصلًا. والدعوة تعنى بالتربية والإعداد والتكوين وتزكية المقبلين وبناء الكوادر الدعوية والعلمية والعملية، والتربية تقوم على دعائم من الربانية والوسطية والإيجابية، وإذا كان التمكين لهذا الدين من الجوانب العملية في الدعوة فإنه يقتضي بذل كل

موضوع علم أصول الدعوة.

سبب مشروع لتحقيق هذا الهدف، فتأتي الأسباب المعنوية أولًا من الإخلاص والتجرّد وسلامة المعتقد وصدق الاتباع وصحة العلم، ثم الأسباب المادية من العناية بالتربية والأمر والنهي والبصيرة بالواقع والتفاعل الصحيح مع قضايا الأمة والحرص على الوحدة والاجتماع والتآلف والشمول والتكامل، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر: 51)، وقال سبحانه: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}. موضوع علم أصول الدعوة أما موضوع علم أصول الدعوة، فإن موضوع علم الدعوة هو الإسلام من حيث تبليغ رسالته والسعي لتكون كلمة الله هي العليا، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) والدعوة لها جوانب منها المضمون، والمقصود وهو بيان الإسلام بمراتبه وأركانه وشرائعه وأخلاقه وأنظمته وخصائصه ومقاصده ومحاسنه، ومن حيث ما يجب في بلاغ الدعوة من قواعد حاكمة وضوابط لازمة أولويات مرتبة ومآلات مرعية، ومن حيث ما يعرض للدعوة من مشكلات ومعوقات وما يتعلق بها من أحكام وآداب وما يستجد بساحتها من النوازل واستنباط أحكامها الشرعية، ومن حيث ما يتوسل به لتحقيق أهداف الدعوة من الوسائل والأساليب المشروعة، وكما يُعنى علم أصول الدعوة بما يجب على الداعي من واجباتٍ في نفسه وفي غيره، وما يليق أن يتحلى من الصفات وما يلزمه أن يتخلى عنه من الآفات، وما يتعين التزامه والانضباط به في جميع ما يتعلق بالدعوة من أعمال وممارسات.

ولهذا العلم علم أصول الدعوة أسماء، ومعلوم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى غالبًا. ومن أشهر الأسماء المعاصرة لهذا العلم علم الدعوة، وهذا الاسم هو أعم أسماء هذا العلم وأوسعها وأشملها وأكثرها تناولًا واستعمالًا وباسمه صنف كتب كثيرة من أهمها على سبيل المثال (المدخل إلى علم الدعوة) لفضيلة الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني؛ حيث عرَّف هذا العلم بقوله: هو مجموعة القواعد والأصول التي يتوصَّل بها إلى تبليغ الإسلام للناس وتعليمه وتطبيقه. وعلى هذا الاسم علم الدعوة درج كثيرٌ من الكُتَّاب والدعاة المعاصرين. ومن أسماء هذا العلم اسم أصول الدعوة، وهو الاسم الذي اخترناه واعتمدناه في بحثنا هذا تعريفًا واصطلاحًا لقبيًّا لهذا العلم، فتدخل أدلة الدعوة ومصادرها وأركانها دخولًا أوليًّا، ثم يمتدّ نطاق هذا المصطلح ليشمل أحكامًا وآدابًا تتعلّق بالدعوة في وسائلها ونوازلها المتصلة بقضية البلاغ، وصنيع من كتب في أصول الدعوة من العلماء والدعاة يُوحي بهذا المعنى الواسع، كما في كتاب (أصول الدعوة) لفضيلة الدكتور عبد الكريم زيدان؛ حيث شمل كتابه كثيرًا مما يتصل بأصول الدعوة وموضوعها ووسائلها وآدابها، وما يتصل بالداعي والمدعوين من مسائل وإن خلا الكتاب عن تعريف اصطلاحي دقيق لهذا العلم. ومن أسماء هذا العلم اسم مناهج الدعوة، وهذا اصطلاح يتناول خُطَّة الدعوة ونظمها، وقد يتوسع في مفهومه فيتناول الأهداف والأصول والقواعد، كما فعل فضيلة الأستاذ محمد سرور زين العابدين في كتابه (منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله)؛ حيث عن قال عن مقصوده من هذا المصطلح: قصدت الأصول والأهداف التي كانت تجمع بين أنبياء الله جميعًا، وهذا الذي يعنيه كثير من الكتاب في عصرنا، وعلى أية حال، فقد قيل: لا مشاحة في الاصطلاحات.

ومن أسماء هذا العلم فقه الدعوة، وهذا الاسم من أشمل هذه الأسماء وباسمه صنفت كتب كثيرة من أهمها (فقه الدعوة إلى الله) لفضيلة الدكتور علي عبد الحليم محمود. ومن الجدير بالذكر أن أبواب هذا العلم قد أفردت بالتصنيف بل وأُفردت بالدراسة على أنها علوم مستقلة، في كلية الدعوة وأقسامها بجامعات العالم الإسلامي اليوم. أما حكم تعلم هذا العلم، علم أصول الدعوة فنقول: إن حكم تعلم هذا العلم ينبني على حكم الدعوة نفسها، فإذا عرفنا حكم الدعوة عرفنا حكم تعلم أصولها، ومن أنعم النظر علم أن الدعوة إلى الله حياة الأديان، وأنه ما قام دينٌ ولا انتشر إلا بالدعوة، ولا تداعت أركان ملة بعد قيامها وتلاشت إلا بترك الدعوة والتعليم والتذكير، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: إذا كانت الدعوة أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدّ يصل إليه السعي. وقد اتفق العلماء في الجملة على وجوب الدعوة إلى الله وذلك لعموم قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل: 125) وقوله سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (الحج: 67)، لكنهم اختلفوا في هذا الواجب: هل هو واجب عيني أو واجب كفائي؟ يعني: هل الدعوة إلى الله فرض عين فيجب على كل مسلم أن يكون داعية، أم هي فرض كفاية؟ ولكل فريق أدلته: فمنهم من ذهب إلى أنها فرض عين ومنهم من ذهب إلى أنها فرض كفاية، وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بين القولين فقال: وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به

غيره، فما قام به غيره سقط عنه وما عجز لم يطالب به، كما يمكن الجمع بين القولين بتقسيم الدعوة إلى قسمين: دعوة خاصة ودعوة عامة؛ فالخاصة في بيت الرجل وبين أهله وفي سلطانه وهذه الدعوة الخاصة فرض عين لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) والدعوة العامة في سائر المسلمين دعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهي فرض كفاية لقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104). وأخيرًا فإن تحقق الكفاية في الدعوة اليوم أمر مُتعذِّر وغير متيسر، فدعوة المسلمين مجال رحب فسيح متجدد وأوسع منه وأرحب دعوة غير المسلمين للإسلام، كل ذلك في عالم يموج بالفتن وتستحكم فيه الجهالة ويتّسع فيه الخرق على الراقع؛ ولهذا فإن الدعوة إلى الله -عز وجل- اليوم أصبحت فرضًا عامًّا وواجبًا على جميع العلماء وعلى جميع الحُكَّام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة وبكل وسيلة استطاعوا، وفرض عليهم ألا يتقاعسوا عن ذلك الواجب أو يتكلموا على زيد أو عمرو؛ فإن الحاجة بل الضرورة ماسة إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم. ومن الخطأ أن يُفهم القرآن الكريم فهمًا خاطئًا ويُحمل على غير مراده، فيتقاعس الناس عن القيام بواجب الدعوة، ويتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محتجين بظاهر بعض الآيات التي أخطئوا في فهمها، ومنها مثلًا قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) ففهمَ بعض الناس من ظاهر هذه الآية أن المسلم إذا كان مهتديًا في نفسه فلا يضره ضلال غيره وإلا لم يقم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا خطأٌ جاء من الفهم السقيم للآية؛ ولذلك لما أحسّ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بوجود مثل هذا الفهم في نفوس بعض الناس قام في الناس خطيبًا فقال: "أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يَعُمَّهم بعقاب من عنده)). إذا معنى الآية كما فصل ذلك كثير من السلف {يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يعني: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، ولم يُستجب لكم- فحينئذٍ لا يضركم ضلال من ضل، فإن الله تعالى قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، أما إذا أما إذا فشا المنكر وزاع وشاع في الناس وسكت القادرون عن إنكاره؛ فإن ضلال الضالين يضر المهتدين الذين قعدوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مثلُ القائم في حدود والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أن خرقنا في نصيبنا خرقًا فلم نؤذِ من فوقنا)) قال -صلى الله عليه وسلم-: ((فلو تركوهم وما أردوا لهلكوا جميعًا ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم. كما أنه لا يجوز للداعية أن يقعد عن القيام بواجب الدعوة والتبليغ؛ لأن الناس لم يستجيبوا له ولم يقبلوا دعوته ولم يهتدوا بهديه؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (القصص: 56)، وقال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ

فضائل علم أصول الدعوة.

يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة: 272) فالدعاة حين يقومون بواجب الدعوة إلى الله -عز وجل- إنما يقيمون الحجة لله على مدعوين، ويعذرون أنفسهم من الله -عز وجل، وبعد ذلك يرجون هداية المدعوين ويرجون دخولهم في دين الله أفواجًا، فإذا قاموا بواجب الدعوة فقد أصابوا هدفين من هذه الثلاثة؛ أقاموا حجة الله عل العباد، وأعذروا أنفسهم من الله -عز وجل- فإن لم يهتدِ المدعوون فحسبهم أن أصابوا هدفين من الثلاثة، وإن قبل المدعوين دعوتهم فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فضائل علم أصول الدعوة وفضل هذا العلم عظيم، علم أصول الدعوة فضائله تجلّ عن الحصر وتفوق عن العد؛ فإن له ما للقيام من الدعوة من فضائل؛ لأنه بتعلم علمه يحصل المتعلم عميم الأجر وجزيل الفضل، فأجور الدعاة مضاعفة أبدًا، والدعاة الفقهاء بأصول الدعوة يترقون في مقامات الأنبياء تعلمًا وتعليمًا، قائمين على حدود الله يحفظون الدين من الوَهن ويجددون أركانه ويرعون سفينة المجتمع أن تغرق في بحار الشهوات والشبهات، وبتعلم أصول الدعوة يتوصل إلى تحقيق الحكمة الدعوية المأمور بها قرآنًا وسنة وتتحقق البصيرة بسبيل الدعوة وأساليبها ووسائلها، ويتوصل إلى أحكام الله تعالى في النوازل الملمة ومناهج التغيير ووسائله ومسائله المستجدّة، فإذا كان الدعاة ورثة الأنبياء في التزكية والبلاغ فإن الدعاة العلماء في الذروة من هذه المنزلة. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إن أفضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة، فالله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس"، فكيف لا يكون أفضل الخلق عند الله من جعلهم وسائط بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وتعريف

أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وجعل أشرف مراتب الناس بعدهم مرتبة خلافتهم ونيابتهم في أممهم بأنهم يخلفونه على مناهجهم وطريقهم من نصيحتهم للأمة، وإرشادهم الضال، وتعليمهم الجاهل، ونصرهم المظلوم، وأخذهم على يد الظالم، وأمرهم بالمعروف وفعله، ونهيهم على المنكر وتركه. والدعوة إلى الله بالحكمة للمستجيبين والموعظة الحسنة للمؤمنين الغافلين، والجدال بالتي هي أحسن للمعاندين المعرضين. وإذا كان طلب العلم محمودًا ومعدودًا في سبيل الله- فإن طلب العلم الذي يتوقف عليه تبليغ الدين وإقامته من أعظم الجهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))، وإذا كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل السموات والأرض للدعاة عمومًا فإن الدعاة الذين نفروا ليتفقهوا في أصول الدعوة هم في الطليعة من هذا الخير، فهم أحسن الدعاة قولًا وأصلحهم في المسلمين عملًا، وإذا كان جهاد الدعوة بالكلمة له فضل كبير فإنه لا يدرك أمانة الكلمة ولا فقهها مثل الدعاة العلماء بهذا العلم النفيس، قال الله -عز وجل-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) أولئك والله هم الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا، ليحفظ الله بهم حججهم وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان متعلقة بالمحلّ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه. وإذا كانت الدعوة إلى الله من أشرف الأعمال عند الله، فإن علم أصولها من أشرف العلوم وأنفعها للداعي والمدعو على حد سواء، وكل فضلٍ ثبت للدعاة عمومًا فأرباب والبصيرة بأصول الدعوة وفقهها به أولى وأحرى، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11).

نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها.

ولا يفوت في هذا المقام أن نؤكد على أن تعلم هذا العلم -علم أصول الدعوة- من أعظم سُبل الوحدة والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف، ومن أعظم أسباب صلاح ذات البين، وما قد يوجد من مظاهر الفرقة والتخالف بين الدعاة مردّه إلى أمور كثيرة؛ من أهمها غيابُ أو ضعف العلم الشرعي الأصيل، وكذا علم أصول الدعوة وفقه ممارستها، وخفوت نور الربانية في الصدور وضعف التحقق بالأخلاق النبوية والشمائل السلفية، فلا غنى عن غلبة روح التأصيل العلمي، والتفريق بين المقبول والمردود من الخلاف والمحكم والمتشابه من النصوص والقطعي من الظني من الدلالات. نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها أما عن نشأة هذا العلم علم أصول الدعوة والمراحل التي مر بها، فإن مفردات هذا العلم قديمة قدم الدعوة، لم ينفك علم الدعوة عن عملها في منهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وما زال علم الدعوة وعملها عبادة يتقرّب بها الدعاة إلى الله تعالى جيلًا بعد جيل، ولما قام عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله تاليًا آياته ومعلمًا أحكامه ومزكيًا أتباعه؛ تخرّج أصحابه في مدرسته وتفقهوا بعلمه وتأدبوا بأدبه، وأنجز الله لهم وعده؛ فأظهر دينه وأعلى كلمته وأعز أهله واقتفى التابعون ومن بعدهم آثار الأسلاف، فنشروا الإسلام وبلغوا فيه كل مبلغ، فكانت كل الجهود مصروفة إلى حفظ العلم وإتقان العمل. وعندما بسط الإسلام نوره على الدنيا ودانت له الأرض اتجهت العلوم وجهة التأصيل والتقعيد، وكان علم الدعوة أبوابًا منثورة في كتب السنة ودواوينها حينًا وفي كتب التفسير وشروحها حينًا وفي كتب السير والتاريخ والتراجم أحيانًا

أخرى، ولم يجتمع من ذلك علما بالمعنى الاصطلاحي للعلم؛ لأن مبعث تأصيل العلوم وإفرادها بالتصنيف هو الحاجة إليها، ولم تكن الدعوة إذ ذاك عملًا مهجورًا ولا أمرًا مستورًا؛ إذ كان المجتمع الإسلامي كله ناشطًا بالدعوة إلى الله، تسري روحها في أوصاله وتتنفس رحيقها جنباته. وكانت تلك الدولة الإسلامية آنذاك ترى الدعوة إلى الله أولى وظائفها في الداخل ومحور علاقاتها في الخارج، بل كانت ترى الدعوة سرّ وجودها ونظام حياتها وبقائها؛ تارة تخاطب بإرسال الدعاة وتارة تدعو باستقبال الوفود وتارة تدعو بالحسبة والتغيير وتارة تزيل العقبات أمام الدعوة بالجهاد، فكان المجتمع أفرادًا وجماعات حكَّامًا ومحكومين، متحققين في الجملة بقول رب العالمين: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41)، وبقي الأمر مقاربَا حتى خلف من بعدهم خلف أضاعوا الوجبات واتبعوا الشهوات وأهملوا العلم والعمل على مختلف المستويات، فما استفاقوا إلا على استلاب دولتهم وزوال خلافتهم، وتفرق شملهم، وتغير حالهم، واستبدالهم بالقوة ضعفًا وبالعزة ذلًّا وبالغنى فقرًا. إلا أن السُّبات وإن طال فلا بد بإذن الله -عز وجل- من يقظة، والغفلة وإن استمرت فلا بد من صحوة، فتنادى المصلحون من كل جانب ليعود المسلمون إلى سابق عهدهم وسالف مجدهم، وعادت الدعوة لتبعث الأمة من جديد فكتب الدعاة العلماء يشخِّصون الداء ويصفون الدواء، وبرزت الحاجة إلى هذا العلم -علم أصول الدعوة- بإلحاح؛ نظرًا لما يكتنف الأمة من جهالة وما يحيط بالعمل الدعوي من غموض في بعض مفاهيمه وخللٍ في بعض أصوله واضطراب في مناهجه وقصورٍ في أساليبه وجمود في وسائله وخطورة في نوازله، وعقبات عملية في طريقه تهدف إلى وأده تارة وتشويهه وتعويقه تارة أخرى، فقام في

العصر الحديث نهضة دعوية وتيارات إسلامية وعُرفت المؤسسات الدعوية والإعلامية وتأسست الكليات الدعوية والأقسام العلمية في الجامعات الشرعية؛ كل ذلك خدمة لقضية الدعوة. ولا جرم أن كان تدوين هذا العلم في أوله قاصرًا محدودًا ثم تكاملت واجتمعت أجزاؤه وأركانه، فاستوى وقام على سوقه، وبلا شك فقد كان أوله في العصر الحديث عاطفةً وحماسًا وإن لم يخلُ من تأصيل وتقعيد، ثم إن آخره كان فقهًا وتقعيدًا وإن لم يخلو من عاطفة وتحميس، فلا عجب أن يستفيد اللاحق من السابق، فيؤصل للدعوة مناهجها ويضبط وسائلها وأهدافها، ويبصرها بمواضع الزّلل ومكامن الخلل ومواطن الرشد وأسباب العلاج، وقديمًا قيل: كما ترك الأول للآخر. ومما تجدر ملاحظته أن التصنيف الخاص في الدعوة إلى الله أخذ في بادئ الأمر سمة الوعظ والتذكير والمخاطبة بما يرقق القلوب ويزهّد في الدنيا ويرغّب في الآخرة؛ حيث عُرفت أبواب الرقاق في عامة كتب الحديث كالصحاح والسنن، وأُفردت أبواب الزهد بكتب مستقلة كـ (الزهد) لابن المبارك وللإمام أحمد، ونحو ذلك مما يشتمل على دعوة النفس ومحاسبتها، ثم جاء ابن الجوزي بكتابه الوعظي (التبصرة) وقد جمعت خطبه ومجالسه وعظه في أسفار عديدة، مثل "اللطف في الوعظ" و"الشفاء في مواعظ الحكام والخلفاء"، ثم ألف كتابًا بعنوان (القصاص والمذكرين) ضمنه طائفة من القواعد الأساسية في الدعوة إلى الله، وبيانًا لكيفية الدعوة وآداب الداعي وشروطه، كما ضمّنه تراجمَ مجموعة من القصاص والمذكّرين ونتفًا مضيئة من جوامع الكلم وروائع البيان عن الصحابة فمن بعدهم، وقد سمَّى ابن الجوزي هذا الفن بأسماء ثلاثة: القصص والتذكير والوعظ، فلو قيل: إن ابن الجوزي المتوفى عام خمسمائة وسبعة وتسعين -

رحمه الله- لو قيل: إنه هو واضع هذا الفن -فن علم أصول الدعوة؛ لم يكن ذلك القول بعيدًا، على أن الوعظ والتذكير والقصص كلها تندرج تحت معنى واحد هو الدعوة إلى الله بالكلام أو بالخطابة. وما ورد عن السلف من ذم للقصاص فهو محمول على ما لم يكن فيه علم الكتاب والسنة، أو ما لم يتحرَّ أصحابه فيه الصدق والصواب والإخلاص، ولقد عُني العلماء بالتفصيل في مسائل علاج النفوس ومداومتها؛ فضرب الغزالي بسهم وافر في كتابه (منهاج العابدين) وأبواب من (إحياء علوم الدين) وكذا ابن حزم في كتابيه (علل النفوس ومداوتها) و (الأخلاق والسير)، وأوفى على الغاية شيخا الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كتبهما النافعة، لا سيما (مدارج السالكين) لابن القيم (في شرح منازل السائرين) و (حادي الأرواح) و (الفوائد) وغيرها من كتب ابن القيم و (التحفة العراقية في الأعمال القلبية) لابن تيمية وغير ذلك. وما زال أهل العلم يضعون كتب في الوعظ وفي الخطابة تارة وفي تربية النفوس ورياضتها تارة أخرى، وربما جمعوا بين السير والتراجم من جهة والدعوة إلى إصلاح النفوس من جهة أخرى، كما فعل أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) وكما فعل الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء)، وربما جمعوا بين السيرة النبوية والفقه والدعوة إلى الاقتضاء والتأسي كما فعل ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في خير هدي العباد)، وربما تضمنت كتب الآداب هذا المعنى ككتاب (أدب الدنيا والدين) للماوردي و (الآداب الشرعية) لابن مفلح الحنبلي، كما صنفت كتبٌ مبكرة في الحسبة وأحكامها وآدابها ككتابي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) للخلال وابن تيمية، و (معالم القربى في أحكام الحسبة) لابن الأخوة الشافعي.

روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره.

وقد تواكب مع هذا الاتجاه اتجاه آخر يُعنى بمقارنة الأديان والرد على المخالفين في أصل الدين، ككتاب (الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح) لابن تيمية، و (هداية الحيارى) لابن القيم. إلا أن نقل نوعية ضخمة في التصنيف هذا العلم -علم أصول الدعوة- قد وقعت بتنحية الشريعة وإسقاط الخلافة في العصر الحديث، ومع محاولات الدعاة والمصلحين لاستئناف الحياة الإسلامية الحقَّة جدَّت لهذا العلم مداخل وروافد عديدة، وصلته بالسياسة الشرعية تارة وبالفقه وأحكام النوازل تارة وبعلوم الحياة ووسائل الاتصال والتعبير تارة أخرى، وبدأ علم أصول الدعوة يتناول بهذا الاسم، وتكتب فيه كتب ودراسات وتعدّ في تأصيله مداخل، وتدرس الدعوة من مختلف جوانبها فقهًا وتاريخًا ومنهجًا وخططًا ووسائل وأساليب، كما سيلمح هذا جليًّا في المجموع المنتقاة من كتب الدعوة التي سنذكرها في آخر درسنا هذا إن شاء الله تعالى. روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره وكل علم من العلوم له مصادر وروافد تمدّه بمددها، وعلم أصول الدعوة له كذلك مصادر وروافد، تمتدّ ليشمل ما يحيط بتبليغ رسالة الإسلام للبشر عامة وتعليم وتربية المستجيبين كافة، وتحقيق التمكين لهذا الدين خاصة، فيستمدّ مادته من العلوم الشرعية إضافةً إلى ما في الماضي والحاضر من تجارب ودعوات وما في الواقع من أسباب ووسائل ومحاولات، وما في النفس البشرية من نزعات وتوجهات، والإحاطة بهذه الروافد العديدة يمكن أن يتناول على النحو الآتي:

أولًا: علم الإيمان: فلا بد للداعية أن يُحيط بأركان الإيمان وحقيقته ومسائله ونواقضه، وما يتضمن ذلك من الرد على الملاحدة والدهرين وغيرهم من المخالفين. وكذلك علم الأخلاق والسلوك والتربية، فيأتي بعد علم الإيمان؛ لأن القرآن المكي اهتمَّ بعد العقيدة بالأخلاق اهتمامًا كبيرًا، فيتعيّن على الداعية أن يحيط علمًا بالأخلاق الفاضلة وأن يتحقق بها عملًا وهديًا وسمتًا، وأن يتعلم كيف يعلّمها ويربي غيره عليها. كذلك علم الأحكام -أحكام العبادات- وما لا غنى له عنه من الأحكام المعاملات، وما لا يسعَ الداعي جهله من منهاج وطرائق الاستنباط والاستدلال وقواعد الفقه وقضاياه الكلية، كذلك علم السيرة والتاريخ- سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، فيهما البيان لمنهجه العملي في الدعوة إلى الله، فهو -صلى الله عليه وسلم- القدوة وهو فيها الأسوة، ومن سيرته وسيرة أصحابه تؤخذ العبرة. وتجارب الدعاة وتصرفات العلماء مصدرٌ مهم في أصول الدعوة، على الداعية أن يستفيد من تجارب السابقين، وكذلك عليه أن يستفيد من العلوم المعاصرة الحديثة المستجدة، مثل علوم الإدارة وفنون الاتصال ووسائل التأثير وأساليب الخطاب المناسبة لزمانها ومكانها. أما نسبة علم أصول الدعوة: فإن نسبة هذا العلم وعلاقته بغيره من العلوم، وارتباطه بغيره من الفنون نسبة دقيقة؛ من حيث إن عناصر هذا العلم مشتقة من أصول علوم إسلامية مختلفة، فالداعي إلى الله الدارس لهذا العلم ينبغي له أن يتمكن من معرفة صحيحة بالمسائل الاعتقادية، وأن يكون له إلمام وافٍ بالأحكام الشرعية العملية وطرائق استنباطها وأصول الاجتهاد والفقه الدعوي، فلا غنى

عن اجتماع العقيدة والشريعة والمنهج والسيرة والتاريخ، والأسلوب العملي الأمثل لتحقق البصيرة، وبذلك كله يكتمل بيان هذا العلم، وبهذه الهيئة الاجتماعية المركبة من عناصر علوم مختلفة يُغاير هذا العلم ما عداه من العلوم والفنون وتظهر شخصيته المتميزة، فلا يغنى عنها بتخصصها الدقيق ولا تغني عنه في مجاله لشموله واتساع نطاقه وتميزه بهذه الهيئة المركبة الجامعة، إذ ليس هذا العلم علم عقيدة أو شريعة أو مجرد طريقة وأسلوب في الدعوة أو دراسة في تاريخ وواقع وبيئة الدعوة زمانًا ومكانًا، أو معرفة بمهارات الإدارة وفنون الاتصال، وإنما هو ما يجتمع ويتألف من ذلك كله، فهو علمٌ ذو شخصية متميزة، وعلى ذلك فإن علاقته بغيره من العلوم هي العموم والخصوص الوجهي، فهو أعم من جهة كثرة موارده وروافده وعلاقاته، وأخص من جهة ميدانه إلا وهو الدعوة والتربية. وثمرة علم أصول الدعوة ثمرةٌ عظيمة، هذه الثمرة تتصل بالدين وبالمجتمع وبالدعوة وبالدعاة؛ أما بالنسبة للدين: فثمرة علم أصول الدعوة إقامة الدين، وذلك بالعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية وبسط سلطانها واستئناف الحكم بها والتحاكم إليها، والموازنة بين مختلف المصالح في هذا السبيل، واتخاذ المواقف المناسبة من المنكرات القائمة دفعًا أو تقليلًا مع النظر إلى العواقب والمآلات، وتقويم الفكر المنحرف ودحض العقائد والأفكار الزائفة، ومحاربة الزيغ عن الصراط المستقيم في شتى صوره. أما بالنسبة للمجتمع المسلم: فثمرة هذا العلم له هي العمل على استفاضة البلاغ في الأمة والمجتمعات الإسلامية، ونشر العلم بين أبنائها وإظهار السنة وقمع البدع، وترشيد السعي لتحرير مقدسات الإسلامية، وإشعال روح الجهاد وبعث

الأمة في مواجهة أعدائها، والأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية، حتى يحصل النصر المبين الذي وعد الله به المسلمين. أما بالنسبة للدعوة ذاتها: فثمرة علم أصول الدعوة هي حماية الدعوة من إلحاق الضرر بها من داخلها أو خارجها، واستبانة سبيل المجرمين وردّ كيد الكائدين واتخاذ قرارات ملائمة بشأن أولويات الدعوة في حدود الزمان والمكان، والعمل على تكامل الأعمال الدعوية والتنسيق بينها والجمع بين مجهوداتها والإصلاح بين أربابها. أما الثمرة التي يقطفها الدعاة من علم أصول الدعوة: فهي تعلم أصول العمل التربوي الفردي والجماعي، وممارسة التربية والتزكية بمراحلها وخصائصها وضوابطها؛ مما يحقق وجود الإنسان الصالح وتحصيل البصيرة في حال المدعوين على اختلاف أصنافهم وأحوالهم، ومعاملة كل ما يليق. أما مسائل علم أصول الدعوة: فإنها كثيرةٌ متعددة، وذلك لكونه يتعلق بعلومٍ وفنون كثيرة، ويستمدّ من روافد متنوعة كعلم الإيمان والأخلاق والفقه والأحكام والسيرة والتاريخ والتراجم وعلوم الإدارة والتخطيط والواقع ومستجداته والإعلام ووسائله، فهذه هي بإجمال مسائل علم أصول الدعوة. أما مصادر هذا العلم فهي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة التي هي بيان للقرآن الكريم كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، والحمد لله قد شرح العلماء من السلف والمعاصرين السنةَ في كتب كثيرة، ومنها العقيدة الصحيحة والأخلاق الإسلامية العليا والسيرة النبوية والتاريخ والتراجم والأحكام ومداخلها وكتب الآداب وكتب الدعوة ومناهجها وفقهها وتاريخها وأصولها. وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة.

الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة.

الفرق بين العلم والمعرفة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة) الفرق بين العلم والمعرفة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة؛ من معرفة حسية وعقلية وفطرية ووحيية: المعرفة في اللغة ضدّ الإنكار، وتعود إلى معنى السكون والطمأنينة، ويستند ذلك إلى أن ثبوت المعنى في النفس يقتضي سكونها إليه بخلاف ما لم يثبت في النفس، فإنها تُنكره، قال ابن فارس: العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة، تقول: عرف فلان فلان عرفانًا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه؛ لأن من أنكر شيئًا توحش منه ونبعد. وهذا الأصل ينطبق على معنى العلم من جهة أنه ثبوت المعلوم وتحققه في النفس؛ فمن علم بشيء فقد عرفه، ومن عرفه فقد علم به؛ ولهذا يفسر أهل اللغة المعرفة بالعلم، كما جاء في (اللسان): العرفان العلم، كما يُفسرون العلم بالمعرفة كما جاء في (اللسان) أيضًا: علمت الشيء أعلمه علمًا: عرفته. وقد يفرق بعض أهل اللغة بين المعرفة والعلم لكن على وجه لا ينافي اتفاقهما في المفهوم الإجمالي، ومن ذلك قول أبي هلال العسكري: الفرق بين العلم والمعرفة، أن المعرفة أخصّ من العلم؛ لأنها علم بعين الشيء مفصلًا عما سواه، والعلم يكون مجملًا ومفصلًا، فكل معرفة علم وليس كل علم معرفة، وذلك أن لفظ المعرفة يُفيد تمييز المعلوم من غيره، ولفظ العلم لا يفيد ذلك إلا بضربٍ آخر من التخصيص في ذكر المعلوم. والشاهد قول أهل اللغة: إن العلم يتعدى إلى مفعولين ليس لك الاقتصار على أحدهما إلا أن يكون بمعنى المعرفة، ولا تنافي

يبن تفسير العلم بالمعرفة والمعرفة بالعلم، وبين أن يكون لكل منهما مع ذلك معنى يختصّ به، وإنما المقصود اشتراكاهما في المفهوم الإجمالي المستند إلى ثبوت معنًى في النفس هو حقيقة العلم والمعرفة، وكما يقول الإمام ابن حزم: فالعلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد، وهو اعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه وارتفاع الشكوك عنه، وهذا المعنى القائم في النفس حقيقة ضرورية يُدركها الإنسان من نفسه، وهي أظهر من أن تُعرّف أو يستدل لإثباتها؛ لأن كل إدراك لأمر كلي أو جزئي متوقف على ثبوت حقيقة المعرفة في النفس ثبوتًا ضروريّا لا يمكن الجهل به أو الشك فيه، والتعريف إنما يكون بما هو أظهر وأوضح مما يراد تعريفه، والمعرفة هي أظهر المعارف بحيث لا يمكن تعريفها بما هو أظهر منها. وبتذوّق اللفظ القرآني وتفهمه أدرك البعض أن بين المعرفة والعلم خصوصًا وعمومًا سواء من جهة اللفظ أو المعنى، يقول الأستاذ عبد الحكيم المغربي: المعرفة إدراك الشيء بتفكرٍ وتدبّرٍ لأثره، وهي أخص من العلم، ويقال: فلان يعرف الله، ولا يقال: يعلم الله، متعديًا إلى مفعول واحد، وعرفه يعرفه معرفة وعرفانًا فهو عارف. والعلم والمعرفة يُفرق بينهما من جهة اللفظ ومن جهة المعنى: أما من جهة اللفظ: ففعل المعرفة يقع على مفعول واحد، تقول: عرفت الديار، قال الله تعالى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (يوسف: 58) وقال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة: 146)، وفعل العلم يقتضي مفعولين كقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (الممتحنة: 10)، وإذا وقع على فعل مفعول واحد كان بمعنى المعرفة كقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال: 60).

وأما من جهة المعنى، فمن وجوه: أحدها: أن المعرفة تتعلق بذات الشيء والعلم يتعلق بأحوال الشيء، فتقول: عرفت أباك وعلمته صالحًا؛ ولذلك جاء الأمر في القرآن الكريم بالعلم دون المعرفة كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (هود: 14) فالمعرفة تصور التصور، والعلم حضور أحوال الشيء وصفاته ونسبتها إليه؛ فالمعرفة نسبة التصور والعلم نسبة التصديق. ثانيها: أن المعرفة في الغالب تكون لما غابَ عن القلب بعد إدراكه، فإذا أدركه قيل: عرفه، أو تكون لما وُصف بصفات قامت في نفسه، فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها قيل: عرفه، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (يوسف: 58)، فالمعرفة نسبةُ الذكر في النفس، وهو حضور ما كان غائبًا عن الذاكر؛ ولهذا كان ضدّها الإنكار وضد العلم الجهل، قال الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (النحل: 83)، ويقال: عرف الحق فأقرَّ به، وعرفه فأنكره. ثالثها: أن المعرفة تُفيد تمييز المعروف عن غيره، والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره. رابعها: أنك إذا قلت: علمت محمدًا، لم تفد المخاطب شيئًا؛ لأنه ينتظر أن تخبره على أيِّ حال علمته، فإذا قلت: كريمًا أو شجاعًا حصلت له الفائدة، وإذا قلت: عرفت محمدًا، استفاد المخاطب أنك أثبته وميزته عن غيره، ولم يبقَ أن ينتظر شيئًا آخر. خامسها: أن المعرفة علمٌ يعيّن الشيء مفصلًا عما سواه، بخلاف العلم فإنه قد يتعلق بالشيء مجموعًا ومفرقًا.

الحس في الفكر الإسلامي.

وفرق بين العلم والمعرفة عند المحققين: أن المعرفة هي العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلق المحققون المعرفة على مدلول العلم وحده. الحس في الفكر الإسلامي أما المعرفة الحسية، فالله -سبحانه وتعالى- قد ذكر الحس في القرآن الكريم في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (مريم: 98) وامتن الله -سبحانه وتعالى- على الناس بما وهبهم من الحواس، فقال -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) وقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (المؤمنون: 78)، فالحواس لها أهميتها في المعرفة الإنسانية، ولذلك تناول مفكرو الإسلام على اختلاف مذاهبهم مسائل تتصل بالحواس، نذكر منها: عدد الحواس وأيّها أفضل، نظرًا لتنوع مدركات الحواس الظاهرة من مسموع وملموس ومبصر ومتذوق ومشموم كان الرأي الغالب عند المتكلمين والفلاسفة أنها خمس حواس: حاسة البصر وبها ندرك الأجسام والألوان وحسن التركيب في الصور، وحاسة السمع وبها ندرك الكلام والأصوات، وحاسة الذوق وبها ندرك الطعوم، وحاسة الشمّ وبها تدرك الروائح، وحاسة اللمس ويدرك بها الجسم والحرارة والبرودة واليبوسة واللين والخشونة، وقد زاد البعض حاسة أخرى وهي ما عبر عنه ابن حزم في قوله: علم النفس بالبديهات كعلمه بأن الجزء أقل من الكل، فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته ثمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سُرّ، وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء، وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك، ونحن نرى أن ابن حزم نقل

حاسة باطنة أو نقل ما يُسمى بأوليات العقول إلى عمل الحواس، ولا يُفسر هذا عند ابن حزم إلا بافتراض أخذه ولو لم يصرح بالحواس الباطنة، كما يذكر الرازي، وضمها إلى قائمة الحواس باعتبار أن مصادر المعرفة عنده كما هي عنده جمهور الفلاسفة والمتكلمين أعيانٌ وخبر ونظر، وقد ربط ابن القيم بين ما تتميز به الحاسة في إدراكها بين وجهة تفضيلها باعتبار أن اليقين مراتب، فيرى أن السمع مرتبة لكن مرتبة العين أتمّ وأكمل، وكأن كل واحدة فضلت من جهة، فالمدرك بالسمع أعم وأشمل والمدرك بالبصر أتم وأكمل. عمل الحواس الظاهرة: قلنا إنه من أجل تنوع مدركات الحواس تنوعت الحواس أو العكس، من المقرر أن عملية الإدراك الحسي هذه مدخل إلى العلم العقلي؛ لذا كان من الضروري أن يتعرض العلماء لبحث مسألة طريقة عمل هذه الحواس الظاهرة، فلتعمل كل حاسة على حدة دون تداخل بينها وبين الحواس الأخرى، أو أن هناك تداخلًا لاعتبارات معينة، هناك من يرى أن الحواس تعمل كل على حدة ولا تداخل، بل إن كل حاسة تقوم بالوظيفة التي أناطها الله بها، بينما يرى آخرون أن الحواس تعمل بالمداخلة والمجاورة؛ لأن الملموسات والمذوقات والمشمومات كلها أجسام وليست أعراضًا، فلو كانت أعراضًا لاستحال أن تدرك بالاتصال أو تسمع بالآذان أو تشم أو تذاق أو تلمس، وهذا رأي بعض المعتزلة كما يذكر الأشعري، ويتفق ابن تيمية مع صاحب هذا الرأي بالنسبة للشم والذوق واللمس باعتبارهم حسًّا محضًا لا يحصل إلا بمباشرة المحسوس، أما ابن حزم، فمع أنه يرى عدم التداخل بين الحواس فإنه يرى أن الحواس الخمس لا تدرك المحسوسات إلا بالمقابلة والتفاضل؛ بأن يعظم الفرق بين الشيء في وضعين مختلفين، فتتمكن الحواس من إدراك المحسوس، أما إذا فقدت الأشياء ما يظهر هذا التقابل كأن تكون فاقدة لصفة اللون والطعم والرائحة والمحسّة كالنفس مثلًا،

فإن الحواس لا تدركها، بل هي التي تدرك كل المدركات، ولعل فخر الدين الرازي في تناوله للحواس الظاهرة أو وسائل الإدراك الخارجي من أكثر الذين تعرضوا للصلات بين الحواس والمقارنات بينها متأثرًا في بعض ما ذكر بفلاسفة المسلمين أمثال ابن سينا الذي تأثر بأرسطو في كثير من مسائل هذا الموضوع، كما ظهر في اعتباره الذوق نوعًا من اللمس باعتبارهما شعورًا مع الفارق في فائدة الجسم من كل منهما، فالذوق عبارة عن الشعور بما يلائم البدن ليطلبه، واللمس شعور خاص بما ينافيه ليتجنب عنه. الحواس الباطنة: لم تكن الحواس الظاهرة هي كل الجهاز المعرف الحسي، بل رأى منكري الإسلام أن حواس باطنة تكمل دور الجهاز المعرفي الحسي، وإذا كنا قد أثرنا إلى رأي ابن حزم في حاسة سادسة وهي ليست من الحواس الظاهرة فإننا نشير إلى أن كثيرين غير ابن حزم قد رأوا ضرورة أن يكون هناك حواس باطنة تكمّل دور الحواس الظاهرة في المعرفة الحسية، ومستندهم في هذا أن الحواس الظاهرة تدرك الأشياء جزئيّة ومتناثرة، ولا تكون مدركاتها ذات قيمة ما لم يكن هناك حاسة أو أكثر تجمعها، فإذا أضفنا إلى ذلك أننا نجد صور المحسوسات بعد أن تغيب عنا موجودة في نفوسنا وأذهاننا بعد غيابها، ووجود هذا الصورة ليس من أعمال الحس الظاهرة؛ من أجل هذا رأوا أنه لا بد من قوة أو قوى تلتقط هذه الصور وتجمعها وتحتفظ بها وتُصدر أحكام عليها، وقد عدها البعض خمس قوى باطنة هي الحس المشترك والخيال والقوة المتخيلة، وتسمى أحيانًا المفكرة، والقوة الوهمية، والقوة الحافظة. وطبيعي أن يكون هناك اختلافٌ بين عمل الحاسة الظاهرة والحواس الباطنة؛ من حيث أن الأولى ملامسة للمحسوس وبواسطة، بينما الثانية تصور له وتذكر

جمالًا يستلزم وجود المدرك المحسوس، وهذه الفروق وغيرها لا تنفي تكامل الحواس الباطنة مع الحواس الظاهرة في المعرفة الحسية. ومن خلال هذه الإشارات التي أبانت مكانة الحسّ في الفكر الإسلامي نستنتج منها ما يلي: أن للحس دورًا مهمًّا في عملية المعرفة، لكنه ليس المصدر الوحيد لها. أن العالم الحسي واقع مشاهد لا يمكن إنكاره أو عّده شبحًا أو ظلالًا. ثالثًا: أن الانطلاق من الحس والجزئيات أعطى المسلمين فهمًا جديدًا لمعنى التجربة، جعلتهم تجريبيين حقيقيين، دون أن يكون ذلك السبب العقل أو التقليل من شأنه، ووضع الحس موضعه وعرف للعقل قدره، وضبط كلاهما بمبادئ اليقين التي يعرفها المنهج الإسلامي. رابعًا: أن الشك في الحواس وذكر خطئها وخداعها ليس شكًّا مذهبيًّا كما هو عند بعض اليونان، لكنه منهج يحذر في الشك في الإفراط في الثقة في الحواس، كما يشير إلى دور العقل وأهميته، بالإضافة إلى ضرورة الحرص على سلامة الحواس قبل الثقة في الأخذ عنها. أما العقل فهو مصدر عقل يعقل، وليس اسمًا لجوهرٍ قائمًا بنفسه، وإنما هو مجرد صفة كالعلم والفهم والإحساس والشم والذوق ونحو ذلك مما هو مقتضى قوى الإدراك، قال أهل اللغة: عقل يعقل عقلًا ومعقولًا أيضًا، وهو مصدر، وقال سيبويه: هو صفة. وفي بيان هذا المعنى يقول الإمام ابن تيمية: إن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يُراد به جوهر قائمٌ بنفسه باتفاق المسلمين، وإنما يُراد به العقل الذي في الإنسان، الذي هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل

العلاقة بين العقل والنقل.

الأعراض لا من قبيل الجواهر، وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلًا، وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعًا، وكذلك البصر، ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك، فيقال للقوة التي في العين بصر، والقوة التي يكون بها السمع به سمع، وبهذين الوجهين يفسّر المسلمون العقل. العلاقة بين العقل والنقل العلاقة بين العقل والنقل أساس منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة هو اشتراط أن يكون الاستدلال شرعيًّا في دلائله، كما يكون شرعيًّا في مسائله، وأنه كما لا يمكن وجود مسألة اعتقادية ليس لها دليل شرعي، فكذلك لا يمكن وجود مسألة اعتقادية لا تكون نصوص الكتاب والسنة كافية في الدلالة عليها، والمسائل الاعتقادية إما أن تكون خبرية بحيث لا يمكن الاستدلال عليها إلا من جهة ورود النص بها، وإما أن يكون الاستدلال عليها ممكنًا بالعقل، لكن لا بد مع ذلك ورود النص عليها واشتماله على الدلالة العقلية، ومستند التسليم بالمسائل الخبرية هو اليقين بأن ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما أوحاه الله إليه لا بد أن يكون حقًّا للدلائل القاطعة على نبوته، وأنه معصوم فيما يبلغه عن الله تعالى عن أن يقول ما هو باطل، وكذلك المسائل الاعتقادية التي يمكن أن يُستدل عليها بالعقل، فإن التسليم بها مع كونه هو مقتضى تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- كالمسائل الخبرية، إلا أن نصوص الكتاب والسنة لا بد أن تتضمن الدلالة العقلية عليها؛ إذ ليست تلك النصوص أخبارًا محضة، بل هي أدلة نقلية عقلية.

وينبني على هذا الأصل وجوب التسليم بكل ما ثبت بالكتاب والسنة، واعتقاد عدم إمكان التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، وبيان ما تضمنته الأدلة النقلية من الحجة العقلية واعتقاد كفايتها في الدلالة على مسائلها، وجماع منهج أهل السنة في هذا الباب: أنهم لا يرون أمرًا يجب اعتقاده والإيمان به لم ترد به النصوص، كما أنهم لا يردون النصوص الثابتة بدعوى التعارض بين العقل والنقل، بل لا يُسلّمون بين التعارض أصلًا، يقول الإمام بن عبد البر: ليس في الاعتقاد كله من صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا من كتاب الله أو صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أجمعت عليه الأمة وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه، يسلم له ولا يناظر فيه، ويقول الإمام الزهري: من الله الرسالة ومن الرسول البلاغ وعلينا التسليم، ويقول الإمام أحمد: السنة عندنا آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء، إنما هي الاتباع وترك الهوى، ويقول ابن سيرين: كانوا يرون أنهم على الطريق ما كانوا على الأثر. أما الفطرة فهي في اللغة: الخلقة التي يكون عليها الإنسان في أول أمره، جاء في (الصحاح): الفطرة بالكسرة الخِلقة، وقد فطره يُفطره يفطره فطرًا أي: خلقه، والفطر الابتداء والاختراع، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعربيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها -أي: أنا ابتدأته"، وجاء في (لسان العرب): الفطرة الخلقة، أنشد ثعلب: هوّن عليك فقد نال الغنى رجل ... في فطرة الكلب لا بالدين والحسب والفطرة: ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به، وقد فطره يفطُره بالضم: أي خلقه، وقال ابن الأثير في (غريب الحديث): كل مولود على الفطرة، الفطر الابتداء والاختراع، والفطرة الحالة منه كالجِلسة والرِّكبة، والمعنى أنه يولد على

نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد. وعلى هذا المعنى للفطرة جاءت آيات كثيرة منها قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: 1) وقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (إبراهيم: 10) وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} (الأنعام: 79) وقوله تعالى عن سحرة فرعون بعدما آمنوا برب العالمين: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} (طه: 72)، فهذه الآيات وغيرها كثير تدل على أن المراد بالفطرة الخِلقة؛ لأن الفاطر هو الخالق، فيكون المقصود بمقتضى الفطرة هو مقتضى الخلقة التي خلق الله الناس عليها قبل أن تنحرف عنه بالتغيير والتبديل؛ ولهذا شبَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- المولود على الفطرة بالبهيمة حين تُخلق مكتملة الخلق قبل أن تغيّر خلقتها بالجدع. وعلى هذا يكون المقصود بالمعرفة الفطرية: ما تقتضيه الخلقة التي خلق الله الناس عليها من المعارف الضرورية بحيث يكون التسليم بها هو مقتضى الغريزة العقلية التي فطر الله الناس عليها، فلا يكون صدقها مستندًا إلى أدلة خارجة عنها، وإنما إلى مجرد تصورها، وليس المقصود بفطرية تلك المعارف أن تكون كامنة في النفس حاصلة للإنسان منذ ولادته، وإنما تكون حاصلة له بالقوة، بمعنى أنها المقتضى المباشر للغريزة العقلية، وهذا يقتضي من وجه آخر ألا تكون الفطرة هي مجرد القابلية لتلك المعارف؛ لأن مجرد قابلية الفطرة لها لا يقتضي بحفظها. والله -سبحانه وتعالى- قد امتنَّ على الناس بما وهبهم من الحواس والعقل، وأمرهم بشكره على ذلك وأرشدهم إلى ضرورة الانتفاع بحواسهم وعقولهم: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (الملك: 23) {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}،

{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق} (الطارق: 5) {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه} (عبس: 24)، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) والآيات في ذلك كثيرة. وقد ذمَّ الله تعالى الذين أهملوا عقولهم وعطلوا حواسهم فقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22)، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنهم سيندمون يوم القيامة على تعطيلهم حواسهم وعقولهم عن التعرّف على الله -عز وجل- ومراده، فقال -عز وجل- عن أهل النار أنهم قالوا بعدما دخلوها: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10، 11). فالقرآن الكريم أمرنا باستخدام حواسنا والانتفاع بعقولنا، ولم يكتفِ القرآن الكريم بالإشارة والتوجيه بل وضع ضوابط علمية دقيقة تكون ضابطًا لهذه المعرفة الحسية والعقلية، وهذه الضوابط تقوم على دعامتين: الأولى: تقوم على أن ينهض كل جيل بتعليم الجيل التالي ما وصل إليه من تجارب وما استفاده من معارف، وأن يرشد العالمون غير العالمين، وبهذا تتقدم الإنسانية في سبيل الرقي والكمال، وقد وضع القرآن الكريم الضمانات الكافية لتصل هذه المعارف إلى الأسماء والعقول بعيدةً عن التضليل والتحريف. وأهم هذه الضمانات: أولًا: ألا يكتم عالمًا ما اهتدى من معارف وعلوم، فإن هذه المعارف ليست ملكًا خالصةً له، وإنما هي هداية من الله وبتوفيق منه، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

((من سُئل عن علم فكتمه؛ أُلجم يوم القيامة بلجام من نار)) والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِمَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 159، 160). ثانيًا: أمانة العلم ينبغي أن تكون في المحل الأول من الاعتبار؛ بحيث ينقل العالم معلوماته واضحة دقيقة لا لبس فيها ولا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، فإن الله -تبارك وتعالى- عابَ على بني إسرائيل كونهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ونهاهم عن ذلك في أكثر من آية، كما نهى عن كتمان العلم. ثالثًا: العلم حق مشاع للإنسانية جمعاء، وما بعث الله الرسل إلا معلمين مرشدين، سواء بالكتب المنزلة أو بالقدوة الطيبة، واشتراط الأجر في التعليم يتنافى مع مبادئ الإسلام، فإن الله -تبارك وتعالى- حكى عن جميع الأنبياء أنهم ما كانوا يسألون أقوامهم أجرًا على ما يدعوهم إليه، وما يعلمونهم من دين الله -عز وجل. رابعًا: البعد عن ضياع الوقت في المناقشات الجدلية، سواء من جهة المعلمين أو المتعلمين، فإن الله قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: 68)، وقال في وصف الكفار: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب} وقال: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحج: 68). خامسًا: الاستجابة للحق القائم على الدليل، وقد عاب القرآن الكريم على المتعنتين، الذين يغمضون أعينهم عن الضوء المنير، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا ينفذ إليها اليقين، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا

فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26)، وقد ذكر القرآن الكريم على لسان نوح -عليه السلام- أنه قال عن قومه: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (نوح: 7). سادسًا: الإقبال على النافع المفيد، وترك ما لا طائل وراءه من الأبحاث؛ فقد مدح الله تعالى المؤمنين بكونهم عن اللغو معرضون، {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان: 72) {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص: 55)، وقد نهى الله تعالى عن الإلحاح في طلب المحال أو ما يشبه المحال، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، وقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (النازعات: 42، 43)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل الله علم نافعًا ويعوذ به من علم لا ينفع. أما الدعامة الثانية: فهي دعامة التجارب العملية القائمة على التفكير المنطقي السليم، وهذه الدعامة لها ضوابطها التي رسمها القرآن الكريم، وهي تقوم على هذه الأسس: أولًا: أن نحرر عقولنا مما رانَ عليها من تقاليد وعادات وأوهامٍ انحدرت إلينا من وراثات الآباء والأجداد أو من البيئة التي تحيط بنا منذ الطفولة، وبهذا نستطيع أن نفكّر ونبحث في حرية وطلاقة، وهذا يستدعي منا أن نشك في كل شيء ونضعه موضع التجربة والاختبار قبل أن نصل به مرتبة اليقين، وهذا ما نادى به ديكارت بعد نزول القرآن الكريم بعدَّة قرون؛ حيث نادى أن الشك أول مراتب اليقين، والقرآن الكريم ينعي على المشركين جهلهم حين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا

بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شيئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) ووصف الله -سبحانه وتعالى- المقلدين بأنهم يردّدون ما تلقونه كالببغاوات أو العجماوات قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171). ثانيًا: يدعونا القرآن الكريم إلى أن نستعمل الحواس والعقل معنا في تجاربنا المادية والمعنوية، فكلاهما متممٌ للآخر، وليس بينهم انفصال أو انشقاق كما يدَّعي الفلاسفة الحسيون أو الفلاسفة العقليون، والله تعالى يشير في تعداد نعمه علينا إلى الحواس وإلى العقل معًا فيقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78)، بل إن الله سبحانه جعلنا مسئولين عن استخدام هذه الوسائل، فقال جلَّ من قائل: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36). ثالثًا: نبَّأ الله -سبحانه وتعالى- إلى أن في الإنسان نوعًا من المواهب الخفية غير الحواس الظاهرة وغير العقل المفكر، وسمى هذه المواهب باسم الحكمة، فقال -سبحانه وتعالى- ممتنًّا على من يؤتيها: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة: 269) إلا أن معرفة الحواس والعقل معرفةٌ قاصرة لا تستطيع أن تعرِّف الإنسان بالله ومراده وما يجب له على عباده وما لهم عليه إن هم أدوا حقه، وما يلحقهم إن هم لم يقوموا بحقِّه؛ لذلك كان الإنسان بحاجة إلى معرفة ذلك عن غير طريق الحواس والعقل، وليس ثمّ سبيل إلى هذه المعرفة إلا سبيل الوحي، فكانت المعرفة الوحيية أعلى أنواع المعرفة وأكملها؛ لأن مصدرها هو الله -سبحانه وتعالى، ولذلك نرى لزامًا علينا أن نعرّف الوحي كما عرفنا الحسَّ والعقل والفطرة.

فنقول: يدور المعنى اللغوي للوحي على ثلاثة أصول، هي: الإعلام والسرعة والخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك. وفي (تهذيب اللغة) للأزهري: أصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء؛ ولذلك صار الإلهام يُسمى وحيًا. وقال ابن الأثير: الوحي الوحي أي: السرعة السرعة، ويمد ويقصر، يقال: توحيت توحيًا إذا أسرعت. وأما الوحي في الشرع، فمن أجمع ما قيل في تعريفه ما نُقل عن الإمام الزهري في تفسيره لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (الشورى: 51) يقول الإمام الزهري -رحمه الله-: نزلت هذه الآية تعمّ من أوحى الله إليه من البشر، فكلام الله الذي كلم به موسى من وراء حجاب، والوحي ما يوحي الله إلى نبي من أنبيائه -عليهم السلام؛ ليثبت الله -عز وجل- ما أراد من وحيه في قلب النبي ويكتبه وهو كلام الله ووحيه، ومنه ما يكون بين الله وبين رسله ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد ولا يأمرون بكتابته ولكنهم يحدثون به الناس حديثًا ويبينونه لهم؛ لأن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغونه إيَّاه، ومن الوحي ما يُرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته فيكلمون به أنبياءه من الناس، ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من الملائكة فيوحيه وحيًا في قلب من يشاء من رسله، فهذا التعريف قد شمل كلام الله تعالى لأنبيائه من وراء حجاب وكلام الله تعالى الذي يرسل به ملائكته وشمل الإلهام الذي هو إلقاء الوحي في قلب النبي، وهو الذي يقول عنه الإمام الزهري: أن الأنبياء لا يكتبونه ولا يأمرون بكتابته، ولكنهم يبينونه للناس، وهو يريد بذلك التفريق بين الوحي الذي يكون لفظه ومعناه من الله تعالى وهو القرآن، فهذا هو الذي يأمر النبي بكتابته، وأما الوحي الذي لا يكون

لفظه من الله فهو الأحاديث، وإن كانت من الشرع الموحى به إلا أن لفظها من النبي -صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تُروى بالمعنى. إن الإسلام لا يريد أن يبدّد طاقة العقل دونما فائدة، ولا يريد أن يزجّ بالعقل في مجالات من البحث هي فوق قدراته، مما يجعله يتخبط ولا يصل إلى علم صحيح؛ ولذلك حظر الإسلام على العقل جوانب من المعرفة؛ لأنها فوق طاقته مثل البحث في كُنه الذات العلية أو البحث في كنه عوالم الغيب أو البحث في حقيقة الروح أو البحث في موعد قيام الساعة، والعلماء يقولون: العلم قسمان: ما يقع تحت إدراك العقل، وما لا يقع تحت إدراكه، أو يقولون: العلم قسمان: علم غيب وعلم شهادة، كما قال الله تعالى عن نفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (التغابن: 18). أولًا: علم الغيب: وله صورتان، علم غيب مطلق وهو ما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، فلا سبيل إلى أن يدركه العقل أو يقف عليه البتة، وذلك مثل ما لله من كمالات وأسماء لم يوحها لأحد من خلقه، أو كعلم الساعة واليوم الآخر على نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34). القسم الثاني: علم غيب نسبي، وهو ما أطلع الله عليه بعض خلقه؛ وذلك لأن الإنسان يعلم ويجهل ويذكر وينسى، وقد فضّل الله بعض الناس على بعض، وفوق كل ذي علم عليم، وأئمة الناس في هذا المقام الأنبياء والمرسلون، الذين اصطفاهم الله تعالى وأوحى إليه وأمرهم بالبلاغ عنه حتى يبصر الناس ويتعلموا، وهذا مقام فسيح جدّا بحيث يشمل كل الناس شريطة أن يكون له أصل ويقين، فمتى التمس الإنسان أسبابه حصّله؛

لأن الإنسان لم يُولد عالمًا وإنما العلم بالتعلم كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114). ثانيا: علم الشهادة: وهو ما يخضع لحواس الإنسان ومدركاته مما له صورة في الواقع، وهو كذلك، تقصر العقول في إدراكه لتفاوت الناس في هذا الميدان كما هو معلوم مشاهد، فقد قسَّم الله بين الناس معيشتهم بحيث يحتاج الجميع إلى الجميع، وهم متفاوتون في كل شيء، بل الإنسان ذاته ليقصر عقله في وقت ويزكو في وقت آخر، ورضي الله عن عمر -رضي الله عنه- لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توعَّد من قال بوفاته: "من قال: إن محمدًا قد مات قتلته بسيفي"، فلما خرج أبو بكر -رضي الله عنه- على الناس وقرأ عليهم قول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) بعدها قال عمر كغيره: "فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ"، وهذا القصور في الإدراك مردّه إلى تفاوت العقول أو إلى تأثير الشهوات عليها، فمن غضب أو أفرط في تفاعله مع المواقف قصر إدراكه وتفلّت منه بيانه وأزلف لسانه، فحبك الشيء يعمي ويصم وغضبك من إدراكك وهواك موجهٌ لتفكيرك، ولو جانب الحق والصواب، ومن هذا موقف عمر -رضي الله عنه؛ فقد قصر إدراكه للآية الكريمة لغلبة الغضب عليه واستبداده به، ولذلك نرى كثير من الناس تقصر عقولهم عن إدراك الأشياء التي سبق لهم إدراكها، هذا فضلًا عن قصورهم عن إدراكها أصلًا، كذلك نجد العقول متفاوتة كمّا وكيفًا وحالًا، فما يدركه هؤلاء يعجز عن إدراكه الآخرون، وكذلك العقول تعجز تمامًا عن إدراك ما استأثر الله بعلمه فضلًا عن عجزه إدراك أسباب سعادتها إن أعيت نفسها في البحث عن كُنه الأشياء، البحث فيما وراء المادة أو وقعت أَسْر الشهوات والأهواء.

ومن هنا نقول: إن العقول القاصرة والعاجزة والمتباينة والمتفاوتة بين البشر في إدراك وجه الصواب فيما هو مشاهد- لحريّ بها أن تعجز تمامًا عن إدراك غيبٍ أو ما يتصل به، من أجل ذلك كله كان إرسال الرسل ضرورة لتعريف الناس وتبصيرهم حتى تذهب كل حُجة للمخالفين لهدي الله تعالى، وكانت رحمة الله وعدالته سبَّاقة: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء: 15) فأرسل الله رسله يبصّرون الناس بالحق ويرشدونهم إلى الخير وينذرونهم عوامل الفساد والإفساد ولقاء ربهم، فحرروا العقول وهذّبوا الطباع وشرحوا الصدور وصفّوا الأرواح ونقوا النفوس وطمأنوا القلوب، فخلصوا من رق الشهوات وأصل الأهواء وتطهروا من رجس الشيطان ودنس النقائص والرزائل وأدركوا عوامل ثباتهم على الحق وتجنبهم للباطل، كل ذلك بفضل رسالة المرسلين وجهد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أما وقد ختم الله النبوة من محمد -صلى الله عليه وسلم- كما قال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40) فمن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى يُصلح ما أفسد الناس، ويقيم ما اعوجّ بسبب الناس، إنهم دعاة الحق وورثة الأنبياء الهداة المصلحون والمرشدون الناصحون والدُّعاة العاملون أرباب المعرفة والنظر، ولعل الواقع يشهد بالحاجة الملحة إلى زهد هؤلاء الذين اصطفاهم الله تعالى بحمل كتابه وميراث الدعوة وأعبائها بعد رسوله -صلى الله عليه وسلم. إن المعرفة الإسلامية والدعوة إلى الله تعالى وكلمة التوحيد وصفات الله -عز وجل- ومنهج الحق- كان ذلك كله عامل توحيد للكلمة والصَّف، وإصلاح للفاسد والمعوجّ، أما اليوم فكثيرٌ من الناس يلعن بعضهم جدلًا في الله بغير علم، وهذا

يرفع ويزيد من قدر الحاجة إلى المعرفة اليوم من أجل أن ينفي الدعاة عن الدين تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، ولعل ثلاثتهم واقع مشاهد بين غالٍ ومفرّط، مع أن طرفي الأمور شطط وخير الأمور الوسط، وهؤلاء الغلاة شر بكل المقاييس يخرجون بغلوهم هذا عن روح الدين وفطرة الخلق، فلا الدين يقبل ذلك؛ حيث إن من خصائصه رفع الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78). وبعدُ فهذه هي نظرة الإسلام للمعرفة بأنواعها المختلفة، المعرفة الحسية والعقلية والفطرية، وأنه لا غنًى أبدًا بهذه المعارف الثلاث عن المعرفة الوحيية، وأن الناس بحاجة إلى الوحي كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فالوحي يُعدّ أهم مصادر المعرفة ومحور نظرية المعرفة الإسلامية وواضع ضوابطها وحدودها ومعالمها، والمعرفة في ظلّ الوحي ورحابه معرفة يقينية كاملة ثابتة مضطردة غير متناقضة في جوانب علم الشهادة، مطمئنة وواثقة في جانب علم الغيب. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 9 دعوة المسلمين.

الدرس: 9 دعوة المسلمين.

أصناف المدعوين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (دعوة المسلمين) أصناف المدعوِّين إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: تحدثنا عن دعوة غير المسلمين على اختلاف مللهم ونحلهم وديانتهم؛ تحدثنا عن دعوة المشركين واليهود والنصارى والمنافقين ونحن في هذا الدرس إن شاء الله تعالى نتحدث عن دعوة المسلمين. والمسلمون هم الذين آمنوا بالله ورسوله ظاهرًا وباطنًا واتبعوا النور الذي أنزل معه، وهم ثلاثة أقسام بين الله تعالى في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (فاطر: 32، 33). قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: يقول الله تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدّق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال: فمنهم ظالم لنفسه وهو المفرِّط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، فمن ترك الواجب فقد ظلم نفسه ومن فعل المحرم فقد ظلم نفسه؛ ولذلك لما أكل الأبوان من الشجرة قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ولما قتل موسى -عليه السلام- القبطي قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) فالظالم لنفسه هو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، ومنهم مقتصد وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكرهات وبعض المباحات.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (فاطر: 32) قال: "هم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ورّثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغفر له ومقتصدهم يُحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب"، والمسلمون جميعًا بأقسامهم الثلاثة يدعون إلى الله -عز وجل، يُدعى الظالم لنفسه ليتوب من ظلمه ويدعى المقتصد ليجتهد في فعل الواجبات وترك المحرمات وليستزيد من النوافل وترك المكروهات، ويُدعى السابق بالخيرات بإذن الله تقربًا إلى الله ليثبت لما هو عليه ويزداد منه، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد: 17) وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (مريم: 76) فمهما كان الإنسان مجتهدًا في طاعة الله -عز وجل، إلا أنه لا شك تاركٌ لبعض المحبوبات، فيدعى السابق بالخيرات ليثبت على ما هو عليه ويزداد من الخيرات. وقد خاطب الله -تبارك وتعالى- جماعةَ المسلمين بلقب الإيمان الذي يشملهم جميعًا خاطبهم بذلك في القرآن الكريم كثيرًا، وكلفهم بما يحب ونهاهم عما يكره؛ من ذلك قول ربنا -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (النساء: 136)، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحديد: 28)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال: 29)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ

اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف: 10 - 13)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم: 8)، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31). والآيات الخاصة ببعض الطاعات والتحذير من بعض المحرمات مشهورة ناداهم الله -تبارك وتعالى- وأعلمهم بفرضية الصلاة وفرضية الصيام، وناداهم وحرَّم عليهم الخمر والميسر ... إلى آخر ذلك، والنداءات في القرآن الكريم كثيرة، ينادي الله -تبارك وتعالى- بلقب الإيمان "يا أيها الذين آمنوا" لم يفرق -سبحانه وتعالى- بين الذكر والأنثى فهم جميعًا داخلون في الخطاب، وأحيانًا يُسمي الله -تبارك وتعالى- المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات تكريمًا للنساء وتشريفًا وتأكيدًا على أنهنَّ داخلات في الخطاب، إلا ما قام الدليل على اختصاصه بالرجال، يقول -سبحانه وتعالى-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71)، ويقول سبحانه: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الحديد: 18)، ويقول سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35)، ويقول سبحانه: {لِيُعَذِّبَ

اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 73). وأحيانًا يخصّ الله تعالى المؤمنات بالأمر فيما يتعلق بهنّ في مثل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)، وربما وجّه الله -تبارك وتعالى- الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليكلّف النساء في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 59). وكثرت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوة النساء خاصة، من ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أيّ أبوابها شئتِ)) ومرَّ -صلى الله عليه وسلم- على امرأة تبكي عند قبرٍ لها فقال: ((اتقِ الله واصبري)) فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتت بابه تريد أن تعتذر إليه؛ فلم تجد عنده حاجبًا ولا بوابًا، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))، بل كان -عليه الصلاة والسلام- يخص النساء بالموعظة، فكان يوم العيد إذا خطب الرجال تخطاهم إلى النساء فوعظهنّ وذكرهنّ وقال:

((يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكنّ))، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- جعل للنساء يومًا يعلمهنَّ فيه لا يختلط بهن الرجال. ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يهمل دعوة صغار المسلمين وتربيتهم وإن كانوا غير مكلفين، بل كان يأمر الصبيان وينهاهم ويعظهم ويذكرهم ويعلمهم العقيدة؛ ففي الحديث عن عمر بن أبي سلمة قال: "كنت غلامًا في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة -يعني: كان غلام صغير وكان يمد يده هاهنا وهاهنا من إناء الطعام- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا غلام سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) "، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف)) بل كان -عليه الصلاة والسلام- يأمر الآباء بتعليم أبنائهم وتربيتهم ودعوتهم إلى عبادة الله -عز وجل- كان يقول: ((مُروا أولادكم وهم أولاد سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)). فالمؤمنون جميعًا على اختلاف جنسهم ولغتهم وثقافتهم ومهنتهم بحاجة إلى الدعوة، وعلى الدعاة أن يحرصوا على الوصول بالدعوة إلى كل فردٍ من أفراد المجتمع، وإلى كل طبقةٍ من طبقاته، ولكن عُصاةَ المسلمين وهم الذين سمّاهم الله "ظالمي أنفسهم" أحوج المسلمين إلى الدعوة؛ لأنهم مقصرون في حق الله، ظالمون لأنفسهم بترك الواجبات وفعل المحرمات، فهم بحاجة دائمًا إلى داعية يذكّرهم بالله ويخوّفهم عذابه، بالرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة، لعلهم يتقون أو يُحدث لهم ذكرًا.

الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين.

هذه أصناف المدعوين من الناس أجمعين، على اختلاف جنسهم وعلى اختلاف لونهم وعلى اختلاف أرضهم، والناس كلهم كما بيَّنَّا جعلهم الله -تبارك وتعالى- مسلمين وكافرين، والكافرون منهم المشركون وأهل الكتاب، ومن الناس المنافقون، ولكل صنف من هذه الأصناف أصولٌ يجب على الداعية أن يتبعها في دعوته؛ فللمسلمين أصولٌ في دعوتهم يجب على الداعية أن يتبعها، وللكافرين أصول في الدعوة يجب على الداعية أن يتبعها. الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين أما الأصول الشرعية في دعوة الكفار إلى الإسلام فمنها: أولًا: الأصل أن يُدعوا إلى الإسلام، وأن يبدأ الداعية دعوته إلى التوحيد توحيد الله -عز وجل؛ تأسيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله -تبارك وتعالى- أول ما بعثه أمره بالدعوة الناس إلى التوحيد، فلبث فيهم عشر سنين ليس معه شيء إلا ((قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا)) وبعد عشر سنين كلَّفه الله -تبارك وتعالى- ومن آمن معه بالصلاة كما هو معلوم، فعلى دعاة المسلمين أن يبدءوا دعوتهم بالدعوة إلى توحيد الله -عز وجل؛ فإن هذا هو أصل الأصول، وعليهم أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح بلاغًا يقطع العذر كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، ولا تقوم الحجة على الناس إلا بهذه الدعوة الصحيحة البينة الظاهرة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67)، ويقول سبحانه: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54)، ولا يكون البلاغ مبينًا قاطعًا للعذر إلا إذا فهمه المدعوُّون بأن يبلغهم بلغتهم التي يفهمونها أو يكونوا قادرين على فهم اللغة العربية "لغة القرآن"، فإن الله -تبارك وتعالى- قال:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم} (إبراهيم: 4) فالواجب على أمة الإسلام الذين أخرجهم الله تعالى للناس أن يبلغوهم دين الله باللسان الذي يفهمونه ثم يعلموهم العربية ليفهموا عن الله ورسوله، وفي ذلك يقول العلامة ابن باز -رحمه الله-: "أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة فعليه من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات، حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها". ثانيًا: ويجب على دعاة المسلمين -وقد بلّغوا الكفار الدعوة على وجهها الصحيح- يجب عليهم أن يدحضوا كل حجج الكفار وشبهاتهم حول دينهم الباطل، وكل دين غير الإسلام فهو باطل، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وقال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (الأنعام: 149) وقال: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (الفرقان: 33) ومن أجل ذلك أبطل الله تعالى في القرآن كل ما احتجَّ به الكفار على اختلاف عقائدهم في احتجاجهم لدينهم الباطل، فقد ردَّ الله على اليهود مزاعمهم وعلى النصارى ضلالهم وشبههم وعلى مشركي العرب في جميع ما عارضوا به الإسلام، وعلى ما احتجوا به على ما هم عليه من الشرك والضلال في مثل الآيات التي ذكرناها ونحن نتحدث عن أصناف الناس. ومن الأصول التي يجب على الداعية اتباعها في دعوة الكفار: عرض الدعوة عليهم باللّين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى، ففي مقام عرض الدعوة على الكفار وإن كانوا من المجرمين العُتاة والجبابرة الطغاة، يجب على

الداعية اتخاذ اللين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلًا إلى عرض دعوته، والدليل على هذا ما وصَّى الله به -سبحانه وتعالى- موسى وهارون -عليها السلام- إذ قال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43 - 44)، فمع طغيانه وقتله لذكور بني إسرائيل واستحيائه لنسائهم وسومهم سوء العذاب، إلا أن الله أمر الرسول -عليه السلام- أن يكون لينًا في عرض الدعوة عليه؛ لعلَّ اللين أن ينفعه فيتذكر ما ينفعه فيقبله ويخشى مغبة تكذيبه فلا يُكذب، وقد اختلف العلماء في تفسير القول الليّن الذي أمر الله تعالى به موسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} ما هو القول اللين؟ فضرب بعض المفسرين أمثلة للقول اللين، ولكن الراجح أن القول اللين الذي أُبهم هنا فُسّر في سورة النازعات في قول الله تعالى لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات: 17 - 19) فآيات النازعات مفسّرة للقول اللين المبهم في سورة طه، فإن أحسن ما يفسر به القرآن هو القرآن، {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} ما هو القول اللين؟ فسره الله تعالى في النازعات: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}. وهذه الآيات التي فسرت القول اللين فيها دلالة على أن على الدعاة أن يعلموا أن الدعوة عرضٌ لا فرض {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} فالدعوة عرض لا فرض، على الداعية أن يحسن عرض دعوته وسيقبلها الناس إن شاء الله تعالى، وليس له أن يفرض دعوته على الناس، ليس له أن يفرض رأيه أو يفرض مذهبه أو يفرض فكرته، ويلزم الناس بها، ليس للداعية إلا أن يحسن العرض وليس له الفرض، والناس بعد ذلك أحرار يختارون ما يشاءون لأنفسهم وحسابهم على الله، كما قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256)، وقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا

مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99)، وقال -سبحانه وتعالى-: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، ثم جزاء الجميع عند رب العالمين يوم الدين: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 29، 30). وعلى الدعاة إلى الله -عز وجل- أن يلتزموا الرفق واللين مع عُصاة المسلمين فإذا كانوا مأمورين بالرفق واللين مع الكفار فمع العصاة أولى، وقال تعالى في بيان حسن عرض الدعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125)، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت: 46). ومن الأصول التي يجب على الداعية اتباعها في دعوة الكافرين: ردّ إساءتهم وعدم السكوت على طعنهم في الدين، فلا يجوز للداعية إلى الله الذي يعرض دعوته باللين والحكمة على الكفار- أن يأخذ جانب اللين مع الذين يردون ردًّا سيئا ويطعنون في الدين الحق ويسبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو يعيبون شريعة الله، بل يجب الرد المناسب عليهم والانتصار منهم؛ لقول ربنا سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، فالظالمون منهم يجب الرد بما يتناسب مع هجومهم وتهجمهم على الإسلام وطعنهم فيه، قال تعالى في مدح عباده المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (الشورى: 39)، ولذلك جاء في كثير من آيات القرآن الرد والزجر الشديد على المعاندين كبيان فضائحهم، وكشف مخازيهم، ووصفهم بفقدان العقل والفهم والاستهزاء بحالهم ومآلهم، وتحقير آلهتهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة. ومن الأصول التي يجب على الداعية اتباعها في دعوة الكافرين: أن يقبل الكافر إذا أسلم، ويعتبره أخًا له في الدين، فإذا عرضت الدعوة على الكافر فقبلها ودخل في دين الله -عز وجل- فقد انتقل من الكفر إلى الإسلام، فلا يُعيّر بدينه السابق

ولا يعير بما كان عليه من الكفر والشرك، ولا يذكّر بماضيه إلا أن يكون على وجه حمد الله وشكره وفضله عليه، كما قال تعالى عن المشركين {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 11) فإذا أحسنا نحن الدعاة عرض دعوتنا على الكافرين فقبلها منهم من قبلها، فقد صار أخًا لنا له ما لنا وعليه ما علينا، ومن الجدير بالذكر ونحن نتكلم عن الأصول التي يجب اتباعها في دعوة الكافرين. من الجدير بالذكر: أنه لا يجوز لنا نحن الدعاة الحكم على مسلم بالردة عن الإسلام إلا إذا أعلن بنفسه هو أنه راجعٌ عن الإسلام، أو أن يكون قوله أو فعله كفرًا مخرجًا من الملة، ولا يُحكم عليه بالردة إلا من عالم فقيه ضليع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- شدَّد الوعيد في تكفير المسلمين فقال: ((من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهم إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)) إن كان من قيل له: يا كافر كافرًا؛ فهو كافر، وإن لم يكن كافرًا فالكافر هو الذي رماه بالكفر. وفي هذا تحذيرٌ لشباب المسلمين من التسرع في التكفير؛ فإنه باب عظيم الخطر عظيم الضرر، فلا يجوز لنا أن نحكم على مسلم صدر منه قولٌ يحتمل الكفر أو فعلٌ يحتمل الكفر ويحتمل الإسلام- لا يجوز لنا أن نحكم عليه بالكفر، فقد نُسب إلى الإمام مالك -رضي الله عنه- قال: إن صدر عن مسلم قول يحتمل كفر من تسعة وتسعين وجهًا، ويحتمل الإسلام من وجه واحد حملته على الإسلام، والله -سبحانه وتعالى- قد اشترط في ردة المسلم ورجوعه عن الدين أن يشرح صدره بذلك، فقال: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} وانشراح الصدر هذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله، فلا يجوز إذا لأحد من الدعاة أن يكفر مسلمًا إلا إذا صرّح هو بانشراح الصدر بالكفر، واختار الكفر على الإسلام، وأثاره وأعلن بذلك، فحينئذٍ يرفع أمره إلى القضاء فيستتاب فإن تاب، وإلا قُتل ردة.

ومن الجدير بالذكر أيضًا: أنه يجب التفريق بين مقالة الكفر والكافر، فليس كل من وقع في الكفر يكون كافرًا، ليس كل من قال كلمة كفر يكفر بها، وليس كل من فعل فعل كفر يكفر به، لماذا؟ أولًا: ربما قال هذه الكلمة جاهلًا بأنها كفر، أو فعل هذا الفعل جاهلًا بأنه كفر، أو ربما كان متأوّلًا، ولذلك يجب الرد على المخالف وإقامة الحجة بالمقالة الخاطئة دون الحكم على قائلها بأنه كافر حتى يتبين أنه قد اختار الكفر أو أقيمت عليه الحجة البالغة التي تقطع عذره، فيا شباب المسلمين باب التكفير باب عظيم أمسك عن ولوجه الكبار فسلموا، وخاض فيه الصغار فضلّوا، فكونوا على حذر من ذلك، واحفظوا هذه الإرشادات والتنبيهات التي ذكرناكم بها، لا حكم بالردة إلا من عالم بالإسلام، وليس كل من وقع في الكفر يكون كافرًا. هذه هي الأصول التي يجب على الدعاة أن يتبعوها في دعوة الكافرين على اختلاف دياناتهم، أما المنافق فله أيضًا في دعوته أصول يجب على الداعية أن يتبعها، فالمنافق وهو الذي يُظهر الإسلام ويبطن الكفر، له أصول يجب اتباعها في دعوته منها: لا يُحكم على شخص أنه منافق نفاقًا اعتقاديًّا إلا ببرهان لا يقبل النقض، أنه يبطن الكفر ويظهر الإسلام كذبًا؛ لا يجوز أن تقول: فلان منافق، تعني به نفاق الاعتقاد؛ يعني: ليس مسلمًا يقول بلسانه ما ليس بقلبه، لا يجوز أن تقول ذلك إلا ببرهان أوضح من شمس الضحى، فكلمة ((هلَّا شققت عن قلبه؟!)) مشهورة عن النبي -عليه الصلاة والسلام، قالها لحبِّه وابن حبِّه أسامة بن زيد، لما قتل ذلك الرجل الذي كان في غزوة لا يريد أن يصل إلى أحدٍ من المسلمين إلا وصل إليه، فغضب أسامة لإخوانه المسلمين لما كثر القتل فيهم، فأراد أن يثأر لهم، فتوارى وراء الشجرة، ينتظر من ذلك الكافر غفلة، فلما دنا منه رفع عليه السلام، فلما رآه

الأصول الشرعية في دعوة المسلمين.

الرجل قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فلما أُخبر -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: يا رسول الله قالها مخافة السيف قال: ((هل شققت عن قلبه)) فلنا الظاهر والله يتولى السرائر، فلا يجوز الحكم على شخص بأنه منافق نفاق اعتقاد إلا ببرهان أوضح من شمس الضحى. ثانيًا: المنافق يُدعى إلى الإسلام ويوعظ ويُذكّر بالله، وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، ويغلّظ عليه عند مخالفته للشرع، قال الله تعالى للنبي -عليه الصلاة والسلام-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (النساء: 63)، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 73) قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك؛ فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتفِ به يا نبينا فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: لا تعنفهم على ما في قلوبهم، {وَعِظْهُمْ} أي: وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلامٍ بليغ رادعٍ لهم. الأصول الشرعية في دعوة المسلمين وأخيرًا، وبعد أن عرفنا أصول الدعوة التي يجب اتباعها في دعوة الكافرين والمنافقين، بقي لنا أن نعرف أصول الدعوة للمسلمين، فإذا كانت دعوة الكافرين والمنافقين لها أصول فدعوة المسلمين أيضًا لها أصول، فنقول في بيان ذلك وبالله تعالى التوفيق: للدعوة إلى الله تعالى بين المسلمين ميدانان، هما:

التربية والتعليم، وثانيًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده. أولًا: قواعد في التربية على الإسلام وتعاليمه: التربية وهي التزكية والتعليم، هي مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المؤمنين، فقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2)، فالتربية هي التزكية، والتربية هي تنشئة الإنسان وبناؤه، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسّانه)) وهذه أهم قواعد التربية والتزكية. أولًا: يجب أن يتضح أمام المربي والمعلم النموذج والمثال الذي يجب أن يربي على غراره، وهذا النموذج قد جاء وصف التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله -عز وجل، منها قول ربنا سبحانه في أول سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون: 1 - 11). وقد رسم الله -سبحانه وتعالى- الشخصية المسلمة وأكثر من وصفها في القرآن الكريم في مواضع كثيرة؛ في سورة البقرة والأنفال والحجرات والإسراء، ذكر الله -تبارك وتعالى- النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو ذلك النموذج الطيب والإنسان الكامل والقدوة والأسوة الذي أمر الله تعالى المسلمين أن يتأسوا به؛ حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).

ثانيًا: يجب على الداعي على الله ومعلم الخير، أن يعتمد لنفسه ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علمًا وعبادة، فإن الله قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114). ثالثًا: يجب أخذ العلم والعمل جميعًا، وعدم إفراد العلم عن العمل؛ لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعل، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له، وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعًا؛ فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات؛ ليحفظ السورة وليعلمها وليعمل بها، كما قال الأعمش: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"، فتأخذ العلم والعمل جميعًا وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية، أما من كان صغيرًا فينبغي على المعلم أن يغتنم صغره وأن يهتم بتلقينه وتحفيظه القرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الشرعية، متمثلة في المتون، تلك المتون التي هي كليات العلوم وقضاياها الأساسية، وكثيرًا ما تكون نظمًا أو نثرًا، ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم والتعلم والتفقه، بأن يستشرح الطالب ما حفظه في صغره من المتون، ومن قواعد التعليم تعلم الحق قبل تعلم الباطل؛ لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) والفطرة في الحديث هي التوحيد، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30). فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد وتنشئتهم على الفضيلة والخلق الطيب، قبل اطلاعهم على أنواع الكفر والشرك ومعرفة الرزيلة، ثم يجب تعلم جواب الشبه قبل ورودها تحصنًا منها، كما كان الله -سبحانه وتعالى- يعلم المسلمين ما يقولونه جوابًا

لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار كما في قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة: 142)، ويجب أن تكون الدعوة إلى الله بالأسوة الصالحة، قبل أن تكون بالتعلم فإن التربية بالقدوة أبلغ في الدعوة، فالعالم العامل المربي يدعو بسيرته وأخلاقه وأعماله أكثر من أن يدعو بأقواله، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أثّر في سلوك أصحابه بأخلاقه وشمائله أعظم من تأثيره بأقواله ومواعظه. وينبغي للعالم أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، يقول الإمام ابن عبد الوهاب -رحمه الله-: ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان على قدر فهمه، وإن كان مما يقرأ القرآن أو عرف أنه ذكي فيُعلم أصل الدين وأدلته والشرك وأدلته، ويُقرأ عليه القرآن ويجتهد أن يفهم القرآن فهم قلب، وإن كان رجلًا متوسطًا ذُكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس ضعيف الفهم فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على المسلم وحق الأرحام وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي -صلى الله عليه وسلم. أما الميدان الثاني في دعوة المسلمين: فيتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أصوله أيضًا، منها: لا يجوز لمن يأمر بالمعروف أن يُقدِم على ذلك إلا إذا علم أن ما يأمر به هو من المعروف حقًّا، ولا يجوز أن ينهى عن منكر إلا إذا علم أن ما ينهى عنه هو المنكر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به، والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لم يعلمه لا يمكنه النهي عنه".

وقال الإمام النووي -رحمه الله-: ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد؛ لم يكن للعوام مدخلٌ فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء. ثانيًا: مراتب تغيير المنكر ثلاث، فيجب على الداعية أن يتبع الحكمة ويراعي القدرة على هذه المراتب، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) فالإنكار باليد أعلى درجات الإنكار، وإنما يكون لأولي الأيدي والأبصار، أهل القوة والتمكن والقدرة، ولا يكون ذلك إلا من ذي سلطان، فالرجل في بيته سلطان يأمر وينهى ويغير المنكر بيده، والرجل في أي دائرة أو مؤسسة يديرها ويرأسها ذو سلطان يغير بيده، وأما في الشارع فإن التغيير باليد قد يفضي إلى مضار كثيرة ومنكرات أعظم من المنكر الذي غيره، ولا يجوز تغيير المنكر إذا أفضى إلى منكر أعظم منه، فمن لم يستطع باليد لأي سبب تحول إلى الإنكار باللسان، بأن يذمّ المنكر وأهله ويبين فساده ويحذر منه، فإن لم يستطع بلسانه تحول إلى الإنكار بالقلب بغضًا للمنكر وأهله ومفارقة لمجالسهم، فلا يجوز لمن رأى منكرًا وعجز عن تغييره باليد أو باللسان أن يظلَّ قاعدًا مع أهله؛ لأن هذا ليس منه تغيير، بل من التغيير بالقلب أن ينهض منصرفًا تاركًا لهذا المجلس، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 68)، وقال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (النساء: 140)، فإذا

رأى المسلم المنكر ولم يغيّره بيده ولا بلسانه وظلَّ جالسًا مع أهله- جلوسه هذا دليل على أنه لم يغيره بقلبه أيضًا ولذلك جلس معهم، فهو شريكهم في الإثم، ولذلك روي "أن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- أوتي بقوم شربوا الخمر فقال: اجلدوهم، قالوا: فيهم فلان كان صائمًا قال: به فابدءوا"، اجلدوه أولًا، لماذا جلس مع الذين يشربون الخمر وهو صائم؟! ثالثًا: مما يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: أن يعلم المصالح والمفاسد الشرعية التي تترتب على أمره ونهيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وجماع ذلك داخلٌ في القاعدة العامة، فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي إن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأمورًا به، بل يكون حرامًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد إنما هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، ومن هذا الباب ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغرر القوم وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به واعتذر عنه وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه وصدقه، وتعصب لكل منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة.

وأهم الأصول التي يجب على الداعية أن يتبعها في دعوته: إخلاص النية لله والبعد عن الهوى، فيجب على كل ما يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون عمله لله خالصًا وأن يكون لهدي النبي موافقًا، وأن لا يتبع الداعية هواه، ويأمر أو ينهى لحظ نفسه، وذلك أن الضلال في الدين عظيم، ومن فقد الإخلاص ولم يتحرَّ الصواب أوقعه الشيطان في الهوى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات، فإن أهل الكتاب أتبعوا أهواءهم فضلوا، قال الله تعالى عنهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50)، ولذلك نُهي نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يتبع أهواء أهل الكتاب، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة: 120)، فاتباع الهوى هو الذي أفسد الديانات السابقة، وأوجد الفرقة بين أهل الدين الواحد، هو الذي خرج به من خرج عن موجب الكتاب والسنة وسماهم علماء الإسلام أهل الأهواء، فيجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون باعثه إخلاص النية، وأن يكون عمله على الكتاب والسنة، وأن يجانب الهوى، وهو أن يحب ويبغض بدافع من هواه لا اتباعًا للأمر والنهي. وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها.

الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها.

الإيمان.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها) الإيمان إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: أهم الصفات التي يجب على الداعية أن يتصف بها؛ حتى ينجح في دعوته ويبلّغ رسالة ربه: إن الداعية إلى الله -عز وجل- قائمٌ في الناس مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد برّأ الله سبحانه نبيه -صلى الله عليه وسلم- من كل عيب، وعصمه من كل ذنب، وحسّن خَلقه وخُلقه، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، وبهذه الصفات قَبِل الناس دعوته ودخلوا في دين الله -عز وجل، ولا يمكن للدعاة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقوموا مقامه في الدعوة حتى يهتدوا بهديه ويقتفوا أثره ويتخلقوا بأخلاقه ويتأدبوا بآدابه ويتصفوا بصفاته، كل ذلك حسب الاستطاعة وعلى قدر نصيبهم من الاتصاف بهذه الصفات يكون نجاحهم في الدعوة إلى الله -عز وجل. ومن أهم الصفات التي يجب على الدعاة الاتصاف بها: الإيمان: ولا أعني بالإيمان الإيمانَ الشرعي، فقد سبق الحديث عن الإيمان كأصل من أصول الدين في الدروس السابقة، وإنما أعني بالإيمان أخلاقه وشُعبه التي نيفت على السبعين، وأُلفت فيه كتب مستقلة، فـ "ليس الإيمان إذا بالتمني ولا بالتحلّي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل"، ليس المقصود بالإيمان في حديثنا هذا مجرد معرفة ذهنية، لا تنفذ أشعتها إلى القلب فتضيئه ولا إلى الإرادة فتحركها ولا مجرد حشو الذاكرة بعبارات ومصطلحات عن معاني الرب والإله والدين والعبادة والتوحيد بأقسامه والطاغوت والجاهلية، والامتلاء عُجبًا وغرورًا بأن هذا كل الإيمان ومحض اليقين، والشغل الآخرين بمعارك جدلية حول هذه الألفاظ وإن كانت من الأهمية بمكان، فإن هذا المراء أو الجدال لا يُنشئ إيمانًا كإيمان سحرة فرعون حين

آمنوا برب هارون وموسى، ولا كإيمان الصحابة حينما صدقوا برسالة محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. إن الإيمان الذي نعنيه هو الإيمان كما جاء به القرآن والسنة، وحسبنا أن نذكر آية واحدة في هذا المجال، ردَّ الله -تبارك وتعالى- بها على الأعراب الذين قالوا آمنا ولم يدخل الإيمان، في قلوبهم فقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15)، وفي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه منه كما يكره أن يقذف في النار)) ربما يُكتفى من العامة نصف الإيمان أو ربعه، أما الدعاة فلا بد من الإيمان الحق، ولا يكفي أنصاف المؤمنين ولا أرباع المؤمنين. فالإيمان الذي نعنيه هو إيمان الكتاب والسنة الذي أشرنا إليه، كذلك الإيمان الذي نعنيه هو أن يعتقد الداعية من قرارة وجدانه أن الآجال بيد الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن يضرُّوه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعلى المؤمن أن يضع نصب عينيه قول ربه سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51)، وأن يردِّد صباح مساء قول ربه جل جلاله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)، فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرّر الداعية المؤمن من الخوف والجبن والجزع،

ويتحلّى بالصبر والشجاعة والإقدام، ويهتف من أعماق قلبه بما هتف به عليٌّ -رضي الله عنه- حين كان يجابه الأعداء: "أي يومي من الموت أفرّ؟ يومٌ لا يُقدر أم يوم قُدِّر، يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذِر". وأعني بالإيمان أيضًا: أن يعتقد المؤمن من سويداء قلبه أن الأرزاق بيد الله، وأن ما بسطه الله على العبد لم يكن لأحدٍ أن يمنعه، وما أمسكه عنه لم يكن لأحد أن يعطيه، وأن ما قُدّر لا بد أن يكون، وأن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها، وعلى الداعية المؤمن أن يضعَ نُصب عينيه قول ربه -عز وجل-: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء: 30)، وأن يردد صباح مساء قول الله -عز وجل-: {أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (الملك: 21)، فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرّر الداعية المؤمن من الحرص الزائد على الدنيا والإلحاح بالطلب، ويتحرر أيضًا من الشح النفسي والتقدير المزري والإمساك الشائن، ويتحلَّى بمعاني الكرم والإيثار والعطاء، بل يرى السعادة في القناعة وعيش الكفاف، فإذا قنعت النفوس رضيت بالقليل وكفاها اليسير، ورحم الإمام الشافعي حين قال: النفس تجزع أن تكون فقيرة ... والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبته ... فجميع ما في الأرض لا يكفيها وأعني بالإيمان الذي يجب على الداعية أن يتصف به: أن يعتقد الداعية المؤمن من أعماق أحاسيسه ومشاعره: أن الله -سبحانه وتعالى- معه يسمعه ويراه، ويعلم سره ونجواه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وعلى المؤمن أن يضع نُصب عينيه قول ربه سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7) وأن

يردّد صباح مساء قول ربه سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام: 59). فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرر المؤمن من رقة الهوى ونزغات النفس الأمارة بالسوء، وهمزات الشياطين وفتنة المال والنساء، ويتحلى بالمراقبة لله -عز وجل- والإخلاص له والاستعانة به والتسليم لجنابه، ويندفع بكليته إلى العمل بكل أمانة وجدية وإتقان، بل يكون إذا مشى في الناس إنسانًا سويًّا برًّا تقيًّا ريحانة طيبة الشذى وشامة في المجتمع يُشار إليه بالبنان، بل يتمثل بما كان الإمام أحمد -رضي الله عنه- يتمثل به كثيرًا وهو قوله: إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ... ولا أن ما تُخفي عليه يغيب فعلى هذه المعاني من الإيمان ينبغي أن يتكون الداعية، وأن يواجه بهذا الإيمان صراع الحياة. إن الإيمان الحق الراسخ بأن الإسلام هو خاتم الأديان وأنه الدين الذي بُعث به محمد -صلى الله عليه وسلم- لإنقاذ العالم وتخليصه من التخبط في الظلمات، وأنه دين شامل لجميع نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. هذا الإيمان يدفع صاحبه بحماس منقطع النظير إلى أن يدعو الناس إلى الإسلام بثقة واطمئنان وأن يحثّهم على اتباعه والتمسك بهديه والعمل الدائب الجاد لنصرته. هذا الإيمان لا يترك صاحبه يهدأ حتى يرى الناس قد دخلوا في دين الله أفواجًا، هذا الإيمان لا يرتاح لصاحبه بال حتى يرى راية الإسلام عاليةً خفاقة في كل مكان.

أما الدعاة المحترفون والمتجردون من هذا الإيمان، الذين اتخذوا الدعوة وسيلة للعيش الرغيد وسببًا للرزق الوافر، وغاية ينتهون إليها للشهرة والزعامة؛ فهؤلاء كفئران السفينة لا يهمهم إلا بطونهم غرقت السفينة أم نجت، والفرق بين الصنفين واضح بيّن، الصنف الأول يؤثر بأسلوبه المملوء بالإيمان وبطريقته المشحونة باليقين، فيسير الناس تبع إرشاده ويسلكون السبيل الذي يسلكه ويسخرون كل ما يملكون لنصرة الحق ونشره بين الناس. وأما الآخرون فكلامهم كالطبل الأجوف يُرعب ولا يطرب، ويُقلق ولا يرشد، ولهذا فإنه يدخل من أحد الأذنين ليخرج من الأخرى، فلا ينفعل به الناس ولا يكاد يصل إلى آذانهم حتى يتساقط تحت أقدامهم، وأنى له الطريق إلى قلوبهم؟ ولهذا لما سُئل عبد الله بن المبارك: لماذا يجلس بعض الناس إلى الوعّاظ والمرشدين فيتأثرون بهم ويبكون بين أيديهم، تصل الكلمة إلى آذانهم فتسلك طريقها إلى قلوبهم، فتستقرّ فيها، وتترجمها جوارحهم عملًا خيرًا رشيدًا، يصدق ما في قلوبهم، فإذا جلسوا إلى آخرين وذكَّروهم بمثل ما ذكرهم به الأولون، وقد يكون أسلوبهم أجود وألفاظهم أحلى وأداؤهم مثيرًا، ومع كل هذا فإن الناس لا يتأثرون بهم، ويقومون من مجلسهم وكأنهم لم يكونوا فيها، فأجاب ابن المبارك -رحمه الله-: "ثكلتك أمك يا هذا، النائحة المستأجرة كمن تبكي ولدها؟! " لا يعقل أبدًا ولا يمكن، ولهذا قالوا ليست النائحة كالثكلى. إن الإيمان هو الذي جعل بلالًا -رضي الله عنه- يتحمّل ما تحمل وصهيبًا يستعذب حرارة النار، وسمية تستخف بالقتل، إن هذا الإيمان هو الذي دعا غلام أصحاب الأخدود أن يضحي بنفسه لتنتشر عقيدته، وجعل أتباعه يفضلون النار المستعرة ولا يعودون إلى الكفر أبدًا، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: ((ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن

الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله.

يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)). الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله ومن أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية بعد الإيمان بالله -عز وجل-: الاجتهاد في الطاعات والتقرُّب بها إلى الله -عز وجل-: فإن الاجتهاد في الطاعة والتقرب بها إلى الله سبحانه من أقوى أسلحة الدُّعاة؛ ذلك لأن للطاعات نورًا ينعكس على وجوههم، وثناء يشيع في حديثهم، ووقارًا وهيبة يدعوان الناس إلى احترامهم وتقديرهم، وأقرب القربات وأعظم الطاعات ما فرضه الله سبحانه على عباده من أنواع العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم يتبع ذلك ما يتطوّع به الناس الدعاة من النوافل، إن الاجتهاد في عبادة الله ابتغاء مرضاة الله يجعل الإنسان ربانيّا يتحرك في طاعة الله ويسكن في مرضات الله ويأكل ليقوى على عبادة الله، فيكون نومه شكرًا وصمته فكرًا وكلامه ذكرًا، في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((قال الله تعالى: من عاد لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدًا بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)) فالمحافظة على الفرائض وأدائها كما أمر الله من أعظم القربات إلى الله سبحانه.

التجرد والزهد.

ثم تكون النوافل يُجبر الكسر ويكمّل بها النقص ويتقرب بها إلى رب السموات والأرض، فيصفو قلب الداعية وتزكو نفسه وتنفعل جوارحه، فلا ينظر إلا إلى ما يحل له ولا يسمع إلا لما يستفيد منه، ولا يمد يده إلا إلى الحلال ولا يمشي إلا في الطاعة والرضوان، وحينئذ ينعكس أثر الطاعات على من يدعوهم، فيتأثرون بحديثه ويتأسَّون بعمله، ويكون لهم منهجًا رشيدًا يتحرك بينهم بالخير ويدلهم على الرشد، وتكون سيرته أعظم دعاية من خطبه ومواعظه. ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتقى المسلمين وأخشاهم لله رب العالمين، فكان إذا صلى يُسمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فلما قيل له في ذلك قال: ((أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا)) وكان -صلى الله عليه وسلم- حتى يقال لا يفطر وكان لا يترك الليل في حضر ولا في سفر، وكان يتصدق بكل ما عنده ولا يبقي لنفسه شيئًا؛ لهذا كان الاجتهاد في الطاعات والتنافس في الخيرات من أبرز سمات الدعاة إلى الله -عز وجل؛ حيث تكون الصلة وثيقة بينهم وبين باريهم، فالصلاة معراجهم إلى الله والصوم جُنة لهم من النار والصدقة تطفئ غضب الرب. التجرد والزهد ومن أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتحلى بها: التجرد والزهد: والتجرد: هو الجد في نشر الدعوة، والاجتهاد في تبليغها، والتفرغ لها، وتقديمها على غيرها من مصالح الإنسان الخاصة، والزهد: هو عدم التطلع إلى ما في أيدي الناس والاقتناع بما قسم الله من الرزق، وعدم تعليق القلب بالدنيا وزخارفها، وهاتان الصفتان -التجرد والزهد- من أهم أسباب نجاح الدعاة في مهمتهم؛ لأن

الداعية إلى الله إذا لم يجد ويجتهد في نشر الدعوة كسل وتبلّد، والكسل والبلادة قعود عن الحق وإهمالٌ للواجب، ولا يمكن لكسلان أن يقوم بحقّ الدعوة، كما لا يتمكن البليد من تبليغها، ولأن تعليق القلب بالدنيا والاشتغال بتحصيلها يحول بين الداعية وبين الناس، فلا يجتمع عليه أحد ولا يكون في قلبه مكان لدعوته؛ حيث استحوذت الدنيا على قلبه وملكت عليه حواسه، ومن استولت الدنيا على قلبه سخّرته لخدمتها، وعندئذ لا يكون فيه مكان للآخرة؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، والدعوة لا تنتشر إلا بالعمل الجاد الدائب والبذل المستمر الذي لا ينقطع،. وكيف يبذل للدعوة من همه جمع المال، بل كيف ينفق في الدعوة من غايته تحصيل الدنيا وجمع حطامها، إن التكالب على الدنيا والحرص على جمع المال والانغماس في الشهوات وبذل أقصى الجهد في مسابقة الناس على الدنيا- كل ذلك يؤدي إلى الانصراف عن الحق الذي هو مهمة الدعاة، وتشبث بالباطل الذي هو مِعْول هدم في الدعوات؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا أبعد ما يكونون عن الدنيا، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشبع من خبز الشعير مرتين في يوم واحد، وكان ينفق نفقة من لا يخشى الفقر، جاءه رجل فرأى غنمًا بين واديين أو بين جبلين، فنظر إليها فقال له -صلى الله عليه وسلم-: ((أيسرك أن تكون لك؟)) قال: نعم يا رسول الله، فأمر بها له، فرجع الرجل إلى قومه يقول: "يا قوم أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر". ويذكر الواقدي في (المغازي) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان بن أمية يوم حنين واديًا مملوءً إبلًا ونعمًا، فقال: "أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي" وكان صفوان يقول: "أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني

حتى إنه لأحب الناس إليّ"، وهكذا ترى أيها الداعية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجرّد لدعوته ولم يشغل قلبه بأعراض الدنيا، ولم تتطلع نفسه الشريفة إلى شيء من متاعها، بل كان يبذلها بسخاء ويعطيها لمن يتألفهم؛ ليكسبهم أتباعًا لدعوته وحماة لشريعته، وكان يقول: ((ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)) ولقد صار خلفاؤه الراشدون -رضي الله عنهم- سيرته، ونهجوا نهجه فجدوا في نشر الدعوة وأرسلوا الدعاة إلى الأمصار يحملون الهدى للناس، ولم يجمعوا شيئًا من الدنيا، وقد فُتحت عليهم وحُملت إليهم كنوزها، فعافوها وبذلوها طائعين في نصرة الدين وتأليف قلوب المستجدين، حتى مات أبو بكر -رضي الله عنه- ولم يزد ماله الذي كان عنده قبل الخلافة درهمًا، بل نقص، وتوفي عمر -رضي الله عنه- ولم يكن في بيته غير نفقته المعهودة، حقّا لقد تجردوا لدعوتهم وزهدوا في الدنيا وقد واتتهم مرغمة، حتى انتصر الإسلام وعز المسلمون. إن الذين يتنافسون على لذيذ الطعام وشهيّ الشراب ببطن لا تشبع، ويتطلعون للقصور الشامخة والمراكب الفارهة بعينٍ لا تدمع من خشية الله، ويسابقون غيرهم إلى الزوجات الفاتنات ويتشوقون للبنين والبنات بقلوب لا تخشع- إن هؤلاء جميعًا لا يصلحون لحمل هذه الدعوة ولا يطيقون مواصلة السير إلى نهاية الشوط؛ لأن شرف العمل لهذه الدعوة لا يناله من يضنّ عليها بوقته، ويعطيها ساعة من فراغه، ولا يحصل عليها من يبخل عليها بماله ويبذل لها نافلته، ولا يحظى به من جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، وجعل الدعوة دبر أذنه وخلف ظهره. إن شرف الدعوة إلى الله لا يناله إلا المتجردون لها، الباذلون أقصى الجهد في تبليغها، المقدمون لها على أولادهم وأزواجهم وبيعهم وشرائهم وأحسابهم

أن يكون في نفسه قدوة حسنة.

وعشائرهم، أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. أن يكون في نفسه قدوة حسنة كما أن من أهم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية: أن يحرص الداعية أن يكون في نفسه قدوة حسنة للذين يدعوهم إلى هذا الدين، فإن الداعية إنما يكسب لدعوته بسلوكه أكثر مما يكسبه لها بخطبه ومواعظه؛ ذلك لأن الناس ينظرون دائمًا إلى الدعاة كنماذج حية لما يدعون إليه، ويتأثرون بسلوكهم العملي أعظم مما يتأثرون بكلمات حُلوة وخطب مؤثرة وندوات مثيرة، ولو أننا رأينا داعية نحريرًا، وخطيبًا مفوهًا، ومحدثًا لبقًا يحاضر الناس عن أضرار التدخين، وقد دعم محاضرته بكل الأساليب العلمية التي تثبت ضرر التدخين وتُظهر آثاره السيئة، وأحضر النماذج الملموسة التي توضح ذلك، وتدل على صدق ما يقوله، واجتمع الناس عليه يسمعون في دهشة لما دعّم به محاضرته وقد ملكت عليه المحاضرة قلوبهم، واستولى بحديثه على نفوسهم، وبينما هم مشدودون إليه لقوة حديثه وتأثير بيانه إذا بهم يفاجئون أنه قد أشعل سيجارة، فماذا تكون النتيجة، بعد أن رأوا فعله وقد سمعوا قوله؟ أيُصدقون ما يسمعون ويكذّبون ما يشاهدون؟ ألست معي ترى أن هذا الذي فعله بإشعاله السيجارة قد أفسد كل ما دبّجه وأن هذه السيجارة قد أفقدت القيمة الحقيقة لكل ما حبَّره وزينه! لا شك أن حديثه مع حلاوته وطلاوته لا يمكن أن يتجاوز المقاعد التي كانوا يشغلونها، ولكن صورته وهو ممسكًا بسيجارته لن تفارق أذهانهم، وستظل معهم يتفكهون بها ويتندرون بالحديث عنها لكل من يقابلون، إنه بذلك قد كذّب نفسه وكأني

بالسيجارة التي أشعلها في محاضرته وهي تصرخ في الناس تقول: لا تصدقوه؛ لو كان صادقًا في قوله ما كذب في فعله. إن سلوك الداعية هو الصورة الحية العملية لدعوته، يراها الناس في سكونه وحركته ووقوفه ومشيته وبكائه وضحكه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، إن القدوة العملية تُصيب من قلوب الناس أكثر مما تصيب الكلمة مهما كانت الكلمة طيبة وجيدة ومؤثرة، ولقد حدث ذلك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أمر أصحابه بعد صلح الحديبية أن يتحلّلوا من العمرة بنحر الهدي وحلق الرءوس، يقول ابن القيم: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا))، فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة -رضي الله عنها- فذكر ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك، أتحب أن ينحر الناس هديهم ويحلقوا رءوسهم؟ قال: ((نعم)) قالت: فاخرج إليهم، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمّا". حين نتأمل في هذه الواقعة نلاحظ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو من هو أمر أصحابه بالنحر ثم الحلق، فلم يستجب أحد، وكرّر الأمر عليهم ثلاثًا، ولم يفعل أحدٌ شيئًا مما دعاهم إليه، فلما أشارت إليه أم سلمة -رضي الله عنها- بما أشارت به؛ أن يخرج هو فينحر بدنه ويحلق رأسه، ورأوا ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- بادروا إلى النحر والحلق؛ اقتضاءً بفعله -صلى الله عليه وسلم، وهكذا نرى أن القدوة العملية تؤثر في الناس مع الصمت أكثر مما

تؤثر الخطب البليغة والعبارات المنمّقة؛ ولذلك قيل: عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل. فعلى الدعاة أن يكونوا عمليين أكثر منهم قوّالين، حتى تثمر دعوتهم وتؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها، وعليهم أن يجعلوا بيوتهم قبلة، يؤمها القاصدون يجدون فيها الإسلام حيًّا يتحرك ممثلًا في الزوجة والأولاد والآباء والأحفاد والخدم والأتباع، وعليهم أن يعلموا أن أي تقصير في تطبيق ما يدعون إليه يجعلهم عُرضة للقيل والقال والسخرية والاحتقار، ثم لا يكون لدعوتهم أيّ أثر في القلوب. من أجل هذا كان إنكار القرآن الكريم على الذين تخالف أفعالهم أقوالهم، إنكارًا عظيمًا، وكانت التنديد بهم مقرعًا وعنيفًا، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3) ويقول سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44)، ومن أجل هذا أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أن الذين يقولون ما لا يفعلون في عذابٍ شديد يوم القيامة، ففي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أتيت ليلة أسري بي على قومٍ تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتكم الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به))، وروى الشيخان عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يُؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فيقولون: يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه)).

أن يكون قوي الحجة مستظهرا للأدلة.

ولقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين- يتحرجون من الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير قبل أن يحاسبوا أنفسهم وأولادهم وأهليهم، ويأمروهم بالبر والتقوى والعمل الصالح؛ فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان قبل أن يأمر الناس بأمرٍ وينهاهم عن نهيٍ كان يجمع أهل بيته ويقول لهم: "إني سأدعو الناس إلى كذا وكذا، وأنهاهم عن كذا، وإني أقسم بالله العظيم لا يبلغني عن أحدٍ منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالًا شديدًا"، ثم يخرج -رضي الله عنه- فيدعو الناس إلى ما يريد، فما يتأخر أحدٌ عن السمع والطاعة، وهذا مالك بن دينار -رضي الله عنه- كان إذا حدَّث الناس بهذا الحديث: ((ما من عبد يخطب خطبة، إلا الله سائله عنها يوم القيامة: ما أردت بها؟)) كان يبكي ثم يقول: "أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة، يقول: ما أردت به؟ فأقول: أنت الشهيد على قلبي، لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ على اثنين أبدًا". إلا فليتأدّب الدعاة بهذا الأدب الإسلامي الرفيع؛ ليستجيب الناس لهم ويأخذوا عنهم ويتأثروا بمواعظهم. أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة ومن الصفات التي يجب على الداعية أن يتحلى بها: أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة التي يستدلّ بها على ما يدعو الناس إليه: إن من أبرز العوامل التي توصّل الداعية إلى قمة النجاح والتوفيق، وتضفي على مستمعي روح الهيمنة والتأثير- هي قوة إقناعه وظهور استدلاله ونصاعة حجته وبرهانه، وهذا لا يتأتَّى إلا أن يكون الداعية سريع البدهية قوي الملاحظة شديد

الحظر عظيم الإحساس بأحوال الحاضرين، فضلًا عن شمول علمه وسعة ثقافته وجاذبية كلامه ومنطقه وسلاسة فصاحته وأسلوبه، وملامح روحانيته وتقواه. ولكن في الحقيقة لا تكفي قوى الحجة ولا سرعة البدهية ولا سلاسة الأسلوب ولا ملامح التقوى إذا لم يعطِ الداعية كل إنسان على حسب ما يتناسب مع فهمه، وما يتفق مع عقليته، وما يتلاءم مع نزعته؛ تحقيقًا للمبدأ الذي سنَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للدعاة في كل زمان ومكان: ((أمرنا معاشر الأنبياء: أن نحدّث الناس على قدر عقولهم)) فالداعية مثلًا حين يجتمع مع طبقة من المسلمين الفطريين والمؤمنين الصادقين المطبّقين فيكفيه أن يأتي لهم بشواهد القرآن والسنة، ويذكّرهم بسيرة الصحابة والسلف؛ ليؤثر فيهم ويرفع من مستواهم ويأخذ بأيديهم نحو السلوك الأقوم والكمال المنشود، وهذا يختلف كل الاختلاف حين يلتقي مع طبقة من المسلمين المنحرفين والشباب الشّاذين المتحللين، فعلى الداعية أن يعطي هؤلاء من القناعات العقلية والعلمية مما يدفع أولئك إلى القناعة الوجدانية في تجنب الانحراف وفطم النفس عن الشذوذ والتحلل، فحين يريد إصلاح قوم ارتكبوا موبقات الزنا أو الخمر أو الميسر أو الربا أو غير ذلك من هذه الموبقات، التي تؤدّي إلى التحلل والانحراف- فعليه أن يبين لهم ضرر هذه الموبقات من الناحية الجسمية والخلقية والاقتصادية والاجتماعية والعقلية، فبعد هذا البيان يُمكن أن يولّد فيهم القناعة الوجدانية في الامتناع عن هذه الموبقات؛ لما لها من أضرار بالغة وأخطار ظاهرة لا ينكرها إلا مكابر، ثم ينتقل الداعية بالمدوعين إلى السِّر في تحريم الإسلام لهذه الموبقات، فعندئذٍ يُدركون جيدًا الحكمة التشريعية في تحريم الإسلام للزنا أو الخمر أو الميسر أو الربا، فلا يجدون بدّا إن كانوا عقلاء ومنطقين مع أنفسهم إلا أن يكفّوا عن هذه المحرمات والموبقات.

هذه الطريقة الإقناعية هي طريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إصلاح الأفراد وتربية المجتمع، وإليك أيها الداعية هذا الموقف من مواقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إقناع الأفراد في الكفِّ عن الفساد، روى أحمد -رضي الله عنه- عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن غلامًا شابًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا نبي الله أتأذن لي بالزنا فصاح الناس به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الرءوف الرحيم: ((قرِّبوه)) ثم قال للشاب: ((ادنُ)) فدنا، قال: ((ادنُ)) فدنا قال: ((ادنُ)) فدنا، حتى جلس بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((أتحبه لأمك)) قال الشاب: لا، جعلني الله فداك، قال: ((كذلك الناس لا يحبونهم لأمهاتهم، أتحبه لأبنتك)) قال: لا، جعلني الله فداك، قال: ((كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟)) قال: لا، جعلني الله فداك، قال: ((كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعماتك أتحبه لخالتك؟)) كل ذلك يقول الشاب: لا، جعلني الله فداك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كذلك الناس لا يحبونه)) ثم وضع -صلى الله عليه وسلم- يده الشريفة الكريمة الطاهرة المباركة على صدر ذلك الشاب ودعا له قائلًا: ((اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه)) فلم يكن شيء أبغض إلى ذلك الشاب بعد ذلك من الزنا. وهكذا ترفَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشاب في البدء، ثم أقنعه عقليّا ووجدانيّا بقبح الزنا وأثره على الأخلاق والمجتمع، فبعد أن رأى -صلى الله عليه وسلم- انجذاب الشاب إليه وإقباله عليه وقناعته العقلية بالذي حدّثه به، دعا له بهذه الدعوات الكريمات ذات المعنى والمغزى، فقام من بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس شيء أبغض إليه مما جاء يسأل رسول الله أن يرخص له فيه. أما إذا كانت الفئة التي يلتقي معها الداعية من طبقة الملحدين المارقين، ومن فئة الدهريين المنكرين ومن صفة الوجودين الإباحيين- فإن المناقشة التي يطرحها

العلم.

والقضية التي يعرضها والحجج التي يقدمها تختلف كل الاختلاف عن جماعة المؤمنين المطبّقين وطبقة المسلمين الفاسقين المنحرفين. العلم ومن الصفات التي ينبغي على الداعية أن يحرص عليها ويتحلّى بها: صفة العلم: فالعلم قبل القول والعمل كما ترجم بذلك الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه، ومستندًا ومستدلًّا بقول رب العالمين: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (محمد: 19) فقدم العلم على العمل، والواقع أن تقديم العمل على أي عمل ضروريٌّ للعامل حتى يعلم ما يريد ليقصده ويعمل للوصول إليه، وإذا كان سبق العلم لأي عمل ضروريًّا فإنه أشد ضرورة للداعي إلى الله؛ لأن ما يقوم به من الدين منسوب إلى رب العالمين، فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه وبشرعية ما يقوله ويفعله ويتركه، فإذا فقد الداعية العلم المطلوب واللازم له كان جاهلًا بما يريده، ووقع في الخبط والخلط والقول على الله ورسوله بغير علم؛ فيكون ضرره أكثر من نفعه وإفساده أكثر من إصلاحه، وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف لجهله بما أحل الشرع وأوجبه وبما منعه وحرمه، فيجب إذًا لكل داعٍ إلى الله تعالى أن يتحلَّى بالعلم بشرع الله وبالحلال والحرام وبما يجوز وما لا يجوز، وبما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ وما يحتمل وجهين أو أكثر وما لا يحتمل، وإنما العلم كما قال ابن القيم -رحمه الله-: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس بالتمويه

فالعلم الذي هو ضروري للداعية: هو العلم الشرعي الذي تقوم عليه الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله وأقوال الصحابة، وفضل هذا العلم وأهله معروفٌ غير منكور، نطق به القرآن الكريم ورفع شأنه، وأكدته السنة النبوية، وأمر الله بالتزوّد منه وطلب المزيد منه، فقال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114) وقال في بيان رفعة درجة العلماء: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11)، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من يرد به خيرًا يفقهه في الدين)) ولقد استشهد الله -تبارك وتعالى- بأهل العلم -وهو من هو في العلوّ والعظمة- على أجلّ مشهود عليه وهو توحيد الله عز وجل، وقرن شهادتهم بشهادته -سبحانه وتعالى- وشهادة الملائكة المقربين، وفي هذا تزكية لهم وتعديل وتوثيق؛ لأن الله تعالى لا يستشهد بمجروح، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18). وأهل العلم لا ينفعون أنفسهم فقط، وإنما ينفعون غيرهم بما يرشدونهم إليه ويدلونهم عليه ويوصلونهم به إلى ربهم، فالناس كما قال الإمام أحمد -رضي الله عنه-: "إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب"؛ لأنهم يحتاجون إليهما في اليوم مرة أو مرتين، وحاجتهم إلى العلم بعدد أنفاسهم. ومن أجل هذا اتفقت كلمة الأئمة الأعلام على أن الانشغال بطلب العلم، أفضل من الانشغال بنوافل العبادات، بهذا قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وغيرهم من أئمة المسلمين، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، وإن الله تعالى وملائكته يصلون على معلمي الناسِ الخير)).

فعلى الداعية المسلم أن يحرص أن يكون دائمًا من المتفقهين في الدين، العلماء بأحكامه، المعلمين للناس الخير؛ حتى يصيبه ما نطقت به هذه الآيات والأحاديث، وليحذر كل الحذر من الكلام بغير علم؛ فإن الله تعالى قال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36) قال بعض السلف: "لا تقل سمعت وأنت لم تسمع، ولا تقل علمت وأنت لم تعلم، ولا تقل رأيت وأنت لم ترَ"، وليحذر الداعية أن يقول للشيء: هذا حلال، فيقول الله تعالى له: كذبت ما حللته، وأن يقول للشيء: حرام، فيقول الله تعالى له: كذبت، ما حرمته، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116، 117). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 11 المدعوون.

الدرس: 11 المدعوون.

من هو المدعو؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (المدعُوّون) من هو المدعو؟ إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: المدعو هو الركن الثالث في الدعوة، فهناك داعية ومدعو وهناك شيء يدعو إليه، فالذي يدعو إليه هو دين الله عز وجل، والدعاة تكلمنا عن صفاتهم. المدعون من هم؟ من هو الإنسان المدعو؟ الإنسان -أيُّ إنسان كان- هو المدعو إلى الله تعالى؛ لأن الإسلام رسالة الله الخالدة، بعث الله به محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس أجمعين، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28)، وهذا العموم بالنسبة للمدعوّين لا يُستثنى منه أيُّ إنسان مخاطب بالإسلام ومكلف بقبوله والإذعان له، وهو الإنسان البالغ العاقل مهما كان جنسه ونوعه ولونه ومهنته وإقليمه وكونه ذكرًا أو أنثى، إلى غير ذلك من الفروق بين البشر. ولذلك كان ممن آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- العربي كأبي بكر، والحبشي كبلال والرومي كصهيب، والفارسي كسلمان، والمرأة كخديجة، والصبي كعلي بن أبي طالب، والغني كعثمان بن عفان، والفقير كعمار، وعلى هذا فالدعوة إلى الله -عز وجل- عامة لجميع البشر، وليست خاصة بجنس دون جنس أو طبقة دون طبقة أو فئة دون فئة؛ ولهذا يُخاطب القرآن الكريم البشر بصفتهم الآدمية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة: 21) ويقول سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) وعلى الداعي أن يفقه عموم دعوته إلى الله، ويحرص على إيصالها لكل إنسانٍ يستطيع الوصول إليه، وهذا لا يناقض ابتداء الداعي بالأقربين إليه، فيدعوهم قبل البعيدين؛ لأن لكل إنسانٍ الحق في إيصال

الدعوة إليه، فليس الأبعد بأولى من الأقرب، بل الأقرب أولى لسهولة تبليغه واحتمال صيرورته داعيًا أيضًا بعد إسلامه، فيسهل إيصال الدعوة إلى البعيدين، ولهذا جاء في القرآن الكريم قول رب العالمين لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214)، وهذا وإن كان خطابًا له -صلى الله عليه وسلم- ولكنه يشمل معناه الدُّعاة إلى الله، فعلى الدعاة أن ينذروا الأقربين إليهم مبتدئين بأفراد أسرهم وأقاربهم ومن يعرفونهم، بل إن دعوة الأهل وأفراد الأسرة أوجب من غيرهم؛ لأن الداعي إن كان رب أسرة فإنه مسئول عنهم كما في الحديث: ((كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل في بيته راعٍ وهو مسئول عن رعيته)) وهذه المسئولية تشمل القيام بشئونهم المادية من توفير الطعام والشراب والسكن ونحو ذلك من الأشياء المادية، كما تشمل شئونهم الدينية بتعليمهم ما يلزمهم من أمور الإسلام ودعوتهم إليه، قال الله تعالى مثنيًا على أحد رسله الكرام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} (مريم: 55) وقال لعباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم: 6) ووقايتهم من النار تكون بدعوتهم إلى الإسلام، وطاعة أوامر الله، وترك نواهيه. ومن حق المدعو أن يؤتى ويدعى؛ أي: إن الداعي يأتي المدعوّ، ويدعوه إلى الله تعالى، ولا يليق بالداعية أن يجلس في بيته وينتظر مجيء الناس إليه، فقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يأتي مجالس قريش ويدعوهم، ويخرجوا إلى القبائل في منازلها في موسم قدومها مكة، ويدعوهم ويذهب إلى ملاقاة من يقدم من مكة ويدعوه، فقد جاء في (سيرة ابن هشام) قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبلّغ رسالة الله -عز وجل، كان يقول: ((يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما

تعبدون من دونه هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبلِّغ رسالة ربي)) وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يسمع بقادم إلى مكة من العرب له اسمٌ وشرف إلا تصدَّى له، فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده، ولم يكتفِ -صلى الله عليه وسلم- بأهل مكة ومن كان يأتيها، وإنما ذهب إلى خارجها، ذهب إلى الطائف يدعو أهلها، والقصة في ذلك مشهورة. والذي يدقق النظر في القرآن الكريم يجد أن الله تعالى جعل الناس جميعًا ثلاثة أقسام: مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأن الكافرين أقسامٌ: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، ومشركون وهم العرب الأمّيُّون، وقد جمع الله تعالى بين أهل الكتاب والمشركين في أكثر من آية، فقال عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة: 1) وحكم عليهم جميعًا بالخلود في النار إذا لم يؤمنوا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (البينة: 6)، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوهم جميعًا إلى الإسلام، فقال عز وجل: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 20)، وقد أمر الله تعالى الناس جميعًا بعبادته فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 21، 22) فكل إنسان بالغ عاقل ذكرًا كان أو أنثى مكلف بعبادة الله بما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والذي يدقّق النظر في القرآن الكريم يجد أن كل صنفٍ من الأصناف التي ذكرناها أخذ مساحةً واسعةً من القرآن في الحوار والجدال بالتي هي أحسن والدعوة إلى الإيمان بالله وبمحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

دعوة القرآن المشركين للإيمان.

دعوة القرآن المشركين للإيمان والذي يدقق النظر في المحاور التي تدور عليها الآيات في مناقشة مشركي مكة، يرى أنهما محوران اثنان: محور التوحيد ومحور البعث بعد الموت، فما جادل مشركون في شيء مما دُعوا إلى الإيمان به كما جادلوا في التوحيد والبعث بعد الموت؛ أما التوحيد فقد كانوا ألفوا تعدّد الآلهة، فلما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) قالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون} (الصافات: 36)، ولما قال لهم: إنكم إلى الله راجعون، قالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد} (ق: 3)، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (سبأ: 7، 8) لذلك كانت دعوة الكريم لمشركي مكة مركزة على الإيمان بالله واليوم الآخر. ومن الآيات التي عابَت على المشركين شركهم ودَعَتهم إلى التوحيد وعابت عليهم إنكارهم للبعث بعد الموت، وذكّرتهم بالأدلة البراهين الدالة على ذلك قول ربنا -سبحانه وتعالى-: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ * جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ

وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} (ص: 1 - 15). ويقول سبحانه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون * أَمْ مَن ْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (النمل: 60 - 72). ويقول -سبحانه وتعالى-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا

مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 78 - 92). ويقول -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شيئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (الحج: 1 - 10).

دعوة القرآن اليهود للإيمان.

دعوة القرآن اليهودَ للإيمان وأما اليهود في المدينة فقد كانوا على علم ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا يعلمون أن نبي آخر الزمان سيهاجر إليها فسبقوه إليها ليكونوا في استقباله، وكانت بينهم وبين أهل المدينة حُروب، فكانوا يخوّفونهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنهم سيؤمنون به ويتبعونه ويقتلونهم معه قتل عاد وإرم، فما هو أن بُعث -صلى الله عليه وسلم- وهاجر إلى المدينة حتى كانوا أول كافر به؛ حسدًا من عند أنفسهم أن كان من بني إسماعيل وليس من بني إسرائيل، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (البقرة: 89، 90) فكفروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مع أنهم كانوا يعرفونه جيدًا ويعرفونه صفاته مفصلة؛ لأن الله -تبارك وتعالى- وصفهم له في التوراة حتى قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة: 146) ومع ذلك كانوا أول من كفر به، ولقد عملوا بلا كللٍ ولا ملل على القضاء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوته، واستخدموا في ذلك أخسَّ الأساليب وأدنأها، فلجئوا إلى كتمان ما يعرفونه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحريف ما في كتبهم مما يدل عليه، وأخذوا يهزئون به وبدينه، وأخذوا يُثيرون الشبهات على ضعاف المؤمنين وفتحوا أبوابهم للمنافقين وآووهم، ومع ذلك كله استمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوتهم بالتي هي أحسن، وصبر على أذاهم وعفا عنهم حتى نقضوا عهده، فأجلى بعضهم عن المدينة وقتل بعضهم بسبب غدرهم وخيانتهم ونقضهم عهدهم من بعد ميثاق.

والذي يدقّق النظر في الآيات التي خاطبت يهود يرى أنها ركزت على دعوتهم إلى الإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وما أنزل إليه من ربه، كما وصتهم بذلك رسلهم وكتبهم، والإقلاع عن إثارة الشبهات حول الدين والنبي الأمين والقرآن الكريم، والكفِّ عن وصف الله سبحانه بما لا يليق بجلاله، ودعوتهم إلى اتباع ملة أبيهم إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام؛ فقد كانوا جميعًا مسلمين: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132، 133)، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- متبعٌ ملة إبراهيم -عليه السلام، فلو كانت يهود متبعين إبراهيم لاتبعوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم، فكان رفضهم لاتباع محمد وتكذيبهم إيَّاه دليلًا على أنهم ليسوا على ملة أبيهم إبراهيم -عليه السلام. ومن الآيات المباركات التي جادلت يهود ودعتهم إلى الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإقلاع عن إثارة الشبهات حول الدين والنبي والقرآن، وترك القول على الله بغير علم ووصفه بما لا يليق بجلاله قول ربنا سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 40 - 43). وقوله -سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ

الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ * وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 93 - 101). وقال -سبحانه وتعالى-: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 135 - 141)، ويقول سبحانه: {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (آل عمران: 1 - 3).

ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (آل عمران: 10 - 13). ويقول سبحانه: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شيئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ * وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (آل عمران: 64 - 74). ويقول سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (آل عمران: 93 - 99). ويقول سبحانه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ * قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 181 - 184). ويقول سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا * فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 153 - 162). ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شيئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شيئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 41 - 44) قال سبحانه: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَاب} (المائدة: 59). وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا

دعوة القرآن النصارى للإيمان.

هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمفْسِدِينَ} (المائدة: 57 - 64). دعوة القرآن النصارى للإيمان وأما النصارى، فلم يكن حظهم من القرآن الكريم أقل من حظ اليهود، فقد أخذت النصارى حظًّا كبيرًا من القرآن الكريم في الحوار والدعوة والجدال بالآتي هي أحسن، وذلك بين في سورة آل عمران والنساء والمائدة ومريم وغيرها، والمحور الأساس في دعوتهم هو إبطال ألوهية عيسى وبنوته لله -عز وجل، وبيان أنه عبد الله ورسوله جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، يقول الله تعالى: {الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا

إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران: 1 - 8). ويقول سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شيئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 57 - 64). وقال تعالى: {يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 171 - 173).

دعوة القرآن المنافقين للإيمان.

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 116 - 120) وقصَّ -سبحانه وتعالى- عليهم كيف ولد عيسى ابن مريم -عليه السلام- بالتفصيل في سورة "مريم"، نكتفي بالإشارة إليها. دعوة القرآن المنافقين للإيمان وأما المنافقون وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فقد أخذوا أيضًا من القرآن الكريم مساحة واسعة في سورة البقرة وآل عمران والتوبة ومحمد -عليه السلام- وغيرها من السور، بل أُفردت لهم سورة كاملة سُمّيت باسمهم سورة المنافقون، وأكثر الله سبحانه من صفاتهم وتعريف النبي وأصحابه بها في سورة التوبة، حتى إن ابن عباس -رضي الله عنه- سمى سورة التوبة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، ما زال ينزل فيها: ومنهم ومنهم ومنهم، حتى ظنوا لن تترك منهم أحدًا. يقول الله -تبارك وتعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ

لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 8 - 20). ويقول سبحانه: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا

بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 138 - 146). هذه هي أصناف المدعوِّين من غير المسلمين من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين، وقد دعا الله -تبارك وتعالى- إلى التوبة والدخول في الإسلام، واتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وقام -صلى الله عليه وسلم- بدعوتهم جميعًا، لم يفرق بين مشرك وكتابي ومنافق، ولقد قضى -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو المشركين إلى التوحيد، وكان يغشاهم في مجالسه وأنديتهم ويزورهم في بيوتهم، وكان يدعوهم فرادى ومجتمعين، ولم يترك دعوتهم مع انصرافهم عنه وإصرارهم على عدم الاستماع إليه، كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (فصلت: 5، 6) فأمره -صلى الله عليه وسلم- بالاستمرار في دعوتهم وإن دعوه إلى عدم دعوتهم وعدم تذكيرهم. كما كان -عليه الصلاة والسلام- في المدينة يأتي اليهود ويدعوهم إلى الإسلام؛ ففي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((انطلقوا إلى يهود))، فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدارس فقام -صلى الله عليه وسلم- فناداهم: ((يا معشر يهود، أسلموا تسلموا)) فقالوا: بلغت يا أبا القاسم، فقال: ((ذلك أريد)) ثم قالها ثانية، فقالوا: بلغت أبا القاسم، ثم قالها الثالثة، فقال: ((اعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وإني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئًا فليبعه، وإن لا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله)). كذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يأتي المنافقين ويدعوهم إلى الإسلام؛ ففي مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لو أتيت عبد الله بن أبي؟ قال: فانطلق إليه،

وركب حمارًا وانطلق المسلمون، وهي أرض سبغة، فلما أتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إليك عني، فوالله قد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطيب ريحًا منك"، وقال الإمام النووي تعليقًا على هذا الحديث: وفي الحديث بيان ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحلم والصفح والصبر على الأذى في الله تعالى، ودوام الدعاء إلى الله تعالى وتألُّف قلوبهم. فعلى الداعية المسلم الحريص على الأجر والثواب أن يقتضي برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فينتقل إلى الناس في أماكنهم ومجالسهم وقراهم، ويبلغهم الإسلام ويدعوهم إلى الله تعالى، ويا حبذا لو توزّع الدعاة إلى القرى والمحلات، وتفرع كل واحد منهم إلى جهة، فإنه بهذا يتحقق الخير الكثير بإذن الله تعالى -عز وجل؛ لأنه لا بد من تبليغ دين الله عن طريق الدعوة إلى الله اقتضاءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم.

الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم.

التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم) التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: القرآن الكريم أشهر من أن ي ُ عر َّ ف، ومع هذا فقد اعتنى الأصوليون بتعريفه، وذكروا له تعاريف شتى حرص كل منهم أن يكون جامع ً امانع ً ا، ومن هذه التعاريف: القرآن الكريم: هو الكتاب المنزل على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا عنه نقل ً امتواتر ً ابل اشبه ة، ولا خلاف بين المسلمين أن القرآن حجة على الجميع، وأنه المصدر الأول للتشريع بل حجة على جميع البشر، والبرهان على حجيته أنه من عند الله، والبرهان على أنه من عند الله إعجازه. فإذا ثبت كون القرآن من عند الله بدليل إعجازه؛ وجب اتباعه من قبل الجميع، وللقرآن الكريم خواصه؛ منها: أنه كلام الله المنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى هذا لا ت ُ عتبر من القرآن الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل؛ لأنها لم تنز َّ ل على محمد -صلى الله عليه وسلم. ثاني ً ا: القرآن هو مجموع اللفظ والمعنى، وأ ن لفظه نزل باللسان العربي كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2) فليس في القرآن الكريم لفظ غير عربي، يقول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى: "جميع كتاب الله نزل بلسان العرب "، وقال أيض ً ا: ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، وعلى هذا لا ت ُ عتبر الأحاديث النبوية من القرآن؛ لأن ألفاظها ليست من الله - عز وجل - وإن كان معناها موح ًى به من الله، وكذا لا يُعتبر من القرآن تفسيره ولو كان باللغة العربية، وكذا ترجمته إلى غير العربية لا تعتبر من القرآن.

ثالث ً ا: أنه نقل إلينا بالتواتر أي: أن القرآن الكريم نقله قوم لا يتوهم اجتماعهم وتواط ؤ هم على الكذب؛ لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم عن قوم مثلهم، وهكذا إلى أن يتصل النقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكون أول النقل ك آخره، وأوسطه كطرفيه كله متواتر، وعلى هذا فما نقل من القراءات من غير طريق التواتر لا ي ُ عتبر من القرآن مثل ما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قرأ قول الله تعالى، وذلك في كفارة اليمين {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (البقرة: 196) قرأها ابن مسعود بزيادة كلمة متتابعات " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات ". فهذه القراءة محمولة على أنها تفسير لثلاثة أيام بكونها متتابعات على رأي ابن مسعود. رابع ً ا: أنه محفوظ من الزيادة والنقصان؛ لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فلا نقص فيه ولا زيادة، ولن يستطيع مخلوق أن يزيد عليه شي ئًا أو ينقص منه شي ئًا؛ لأن الله تعالى تولى بنفسه حفظه وما تولى الله حفظه لم تصل إليه يد العابثين المفسدين. خامس ً ا: أن القرآن معجز، ومعنى كونه معجز ً اعجز البشر أجمعين عن ال إ تيان بمثله، وقد ثبت إعجازه بتحد ّ يه للعرب المخالفين بأن يأتوا بمثله، فعجزوا، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم بسورة واحدة من سوره فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88). وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (هود: 13) وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (يونس: 38)، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ

مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23)، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} يعني: في الحاضر {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ولن تفعلوا في المستقبل، أي: لم تفعلوا ولن تفعلوا {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 24). اتقو ها بالإيمان بأن القرآن كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين. ومع هذا التحدي المتكرر الذي يستفذ الهمم، ويبعث على المعارضة عجز العرب عن المعارضة، بالرغم من وجود المقتضي لها، وعدم المانع منها، أما وجود المقتضي؛ فلأن العرب كانوا حريصين كل الحرص على إبطال دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فلو كانوا قادرين لجا ءوا بما يعارض القرآن ويبطل دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم. أما عدم المانع من المعارضة؛ فلأنهم أهل البلاغة والفصاحة والمعرفة التامة باللغة العربية وأصحاب الحكم والسلطان، فلم َّا ثبت عجزهم ثبت أن القرآن النازل بلغة العرب هو كتاب الله، وأن محمدًا رسول الله حق ًّ ا. وجوه إعجاز القرآن الكريم: وجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة منها: بلاغته التي بهرت العرب، وجعلتهم مشدوهين على نحو لم تعهد في كلام العرب من قبل، لا في منظوم ولا منثور، مع بقائها في مستوى عال ٍ في جميع أجزاء القرآن، وبالرغم من تناوله مو اضيع شتى، وأحكام ًا مختلفة، وبالرغم من نزوله في فترات متباعدة. إن أي قارئ لأي كتاب سوى كتاب الله -عز وجل- يجد أن الكاتب يصلُ إلى حد عظيم جدًّا من البلاغة في فصل من فصول هذا الكتاب. ثم

إذا به يأتي إلى فصل آخر فيجده دون ما وصل إليه الكاتب من البلاغة في الفصل السابق، وهذه هي طبيعة البشر. أما القرآن الكريم فاقرأه من الفاتحة إلى الناس تجد البلاغة في أطول سورة وفي أقصر سورة، وتجدها في أطول آية وأقصر آية، على الرغم من أن القرآن الكريم نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- على مدار الثلاث والعشرين سنة، طرفان متباعدان ومع ذلك فأول ما نزل وآخر ما نزل من البلاغة على درجة واحدة، وهذا وجه من وجوه الإعجاز، وكذلك تناول القرآن الكريم مواضيع شتى وأحكام ًا مختلفة تناول تشريعات وتناول قضايا، وحل مشكلات، وتناول حدود ً اوأحكام ًا وعبادات، ومع ذلك فعلى الرغم من تنوع المواضيع واختلاف الأحكام؛ فالبلاغة في كل آية منه. ثاني ً ا: من وجوه إعجاز القرآن إخباره بوقائع تحدث في المستقبل، وقد حدثت فعل ً امن ذلك قول ربنا سبحانه: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 1 - 4)، وهذا من الإخبار بما سيكون في المستقبل، وما كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن يجر ؤ على أن يقول هذا القول لو كان من عنده؛ لأنه لا يعلم الغي ب؛ فلولا أنه على يقين تام من أن هذا القرآن كلام الله -سبحانه وتعالى- ما استطاع أن يصدع بهذا القول، ومع ذلك صدع به، ثم تحقق ما أخبر به؛ لأنه كما قال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الفرقان: 6). ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم: إخباره بوقائع الأمم السابقة المجهولة أخبارها عند العرب جهل ً اتام ًّ ا؛ لعدم وجود ما يدل عليها من آثار ومعالم، ولذلك فإن الذي يقرأ القصص القرآني يرى الله - سبحانه وتعالى - دائم ً ايُعقب على كل قصة

بالإشارة إلى أنه اوحي من الله إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليعلمها لولا الوحي، نقرأ مثل ً افي سورة هود قصة نوح - عليه السلام - ثم نرى الله - عز وجل - يعق ّ ب عليها بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (هود: 49) ونقرأ قصة يوسف - عليه السلام - مع أخوته وما كان منهم معه، ثم نرى الله - سبحانه وتعالى - يقول في آخر القصة: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102). ومن إعجاز القرآن إشارته إلى بعض الحقائق الكونية التي أثبتها العلم الحديث، والتي لم تكن معروفة من قبل من ذلك قول ربنا عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (الحجر: 22) فهذه بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم. أما أحكام القرآن فقد اشتمل القرآن الكريم على أحكام كثيرة متنوعة ي ُ مكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأحكام المتعلقة بالعقيدة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه هي الأحكام الاعتقادية، ومحل دراستها في علم التوحيد. القسم الثاني: أحكام تتعلق بتهذيب النفس وتقويمها، وهذه هي الأحكام الأخلاقية ومحل دراستها في علم الأخلاق. القسم الثالث: الأحكام العملية المتعلقة بأقوال وأفعال المكلفين، وهي المقصودة ب علم الفقه، والتي يهدف هذا العلم وأصوله إلى معرفتها والوصول إليها، وهذه الأحكام العملية نوعان:

الأول: العبادات كالصلاة والصيام، والغرض منها تنظيم علاقة الفرد بربه. النوع الثاني: ما عدا العبادات، وت ُ سمى باصطلاح الفقهاء بالمعاملات، وهي تشمل الأحكام التي تتدخل في نطاق القانون الخاص والقانون العام حسب الاصطلاح القانوني الحديث، وهذه الأحكام ي ُ قصد بها تنظيم علاقة الفرد بالفرد، أو الفرد بالجماعة أو الجماعة بالجماعة، ومن هذه الأحكام الأحكام المتعلقة بالأسرة، وهي تدخل في نطاق ما ي ُ سمى بقانون الأسرة، أو بمسائل الأحوال الشخصية كالنكاح، والطلاق، والبنو ُّ ة، والنسب، والولاية، ونحو ذلك. ويقصد بهذه الأحكام بناء الأسرة على أسس قويمة وبيان حقوق وواجبات أفرادها، وقد أخذت هذه الأحكام من آيات القرآن الكريم نحو سبعين آية. ثاني ً ا: الأحكام المتعلقة بمعاملات الأفراد المالية كالبيع والرهن، وسائر العقود، وهي تدخل في نطاق ما ي ُ سمى بالقانون المدني، وآياتها نحو سبعين آية. ثالثًا: الأحكام المتعلقة بالقضاء والشهادة واليمين، وي ُ قصد بها تنظيم إجراءات التقاضي لتحقيق العدالة بين الناس وهي تدخل في ما يسمى اليوم بقانون المرافعات، وآياتها نحو ثلاث عشر آية. رابعًا: الأحكام المتعلقة بالجرائم والعقوبات وهي تكو ّ ن القانون الجنائي الإسلامي، وآ ياتها نحو ثلاثين آية، ويقصد بها حفظ الناس وأعراضهم وأموالهم، وإشاعة الطمأنينة والاستقرا ر في المجتمع. خامسًا: الأحكام المتعلقة بنظام الحكم ومدى علاقة الحاك م بالمحكوم، وبيان حقوق وواجبات كل من الحاكم والمحكومين، وهي تدخل فيما يسمى بالقانون الدستوري، وآياتها نحو عشر آيات.

بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية.

سادسًا: الأحكام المتعلقة بالمعاملة الدولة الإسلامية للدول الأخرى ومدى علاقاتها بها، ونوع هذه العلاقة في السلم والحرب، وما يترتب على ذلك من أحكام، وكذلك بيان علاقة المستأمنين مع الدولة الإسلامية، وهذه الأحكام منها ما يدخل في نطاق القانون الدولي العام، ومنها ما يدخل في نطاق القانون الدولي الخاص، وآ ياتها نحو من خمس وعشرين آية. أخير ً ا: الأحكام الاقتصادية وهي المتعلقة بموارد الدولة ومصارفها وبحقوق الأفراد في أموال الأغنياء، وآ ياتها نحو من عشر آيات، كيف بيَّن القرآن الكريم هذه الأحكام للناس؟ قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89)، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 38). بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية فالقرآن الكريم فيه بيان لجميع الأحكام الشرعية إلا أن بيانه على نوعين: النوع الأول: ذكر القواعد والمبادئ العامة للتشريع، وبيان الأحكام بصورة مجملة؛ فمن القواعد والمبادئ العامة التي تكون أساس ًا للتشريع وتفريع الأحكام: مبدأ الشهرة؛ حيث قال الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} (آل عمران: 159)، ومدح المؤمنين بأخذ أنفسهم بهذا المبدأ فقال على سبيل المدح: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38). ومنها: مبدأ العدل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (النحل: 90) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)، ومنها: أن الإنسان لا يُسأل عن ذنب غيره، وإنما هو فقط مأخوذ بجريرته قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164)، ومنها: أن العقوبة مقدرة بقدر

الجريمة قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشورى: 40) {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126)، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190). ومن هذه القواعد والمبادئ العامة: أن مال الغير له حرمة؛ فلا يجوز الاعتداء على مال الغير قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (النساء: 29، 30)، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 188) ومنها: مبدأ التعاون على الخير وما يحقق المصلحة العامة للأمة، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2)، ومنها: الأمر بالوفاء وفاء الإنسان بكل ما يلتزمه من عهود وعقود ومواعيد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1)، ومنها: الحرج مرفوع قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، ومنها: الضرورات تبيح المحظورات، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173). ومن الأحكام التي جاءت مجملة في القرآن ولم يفصل حكمها: الأمر بالزكاة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة: 103)، وقال في القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (البقرة: 178) ولم يبين القرآن الكريم شروط القصاص، وقد بينتها السنة، وكذلك البيع والربا قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فجاءت السنة

ببيان البيع الحلال وشروطه، والربا الحرام وأنواعه، وهذا النوع من البيان للأحكام وهو البيان الإجمالي، وهو الغالب في القرآن، الغالب في القرآن الإجمال. والحكمة في مجيء أحكام القرآن على شكل قواعد ومبادئ عامة هي أن مجيئها على هذا النوع يجعلها تتسع لما يستجد من الحوادث فلا تضيق بشيء أبد ً ا. النوع الثاني من أحكام القرآن: الأحكام التفصيلية: والأحكام المفصلة في القرآن الكريم قليلة؛ منها: مقادير المواريث، ومقادير العقوبات في الحدود، وكيفية الطلاق، وعدد الطلقات، وكيفية اللعان بين الزوجين، وبيان المحرمات من النساء، ونحو ذلك، لكن الأحكام التفصيلية - كما ذكرنا - أقل بكثير من الأحكام الإجمالية. وللقرآن الكريم في بيان الأحكام أساليب مختلفة اقتضتها بلاغته وكونه معجز ً ا، وكتاب هداية وإرشاد هو يعرض الأحكام عرض ً افيه تشويق للامتثال، وتمثيل ٌ عن المخالفة والعناد، ولهذا نجد ما هو واجب قد ينص ّ على وجوبه بصيغة الأمر كقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطلاق: 2). أو بأن الفعل مكتوب على المخاطبين كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (البقرة: 178)، وقد يكون بيان الواجب بذكر الجزاء الحسن والثواب لفاعله كقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (النساء: 13)، والمحرم قد يكون بيان بصيغة النهي كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، وكقوله تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقد يكون بالتوعد على الفعل، أو بترتب العقوبة عليه كقوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء: 10). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 14). وعلى هذا؛ فيجب على كل من يريد استنباط الأحكام من القرآن أن يعرف أساليب القرآن في بيان الأحكام، وما يقترن بالنصوص مما يدل على الوجوب أو الحرمة أو الإباحة، ومن الضوابط والقواعد النافعة في هذا الباب: أولًا: يكون حُكم الفعل الوجوب أو الندب إذا جاء بالصيغة الدالة على الوجوب أو الندب، أو إذا ذ ُ كر في القرآن واقترن به مدح أو محبة أو ثناء له، أو لفاعله، أو إذا اقترن به الجزاء الحسن والثواب لفاعله، ويكون حكم الفعل الحرمة أو الكراهة إذا جاء ذكره بصيغة تدل على طلب الشارع لتركه، والابتعاد عنه، أو إذا ذ ُ كر على وجه الذم له ولفاعله، أو أنه سبب للعذاب أو لسخط الله أو مقته، أو دخول النار، أو لعن فاعله، أو وصف الفعل بأنه رجس أو فسق أو من عمل الشيطان، أو وصف فاعله بالبهيمة أو الشيطان، ونحو ذلك. ويكون حكم الفعل الإباحة إذا جاء بلفظ يدل على ذلك كالإحلال "أُ حِلَّ لَكُمْ" "أُ ذِنَ لَكُمْ "، ونفي الحرج "لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ" "لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ "، أو الإنكار على من حرم الشيء ونحو ذلك مما يدل على الإباحة. ودلالة القرآن على الأحكام قد تكون قطيعة، وقد تكون ظنية، لقد عرفنا أن القرآن قطعي ّ الثبوت؛ لأنه وصل إلينا بطريق التواتر المفيد للعلم اليقيني بصحة المنقول، فأحكام القرآن إذًا قطعية الثبوت إلا أن دلالة القرآن عن الأحكام قد تكون قطعية وقد تكون ظنية، فالقرآن قطعي الثبوت أما من حيث الدلالة على الأحكام؛ فقد تكون دلالته قطعية، وقد تكون ظنية، فإذا كان اللفظ لا يحتمل

أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع.

إلا معنى واحد ًا فقط؛ ففي هذه الحالة تكون دلالة اللفظ على الحكم دلالة قطعية مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النساء: 12) فالنصف والربع من الألفاظ التي لا تحتمل إلا معن ً ى واحد ً ا. وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) فالمائة من الألفاظ القطعية الدلالة على مدلولها لا تحتمل معنى آخر، وتكون دلالة القرآن الظنية إذا كان اللفظ يحتمل أكثر من معنى، فتكون دلالة اللفظ الحكم إذًا دلالة ظنية وذلك مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: 228) فلفظ "قروء" يحتمل أن يكون المراد به الأطهار، ويحتمل أن ي ُ راد به الحيضات، فمع هذا الاحتمال تكون دلالة ال آية على الحكم ظنية لا قطعية، ولما كان الق ُ رء أو القروء تحتمل الأطهار والحيضات؛ لذلك اختلف الفقهاء في المراد بها، وبماذا تعتد ّ المطلقة، والراجح - والله أعلم - أن القروء المراد بها الحيضات لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرأة المستحاضة ((دعِ الصلاة أيام قرئك)) أي: أيام حيضتك. أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع فهذا هو القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع، والمصدر الأول الذي يستمد ّ الداعية منه دعوته ومادتها، والذي فرض الله - تبارك وتعالى - على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يجاهد به جهاد الدعوة في مكة قبل أن يفرض عليه جهاد السيف في المدينة قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان: 51، 52) أي: بالقرآن الكريم جهاد ً اكبير ً ا، فالقرآن الكريم هو سلاح الداعية {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ

حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1) {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41، 42) ((فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله)). وقد تكف َّ ل الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة فقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 123 - 127). لقد أنزل الله - تبارك وتعالى - هذا القرآن ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: 1)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (النساء: 174 - 175). وقال تعالى: {يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15، 16) وما أدق ّ هذا التعبير وما

أصدقه {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} السلام الذي يسكبه هذا الدين في الحياة كلها، سلام الفرد، وسلام الجماعة، سلام العالم، وسلام الضمير، سلام العقل، وسلام الجوارح، سلام البيت، وسلام الأسرة، وسلام المجتمع والأمة والبشرية والإنسانية، والسلام مع الحياة، والسلام مع الكون، والسلام مع الله رب الحياة والكون، السلام الذي يقوم عل عقيدته وشريعته، وهي دعوة صريحة لدعاة السلام إن كانوا جادين في البحث عن حل للخروج من ويلات الحرب وما جلبته عليهم من دمار وخراب وفساد. إن كانوا حق ًّ اجادين في دعوتهم للسلام، فإن هذا هو طريق السلام آمنوا بهذا القرآن، وا دخلوا في السلام كافة، فإن الله قال عن القرآن الكريم: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (المائدة: 16) من ظلمات الوهم والخرافة وظلمات الأوضاع والتقاليد، وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين إلى نور الحق والحقيقة، ونور الهدى والإيمان، ونور الطمأنينة واليقين. وهي دعوة صريحة أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوهم إليها فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64). فإذا أرادت البشرية أن تخرج من بؤسها وشقائها فلتقبل هذه الدعوة، وليقم أهل القرآن بواجبهم نحوه، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، تلاوة صحيحة، مجودة بالأحكام؛ فإن تلاوة القرآن الكريم ق ُ ربة من أعظم القرب، وعبادة من أجل العبادات، يعطي الله - تبارك وتعالى - عليها من الأجر والثواب ما لا يعطي على

غيرها، وقد بي َّ ن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثرة هذا الأجر بقوله: ((من قرأ حرف من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "الم" حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)). وحتى تتصو ّ ر أي ّ ها الداعية كثرة الأجر الذي يمن ّ الله عليك به على قراءة القرآن، أذكرك بأن الفاتح ة "الحمد لله رب العالمين" مائة وثلاث عشرة حرف ًا، فإذا قرأتها مرة أعطاك الله عليها ألف ًا ومائة وثلاثين حسنة، فكم مرة يقرأ المسلم "الفاتحة" في اليوم الواحد، ولذلك كانت قراءة القرآن من التجارة التي لا تبور كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر: 29، 30) كان قتادة -رحمه الله- إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء، وذلك لما أثبتته لهم من الأجر العظيم والثواب المضاعف لا ينعمون بالأجر الوافي، وإنما يزيدوهم الله إكرامًا وفضلًا. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القرآن يرفع صاحبه في الدنيا والآخر عن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين))، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب، حلِّه فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب، زدنه فيلبس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، وتزاد بكل آية حسنة)). ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحضّ على تعلم القرآن وتعليمه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وكان يقول: ((وما

اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)). وكان -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على قراءة القرآن والخروج في طلبه بلغة التجارة والربح، عن عقبة بن عامر، قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصُّفَّة فقال: ((أيكم يحب أن يغدوا كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق؛ فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم، فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك. قال: أفلا يغدوا أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقتين وثلاثة خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)). والتعلم والتعليم الذي حضَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يشمل القراءة، كيف يقرأ القرآن، وكيف يتلى، وكيف يجود، وكيف يرتل، ويشمل كذلك التفسير ومعرفة المعاني حتى يعقل العبد عن الله مراده، ويشمل استخراج الأحكام ومدارستها؛ فمن فعل ذلك فقد تلا القرآن حق تلاوته، ودخل في عموم قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (البقرة: 121) قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحلَّ حلاله ويحرم حرامه، ويقرؤه كما أنزله الله، ولا يحرّف الكلم عن مواضع، ولا يتأوَّل منه شيء على غير تأويله". وقال الحسن البصري -رحمه الله-: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِه} يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابه، ويكلون ما أُشكل عليهم إلى عالمه. وقال الإمام السيوطي -رحمه الله-: والأمة كما هي متعبدة بفهم معاني القرآن وأحكامه متعبدة بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من الأئمة القُراء، وهي الصفة المتصلة بالحضرة النبوية أي: أنه لا يكفي الأخذ من المصاحف بدون تلقٍّ عن أفواه المشايخ المتقنين للتلاوة.

يدل على ذلك ما رواه الطبراني عن مسعود بن زيد قال: كان عبد الله بن مسعود يقرئ رجلًا فقرأ الرجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} فخطف المد في "الفقراء" فلم يُشبع المد كما ينبغي، فقال ابن مسعود: ما هكذا أُقرِئتُها ثم تلاها مرة أخرى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (التوبة: 60) ومدَّ "الفقراء" المد اللازم المعروف. فاحذر أيها المتعلم أن تأخذ القرآن من المصحف، أو من الأشرطة دون تصحيح على أهل القرآن المتخصصين؛ فإن ذلك يعرضك للخطأ ولقد عرف أعداء الأمة أن هذا القرآن هو سر بقائها، وسبب فوزها، فعملوا جادين على فصل المسلمين عن القرآن وعزله عن حياتهم، وكادوا يظفرون بما يؤملون فقل الحفظة، وصدق فيهم قول القائل: وقد كانوا إذا عُدوا قليلًا ... فصاروا اليوم أقل من القليل وسادت الأمية من حيث القرآن وقراءته كثير من المثقفين والمتعلمين بحيث أنك ترى الرجل يحمل الشهادات العليا، وهو لا يحسن يقرأ القرآن، وصارت المصاحف تتخذ في البيوت لمجرد البركة فقط، أما التلاوة أما التدبر أما التفسير أما استخراج الأحكام؛ فهذا له رجال هكذا ظنوا، ولذلك قلت البركة والرحمة في البيوت، وغابت عنها الملائكة، وسكنتها الشياطين، وعادت شكوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تئنّ من جديد: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30). فاقرءوا القرآن يا أمة القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، كما النبي -صلى الله عليه وسلم- اقرءوا القرآن فإنه روح لكم في السماء، وذكر لكم في الأرض قال الله تعالى

للنبي -صلى الله عليه وسلم- {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف: 44)، وقال للقوم أنفسهم: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 10)، اقرءوا القرآن فإنه يهدي للتي هي أقوم في كل أمر من الأمور، وكل مسألة من المسائل وكل مشكلة من المشاكل، اقرءوا القرآن فإنه عزكم وشرفكم، وبه يتم سؤددكم، لقد ساد السلف الصالح الدنيا كلها حين قبلوا كتاب ربهم، واستمسكوا به وجعلوه أمامهم فقادهم إلى الخير والبر، والنجاح والفلاح؛ فلما نبذ الخلف كتاب ربهم وراء ظهورهم تداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فاقرءوا القرآن يا أمة القرآن، فلن تزالوا على الهدى ما قرأتم القرآن، وتمسكتم به، كم أخبركم بذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي)). وعليك أيها الداعية، إن كنت قد أتممت القرآن حفظًا أن تتاعهده بالمراجعة حتى لا يتفلت من صدرك، وإن كنت لم تتمه فعليك أن تجتهد في إتمامه؛ فإنه سلاحك الأول، والمصدر الأول الذي تستمدّ منه مادة دعوتك، ولأن تنجح في دعوتك حتى يكون القرآن في صدرك وأنت على المنبر كما لو كان في يدك تتناول منه ما تشاء، وتستدل به على ما تشاء، لا تردد، ولا تتلعثم، ولا تقف عند آية تريد أن تستدل بها، ولا تستطيع أن تأتي بها. ثم اعلم -بارك الله فيك- أنك كداعية ينبغي عليك أن تكون متخلق بأخلاق القرآن، ومتأدب بآدابه متأسيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقد سُئلت أمنا عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ((كان خلقه القرآن))، وتذكر أنه يجب عليك ما لا يجب على العامة، ولذلك قال ابن مسعود -رضي الله عنه- ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذ الناس

يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون، ولا ينبغي أن يكون جافيًا ولا غافلًا، ولا صخابًا، ولا حديدًا. وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلغوا مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو؛ تعظيمًا لله تعالى، ولا ينبغي أن يكون له إلى أحد حاجة؛ بل ينبغي أن تكون حوائج الناس إليه، ويوم أن يكون الدعاة إلى الله -عز وجل- متخلقين بهذه الأخلاق، ومتأدبين بهذه الآداب يمشون بين الناس قرآنًا يراه الناس في مظهرهم ومخبرهم {يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. (الروم: 4، 5). وصلى وسلم وبارك على نبين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة.

الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة.

التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (المصدر الثاني: السنة) التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: للسنة في اللغة معنى، وفي اصطلاح الفقهاء لها معنى، وعند الأصوليين لها معنى، أما السنة في اللغة فهي عبارة عن الطريقة المعتادة المحافظ عليها التي يتكرر الفعل بموجبها ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 62)، وسنة الإنسان طريقته التي يلتزم بها فيما يصدر عنه ويحافظ عليها سواء أكان ذلك فيما يحمد عليه أو يذم. أما السنة في اصطلاح الفقهاء على ما قاله البعض: فهي ما كان من العبادات نافلة ليس بواجب. وهذا هو المشهور حتى عند العامة يقولون: فرض وسنة. للظهر أربع ركعات فرض وأربع ركعات سنة، فالسنة في اصطلاح الفقهاء ما يقابل الفرض، ولكن المستفاد من كتب فروع الفقه أن السنة أيضًا تُطلق عند الفقهاء على ما هو مندوب من العبادات وغيرها، وقد تُطلق كلمة السنة في كلام بعض الفقهاء على ما يقابل البدعة؛ فيقال: فلان على سنة إذا عمل وفق عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف السنة. والسنة في اصطلاح الأصوليين: ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير. فهي بهذا الاعتبار دليل من أدلة الأحكام ومصدر من مصادر التشريع، والدليل على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الكتاب والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقد دلَّ على أن ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه التشريع مبناه الوحي أي: مصدره الوحي من الله قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4).

فقوله -صلى الله عليه وسلم- كالقرآن من جهة أن الاثنين مصدرهما وحي من الله، إلا أن السنة مُوحًى بها بالمعنى فقط؛ أما القرآن فكما سبق في بيان المصدر الأول للدعوة وهو القرآن أن القرآن لفظه ومعناه من الله، أما السنة فمعناها من الله، ولفظها من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وحيث إن القرآن واجب الاتباع لأنه من الله، فكذا أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجبة الاتباع لأن معناها من الله أيضًا. ثانيًا: أعطى الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- وظيفة البيان لمعاني القرآن والشرح لأحكامه المجملة قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، وقد عرفنا ونحن نتحدث عن أحكام القرآن أن أكثر أحكام القرآن مجملة والأحكام المفصلة قليلة، فهذا المجمل في القرآن الكريم من الذي بيّنه؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (النور: 56) لم يبين عدد ركعاتها ولم يبين كيفيتها، لم يبين الأموال التي تجب فيها الزكاة، لم يبين الأنصبة والمقادير، كل ذلك بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر الله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44). فإذا كان كذلك فيكون بيانه -صلى الله عليه وسلم- للقرآن متممًا للقرآن، وضروريًّا لاستفادة الحكم الشرعي ومعرفة المطلوب، فدل ذلك على أن السنة مصدر من مصادر الدعوة والتشريع. ثالثًا: دلَّ على أن السنة مصدر للتشريع النصوص الكثيرة جدًّا الواردة في القرآن التي تدل بصورة قاطعة على لزوم اتباع السنة، والالتزام بها، واعتبارها مصدرًا للتشريع، واستفادة الأحكام منها، وقد جاءت هذه النصوص دالة على ما ذكرنا بأساليب متنوعة، وصيغ مختلفة، فهي تأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتجعل طاعته طاعة لله، وتأمر برد المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول، أي: إلى كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتأمر بأخذ ما يأتينا به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والابتعاد عما ينهانا عنه،

وتصرح ألا إيمان لمن لا يُحكّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يختلف فيه مع غيره، وتقول: أنه لا اختيار لمسلم فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحذر المخالفين لأمره من سوء العاقبة والعذاب الأليم. وهكذا دلَّ القرآن الكريم على وجوب اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم. وكذلك دلَّ الإجماع: فقد اجتمع المسلمون من عهده -صلى الله عليه وسلم- إلى اليوم على وجوب الأخذ بالأحكام التي جاءت بها السنة، وضرورة الرجوع إليها لمعرفة الأحكام الشرعية، والعمل بمقتضاها، فما كان الصحابة ولا من جاء بعدهم يفرقون بين حكم ورد في القرآن وبين حكم وردت به السنة، فالجميع عندهم واجب الاتباع؛ لأن المصدر واحد وهو وحي الله عز وجل، والوقائع الدالة على إجماعهم كثيرة لا تحصى. ثالثًا: المعقول فقد ثبت بالدليل القاطع أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، ومعنى الرسول هو المبلغ من الله، ومقتضى الإيمان برسالته لزوم طاعته والانقياد لحكمه، وقبول ما يأتي به وبدون ذلك لا يكون للإيمان به معنى، ولا تتصور طاعة الله والانقياد إلى حكمه مع مخالفة رسوله -صلى الله عليه وسلم. إذًا قد دل الكتاب والإجماع والمعقول على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع وللدعاة خاصة. ولكن قد يرد سؤال هل جميع ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- له هذا المقام أي: مقام لزوم الاتباع والاستدلال به على الحكم الشرعي، أم لا؟ وهل كل ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلح أن يكون مصدرًا للتشريع أم لا؟ وللجواب على هذين السؤالين لا بد من الكلام عن أنواع السنة من حيث ماهيتها، أي: ذاتها، ثم الكلام عن أنواع السنة من حيث ورودها إلينا.

أولًا: أنواع السنة من حيث ماهيتها، السنة من حيث ماهيتها أي: ذاتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: سنة قولية، وسنة فعلية، وسنة تقريرية. أما السنة القولية: فهي أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي قالها في مناسبات مختلفة، وأغراض شتى، وهي التي يُطلق عليها اسم الحديث عادة؛ فإذا أطلق هذا الاسم الحديث تبادر إلى الفهم أن المقصود به السنة القولية. فالسنة بهذا الاعتبار مرادفة للفظ الحديث، ويكون الحديث أخص من السنة بمعناها العام، ومع هذا فإن بعض العلماء يجعل معنى الحديث ما أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: نسب إليه من قول أو فعل أو تقرير، وبهذا المعنى يكون لفظ الحديث مرادفًا للفظ السنة بمعناها العام، وبهذا الاعتبار سمى الإمام البخاري كتابه الشهير بالصحيح من الحديث، مع أنه اشتمل على ما نُسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال وتقريرات. والسنة القولية كثيرة جدًّا: "العمد قود"، "لا ضرر ولا ضرار"، "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما تكون مصدرًا للتشريع إذا كان المقصود بها بيان الأحكام أو تشريعها، أما إذا كانت الأقوال في أمور دنيوية بحتة لا علاقة لها بالتشريع ولا مبنية على الوحي؛ فلا تكون دليلًا من أدلة الأحكام، ولا مصدرًا تستنبط منه الأحكام الشرعية، ولا يلزم اتباعها ومن ذلك ما هو مشهور أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى قومًا في المدينة يؤبّرون النخل فأشار عليهم بتركه، ترك التأبير والتلقيح؛ ففسد الثمر ولم يؤت أكله، فقال لهم: أبروا، "أنتم أعلم بأمور دنياكم". فإشارته عليهم بترك التأبير كان مجرد رأي دنيوي لم يكن من عند الله -عز وجل- فلما لم يؤت النخل أكله قال لهم: "أبروا أنتم أعلم بأمور دنياكم". إذن أقواله -صلى الله عليه وسلم- إنما تكون مصدرًا

للتشريع إذا كان المقصود بها بيان الأحكام أو تشريعها، أما إذا كانت الأقوال في أمور دنيوية بحتة فلا علاقة لها بالتشريع. أما السنة الفعلية: فهي ما فعله -صلى الله عليه وسلم- كأداء الصلاة بهيئاتها وأركانها، وكقضائه بشاهد واحد مع يمين المدعي ونحو ذلك، وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- كأقواله منها ما يكون مصدرًا للتشريع، ومنها ما لا يكون: أولًا: الأفعال التي تصدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بحسب الطبيعة البشرية، وبصفته الإنسانية كالأكل والشرب والمشي، والقعود، ونحو ذلك؛ فهذه لا تدخل في باب التشريع إلا على اعتبار إباحتها في حق المكلفين، فلا تجب متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طريقة مباشرته لها، وإن كان بعض الصحابة يحرص على هذه المتابعة كعبد الله بن عمر، وهذه المتابعة له -عليه الصلاة والسلام- في أفعاله في الأكل والشرب والمشي والقعود أمر حسن، لكن مما ينبغي التنبيه عليه أنه قد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشرب وفي المشي وفي القعود بعض الأوامر، وبعض النواهي. فحينئذ يكون ما أمر به من هيئات الشرب، وهيئات القعود يكون ما أمر به واجبًا، وما نهى عنه محرمًا. قال: ويُلحق بهذا النوع في عدم اعتباره مصدرًا للتشريع ما صدر عنه بمقتضى خبراته الإنسانية في الأمور الدنيوية مثل: تنظيم الجيوش والقيام بما يقتضيه تدبير الحرب وشئون التجارة ونحو ذلك، فهذه الأفعال لا تعتبر تشريعًا للأمة؛ لأن مبناها التجربة لا الوحي، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يلزم المسلمين بها، ولم يعتبرها من قبيل تشريع الأحكام، ولذلك كان في بعض الغزوات يستشير أصحابه، ويأخذ بآرائهم. ويلحق بهذا النوع أيضًا في عدم اعتباره مصدر للتشريع إثبات وقائع الدعوى التي ينظر فيها؛ لأن ذلك أمر تقديري له وليس تشريعًا للأمة، أما حكمه على فرض ثبوت وقائع الدعوى فهو تشريع للأمة، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-:

((إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع قطعة من النار)). ومعنى أن يكون بعضكم ألحن بحجته من بعض أي: أقوم بها منه وأقدر عليها. ثانيًا: ما ثبت كونه من خواصه -صلى الله عليه وسلم- فهو له وحده لا تشاركه الأمة فيه، كاختصاصه بالوصال في الصوم، فقد كان يواصل لليومين والثلاثة لا يفطر بينهما، فلما أرادوا أن يواصلوا اقتداء بفعله قال: ((إنكم لستم كهيئتي))، وكالزيادة في النكاح على أربع، وغير ذلك، فهذه الأمور خاصة به -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح متابعته عليها. ثالثًا: ما عُرف أن فعله -صلى الله عليه وسلم- بيان لنص مجمل جاء في القرآن، فبيان تشريع الأمة ويثبت الحكم في حقنا، ويكون حكم الفعل الذي صدر منه في هذه الحالة كحكم النص الذي بيّنه الفعل من الوجوب والندب وغيرهما، ويكون الفعل بيانًا للمجمل إما بصريح المقال، أو بقرائن الأحوال، فمن الأول قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فأمر بالاقتداء به في فعله في الصلاة وفي الحج قال: ((خذوا عني مناسككم))، فأداؤه الصلاة بيان للصلاة التي أمر الله بها على وجه الإجمال في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (النور: 56)، وأداؤه -صلى الله عليه وسلم- لمناسك الحج بيان للحج المفروض علينا بقول ربنا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97). أما قرائن الحال الدالة على البيان فمثل أمره بقطعه يد السارق من الكوع، فهذا الفعل بيان للمراد من قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38)؛ لأن لفظ اليد في القرآن مجمل، فاليد تُطلق على ما بين رءوس

الأصابع إلى الكوع، وتطلق من الكوع إلى المرفق، وتطلق على اليد كلها إلى المنكب {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) من أين نقطع؟ قطع -صلى الله عليه وسلم- يد السارق إلى كوع فدلّ على أن هذا هو المعتبر. رابعًا: ما فعله -صلى الله عليه وسلم- ابتداء وعرفت صفته الشرعية من وجوب وندب وإباحة، فإنه تشريع للأمة، فيثبت حكم ما فعله في حق المكلفين لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21). خامسًا: ما فعله -صلى الله عليه وسلم- ولم تُعرف صفته الشرعية، ولكن عرف أن في الفعل قصد القربة كقيامه ببعض العبادات دون مواظبة عليها، فإن الفعل يكون مستحبًّا في حق الأمة، أما إذا لم يعرف في الفعل قصد القربة؛ فإن الفعل يكون دالًّا على إباحته في حق الأمة كالمزارعة والبيع ونحو ذلك. أما السنة التقريرية: فهي سكوته -صلى الله عليه وسلم- على إنكار قول أو فعل صدر في حضرته، أو في غيبته، وعلم به، قال بعض الصحابة قولًا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فسكت عليه ولم ينكره، أو فعل فعلًا بحضرته فسكت عليه ولم ينكره، أو قال بعضهم أو فعل في غيابه وبلغه أنه قال وفعل فسكت ولم ينكره، فهذا السكوت منه -صلى الله عليه وسلم- يدل على أن القول الصادر أو الفعل الصادر من الصحابة أو بعضهم ليس منكرًا ولا باطلًا؛ لأنه لا يجوز للرسول أن يسكت عن باطل أو منكر، فسكوته يدل على جواز الفعل والقول وإباحته. ومن أمثلة هذا النوع من السنة سكوته -صلى الله عليه وسلم- وعدم إنكاره للغلمان الذين كانوا يلعبون بالحراب في المسجد في يوم العيد، وكذلك سكوته -صلى الله عليه وسلم- عن الجاريتين اللتين كانتا تغنيان بغناء بعاث في بيته يوم العيد أيضًا، ومثل السكوت في الدلالة على جواز الفعل استبشاره -صلى الله عليه وسلم- به أو إظهار رضاه عنه أو الاستحسان له، بل إن هذا

أقسام السنة من حيث ورودها إلينا.

الرضا والاستحسان أظهر في الدلالة على جواز الفعل من مجرد سكوته صلى الله عليه وسلم. ويلاحظ هنا أن إباحة الفعل المستفادة من سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تعني أن الفعل لا يكون إلا جائزًا فقط، فقد يكون الفعل واجبًا بدليل آخر وعلى هذا فمجرد سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يفيد أكثر من إباحة الفعل، وقد يستفيد الفعل صفة الوجوب أو الندب من دليل آخر، هذه هي أقسام السنة من حيث ماهيتها أي: ذاتها تنقسم إلى سنة قولية وفعلية وتقريرية. أقسام السنة من حيث ورودها إلينا أما أنواع السنة من حيث ورودها إلينا أي: من حيث روايتها وهو ما يُعبَّر عنه بسند السنة، فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: سنة متواترة وسنة مشهورة وسنة آحاد، وهذا التقسيم عند الحنفية متواترة ومشهورة وآحاد، أما جمهور العلماء أو المحدثين؛ فالسنة عندهم قسمان: متواترة وآحاد؛ لأن المشهورة عند الجمهور هي من نوع الآحاد ولا يجعلونها قسمًا قائمًا بنفسه كما يفعل الحنفية. أولًا: السنة متواترة: ويمكن تعريفها بأنها التي رواها جمع كثير تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم من غير قصد التواطؤ عن جمع مثلهم، حتى يصل المنقول إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ويكون مستند علمهم بالأمر المنقول عنه -صلى الله عليه وسلم- المشاهدة أو السماع. وهذا التعريف قد تضمن شروط التواتر. متى يكون الخبر متواترًا؟

شروط التواتر هي: أن يكون الرواة للسنة جمعًا كثيرًا يمتنع تواطؤهم على الكذب أو وقوعه منهم من دون قصد حسب العادة، ولا يشترط للتواتر عدد معين، بل يعتبر ما يفيد العلم على حسب العادة في سكون النفس إليهم -أي: إلى الرواة- وعدم تأتّي التواطؤ على الكذب منهم، إما لفرط كثرتهم، وإما لصلاحهم ودينهم، ونحو ذلك، كما لا يشترط لتحقق التواتر أن يجمع الناس أو أن يُجمع الناس كلهم على التصديق به، بل ضابطه حصول العلم الضروري به، فإذا حصل ذلك؛ علمنا أنه متواتر وإلا فلا. الشرط الثاني: أن يكون الرواة في كل طبقة من طبقات الرواية بهذا الوصف الذي ذكرناه في الشرط الأول. الشرط الثالث: أن يكون مستند علم الرواة مستفادًا عن طريق المشاهدة أو السماع، ويترتب على هذا الشرط أمران: الأول: إذا لم يكن الرواة عالمين بالمخبر به بأن كانوا ظانين؛ فإن الشرط لا يتحقق وبالتالي لا يتحقق التواتر. والثاني: إذا كان علم الرواة مستندًا إلى أمر عقلي غير محسوس؛ فلا يتحقق التواتر، فإذا تحققت شروط التواتر أفاد الخبر اليقين، والعلم الضروري وهو الذي يُضطر إليه الإنسان؛ بحيث لا يمكن دفعه لأن الثابت بالتواتر كالثابت بالمعاينة، الخبر إذا بلغك عن طريق التواتر كأنك أنت الذي رأيت وكأنك أنت الذي سمعت، وعلى هذا فالسنة المتواترة مقطوع بصحة نسبتها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- دون أي شك، فتكون دليلًا من أدلة الأحكام، ومصدرًا تشريعيًّا لها بلا خلاف بين المسلمين.

والسنة المتواترة قد تكون قولية وقد تكون فعلية، والقولية المتواترة قليلة، والفعلية كثيرة، أما السنة المتواترة القولية؛ فهي نوعان: لفظي ومعنوي، فالنوع الأول: ما تواتر لفظه كقوله عليه الصلاة والسلام: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار))، فهذا بلفظه نقل إلينا بالتواتر كل من رواه رواه بهذا اللفظ. وأما التواتر المعنوي: فهو ما تواتر المعنى المشترك فيه دون تواتر لفظه يعني: اتفق الرواة على المعنى واختلفت ألفاظهم، فيكون هذا المتواتر متواترًا معنويًّا، ولا يلزم هذا النوع أن يكون أصحاب كل رواية على حدة قد بلغوا حد التواتر، ولكن المعنى المشترك يشترط فيه بلوغ حد التواتر باعتبار مجموع الروايات. ومثال هذا النوع: كون الأعمال مبناها النية، وأن اعتبار الأعمال بالنية، فهذا المعنى رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بصورة متواترة، إذ وردت به أخبار كثيرة تبلغ حد التواتر في دلالتها على هذا المعنى، وإن كان كل خبر لم يبلغ بنفسه حد التواتر، فمن هذا الأخبار المروية عنه -صلى الله عليه وسلم- ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))، هذا لفظ يدل على أن الأعمال مبناها على النية، لفظ تان ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله)) لفظ ثالث ((رُبَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)) هذه الأخبار الكثيرة دلت على أن اعتبار العمل إنما يكون بالنية، فهذا المعنى تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء في أخبار كثيرة، وإن اختلفت الألفاظ وتنوعت القضايا. أما السنة المشهورة على مذهب الأحناف فهي التي رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- واحد أو اثنان أي: عدد لم يبلغ حد التواتر، ثم تواترت في عصر التابعين، وعصر تابعيهم بأن كان رواتها جموعًا لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، فالسنة المشهورة إذن هي التي كانت في الأصل من سنن الآحاد؛ أي: ما نقلها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عددٌ دون عدد

التواتر، ثم اشتهرت، وتواترت في القرن الثاني والثالث، وهما عصرا التابعين وتابعي التابعين. ومن هذا التعريف يتضح لنا بجلاء أن السنة المشهورة غير مقطوع بصحة نسبتها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم، ولكنها مقطوع بصحة نسبتها إلى الراوي لها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الحنفية عنها: أنها تفيد ظنًّا قويًّا كأنه اليقين، وهو يسمى بعلم الطمأنينة بصحة نسبتها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم، وهي بمنزلة السنة المتواترة عند الحنفية من جهة لزوم العمل بها، وجعلها مصدرًا تشريعيًّا، ودليلًا من أدلة الأحكام ومن هذا النوع حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، وحديث تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها. أما سنة الآحاد: فهي ما رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدد لم يبلغ حد التواتر؛ وذلك في عصر التابعين وتابعيهم فهي ما ليست سنة متواترة ولا مشهورة على قول الأحناف، أو ما ليست متواترة على قول الجمهور، فالسنة عند الجمهور -كما ذكرنا- متواترة وآحاد، وعند الأحناف فصلوا بين المشهور والآحاد، وسنة الآحاد عند الجمهور تفيد الظن الراجح بصحة نسبتها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم، وتفيد العلم لا الظن عند الظاهرية وبعض أهل الحديث. ولكن؛ هل تعتبر سنة الآحاد مصدرًا من مصادر التشريع؟ الجواب: لا خلاف بين المسلمين أن سنة الآحاد حجة على المسلمين في وجوب العمل بها، والتقيد بأحكامها، وجعلها دليلًا من أدلة الأحكام، والبرهان على ذلك من وجوه عديدة نذكر منها: يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) والطائفة في اللغة تطلق على الواحد، فلولا أن خبر الواحد حُجة في العمل لما كان لإنذار من يتفقه في الدين فائدة.

ثانيًا: تواتر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إرسال أمرائه وقضاته ورسله وسُعاته إلى الآفاق، وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها، وتبليغ أحكام الشرع، وكان -صلى الله عليه وسلم- يلزم أهل النواحي قبول قول من يرسلهم إليهم، ولو لم يكن خبر الواحد حجة لما أمرهم بذلك. ثالثًا: إنّ العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه مع أنه ربما يُخبر عن ظنه، فالذي يُخبر بالسماع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق والقبول والعمل بموجب خبره. رابعًا: إننا مأمورون بالحكم بشهادة اثنين مع أنّ هذه الشهادة تحتمل الكذب، فلو كان العمل بها لا يجوز إلا بانتفاء احتمال الكذب بصورة قاطعة لما عملنا بها، فإذا وجب العمل بالشهادة مع احتمالها الكذب، فلأن يجب العمل برواية الآحاد عنه -صلى الله عليه وسلم- أولى. خامسًا: إجماع الصحابة في حوادث لا تُحصى على قبول خبر الواحد والعمل به، فأبو بكر مثلًا أعطى الجدة السدس؛ لورود الخبر بذلك، وعمر بن الخطاب ورَّث المرأة من دية زوجها لورود السنة بذلك وهي سنة آحاد، وأخذ الجزية من المجوس بسنة آحاد أيضًا، وهكذا فعل الصحابة الآخرون فيما بلغهم من أخبار الآحاد. ولكن، ما هي شروط العمل بسنة الآحاد؟ الجواب: أجمع المسلمون على أن سنة الآحاد حجة على الجميع يلزم اتباعها، وأنها من مصادر التشريع، إلا أنهم اختلفوا في الشروط اللازمة لذلك أي: في شروط وجوب العمل بها، واستنباط الأحكام منها، ويمكن رد اختلافهم إلى قولين:

القول الأول: إن السنة التي رواها العدل الثقات بأن توافر في الراوي شروط قبول روايته حسبما يشترط أصحاب هذا القول، على اختلاف فيما بينهم في هذه الشروط، واتصل سند الرواية بالرسول -صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحالة يجب العمل بهذه السنة واستنباط الأحكام منها، وعدها مصدرًا للتشريع، وهذا قول الحنابلة والشافعية والظاهرية والجعفرية، وبعض الفقهاء من المذاهب الأخرى، أما إذا لم يتصل السند بأن سقط من سلسلة الرواة الصحابي الذي روى الخبر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو المُسمى بالحديث المرسل؛ فقد اختلف أصحاب هذا القول في وجوب العمل به، فعند الظاهرية لا يكون حجة ولا يجب العمل به، ومذهب الشافعي الأخذ به بشروط منها: أن يكون من مراسيل كبار التابعين كابن المسيب، وأن يسند من جهة أخرى، أو يوافق قول الصحابي، أو يفتي بمقتضاه أكثر العلماء. ومذهب أحمد بن حنبل الأخذ بالمرسل والعمل به إذا لم يكن في الباب حديث متصل السند، فعند الإمام أحمد الحديث الضعيف أحسن من الأخذ بالرأي. القول الثاني: وأصحابه لم يكتفوا بكون الرواة عدولًا ثقاة، وإنما اشترطوا شروطًا أخرى لا تتعلق بسند الرواية، وإنما تتعلق بأمور أخرى حتى يترجح عندهم جانب صحة الحديث، ونسبته إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب هذا القول هم المالكية والحنفية، ونذكر فيما يلي بإيجاز شديد أهم شروطهم. أولًا: شروط المالكية لقبول سنة الآحاد: اشترط المالكية لقبول خبر الآحاد عدم مخالفته لعمل أهل المدينة، والحجة في ذلك عندهم أن عمل أهل المدينة بمثابة السنة المتواترة؛ لأنهم ورثوا العمل عن أسلافهم عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكأن عملهم بمنزلة الرواية والسنة المتواترة، والمتواتر يتقدم على خبر الآحاد، وعلى هذا الأساس لم يأخذ الإمام مالك بحديث: ((المتبايعان بالخيار حتى يتفرقا))،

فقد قال مالك عن هذا الحديث: ليس لهذا عندنا -يعني: عند أهل المدينة- حد معروف ولا أمرٌ معمول به. كما اشترطوا ألا يُخالف خبر الآحاد الأصول الثابتة، والقواعد المرعية في الشريعة وعلى، هذا الأساس لم يأخذوا بخبر المصرَّاة، وهو ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا تصرّوا الإبل والغنم)) ومعناه: ترك اللبن في الضرع عند إرادة البيع، فيُخدع المشتري حين يرى الضرع مليئًا، ويظن أن هذه هي عادة البهيمة، وإذا به بعد حلبها تعود إلى عادتها وينقص لبنها، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تصروا الإبل والغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها)) إذا اشتراها مصراة ثم حلبها فوجد الفرق فهو بخير النظرين إن شاء أمسك وأمضى البيع، وإن شاء ردَّها على صاحبها بائعها وصاعًا من تمر الصاع من تمر مقابل اللبن الذي أخذه. فرد المالكية هذا لأن هذا الخبر في نظرهم قد خالف أصل الخراج بالضمان، وأصل أن متلف الشيء إنما يغرم مثله إن كان مثليًّا وقيمته إن كان قيميًّا، فلا يضمن في إتلاف المثل جنسًا غيره من طعام أو عروض، وكذلك لم يأخذوا بخبر إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم، قبل قسمة الغنائم بحجة مخالفة الأصل رفع الحرج والمصلحة المرسلة، فقد كان يكفي أن يقال لهم: إن ما صدر عنكم لا يجوز، ثم يؤذن لهم بالأكل منها، فإتلاف المطبوخ إفساد منافي المصلحة مما يدل على عدم صحة الخبر. هذه الشروط التي اشترطها المالكية للعمل بسنة الآحاد. أما الحنفية فقد اشترطوا لقبول سنة الآحاد ألا تكون السنة متعلقة بما يكثر وقوعه؛ لأن ما يكثر وقوعه لا بد أن ينقل عن طريق التواتر أو الشهرة؛ لتوافر الدواعي للنقل، فإذا لم ينقل على هذا الوجه ونقل عن طريق الآحاد؛ دلّ ذلك

على عدم صحة السنة، ومثال ذلك رفع اليدين في الصلاة؛ فإنه جاء عن طريق الآحاد مع عموم الحاجة إليه لتكرار الصلاة في كل يوم فلا يقبل. ثانيًا: ألا تكون السنة مخالفة للقياس الصحيح وللأصول والقواعد الثابتة في الشريعة، وهذا إذا كان الراوي غير فقيه؛ لأنه إذا كان كذلك فقد يروي السنة بالمعنى لا باللفظ، وهو أمر كثير الوقوع؛ فيفوته شيء من معاني الحديث لا يتفطن له، فلا بد من الاحتياط ألا يقبل الحديث في هذه الحالة إذا كان مخالفًا للأصول العامة، ومقتضى القياس الصحيح. على هذا الأساس لم يأخذ الحنفية أيضًا بحديث المصراة كما فعل الإمام مالك؛ لأن راوي الحديث وهو أبو هريرة عندهم غير فقيه، كما أن هذا الحديث خالف الأصول والقواعد المقررة كقاعدة الخراج بالضمان التي جاءت بالسنة، وهذه القاعدة تقتضي بأن غلة العين تكون ملكًا لمن يكون عليه الضمان عند هلاك العين، وعلى هذا يجب أن يكون اللبن للمشتري؛ لأن العين في ضمانه كما أن هذا حديث خالف قاعدة الضمان القاضية بأن الضمان يكون بالمثل إذا كان المتلف مثليًّا. ثالثًا: اشترط الأحناف لقبول سنة الآحاد ألا يعمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه، لأن عمله يدل على نسخه أو تركه لدليل آخر، أو أن معناه غير مراد على الوجه الذي روي فيه، ويمثلون لذلك بحديث: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعًا، إحداهن بالتراب))، فإنهم لم يأخذوا به؛ لأن راوي الحديث كان يغسل الإناء ثلاثًا إذا ولغ فيه الكلب ولا يغسله سبعًا فردوا الحديث لترك الراوي العمل به. والقول الراجح في مسألة قبول خبر الآحاد، نقول فيه: مع تسليمنا بأن الحنفية والمالكية ما اشترطوا هذه الشروط إلا ليطمئنوا على صحة السنة ونسبتها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن

قولهم مرجوح صحيح أنهم أرادوا أن يحتاطوا للسنة إلا أن قولهم مرجوح، وقول غيرهم هو الراجح؛ لأن السنة متى صحت روايتها بأن رواها العدول الثقات الضابطون لزم اتباعها والأخذ بها واستنباط الأحكام منها، سواء وافقت عمل أهل المدينة أم خالفته، وسواء اتفقت مع الأصول المقررة ومقتضى القياس أم لم تتفق، وسواء عمل بها راويها أو لم يعمل، وسواء كانت في أمر يكثر وقوعه أو يقل؛ لأن أهل المدينة جزء من الأمة لا كلها، والعبرة بما يرويه الراوي لا بما يعمل به؛ إذ ربما يعمل بخلاف ما روى خطأ أو نسيانًا أو تأويلًا. فهو بشر غير معصوم. وكون الأمر الذي جاءت به السنة كثير الوقوع لا تأثير له في قبول أو رد أخبار الآحاد؛ لأن الحاجة لمعرفة حكم ما يقل وقوعه كالحاجة لمعرفة حكم ما يكثر وقوعه، وكلاهما قد ينقله الآحاد فضلًا عن أن الكثرة أو القلة لا ضابط لها في هذا الباب. أما التشبث بمخالفة سنة الآحاد للأصول فغير مقنع، لأن السنة هي التي تؤصّل الأصول، فإذا جاءت بحكم يخالف الأصول الثابتة فإنها تعتبر أصلًا قائمًا بنفسه يعمل في دائرته، كما في السلم "بيع السلم" مع أنه بيع معدوم والاستقراء دلَّ على أن المردود من سنة الآحاد الصحيحة السند بحجة المخالفة للأصول إنه في الحقيقة موافق للأصول لا مخالف لها، فحديث المصراة الذي ردّوه بحجة المخالفة للأصول غير مخالف للأصول التي قالوها، فقاعدة الخراج بالضمان لا تعمل هنا؛ لأن اللبن المصَّرى لم يحدث بعد الشراء، وإنما كان قبله، فليس هو من قبيل الغلة التي تحدث عند المشتري حتى يستحقه، وقاعدة الضمان لا تعمل هنا

أيضًا؛ لتعذّر معرفة مقدار اللبن الحادث عند المشتري لاختلاطه باللبن الذي كان قبل الشراء، فلا يمكن الضمان بالمثل، وإنما صار الرد بصاع من تمر؛ لأن التمر أقرب المثليات إلى اللبن بجمع أن كلًّا منهما مكيل ومطعوم ومقتات، فأين المخالفة للقياس والأصول. أما التشبث بعدم فقه الراوي؛ فقول غير مستساغ، لأن رواة السنة عندهم من الفقه لملازمتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يكفي للاطمئنان بصحة نقلهم، وأنه لم يفتهم شيء من معناه؛ فضلًا عن معرفتهم بأساليب العربية وبيانها، وعلى هذا فقول الجمهور في قبول سنة الآحاد هو الراجح، فكل سنة صحت بأن رواها الثقات الضابطون وجب المصير إليها وعدم الالتفات إلى ما خالفها، ومن خالفها كائنًا من كان؛ لأن الله تعبدنا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل للوصول إليها إلا عن طريق الرواة، فإذا ثبت عندنا ضبطهم وعدالتهم، أو ترجح ذلك كان دليلًا على صحة نسبتها للرسول -صلى الله عليه وسلم- إما على سبيل العلم القاطع أو الظن الراجح، وكلاهما يوجبان العمل بها شرعًا. إذا تبين ذلك وعرفنا أن السنة بقسميها المتواترة والآحاد حجة في العقائد والأحكام نقول: ما هي الأحكام التي جاءت بها السنة؟ الأحكام التي جاءت بها السنة أنواع: النوع الأول: أحكام موافقة لأحكام القرآن ومؤكدة لها، ومن هذا النوع النهي عن عقوق الوالدين، وعن شهادة الزور، وقتل النفس، فالقرآن نهى عن عقوق الوالدين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن عقوقهما، القرآن عن شهادة الزور، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها، وهكذا.

النوع الثاني: مبينة لمعاني القرآن ومفصلة لمجمله، ومن ذلك السنة التي بينت مناسك الحج، ونصاب الزكاة ومقدارها، ومقدار ما يقطع فيه السارق، ونحو ذلك مما سبقت الإشارة إليه. النوع الثالث: قد تأتي السنة بأحكام مقيدة لمطلق القرآن أو مخصصة لعامه. النوع الرابع: حُكم سكت عنه القرآن وجاءت به السنة؛ لأن السنة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في هذا الباب يدل على ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) أي: أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)). ومن الأنواع التي بين النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم تأت في القرآن تحريم الحمر الأهلية، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، والحكم بشاهد ويمين، وجواز الرهن في الحضر، ووجوب الدية على العاقلة، وميراث الجدة ونحو ذلك. ما هي دلالة السنة على الأحكام؟ عرفنا أن السنة من حيث ورودها قد تكون قطعية وقد تكون ظنية أما من جهة دلالتها على الأحكام؛ فقد تكون ظنية أو قطعية، فهي كالقرآن من هذه الجهة من حيث الدلالة على الأحكام، فتكون الدلالة ظنية إذا كان اللفظ يحتمل أكثر من معنى أي: يحتمل التأويل، فإذا لم يحتمل التأويل تكون الدلالة قطعية، فمن القطعية قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((في خمس من الإبل شاة)). فلفظ خمس يدل دلالة قطعية على معناه، ولا يحتمل غيره، فيثبت الحكم لمدلول هذا اللفظ، وهو وجوب إخراج شاة زكاة عن هذا المال. ومن الظنية قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) فهذا حديث يحتمل التأويل، فيجوز أن يحمل على أن الصلاة لا تكون صحيحة مجزية إلا بفاتحة

الكتاب، ويحتمل أن يكون المراد أن الصلاة الكاملة لا تكون إلا بفاتحة الكتاب ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) يحتمل نفي الصحة ونفي الكمال، وبالتأويل الأول نفي الصحة أخذ الجمهور، وبالتأويل الثاني نفي الكمال أخذ الأحناف، وقالوا بعدم وجوب قراءة "الفاتحة"، وتمسكوا بعموم قوله -سبحانه وتعالى-: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (المزمل: 20). لذلك كله وغيره تلقت الأمة السنة بالقبول، وأجمعت على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، وأنه لا غنى أبدًا للمسلمين عن السنة ولو بالقرآن، وأخبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة والتابعين في ذلك كثيرة جدًّا، ومن ذلك قول خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: "لست تاركًا شيئًا مما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمله أن أزيغ" يعني: مخافة أن أزيغ وأضل. ولذلك لما امتنع نفر من المسلمين عن أداء الزكاة إلى أبي بكر متأولين قول الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشكل الأمر على نفر من المسلمين فامتنعوا عن أداء الزكاة قائلين: أمر الله رسوله بأخذها، وقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يحق لأحد أن يأخذها بعده، فهمَّ أبو بكر -رضي الله عنهم- بقتالهم، فقال عمر مراجعًا فيما هم به من قتالهم كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله))؟ فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليها".

ومن ذلك قول أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- الذي طار في الآفاق واشتهر عند الجميع؛ عند العامة فضلًا عن الخاصة، حين أراد أن يُقبّل الحجر الأسود، قال: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك". وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه قعد على المقاعد -يعني: مقاعد الوضوء- فتوضأ ثم دعا بطعام ممن مسته النار فأكل منه، ثم قام إلى الصلاة فصلى ثم قال: "قعدت مقعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكلت طعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وصليت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعن علي -رضي الله عنه- قال: كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح ظاهر القدمين. وعنه -رضي الله عنه- أنه قال في القيام للجنازة: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقمنا وقعد فقعدنا، يعني: أن الأمر بالقيام للجنازة عند مرورها منسوخ، وقد قمنا حين قام، وقعدنا لما قعد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية.

الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية.

الثقافة الدينية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (الثقافة التي يحتاج إليها الداعية) الثقافة الدينية إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: إن أول ما يلزم الداعية المسلم من عُدّة فكرية أن يتسلح بثقافة دينية ثابتة الأصول، باثقة الفروع، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ونعني هنا بالثقافة الدينية الثقافة التي محورها دين الإسلام، مصادره وأصوله وعلومه المتعلقة به المنبثقة عنه، وهذا أمر منطقي فإن الداعية الذي يدعو إلى الإسلام لا بد أن يعرف ما الإسلام الذي يدعو الناس إليه، ولا بد أن تكون هذه المعرفة معرفة يقينية عميقة لا سطحية مضطربة، ولهذا كان لا بد أن يستمد هذه المعرفة عن الإسلام من مصادره الأصلية، ومن ينابيعه المصفّاة، بعيدًا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وبهذا يكون الداعية على بينة من ربه، وتكون دعوته على بصيرة، كما عرض الله -عز وجل- لرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه واهتدى بهداه قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) لا بد للداعية إذًا أن يقف على أرض صُلبة من دراسة العلوم الإسلامية دراسة وعي وهضم وتذوق، ثم يُخرج منها شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس. ومما لا شك فيه: أن المصدر الأول للإسلام هو القرآن الكريم؛ فهو إذًا المصدر الأول للثقافة الإسلامية، فكل تعاليم الإسلام يجب أن ترجع في أصولها إلى القرآن؛ سواء في ذلك العقائد والمفاهيم، والقيم والموازين والعبادات والشعائر والأخلاق والآداب والقوانين والشرائع، كل هذه قد وضع القرآن الكريم أسسها، وأرسى دعائمها وجاءت السنة فبينت وفصلت، وأقامت عليها بنيانًا شامخ لا تنال منه الليالي والأيام.

وقد حوى القرآن الكريم من حقائق الغيب وحقائق النفس وحقائق الحياة، وحقائق الاجتماع الإنساني، وبيَّن من سنن الله تعالى، ومن آياته في الأنفس والآفاق ما لا يستغنى بشر عن معرفته والاهتداء به، وقد صاغ ذلك كله في أسلوب معجز هو نور من الكلام أو كلام من النور، لا يوصف إلا بأنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} (هود: 1) وصفه منزله بأنه نور، والنور من طبيعته أن يضيء ويهدي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء: 174)، كما وصفه بأنه روح، والروح من طبيعتها أن يحرك ويحيي قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52). ولهذا كان شأن المؤمنين المهتدين بالقرآن أن يُوصفوا بالحياة وبالنورانية معًا؛ لأنهم انتصروا على الموت وعلى الظلام جميعًا قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام: 122)، فعلى الداعية أن يعنى كل العناية وأن يهتم كل الاهتمام بالقرآن الكريم حفظًا ودراسة، وترتيلًا ووعيًا، وفهمًا، وتعليمًا، ودعوة. ينبغي للداعية أن يحفظ من القرآن الكريم قدر ما يستطيع بل يحسن للداعية أن يحفظ القرآن كله، ويستظهره متى تيسر له أسباب ذلك؛ ليكون أقدر على استحضاره والاستشهاد به في كل مناسبة ممكنة، فالقرآن ذخيرة لا تنفد، ومعين لا ينضب لامتداد الدعاة، ومن اللازم للحافظ وغير الحافظ دوام التلاوة لكتاب الله -عز وجل- بخشوع وتأمل وتدبر، تنفتح معه أقفال القلوب وتنشرح الصدور لما جاء به من الحق، وتقتبس العقول منه أنور المعرفة، وتجتني ثمار الحقائق، ودوام هذه التلاوة مع التفهم والتدبر يجعل الداعية متمكنًا من استحضار الشواهد القرآنية التي يريد أن يؤيّد به فكرته، ويمنحها نسبة إلهية.

بل إن مما يلزم الداعية الموفق أن يُحسن تلاوة القرآن بإتقان وترتيل كما أمر الله، وأن يدرس من أحكام التجويد ما يصحح به قراءته حتى يتلوه بخشوع وتأثر وحزن، فإن وجد بكاء بكى، وإلا تباكى. والقرآن الكريم له خصائصه؛ فينبغي لمن يريد أن يفهم القرآن أن يقرأه، وهو يعي خصائصه ومميزاته، ويدركها بعقله وقلبه، من أولى هذه الخصائص: أنه كلام الله تعالى خالصًا غير مشوب بأوهام البشر، ولا بأهواء البشر، ولا بتحريفات البشر، وانحرافات البشر، هو كله من الله مائة في المائة من ألفه إلى يائه، ليس لجبريل -عليه السلام- منه إلا النقل، ولا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- منه إلا التلقي والحفظ، ثم التبليغ والبيان، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 92 - 95). ومن خصائص القرآن التيسير، فهو كتاب يسر الله تعالى تلاوته، ويسر فهمه، ويسر العمل به لمن أراد، لا يكلف الإنسان شططًا، ولا يرهقه من أمره عسرًا قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17)، قال بعض السلف: فهل من طالب علم فيُعان عليه، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الدخان: 58). وكل هذا يوجب على الداعية أن يعرض القرآن سهل ميسر كما أنزله الله، ولا يضعه في إطار من الألغاز، والمعميات والتكلفات التي تُخرجه عن طبيعته المُيَسَّرة، والمُيَسِّرة كذلك، ومن خصائص القرآن أنه كتاب معجز أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يتحدى به المشركين من العرب أن يأتوا بحديث مثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة مثله، أو من مثله، فغلبوا وانقطعوا، وسجَّل القرآن عليهم ذلك في جلاء وصراحة

فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88). ومن خصائص القرآن أنه كتاب الخُلود ليس كتاب جيل ولا كتاب عصر، ولا كتاب أجيال أو أعصار محدودة، بل هو الكتاب الخاتم للرسالة الخاتمة، ولهذا تكفَّل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، وقال {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42)، ومن خصائص القرآن الشمول، فكما أنه كتاب الزمن كله فهو كتاب الدين كله، جمع أصول الهداية الإلهية، والتوجيه الرباني في العقائد والشعائر والآداب والأخلاق، كما جمع أصول التشريع الإلهي في العبادات والمعاملات، وشئون الأسرة وعلاقات المجتمع الصغير والكبير، المحلي والدولي حتى إن أطول آية في القرآن أُنزلت لتنظم شأنًا من شئون الحياة الاجتماعية، وهي كتابة الدين. وإلى جانب هذا هو كتاب الإنسانية كلها، وكتاب الحياة كلها، ولهذا جعله الله للناس وللعالمين كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} (البقرة: 185)، وقال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 104) فليس هو كتاب لجنس دون جنس، ولا لوطن دون وطن، ولا طائفة من الناس. أودّ أن أنبه الداعية إلى عدة أمور: منها ضرورة العناية بالقصص القرآني وما اشتمل عليه من عبر وعظات وأسرار، وحكم بالغة، وعليه أن يعلم أن القرآن الكريم حين يقصّ القصص لا يهتَمُّ بذكر الأشخاص والبلدان، والتواريخ، ولا يهتم بالتفصيلات المملة؛ إنما يهتم برءوس العبر، ورسم ملامح الشخصيات التاريخية، واتجاهات الأحداث ونتائجها قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ

عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111)، ولما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 83) أي: لن أسرد الوقائع والأحداث سردًا، وإنما سأتلوا عليكم من هذه القصة ما فيه الذكر والعبرة والمنفعة والقصص في القرآن الكريم كثير جدًّا، وقد صنفت فيه مصنفات وألفت فيه مؤلفات. كذلك على الداعية أن يعنى بالنماذج القرآنية التي تصور لنا الشخصية الإنسانية في مختلف المجالات والأحوال، كنموذج الغني الشاكر في شخصية سليمان بن داود عليهما السلام، وكنموذج الحاكم أو الملك العادل في شخصية ذي القرنين رضي الله عنه، وكنموذج المبتلى الصابر الراضي بالقضاء في شخصية أيوب عليه السلام، وكنموذج الشاب المتعفف عن الحرام بالرغم من فتوته وجماله ونضرة شبابه وقوة الدواعي كيوسف عليه السلام، وكنموذج الشاب الممتثل لأمر الله -عز وجل- وإن أودى بحياته كإسماعيل عليه السلام، وكنموذج الداعية صاحب الرسالة الذي يُحكم عليه بالسجن ظلمًا فلا ينسيه الظلم ولا تنسيه الظلمة السجن أن يقوم بواجب الدعوة إلى الله مع السجناء كشخصية يوسف -عليه السلام. نماذج كثيرة للشخصية الإنسانية امتلأ بها القرآن الكريم ينبغي للداعية أن يُعنى بها. ومما ينبغي للداعية أن يتحرَّاه ويَحرص عليه ويُحكمه حسنُ الاستدلال بالقرآن وآياته على ما يريد تقريره، أو تثبيته بالأحكام، وتعاليم، وأفكار؛ فإنه إذا أحسن الاستدلال بالنص القرآني ووضعه في موضعه أزاح كل شبهة، وقطع كُل تعلة، وأخرص كل معارض، فلا دليل بعد القرآن ولا حديث بعد كلام الله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا} (النساء: 122). كما يجب على الداعية أن يحضر ويحذر من

معرفة علوم القرآن.

الانحراف والتحريف، وسوء التأويل لآيات الكتاب، وحملها على معان تُخرجها عما أرادها الله بها، وهذا نوع من التحريف الذي ذمَّ الله عليه أهل الكتاب، فقد حرفوا كتبهم لفظيًّا بالزيادة والنقصان، ومعنويًّا بسوء التأويل. أما القرآن؛ فهو محفوظ بفضل الله في الصدور والمصاحف لا سبيل إلى تحريفه تحريفًا لفظيًّا، ولكن قد يدخل في تفسيره سوء التأويل وهو التحريف المعنوي، فليكن الداعية من ذلك على حذر، كما أن على الداعية أن يبتعد عن اتباع المتشابهات، وعليه بالمحكمات، فإن الله سبحانه ذمَّ الذين تركوا المحكمات واتبعوا المتشابهات قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7). معرفة علوم القرآن ومما يلزم الداعية معرفته: علوم القرآن وهي بمثابة مدخل لا بد منه لدراسة القرآن ذاته، وقد أُلفت في علوم القرآن كتب جامعة قديمًا وحديثًا، فمن كتب القدماء (البرهان في علوم القرآن) للزركشي، و (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي، ومن الكتب الحديثة (مناهل العرفان في علوم القرآن) للزرقاني، و (مباحث في علوم القرآن) للدكتور صبحي الصالح، والشيخ مناع القطان، وكثير غيرها مما أُلّف لطلاب الكليات الإسلامية، كما أُلفت كتب قديمة وحديثة في بعض أنواع من علوم القرآن مثل الكتب التي تبحث في إعجاز القرآن وما يتعلق بالتفسير، مثل رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير، ونحو ذلك.

ولا ريب أن أهم علوم القرآن هو التفسير الذي يُعين على فهم المراد من كلام الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، وقد دُوّن في تفسير القرآن مئات ومئات من الكتب منها ما فُقد ومنها ما لم يُفقد، وهذا الذي بقي منه ما طُبع ومنه ما يزال مخطوطًا، ولا يحسن للداعية أن يكتفي بكتاب واحد منها، ويهمل سائرها؛ فإن لكل منها مزية لا توجد غالبًا عند غيره، فالأولى أن ينهل الداعية منها كلها ما استطاع، وأن يقتبس من كل كتاب خير ما فيه، ولُبّ ما يتميز به، وأن يحترز مما فيه من أهواء أو شطحات. وهذه وصايا للداعية وهو يطالع كتب التفسير: الوصية الأولى: ضرورة الإعراض عن الحشو والفضول والاستطراد الذي انتفخت به بطون كتب التفسير من الاستغراق في المباحث اللفظية، أو المسائل النحوية، والنكات البلاغية، والتطويل في المجادلات الكلامية، والمخالفات الفقهية، وغير ذلك من ألوان الثقافات التي شغلت حيزًا ضخمًا من كتب التفسير، حتى حجبت قارئها عن إدراك أسرار كلام الله تعالى، وهو الذي أُلفت كتب التفسير من أجله مما جعل بعضهم يقول عن (التفسير الكبير) للرازي جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك حُكي عن بعض المتطرفين أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير، ولا ريب أن هذه الكلمة غلو من قائلها، ففي الكتاب لفتات تفسيرية رائعة لا تجدها في غيره، ولكن استطراداته الطويلة المجيدة في شتى العلوم ومجالاته الواسعة مع أرباب المذاهب الكلامية والفقهية قللت من الإفادة بالكتاب. كذلك على الداعية أن يَحذر من الإسرائيليات، وأن يبتعد عنها قدر استطاعته، وعليه أيضًا أن يحذر من الروايات الضعيفة فضلًا عن الموضوعة، فهناك كتب

كثيرة امتلأت بالأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة التي قد تطعن في القرآن وفي النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن سبقه من الأنبياء، فليكن الداعية وهو يطالع كتب التفسير على حذر من هذه الروايات الضعيفة والموضوعة. كما أن عليه أن يحذر الأقوال الضعيفة بل الفاسدة في بعض الأحيان، وهي أقوال صحيحة النسبة إلى قائليها من جهة الرواية، ولكنها سقيمة أو مردودة من جهة الدراية، هذا هو المصدر الأول لثقافة الداعية وهو القرآن الكريم، وما ينبغي للداعية تجاه القرآن الكريم وعلومه. أما المصدر الثاني لثقافة الداعية فهو السنة: فالسنة هي شارحة القرآن والمبينة له، والمفصلة لما أُجمل فيه، وفيها يتمثل التفسير النظري والتطبيق العملي لكتاب الله -عز وجل- فقد قال الله تعالى لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} (النحل: 44)، وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 64). ولقد سئلت أمنا عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خُلُقه القرآن". والسنة المصدر الثاني للثقافة الدينية للداعية المراد بها: أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريراته وأوصافه وسيرته، فهذه السنة بهذا الشمول هي سجل حافل لحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجهاده في سبيل دعوته، حوت من جوامع الكلم وجواهر الحكم وكنوز المعرفة وأسرار الدين، وحقائق الوجود، ومكارم الأخلاق وروائع التشريع، وخوالد التوجيه، ودقائق التربية، وشوامخ المواقف، وآيات البلاغة ثروة طائلة هائلة لا تنفد على كثرة الإنفاق، ولا تبلى جدتها بكرّ الغداة ومرّ العشية. ولا يستغني داعية يريد أن يحدث أو يدرس أو يحاضر أو يخطب أو يكتب عن الرجوع عن هذا المصدر الغني، والمنهل العذب؛ ليستقي منه بقدر ما يتسع

واديه، فيرتوي ويروي. وقد صور النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بعثه الله به من الهدى والعلم وموقف الناس من الاستفادة منه والإفادة به تصويرًا بليغًا معبرًا؛ فيما رواه الشيخان عن أبي موسى مرفوعًا قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصابوا طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل ما فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل ما لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). وكتب السنة -والحمد لله- كثيرة جدًّا، ولكن ينبغي للداعية أن يقدم منها ما هو الأهم منها: كالكتب الستة، ومسند الدارمي، وموطأ مالك، ومسند أحمد -رضي الله عنهم أجمعين- وثمَّت كتب أخرى متخصصة هدفها تجميع نوع معين من الأحاديث كأحاديث الأدعية، والأذكار وما يتعلق بها كـ (الأذكار للنووي) و (الكلم الطيب) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهناك أحاديث الآداب والفضائل وما يتعلق بها كـ (الأدب المفرد) للبخاري، و (شعب الإيمان) للبيهقي، و (رياض الصالحين) للنووي، وهناك كتب جمعت الأحاديث التي تضمن الترغيب والترهيب، وكتاب الحافظ المنذري، وهناك كتب جمعت أحاديث الأحكام الفقهية كـ (عمدة الأحكام) للمقدسي، و (الإلمام) لابن دقيق العيد، وغير ذلك. وإلى جانب هذه الأنواع من الكتب توجد الشروح وهي كتب جد نافعة، ولا يستغني عنها داعية ففيها من الفوائد الحديثية والفقهية والأصولية واللغوية والأدبية والتاريخية والأخلاقية ما لا يزهد فيه ذو عقل، فهي مفاتيح لمن أراد أن يفتح مغاليق ما أُشكل من الأحاديث أو بدا تعارضه في الظاهر، وهي مصابيح تنير الطريق لمن يريد معرفة ما تضمنه الأحاديث من أحكام وآداب وتشريع

وتوجيه. ولا يسع عالمًا أن يُعرض عن هذه الثروة، ويبدأ وحده من جديد، فهذا منافٍ لمنطق العلم ومنطق العقل ومنطق التاريخ. من هذه الكتب كتب الشروح شروح البخاري لابن حجر وللعيني والقسطلاني، وشروح مسلم وأبرزها النووي، وشروح أبي داود كـ (معالم السنن)، و (تهذيب السنن)، و (عون المعبود)، وشروح الترمذي كـ (العارضة)، و (التحفة)، وشروح الموطأ كـ (المنتقى)، و (تنوير الحوالك)، وشرح المسند في (الفتح الرباني)، وشرح (المشكاة المصابيح) المسمى (مرقات المفاتيح)، وشرح (الجامع الصغير)، وشرح (رياض الصالحين)، وشرح (الأربعين النووية)، وغير ذلك من كتب الشروح. كما ينبغي للداعية أن يهتم بكتب الغريب، وهي التي تُعنى بشرح المفردات والجمل الغريبة في الحديث مثل: (غريب الحديث) لأبي عبيد، و (الفائق في غريب الحديث) للزمخشري، و (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير، وهو موسوعة جليلة، و (مشارق الأنوار) للقاضي عياض، لكن أيضًا كما وجهنا التوصيات للداعية، وهو يقبل على التفسير كذلك ونوجه النصائح والتوصيات للداعية، وهو يهتم بالسنة وكتبها، فنقول: مما ينبغي للداعية أن يُعنى به في مجال السنة أن يهتم بالسيرة النبوية، فإن السيرة النبوية هي الناحية العملية من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي المفسرة لكل ما كان في القرآن من العبادات العملية، والأخلاق الحميدة التي دعا إليها الإسلام، فلقد تمثَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل خلق حميد، وبكل طاعة وعبادة أمر الله -تبارك وتعالى- بها في القرآن؛ فعلى الداعية أن يظهر شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتكون المثل الأعلى في العبادة لله، وفي حسن المعاملة مع عباد الله، والحمد لله أُلفت كتب في السيرة كثيرة ومن أشهرها (سيرة ابن هشام)، و (الروض الأنف)، و (إمتاع الأسماع)، و (السيرة الحلبية)، ونحو ذلك.

لكن لا بد من التذكير بأن للسيرة مصادر أخرى فأعظمها هو القرآن الكريم، وتفاسيره، وثانيها كتب الحديث وكتب الشمائل والهدي النبوي، وكتب التاريخ العام، وكتب دلائل النبوة، وما نبهنا عليه في شأن القرآن من العناية بجمع الآيات في الموضوع الواحد ومحاولة تصنيفها وتقسيمها على أجزاءه، وعناصره ننبه عليه هنا أيضًا فيما يتعلق بالأحاديث، وعلى الداعية وهو يبلغ السنة أن يحذر من سوء الفهم للأحاديث، وأن يحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وأن يحذر من القصص الباطلة، وأن يحذر من حملة التشكيك التي تتطعن في السنة وتزهد فيها، التي قام بها المستشرقون وأذنابهم. على الداعية أن يكون على حذر من هذه الحملة، وأن يقف كالجبل الشامخ يذبّ عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينافح عنها، ويبين منزلتها في الدين. وعلى الداعية أيضًا أن يتجنب الأحاديث التي تُشكّل على جمهور الناس، ولا تسيغها عقولهم وثقافاتهم؛ لأن لها تفسيرات وتأويلات قد لا يفهمونها، وربما كانت أعلى من مستواهم، فليس من فقه الداعية أن يتلو على مسامع الناس هذه الأحاديث بغير ضرورة تقتضيها، ولا مناسبة توجبها، بل الداعية الفقيه هو الذي يُعنى بالأحاديث التي لا صلة بواقع الناس ويتحرى البعد عن المتشابهات والمشكلات، وما لا تبلغه عقول الناس، وعليه أيضًا أن يحذر من التفسيرات الباطلة لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يهتم بمعرفة فقه الحديث وأحكامه، كما فهمها السلف الصالح ودوّنها لنا في شروح السنة التي أشرنا إليها سابقًا. ومن المهم للداعية بعد الاهتمام بالقرآن والسنة أن يهتم بعلم الفقه بحيث يعرف أهم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والآداب، وذلك مهم للداعية من نواحي عدة:

أولًا: ليستطيع أن يجيب السائلين عن الحلال والحرام، وشئون العبادة، والأسرة، ونحوها فإنما يسألونه عما يحتاجون إليه في عبادتهم لربهم، وفي معاملة بعضهم بعضًا؛ فلا بد من معرفة الفقه، ولتمكنه هذه المعرفة من تصحيح ما يقابله من أخطاء، وتقويم ما يواجههم من انحرافات في ضوء الأحكام الشرعية، فإذا رأى بعض البدع الفاشية أو المنكرات السائدة أو الأخطاء الدينية الشائعة؛ واجهها بعلم وفقه لا بمجرد غضب وعاطفة. كما أننا نوصي الداعية في هذا المجال أن يحرص على ربط الأحكام بأدلتها من الكتاب والسنة، وما أرشد إليها من اعتبارات أخرى كالإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان، وغيرها من أدلة ما لا نص فيه، والفقهاء قد عرفوا الفقه بأنه معرفة الأحكام الشرعية المأخوذة من أدلتها التفصيلية؛ فلا فقه إلا بدليل على أن الدليل يكسو الحكم أو الفتوى نورًا وجمالًا، ويمكنُ للداعية أن ينتفع بكتب فقه الحديث مثل (الإحكام) لابن دقيق العيد و (نيل الأوطار) للشوكاني، و (سبل السلام) للصنعاني، و (الروضة الندية) لصديق حسن خان، وأن ينتفع بالكتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم وغيرهما. ومثل ذلك كتب الفقه التي تعنى بالدليل والترجيح ومناقشة الآخرين كـ (المغني) لابن قدامة، و (المجموع) للنووي، و (الاستذكار) لابن عبد البر، و (المحلى) ابن حزم، وغير ذلك. وإذا كان الداعية ملتزمًا بمذهب من المذاهب الفقهية المتبوعة فلا يمنعه هذا من التعرّف على أدلة مذهبه؛ ليطمئن قلبه، ولا مانع من ترك مذهبه في بعض المسائل التي لا يجد عليها دليلًا، أو يجد عليها دليلًا ضعيفًا لا ينتهض للاحتجاج به، ولا يجوز للداعية أن يدع السنة الصحيحة الصريحة بحجة تقيده بمذهبه كما

يفعله بعض الناس، كما يحسن للداعية أن يتعرف على المذاهب الأخرى وبخاصة التي يتبعها بعض من يدعوهم، فإن كان مالكيًّا وهو في بيئة حنبلية، أو حنبليًّا وهو في بيئة حنفية ومثل ذلك؛ فعليه أن يهتم بمعرف مذاهب الذين يدعوهم، وعليه أن يذكرهم بأن كل إمام من أئمة المذاهب قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". فلا يجوز للمسلم أن يتقلد مذهب ما فيجعله كالقرآن لا يخرج عنه قيد أُنملة، هذا لا يجوز أبدًا؛ بل على الداعية أن يدور مع الدليل حيث دار، وعلى العامي أن يتبع مفتيه فيما يفتيه به، كما ينبغي للداعية أن يقتضي بالقرآن والسنة في تعليل الأحكام، وبيان حكمها وثمراتها في الأنفس والحياة، وربطها بالفلسفة العامة للإسلام حتى تقع من الناس موقع القبول. وعلى الداعية أن يحذر من المبالغة في تعليل العبادات بأمور دنيوية وربطها بها ربط العلة بالمعلول مع الغفلة عن حقيقة كبيرة يجب التنبيه عليها، وهي أن العبادات مطلوبة طلب الغايات والمقاصد لا طلب الأدوات والوسائل؛ فهي مرادة لذاتها بغض النظر عما وراءها من منافع وثمرات، بل هي الغاية من خلق المكلفين، كما قال رب العالمين: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56). وعلى الداعية أيضًا أن يحذر الاقتصار على التعليل بالأمور المادية الحسية، وخصوصًا فيما يتعلق بالعبادات الشعائرية كالوضوء والصلاة والصيام والحج؛ فالوضوء في نظر بعض الذين يتحدثون عن الإسلام أو يكتبون عنه حكمته النظافة، والصلاة في نظرهم حكمتها الرياضة، والحج في نظرهم رحلة استكشافية كل هذا جهل وخلط ولبس ما ينبغي للداعية أن يسير وراء هؤلاء، فالله -تبارك وتعالى- قد ذكر في كتابه الكريم الحكم والتعليلات الروحانية القلبية لما فرضه من العبادات.

وإذا كان على الداعية أن يتعلم علم الفقه؛ فإنه من باب أولى عليه أيضًا أن يلُمَّ بعلم أصول الفقه حتى يعرف الأدلة المتفق عليها بين فقهاء الأمة وهي الكتاب والسنة، والأدلة التي اختلف فيها فذهب الجمهور إليها وهي الإجماع والقياس، والأدلة الأخرى التي هي محل خلاف عند الأصوليون منها الاستحسان والاستصحاب، وشرع ما قبلنا وقول الصحابي إلى غير ذلك، وإذا كان الكتاب والسنة هما الأصلين والمصدرين الأساسيين؛ فكيف تستنبط منهما الأحكام، ومن يجوز له الاستنباط ويجب عليه، ومن يحل له التقليد أو يحرُم عليه، كل هذا ونحوه إنما يُعرف من كتب أصول الفقه مثل: (جنة الناظر) لابن قدامة، و (إرشاد الفحول) للشوكاني، و (أصول الفقه) للخضري، و (علم أصول الفقه) لخلَّاف. كما أن على الداعية أن يهتمّ بدراسة العقيدة، وعليه أن يحذر كل الحذر من أن يأخذ العقيدة من كتب أهل الكلام، بل عليه أن يأخذ العقيدة من كتب أهل السنة الذين ساروا في عقيدتهم على منهج التابعين والصحابة الذين أخذوا العقيدة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بواسطة الكتاب والسنة الصحيحة؛ لهذا نريد من دارس العقيدة أن يهتمَّ بما يلي: أن يكون كتاب الله تعالى وما يبين من صحيح السنة هو المصدر الفذّ للعقيدة المنشودة بعيدًا عن الشوائب، والزوائد، والفضول التي لحقت بها على مر العصور. ثانيًا: أن يتبع منهج القرآن في مخاطبة العقل والقلب معًا من أجل تكوين الإيمان الصحيح، فبناء العقيدة على العقل وحده كما هو اتجاه الفلاسفة، أو على القلب وحده كما هو اتجاه الصوفية لا يتفق مع شمول المنهج الإسلامي الذي يقوم الإيمان فيه على اقتناع العقل وانفعال القلب وصدق الإرادة. ثالثًا: الاهتمام بأدلة القرآن التي ذكرها لإثبات معتقداته وإقناع مدعويه، والرد على خصومه، وتفنيد ما يثيرونه من شبهات ومفتريات.

رابعًا: صرف الهمة إلى مشكلات العقل المعاصر، والاشتغال بقضايا العقيدة الكبرى مثل وجود الله تعالى وتوحيده، والنبوة، والحياة الآخرة، والقدر. خامسًا: الاستفادة من ثقافة العصر وخصوصًا في ميادين العلوم البحتة كالفلك والطب والفيزياء وغيرها؛ لتأييد قضايا العقيدة وتثبيتها، كما فعل ذلك كثير من المؤلفين في زماننا من الأجانب والمسلمين، كمثل صاحب العلم يدعو إلى الإيمان، وأصحاب الله يتجلى في عصر العلم، وصاحب قصة الإيمان، ومؤلف الله والعلم الحديث، والإسلام يتحدى. سادسًا: أن يتبنَّى طريقة السلف في وصف الله تعالى بما وصف به نفسه من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، وهي الطريقة التي انتهى إليها أساطين علم الكلام من الأشاعرة وغيرهم، مثل أبي الحسن الأشعري في (الإبانة)، والغزالي في (إلجام العوام عن علم الكلام)، والفخر الرازي في (أقسام اللذات)؛ حيث يقول فيه: لقد تأملت المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية فلم أرها تشفي عليلًا، أو تنفع غليلًا، ورأيت خير الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)، وأقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11)، ومن جرب مثل تجربتي عرَّف مثل معرفتي. ومن أهم ما ينبغي للداعية أن يدرسه دراسة وعي وهضم النظام الإسلامي، أو نظام الإسلام، أو المذهبية الإسلامية، أو فلسفة الإسلام، ونُعنى بهذا دراسة الإسلام خالصًا غير مشوب، متكاملًا غير مجزأ، وحتى نفهم الإسلام فهمًا صحيحًا يلزمنا أن نهتم بهذه النقاط، أن نحذر كل الحذر أن يزاد في النظام الإسلامي، ويلصق به ما ليس منه من رواسب الديانات السابقة، وثنيَّة أو محرفة، وشوائب النِّحَل، والمذاهب شرقية وغيرها، وأن يحذر أن ينقص منه ما

الثقافة التاريخية.

هو من أجزائه وصلب كيانه، أو يؤخذ بعضه دون بعض كما فعلت بنوا إسرائيل، وأن يحذر أن تشوَّه تعاليمه في العقيدة أو العبادة، والأخلاق، أو التشريع، فتعرض على غير حقيقتها ممسوخة محرفة بفعل الجهل أو الهوى. كما شوّهت فكرة القضاء والقدر في العقيدة، أو فكرة الحج في العبادة، أو فكرة الزهد في الأخلاق، أو فكرة الطلاق وتعدد الزوجات، وغير ذلك، وأن يحذر أن يختل التوازن بين قيمه وتعاليمه فيُعطى بعضها دون حقه، ويأخذ بعضها الآخر أكثر من حقه، ويقدم ما يستحق التأخير، ويؤخر ما يستحق التقديم، مع أن الإسلام قد أعطى كل عمل من الأعمال، وكل واحد من تعاليمه قيمة، وسعرًا خاصًّا؛ فلا توضع الفروع موضع الأصول، ولا تحتل النوافل مكان الفرائض، ولا تقدم أعمال الجوارح على أعمال القلوب، ولا تؤثر قُربات الفردية القاصرة على العبادات الاجتماعية المتعدية، بل يوضع كل شيء في مرتبته الشرعية دون غلوّ ولا تقصير، وإلا اضطربت المعاير وقُدّم ما حقه التأخير. ومن هنا ينبغي عند دراسة النظام الإسلامي أو الكتابة تفادي هذه الأخطار الأربعة من الزيادة فيه، أو النقص منه، أو التشويه له، أو الاختلال بتوازنه. الثقافة التاريخية كما أن من الثقافة اللازمة للداعية الثقافة التاريخية، فالتاريخ هو ذاكرة البشرية وسجل أحداثها، وديوان عبرها، والشاهد العدل لها أو عليها. ويهمنا في ذلك تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية خاصة، وتاريخ الإنسانية بصفة عامة أعني: المواقف الحاسمة منه، والملامح الرئيسية فيه؛ لأنه لا يُتصوّر أن يدرس الإنسان تاريخ البشرية كافة ولو كان متخصصًا، فكيف بغير المتخصص، وإنما يحتاج الداعية إلى التاريخ لأمور منها:

أن يوسع آفاقه، ويطلعه على أحوال الأمم وتاريخ الرجال، وتقلبات الأيام، فإن الله تعالى قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)، ومنها: أن التاريخ أصدق شاهد على ما يدعو إليه الدين من قيم ومفاهيم، فهو مرآة مثقولة تتجلى فيها عاقبة الإيمان والتقوى، ونهاية الكفر والفجور، وجزاء الشاكرين وعقوبة الكافرين؛ لهذا اهتمّ القرآن بقصص السابقين وتواريخ الغابرين لما فيها من عبر بليغة، وعظات حية، كما قال تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 36، 37). وأود أن ينتبه الداعية الذي يطالع التاريخ ويقتبس منه إلى الأمور الآتية: أولًا: ألا يجعل أكبر همه وعي جزئيات التاريخ وتفصيلاته، فهذه لا يمكن أن تُحصر، ولو أمكن أن تُحصر؛ لكانت فائدة الداعية جدّ قليلة؛ إنما المهم رءوس العبر ومواقع العظمة في التاريخ. ثانيًا: أن يكون ذا وعي يقظ للوقائع التاريخية التي تخدم موضوعه، وتعمق فكرته، وتقدم له الشواهد الحية. ثالثًا: أن يُعنى بسير الرجال، ومواقف الأبطال، وبخاصة علماء والدعاة والصالحين، وفي تاريخنا بفضل الله -عز وجل- ثروة من السير تتمثل فيها الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، وتبرز الشخصية المسلمة مجسدة في مواقف وأعمال، كما نلمس ذلك في كتب الطبقات والتراجم كـ (وفيات الأعيان)، و (طبقات ابن سعد)، و (تهذيب التهذيب)، و (حلية الأولياء)، و (صفة الصفوة)، وغيرها.

الثقافة الأدبية والواقعية.

رابعًا: أن يهتم الداعية بربط الحوادث والوقائع، وخصوصًا في تاريخنا الإسلامي بأسبابها وعللها المعنوية والأخلاقية، وأن يكون محور التاريخ الإسلامي هو الإسلام نفسه دعوة ورسالة، وأثره في تربية الأجيال، وتكوين الأمة المسلمة، وإقامة الدولة الإسلامية، وبناء الحضارة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، وهنا يجب أن نُركّز على عدة حقائق تاريخية قد يغفلها مغفلون عمدًا أو سهوًا. أولًا: يجب إبراز الجاهلية العالمية والعربية التي كان يتردَّى فيها العالم عامة، والعرب خاصة على حقيقتها بلا إفراط ولا تفريط، كما قال رب العالمين: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2). ثانيًا: يجب الاهتمام بحركة الإصلاح والتجديد في تاريخ الإسلام، وبرجال التجديد الذين يبعثهم الله بين حين وآخر في هذه الأمة؛ ليجددوا لها دينها أيًّا كان لون هؤلاء الرجال واتجاههم، كما يجب الالتفات إلى دور الإسلام ورجاله وأثره في حركات المقاومة والتحرير التي ظهرت في العالم الإسلامي على تباعد أطرافه. الثقافة الأدبية والواقعية وأخيرًا إذا كانت الثقافة الدينية لازمة للداعية في الدرجة الأولى؛ فإن الثقافة الأدبية واللغوية لازمة له كذلك، ولكن الأولى تلزمه لزوم المقاصد والغايات، والثانية تلزمه لزوم الوسائل والأدوات. واللغة بمفرداتها ونحوها وصرفها لازمة لسلامة اللسان وصحة الأداء، فضلًا عن حسن أثرها في السامع بل صحة الفهم أيضًا؛ فالأخطاء اللغوية إن لم تحرف المعنى وتشوّه المراد؛ يمجها الطبع وينفر منها السمع.

والأدب بشعره ونثره، وأمثاله وحكمه، ووصاياه وخطبه مهم للداعية، يثقف به لسانه، ويجود أسلوبه، ويرهف حسه، ويقفه على أبواب من العبارات الرائقة والأساليب الفائقة، والصور المعبرة، والأمثال السائرة، والحكم البالغة، ويفتح له نافذة على الروائع والشوامخ، ويضع يده على مئات بل ألوف من الشواهد البليغة التي يستخدمها الداعية في محلها فتقع من القلوب أحسن موقع، وأبلغه، وقد جاء في الحديث: ((إن من البيان لسحرًا)). وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- شعراء معروفون مثل: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة من الأنصار، وقد أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجود بلسانه وشعره ويرد عنه هجو شعراء قريش، وقال لهم: ((اهجوهم وروح القدس معك)). ومن الجوانب المهمة في الثقافة الأدبية ما تحكيه كتب الأدب من حوار وقصص وأخبار، كثيرًا ما تكون له قيمة أخلاقية، أو دلالة تربوية فيلتقطها الداعية ذو الحس المرهف؛ لينقلها من مجال المتعة بالقراءة إلى مجال الدعوة والتوجيه. من الثقافة التي ينبغي للداعية أن يهتم بها وبمعرفتها الثقافة الواقعية، وأعني بها الثقافة المستمدة من واقع الحياة الحاضرة، وما يدور في الفلك ودنيا الناس في العالم الإسلامي وفي خارجه، فلا بد للداعية حتى ينجح في دعوته أن يكون واقفًا على معرفة أحوال الناس من حوله، ومن هنا يجب على الداعية في عصرنا هذا أن يدرس واقع العالم الإسلامي، وواقع القوى العالمية المعادية للإسلام، وواقع الأديان المعاصرة، وواقع المذاهب السياسية المعاصرة، وواقع الحركات الإسلامية المعاصرة، وواقع التيارات الفكرية المعارضة للإسلام، وواقع الفرق المنشقة عن الإسلام، وواقع البيئة المحلية.

هذه معالم سريعة لما ينبغي أن تقوم عليه ثقافة الواقع، ولا يخفى أن هذه الثقافة لا تُستمد من الكتب وحدها فهي ثقافة نامية متجددة مستمرة يمكن الداعية أن يجدها في الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات الرسمية وغير الرسمية، والداعية ذو العقل اليقظ والحس المرهف يستطيع أن يأخذ مددًا جديدًا من كل ما حوله من وقائع الحياة اليومية. فهذه هي ثقافة الداعية التي ينبغي أن يتسلح بها؛ لأن الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- جهاد، وكل جهاد لا بد له من سلاح، فلا بد للداعية أن يتسلح بأسلحة شتَّى، أولها سلاح الإيمان؛ فبدونه يبطل كل سلاح، وثانيها الأخلاق وهي من لوازم الإيمان الحق وثمراه، وثالثها العلم أو الثقافة فهي العُدّة الفكرية للداعية، والدعوة إلى الله زكاة العلم، ومن لم يملك النصاب كيف يزكي. ولقد أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله المزيد من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114). وقد استجاب -صلى الله عليه وسلم- لأمر ربه فكان كل يوم إذ انصرف من صلاة الصبح قال: ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، وعملًا متقبلًا، ورزقًا طيبًا)). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام.

الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام.

التصور الإسلامي للكون والحياة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (ركائز الدعوة في الإسلام) التصور الإسلامي للكون والحياة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله؛ أما بعد: التربية الإسلامية: هي تنمية فكر الإنسان، وتنظيم سلوكه وعواطفه على أساس الدين الإسلامي، وبقصد تحقيق أهداف الإسلام في حياة الفرد والجماعة، أي: في كل مجالات الحياة؛ فالتربية الإسلامية على هذا عملية تتعلق قبل كل شيء بتهيئة عقل الإنسان وفكره وتصوراته عن الكون والحياة، وعن دوره وعلاقته بهذه الدنيا، وعلى أي وجه ينتفع بهذا الكون وبهذه الدنيا، وعن غاية هذه الحياة المؤقتة التي يحياها الإنسان، والهدف الذي يجب أن يوجّه مساعيه إلى تحقيقه. وقد قدم الإسلام هذه الأفكار كلها في منظومة من التصورات المترابطة متينة البنيان، كما قدم لنا العقائد التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها؛ لكي تحرك في نفسه الأحاسيس والمشاعر، وتغرس العواطف الجديرة بأن تدفعه إلى السلوك الذي نظمت الشريعة له قواعد وضوابطه: السلوك التعبدي الذي يُحقق الهدف الذي خُلق من أجله الإنسان سواء أكان هذا السلوك فرديًّا أم جماعيًّا. فالجانب الإيماني الاعتقادي من الدين يُقدّم لنا أساسًا راسخًا من العقيدة الثابتة والتصورات الواضحة والمترابطة، والأهداف النيرة، والحوافز الدافعة إلى السعي، الباعثة على بعد الأمل والتفاؤل والجد والوعي. والجانب التشريعي يُقدم لنا قواعد وضوابط نقيم عليها سلوكنا وننظّم بها علاقاتنا، بل هو الذي يرسم لنا خطة حياتنا وسلوكنا، والجانب التعبدي هو سلوك المسلم الذي يحقّق به كل تلك التصورات والأهداف والضوابط والأوامر التشريعية، وعملية التربية هي تنمية شخصية الإنسان على أن تتمثل كل هذه الجوانب في انسجام وتكامل، تتوحد

معه طاقات الإنسان، وتتضافر جهوده لتحقيق هدف واحد تتفرع عنه وتعود إليه جميع الجهود والتصورات، وضروب السلوك ونبضات الوجدان. ويمتاز التصور الإسلامي عن الكون والحياة والعقيدة التي يجب أن يؤمن بها الإنسان بمميزات أهمها: أولًا: وضوح الأفكار التي بُني عليها نظام حياة المسلم فاعتنقها ودعا إليها على بصيرة وآمن بها، وتابع تذكرها؛ لأنها هي الضابط لجميع سلوكه وتصرفاته، والرقيب على أعماله وحياته. ثانيًا: كما يمتاز التصور الإسلامي بمنطقية هذه المعتقدات ومعقوليتها وملاءمتها للفطرة العقلية والوجدانية والنفسية. ثالثًا: تمتاز المعتقدات الإسلامية بعرضها عرضًا مقنعًا؛ إذ يستنبطها القرآن من لفت الأنظار إلى الواقع المحسوس للتأمل فيما حولنا، وفي أنفسنا تأملًا يوصلنا إلى معرفة الله وقدرته ووحدانيته وفقًا لطبيعتنا النفسية وفطرتنا الدينية؛ فالباحث المنصف إذا تأمل كلام الله -عز وجل- يلاحظ كيف يلفت القرآن الكريم نظر الإنسان إلى نفسه ليرى كيف أن الله خلقه من علق، وعلمه الكتابة والقراءة، واستخدام الكائنات، وجعله قابلًا للتعلم، وكيف خلقه وكونه في رحم أمه أطوارًا ومراحلَ؛ حتى تكامل خلقه، ثم وُلد لا يعلم شيئًا فشبَّ حتى أصبح خصيمًا مبينًا. رابعًا: ولو تساءل الإنسان؛ لماذا اتخذ القرآن هذا الأسلوب الاستجوابي الحسي العاطفي الذي يُخاطب العقل والوجدان، ويحرك دمع العين مع نبضات القلب، وتصورات الفكر والجنان عندما كرَّر ذكر آيات في الآفاق وفي أنفسنا لأجابنا القرآن الكريم بأنه لم يقصد بهذه الصور التي رسمها لنا عن الكون والإنسان،

وكررها، ونوَّع أساليب عرضها في مواطن عديدة لم يقصد مجرد المعرفة الثقافية، ولا مباراة الثقا فات والفلسفات الأخرى؛ ليثبت تفوقه المنطقي وقدرته البلاغية عليها فحسب، ولا قصد تدريب عقولنا على الحفظ والفهم، بل أراد أن تتحول هذه المعرفة إلى حركة فكرية وعاطفية، ثم إلى قوة دافعة لتحقيق مدلولها في عالم الواقع أي: لكي نحقق عبوديّتنا لله الذي ما جعل هذه الصور الكونية الرائعة إلا تذكرة لمن يخشى؛ حتى نتجه إلى العبادة والعمل الإسلامي المُثمر في إعمار الكون، وتحقيق عدل الله وشريعته في الحياة الإنسانية. وأراد من عرضه آياته في الآفاق أن ترجع البشرية إلى ربها، وإلى منهجه الذي أراد لها، وإلى الحياة الرفيعة الكريمة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحققت في فترة من فترات التاريخ على ضوء هذا التصور عندما استحال واقعًا في الأرض يتمثَّل في أمة تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء. ونبدأ أولًا: بنظرة الإسلام إلى الإنسان فنقول: من الثابت في علم النفس أن نظرة الإنسان إلى نفسه من أقوى المؤثرات في تربيته؛ لذلك قُدّمت هذه النظرة القرآنية إلى الإنسان، وما زال الإنسان منذ وجد على وجه الكرة الأرضية مأخوذًا بسوء الفهم لنفسه، يميل إلى جانب الإفراط حينًا؛ فيرى أنه أكبر وأعظم كائن في العالم، وينادي بذلك وقد امتلأ أنانية وغطرسة وكبرياء، كما نادى قوم عاد وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (فصلت: 15)، وكما نادى فرعون في قومه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38)، ويربأ بنفسه أن يعتقد أنه مسئول أمام أحد ويتحول إلى متألّه يستهدف القهر والجبروت والبطش والظلم والشر والطغيان. وأحيانًا يميلُ إلى جانب التفريط؛ فيظن أنه أدنى وأرذل كائن في العالم، فيطأطئ رأسه أمام كل شجر، أو حجر، أو نهر، أو جبل، أو حيوان، ولا يرى السلامة

إلا في أن يسجد للشمس والقمر والنجوم والنار، وما إليها من الموجودات التي يرى فيها شيئًا من القوة أو القدرة على ضرره أو نفعه، وقد عرض الإسلام الإنسان على حقيقته وبيَّن أصله ومميزاته، وما فُضل به ومهمته في الحياة وعلاقته بالكون، وقابليته للخير والشر. أما حقيقة الإنسان وأصل خلقه: فترجع حقيقة الإنسان إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخِلقة الأولى من طين حين سوَّاه الله تعالى ونفخ فيه من روحه، والأصل الثاني: القريب وهو خلقه من نطفة، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- هذين الأصلين في قوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (السجدة: 7 - 9). وأوضح الله -سبحانه وتعالى- لنا كيف خلق آدم فقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (الحجر: 28 - 30). وهكذا لفت القرآن الكريمُ نَظَر الإنسان على حقارة ذلك الماء الذي خُلق منه في رحم أمه: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (السجدة: 8) حقير، {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 6، 7)، ولذلك قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (يس: 77) فأرشد الله -تبارك وتعالى- الإنسان إلى أصل خلقه من ماء مهين، من ماء دافق، من نطفة إذ تمنى، أرشده ولفت نظره إلى هذا الأصل؛ ليندّد بغطرسة الإنسان، ويهذّب كبرياءه فيجعله متواضعًا واقعيًّا في حياته. ثم بيَّن له عناية الله به في ظلمات الرحم حينما أنشأه جنينًا، ورباه حتى تمَّ خلقه: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ

لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر: 7) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 7 - 9). ذكر الله -تبارك وتعالى- الإنسان بعنايته به وهو في ظلمات الرحم؛ ليثير عنده عاطفة العرفان بالجميل والشكر للخالق والخشوع لله، فكان من نتيجة هذه التربية القرآنية دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السجود ((سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشقّ سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين))، وفي رواية كان يقول: ((اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقّ سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين)). وفي مقابل ذلك كله بيَّن الإسلام للنوع البشري أنه ليس من الذّلة والمهانة والابتذال في درجة يتساوى مع الحيوان والجماد، وسائر المخلوقات فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (الحج: 65). فقد رزق الله تعالى الإنسان قدرتنا جعله به يسيطر على ما حوله من الكائنات، وسخّرها الله له فمنعه من أن يذلّ نفسه لشيء منها، وجعله آمن من كل المخوف إزاء هذه الكائنات، بل أشعره بأنها طوع يديه، سخرها لمصلحته. وهذه خطوة تربوية ربانية ينشئ بها القرآن الكريم الإنسان على الشعور بالكرامة وعزة النفس. ويُشعره في الوقت ذاته بفضل الله، فإذا ركب شيئًا مما سخر الله له كالطائرة والسيارة ذكر قول الله تعالى {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (الزخرف: 13، 14).

ومما كرم الله تعالى به الإنسان أن جعله قادرًا على التمييز بين الخير والشر، فألهم الله تعالى النفس الإنسانية فجورها وتقواها، وغرس في جبلتها الاستعداد للخير والشر، وجعل عند الإنسان إرادة يستطيع بها أن يختار بين الطرق المؤدّية إلى الخير والسعادة، والطرق الموصلة إلى الشقاء، وبيَّن له أن هدفه في هذه الحياة أن يترفَّع بنفسه عن سبل الشر، وأن يزكي نفسه أي: ينمّيها ويطهرها ويسمو بها في وقت معًا نحو الفضيلة والاتصال بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10). ولعن الله -عز وجل- قومًا دعاهم غرورهم إلى أن يكذبوا بهذه الحقيقة، فزعموا أن النّفس الإنسانية لا تطغى فقال في تمام الآيات السابقة: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} (الشمس: 11 - 15)، فكان جزاء طغيانهم أن سوَّى الله بهم وبمدينتهم الأرض؛ لأنهم اختاروا طريق الشر ومعصية الله ورسوله. ومما كرَّم الله به الإنسان وفضله أن وهبه القدرة على التعلم والمعرفة، وزوَّده بكل أدوات هذه القدرة يقول تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، (العلق: 3 - 5). ويقول سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 31، 32). أما أدوات القدرة على التعلّم؛ فمنها السمع والبصر والفؤاد كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78)، فالسمع معناه إحراز المعرفة التي اكتسبها الآخرون، والبصر معناه: تنميتها بما يُضاف إليها من ثمرات

الملاحظة والبحث، والفؤاد معناه تنقيتها من أدرانها وأوشابها، ثم استخلاص النتائج منها، وهذه القوى الثلاث إذا تضافرت بعضها على بعض نجمت عنها المعرفة التي منَّ الله بها على بني آدم، والتي بها وحدها استطاع الإنسان أن يهزم سائر المخلوقات ويسخرها لإرادته. وندَّد الله تعالى بالذين لا يستفيدون من سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم فقال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179). ومن هذه الأدوات التي منحها الله تعالى الإنسان حتى يتعلم اللسان والقدرة على البيان، والقلم والقدرة على الكتابة قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} (البلد: 8، 9)، وقال تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان}، وقال جل جلاله: {ن والقلم وما يسطرون}، ومن أهم أهداف التفكير والتعلم عند الإنسان أن يتعلم الناس شريعة الله قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 129). ومن هذه الأهداف أن يتفكروا في خلق السموات والأرض وفي أنفسهم كما قال تعالى: {آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُو نَ} (الذاريات: 20، 21)، وقال تعالى: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (الطارق: 5)، وقال سبحانه {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الفجر: 17 - 20)، وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50)، وفي كل هذه الآيات دليلٌ على أن الله

سبحانه خلق لنا السمع والبصر والفؤاد؛ لنتفكر ونتأمَّل وننظر نظرة تَمْحِيص، ونلاحظ ما حولنا ثم نمحِّص ذلك بعقلنا وفؤادنا؛ لنستخدم ما سخره الله لنا أي: لنتربَّى تربية علمية على الملاحظة والمناقشة والاستنتاج والتفكير، فنجمع أكبر قسط من المعرفة والمخترعات، وحينئذٍ نظفر بميزة الزعامة على الإنسانية كما ظفر بها أسلافنا، ثم أضعناها؛ لأننا تركنا الاستفادة الحق من سمعنا وأبصارنا وأفئدتنا كما يريد الله منا. ولم يكتفِ الإسلام بتكريم الإنسان وتفضيله وتمييزه على الكائنات، بل حمَّله مقابلة ذلك مسؤولية عظيمة، وكلَّفه بتكاليف كثيرة، ورتَّب عليها الجزاء الوفاق، حمَّله مسؤولية تطبيق شريعة الله، وتحقيق عبادته، تلك المسؤولية التي أبتْ سائر المخلوقات أن تحملها وأشفقت من حملها كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 72، 73)، وكما جعل الله تعالى للإنسان حُرّية وإرادة وقدرة على التمييز بين الخير والشر، كذلك جعله مجزئ يوم القيامة بما اختار لنفسه من الخير ومن الشر قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة: 7، 8). وكذلك جعل الله تعالى الإنسان مسئولًا عن سمعه وبصره وفؤاده وجميع جوارحه، فلا يجوز له أن يستعملها إلا في الخير قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36)، وهذا الشعور بالمسئولية يربِّي في نفس الإنسان الوعي واليقظة الدائمة، والبعد

عن المزالق وعدم الاستسلام للأهواء، والعدالة والبعد عن الظلم والبغي، والاستقامة في كل سلوك الإنسان وشئونه. وكذلك قرَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسئولية الإنسان عن ماله وعن عمره وعن شبابه فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه))، وجماع كل هذه المسئوليات مسئولية الإنسان عن عبادة الله وتوحيده أي: إخلاص العبادة له وحده، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18). هذه هي نظرة الإسلام للإنسان أما نظرة الإسلام إلى الكون فإنها أيضًا نظرة تمتاز بأنها ليست نظرة عقلية محضة، ولكنها تعمل على تحريكًا عواطف الإنسان وشعوره بعظمة الخالق، وبصغر الإنسان أمامه، وبضرورة الخضوع له، كل ذلك إلى جانب البراهين العقلية القاطعة على وحدانية الله وألوهيته في هذا الكون، وسائر الأكوان التي لا نراها. فالكون كله مخلوق لله خلقه لهدف وغاية، وما كان اللعب والعبث باعثًا عن الخلق قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الدخان: 38، 39)، وقال سبحانه {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} (الروم: 8). أما تحريك عواطف الإنسان؛ فبالاستفهام والحضّ على العبادة وتوحيد الله بعد تأمل مخلوقاته يقول سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ

الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ * بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 62 - 67)، ولهذه النظرة الإسلامية إلى الكون آثار تربوية: منها ارتباط المسلم بخالق الكون وبالهدف الأسمى من الحياة، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. ثانيًا: تربية الإنسان على الجدية؛ فالكون كله أُقيم على أساس الحق، ووجد لهدف معين وإلى أجل مسمى عند الله، وليس العبث واللهو من شأن الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 16، 17)، وهذا يعلم الإنسان أن يبحث عن غاية كل ظاهرة من ظواهر الكون، وأن يُبعد تفكيره عن اللهو والعبث والضياع، وأن يكون تأمله لهذا الكون تأملًا منطقيًّا علميًّا، ولتحقيق هذا واستكماله لفت القرآن نظر المتأمل إلى أمرين آخرين غير الجدية والغاية منها خضوع الكون لسنن الله تعالى وفق أقدار قدرها يقول سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: 33، 34)، ويقول سبحانه: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 19 - 21).

فدورة الشمس والقمر في فلك لا يحيدان عنه، وفي مواسم لا تتخلف كل ذلك يجري حسب سنن كونية سنها الله تعالى، وحسب مقادير قدرها عز وجل، وكذلك جميع الأحياء التي على الأرض جعل الله لها معايش مقدرة مقننة: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 19 - 21)، وقد علم الله تعالى الإنسان الحساب بتكرار الليل والنهار وتقدير الفصول الأربعة والأشهر القمرية، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (الإسراء: 12)، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (الأنعام: 95) وقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} (الأنعام: 96). ومما تقدم نجدُ أنّ القرآن ربّى عقل المسلم على مبدأين آخرين علميين غير مبدأي السلبية والغائية والتفكير الجدي المنطقي، وهما تكرار حوادث الكون حسب سنن سناها الله، وهو جل جلاله وحده يملك أن يغيرها إذا شاء، وهذا هو المبدأ الذي بُنيت عليه اليوم جميع القوانين العلمية، وهو أساس التفكير العلمي الذي به اكتشف الإنسان واخترع كل مظاهر الحضارة. ثانيًا: أن سنن هذا الكون وجميع حوادثه وظواهره وكائناته من أصغر ذرّة إلى أكبر جرم، قد خلقها الله تعالى وسيرها، أو أنزلها بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى شيء حدوده، فيختل توازنه ويخلّ بنظام غيره مما جاوره أو قابله، وتأثر وأثر فيه ومن هذه المبادئ التي استوحاها علماء المسلمين القرآن وارتقوا بها في العلوم الطبيعة استقت أوربا مبادئ التفكير العلمي، ووحدة قوانين العلم الحديث، ومناهج التفكير العلمي المنطقي، وهذا هو المبدأ الثاني من مبادئ المنطق العلمي إقامة الملاحظة العلمية على أساس القياس الكمي لا على أساس الوصف الكيفي. إنه المبدأ الذي يربي العقل على الدقة ليأخذ كل شيء بمقياس.

والكون مسيّر ومدبّر دائمًا بقدرة الله، فالله سبحانه هو الذي رتَّب سنن الكون، فبقي وما زال قائمًا على تسيير الله وتدبيره أمره يمده بقوته، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر: 41)، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (الروم: 25)، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام: 61)، وكذلك الإنسان قد رتب الله سننًا اجتماعية لحياته؛ فأرسل على أساسها الرسل وعذب الأمم وأهلك بعضها، ورتب آجالها، وغيَّر أحوالها يقول سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137). والكون كله قانت لله كما قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة: 117 - 117). والقنوت معناه الطاعة والخضوع والانقياد، فإذا كان الكون كله بما فيه من الكائنات والجمادات خاضعًا لربه مستسلمًا له، منقادًا فأجدر بالإنسان العاقل المفكر أن يعترف لربه بالنعمة والفضل، ويستشعر عظمته، ويسبح بحمده ويقدس له، كما يمتاز الدين الإسلامي بأن جعل الإنسان يستخدم ما حوله من الكائنات وقوى الكون، ولفت نظره إلى أنه مسلط عليها بإذن الله، وأن الله قد سخرها له من أكبر الأجرام التي تؤثر في حياته كالشمس إلى أصغر الكائنات التي يستطيع الاستفادة منها كالنحل والذرة، يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع.

دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 32 - 34)، ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 29). التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع أما نظرة الإسلام إلى الحياة؛ فإن الإسلام قد نظر إلى الحياة نظرة جدية؛ ملؤها الشعور بالمسئولية، وتوجيه الدوافع، وعندما عرضنا نظرة الإسلام للإنسان رأيت أن الحياة مبدأين أولهما: عندما خلق آدم من طين ثم سواه، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة أن تسجد له، ومنذ مبدأ الحياة البشرية الأول ميز الله هذا الجنس عن الملائكة وسائر المخلوقات بميزتين: الميزة الأولى: العلم والعقل والإرادة والاختيار والتمييز بين الخير والشر. والميزة الثانية: أنه مخلوق من طين، ثم من دم ولحم، وأنه تبعًا لذلك مجبول على الشهوات والدوافع الغريزية وما يتفرع عنها من الجهل وسفك الدماء والإفساد والخسران، والهلع والجزع والطمع {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72)، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (19 - 21)، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 8)، {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} (الإسراء: 11)، {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28)، {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} (الإسراء: 100)، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (الأعلى: 17). وقد جمع الله تعالى للإنسان هاتين المجموعتين من المميزات والصفات الإنسانية المتقابلة، وجعل الله تعالى للإنسان هاتين المجموعتين من المميزات والصفات الإنسانية المتقابلة، وجعل الإنسان قادرًا على اختيار طريق الخير أو الشر، وجعل

ذلك أساسًا لحياته النفسية، وجعل عنده مقابل كل صفة من هذه النقائص قدرة عقلية على الضبط والاعتدال بالرجوع إلى الشرع، والخوف من الله وعبادته. وفي مقابل ذلك كله؛ ولكي ندرك كمال التصور القرآني للنفس والكون والحياة، وترابط هذه التصورات وتقابلها وتكاملها نتأمل وصف القرآن للحياة فنجد أن الإسلام قد جعل هذه الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، يمر بها الإنسان ليصل إلى الآخرة، وهي حياة دائمة لا موت بعدها، فهنالك حساب فإما نعيم أبدي وإما عقاب وعذاب أبدي أبدًا. الله -سبحانه وتعالى- أكثر في القرآن الكريم من وصف الحياة الدنيا؛ حتى لا يغتر بها الناس ولا يركنوا إليها وحتى يؤثروا الآخرة على الدنيا ويعملوا لها، قال الله تبارك وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (الكهف: 45)، وقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20)، وقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14). وقد ذمَّ الله -سبحانه وتعالى- الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فقال {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (سبح: 17، 18)، وقال: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} (القيمة: 20، 21)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ

بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس: 7)، وقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة: 86)، وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15، 16). وعاب الله -سبحانه وتعالى- على المؤمنين قعودهم عن الجهاد في سبيل الله حبًّا للراحة، وخلودًا إلى الأرض؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة: 38)، ومع ذلك فإن الله -سبحانه وتعالى- أمر المؤمنين أن ينتفعوا بما أحلّ لهم من الطيبات، وأن يتمتعوا بها في الحياة الدنيا فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (المائدة: 87، 88)، وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32). ولذلك مما قاله علماء بني إسرائيل لقارون إذ بغى لقومه فقال له علماء بني إسرائيل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77). ومن هذه الآيات نأخذ أهم صفات الحياة الدنيا وعلاقة الإنسان بها: أولًا: الدنيا متاع مؤقت ومكان عبور، ووسيلة إلى الآخرة لا يجوز اتخاذها غاية {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا

مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (الإسراء: 18، 19). ثانيًا: الدنيا مملوءة بالزينة والزخرف والشهوات والملذات، وهذا من ابتلاء الله -تبارك وتعالى- وامتحان لعباده. ثالثًا: يجوز للمُسلم بل يحقّ له أن يستمتع بالحياة الدنيا وزينتها في حدود الشرع، ويشترك بها مع غيره من الكفار والملحدين، ولكن بشرط إلا تلهيه عن طاعة الله أي: يجب عليه أن يبتغي بها الدار الآخرة، وأن يسخرها في طاعة الله، فيستمتع بالمال ليؤدي زكاته، ويستمتع بالولد ليربيه على طاعة الله وشريعته، وهكذا يستمتع بما أباح الشرع بهدف تحقيق الشرع. رابعًا: الدنيا عالم له قوانينه الاجتماعية والبشرية التي سنَّها الله بين الشعوب والأمم، فمن سعى في الدنيا استوفى نافلة سعيه في الدنيا، ومن سخر الدنيا لإرضاء الله ربح في الدنيا والآخرة. خامسًا: الحياة الدنيا قصيرة الأمد لا تعدو أن تكون ساعة ويومًا من أيام الآخرة كما قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} (طه: 102 - 104)، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الروم: 55). سادسًا: الحياة الدنيا دار تعب وكدح وجد قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4)، وقال: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} (الانشقاق: 6). سابعًا: المؤمنون ينصرهم الله في الدنيا والآخرة فليست الدنيا لظهور الكفر والفساد فقط، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51)، وأخيرًا الحياة الدنيا دار لعب ولهو وتفاخر وتكاثر، كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} (الحديد: 20)، وقال تعالى: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} (التكاثر: 1، 2). هذه هي نظرة الإسلام إلى الإنسان والمجتمع، وإلى الكون والحياة، وهذه النظرة لها آثارها العملية والتربوية، ومنها ألا يغتر المسلم بالحياة الدنيا ويغفل عن الهدف الذي أوجدت من أجله، بل يحاسب نفسه ويعمل فيها على أنها دار امتحان مؤقت، فيبقى جادًّا يقظًا صبورًا على الشظف، مغامرًا تقدميًّا لا يقف طموحه عند حدّ، بل يتجاوز الأهداف الدنيوية القريبة فيقوم بمشاريع تُشبه المعجزات، ومنها ألا يحرم نفسه مع ذلك من خيراتها، بل يتمتع بهذه الخيرات على أن يحقق بهذا التمتع عبوديته لله تعالى، ويستهدف من وراء كل متعة إرضاء الله قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وفي بضع أحدكم صدقة؟ قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أريتم إذا وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وضعها في الحلال كان له أجر))، وقال -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيه امرأتك)) حتى اللقمة أي: يداعب الزوج بها امرأته فيضعها في فيها له أجر عليها. ومن الفوائد التربوية أن يصبر المسلم على البلاء في الدنيا والبأساء والضراء؛ لأنه قد علم أن هذه الدنيا هي دار الامتحان، وتلك طبيعتها نكد وهمّ وغم وحزن قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155 - 157)،

فالمسلم إذا أصيب في هذه الدنيا بما يكره في نفسه وماله وأهله وولده لا ييأس ولا يتذمَّر بل يصبر ويستعد للجهاد. ومن الآثار التربوية الناتجة عن نظرة الإسلام إلى الكون والمجتمع والإنسان والحياة أن يُجند الفرد والمجتمع كل عُدّته لمنازلة أعداء الفضيلة والخير من الجنة والناس، وأن يعلم أن الله ينصر المؤمنين إن هم حققوا إيمانهم في سلوكهم، واتبعوا كتابه ورسوله، وأخذوا بأسباب القوة والعزة والمنعة، كما أمرهم الله -عز وجل- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)، وقال عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (لقمان: 40، 41)، وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (الأنفال: 60). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة.

الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة.

الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (علاقة الإسلام بالدعوات السابقة) الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فطر الله الإنسان على التدين، وركز في وجدانه الإيمان بأن هناك خالقًا لهذا الكون مدبرًا له: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (الروم: 30) والدين صنو الإنسان في الوجود على هذه الأرض التي خلقها الله من أجل الإنسان، والإيمان بالله -سبحانه وتعالى- عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني آدم في عالم الذر، وقال عن هذا العهد والميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172، 173). والحقيقة التي أجمع عليها مؤرخو الأديان هي أنه ليست هناك جماعة إنسانية بل وأمة كبيرة ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكر في مبدأ الإنسان ومصيره، وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه، ودون أن تتخذ لها في هذه المسائل رأيًا معينًا حق ًّ اأو باطلًا يقينًا أوظن ًّ اتصور به القوة التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها، والمآل التي تصير إليه الكائنات بعد تحولها، وسواء اعترفت هذه المذاهب بالآلهة أم لم تعترف فالنتيجة واحدة، لكن المسألة إنما هي في صحة تسمية أمثال هذه المذاهب أديانًا. وقد ورد لفظ الدين في اللغة وأطلق على معان ٍ عدة منها الطاعة والحساب والجزاء والقضاء والحكم والحال والعادة إلى غير ذلك، إلا أن الدين الذي يتعب ّ د به الله - سبحانه وتعالى - فهو لا يكون إلا وحيًا من الله إلى أنبيائه الذين يختارهم من عباده، ويرسلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى، قال تعالى لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -:

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163)، وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى: 3)، وقال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى: 13)، قال الرازي في تفسير هذه الآية: المراد شرع لكم من الدين دينًا تطابقت الأنبياء على صحته. وقد بي َّ ن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدين القيم الذي فطر الله تعالى الناس عليه هو دين الإسلام، فقال - عليه الصلاة والسلام-: ((ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أوينصرانه، أويمجسانه)). ولم يقل أويسلمانه؛ لأنه يولد مسلمًا، قال القرطبي -رحمه الله-: وهذا قول عامة السلف أن دين الفطرة هو دين الإسلام. كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى من بني آدم هو أن يعبدوه لا يشركوا به أحدًا، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتديًا بها، فيقول: نعم، فيقول الله تعالى: قد أردتُ منك أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم، ألا تشرك بي شيئًا ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة، فأبيت إلا الشرك)). وقد نزل آدم - عليه السلام - إلى الأرض وكان نبي ًّ امكلمًا وأعلمه الله - سبحانه وتعالى - من أول ساعة نزل فيها أنه سيأتيهم الهدى من الله - عز وجل - فمن اتبع هذا الهدى فاز ونجا، ومن أعرض عنه خاب وخسر قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ

لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 123 - 127). وكان آدم -عليه السلام- نبي ًّ امكلمًا، فعاش مسلمًا وتبعه أبناؤه على الإسلام لله - عزّ وجَل ّ- وإفراد الله بالعبادة، وظلوا على ذلك طيلة عشرة قرون، ثم اجتالت الشياطين أكثر الناس فأخرجتهم من نور التوحيد إلى ظلمات الشرك، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين؛ فاجتالتهم عن دينهم))، وكان السبب في وقوع أكثر الناس في الشرك بالله وخروجهم عن الإسلام والتوحيد لله - عز وجل - الغلو في الصالحين؛ فقد مات جماعة من الصالحين في أوقات متقاربة فحزن الناس عليهم، فاتخذوا لهم صورًا يذكرونهم بها، فلما طال العهد عبد الناس تلك الصور. كما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، التي قال الله تعالى فيها: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23) قال ابن عباس في هذه الأسماء: أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتن اسخ العلم ع ُ بدت. ولما كان الله - تبارك وتعالى - يحب العذر، فقد أرسل رسله مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213). قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: كان الناس أمة

واحدة على الإسلام والتوحيد عشرة قرون، فاختلفوا ووقع أكثرهم في الشرك، فبعث الله النبيين مبشرين لمن ثبت على الإسلام والتوحيد، ومنذرين لمن خرج عن الإسلام إلى الكفر وعن التوحيد إلى الشرك. وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض نوح -عليه السلام- قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (نوح: 1 - 4) وهكذا دعا نوح قومه إلى إفراد الله بالعبادة وإخلاص الدين له وترك ما يعبدون من دونه، وصرح -عليه السلام- بأنه مأمور أن يكون من المسلمين السابقين الأولين من عهد آدم -عليه السلام- قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 71، 72) هكذا صرح نوح -عليه السلام- بأنه مأمور من رب العالمين - عز وجل - أن يكون من المسلمين إشارة إلى السابقين الأولين من آدم -عليه السلام- ومن بعده من ذريته حتى اختلفوا. فالإسلام هو دين الله - عز وجل - الذي ارتضاه لعباده وفطرهم عليه، وقد صرح كل الأنبياء ع13:01 بعد نوح -عليه السلام- بما صرح به قال الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ

أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 127 - 133). وقال تعالى: عن يوسف -عليه السلام- أنه قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)، وقال تعالى: عن لوط وأهله لما جاء قومه العذاب: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذاريات: 35، 36)، وقال تعالى: {قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} (يونس: 71)، {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} (يونس: 84، 85) فدللوا على إسلامهم وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} (المائدة: 44). وقال تعالى في قصة سليمان بن داود - عليهما السلام - مع ملكة سبأ، وقد أرسل إليها كتابًا يدعوها فيه إلى الدخول في دين الله وهو دين الإسلام: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 29 - 31)، فلما أرسلت إليه بهديتها: {قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 36 - 38)، وقال -عز وجل-: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا

قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل: 42 - 44). وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 52). ولذلك قال الله تعالى عن نصارى الحبشة: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (القصص: 51 - 53)، فلما بعث الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أمره باتباع ملة أبيه إبراهيم والاهتداء بهدي إخوانه المرسلين فقال عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 123)، وسمى - سبحانه وتعالى - مجموعة من الرسل في سورة الأنعام، ثم قال لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (الأنعام: 90)، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى: 3)، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163)، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13). ولذلك أمر الله تعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) وأمره أن يصرح بأن دينه هو الإسلام فقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل: 91)، ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح يقول: ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين)).

فالدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده وبعث به رسله هو الإسلام، هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وليس محمد ٌ -صلى الله عليه وسلم- أول رسول يدعو إلى الإسلام وإنما هو خاتم الرسل الذين بعثوا بالإسلام كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40)، فدين الرسل واحد وهو الإسلام كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85). وجوهر الإسلام هو التوحيد المستلزم لإفراد الله تعالى بالعبادة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال سبحانه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: 1، 2). وصرح ربنا -سبحانه وتعالى- بأن كل نبي بعثه دعا إلى توحيد الله عز وجل قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (هود: 25، 26)، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65)، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود: 61)، وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85)، وقال سبحانه: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 16).

وكثر في القرآن الكريم أمر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بدعوة قومه إلى ما دعا إليه الأنبياء أقوامهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: 36)، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء: 23)، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (الأنعام: 151)، {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل: 51)، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110). فدين الرسل واحد وهو الإسلام وجوهره التوحيد وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، ونبذ كل ما ي ُ عبد من دونه - سبحانه وتعالى - ولذلك قال يوسف -عليه السلام- لصاحبيه في السجن: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 37 - 40). فإفراد الله - تبارك وتعالى - بالعبادة هو جوهر الدين الذي بعث الله به الرسل، ولذلك اتفقت الرسل كلهم على أصول العبادة من الصلاة والصيام والزكاة والحج، فقد حكى الله تعالى عن إبراهيم الخليل -عليه السلام- أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 40، 41). وقال عن إسماعيل -عليه السلام-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 54، 55).

وقال الله تعالى لموسى -عليه السلام- في أول ما أوحى إليه: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه: 13، 14)، ومما نطق به عيسى ابن مريم -عليه السلام- وهو في المهد صبي ًّ ا: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم: 30، 31)، وقال تعالى لمريم أم عيسى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 43)، وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 83)، وقال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة: 40)، ثم قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43). وقال -سبحانه وتعالى- عن السابقين: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5) وقال تعالى لنا نحن المسلمين أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، وقال لإبراهيم - عليه السلام-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} (الحج: 27)، وقال: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125)، وقال -سبحانه وتعالى- عن الأنبياء السابقين: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 73). فالدين القيم الذي فطر الله الناس عليه هو الإسلام، وأساسه التوحيد وإفراد الله بالعبادة، وترك ما يعبد من دونه، وأصول العبادة هي الصلاة والصيام والزكاة

والحج اتفق عليها جميع الأنبياء. أما الشرائع وهي مجموعة الأحكام الت ي ك ُ ل ّ فت بها الرسل وأقوامهم فهي مختلفة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48). قال الطبري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48). قال الطبري في تفسير هذه الآية: ثم ذكر نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقًا لما بين يديه من الكتاب وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه دونما في سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شريعة الأنبياء والأمم قبله، الذين قص ّ عليه قصصهم، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم ولأمته فيما أحل لهم وحرم عليهم. عن قتادة في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال: سبيل ً اوسنة والسنن مختلفة للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، ي ُ حل ّ الله فيها ما يشاء وي ُ حر ّ م ما يشاء بلاء ً؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل، وقال الزمخشري في قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (الأنعام: 90): المراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدًا.

حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة.

حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة وقد بين الإمام الشوكاني - رحمة الله عليه - حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة فقال قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (النحل: 93) أي: بشريعة واحدة، وكتاب واحد، ورسول واحد {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ} (المائدة: 48) أي: ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد، بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع، ومعنى {ف ِ يم َ اآ َ ت َ اك ُ م ْ} فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل، هل تعملون ب ذلك وت ُ ذعنون له، أوتتركونه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى، وتشترون الضلالة بالهدى، وفيه دليل على أن اختلاف الشرائع هو لهذه العلة أعني: الابتلاء والامتحان، لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص. وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شت َّ ى ودينهم واحد)). قال الإمام النووي - رحمه الله-: قال العلماء: أولاد العلات هم الإخوة لأب من أمهات شت َّ ى، وأما الإخوة من الأبوين فيقال لهم: أولاد الأعيان، قال جمهور العلماء: معنى الحديث أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة، فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف، فإذا ثبت أن الدين الحق هو الإسلام، وأنه دين جميع الأنبياء وجوهره توحيد الله - سبحانه وتعالى - فمن أين جاءت المسميات الأخرى، من أين جاءت اليهودية والنصرانية، ومن أين ع ُ بد المسيح ابن مريم وعبد عزير وغيرهما، إذا كان دين الأنبياء واحدًا هو الإسلام وجوهره التوحيد هو إفراد الله - تبارك وتعالى - بالعبادة؟.

والجواب: أن كلمة يهودية وكلمة نصرانية ومسيحية صارتا علمًا بالغلبة على رسالتي موسى وعيسى -عليهما

السلام - وإن كان موسى وعيسى لم ي ُ علنا هذه التسمية، ولم ترد في النصوص المنسوبة إليهم في الكتاب المقدس أو القرآن الكريم. يقول المفسرون: إن مرد ّ كلمة يهودية إلى عوامل منها العنصرية أوالوصفية، أما العنصرية فهي نسبة إلى يهوذا أحد أسباط بني إسرائيل، والذي غلب أبناؤه على الحكم بعد هـ، وعندما ن ُ قلت الكلمة من العبرية إلى العربية قيل: يهودا بتصحيف الذال إلى دال، ثم ن ُ سب إليها فقيل: يهودي بعد حذف الألف المتطرفة، وتدل هذه الكلمة على كل من ينتسب إلى بني إسرائيل، ويدين ويتبع موسى عليه السلام. القول الثاني: نسبة إلى التهود أي: الترنح عند قراءة التوراة، وهذه سمة اليهود عند تلاوة التوراة حتى الآن. القول الثالث: من قولهم: إنا هدنا إليك أي: تبنا ورجعنا، وو ُ سموا بها؛ لأن توبتهم أشق ّ أنواع التوبة في تاريخ البشرية، فكل ٌّ يتوب بالقول والفعل أخذًا من ظواهر النصوص، إلا بني إسرائيل جعل الله توبتهم في قتلهم أنفسهم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} (البقرة: 54) باتخاذكم العجل إلهًا من دون الله وقد تركهم موسى -عليه السلام- وذهب لميقات ربه واستخلف هارون عليهم، وقال: {اخ ْ ل ُ ف ْ ن ِ ي ف ِ ي ق َ و ْ م ِ ي و َ أ َ ص ْ ل ِ ح ْ و َ ل َ ات َ ت َّ ب ِ ع ْ س َ ب ِ يل َ ال ْ م ُ ف ْ س ِ دين َ} (الأعراف: 142)، {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} (الأعراف: 148)، وحاول هارون -عليه السلام- أن يثنيهم عن عبادة العجل من دون الله عز وجل: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْم إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ

وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (طه: 90، 91). فكان من توبة الله عليهم من تلك الجريمة التي ارتكبوها وهي عبادة العجل من دون الله {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 54). هذه هي أرجح الآراء في التسمية لكلمة يهود ويهودي، وهي إلى وصف بني إسرائيل أقرب منها إلى وصف المعتقد إلا أن اليهود أنفسهم قد استخدموها في الدلالة على المعتقد كما قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (البقرة: 135)، كما استخدمها القرآن الكريم في الدلالة على الأمرين معًا فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30)، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120). أما كلمة المسيحية أو النصرانية؛ فالمسيحية نسبة إلى المسيح -عليه السلام- والنصرانية مرد ُّ ها إلى قرية الناصرة وإلى نصرة المسيح وإلى قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} (آل عمران: 52) إجابة لقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (الصف: 14)، ولما كانوا مضرب المثل في التضحية لنصرة المسيح؛ د ُ عوا بهذا الاسم النصارى، وهذه النسب فيها خلاف بين كثيرين ليس هذا مجال بيانه الآن. وإذا كان الاسمان السابقان: يهود ونصارى قد وردا كثير ً افي القرآن الكريم مرادًا بهما أتباع موسى وعيسى - عليهما السلام - فإن القرآن لم يرد هذه التسمية وقت النزول كاصطلاحًا صار علمًا بالغلبة على هؤلاء، وعندما أراد اليهود والنصارى أن يجعلوا ذلك أي: التسمية وحيًا إلهي ًّ اوعقيدة دينية رد َّ القرآن ذلك؛ لأن ما عليه القوم غير ما جاء به موسى وعيسى - عليهما السلام - قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (البقرة: 135) فقال اليهود: كان إبراهيم يهودي ًّ ا، وقالت النصارى: كان إبراهيم نصراني ًّ افبر َّ أه الله تعالى مما قالوا، وأنزل فيه القرآن فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67). وفي النص تعريض بهؤلاء دون الإفصاح {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إشارة إلى ما وقعوا فيه من الشرك هم، وعندما ك َ ث ُ ر جدلهم وحوارهم حول هذا الأمر ورد الخطاب العقلي الهادي الهادف {يَا أَهْل الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 65 - 67). وقال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 140) إذن الدين هو الإسلام، وهذه المسميات اليهودية والنصرانية ت ُ سمى بها أقوام ورضوها لأنفسهم اسمًا يدل على دينهم، ولا أساس لهذه التسمية في كتبهم المنزلة من عند الله عز وجل. ولقد أخبرنا الله تعالى أن أهل الكتاب حر َّ فوا كلام الله وغي َّ روا دينه فقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أولًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ

يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 75 - 79). وأخبرنا الله سبحانه أنهم تجرءوا على الله - عز وجل - فوصفوه بما لا يليق بجلاله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 30، 31)، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64)، وقال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران: 181، 182). كما أخبرنا الله سبحانه أنهم عادوا الأنبياء الذين خالفوهم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87)، وقال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (المائدة: 70). ولقد حاولوا قتل عيسى ابن مريم رسول الله فنج َّ اه الله تعالى، ورفعه إليه، ومع ذلك تبجحوا قائلين: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله فكذبهم الله

تعالى فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 157، 158) ولقد حاولوا قتل محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة ولكن الله عصمه كما وعده {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67)، حاولوا قتله مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ لكثرة نعوته في التوراة، بل إنهم هاجروا إلى المدينة قبل وصوله -صلى الله عليه وسلم- انتظارًا له، وكانت بينهم وبين أهل المدينة من مشركي العرب حروب، فكانت يهود ت ُ هد ّ د المشركين العرب بأنه قد آن أوان نبي آخر الزمان يؤمنون به ويتبعونه ويقتلون العرب معه قتل عاد وإرم، فلما جاءهم كانوا هم أول الكافرين به كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (البقرة: 89، 90). ولم تكن النصارى بأفضل من اليهود فقد حر َّ فوا أيضًا كتاب الله وغلوا في دين الله، وابتدعوا فيه ما لم ينزل الله به سلطان ً ا، وافتروا على الكذب، وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وزعموا أن المسيح أمرهم بعبادته من دون الله فكذبهم الله تعالى فقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 79، 80). وأخبر - سبحانه وتعالى - أن عيسى -عليه السلام- سيتبر َّ أمنهم يوم القيامة ومما نسبوه إليه قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ

قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة: 116، 117). ولقد دمغهم الله تعالى بالكفر بسبب ما زعموا فقال -عز وجل -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 17)، {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة: 72، 73). ولما كان الله بالناس رءوفًا رحيم ً ا؛ فقد دعاهم إلى التوبة، وقد قالوا ما قالوا، ووصفوه بما لا يليق بجلاله فقال بعد ذلك: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 74)، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام وعبادة الله وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبدون من دونه فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1).

الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1).

الأخلاق ومكانتها في الإسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الأخلاق ومكانتها في الإسل ام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1)) الأخلاق ومكانتها في الإسلام إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله؛ أما بعد: إن ديننا الحنيف لا ينظم علاقة الإنسان بخالقه فقط وإنما ينظم بخالقه والناس أجمعين مؤمنين وكافرين، ويدعو الدين إلى أن يكون الإحسان هو أصل علاقة الإنسان بربه والناس أجمعين، يقول الله -تبارك وتعالى -: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36)، وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((اتق ِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحوها، وخالق الناس بخلق حسن))، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: تقوى الله وحسن الخلق)). قال ابن القيم - رحمة الله عليه -: "جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين تقوى الله وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وربه، وحسن الخلق يصلح ما بين العبد وبين خلقه، فتقوى الله توجب للعبد محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إل ى محبته، وقد سئل -صلى الله عليه وسلم- عن خير الناس فقال: ((أحسنهم أخلاقًا)). فبي َّ ن -صلى الله عليه وسلم- أن خيار المسلمين من حسنت أخلاقهم وكرمت صفاتهم، أما من ساءت منهم الأخلاق وقبحت الصفات فأولئك مع الأشرار، وإن كانوا يصلون ويصومون ويحجون، فإن صلاتهم ليست بصلاة الخاشعين، وصيامهم مجاراة، وحجهم ر ياءً، ولو كان ذلك منهم بإخلاص لأثمر بلا مراء كرام الأخلاق. فإن الصلاة الحق ة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام الخالص داعية الصبر والكرم، والحج المبرور ي ُ ثمر خلق الصبر، وحسن العشرة والمعونة، فبرهان

الصدق في العبادات والإخلاص فيها كرم الأخلاق وآية التقصير فيها سو ؤ ها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة تُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال -صلى الله عليه وسلم -: هي في النار. قال: يا رسول الله، فإن فلانة تذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تص َّ د َّ ق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها قال: هي في الجنة))، فسوء الخلق أفسد الأعمال الصالحة وأحبطها فلم تغن ِ عن صاحبها شي ئًا، وحسن الخلق أدخل صاحبه الجنة مع قلة العمل. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وس لم-: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)). وقد اختلفت عبارات العُلماء في ضابط الخلق الحسن؛ فقال علي: " حسن الخلق في ثلاث خصال؛ اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال ". وعن الحسن قال: " حسن الخلق الكرم، والبذلة، والاحتمال "، وعنه قال: " حسن الخلق بسط الوجه، وبذل الند ا، وكف ّ الأذى ". وعن عبد الله بن المبارك قال: " حسن الخلق طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى ". وعنه قال: " حسن الخلق أن يحتمل ما يكون من الناس ". وقال الإمام أحمد: " حسن الخلق ألا تغضب ولا تحقد ". وقال محمد بن نصر: قال بعض أهل العلم: " حسن الخلق ك ظ م الغيظ لله، وإظهار الطلاقة والبشر، والعفو عن الزال ّ ين، وكف الأذى ". قال الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله -: وكل هذه الأقوال إنما هي في ثمرة حسن الخلق، ولم تتعرض لحقيقته. ونحن نقول: الخ ُ ل ُ ق والخ َ ل ْ ق عبارتان مستعملتان مع ً ا، يقال: فلان حسن الخ ُ لق والخ َ لق أي: حسن الباطن والظاهر، في ُ راد بالخ َ ل ْ ق الصورة الظاهرة، وي ُ راد بالخ ُ ل ُ ق الصورة الباطنة، ولكل واحد منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة.

من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص.

فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروي ّ ة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقل ً اوشرع ً اسميت تلك الهيئة خلق ً احسن، وإن كان صادر عنها الأفعال القبيحة سميت خلق ًا سيئ ًا. فإذا كان المؤمن بحاجة إلى حسن الخلق؛ فإن الداعية إلى الله - سبحانه وتعالى - هو أحوج المؤمنين إلى حسن الخلق؛ إذ بحسن خلقه ي ُ قبل عليه المدعو ُّ ون، ويستمعون له، ويتبعونه، وينتفعون بدعوته، ولذلك قال الله - تبارك وتعالى - للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159). والأخلاق الحميدة التي دعا إليها الإسلام كثيرة جد ًّ ا، ويكفي أن يتخل َّ ق الداعية بكل خلق حسن ذكره الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم، ودعا إليه وحمد أهله وأثنى عليهم؛ اقتضاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم، فلقد تخلق بمكارم الأخلاق كلها كما أمره ربه في القرآن الكريم، ولذلك لما س ُ ئلت أمنا عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- قالت للسائل: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قالت: ((كان خلقه القرآن)). من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص أمر الله - تبارك وتعالى - بالإخلاص في القرآن الكريم في أكثر من آية فقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر: 2)، وقال سبحانه: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقال سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (غافر: 65)، وبي َّ ن -سبحانه وتعالى- أنه أمر السابقين بالإخلاص كما أمر الأخيرين، فقال عن السابقين: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5)، وبي َّ ن الله -سبحانه وتعالى- أن الإخلاص شرط في قبول

الأعمال فقال عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27)، وقال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37)، والمراد بالتقوى هو الإخلاص، والمراد بالمتقين المخلصين. وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: 2). قال الفضيل بن عياض -رحمه الله- في تفسير هذه الآية {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} يعني: أخلصه وأصوبه، فإذا كان العمل خالص ً اولم يكن صواب ً الم ي ُ قبل، وإذا كان صواب ً الم ي ُ قبل، وإذا كان صواب ً اولم يكن خالص ً ا؛ لم يقبل، حتى يكون خالص ً اوصواب ً ا. قالوا: يا أبا علي، ما الخالص، وما الصواب؟ قال: الخالص ما كان لله، والصواب ما وافق سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110). قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} قال: هذان ركن االعمل المتقبل لا بد أن يكون خالص ً الله صواب ً اعلى شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى: العمل بغير إخلاص ولا اقتضاء كالمسافر يمل أجرابه رمل ً اينقله ولا ينفعه. فهذا بعض ما جاء في القرآن الكريم في الأمر بإخلاص النية لله سبحانه وتعالى. فما هو الإخلاص لغة ً واصطلاح ً ا؟ أقول الإخلاص: لغة مصدر أخلص يخلص، وهو مأخوذ من مادة خَلَص التي تدل على تنقية الشيء وتهذيبه، والشيء الخالص كالصافي إلا أن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه، وقد تعدَّدت عبارات العلماء في ضابط الإخلاص، فقال التستري: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة، وقال إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى، وقال أبو

عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط، وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))، وبهذا الحديث صد َّ ر البخاري - رحمه الله - كتابه الصحيح، وأقامه مقام الخطبة له؛ إشارة منه إلى أن كل عمل لا ي ُ راد به وجه الله تعالى فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة، فالإسلام يرقب بعناية فائقة ما يقارن أعمال الناس من نيات وما ي ُ لابسها من عواطف وانفعالات، وقيمة العمل في الإسلام ترجع قبل كل شيء إلى طبيعة البواعث التي تمخضت عنه، قد ي ُ عطي الإنسان هبة جزيلة؛ لأنه يريد بصنائع المعروف أن يستميل إليه القلوب، وقد يعطيها لأنه يريد أن يجز ي خير ًا من سبقوا، وأسدوا إليه خير ً ا، وكلا المسلكين كرم دفع إليه شعور المرء بنفسه سلب ً اأ وإيجاب ً اكما ي ُ عب ّ ر علماء النفس، ولكن الإسلام لا يعتد ّ بالصدقة إلا خلصت من شوائب النفس، وتمخضت لله - عز وجل - وحده على نحو قول الله سبحانه حكاية عن الأبرار: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان: 9). وكما قال عن سيد الصحابة أبي بكر -رضي الله عنه-: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (الليل: 81 - 21). إن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت، فيجعلانه عبادة متقبلة، وإن خبث الطوي َّ ة يهبط بالطاعات المحضة فيقبلها معاصي شا نئة؛ فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والخسارة، حدث في غزوة العسرة أن تقدم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجال يريدون أن يقاتلوا الكفار معه، وأن يجودوا بأنفسهم في سبيل الله غير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم

يستطع تجهيزهم للخروج معه، فعادوا يبكون حزن ً اعلى عدم قدرتهم على الخروج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرفع الله - تبارك وتعالى - عنهم الحرج، وأنزل فيه قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة: 92)، ف لما انتهى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك قال للجيش الذي خرج معه: ((إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعب ً اولا وادي ً اإلا وهم معنا، حبسهم العذر)). إن النية الصادقة سج َّ لت لهم ثواب المجاهدين؛ لأنهم قعدوا راغمين، ولئن كانت النية الصالحة ت ُ ضفي على صاحبها هذا القبول الواسع، فإن النية المدخول ة تنضم إلى العمل الصالح في صورته؛ فيستحيل بها إلى معصية تستجلب الويل، كما قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون: 4 - 7). إن الصلاة مع الرياء أمست جريمة، وبعدما فقدت روح الإخلاص باءت صورة ميتة لا خير فيها، وكذلك الزكاة إنها إن صدرت عن قلب يسخو لله -عز وجل - ويدخر عنده صدقته ق ُ بلت منه، وإلا فهي عمل باطل كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} (البقرة: 264) إن القلب المقفرَّ من الإخلاص لا ي ُ نبت قبول ً اكالحجر المكسو ّ بالتراب لا ي ُ خرج زرع ً ا، والقشور الخادعة لا تغني عن اللباب الرديء شيئ ً األا ما أنفس الإخلاص، وأغزر بركته إنه ي ُ خالط القليل فينم ّي هـ حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير؛ فلا يزن عند الله مثقال ذرة، فعلى طالب العلم أن ي ُ خلص نيته لله - تبارك وتعالى - وعلى كل داعية أن ي ُ خلص نيته لله تبارك وتعالى، وعلى معلم العلم ومعلم القرآن أن يخلص نيته لله تبارك وتعالى، وعلى

كل عامل أن يخلص لله - عز وجل - في عمله، وأن يبتغي وجه الله عز وجل؛ حتى يتحقق له الأجر والثواب الذي وعده الله -تبارك وتعالى- به، وإلا انقلب عمله عليه، وصار حجة عليه، ودخل بسبب عدم إخلاص نيته النار الحامية، والعياذ بالله. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن أول الناس ي ُ قضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجه فألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأ ُ تي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت ف يها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجه هـ حتى أ ُ لقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت. ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجه فألقي في النار)). وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسل م-: ((بش ّ ر هذه الأمة بالثناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)). فالإخلاص الإخلاص أيها الداعية فإنه أساس نجاحك في دعوتك، وأساس قبول جهدك الذي تبذله في هذه الدعوة، فإن قلت: وما هي علامة الإخلاص؟ فالجواب: إن علامة إخلاصك في الدعوة انفعالك بالدعوة وتحسسك لها، وبذل أقصى الجهد في تبليغها؛ لأن من أخلص لشيء أعطاه كل ما يملك من ماله ووقته وجهده وفكره، وكل إمكانياته، لا بد أن تكون كلها في خدمة الدعوة، وتحت تصرفها.

فالداعية الذي يعطي دعوته ماله ويبخل عليها بوقته، أويعطيها جهده الجسمي ويضن ّ عليها بنتاج عقله؛ لا يمكن أن يكون مخلص ً الدعوته، ولا مهتم ًّا بنشرها؛ لأن الداعية المخلص يجب أن تكون دعوته هي شغل هـ الشاغل الذي لا يصرفه عنه صارفه مهما عظم، فهو يقدم الدعوة على طعامه وشرابه، ويؤثرها على زوجه وأولاده، ويتصورها في يقظته ومنامه، ويبذل ماله ليكسب لها الأنصار، ويتألف بها الأعوان، ويضني جسمه ليبلغ بها أبعد الآفاق، ويكد ّ عقله ليبتكر الوسائل التي تعينه على إقناع الناس بها، وتحثهم على الالتفاف حولها. هذا؛ وإن للإخلاص فوائد كثيرة: منها أن يمد ّ جأش صاحبه بقوة، فلا يتباط أأن ينهض للدفاع عن الحق، ومنها: أنه يشرح صدر صاحبه للإنفاق في وجوه البر فتجده ي ُ ؤثرها بجانب من ماله وإن كان به خصاصة، ومنها أنه يعلم صاحبه الزهد في عرض الدنيا فلا ي ُ خشى منه أن ينو ّ هـ الحق، أويلبسه بشيء من الباطل ولو أعطي الشيء الكثير من المال، ومنها أنه يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا، فلا يتسرع في القضية ويفصل فيها إلا بعد أن يتثبت، ويتبين له الحق. ومن فوائد الإخلاص أنه يحمل المعلم على أن يبذل جهده في إيضاح ما خفي على التلميذ، وأ لا يبخل على الطلاب بما تسعه أفاهمهم من المباحث المفيدة، ومنها أنه يمنع التاجر من الخيانة؛ فلا يخون الذي يأتمنه، ومنها أنه يحمل صاحبه على إجادة العمل، وأن يكون محسن ًا فيه، ومنها أنه يحمل صاحبه على الوفاء بالعهد والوعد، ومنها أنه يحمل صاحبه عل ى الوفاء بالعهد والوعد، ومنها أنه يحمل صاحبه على أن يكون عمله للقريب والبعيد سواء، ومنها أن العبد لا يتخلص من الشيطان إلا بإخلاص ني َّ ته للرحمن، فقد حكى الله - تبارك وتعالى - عن إبليس -لعنه الله- أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: 82، 83).

من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة.

ومنها: أنه يمي ّ ز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرس والدم، ومنها أن المخلص إذا نام حتى ي ُ ريح نفسه ويجم ّ ها للعمل ليتقو َّ ى على العبادة يكون نومه عبادة، كما في الحديث عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح؛ ك ُ تب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه)). وعن أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مال ً اوعلم ً افهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علم ً اولم يرزقه مال ً افهو صادق النية يقول: لو أن لي مال ًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجره سواء)). فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفات العلى أن يعيننا على إخلاص نيتنا له، وأن يجعل جهدنا الذي نبذله في الدعوة إليه خالص ًا لوجه هـ الكريم، لا نريد به رياء ولا سمعة، ولا عرض ًا من أعراض الدنيا، فإن الله - تبارك وتعالى - قال: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (الشورى: 20). من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة ومن أهم الأخلاق التي تلزم الداعية بعد الإخلاص: الشجاعة: الشجاعة: لغة مصدر شَجُع فلان أي: صار شجاع ًا، وهو مأخوذ من مادة شجع التي تدل على الجرأة والإقدام. قال ابن فارس: ومن ذلك قولهم الرجل الشجاع وهو المقدام، والشجعة من النساء الجرئية، وقال ابن منظور: شجع شجاعة اشتد ّ عند البأس، والشجاعة شدة القلب في البأس، والشجاعة

اصطلاح ً اتنوعت فيها عبارات العلماء. فقال الجاحظ: الشجاعة هي الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف مع الاستهانة بالموت. وقال المناوي: الشجاعة هي الإقدام الاختياري على مخاوف نافعة في غير مبالاة. وقال ابن حزم: الشجاعة هي بذل النفس لل ذ ود عن الدين أو الحريم أو عن الجار المضطهد، أو عن المستجير المظلوم، وعمن هضم ظلم ً افي المال والعرض، وسائر سبل الحق سواء قل َّ من يعارض أوكثر. وقال الجرجاني: الشجاعة هيئة حاصلة للقوة الغضبية بين التهور والجبن، بها ي ُ قدم على أمور ينبغي أن يقدم عليها، كالقتال مع الكفار ما لم يز ي دوا على ضعف المسلمين. وقد أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بالشجاعة والثبات عند اللقاء، ونهاهم عن الجبن وحذرهم من تولي ة الأدبار فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال: 15، 16)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45)، ومدح الله -سبحانه وتعالى- أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على شجاعتهم وجرأتهم، وإقدامهم على لقاء عدوهم فقال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 173، 174) والشجاعة من أهم أخلاق الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - وبفضلها بعد فضل الله - عز وجل - واجهوا قومهم وتحدوهم، وثبتوا في وجههم حتى بلغوهم رسالة ربهم، انظر إلى شجاعة أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض نوح -عليه السلام-

يقول الله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} (يونس: 71)، إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق؛ فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم، وتذكيري لكم بآيات الله؛ فأنتم وما تريدون، وأنا ماض ٍ في طريقي لا أعتمد إلا على الله، فعلى وحده توكلت، فهو حسبي دون غيره فأجمعوا أنتم أمركم وشركاء كم، وتدبروا مصادر أمركم وموارده، وخذوا أ ُ هبَّتكم متضام ن ين، ولا يكن أمركم عليكم غ ُ م ّ ة، بل ليكن الموقف واضحًا في نفوسكم وما تعتزمونه مقرر ً الا لبس فيه ولا غمو ض، ولا تردد فيه ولا رجعة، ثم اقضوا فنفذوا ما اعتزمت بشأني، وما دبرتم بعد الر ّو ي ّ ة ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه، {و َ ل َ ات ُ ن ْ ظ ِ ر ُ ون َ} ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد، فكل استعدادي هو اعتمادي على الله وحده دون سواه. الله أكبر: إنه التحدي الصريح المثير الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من ع ُ د ّ ته حتى لا يغري خصومه بنفسه، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يه اجموه، فماذا كان وراء نوح من القوة والع ُ دة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميع ً ا؟ لقد كان معه الإيمان، الإيمان القوة التي تتصغار أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير، وكان وراء هـ الله الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان، إنه الإيمان بالله وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه، فليس هذا التحدي غرور ً ا، وليس كذلك تهور ً ا، وليس انتحار ً ا؛ إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان.

وتأمل أخي الداعية أيضًا شجاعة هود -عليه السلام- وهو يواجه قومه ويتحداهم بعد أن هد ّ دوه بأنهم يخافون عليه من آلهتهم أن تصيبهم بسوء إن لم تكن قد أصابته {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 54) فماذا كان جوابه -عليه السلام- قال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (هود: 54 - 57) وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قومًا غلاظ ًا شداد ًا حمقى يبلغ بهم الجهل أن يعتقد أن هذه المعبودات الزائفة تمس ّ رجل ًا فيهذي، ويرى في الدعوة إلى الله الواحد هذيان ًا من أثر المس، إن الإنسان ليدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفترا ة هذه الثقة فيسفهم عقيدتهم، ويقرعهم عليهم، ويؤنبهم، ثم يهيج ضر اوتهم بالتحدي لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفتر غضبهم. إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد، ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب إنه الإيمان والثقة، والاطمئنان. الإيمان بالله، والثقة بوعده، وال اطمئنان إلى نصره، الإيمان الذي ي ُ خالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة؛ لأنها ملء يديه وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعد ً اللمستقبل في ضمير الغيب؛ إنما هي حاضر واقع تتمل َّ اه العين والقلب، ولم تكن هذه الشجاعة قاصرة على فرد أو فردين من أنبياء الله ورسله، ولكنها كانت خ ُ ل ُ ق جميع الأنبياء والمرسلين كما

قال الله -تبارك وتعالى- عنهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب: 39). يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: يمدح الله -تبارك وتعالى- الذين يبلغون رسالات الله أي: إلى خلقه، ويؤد ّ ونها بأماناتها، ويخشونه أي: يخافون الله - عز وجل - وحده، ولا يخافون أحد ًا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي: وكفى بالله ناصر ً اومعين ً ا، ثم يقول ابن كثير - رحمه الله -: وسيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع؛ فإنه قد كان النبي قبله إنما ي ُ بعث إلى قومه خاصة، وأما هو -صلى الله عليه وسلم- فإنه ب ُ عث إلى جميع الخلق عربيهم وعجمهم كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158). ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه -رضي الله عنهم- بلغوا عنه، كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله في ليله ونهاره، وحضره وسفر، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زمننا هذا، فبنورهم يقتضي المقتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم بإحسان. والشجاعة والإخلاص متلازمان؛ فكلما أخلص الداعية نيته، واحتسب عند الله جهده ودعوته كلما كان جريئًا على تبليغ دين الله عز وجل، يقول العلامة السعدي -رحمه الله-: الشجاعة خلق نفسي، ولكن له مواد تمدُّه منها الإخلاص لله -عز وجل- وعدم مراءاة الخلق، فإن المخلص الذي لا يريد إلا وجه الله وثوابه لا يُبالي بلوم

اللائمين إذا كان في ذلك رضًا لرب العالمين؛ فيُقدم على قول الحق غير مبالٍ بانتقاد من انتقده في موضوعه أو لفظه أو فصاحته أو عدمها لا يعدُّ المدح من الناس شيئًا في جانب قيامه بالحق. أما المرائي المتزيّن للناس، الواقف في همته على مدحهم وذمهم، فما أسرع خوره في المقامات الرهيبة، وما أعظم هلعه وهيبته إذا رماه الناس بأبصارهم، وما أقل ثبوته عند اعتراض المعترضين، وذم الذَّامين، والسبب في هذا أنه جعل تعظيم الخلق ومدحهم وثناءهم نُصب عينيه، وقبلة قلبه، وهو غايته التي يطلب. ومعلوم أن من كانت هذه حالة أن أقواله وأفعاله تقع على هذا النحو الذي ينحو، والطريقة التي إليها يصبو، ومع ذلك لو قام في مقام من مقاماته الوضيعة؛ لكانت أقواله وأفعاله قليلة البركة، غير مأمون من ثبوته عليها، ولو تأملت الغاية التي يسعى إليها وهي إرادة تعظيم الخلق؛ لوجدت هذا التعظيم أو الثناء، إذا فرض وجوده نفاقًا وتزينًا، واتباعًا للأغراض المتنوعة، فما أسرع ما ينقطع ويتبدّل بضدّه. أما المخلص لله -عز وجل- القاصد لوجهه الذي غرضه نفع عباد الله، فإن الله يجعل في أعماله وكلامه الخير والبركة، ولو قُدّر أن يعترضه في هذا الطريق لوم اللائمين، وطعنهم، فيا سرعان ما يزول {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد: 17). ومن الجدير بالذكر أنه ليس من الشجاعة أن يحرص الداعية على أن يقول كلمته، مهما ترتَّب عليها من المضارّ والمفاسد، وليس من الشجاعة أن يقف الداعية على منبره يسبّ ويشتم، ويشهّر، ويجرح معتقدًا أن ذلك من الشجاعة، وأنه بذلك من أفضل المجاهدين يبلّغ رسالة ربه ولا يخاف في الله لومة لائم، وهذا فهم خاطئ؛ لأن هذا التصرف إنما هو من التهور المذموم، لأن الشجاعة المحمودة -

كما سبق في تعريفها- إنما هي بين الجُبن والتهوُّر. يقول الإمام السعدي -رحمة الله عليه: حقيقة الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافع تحصيلها أو دفعها، وتكون في الأقوال وفي الأفعال. فأصلها في القلب، وهو ثباته وقوته، وسكونه عند المهملات والمخاوف، وثمرته الإقدام في الأقوال والأفعال، وعند القلق والاضطراب، وكماله وزينته أن يكون موافقًا للحكمة، فإنه إذا زاد عن حدّ الحكمة؛ خُشي أن يكون تهورًا وسفهًا وإلقاء باليد إلى التهلكة، كم من داعية مُنع من منبره بكلمة قالها، وكم من داعية ذي جمهور غفير نفع الله به، حرم نفسه من جمهور وحرم جمهوره منه بكلمة عفوية صدرت منه، ظنّ أن قولها شجاعة وكان في الحقيقة تهورًا، فعلينا أن نفقه أن الأخلاق الحميدة دائمًا وسط بين المذموم والمحمود، يقول الشيخ -رحمه الله-: فإذا زاد عن حدّ الحكمة خُشي أن يكون تهورًا وسفهًا وإلقاء باليد إلى التهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن يذم التهور، فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رزيلين وهما الجبن والتهور. وإذا كان الإخلاص مددٌ للداعية يشجعه على الشجاعة والإقدام، وتبليغ دين الله عز وجل؛ فإن مما يمدّ هذا الخلق أيضًا الإيمان بالله -عز وجل- وقوة التوكل عليه، وكمال الثقة به سبحانه، وأن يعلم الداعية أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما أن مما يمد الداعية بالشجاعة الإكثار من ذكر الله -عز وجل- والثناء عليه كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45). فمتى قوي العبد بالله وبقضائه وقدره وقوي يقينه بالثواب والعقاب، وتمّ توكله على الله، وثقته بكفاية الله، وعلم أن الخلق لا يضرون ولا ينفعون، وأن

نواصيهم بيد الله عز وجل، وعلم الآثار الجليلة الناشئة عن الشجاعة متى تمكنت هذه المعارف من قلب الداعية قوي قلبه، واطمأن فؤاده، وأقدم على كل قول وفعل ينفع الإقدام عليه، ولا بد لمن كانت هذه حالة أن يمده الله بمدد من عنده لا يدركه العبد بحوله ولا قوته، فإن من كان الله معه فلا خوف عليه، ومن كان الله معه هانت عليه المصاعب، ودفع الله عنه المكاره يقول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) انظر إلى حالة نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- وقد أحاطت به المخاوف المزعجة وهو في الغار، والأعداء منتشرون في طلبه، وأبو بكر يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن قال لصاحبه: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا)). وانظر إلى جميع مقاماته -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة وجهاد الأعداء وهو صادع بأمر الله، معلن بدعوته للقريب والبعيد والعدو والصديق، لا تصده معارضة الأعداء ولا قلة الأنصار والأولياء، لم يفتر ولم يضعف، ولم يلن ولم يخف مخلوقًا، ولم يثنه خذلان الخاذلين، ولا لوم اللائمين، بل ثبت -صلى الله عليه وسلم- على الدعوة والجهاد المستمر أعظم من ثبوت الرواسي، وهو مع ذلك مطمئنّ الضمير، ثابت الجأش، واثقًا بوعد الله، مستبشرًا بنصر الله حتى أنجز الله ما وعده، وأكمل دينه، وأعز جنده، وهزم أعداءه، وجعل له العاقبة الحميدة، وتبعه على ذلك خلفاؤه وأصحابه فمضوا على ما مضى عليه نبيهم بإيمان ويقين وثبات كامل، وقوة في الدين؛ حتى فتحوا الأمصار ودانت لهم الأقطار، وأظهر الله بهم الدين، وأتم نعمته على المؤمنين {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الجاثية: 36، 37) وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2).

الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2).

من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2)) من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: أعني بالإيجابية أن يكون الداعية له دور فعال في إصلاح المجتمع بحيث يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير، ولا يكون سلبيًّا انعزاليًّا لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يدعو إلى الخير. إن الإنسان لا يعيش وحده في هذه الحياة، وإنما يعيش داخل أسرته الصغيرة، وهي العائلة هو فرد من أفرادها، ثم يعيش بأسرته داخل الأسرة الكبيرة، وهي مجتمع هو أيضا في هذا المجتمع أحد أفراده ما يصيب المجتمع من خير يصيبه، وما يصيب المجتمع من شر يصيبه، وذلك يوجب عليه أن يسعى جاهدًا لتحقيق الخير للمجتمع؛ لأنه سيعمه، كما يجب عليه أن يسعى جاهدًا لدفع الشر عن المجتمع؛ لأن الشر إذا عم سيشمله، فمن الخير لكل فرد أن يبذل جهده في تحقيق الخير، ودفع الشر قال الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 24، 25). فأمر الله -تبارك وتعالى- المؤمنين بالاستجابة لله وللرسول في كل ما أمر به الله والرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يحيوا في هذه الحياة الدنيا حياة طيبة ملؤها الأمن والأمان، والسلامة، والسعادة، والسلام، ثم حذرهم من عدم الاستجابة لما دعاهم إليه كما حذرهم من القعود عن دعوة الذين لم يستجيبوا لربهم إن هم استجابوا؛ فليحذروا أن يقعدوا عن دعوة الذين لم يستجيبوا فقال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وفي هذا

التعقيب تحريض جميعهم على الاستجابة المستلزم تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين؛ ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذًى من جراء فعل غيرهم إذا هم لم يقوموا عوج قومهم؛ كي لا يحسبوا أن امتثالهم كافٍ إذا عصى دهماؤهم، فحذرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره. فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم- دب بينهم الاختلاف، واضطربت أحوالهم، واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء، وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة؛ فعلى عقلاء الأقوام، وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم ماهيته، وشبهته، وعواقبه، وأن يمنعوه منه بما أوتوه من الموعظة، والسلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا؛ فإن هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبس الفساد أن يسري في النفوس، وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره حتى يعم أو يكاد فيعسر اقتلاعه من النفوس، وذلك الاختلال يفسد على الصالحين صلاحهم، وينكد عليهم عيشهم على الرغم من صلاحهم، واستقامتهم فظهر أن الفتنة إذا حلت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه، والصالح. فمن أجل ذلك، وجب اتقاؤها على الكل؛ لأن أضرار حلولها ستصيب جميعهم. عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها ذات ليلة فزعًا فقال: سبحان الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث))، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة: 105) يعني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا من رضيتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، ورسولًا يا

من صدقتم بالله، ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل الزموا إصلاح أنفسكم، وتزكيتها بما شرعه الله لكم لا يضركم ضلال غيركم إذ اهتديتم إذ لا تذر وازرة وزر أخرى. ومن أصول الهداية: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإذًا لا تكونون مهتدين إلا إذا بلغتم دعوة الحق، والخير، وعلمتم الجاهلين ما أعطاكم الله تعالى من العلم، والدين، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر فإذا لا تكونون مهتدين إلا إذا قمتم بهذا الواجب فلا تكتموا الحق، والعلم كما كتمه من كان قبلكم فلعنهم الله على لسان أنبيائه، ولسان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: 78)، ثم أعلمهم أنهم إلى الله راجعون {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: إليه وحده رجوعكم، ورجوع من ضل عما اهتديتم إليه فينبئكم عند الحساب بما كنتم تعملون في الدنيا، ويجزيكم به. روى الإمام -رحمه الله- قال: "قام أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه))، وهكذا صحح الخليفة الأول -رضوان الله عليه- ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة، ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح؛ لأن القيام بتكاليف تغيير المنكر قد صارت أشق فما أيسر ما يلجأ الضعفاء إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد، وبلائه.

لقد اتفق السلف -رضوان الله عليهم أجمعين- أن المؤمن لا يكون مهتديًا بمجرد إصلاحه نفسه إذا لم يهتم بإصلاح غيره، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويفهم منه أن هذا فرض لازم دائم، ولكن البعض قد يقول: إن فريضة الأمر والنهي، تسقط إذا فسد الناس فساد لا يرجى معه تأثير الوعظ، والإرشاد أو فسادًا يخشى إلى إيذاء الواعظ والمرشد، ولكن لا بد كما أمر الله -سبحانه وتعالى- من واجب القيام بالمعروف، والنهي عن المنكر فإذا قامت الدعاة بواجبهم، وكانوا إيجابيين في مجتمعهم لهم دورهم الفعال في الدعوة إلى الهدى، والصلاح فاستجاب المجتمع لهم فقد تحقق الخير للجميع، ونجوا جميعًا من عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة. وإذا قام الدعاة بواجبهم فلم يستجب لهم الناس فنزل العذاب أخذ الظالمين، ونجى الله -تبارك وتعالى- الدعاة الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر كما قال الله تعالى: {وَاسْْْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (الأعراف: 163 - 166)، ففي هذه الآيات المباركات من سورة الأعراف يأمر الله -سبحانه وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم، ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر فهي معروفة للمخاطبين. فأما الواقعة ذاتها؛ فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية، وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيدًا للعبادة، ولا يشتغلون فيه بشئون المعاش فجعل لهم السبت، ثم كان الابتلاء

ليربيهم الله تعالى، ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات، والأطماع، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات، والأطماع، ولم يصمت فريق من بني إسرائيل للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم، وانحرافهم فلقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل قريبة المأخذ سهلة الصيد فتفوتهم، وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم؛ فإذا مضى السبت، وجاءتهم أيام الحل لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة كما كانوا يجدونها يوم الحرم، فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم، وميثاقهم فيحتالون الحيل على طريقة اليهود للصيد في يوم السبت. وقد روي في بيان هذه الحيلة التي احتالوا بها على الصيد في يوم السبت أنهم كانوا يقيمون الحواجز على السمك، ويحوطون عليه في يوم السبت حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه، وقالوا: إنهم لم يصطادوه في السبت فقد كان في الماء، وراء الحواجز غير مصاد، وهكذا راح فريق من سكان القرية يحتالون على السبت الذي حرم عليهم الصيد فيه، وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلونه من الاحتيال على الله فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله، وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر: ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة، وهم لا يرجعون عن ما هم آخذون فيه، وقد كتب الله عليهم الهلاك، والعذاب: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (الأعراف: 164). فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم، ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم بعد ما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد بما اقترفوه من انتهاك الحرمات فقال الذين قاموا بواجب الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر قال الإيجابيون

الذين حرصوا على أن يكون لهم دور فعال في إصلاح المجتمع بقيامهم بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر قالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فهو واجب لله نؤديه، واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات لنبلغ إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا، ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى. وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق، أو ثلاث أمم: أمة عاصية محتالة، وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار، والتوجيه، والنصيحة، وأمة تدع المنكر، وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي، ولا تدفعه بعمل إيجابي، وهي طرائق متعددة من التصور، والحركة تجعل الفرق الثلاثة أممًا ثلاثة فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم حقت كلمة الله، وتحققت نظره فإذ الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء، وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد العذاب البئيس بما كانوا يفسقون، وأما الأمة الانعزالية الثالثة التي سكتت عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فقد سكت النص عنها ربما تهوينًا لشأنها، وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي فاستحقت الإهمال، وإن لم تستحق العذاب: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (الأعراف: 165، 166). فعليك أيها الداعية أن تكون إيجابيًّا، وإياك أن تكون انعزاليًّا تؤثر الراحة، والخلود إلى الأرض، وتأوي إلى الفراش، وتترك الناس يتركون دين الله،

ويتركون ما فرض عليهم القيام به، ويقعون فيما حرم عليهم؛ فإنك أيها الداعية راع، وكل راع مسئول عن رعيته كما قال -صلى الله عليه وسلم- فإذا غبت عن رعيتك تخلت عن واجبها، وتعرضت لعذاب الله -سبحانه وتعالى- الذي يخشى أن يصيبك معهم كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25). فلا يجوز للداعية أن يبتعد عن الناس، ويعتزلهم، ويترك دعوتهم، ولو كانت له نية حسنة في هذه العزلة، وهذا الابتعاد عن المجتمع إننا نقرأ في كتاب الله -عز وجل- أن عملًا كهذا سبق من موسى -عليه السلام- فأوقفه الله به موقف الحساب والمؤاخذة؛ لأن شعبا بأسره ضل بغياب موسى عنهم قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}، (طه: 83 - 86). وإنا لنرى في سيرة سيد الدعاة محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يلجأ إلى هذه العزلة مرة واحدة مذ أمره الله -سبحانه وتعالى- بالدعوة، والتبليغ فقد ظل مع أصحابه، وأتباعه لا يفارقهم فهو معهم في المسجد، والسوق، والحقل، والبستان، وسائر مجالسهم، وكان يصحبهم في حروبهم، وموسم حجهم، ويزورهم في بيوتهم، ويعود مرضاهم، ويشيع جنازاتهم، ويجاملهم، ويواسيهم، ويشاطرهم ما ينزل بهم من خير وشر، وهو في كل ذلك مصدر رشاد، وهداية، وزاد لقلوبهم، وأرواحهم، ونور يمشون به إلى الله عز وجل نعم لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ولكن أين كان يعتكف إنه كان يعتكف في مسجده الشريف في وسط المدينة، والمسجد كما كان دار عبادتهم كان دار ندوتهم، ومجلس شوراهم، وما كان ينقطع دخول الناس فيه ليلًا، ولا نهارًا فهو اعتكاف أشبه بمخالطة، ومخالطة أشبه بعزلة، وهو على أي حال اعتكاف لا يعزله عن الناس، ولا يعزل الناس عنه، ولا يدع الرعية للسامري بدون راعٍ.

لا يصح للداعية أن يطاوع نفسه في العزلة مهما تزينت له المقاصد، والأسباب فصومعة الداعية ميدان دعوته، ومحرابه الذي يستنزل فيه من الله الهدى، والمعونة على فعل الخير إن الله يتجلى على العاملين في ميادينهم بأفضل مما يتجلى على العابدين في محاريبهم، وما أبعد الفرق بين من ينهض إلى الله يوم القيامة، ومعه أمة، ومن ينهض إلى الله -عز وجل- وليس معه أحد فيا أيها الداعية كن إيجابيًّا، ولا تكن سلبيًّا مهما كلفتك الإيجابية فإنه لا بد من التضحية من أجل هذا الدين سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. إنه لا بد لأصحاب العقيدة أن يدافعوا عن عقيدتهم، وأن يلقوا في سبيلها العنت، والألم، والشدة، والضر، وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم لم تزعزهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة، والفتنة استحقوا نصر الله؛ لأنهم يومئذ أمناء على دين الله مأمونون على ما ائتمنوا عليه صالحون لصيانته، والزود عنه، واستحقوا الجنة؛ لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف، وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة، والرخاء فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وأرفع ما تكون عن عالم الطين يقول الله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214). هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته -سبحانه وتعالى- في تربية عباده المختارين الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض، ومنهجه، وشريعته، وهو خطاب مضطرد لكل من يختار لهذا الدول العظيم، وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة، إن هذا السؤال

من الرسول، والذين آمنوا معه من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله إن سؤالهم جميعًا: متى نصر الله؟ إن هذا السؤال ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف تلقي على ظلالها على مثل هاتيك القلوب فتبعث منها ذلك السؤال المكروب متى نصر الله؟ وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله ألا إن نصر الله قريب، ولكنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية الذين يثبتون على البأساء، والضراء الذين يصمدون للزلزلة الذين لا يحنون رءوسهم للعاصفة الذين يستيقنون ألا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله بهذا يدخل المؤمنون الجنة مستحقين لها جديرين بها بعد الجهاد، والامتحان، والصبر، والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه، وكل من سواه. إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم فيصفو عنصرها، ويضيء، ويهب العقيدة عمقا، وقوة، وحيوية فتتلألأ حتى في أعين أعدائها، وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين، وأكبر المعاندين على أنه حتى إذا لم يقع هذا يقع ما هو أعظم منه في حقيقته يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض، وشعورها، وفتنتها، وأن تنطلق من إيثار الحرص على الدعة، والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية، وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه

عن طريق الاستعلاء كسب يرجح جميع الآلام، وجميع البأساء، والضراء التي يعانيها المؤمنون المؤتمنون على راية الله، وأمانته، ودينه، وشريعته. وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق كما يصفه الله تعالى للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل هذا هو الطريق إيمان، وجهاد، وتضحية، ومحنة، وابتلاء، وصبر، وثبات، وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر في الدنيا، ثم يجيء النعيم في الآخرة في جنات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ولقد أعلم الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أول ساعة كلفه فيها بالدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أول ساعة أوحى الله تعالى إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أعلمه أنه سيبذل الكثير من الجهد، وسيبذل الكثير من الوقت، وسيلقى الكثير من الاضطهاد، والتعذيب، وأن عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يعد نفسه لذلك بما أرشده الله تعالى إليه ليمضي قدمًا في طريق دعوته غير عابئ، ولا مكترث بما يبذله من أجلها من تضحيات، ولا بما يصيبه بسببها من مصائب يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل: 1 - 10). هكذا نادى الله -سبحانه وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد رجع بعد أول لقاء معه مع جبريل -عليه السلام- إلى زوجه خديجة -رضي الله عنها- خائفًا مرتعشًا يقول: ((زملوني زملوني فزملوه فنام فجاءه الوحي: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ})) يا أيها الملفوف بلحافه المتغطي بثيابه يا أيها المزمل قم قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك قم للجهد، والنصب،

والكد، والتعب قم فقد مضى وقت النوم، والراحة قم فتهيأ لهذا الأمر، واستعد له، وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلى الله عليه وسلم- من دفء الفراش في البيت الهادئ، والحضن الدافئ لتدفع به في الخضم بين الزعازع، والأنواء بين الشد، والجذب في ضمائر الناس، وفي واقع الحياة سواء. إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا، ويموت صغيرًا؛ فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير فما له، والنوم، وما له والراحة، وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح. ومن ثم كان نصيب القادة من العناء، والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب، ولما أدوا من أعمال سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الناس على قدر دينهم فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))، فاختلاف أنصبة الناس من الجهد، والتبعة، والهموم الكبيرة يعود إلى طاقتهم في التحمل، والثبات، وسنة العظمة، والاعتداد هي التي أوحوت لقائد أمريكي أن يقول: "لا تسأل الله أن يخفف حملك، ولكن اسأل الله أن يقوي ظهرك". إن خفة الحمل، وفراغ اليد، وقلة المبالاة صفات قد يظفر الأطفال منها بقسط كبير لكن مشاغل العيش، وهموم الواجب، ومرارة الكفاح، واستدامة السعد هي أخلاق الجاهدين البنائين في الحياة، والرجل القاعد في داره لا يصيبه غبار الطريق، والجندي الهارب من الميدان لا يشوكه سلاح، ولا يروعه زحف أما الذين أسهموا في معركة الحياة، وخاضوا غمارها فستغبرهم وعثاؤها، وتنالهم جراحاتها، ويدركهم من النصب، والكلال ما يدركهم، ومن هنا كرم الإنسان المنتصبين لأعراض الدنيا، وواسى المتعبين مواساة تطمئن بالهم، وتخفف آلامهم.

من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية.

فالمؤمن السارب في الحياة هدف لمشاكلها الجمة أما العاجز الهارب من الميدان فماذا يصيبه؟ وذلك هو سر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من يرد الله به خيرًا يصيب منه))، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم)) فالمتعارض لآلام الحياة يدافعها، وتدافعه أرفع عند الله درجات من المنهزم القابع بعيدًا لا يخشى شيئًا، ولا يخشاه شيء، وما ادخره الله تعالى لأولئك العانين الصابرين يفوق ما ادخره لضروب العبادات الأخرى من ثواب جزيل، وفي الحديث: ((يؤد أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء ثواب لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض)). من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية فعليك أيها الداعية بمخالطة الناس، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتضحية لهذا الدين مهما كلفتك التضحية، ولك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأسوة الحسنة فلقد بذل النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل هذه الدعوة الكثير، والكثير، وعانى من أجلها أيضًا الكثير، والكثير، ولقي من الظلم، والاضطهاد، والتعذيب الشيء الكثير، وكتب السيرة مليئة بهذه الصور صور الاجتهاد، والتعذيب التي لاقاها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من أجل قيامهم بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. من هذه الصور ما رواه البخاري عن عبد الله قال: ((بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جذور آل فلان فيعمد إلى فرثها، ودمها، وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد، وضعه بين كتفيه فانبعث أشقاهم فلما سجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضعه بين كتفيه، وثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- ساجدًا فضحكوا حتى مال

بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة -رضي الله عنها- وهي جويرية فأقبلت تسعى، وثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش، ثم سمى بعضهم، فقال: اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد. قال عبد الله: لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وأتبع أصحاب القليب لعنة)). وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((قال أبو جهل: هل يُعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرنّ وجهه في التراب قال: فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني، وبينه لخندقًا من نار، وهولًا، وأجنحة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)) فأنزل الله عز وجل فيه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (العلق: 6 - 12) إلى آخر السورة. بل إنهم قد حاولوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- لا لشيء إلا لدعوتهم إلى الله سبحانه، فروى البخاري أيضًا عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: ((أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ})) كل هذا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صابر محتسب لم يرجع عن دعوته، ولم يفكر في هجر قومه، واعتزالهم.

كما أن الذين سبقوا الإسلام، واتبعوه -عليه الصلاة والسلام- لقوا من الأذى، والاضطهاد، والتعذيب على يد المشركين الكثير، والكثير فمعلوم من سيرته -صلى الله عليه وسلم- أنه بدأ دعوته سرًّا فكان أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الرجال أبو بكر فكان أبو بكر -رضي الله عنه- من رؤساء قريش، ومحط مشورتهم، وكان من أعف الناس، وكان كريمًا سخيًّا يبذل المال محببًا في قومه، ومع كل ذلك فإنه لم يسلم من قومه بل قيدوه، وحاولوا تعذيبه كذلك فعلوا بعثمان بن عفان، وسعد بن أبي، وقاص، وطلحة بن عبد الله، وخالد بن سعيد بن العاص، وما قصة بلال بخافية عن عامة المسلمين فضلًا عن دعاتهم فلقد كانوا يأخذونه في وسط النهار فيخرجون به إلى الصحراء يجردونه من ثيابه، ويضعونه على الرمال الساخنة في حر الظهيرة، ويضعون الصخور الثقيلة على بطنه فما يزالون يعذبونه، ولا يزيد على قوله: أحد أحد. ولما اشتد الأذى، والاضطهاد، والتعذيب جاءوا يشكون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال: خباب -رضي الله عنه-: ((شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا فقال -صلى الله عليه وسلم-: قد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيفرق فرقتين ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه)). فيا أيها الداعية ضح من أجل دعوتك، وجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فإن الجزاء عظيم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف: 10 - 13).

فجاهد في سبيل الله، ولا تخش في الله لومة لائم، واصبر على ما تلقاه من الأذى، والاضطهاد كما، وصاك الله -عز وجل- فإن الله تعالى قد مدح لقمان الحكيم على وصيته ابنه بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى فحكى الله -سبحانه وتعالى- وصية لقمان لابنه على سبيل المدح، والثناء الذي يدل على الرضا {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان: 17) اصبر على ما أصابك، وإياك، والفزع، وإياك، والجزع فتترك الدعوة، وتنعزل، وتقعد في بيتك وحيدًا، وتتخلى عن الطريق فإن الله -تبارك وتعالى- ذم من كانت هذه حاله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} (العنكبوت: 10، 11). فاصبر، واحتسب، وإليك هذه الصورة الرائعة من صور التضحية من أجل الدعوة إلى الله -عز وجل- كانت من شباب الدعوة في الذين مضوا من قبلنا، عن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر فبينما هو على ذلك إذا أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها، ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى

وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه، والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي قال: ولك ربي غيري؟ قال: ربي، وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه، والأبرص، وتفعل، وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا، وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحلموه في قرقور، وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه، وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل بأصحابي؟ قال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد،

وتصلبني على جزع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جزع، ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات فقال الناس: آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت، وأضمر فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة، ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق)). هذه صور من صور تضحية الدعاة من أجل دعوة الله عز وجل، ومن أجل القيام بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده أيها الداعية ضح كما ضحوا، واصبر كما صبروا فاصبر إن العاقبة للمتقين. وصلى الله وسلم، وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3).

الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3).

من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3)) من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد ًا عبده، ورسوله، أما بعد: إن هذه الدنيا دار ابتلاء، واختبار، وامتحان أكد الله -سبحانه وتعالى- على ذلك في أكثر من آية فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31)، وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ والْأَنْفُسِ والثَّمَرَاتِ} (البقرة: 155). ثم بين -سبحانه وتعالى- ما يفعله المسلم عند وقوع البلاء فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155 - 157). قال الشيخ السعدي رحمه الله: "أخبر -سبحانه وتعالى- أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تعالى تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر هذه هي فائدة المحن لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين؛ فأخبر -سبحانه وتعالى- في هذه الآية أنه سيبتلي عباده بشيء من الخوف أي: من الأعداء، والجوع، والتنكير في قوله: بشيء للتقليل أي: بشيء يسير من الخوف، ومن الجوع؛ لأنه -سبحانه وتعالى- بالمؤمنين رءوف رحيم، لو ابتلاهم بالخوف كله أو الجوع كله لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك، ونقص من الأموال، وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وتمزق، وضياع، واستيلاء الظلمة، وقطاع الطريق، وغير ذلك. ونقص من الأنفس أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد أو بدن من يحبه، ونقص من الثمرات أي:

الحبوب، وثمار النخل، والأشجار كلها، والخضر ببرد يصيبها أو حر أو حرق آو آفة سماوية من جراد، ونحوه فهذه الأمور لا بد أن تقع؛ لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر، وإنما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عباده بالبلاء قبل وقوعه لوجوه من الحكم: أحدها: ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت؛ فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع، وأسهل عليهم بعد الورود؛ لأن المصيبة المنتظرة المتوقعة تكون أخف على النفس ألمًا وشدة، ووجعًا من المصيبة المفاجئة غير المتوقعة. ثانيها: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحنة اشتد خوفهم فيصير ذلك الخوف تعجيلًا للابتلاء فيستحقون به مزيد الثواب. ثالثها: أن الكفار إذا شاهدوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه، مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحن والجوع يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته، فيدعوهم ذلك إلى مزيد من التأمل في دلائله. ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره، ثم رأوه مع ذلك مصرًّا على ذلك المذهب كان ذلك أدعى إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب. رابعها: أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه، ثم وجد فكان ذلك معجزة. خامسها: أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- طمعًا منه في المال، وسعة الرزق فإذا اختبره الله تعالى بنزول المحن؛ فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق؛ إلا أن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه، وترك دينه فكان في هذا الاختبار هذه الفائدة.

سادسها: أن إخلاص الناس حالة البلاء، ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه؛ فكانت الحكمة في هذا الابتلاء ذلك. فتلك هي الحكم المستفادة من إخبار رب العالمين -سبحانه وتعالى- بوقوع البلاء بعباده قبل وقوعه؛ فإذا وقع البلاء انقسم الناس قسمين: جازعين، وصابرين فالجازع حصلت له المصيبتان فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ففاز بالخسارة، والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا، والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان، وأما من وفقه الله تعالى للصبر عند وجود هذه المصائب فحبس نفسه عن التسخط قولًا وفعلًا، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقًا لحصول ما هو خير له، وأنفع منها فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب فلهذا قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. والصبر لغة: مصدر صبر يصبر، وهو مأخوذ من مادة صَبَرَ التي تدل على معان منها: الحبس، ولذلك قال الراغب في تعريف الصبر: الصبر هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسه عنه، حبس النفس عن الجزع، والفزع، والشكاية، والتسخط، والاعتراض بحيث يسلم المبتلى أمره لله سبحانه وتعالى، ويصل بعد الصبر إلى الرضا بقضاء الله، ويعلم أن اختيار الله -تبارك وتعالى- له خير من اختيار نفسه كما قال -عز وجل-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 216). وقال سبحانه: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19)، ومن هذا الخير ما وعد الله -تبارك وتعالى- به الصابرين في قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}

أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب، ثم وصف الله -تبارك وتعالى- الصابرين بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة}، وهي: كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} أي: مملوكون له مدبرون تحت أمره وتصريفه؛ فليس لنا من أنفسنا، وأموالنا شيء فإذ ابتلانا بشيء منها فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه، وأموالهم فلا اعتراض عليه، ومع أننا مملوكون له فإنا إليه راجعون يوم القيمة ليوفينا أجرنا، وثوابنا الذي وعدنا به على الصبر. {أُوْلَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، وصلاة الله -تبارك وتعالى- على عبده معناها الثناء عليه في الملأ الأعلى، {وَرَحْمَةٌ} عظيمة يدخلهم الله فيها، {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به، وهو هنا صبرهم لله تبارك وتعالى. وهكذا جمع الله -تبارك وتعالى- للصابرين ما لم يجمعه لغيرهم، فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 157)، وهذا من فضائل الصبر، وفضائل الصبر كثيرة؛ منها: أن الله -تبارك وتعالى- أخبر أنه يحب الصابرين فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146)، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه مع الصابرين فقال عز وجل: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين}، وهذه المعية معية خاصة لأولياء الله -تبارك وتعالى- الذين يحبهم، ويحبونه، ومقتضاها النصر، والتأيد، والسداد، والتوفيق، وهي خلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الحديد: 4)، فهذه المعية العامة من الله -عز وجل- لجميع خلقه معية الإحاطة، والقدرة، وهي تقتضي الخشية، والرهبة بينما الأولى تقتضي الرجاء، والرحمة، والأمن، والطمأنينة.

كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن الإمامة في الدين إنما تنال بالصبر، واليقين، فقال -عز وجل-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24)، وأخبر سبحانه أن التمكين في الأرض لا يتحقق إلا بالصبر؛ فقال على لسان يوسف عليه السلام، وقد كشف لإخوته عن هويته فقالوا متعجبين من حاله الذي انتهى إليها من الرفعة، والسيادة، والتمكين في الأرض: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90). وأخبر ربنا -سبحانه وتعالى- أن الأخلاق العالية، والأعمال الصالحة لا تنال إلا بالصبر فقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ ويْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحًا ولَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (القصص: 80)، وقال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ * ومَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 34، 35). وأخبر -سبحانه وتعالى- أن الصبر جُنة تقي العبد كيد العدو وضرره، فقال سبحانه: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120)، وأخبر -سبحانه وتعالى- أن النصر لا يكون إلا مع الصبر فقال سبحانه: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125)، ولذلك أمر المؤمنين بالصبر، والثبات عند لقاء العداء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 45، 46).

وصح في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((واعلم أن النصر مع الصبر))، وهكذا ظهر لنا أن خير الدنيا كله مرده إلى الصبر، وكذلك نعيم الآخرة لا يناله إلا الصابرون كما قال تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا * وجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا} (الإنسان: 11، 12). وقال سبحانه: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (الفرقان: 75)، ولهذا كان الصبر خير ما يعطاه الإنسان كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وما أعطي أحد عطاءً خيرًا، وأوسع من الصبر)). فهذا هو فضل الصبر على البلاء لكن هذا الأجر، والثواب إنما يكون على الصبر عند الصدمة الأولى كما قال -صلى الله عليه وسلم- لامرأة عند قبر، وهي تبكي، فقال: ((اتقي الله، واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فقيل لها: إنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتت بابه لتعتذر إليه فلم تجد عنده بوابين فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى))، يعني: إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة، وحرارتها فإنه يدل على قوة القلب، وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك. ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث؛ يعني: إن الأحمق الذي إذا نزلت به المصيبة يلطم الخدود، ويشق الجيوب، وينثر الشعور، ويدعو بالويل والثبور، ثم لا يكاد يمضي عليه ثلاثة أيام إلا ويسكن، ويهدأ، ويبرد حر المصيبة في قلبه فيظهر، وكأنه صابر محتسب، ولكن هيهات هيهات فعلى العاقل أن يحبس نفسه عند الصدمة الأولى عن الجزع، والفزع، ومخالفة الشرع، وألا يقول إلا ما يرضي الرب: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فيشترط لحصول المبتلى على أجر وثواب الصبر أن يصبر عند الصدمة الأولى متى قيل: حدث كذا مما يزعج الإنسان، ويفزعه، ويقلقه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون كما يشترط لحصول الأجر، والثواب على الصبر أن يكون الصبر إيمانًا، واحتسابًا ابتغاء وجه الله -عز وجل- ولذلك قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 7) أي: اصبر، واجعل صبرك لله عز وجل، ومدح أولي الألباب بقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِم}، فهؤلاء الذين يضاعف لهم الأجر، والثواب على المصيبة. فإن قيل: وهل يصبر الإنسان لغير الله فالجواب: نعم، ومما أثر عن بعضهم قوله: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع فهذا رجل يقول: أنه إذا نزلت به مصيبة تجلد، وصبر، وتصبر حتى لا يشمت به أعداؤه إذا رأوه فزعًا جزعًا من المصيبة فهو يصبر لا لله صبر، ولكن لم يكن صبره لله، ولكن صبره للشامتين حتى لا يشمتوا به فهذا لا أجر له، ولا ثواب أما الأجر، والثواب فلمن كان صبره ابتغاء وجه الله. ولتيسير الصبر أسباب: الصبر شاق على النفس؛ لأن للصبر من اسمه نصيبا لكنه يسير على من يسره الله عليه، ولتيسير الصبر أسباب إذا قارنت حزمًا، وصادفت عزمًا هانت المصيبة، وسهل الصبر عليها بإذن الله تعالى من هذه الأسباب التي تيسر الصبر على المصيبة: العلم بالآيات، والأحاديث المتقدمة التي فيها مدح الصابرين، وبشارتهم، ووعدهم بالجزاء الحسن كلما قرأ الإنسان القرآن، وما فيه من فضل الصبر، وقرأ أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وما فيها من فضل الصبر تصبر بإذن الله، ومنها

أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا هي بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير من عكس ذلك. ففي الحديث: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)). ومن الأسباب التي تعين على الصبر استشعار النفس بما تعلمه من نزول الفناء، وتقضي المسار، وأن لها آجالًا منصرفة، وأقدارًا منقضية إذ ليس للدنيا حال تدوم، ولا لمخلوق عليها بقاء كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران: 185)، ومنها أن يتصور انحلال الشدائد، وانكشاف الهموم، وأن الله قدرها بأوقات لا تنصرم قبلها، ولا تستديم بعدها؛ فلا تقصر تلك الأوقات بجزع، ولا تطول بصبر، وأن كل يوم يمر بها يذهب منها ببعضها حتى تنجلي كلها، وتنفرج، وتزول المكاره، والخطوب كما قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ولَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110)، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214). ومنها أن يعلم أن البلاء عنوان محبة الله -سبحانه وتعالى- كما في الحديث: ((إنّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم)) بل عليه أن يعلم أنه كلما ارتفع الإنسان منزلة عند الله -عز وجل- وقدرًا

زاد الله له في البلاء، وفي الحديث: عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ((قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)). فهذه الأسباب تعين المبتلى على الصبر، ثم عليه الدعاء بالصبر، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ومن يتصبر يصبره الله))، ومن يتصبر يعني يسأل الله تعالى الصبر، ولذلك مدح الله -تبارك وتعالى- السحرة سحرة فرعون بعد إيمانهم، وتهديد فرعون لهم بالعذاب مدحهم الله على تصبرهم، وسؤالهم الصبر بقوله: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126)، ومدح أتباع الأنبياء أنهم كانوا إذا لقوا أعداءهم سألوا الله تعالى الصبر: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 250) {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 147). فالصبر شيء عظيم جدًّا، وأهم الناس يلزمهم الصبر هم الدعاة إلى الله -عز وجل- يلزمهم أن يصبروا على تكاليف الدعوة، وأعباء الدعوة، ومشاق الدعوة، ويلزمهم أن يصبروا على المدعوين، وأذاهم، ويلزمهم أن يصبروا على كل ما يلقونه في سبيل تبليغ دعوة الله -سبحانه وتعالى- ولذلك أكثر الله -سبحانه وتعالى- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الصبر في القرآن الكريم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} (القلم: 48) {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35) {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 7) فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعيننا على القيام بما حملنا من واجب الدعوة إليه على بصيرة، وأن يرزقنا الصبر حتى نبلغ دعوة ربنا إيمانًا، واحتسابًا، ولعل الله -سبحانه وتعالى- أن يقر أعيننا برؤية ثمار دعوتنا؛ فإن لم نرها فستتحقق، ولو بعد وفاتنا كما قال الله لنبينا: {فَاصْبِرْ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أونَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (غافر: 77).

من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق.

من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق الرفق لغة مأخوذ من مادة رفق التي تدل على موافقة، ومقارنة بلا عنف هذا هو أصل الرفق، ثم يشتق منه كل شيء يدعو إلى راحة، وموافقة يقال: رفق بالأمر وله، وعليه يرفق رفقًا. والرفق اصطلاحًا: هو لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف، والرفيق: اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- ففي الحديث: عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)). ولقد أمر الله -تبارك وتعالى- موسى، وهارون -عليهما السلام- بالرفق حين قال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى} (طه: 43، 44). وامتن الله -سبحانه وتعالى- على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بما حباه من الرأفة، والرفق فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159). ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في الرفق بالعامة: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز -أي: أخفف في الصلاة- مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه))، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع الوضوء))، وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((اعتم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي))، وعنها -رضي الله عنها-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم))، وذلك في رمضان في صلاة قيام الليل. وعنها -رضي الله عنها- أنها قالت: ((ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا))، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحثُّ أصحابه على الرفق، ويرغبهم فيه، عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))، وعنها -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)). وعنها -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: ((يا عائشة ارفقي؛ فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيرًا دلهم على باب الرفق))، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار على كل قريب هين سهل))، وعن جرير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله))، وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن هذا الدين يسر، ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، ويسروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة))، وكان -صلى الله عليه وسلم- ينكر على من يشدد على نفسه عن

عائشة -رضي الله عنها-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها قال: مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه)). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد فرأى حبلًا ممدودا بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: لزينب تصلي فيه فإذا فترت تعلقت به فقال: حلوه حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد))، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها -أي: عدوها قليلة- فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ -كأنهم يلتمسون العذر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قلة عبادته، هكذا ظنوا فقالوا- قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر -ونحن لسنا كذلك فنحن بحاجة إلى اجتهاد في العبادة- فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له لكني أصوم، وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)). وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- رفيقًا بأصحابه، وأمرهم بالرفق، ونهاهم عن الشدة، والعنف، والتشدد، والتنطع، ويتأكد الرفق في حق العالم بالمتعلم، وفي حق العالم بالجاهل؛ فيجب على كل عالم أن يكون رفيقًا بكل متعلم، وأن يكون رفيقًا بكل جاهل؛ فلا يعنفه، ولا يوبخه، ولا يسبه، ولا يشتمه، ولا يضربه لقلة فهمه، ولا لسوء حفظه، ولا لخطأ صدر منه عفوًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((أن أعرابيًّا بال في ناحية المسجد فأسرع الناس إليه أي: لينهوه أو ليقعوا به فنهاهم

النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه -أي: على بول الأعرابي- سجلًا من ماء أو قال: ذنوبًا من ماء)). وعن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- قال: ((بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله)) وكان الكلام في أول الأمر مباحًا في الصلاة، كان الكلام المباح مباحًا؛ يعطس العاطس فيشمت، يسلم المسلم فيرد عليه السلام، ثم نهوا عن ذلك، ولم يعلم معاوية بأنهم قد نهوا عن الكلام فبينما هو يصلي إذ عطس رجل فقال: يرحمك الله ((قال: فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم)) -يعني يقولون: اسكت اسكت- لا يستطيعون أن يتكلموا قال: فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت -لم يفهم لماذا يسكتونه لكنه سكت- فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول معاوية: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله، ولا بعده أحسن تعليمًا منه فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: ((إن فتى شابًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، -ما هذا الذي تقول لرسول ال له - قالوا: مه مه، فقال: ادنه -ادنه يا بني اقترب مني- فدنا منه قريبًا، قال: فجلس -فخاطب فيه العقل- قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم -وأخذ يعدد عليه محارمه، كل ذلك يقول: لا والله يا رسول الله، فيقول: وكذلك الناس لا يحبونه لمحارمهم- قال: ثم وضع يده على صدي، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء)).

وهكذا علم النبي -صلى الله عليه، وسلم- أهل العلم كيف يرفقون بأهل الجهل حتى يعلموهم، وينتفعوا بعلمهم؟ فيتأكد على العالم أن يرفق بالجاهل، كما يتأكد على الداعية أن يرفق بالمدعوين؛ فيجب على الداعية أن يكون رفيقًا بالمدعوين؛ لأن الرفق هو أقرب الطرق إلى القلوب، وأهم أسباب القبول، ولذلك قال الله تعالى لموسى، وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى} (طه: 43، 44) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} أي: هينًا لا عنف فيه، ولا صلابة، ولا غلظة، ولا فظاظة لعله يتذكر ما ينفعه فيأتيه أو يخشى ما يضره فيتركه، وقد فسر هذا القول اللين بقول الله تعالى في سورة "النازعات": {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات: 17 - 19). فالقول اللين المجمل في سورة "طه" {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} بينته آيات "النازعات": {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}. وأحسن الطرق تفسير القرآن أن يفسر القرآن بالقرآن، والمتأمل في هذه الكلمات يرى الرفق، واللين ينسابان من كل حرف فيها فإنه أتى بحرف هل الذي يدل على العرض، والمشاورة {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} كأنه يعرض عليه، ويشاوره مما يفيد أنه يجب على الدعاة أن يعلموا أن الدعوة عرض لا فرض؛ عليك أيها الداعية أن تحسن عرض دعوتك، ولا يجوز أن تفرضها: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99)، والقاعدة العظيمة في الإسلام: "لا إكراه في الدين" قاعدة يجب على الدعاة أن يفقهوها، ويعوها لا إكراه في الدين فإنما الدعوة عرض لا فرض فاعرض دعوتك، ولا تفرضها فإن الله تعالى قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) فقل الحق من ربكم، واترك الناس بعدها أحرارًا يختارون لأنفسهم ما شاءوا من الإيمان، والكفر فجزاء الجميع عند الله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (النحل: 111). ولذلك لما

قال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} بين جزاء من كفر، ومن آمن فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 29، 30). فالدعوة عرض لا فرض؛ فإذا أحسن الداعية عرض دعوته، واستخدم الأسلوب الهادئ، والكلمة الطيبة اللينة الرقيقة، وصل إلى قلوب الناس من أقصر الطرق وأقربها، واستجاب الناس لدعوته، ثم تأمل قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}، فهو يدعوه إلى التزكية، والتطهر، ولكنه لم يقل له: تعال أزكيك أو أطهرك، وإنما تزكي أنت نفسك أنا أدلك على طريقة التزكية، وأنت تزكي نفسك، ثم وأهديك إلى ربك فتخشى إلى ربك الذي رباك بنعمه الظاهرة والباطنة، وآتاك مما سألته، ومما لم تسأله مما يوجب عليك أن تذكر نعم الله، وتقابلها بالشكر، وهكذا يجب أن يكون الداعية رفيقًا، ولا يجوز أن يكون عنيفًا غليظا فإن الداعية إذا كان عنيفًا غليظًا فقد خالف أمر الذي يدعو إليه. فالدعوة إلى الله، والله أمر الدعاة أن يكونوا هينين لينين أمرهم بالرفق، ونهاهم عن العنف؛ فإذا خالف الداعية فقد خالف أمر الله، وخالف أيضًا هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- هينًا لينًا سهلًا رفيقًا أحسن عرض دعوته فنجح في تبليغ رسالته حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وامتن الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بما وفقه له من الرفق، واللين فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. فإذا أعطي الداعية الرفق فقد أعطي مفاتيح النجاح في دعوته، وتبليغ رسالته، وإذا تخلى الداعية عن الرفق، وتحلى بالعنف؛ ففشل في دعوته فلا يلومن إلا نفسه، ولذلك لما بعث نستور صاحبيه إلى الملك يدعوان إلى دين عيسى -عليه السلام-

أمرهما أن يرفقا بالملك، وأن يدعواه بالحكمة، والموعظة الحسنة فخالف الصاحبان النصيحة، فدخلا على الملك فأغلظا له القول، وعنفاه فأخذهما الملك، وحبسهما، وآذاهما فقال لهما نستور: "ما مثلكما إلا كمثل امرأة لم تلد حتى كبرت سنها فولدت فاستعجلت شباب ولدها لتنتفع به فأطعمته أكثر مما يطيق فقتلته فلم تحقق هدفها". ومن هنا قيل: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فيتأكد على الداعية أن يرفق بالمدعوين حتى يقبلوا عليه، ويلتفوا حوله، وينتفعوا في دعوته، وأن يدخلوا في دين الله -عز وجل. كما يتأكد الرفق في حق أفراد الأسرة بعضهم ببعض فيرفق الرجل بامرأته فلا يكلفها ما لا تطيق، وإذ كلفها أعانها كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى} (المائدة: 2) عن إبراهيم عن الأسود قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في أهله؟ قالت: "كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة". وعلى المرأة أن ترفق بزوجها فلا تطلب منه ما لا يملك، ولا تكلفه ما لا يجد، وعلى كل من الرجل، والمرأة أن يرفق بالأولاد فلا يعنفهم، ولا يوبخهم، ولا يسبهم، ولا يشتمهم، ولا يضربهم، ولا يكلفهم ما لا يطيقون، وتمتد دائرة الرفق لتشمل كل ذي سلطان في سلطانه فيجب على كل ذي سلطان أن يرفق بمن في سلطانه، وألا يكلفهم ما لا يطيقون، وأن يعفو عن ذلاتهم، ويقيل عثراتهم؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لكل سلطان رفيق فقال: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)). فينبغي على كل ذي سلطان أن يرفق بمن في ولايته، وتحت سلطانه حتى تشمله هذه الدعوة المباركة: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)). ولا تقتصر دعوة الإسلام إلى الرفق على البشر فقط بل تمتد لتشمل الرفق بالحيوان، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما رجل يمشي بطريق

اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث -يأكل الثرى من العطش- فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجرًا فقال: في كل كبد رطبة أجر)). وعن عبد الله -رضي الله عنه- قال: ((كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها؛ فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا، ولدها إليها)). وعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه- قال: ((دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا لرجل من الأنصار؛ فإذا جمل فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- حن وزرفت عينا الجمل، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح بفراه فسكت، فقال: من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه، وتدئبه)). بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الله يعذب الذين يعذبون الحيوان، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت))، فلنتحلى جميعًا بالرفق، ولنتخلى عن العنف فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وما رأينا الذين اتخذوا العنف طريقًا لهم في الدعوة جنوا ثمرة من ثمار دعوتهم بل جلبوا لأنفسهم الشر، والبلاء، ولم يقتصر الشر، والبلاء الذي تسببوا فيه عليهم بل امتد ليشمل غيرهم من الأبرياء. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4).

الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4).

من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4)) من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: العدل لغة: ضد الجور، ومعناه الاعتدال، والاستقامة، والميل إلى الحق. والعدل شرعًا: هو الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب هو عما هو محظور دينًا، وقد أمر الله سبحانه، وتعالى عباده المؤمنين بالعدل فقال بحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} (النحل: 90)، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)، وأمر -سبحانه وتعالى- بالعدل في القول، فقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152)، وقال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: 8). ففي الآية الأولى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152) أي: قولوا الحق، وقولوا قول العدل، ولو كان القول في حق ذي قربى، وقولوا الحق، والعدل، ولو كان القول يترتب عليه إنصاف العدو: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل؛ فإن العدل واجب على كل أحد، وفي كل أحد، وفي كل حال. وقد قال بعض السلف: "ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه"، وبالعدل قامت السموات، والأرض، وقد روى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديبية، وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابه فأنزل

الله هذه الآية: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} (المائدة: 2) قال ابن عباس، وقتادة: " {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ}: لا يحملنكم"، وقال أهل اللغة: "يقال: جرمني زيد على بغضك أي: حملني عليه"، والشنآن: البغض عن ابن عباس، وقتادة قالا: {شَنَآنُ قَوْمٍ} عداوة قوم، والمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم، وعداوتهم واعتداؤهم عليكم حيث صدوكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم طلبًا للتشفي منهم؛ فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جني عليه أو ظلم، واعتدي عليه؛ فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه أو يخون من خانه". وقد أمر الله -سبحانه وتعالى- أن نحكم بالعدل بين الناس جميعًا فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)، {وإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ} هكذا على الإطلاق بين الناس على اختلاف مللهم، وألوانهم، وأجناسهم، وأديانهم {أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} فلا تميلوا إلى غني لغناه، ولا على فقير لفقره كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أو الْوَالِدَيْنِ والْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيرًا فَاللَّهُ أولَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وإِنْ تَلْوُوا أو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135). وقال سبحانه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ واسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ولَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى: 15)، وأمرت لأعدل بينكم، وإن كذبتموني، وكفرتم بي فالعدل الذي يسعى الإسلام لإقامته ليس عدلًا بين المسلمين بعضهم، وبعض فحسب، ولا عدلًا مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه إنسانًا هذه الصفة صفة الناس هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة

يلتقي عليها البشر جميعًا مؤمنين، وكفارًا أصدقاء، وأعداء سودًا، وبيضًا عربًا وعجمًا. وهذا دليل، واضح على كمال دين الإسلام، وحسن ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق، يبين أنه دين سماوي لا شك فيه. وهكذا ربى الإسلام أتباعه على العدل، ونهاهم عن الجور، والظلم قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ أولَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} (إبراهيم: 42 - 45)، وقال سبحانه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 227)، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)). وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من دعوة المظلوم على الظالم ((فلما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال: واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها، وبين الله حجاب)). وقد ورد أن الله -سبحانه وتعالى- يستجيب للمظلوم ولو كان كافرًا فإجابة المظلوم، ونصرته حق تفضل الله -تبارك وتعالى- به على عباده، وأما الكُفر فهذا أمر يجزي الله به الكافرين يوم لقائه؛ فأمر الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين بالعدل، ونهاهم عن الجور، والظلم، وبين -سبحانه وتعالى- أنه يحب المقسطين فقال -عز وجل-: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، وقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) فأمر بالعدل في الحكم، ونبه على أن الحاكم المقسط ينال خيرًا عظيمًا، وهو محبة الله، وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا، والعيشة الراضية في الآخرة.

وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا))، وفي هذا دليل على العناية بهم؛ لكونهم عن يمينه -جل وعلا- ودليل على شدة قربهم منه، وفوزهم برضوانه، ومن العدل عدل كل والٍ في ولايته عدل الراعي مع رعيته بتوفير حاجاتهم، وقضاء مصالحهم، والتسوية بينهم في الحقوق، وحفظ الضروريات الخمس التي تقوم عليها الحياة، وهي الدين، والعقل، والعرض، والمال، والحياة، ومن العدل عدل الرجل مع نسائه، وعدله مع أولاده؛ فلا يجوز أن يميل ذو النساء إلى امرأة دون الأخرى كما لا يجوز أن يميل الوالد إلى ولد دون الآخر فقد قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: 129). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة، وشقه ساقط))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، وقد جاءه بشير أبو النعمان فقال: يا رسول الله، اشهد علي أني أعطيت النعمان كذا، وكذا، فقال: ألك ولد غيره؟ قال: نعم، قال: أكل أولادك أعطيت مثل النعمان؟ قال: لا، قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)). ومن العدل: أن يعدل الإنسان مع غيره في المعاملات بإيفاء جميع ما عليه، وألا يبخس الناس أشياءهم، ولا يغشهم، ولا يخدعهم، ولا يظلمهم قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (الأنعام: 152) وتوعد المخالفين فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وإِذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1 - 3)، وهكذا أمر الله -سبحانه وتعالى- بالعدل، ونهى عن الجور، والظلم، ولقد قام المؤمنون بما أمرهم الله تعالى به من الحق، والعدل، وأعطوا كل ذي حق حقه، ولم يفرقوا بين الناس في ذلك لجنس أو لون أو دين.

عن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اختصم إليه مسلم، ويهودي فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له به". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر اشترط عليهم أن الأرض له، وكل صفراء، وبيضاء -يعني: الذهب، والفضة- وقال له أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض فأعطيناها على أن نعملها ويكون لنا نصف الثمرة، ولكم نصفها)) أي: طلبوا منه المزارعة، والمزارعة أن يعطي المالك مالك الأرض الذي لا يحسن زراعتها، ولا يقوى عليها يعطيها لمن يحسن زراعتها، ويقوم عليها على أن ما يخرج منها يكون لهم على النصف أو غير ذلك مما يتفقون عليه. فعمر اتفق معهم على أن له الأرض، وكل صفراء، وبيضاء فقالوا: "نحن أعلم بالأرض" يعني: نحن أعلم بالأرض، وزراعتها فنحن نزرعها، ولكم نصفها، ولنا نصف الثمرة فأعطاهم على ذلك فلما كان حين وقت الحصاد بعث إليهم عبد الله بن رواحة فحزر النخل أي: قدر النخل كم يأتي من هذا النخل من بلح، وهو الذي يدعونه أهل المدينة الخرص، الحزر: الخرص، فقال: فيه كذا، وكذا فقالوا: أكثرت علينا يا ابن رواحة، قالت اليهود لابن رواحة: أنت قدرت التقدير غير صحيح، وظلمتنا اعتديت علينا قلت: يأتي بكذا طن، وهو لا يأتي بها فقال: أنا أحزر النخل، وأعطيكم نصف الذي قلت قال: فقالوا: هذا الحق، وبه تقوم السماء والأرض، يعني: لما اعترضوا على ابن رواحة لما قدر النخل، وما عليها قالوا: ظلمتنا، اعتديت علينا النخل لا تأتي بهذا الذي ذكرته فقال: إذا كنتم تظنون أنني اعتديت عليكم؛ فأنا على استعداد أن أعطيكم نصفها فقالوا: هذا الحق وبه تقوم السماء، والأرض فقالوا: رضينا أن نأخذ بالذي قلت. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأخذ رزقه، وكان جنديًّا من جنود المسلمين، ولكنه كان في الجاهلية قد قتل أخًا لعمر فلما رآه عمر اربد وجهه، وتغير حين رأى قاتل أخيه فقال: يا هذا، إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم،

فقال الرجل لعمر: أومانعي ذلك عندك حقًّا من حقوق الله؟ أنت لا تحبني فهل عدم حبك لي يمنعني أن آخذ حقي منك قال: لا، لا يمنعك أن تأخذ حقك فقال الرجل: ما يضيرني بغضك إياي إنما يأسى على الحب النساء. فقد عرف الرجل من ورع عمر، ودينه أن شدة غضبه، وغيظه عليه، وكراهيته له لا تخرج به عن العدل إلى الظلم فلما وثق من عدل عمر أمن من بطشه. وروي أن يهوديًّا شكا عليًّا إلى عمر في خلافته -رضي الله عنه- فقال عمر لعلي: "قف بجوار خصمك يا أبا الحسن فوقف، وقد علا وجهه الغضب فبعد أن قضى الخليفة بينهم بالعدل قال: أغضبت يا علي أن قلت لك: قف بجوار خصمك؟ فقال: لا، والله يا أمير المؤمنين ولكن من كونك كنيتني بأبي الحسن فخشيت من تعظيمك إياي أمام اليهودي أن يقول: ضاع العدل بين المسلمين". هذه أمثلة من قيام المسلمين بالحق، والعدل مع غير المسلمين، والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة تشهد كلها بأن هذه الوصايا، والفرائض الربانية قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجًا في عالم الواقع يؤدى ببساطة، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة إنها لم تكن مثلًا عليا خيالية، ولا نماذج فردية إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقًا آخر سواه. وهكذا سبق الإسلام كل نظم العدالة الحديثة حين جعل العدل فوق كل شيء، وأمر بالوزن بالقسطاس المستقيم بين الكافر، والمسلم، والعدو، والصديق، والموالي، والمعاهد؛ فهو بذلك يستحق من جميع الناس آمنوا به أم لم يؤمنوا نظرة صادقة منصفة تجعلهم يعترفون بأن الإسلام دين السماحة، والعدل لا دين الإرهاب، والجور، وأنه لا يجوز الحكم على الإسلام بتصرف بعض الأفراد الذين خالفوا شريعته، وشوهوا صورته، فالإسلام حجة على الناس، وليست أعمال الأفراد حجة على الإسلام؛ فعلى المسلمين أن يحرصوا على نشر العدل،

من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو.

وأن يقضوا به، وأن يحكموا به بين كل من يتحاكم إليهم، ولو كان غير مسلم. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره الله تعالى بالعدل بين اليهود لو تحاكموا إليه فقال عنهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42). وعلى الدعاة إلى الله -سبحانه وتعالى- أن يتحلوا بالعدل بين الناس، وأن يحرصوا على إظهار هذا الخلق في تصرفاتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وحكمهم، وقضائهم، وأن يظهروه للناس حتى يعلم الجميع سماحة الدين، وإنصاف الإسلام، وعدالة الإسلام فيدخلوا فيه بإذن الله عز وجل، فالحذر كل الحذر من الجور، والظلم فإن الجور، والظلم سبب فناء الأمم بينما العدل من أعظم أسباب بقاء الأمم، وانتشار المحبة، والوئام فيها إن الدولة إنما تبقى بالعدل فإذا ظلمت أهلكها الله -سبحانه وتعالى- كما قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (يونس: 13)، ولقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بيته قال: ((بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أذل أو أذل، أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)). من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو العفو لغة: مصدر من قولهم: عفا يعفو عفوًا، ومعناه: الترك، والطلب. واصطلاحًا: قال المناوي: العفو القصد لتناول الشيء، والتجاوز عن الذنب، وقال الكفوي: العفو كف الضرر مع القدرة عليه، وكل من استحق عقوبة فتركها فهذا الترك عفو، وقال أيضًا: العفو عن الذنب يصح رجوعه إلى ترك ما يستحقه المذنب من العقوبة، وإلى محو الذنب، وإلى الإعراض عن المؤاخذة كما يُعرض المرء عما يسهل على النفس بذله.

والله -سبحانه وتعالى- هو العفو أي: كثير العفو سمى نفسه عفوًّا في أكثر من آية منها قوله سبحانه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء: 98، 99)، وقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أو تُخْفُوهُ أو تَعْفُو عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (النساء: 149)، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي ولَدْنَهُمْ وإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وزُورًا وإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2). قال الغزالي -رحمه الله-: والعفو صفة من صفات الله تعالى، وهو الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهذا الاسم العفو قريب من اسم الغفور لكنه أبلغ منه؛ العفو أبلغ من الغفور؛ فإن الغفران ينبئ عن الستر غفر: ستر، والعفو: ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر أن تستر الشيء غطيته، وهو باق أما محوته فقد أزلته فلم يبق فاسم العفو أبلغ من اسم الغفور، ولقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالعفو عن زلات المؤمنين فقال سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران: 159)، وأمر -سبحانه وتعالى- المؤمنين أن يعفو بعضهم عن زلات بعض فقال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى: 40)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وإِنْ تَعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن: 14). فالعفو صفة من صفات الله -عز وجل- وصفة من صفات الأنبياء والمرسلين، هو أيضًا صفة من صفات عباد الله المتقين قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاء والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 133، 134)، وبين -سبحانه وتعالى- أن العفو أقرب للتقوى فقال: {وَأَنْ تَعْفُوا

أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (البقرة: 237)، وبين أن أجر وثواب العفو عليه سبحانه فقال: {فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40)، وبين -سبحانه وتعالى- هذا الأجر الذي وعد به العافين عن الناس فقال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ونِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران: 136). ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عفوًا غفورًا يعفو عن المسيئين، ويتجاوز عن الظالمين، عن عبد الله قال: "كأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة -قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته- ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه وضحك، ثم أمر له بعطاء)). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: ((أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد؛ فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: لما رجع- من غزوته قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس يستظلون بالشجر، قال جابر: ونمنا نومة فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وقد جاءوه، وعنده الأعرابي: إن هذا الأعرابي اخترط علي سيفي، وأنا نائم فاستيقظت، وهو في يده سلطًا فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله ثلاث مرات، ولم يعاقبه، وجلس)). فهذا أعرابي جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم فأخذ السيف، وأيقظه، وقال: من يمنعك مني؟ يعني: من يمنعك مني يا محمد؟ أنا، وأنت، والسيف، ولا أحد عندنا،

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الله))، الله يمنعني منك. كما وعده ربه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فقال: الله يمنعني ويعصمني؛ (فسقط السيف من يد الأعرابي فأخذه وقال للأعرابي: من يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: يا محمد، كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله قال: لا، ولكن أعاهدك ألا أحاربك، وألا أكون مع قوم يحاربونك فعفا عنه -صلى الله عليه وسلم- وأطلق سراحه)). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد)) نحن نعلم من سيرته -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد أنه وقع في حفرة فشج وجهه، وكسرت رباعيته، وسال الدم على وجهه عليه الصلاة والسلام فكأن عائشة ترى أن هذا أمرًا عظيمًا، وأذًى كبيرًا، فتسأله -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ هل أوذيت أكثر من ذلك؟ هل ابتليت أكثر من ذلك؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لقد لقيت من قومك -يعني: لقد لقيت منهم كثيرًا، آذوني كثيرًا- وكان أشد ما لقيت يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب)) مكان بين الطائف ومكة لما ذهب إلى الطائف، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا عليه، ثم لم يسكتوا عنه بل سلطوا صبيانهم، ونساءهم فرموه بالحجارة من الشوارع فوق الأسطح. قال: ((فرفعت رأسي فإذا ظلة من السحاب قد أظلتني، وإذا جبريل يقول: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، وقد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما تشاء فتكلم ملك الجبال فقال: يا محمد، إن ربك قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وأنا ملك الجبال أمرني أن أفعل ما تشاء فما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، وقال: لا إنما بعثت

رحمة، ولم أبعث عذابًا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، أو قال: أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)). وهكذا رأى الصحابة -رضي الله عنهم- العفو، واقعًا عمليًّا في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الداعية الأول إلى الله -عز وجل- فأحبوا العفو، وتخلقوا به، ومع ذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- رغبهم في العفو، وحثهم عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا)). كثيرًا ما يؤذى الإنسان، ويضطهد، وتحدثه نفسه بالعفو فيأتيه الشيطان، ويزين له أن هذا العفو ضعف، وأن الخصم لن يكف عن أذاك، ولن يكف عن الاعتداء عليك، والأولى لك أن تنتقم، والأولى لك أن تثأر، وهكذا، لا هذه ذلة، ومهانة أن تعفو لا ليست ذلة، ولا مهانة ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا هكذا يقول صلى الله عليه وسلم. وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: ((لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال فقال: يا عقبة، صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك)). وعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ثلاثة أقسم عليهن ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)). هكذا ربى النبي -صلى الله عليه، وسلم- أصحابه على العفو تربية عملية نظرية تربية نظرية بين لهم فضائل العفو، وحثهم عليه، ورغبهم فيه. تربية عملية أراهم العفو متمثلًا في شخصه -صلى الله عليه وسلم- عن كل من آذاه، وأساء إليه كما سمعنا بعض هذه الأمثلة، والنماذج في عفوه -صلى الله عليه وسلم. ولقد

آتت هذه التربية العملية، والدعوة القولية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آتت ثمارها في نفوس أصحابه فكان العفو سجيتهم. ومن أمثلة عفو الصحابة -رضوان الله عليهم- عمن آذاهم ما جاء في الصحيح في حديث الإفك لما خاض أهل الإفك في عرض أمنا -رضي الله عنها عائشة- وزوج نبينا -صلى الله عليه وسلم- الطيبة بنت الطيب، وزوج الطيب الصديقة بنت الصديق، وزوج أصدق الخلق أجمعين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما خاضوا في عرضها، ونزلت البراءة: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (النور: 26) كان من الذين خاضوا في هذا الإفك مسطح بن أثاثة، وكان مسطح قريبًا لأبي بكر -رضي الله عنه- وكان فقيرًا، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- ينفق عليه لفقره، وقرابته فلما نزلت آية البراءة، وخاض مسطح في عرض عائشة غضب أبو بكر على مسطح؛ لأنه لم يراع حرمة القرابة، ولم يراع فضل الصدقة؛ أولًا: هو قريب أبو بكر فيؤذيه ما يؤذي أبا بكر، وثانيًا: لأبي بكر فضل عليه فهو ينفق عليه. فكان الواجب إن لم يراع حرمة القرابة أن يراعي الفضل، والإحسان فإن الله تعالى قال: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) لكن مسطح خاض مع الخائضين في حديث الإفك، فلما نزلت البراءة غضب أبو بكر فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى قوله في حق أبي بكر: {وَلَا يَأْتَلِ أولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} (النور: 22) فسمى أبا بكر أولي الفضل فجعله جماعة جعل أبا بكر وحده هو أولي الفضل {وَلَا يَأْتَلِ ولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا ولِي الْقُرْبَى والْمَسَاكِينَ والْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22) فقال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، ويقربهم، وكان القراء أصحاب مجلس عمر، ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانًا فقال عيينة لابن أخيه الحر: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه؛ يا ابن أخي أنت من المقربين إلى أمير المؤمنين، وأنا أريد أن أدخل عليه فاستأذن لي حستى أدخل، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن، فأذن عمر فما هو أن دخل عيينة على أمير المؤمنين عمر حتى قال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فبادره الحر فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وإن هذا من الجاهلين قال: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما كان يوم أحد هزم المشركون فصرخ إبليس -لعنة الله عليه-: أي عباد الله أخراكم، أي: جاءكم العدو من ورائكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم. المسلمون أنفسهم بعدما تولوا الأدبار هاربين من العدو نادى عدو الله إبليس عباد الله أخراكم ارجعوا العدو جاءكم من ورائكم، فرجع المدبرون فالتقوا مع الثابتين هؤلاء هكذا، وهؤلاء هكذا، فاجتلدت هي وأخراهم، يعني ضرب المسلمون بعضهم بعضًا، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، نظر حذيفة بن اليمان فإذا هو بأبيه اليمان يكاد يقتل قال: أي عباد الله أبي أبي، قالت: فوالله ما احتجزوه حتى قتلوه، المسلمين قتلوا أخاهم اليمان والد حذيفة بن اليمان؛ فقال حذيفة: يغفر الله لكم، يغفر الله لكم قتلكم لأبي، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله -عز وجل.

وفي رواية ابن إسحاق فقال حذيفة: "قتلتم أبي" قالوا: والله ما عرفناه وصدقوا فقال حذيفة: يغفر الله لكم فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدفع لحذيفة دية أبيه؛ لأن المسلمين قتلوه خطأ، فتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا زاد من شأنه، ورفع من قدره عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك منه -رضي الله عنه- عملًا بقوله تعالى في الدية: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (النساء: 92) فالله تعالى فرض في القتل الخطأ دية تسلم إلى أهل المقتول، وندبهم إلى العفو، والصدقة فقال: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}، وقد أخرج هذا الحديث الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه، وترجم عليه بقوله: باب العفو في الخطأ بعد الموت. والله -تبارك وتعالى- قد ندب إلى العفو في الدية حتى في دية القتل العمد فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 178) فعلى الدعاة إلى الله -عز وجل- أن يتحلوا بخلق العفو عن المسيء كما أمر الله -عز وجل-: {خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159)، وقال -سبحانه وتعالى-: {وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22). إن الداعية لا يسلم من أذى المدعوين سواءً كان أذى قوليًّا أو فعليًّا؛ لأن الأصل في الداعية أنه يأمر الناس بما يكرهون، وينهاهم عما يحبون، حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، وهذه هي دعوتنا ندعو الناس إلى الجنة، ونحذرهم من النار فأنت تأمرهم بما يكرهون، وتنهاهم عما يحبون فلا تسلم أيها الداعية من أذى الناس، ولو بالقول فلابد أن تصبر على الأذى كما وصى لقمان ابنه حيث قال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ الْمُنْكَرْ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان: 17)، ولكن لا يكفي الصبر بل لا بد عليك أيها الداعية أن

تصبر، وأن تعفو، ولا تلجئ من أخطأ في حقك إلى أن يعتذر لك بل بادره أنت بإظهار العفو عنه، والصفح إيمانًا، واحتسابًا فإن العفو عن الناس من أسباب عفو رب الناس، ولذلك قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور: 22). ولقد كان من الدعاء الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمنا عائشة تدعو به ليلة القدر: ((وقد قالت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)). فالعفو عن الناس من أسباب عفو رب الناس، ومن أسباب أيضًا الدعاء، والرجاء، وبذلك أمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أن ندعو الله -تبارك وتعالى- أن يعفو عنا قال الله تعالى معلمًا عباده المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا ولَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا ولَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي، وحين يصبح يقول: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا، والآخرة، اللهم إني أسألك العفو، والعافية في ديني، ودنياي، وأهلي، ومالي اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((فقدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدمه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)). وصلى الله وسلم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح.

الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح.

من خصائص الإسلام: الربانية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح) من خصائص الإسلام: الربانية إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: والربانية كما يقول علماء العربية: "مصدر صناعي منسوب إلى الرب زيدت فيه الألف والنون على غير قياس، ومعناه: الانتساب إلى الرب أي: الله -سبحانه وتعالى- ويُطلق على الإنسان أنه رباني إذا كان وثيق الصلة بالله عالمًا بدينه، وكتابه معلمًا له قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79) فمن تعلم، وعمل، وعلم فذلك العالم الرباني الذي يدعى في ملكوت السموات عظيمًا. والمراد بربانية الإسلام أن الإسلام عقيدة وعبادة، ومعاملة كله من عند الله رب العالمين الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وهو العليم الحكيم فهو أعلم بما يصلح الإنسان، وبما يصلح له، وهو أعلم بما يسعده، وبما يشقيه؛ فلا سعادة للإنسان، ولا فلاح له، ولا نجاح في الدنيا والآخرة إلا بقبول هذا الدين الذي هو من عند الله رب العالمين. والدليل على أن الإسلام رباني أي: من عند الله رب العالمين أن مصدر الإسلام الأساس هو القرآن الكريم، والسنة النبوية أما القرآن الكريم فهو كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وليس لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فيه أية دور سوى دور التبليغ، وقد بلغه كما سمعه من جبريل عن رب العالمين بلغه بكل أمانة بلا زيادة، ولا نقصان. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة مصرحة بأن القرآن الكريم تنزيل رب العالمين يقول الله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر: 1) {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (غافر: 2) {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الواقعة: 80) {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1)، ولما زعم

الكفار أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- افترى هذا القرآن من عنده كذبهم الله -تبارك وتعالى- في قولهم، ووصفهم بالظلم، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وزُورًا * وقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ} (الفرقان: 4 - 6)، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يونس: 37). فالدليل على أنه من عند الله -عز وجل- لا يُمكن لإنسان مهما بلغ في العلم والفصاحة، والبلاغة مبلغًا لا يمكن أن يفتري هذا القرآن أبدًا، ولذلك طلب الله -تبارك وتعالى- من الكفار أن يأتوا بمثل هذا القرآن في أكثر من موضع فلم يستجيبوا لذلك، طلب منهم أن يأتوا بحديث مثله، فلم يفعلوا فطلب أن يأتوا بعشر سور مثله، فلم يفعلوا فطلب منهم أن يأتوا بسورة مثله، فلم يفعلوا فطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يفعلوا بل ولم يحاولوا فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} (البقرة: 23، 24). يعني الآن، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إلى يوم القيامة {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} اتقوها بالإيمان بأن القرآن كلام الله رب العالمين، وليس لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فيه أية دور سوى دور التبليغ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثم لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44 - 47). فتوعد الله -تبارك وتعالى- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لو تقول عليه أن يقطع منه الوتين، وهو شريان الحياة فيموت، ولم يفعل رب العالمين سبحانه بنبيه شيئًا من هذا الوعيد؛ فدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يتقول على ربه شيئًا، ولم يزد في القرآن الذي أوحاه إليه، ولم ينقص منه.

كما أنّ مما يدل على أن القرآن كلام الله رب العالمين أن القرآن الكريم تضمن أخبارًا كثيرة عما كان، وعما سيكون مما لا سبيل لمحمد -صلى الله عليه وسلم- إلى معرفته إلا أن يكون وحيًا أوحاه الله -تبارك وتعالى- إليه، الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا في القرآن الكريم عن نبأ آدم عليه السلام، وما كان بينه، وبين إبليس في الجنة قبل أن ينزلا إلى الأرض، ثم أخبرنا بما كان من بني آدم بعد نزولهم في الأرض مما سبق حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكل هذا ما كان محمد ليعلمه إلا أن يكون وحيًا أوحاه الله إليه، ولذلك نرى الله -سبحانه وتعالى- كثيرًا ما يعقب على القصص القرآني بالإشارة إلى أنه وحي الله إلى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- لما قص الله تعالى في سورة "هود" قصة نوح -عليه السلام- مع قومه قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ ولَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49). ولما قص عليه قصة يوسف -عليه السلام- وإخوته قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ومَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102)، ولما قص عليه قصة مريم -عليها السلام- وقصة زكريا عليه السلام مع مريم قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ومَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ومَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 44). فإخبار القرآن بهذا القصص الذي ما كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن يعلمه دليل على أن القرآن كلام الله رب العالمين. كما أن في القرآن إخبارًا ببعض ما سيكون مما لم يكن كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن انتصار الروم على الفرس بعد هزيمة الروم، وكان كما أخبر الله قال تعالى: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 1 - 4)، وما كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن يجرؤ على الإخبار بأن الروم ستغلب فارس في بضع سنين لو لم يكن متأكدًا مائة في المائة أن هذا شيء من الله أوحاه الله إليه فلا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يخلف أبدًا؛ لأنه كان

يعلم أن أعداءه يتربصون به الدوائر، فلو أخبر أن الروم ستنتصر، ثم لم تنتصر لكان هذا مدخلًا لهم إلى تكذيبه، ورد دعوته. فمثل هذه الأنباء، والأخبار عما كان، وعما سيكون مما يدل على ربانية هذه الرسالة. كما أن في القرآن الكريم إشارة إلى بعض العلوم الكونية، والإنسانية التي لم يكن لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بها علم، كل ذلك يفيد إفادة قطعية أن القرآن كلام الله رب العالمين كما أن المصدر الثاني للإسلام هو السنة والسنة أيضًا وحي من الله -عز وجل- وإن لم تكن وحيًا صريحًا كالقرآن لكن الله تعالى قال عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4)، وصرح ربنا -سبحانه وتعالى- بأنه نزل على نبيه السنة كما نزل عليه القرآن فقال عز وجل: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (النساء: 113)، والحكمة: هي السنة، وهكذا ثبتت لنا ربانية الإسلام، وأنه دين الله عز وجل وشرعه. ويترتب على هذه الخاصية، وهي أن الإسلام رباني أي: من عند الله -عز وجل- وحده يترتب على كون الإسلام من عند الله كماله، وخلوه من معاني النقص، والجهل، والهوى، والظلم لسبب بسيط واضح هو أن صفات الصانع تظهر فيما يصنعه، ولما كان الله تعالى له الكمال المطلق في ذاته، وصفاته، وأفعاله، ويستحيل في حقه خلاف ذلك فإن أثر هذا الكمال يظهر فيما يشرعه من أحكام، ومناهج، وقواعد، وبالتالي لا بد أن يكون كاملًا، وهذا بخلاف ما يصنعه الإنسان، ويشرعه فإنه لا ينفك عن معاني النقص، والهوى، والجهل، والجور؛ لأن هذه المعاني لاصقة بالبشر، ويستحيل تجردهم عنها كل التجرد، وبالتالي تظهر هذه النقائص في القوانين، والشرائع التي يصنعونها. ويكفينا هنا أن نذكر مثالًا واحدًا للتدليل على ما نقول: جاء الإسلام بمبدأ المساواة بين الناس في الحقوق، وأمام القانون بغض النظر عن اختلافهم في الجنس

أو اللغة أو اللون أو الحرفة أو الغنى أو الفقر، وأقام ميزان التفاضل على أساس التقوى، والعمل الصالح كما نطق به كتاب ربنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، ومن الأحاديث المشهورة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين شفع فيه أو عنده أسامة بن زيد ألا يقطع يد المرأة المخزومية التي سرقت قام في الناس خطيبًا، وقال: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). وبلغت دقة تطبيق هذا المبدأ إلى حد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على مسلم عربي قوله لمسلم غير عربي: "يا ابن السوداء"، واعتبر هذا القول من بقايا الجاهلية الأولى. وواضح من ذلك أن التشريع الإسلامي ارتفع إلى أعلى مستوى من العدالة، والمساواة في نظرته إلى الأفراد، وإن اختلفوا في الجنس، واللون، واللغة، وغير ذلك، وطبق هذا المبدأ فعلًا في واقع الحياة بينما ونحن في القرن العشرين في عصرنا الحاضر، وبالرغم من الضجيج الهائل في العالم حول المساواة، وتسطير هذا المبدأ في دساتير الدولة، فإنه لا يزال مجرد كلام لا نصيب له في الواقع إلا الشيء القليل؛ لأنه من صنع البشر. ويترتب أيضًا على كون الإسلام رباني أي: من عند الله رب العالمين أن الإسلام يظفر بقدر كبير جدًّا من الهيبة، والاحترام من قبل المؤمنين به مهما كانت مراكزهم الاجتماعية، وسلطاتهم الدنيوية؛ لأن هذه السلطات، وتلك المراكز لا تخرجهم من دائرة الخضوع لله تعالى واحترام شرعه، وطاعة هذا الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس، وتقوم على الإيمان، ولا يكره عليها المسلم كرهًا، وفي هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون الإسلامي، وعدم الخروج عليه، ولو مع القدرة على هذا الخروج.

أما القوانين، والمبادئ الوضعية التي شرعها الإنسان فإنها لا تظفر بهذا المقدار من الاحترام، والهيبة إذ ليس لها سلطان على النفوس، ولا تقوم على أساس من العقيدة والإيمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام، ولهذا فإن النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك، وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون، وسلطان القضاء، ورأت في هذه المخالفة اتباعًا لأهوائها، وتحقيقًا لرغباتها. إن القانون لا يكفي أن يكون صالحًا بل لا بد له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات إيجاد ما يصل هذا القانون بنفوس الناس، ويحملهم على الرضا به، والانقياد له عن طواعية، واختيار، ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام؛ لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله، واليوم الآخر، والإيمان بمحمد رسولًا لله عز وجل، وإن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات، واحترامها هو مقتضى هذا الإيمان، لهذا كله نجد المؤمن الواعي البصير المتفهم للحقيقة يندفع بكليته، وينطلق من ذاته إلى تطبيق المنهج الرباني على نفسه، وعلى من يكون تحت ولايته لاعتقاده الجازم أن كمال شخصيته، وبناء إنسانيته، وإصلاح بني قومه لا يتم على الوجه اللائق إلا أن يأخذ ممن اختص بالكمال، والجلال، وينقاد إلى من تنزه عن النقص، والقصور، ويستسلم إلى من عرف بالعظمة، والإبداع ألا وهو الله -سبحانه وتعالى- وحده. لذلك رأينا بعض المسلمين من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- يرتكب بعضهم مخالفة، ويقع فيما حرم الله -سبحانه وتعالى- عليه في السر دون أن يراه أحد، ولا يطلع عليه أحد فيأتي بنفسه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويعترف بين يديه بخطئه، ويطالب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقيم عليه الحد الذي جعله الله تعالى عقوبة لهذه المخالفة كما فعل ماعز، والغامدية لما زنيا،

من خصائص الإسلام: الوسطية.

وأتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعترفا عنده فرجمهما، وكما فعل سلمة بن صخر البياضي لما ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها قبل أن تنتهي مدة الظهار، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يجب عليه مما ذكره الله تعالى في صدر سورة المجادلة كل ذلك إنما تم لشعور المسلم بقدسية الشريعة، وعظمة الدين؛ لأنه دين رباني من عند الله رب العالمين. من خصائص الإسلام: الوسطية الخاصية الرابعة من خصائص الإسلام الوسطية: قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143) الوسط: اسم لما بين طرفي الشيء، وقد يطلق على ما له طرفان مذمومان كالجود بين البخل والسرف، وقد يطلق على ما له طرف محمود، وآخر مذموم كالجودة، والرداءة تقول في الشيء: هذا وسط بين الحسن، والرديء فالوسط الخيار فوسط الوادي خير مكان فيه، ويقال: فلان وسط في قومه إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعهم مجدًا. وقد جاء في صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من أوسط قومه أي: خيارهم، وقد جعل الله تعالى أمته وسطًا أي خيارًا، والمقصود بالتوسط أن يتحرى المسلم الاعتدال، ويبتعد عن التطرف في الأقوال، والأفعال بحيث لا يغلو، ولا يقصر، ولا يفرط، ولا يفرط فإن الإفراط، والتفريط مذمومان، وقد نهى الله عنهما، وذم أهلهما قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ومَنْ تَابَ مَعَكَ ولَا تَطْغَوْا} (هود: 112). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ الْقُطْ لِي فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ

فِي يَدِهِ قَالَ بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ -يعني: بأمثال هذه الحصى ارموا الجمرات- وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))، وقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وهُمْ يَحْمِلُونَ أوزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (الأنعام: 31)، وقد نهى الله تعالى عن طاعة هؤلاء، وأمر بمخالفتهم فقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28). فمتى ابتعد الإنسان عن الإفراط، والتفريط فقد اعتدل على أوسط الطريق، واستقام على الصراط المستقيم كما أمر الله حيث قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153)، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يسألوه في صلواتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6، 7) "فالمغضوب عليهم": الذين فرطوا، وقصروا تعلموا، ولم يعملوا، و"الضالون": الذين غلوا وأفرطوا، وتشددوا حتى ابتدعوا، و"الصراط المستقيم": الذي هدى الله إليه النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين هو العمل بالعلم في غير إفراط، ولا تفريط. وقد أنعم الله تعالى على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالهداية إلى هذا الصراط المستقيم؛ فكانوا بذلك أمة، وسطًا كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا} (البقرة: 142، 143) فالوسطية: تعني اتباع الصراط المستقيم، والثبات عليه، والحذر من الميل إلى أحد جانبيه. ولقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك مثلًا محسوسًا، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: ((كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطًّا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن

يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ})) (الأنعام: 153). قال ابن القيم: "وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا الله تعالى باتباعه هو الصراط الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه؛ فهو من السبل الجائرة لكن الجور قد يكون جورًا عظيمًا عن الصراط، وقد يكون يسيرًا، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، وهذا كالطريق الحسي؛ فإن السالك قد يعدل عنه، ويجور جورًا فاحشًا، وقد يجور دون ذلك، فالميزان الذي تعرف به الاستقامة على الطريق، والجور عنه هو ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم أو مجتهد متأول أو مقلد جاهل، وكل ذلك قد نهى الله عنه فلم يبق إلا الاقتصاد، والاعتصام بالسنة، وعليهما مدار الدين. وقد كثرت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في الأمر بالوسطية، والحث عليها، ومدح أهلها قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء: 29)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (المائدة: 87، 88). وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55)، وقال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ولَا تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء: 110)، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا} (الأنبياء: 90).

وعن بريدة الأسلمي قال: ((خرجتُ ذات يوم لحاجة؛ فإذا أنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يمشي بين يدي، فأخذ بيدي فانطلقنا نمشي جميعًا فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع، والسجود فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أتراه يرائي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فترك يدي من يده، ثم جمع بين يديه فجعل يصوبهما، ويرفعهما، ويقول: عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه)). وعن عبد الله بن عمرو قال: ((ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجال يجتهدون في العبادة اجتهادًا شديدًا؛ فقال: تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنة فلام ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك)). وعن مقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما ملأ آدمي، وعاء شرًّا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))، وعن جابر بن سمرة قال: ((كنت أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا))، وعن أبي هريرة أراه رفعه قال: ((أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما)). وعن حُميد الحميري، وهو ابن عبد الرحمن قال: لقيت رجلًا صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما صحبه أبو هريرة قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله"، وعن ابن مسعود قال: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة"، وعن أبي بن كعب قال: "عليكم بالسبيل، والسنة فإنه ليس من عبد على سبيل، وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار، وإن اقتصادًا في سبيل، وسنة خير من اجتهاد في إضلال".

والذي يمعن النظر في هذه النصوص يرى أنها تدل على أن وسطية الإسلام عامة جامعة شاملة للعقيدة والأحكام، والعبادات والمعاملات، والأخلاق، والعادات، والعواطف، وفي ذلك يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: ودين الله في الأرض، والسماء واحد، وهو دين الإسلام كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وهو بين الغلو، والتقصير، وبين التشبيه، والتعطيل، وبين الجبر، والقدر، وبين الأمن، والإياس. ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "المسلمون وسط في أنبياء الله، ورسله، وعباده الصالحين لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، ولم يجفوا كما جفت اليهود، وهم وسط في شرائع دين الله فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت ما شاء كما قالته اليهود، ولا جوزوا لأكابر علمائهم، وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا، وينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى، وهم كذلك، وسط في باب صفات الله تعالى فإن اليهود، وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، والنصارى، وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به. وأما أهل السنة والجماعة فوسط في باب الأسماء، والصفات بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله تعالى وآياته، ويعطلون صفاته، وبين أهل التمثيل، والتشبيه الذين يضربون له الأمثال، ويشبهونه بالمخلوقات، وأما أهل السنة والجماعة؛ فيؤمنون بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهم وسط في سائر أبواب السنة، ووسطيتهم فيها راجعة لتمسكهم بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين".

من خصائص الإسلام: الوضوح.

إن الوسطية من خصائص هذه الأمة، وهي سبب خيريتها، ولا تزال الأمة بخير ما حافظت على هذه الخاصية التي تتميز بها خاصية الوسطية التي تمثل الاعتدال، والاستقامة على صراط الله عز وجل، فإذا خرجت عن الوسط إلى أحد جانبيه ففرطت أو أفرطت فقد هلكت فإن التطرف مهلكة، التطرف لا يختص بالغلو والإفراط، وإنما الغلو، والإفراط تطرف، والتقصير، والتفريط تطرف أيضًا، وكلاهما مهلكة للفرد، وللمجتمع. يقول وهب بن منبه: "إن لكل شيء طرفين، ووسطًا فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان فعليكم بالوسط من الأشياء". وقال ابن القيم: "من كيد الشيطان العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها أقوة الإقدام أم قوة الانكفاف، والإحجام، والمهانة، وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين وادي التقصير، ووادي المجاوزة، والتعدي، والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الوسط". نسأل الله تعالى أن يثبتنا على صراط مستقيم، وأن يعصمنا من التطرف عنه إلى الإفراط أو التفريط، وبهذا نكتفي في الكلام عن هذه الخاصية من خصائص الإسلام، وهي خاصية الوسطية. من خصائص الإسلام: الوضوح الوضوح هو إحدى الخصائص العامة للإسلام سواء فيما يتعلق بالأصول، والقواعد أم بالمصادر، والمنابع أم بالأهداف، والغايات أم بالمناهج، والوسائل، وسنحاول إن شاء الله تعالى بيان ذلك بإيجاز في هذه الكلمات. أما وضوح الأصول، والقواعد الإسلامية:

فأول مظاهر الوضوح في الإسلام أن أصوله، ودعائمه الكبرى واضحة بينة لا لزعمائه، وقادة الفكر، والدعوة إليه فقط، ولا لخاصة المثقفين من أتباعه، وأنصاره فحسب بل لجمهرة المؤمنين به أيًّا كانوا يستوي في ذلك الأصول الاعتقادية، والشعائر التعبدية، وأمهات الفضائل الخلقية، والأحكام التشريعية. أما وضوح الأصول الاعتقادية؛ فأول ما يبدو هذا الوضوح في الأصول الاعتقادية في الإسلام يبدو في الإيمان بالله -عز وجل- ورسالاته، وبالدار الآخرة فتوحيد الله -سبحانه وتعالى- هو أصل الأصول لا يجهله مسلم أيًّا كان جنسه أو لونه أو طبقته أو حظه من التعلم فقد عرف من كلمة التوحيد وأولى الشهادتين لا إله إلا الله ألا مكان في الإسلام لتأليه بشر أو حجر أو شيء في الأرض أو في السماء بل لله من في السموات، ومن في الأرض، وما فيهما، ولهذا كانت رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك العالم، وزعمائه متضمنة: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64). فالتوحيد في حد ذاته قضية واضحة في ضمير كل مسلم، ودليلها أيضًا واضح في فكره، كما أن أثرها كذلك واضح في حياته كيف لا، وهو يلقن منذ صغره لا إله إلا الله، ويلقن أيضًا إذا حضره الموت لا إله إلا الله كما وصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما عقيدة الجزاء في الآخرة بالجنة، والنار فهي عقيدة ظاهرة واضحة مستقرة في نفوس المؤمنين بالله -عز وجل- فإن الله -سبحانه وتعالى- قد قرر قانون الجزاء في سورة من قصار سور القرآن في آيتين اثنتين قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8). وعامة المسلمين يعلمون أن جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة التي فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن جزاء الكافرين الذين كفروا بالله

وملائكته، وكتبه، ورسله، والدار الآخرة هي النار التي وقودها الناس، والحجارة كما أن الإيمان بالرسالات التي أرسل الله بها رسله قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- أمر واضح جلي لكل مسلم. فكل مسلم من العامة فضلًا عن الخاصة يعلم أنه لا يتم إيمانه حتى يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وكل مسلم يعلم أن هؤلاء الرسل بشر من البشر يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون النساء، ويرزقون الأولاد بنين، وبنات إلا أن الله -تبارك وتعالى- فضل هؤلاء الصفوة على جميع الناس حين اصطفاهم لرسالته، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ومن مظاهر الوضوح في الإسلام: أن أركانه العملية، وشعائره التعبدية واضحة أيضًا للخاص والعام حتى الصبيان يحفظون أركان الإسلام الخمسة فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا)). هذا حديث مشهور بفضل الله -عز وجل- يحفظه الصبيان في الكتاب، وعامة المسلمين يعرفون هذه الأركان للإسلام التي تتمثل في العبادات التي فرضها الله تعالى على المسلمين؛ فالصلاة كل مسلم يعرف أنها خمس في اليوم، والليلة، وكل مسلم يعرف مواقيتها كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103). كل مسلم يعرف أن الصبح ركعتان، والظهر أربعة، والعصر أربعة، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع حتى السنن التي ندبنا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الصلاة المفروضة، وبعدها كل مسلم يعرفها لا تخفى على أحد من المسلمين بفضل الله عز وجل، والزكاة معروفة إجماليًّا لكافة المسلمين، وأنها تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم،

وأنها لا تجب إلا على من ملك من المال ما بلغ النصاب، ولا تجب إلا بعد مرور الحول ما دام المال فوق النصاب، والقدر الواجب إخراج معروف في الأموال النقدية ربع العشر، وفي الزروع العشر أو نصف العشر حسب السقيا. وصيام رمضان كذلك معروف عند عامة المسلمين أنه فريضة كتبها الله -تبارك وتعالى- على عباده، وأنها تكون في رمضان من كل عام، وأن وقت الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأن الصيام معناه الإمساك عن شهوتي البطن، والفرج، وآداب الصيام معروفة أن الصائم لا يرفث، ولا يفسق، وإن امرؤ قاتله أو سبه يقول: إني صائم، والحج الحمد لله كذلك كل المسلمين يعرفون أنه لا يجب على المستطيع إلا مرة واحدة في العمر، وأركانه معروفة الإحرام، والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا، والمروة، ثم التحلل، ورمي الجمار، وغير ذلك من واجبات الحج كل ذلك بفضل الله ظاهر، وواضح لجميع المسلمين. كذلك الأصول الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام ظاهرة، وواضحة، ومشهورة بفضل الله -عز وجل- عند العامة فضلًا عن الخاصة فكل مسلم يحفظ قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ} (النحل: 90) فكل مسلم يعرف أن الله -تبارك وتعالى- يأمر بالعدل، والإحسان، ويأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، ويأمر بالإحسان إلى اليتامى، والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل كما أن كل مسلم يعرف أن الله -تبارك وتعالى- نهى عن مساوئ الأخلاق، وتوعد عليها، وكل مسلم يحفظ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).

كذلك الآداب التي ندبنا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- الحمد لله آداب ظاهرة واضحة جلية سواء ما كان منها يتعلق بالأكل، والشرب أو النوم، واليقظة أو اللباس والزينة أو الجلوس، والمشي آداب الزيارة آداب الاستئذان آداب التحية عند اللقاء أدب الحديث كل ذلك، والحمد لله ظاهر جلي، واضح لعموم المسلمين. ومن مظاهر الوضوح في الإسلام، وضوح شرائعه، وقوانينه أعني الأساسية القطعية منها سواء في المجال الفردي أو الأسري أم الاجتماعي؛ فكل مسلم يعلم بوضوح ما يحل، ويحرم من الأطعمة، والأشربة، والملابس، والمناكح، وغير ذلك بفضل الله عز وجل، ومن مظاهر الوضوح في الإسلام: وضوح مصادره فمصادر الإسلام كما سبقت الإشارة إليها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ومن مظاهر الوضوح في نظام الإسلام: وضوح الأهداف، والغايات فكل مسلم يعلم أن الله -تبارك وتعالى- بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن الكريم ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات الضلالة إلى نور الهدى، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم. ومن مظاهر الوضوح في الإسلام: وضوح الدعوة، ومعرفة أبعادها فغاية الدعوة واضحة، ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، ويقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 56 - 58). فالدعوة إذًا واضحة المعالم محددة الأبعاد خالية من تعقيد المثلثين، وشبه الثنويين، وشطحات العقلانيين ألا تراها تدعو إلى إخلاص العبادة لإله واحد إليه

يرجع الأمر كله بيده الخير، وهو بكل شيء عليم، والقرآن الكريم يوضح لنا هذا المعنى الذي عجزت العقول المجردة عن تصوره حيث يقول تبارك وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29). ولقد كانت الدعوة إلى الله بهذا الوضوح، وبهذا التحديد ماثلة في تصور كل رسول بعثه الله -عز وجل- لم يلابسها شك، ولم يخالطها شبهة، وكان الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يدعون الناس جميعًا إلى هذه العقيدة، وإن اختلفت الأساليب فنوح -عليه السلام- يقول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأحقاف: 21)، وهود عليه السلام يقول: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} (هود: 50)، وصالح -عليه السلام- يقول: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61). وإبراهيم -عليه السلام- قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 16)، ويوسف -عليه السلام- قال لصاحبيه في السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف: 39)، وموسى -عليه السلام- ينعى الشرك على قومه فيقول: وقد قالوا له: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 140)، ثم يكون خاتم أنبياء بني إسرائيل عيسى -عليه السلام- ويعلنها وحدانية صريحة حيث يقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ} (المائدة: 117). ويأتي خاتم الأنبياء، والمرسلين محمد -صلى الله عليهم وسلم أجمعين- فيختم هذه الرسالات، ويؤكد على ما دعا إليه إخوانه جميعًا من إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة، ويعلن أنه لن يقبل من أحد سواها مهما كانت منزلته ومكانته، ومهما كانت عشيرته، وقبيلته يقول الله

تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158)، ويقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115). هكذا كانت الدعوة بهذا الوضوح في أذهان الدعاة، وبذلك التحديد أمام أعينهم حتى لم يغب عنهم منها شيء، وكان هذا الوضوح من أعظم الوسائل لقوتها، وذلك التحديد من أقوى الأساليب في نشرها، وذيوعها. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1