إرشاد العباد في فضل الجهاد

حسن البيطار

جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ الطّبْعَةُ الأولى 1421 هـ - 2000 م دَارُ البَشَائِر الإسْلَامِيَّة للطباعة والنشر والتوزيع هاتف: 702857 - فاكس: 704963/ 009611 بيروت - لبنان ص. ب: 5955/ 14 e-mail: [email protected]

مقدمة المعتني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله خالق العباد، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ذو الفضل والِإسعاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى أركان الإِسلام، والمُشيد لفريضة الجهاد، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الجدِّ والاجتهاد، صلاة دائمة إلى يوم التناد. أمَّا بعد: فهذه رسالة لطيفة، ونبذة شريفة، دَبجَتْها يراعةُ العلاَّمة المُسْنِد الشيخ حسن بن إبراهيم البيطار، في فضل الجهاد والحثِّ عليه، إِذْ هو عز الأُمة وعنوان فلاحها ورفعتها بين الأُمم، وبه ترفع الدَّرجات، وتُمحى السيئات، وتُكفَّر الخطيئات، وتُفتح أبواب الجنات، إلى غير ذلك من الفضائل التي لا تُضاهى، والخيرات التي لا تتناهى. ولما كان العلاَّمة البيطار -وهو جدُّ الأُسرة العالمية المشهورة بدمشق الشَّام- لم يخرج له شيء من المصنفات، أحببت إحياء هذه الرسالة وإخراجها في ضمن لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام، سائلاً المولى جلَّت قدرته أن يُعيد لهذه الأمة مجدها التليد وعزها الغابر المجيد، المُنعقد على عَقْدِ رايات الجهاد، والعمل بأركان الإِسلام وسائر تعاليمه، إنه ولي ذلك، القادر عليه.

وصف النسخة المعتمدة في إخراج هذه الرسالة

وصف النسخة المعتمدة في إخراج هذه الرسالة: اعتمدت في تحقيقي لهذه الرسالة على نسخة في دار الكتب الظاهرية بدمشق المحمية تحت رقم (7166) (¬1)، وتقع في 16 ورقة، وعدد الأسطر فيها (15) سطرًا، وهي فيما يبدو بخط المُصنِّف، وقد وقع فيها بعض الأخطاء اليسيرة نبهت على بعضها. وقمت بالتعليق عليها وتخريج ما فيها من الأحاديث وعزوها إلى مصادرها، وهذ الرسالة كما يتضح من سياقها خطبة في الحث على الجهاد والتنبيه على فضله. أسأل الله التوفيق لما يُحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد ولد آدم وعلى آله وصحبه أجمعين. محمد بن ناضف العجمي ¬

_ (¬1) ناولني صورة من هذه النسخة الشيخ الصديق رمزي بن سعد الدِّين دمشقية جزاه الله خيرًا وأحسن إليه.

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف (¬1) خير من يترجم للعالم ابنه خصوصًا إذا كان عالمًا مؤرخًا، وصاحبنا الشيخ حسن البيطار ترجم له ابنه العلاَّمة عبد الرزاق البيطار فهو يقول: الشيخ حسن بن إبراهيم بن حسن بن محمَّد بن حسن ابن إبراهيم بن عبد الله الشهير بالبيطار الشافعي الدِّمشقي ولادة وقراءة، الميداني إقامة ومدفنًا، الوالد الأعظم، والسيد الأفخم والأكرم، والعالم النحرير، والمدقق الخبير، شافعي زمانه، وألمعي أوانه، الجامع بين العلوم العقلية والنقلية، والمقتدي بالكتاب العزيز والسُّنَة المُحمديَّة، بحر العلوم والمعارف، الشَّارب من أطيب مناهل العرفان واللطائف، الآخذ بعزائم العبادة، والجاعل التقوى إلى الآخرة زاده، النقي الصَّالح، والزَّاهد التَّقي العابد الناجح، من أطبق النَّاس على فضله، واقتدى العموم بصدق قوله وفعله، ¬

_ (¬1) من مصادر ترجمته: "حلية البشر" لعبد الرزاق البيطار (1/ 463)، و"تعطير المشام" للشيخ جمال الدِّين القاسمي (1/ 56)، و"أعيان دمشق" للشطي (ص 79 - 83)، و"منتخبات التواريخ " للحصني (2/ 651)، و"الأعلام" للزركلي (2/ 178).

إن نطق رأيت البيان مُتسربًا من لسانه، وأدركت من بيانه تمام عرفانه، حوى الكمالات وحازها، وتحقق حقائق العلوم ومجازها، فالفضل حشو إبراده، والنُّبل تلو إصداره وإيراده، مع نفس عذبت صفاء، وشيمة ملئت وفاء، ومذهب صفا صفاء التِّبر، وخَلَصَ من شوائب الخيلاء والكبر، وسعَى لكل نُجح، واستوى على ذروة التحصيل والربح، وأدبٍ زرت على صدر السُّنَّة جيوبه؛ وهبَّت بعرف النفس المطمئنة صَبَاه وجنوبه. وُلد رضي الله تعالى عنه أثناء سنة ست ومائتين وألف، وشبَّ في حِجْر والده، ويد العناية والرعاية تجذبه إلى أسنى مقاصده، وحينما بلغ سن التمييز؛ وجهه والده لتعليم القرآن العزيز، عند الفاضل الكامل، والعالم العامل، الشيخ فتح الله أفندي فقرأ القرآن، ثُمَّ حفظه على تمام الِإتقان، إلى أن صار يعتمد عليه فيه، ويطلب منه ما استتر من مشكلاته وخوافيه، وكان مواظبًا على تلاوة آياته، في غالب أوقاته، وتفقه على علامة وقته الشيخ صالح الزَّجاج، والشيخ حسن العطار المصري الأَزهري، والشيخ عبد الله الكردي، وغيرهم مما هو مذكور في "ثبته"، وقرأ كثيراً من العلوم الآلية والشَّرعية، على من تقدم وعلى سادة ذوي مقامات علية، وشهرة سنية، منهم الشيخ عبد الرحمن الكُزْبري، والشيخ حامد العطّار، والشيخ نجيب القلعي، والشيخ عبد الرسول المكي، والشيخ عمر المجتهد، والشيخ عبد الغني السَّقطي، وغيرهم من العلماء الأعلام، والفُضلاء الكرام، ولا زال يترقى في مدارج العلوم، حتى استوى على عرش المنطوق منها والمفهوم، ويُشار بحل المشكلات إليه، ويعتمد في عويصات المسائل عليه، واعترف له مشايخه بالِإجادة، وألزموه بالتدريس والِإفادة.

ولما بلغ من العمر ثلاثين، طلبه أعيان أهل الميدان للقيام بوظائف الِإمامة والخطبة والتدريس والتعليم في جامع كريم الدِّين (¬1)، فتمنع جهده، وأظهر أن مطلوبهم ليس عنده، فاستعانوا عليه بشيوخه، واجتهدوا في طلبهم له لما يعلمون من تمكنه في العلم ورسوخه، فأجاب دعوة شيوخه في الحال، وقابل الأمر بالامتثال، وانتقل بعياله ومتاعه إلى الميدان، سنة ألف ومائتين وست وثلاثين، وكان لهم به من الحظوة والسرور ما كان، فانقاد له الكبير والصغير، وأحبه الجليل والحقير، وقدموه على الملك والمال، والأهل والعيال، وكان هو لهم بمنزلة الوالد والشقيق، والرفيق الرَّقيق، يُجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعظهم بما ينفع، ويذب عنهم الأذى جهده ويدفع. ومما وقع له من الأمور الغريبة، والحوادث النادرة العجيبة، أنه في سنة اثنتين وستين ومائتين وألف في رمضان، كان جالسًا في حجرته قُبيل الزوال يتدارس القرآن مع أحد أولاده، إذ جاءه رسول القاضي فقال له: إنّ القاضي يرومك فبادر لمراده، فقام ممتثلاً، وللِإجابة مستعجلاً، فلما دخل عليه، نظر القاضي بعين المقت إليه، وقال له: أنت الذي قد استملت الناس إليك، حتى صاروا لا يعتمدون في مصالحهم إلاَّ عليك، وأن ¬

_ (¬1) هو المعروف الآن بجامع الدقاق، وقد عمره الصاحب الكبير كريم الدين المتوفى سنة 724 هـ، وكان حسن الخلق، عاقلاً سمحًا داهية وقورًا، مرض نوبة، فزينت مصر لعافيته، (انظر: الشذرات 6/ 62). وقد دُعي المترجم -وهو جدنا الأعلى- إلى الِإمامة والخطبة والتدريس في هذا الجامع سنة 1236 هـ، وكاتب هذه السطور هو خطيبه ومدرسه بعد أسلافه، منذ عام 1334 هـ حتى الآن. (وكتب هذا سنة 1381 هـ) محمَّد بهجة البيطار.

السلطان قد وجه حاكمًا لمصالح العباد، وأنت قد حُلْتَ بيننا وبينها وهذا عدوان وفساد، وما زال يقرعه هو وأهل المحكمة، وينسبون إليه كل مفسدة ومظلمة، إلى أن أمر القاضي بحبسه في حبس الأشقياء الطغام، وقال له هذا جزاء من يتعرض لمصالح الحُكَّام، ولم يصغ لقوله ولا لاعتذاره، بل كلما بالغ في تلطيفه بالغ في إنذاره، فاستدار حوله الأَعوان، وأخذوه إلى الحبس وأسلموه للسجان، فدخل السجن وهو راض بالقدر، ليس في قلبه تغير ولا كدر، وجلس يتلو القرآن، وأهله وأولاده وعائلته ليس لهم خبر بهذا الطغيان، فما أذن العصر، إلاَّ وقد شاع هذا الأمر، فقام الناس على ساق، وأظهروا حالة الخلاف والشقاق، ورعدت رعود الفتنة وسال سيلها، وانسحب على بهجة الأمن والركون ذيلها، وسدت الطرق من ورود الأَفواج، حتى لم يبق لسالك من مسلك ولا لناهج من منهاج، وكل إنسان متقلد بأنواع السِّلاح، لا يصغي لعاذل ولا لاح، وكل من القاضي وأعوانه خَالَ أنه بلغ مطلوبه، ونال من هذا الفاضل مرامه ومرغوبه، وأنه قد أدب فيه سواه، وجعله هدفًا لسهام من عداه، فلما صار الغروب توجه الناس لنصرة الدِّين أفواجًا، جاعلين ذلك لرضى مولاهم منهاجًا، فلما سمع القاضي بذلك، علم أنه أوقع نفسه بالمعاطب والمهالك، فندم حين لا ينفعه الندم، وفهم أن ما صنعه زلة قدم، فبادر للتوقع على السادات الأكابر، وهم يقولون له أنت متعنت مكابر، قد فتحت علينا للشر بابًا أي باب، وسلكت سبيل الغي وأخطأت طريق الصواب، أظننت أنه بسبب فعلك هان، وأنه لا ينتطح له كبشان، فانظر ما وقع من سوء فعلك، والله يعلم ما يحصل لك وللناس من أجلك، فقال: لقد أغراني أعواني، وألقوني في أودية ذلي وهواني، وقالوا لا تخش من

تأديبه لأنه رجل حقير، لا يَسأل عنه كبير ولا صغير، وإني الآن قد اعترفت بذنبي، وتبت إلى مولاي وربي، فأحضروه لأعتذر إليه، وأُقبل رأسه ويديه، وها أنا ذا الآن لأمره مطيع، وعندكم في كف هذا الأمر وقيع، فعند ذلك اجتمع العلماء والأعيان، وتوجهوا وأمامهم نقيب الأشراف السيد أحمد أفندي العجلاني لِإخراج المترجم من السجن بالعظمة والشأن، فحينما دخلوا عليه، وقدموا جميل العبارات إليه، وطلبوا منه أن يعفو عن ظالمه، وأن يقابله بمراحمه، فقال: أنا ما جرى لي ذلك إلاَّ بذنب اقترفته، وإن كنت ما تذكرته ولا عرفته، ونسأل الله أن يعفو عنا، ويقبل صالح الأعمال منا، ثُمَّ ساروا جميعًا إلى دار النقيب، فحينما رآه القاضي بادره بالترحيب، وأبدى اعتذاره لديه، وعانقه وقبل يديه، ثُمَّ رجع إلى مكانه ومعه من الناس ألوف كثيرة، ولا زالوا يطلقون البارود بين يديه ويلعبون بالسيوف والسنان إلى أن وصلوا به إلى داره الشهيرة، ولم يمض بعد ذلك مدة أيام، إلاَّ وأباد الله ذلك القاضي وأعوانه وأدار عليهم كؤوس الحِمام. ثُمَّ إنه في آخر شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف قد حضر من السُّلطان المغازي عبد المجيد، مرسوم سنين يأمر فيه بدعوة الوالد المترجم والشيخ عبد الرحمن الطيبي إلى الآستانة ويؤكد غاية التأكيد، فأحضرهما حضرة الوالي صفوتي باشا بالتعظيم وأخبرهما بما كان، وأعلمهما بأن السفر قد تعين ثامن رمضان، فتوجها على نفقة الملك الجليل، بكل إكرام وتعظيم وتبجيل، إلى أن دخلا القسطنطينية، دار المملكة السَّنية، فنزل كل منهما في مكان، ولاحظتهما عين الرفعة والِإحسان، وكانت مشيخة الإِسلام إذ ذاك لحضرة من تصرف من حين شبيبته بدراسة المعارف،

وإفاضة العوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، السيد أحمد عارف حكمت بيك، فكان لوالدي منه الالتفات الوافر، والميل المتكاثر، وكان يكثر بينهم البحث والحديث، خصوصًا فيما يتعلق بالتفسير والحديث، فذلك كان مُقدمًا عنده على ما سواه، وملحوظًا بعين عنايته ورضاه، وكل منهما أخذ عن الآخر وأجازه، وأسمعه حديث الأولية وذكر معناه وحقيقته ومجازه، وقد مدح الأُستاذ الأعظم، شيخُ الإِسلام والمسلمين الأكرم، والدي بهذه الأبيات على الارتجال، من غير إمهال، هي: يا قلب أبشر بما ترجوه من منن ... فقد حظيت بشهم كامل فطن حليف علم إمام سيد ثقة ... أخلاقه الشم قدجاءت على سَنن فقلت للقلب هذا ما تؤمله ... لقد بلغت المُنى والأُنس من حسن فأجابه سيدي الوالد حفظه الله، وأحسن مثواه، بقوله: شمس المعارف تغنينا عن السَّرج ... ومنهج الفضل لا يخفى لمن يلج وطالع السعد لا يعروه كاسفة ... وعارف الدهر محفوظ من العوج شيخ الأنام الذي طابت مآثره ... بحر الكمالات ذو الأمواج واللجج فرع النبوة وصف الحسن لابسه ... فنوره ظاهر في وجهه البهج شهمٌ هُمام وللمختار نسبته ... فيا لها نسبة تسمو لمبتهج رب المعارف والأبحاثُ شاهدة ... بكونه عارفًا حثًّا بلا حرج طود من العلم والِإحسان جمله ... حلم به قد سما الأسمى من الدرج بشرى لنا معشر الِإسلام إن لنا ... من فضله نظرة تُدني من الفرج يا مبتغي العلم لذ إن رُمت ري صدى ... بمنهل بفنون العلم مبتهج

يا سائلي عن دليل الصدق في خبري ... شواهد الفضل لا تحتاج للحجج فيمّم الركب وانزل روض ساحته ... واشمم شذا طيبه الفياح بالأرج فمنصب المجد فيه حاز غايته ... وقد سعى نحوه بالصدق واللهج وكوكب السعد مسعود بطلعته ... يلوح في ذروة الأفلاك بالبلج ومن يقف بالحمى نودي بلغت مني ... هذا الغياث ففز بالبشر والفرج فالله يحفظه من كل نازلة ... ممتعًا بسرور عنه لم يعج ما نال كل المنى في مدحه حسن ... معطرًا من ثناه نفحة المُرُج ثُمَّ إنه بعد تمام رمضان، قامت دواعي الأفراح من كلِّ زوجينِ اثنان، وذلك لختان جلالة السلطان مراد والسلطان عبد الحميد شبلي مولانا المعظم أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد، وكان فراغ مواكب الختان، ذوات العظمة والشأن، نهار الجمعة حادي وعشرين من شوال، سنة ثلاث وستين ومائتين وألف من هجرة محمَّد شمس الكمال. ثم بعد الختان تكرر له الاجتماع بحضرة ذي العظمة والشأن، مولانا السلطان عبد المجيد خان، وعرضت عليه الدولة العلية إجراء معاش جزيل، فقال: لم يبق في العمر إلاَّ قليل. ومن النَّوادر اللطيفة، والوقائع الظريفة، أني اجتمعت سنة ثمانين ومائتين وألف في مدينة غزة، بمفتيها حضرة الِإمام الفاضل، والعلَّامة الكامل، السيد محيي الدِّين أفندي الحُسيني، فكان من جملة المذاكرة أن حكى لنا أنه بعد انفضاض موكب الختان شَرَّفَ حضرة تميمي أفندي مفتي مصر القاهرة إلى بلد الخليل، وكان طريقه على غزة، فنزل في دار محيي الدِّين أفندي المرقوم، فسأله عن سفره إلى الآستانة واجتماعه

بالسلطان وعن موكب الختان، فحكى له إلى أن قال له: ولما دخلنا مجلس السلطان للاجتماع معه وكان المجلس في غاية الاتساع، فأخذ كل منا مجلسه والسلطان بعد لم يحضر، والحاضرون كل منهم لا يعرف الآخر، وكل منهم يظن أن الحاضرين على غير لغته، فضاق صدري لذلك ولم أدر ما أفعل، إلى أن رأيت إنسانًا عليه الهيبة والوقار، قد نظر إلى الخادم وقال: اسقني ماء مع أنه لم يرد ذلك، ولكن أراد أن يفتح للحاضرين باب معرفة في بعضهم مع بعض فعرفه الحاضرون بأنه عربي، فقمت إليه وقعدت بجانبه، وتكلمت معه، وعرف كل من الحاضرين من يفهم عليه، وانضم إليه، واشتغل كل منهم بالمذاكرة مع من يأنس به ويفهم لغته، وكان أصل ذلك هذا الِإنسان فاستسميته، فقال: أنا من الشَّام، واسمي حسن البيطار وهو المترجم المذكور، واستسماني، ونلنا بعضنا مع بعض في هذا المجلس وبعده غاية الإنس والتهاني، ووجدته عالمًا فاضلاً، وشهمًا كاملاً، ومدح وأطنب، وأطال وأسهب. اهـ. ولم يزل هذا المترجم في الآستانة مُعظمًا مُبجلًا، مُكرمًا مفضلاً، إلى أن حصل لهم الِإذن الشريف بالعود إلى الوطن، مقلدين قلائد الفضل والمنن، وكان يوم السفر من الاستانة يومًا مشهودًا، وموكبًا للاجتماع مقصودًا، اجتمع فيه للوداع السادات والأكابر، وذوو المراتب والمفاخر، وكان يوم في خوله إلى الشَّام يوم اجتماع وسرور، وهناء وحبور، كاد أن يقال: ما بقي في الشَّام إنسان، إلاَّ وقد خرج لاستقبال هذا الحبر المُصان، وكانت مدة سفره أربعة أشهر؛ لأنه بدأ السفر في ثامن رمضان سنة ألف ومائتين وثلاث وستين، وانتهى سفره ثامن محرم الحرام سنة أربع وستين. وكان رضي الله عنه مُواظبًا على التَّهجد وصلاة الفجر في الوقت

الأول، وبعد الصلاة له أوراد لا يبرح عنها في سفر ولا حضر، منها أوراد الصباح والمساء الواردة في السنة، فإنه كان يقرأها صباحًا ومساءً، ومنها أنه يقرأ في كل يوم من القرآن جزءًا، فيختم في كل ثلاثين يومًا القرآن بتمامه، وكان حسن الخُلق، يغلب عليه الزهد والِإعراض عن الدنيا، وكان إذا تصعب أمر بين الناس من حقوق وغيرها بمجرد حضوره وتكلمه فيه ينقضي أمره على أحسن حال، وذلك لصفاء نيته وحسن سريرته. وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف توجهت معه إلى الحجاز، وكانت هذه المرة له المرة الثالثة، ورأيت منه في السفر ما يدل على سُمو درجته، وكان له مع علماء الحجاز مذاكرات علمية، وأبحاث شريفة سنية، وكانوا يشهدون له بالفضل. ولو أردت أن أذكر في هذه الكتابة ما حواه من الشمائل وما لديه، لأفضى الأمر إلى قَصْرِ هذا الكتاب عليه، ولكن ما لا يذكر كله، لا يترك كله. وفي ثاني وعشرين من شعبان سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف مرض في داء ذات الجنب، وفي ليلة رمضان سأل عن إثبات الشهر، فأخبرناه بإثباته فشرب في السحر ونوى، وأصبح يُعالج سكرات الموت، فوضع له بعض عياله نقطة ماء في فمه، ففتح عينيه ومسح فمه، وأمرهن بالِإشارة بعدم العود لمثل ذلك. ومات رضي الله عنه قبل الغروب بساعة ونصف، وكان آخر كلامه من الدنيا الذكر، وكان نزوله لرمسه مع قول المؤذن للمغرب الله أكبر، وقد حضر مشهد جنازته جمع عظيم، وعدد جسيم، وما ترى منهم إلاَّ من دموعه ساكبة، وأحزانه متفاقمة دائبة، وأسفه متزايد، وزفيره متصاعد، وذلك كما تقدم في غرة رمضان سنة

اثنتين وسبعين ومائتين وألف، ودُفِن رضي الله عنه في تربة باب الله بجانب قبر سيدنا تقي الدين الحصني من جهة الشمال. اهـ بتصرف. * * * لم يشر الشيخ عبد الرزاق البيطار إلى مؤلفات والده وهذا ذكرها: 1 - إرشاد العباد في فضل الجهاد (وهو الذي بين يديك). 2 - بذل المرام في فضل الجماعة وأحكام المأموم والِإمام، له نسخة في دار الكتب المصرية برقم (21632 ب). 3 - تحقيق الكلام في وجوب الصلاة قبل السلام، منه نسخة في دار الكتب المصرية برقم (21632 ب). 4 - فتح الكريم بشرح بسم الله الرحمن الرحيم، له نسخة في دار الكتب المصرية المصرية (21632 ب). 5 - كشف اللثام عن هداية الأنام، وهو كتاب كبير يقع في 209 ورقات له نسخة في الظاهرية برقم 8232. 6 - نبذة في بناء دمشق الشام، دار الكتب المصرية (8300). وقد اشتهر الشيخ حسن البيطار بعلوِّ الإِسناد، ودارت عليه الرواية، وطلب منه أهل العلم الِإجازة وهذا نموذج منها:

صورة إجازته لسعد الدِّين البكري وهي بخط الشيخ حسن البيطار

الورقة الأولى من الكتاب

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله الذي نَشَرَ لواء الجهاد للمُوحدين، وقطعَ بصوارِم سيوفهم رقاب الكَفَرة والمُعاندين، ووفَّقهم بأن باعوا نفوسهم لله تعالى ففازوا بالفوز المبين، وتحقَّقوا بمقتضى وعده تعالى بقوله جلَّ وعلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]؛ والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّد صاحب الدِّين المتين، المُنْزَل عليه: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]؛ وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم [الدين]. وبعد: فلمّا كان في أواخر سنة تسع وستين بعد المائتين والألف، ورد الأمر الشاهاني بأنَّ طائفة روسيا الباغية، والشرذمة القليلة الطاغية، تخطَّت على بعض أطراف مملكة مولانا الأعظم، وسلطاننا الأفخم، صاحب العزِّ والتمكين، والمؤيَّد بالنصر والفتح المبين؛ حامي بَيْضة الإِسلام، ومشيِّد أركان شريعة خير الأنام؛ سلطان البرَّيْن والبحرَيْن، وخادم الحرمين الشريفين؛ السلطان ابن السلطان، السلطان المغازي عبد المجيد خان ابن السلطان المغازي محمود خان (¬1)، خلَّدَ الله ملكه على مدى الزمان؛ ¬

_ (¬1) هو السلطان عبد المجيد خان بن محمود خان، المولود سنة 1237 هـ، تولى =

فاقتضى ذلك منهم نقض العهد، والنداء عليهم بالطرد والبُعد، فصدرت إشارة مولانا المُومى إليه أعزَّ الله أنصاره بالتوجه لقتالهم، وإشعال نار الحرب فيهم واستئصالهم. فهتف بي هاتف الِإلهام، أن أجمع نُبذة من كلام بعض العلماء الأعلام، إرشادًا للعباد في فضل الجهاد، وتأسِّيًا بما روي عن عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أنه قال: مَنْ حرَّضَ أخاه على الجهاد كان له مثل أجره، وكان له بكل خطوة عبادةُ سنة. وفي لفظ آخر عنه رضي الله عنه قال: مَنْ حَرَّضَ رجلاً على الجهاد في سبيل الله فله مثل أجره، وزاده مِثْل أجر نبى مرسل بلَّغَ رسالة ربه، ومَنْ بَطَّأ رجلاً عن الجهاد؛ فلو افتدى يوم القيامة بمِلئ الأرض ذهبًا لم يقبل منه؛ وله عذاب أليم إلا أن يعفو الله عنه (¬1). فابتدرت لذلك مستعينًا بالقدير المالك، ورتبتها على: مقدمة، وبابين، وخاتمة، فأقول -وهو حسبي ونعم الوكيل-: ¬

_ = الخلافة وعمره 17 سنة وتوفي سنة 1277 هـ. انظر تفصيل أمر خلافته وما جرى فيها: "تاريخ الدولة العلية العثمانية" لمحمد فريد بك (ص 455 - 529). (¬1) ذكر هذا الأثر ابن النَّحاس في كتابه في فضائل الجهاد "مشارع الأشواق" (1/ 211) ولم يذكر له مُخرِّجًا.

مقدمة في حكم الجهاد في سبيل الله تعالى

مقدمة في حكم الجهاد في سبيل الله تعالى اعلم أنَّ الجهاد في سبيل الله تعالى مشروع إجماعًا. وللكفار حالتان: الحالة الأولى: أن يكونوا في بلادهم مُستقرين فيها، فالجهاد حينئذٍ فرضُ كفاية، ويتحصل: إما بتشحين الثغور -وهي محل الخوف- التي تلي بلادهم بمُكافئين لهم لو قصدوها، مع إحكام الحُصون، والخنادق أو، تقليد ذلك للأُمراء المؤتمنين، المشهورين بالشجاعة والنُّصح للمسلمين. وإما بأن يدخل الِإمام أو نائبه بشرطه دارهم بالجيوش لقتالهم، وأقلُّه مرة في كل سنةٍ، فإذا زاد فهو أفضل على حسب ما يراه من المصلحة، وعلى الرعية إعانته، إلاَّ إذا أخذ الخَرَاج. فإن لم يبعث كان كلُّ الِإثم عليه، وهذا إذا غَلَب على ظنه أنه يُكافئهم، وإلاَّ فلا يُباح قتالهم، ويكتفي بالشقِّ الأول في القيام بفرض الكفاية. الحالة الثانية: أن يدخلوا بلدة لنا، أو صار بينهم وبينها دون مسافة القصرة فيكون الجهاد حينئذ فرض عين على كل من فيه كفاية من أهل

تلك البلدة ومن في قُربهم إن حصلت بهم كفاية، وعلى كل مَنْ علم بهم ممن هو فوق مسافة القصر إنْ لم تحصل الكفاية بهم، فيجب الدفع عنهم بكل ممكن أطاقوه. ولو أَسَرُّوا مُسلمًا فيجب النهوض إليهم -لخلاصِهِ إنْ توقعناه ولو على نُدور- وجوبَ عَيْنٍ كدخولهم دارنا، بل أولى؛ لأنَّ حُرمة المسلم أعظم. * * *

الباب الأول في التحريض على الجهاد والحث عليه

الباب الأول في التحريض على الجهاد والحثِّ عليه ثُمَّ أتوجَّه بالخطاب إلى نفسي أوَّلاَ وبالذات، وإليكم أيها الِإخوان والسَّادات (¬1)؛ فأصغوا آذانكم لما أقول، وتلقوه بالِإذعان والقبول: إنَّ الجهاد في سبيل الله لِإعلاء كلمة الله من أعظم العبادات البَدنية، قد ورد الأمر به والحثُّ عليه [في] الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فمن الآيات: قوله تعالى -حيث استنفر الأنام لجهاد أعدائهم اللئام، ليُجازيهم على ذلك بما وعدهم من عظيبم جزائه-: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. قال أهل التفسير: لمَّا نزلت هذه الآية قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأنفس .. فبيَّن الله تعالى لهم التجارة، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ¬

_ (¬1) كأن أصل هذه الرسالة خطبة جمعة أو نحو ذلك.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف: 11، 12]. فطوبى لمن امتثل أمر مولاه، وأطاعه في جميع ما منَّ به عليه وأولاه، وباع منه نفسه الخسيسة بنَيْل الدرجات، والحصول على أعظم المثوبات، وعمل على الوفاء بكريم عهده، وبذل في مرضاته ما ملكه تصديقًا لصادق وعده، إذ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فيا لها من بيعة ما أعظم ربح صفقتها!، ويا لها من تجارة ما أسرع نُجْحَ نفقتها!، ربحتَ والله أيها البائع؛ في بيعِ ما أحل لك بيعه بما عنده من الودائع، وحصلت على الِإكسير الأعظم الذي لا يُخاف نفاده، ولا ينقطع إمداده. وكيف لا والشُّهداء مخصوصون بدرجات عالية، ومقامات سامية؛ أجسامهم لا تبلى، وأرواحهم عند المليك الأعلى؛ في النعيم الدَّائم يتقلبون، وبرضى مولاهم يستبشرون؛ لا يخافون فتنة القبور، ولا يحزنهم الفزع الأكبر يوم ينفخ في الصور. قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. والآيات في ذلك كثيرة، وفيما ذُكر كفاية. وأما الأحاديث النبوية: فمنها ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة

رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم، وتوكَّل الله للمجاهد في سبيله إنْ توفَّاه أنْ يُدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر وغنيمة" (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ في الجنة مائة درجةٍ أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سَبيل الله، ما بين الدَّرجتينِ كما بين السَّماء والأرض، فإذا سألتُمُ اللهَ فاسألوهُ الفردوس؛ فإنهُ وسَطُ الجنَّة وأعلى الجنَّة، وفوقَهُ عَرْشُ الرَّحمنِ ومنه تُفَجَّرُ أنهارُ الجنَّة" (¬2). وعن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ما مِن عبدٍ يموت، لَهُ عند الله خيرٌ يَسرُّه أنْ يرجع إلى الدُّنيا، وأن له الدنيا وما فيها إلاَّ الشَّهيد، لما يرى من فَضْلِ الشَّهادة، فإنَّه يَسُرّهُ أن يرجع إلى الدُّنيا فيُقتل مرَّةً أُخرى" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيدِهِ لولا أنَّ رجالاً من المؤمنين لا تطيبُ أنفسهم أن يتخلَّفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلَّفتُ عن سريَّةٍ تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لَوَددتُ أن أُقتَل في سبيل الله ثُمَّ أُحْيا، ثُمَّ أُقتَل ثُمَّ أُحْيا، ثُمَّ أُقتَل" (¬4). وذكر ابن سَبُع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَوْقِفُ سَاعَةٍ في سبيلِ اللهِ أَفْضَلُ من شهودِ لَيْلَةِ ¬

_ (¬1) البخاري (6/ 6 - الفتح)، ومسلم (3/ 1496). (¬2) البخاري (6/ 11) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه مسلم (3/ 1498) من حديث أنس. (¬4) أخرجه مسلم (3/ 1495 - 1497) من حديث أبي هريرة.

القَدْرِ عِنْدَ الحَجَرِ الأسْودِ" (¬1). وذُكر عن سعيد بن أبي هلال أنَّ رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني بعمل أُدركْ به عمل المجاهد في سبيل الله، قال: "لو قُمتَ الليل وصُمتَ النهار لم تبلغ نوم المُجاهد في سبيل الله"، قال: يا رسول الله، إنَّ لي مالاً فإذا أنفقته أيكون لي مثل أجر المُجاهد في سبيل الله؟ قال: "وكم مالك؟ "، قال: ستة آلاف دينار. قال: "لو أنفقتها في طاعة الله لم تبلغ غُبار شراك نعل المُجاهد في سبيل الله" (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَجْتَمِعُ غُبارٌ في سبيل اللَّهِ ودُخانُ جَهَنَّمَ في جَوْفِ عَبْدِ مسلم، ولا يجتمِعُ شُحٌّ وإِيمان في جَوْف عَبْدٍ أبدًا" (¬3). وروى البخاري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما اغبرَّت قدما عبد في سبيل الله فتمسَّه النَّار" (¬4). وقال أسد بن وداعة: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلثَّم من الغبار في سبيل الله (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي عمر في "مسنده" كما في "المطالب العالية" لابن حجر (2/ 144)، وابن حبان (4603 - الِإحسان) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 118) عن الحسن البصري مرسلاً، والمرسل من أقسام الحديث الضعيف. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 342)، والنسائي (6/ 13 - 14)، وابن حبان (3251) وهو حديث صحيح. (¬4) البخاري (2/ 390). (¬5) لم أقف عليه، والله أعلم.

وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّ الملائكة تصلِّي على المغازي ما دامت حمائل سيفه ودرعِهِ وسلاحه عليه" (¬1). وعنه عليه الصلاة والسلام: "لَرَوْحَة في سبيل الله أو غزوةٌ خَيْرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولو أنَّ امرأة من أهل الجنة اطَّلعت إلى أهل الأرض لأَضاءت ما بينها" (¬2). فإذا فهمتَ ما تلوتُ عليك، وأصغيتَ إليه بأذنيك؛ علمتَ أنَّ النهوضَ لذلك من أهمِّ المهمات وأعظم المثوبات. فما هذه الغفلة العظيمة التي أضحتْ على القلوب مقيمة، ورَكنتْ إليها النفوس فأصبحت من الرشاد والتوفيق عديمة؟!. أَوَ ما علمتم أنَّ أعداءكم -دمَّرهم الله- باحثون عليكم؟ مشتغلون بكل حيلة في نيل الوصل إليكم؟ وقد جمعوا من العَدَد والعُدَد، وأرسلوا جواسيسهم وعيونهم في كل بلد؛ ليخبروهم بما أنتم عليه من التهاون والغفلة؟! وأن عُدَّتكم بالنسبة إلى عدتهم في غاية الضعف والقلَّة، و {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. أَوَمَا بلغكم بما وقع لأهل الجزائر وما حولها من المسلمين من الكَفَرة والمعاندين: من إذلال دين سيِّد المرسلين، وأخذ عباد الله المؤمنين؟ فلمَّا عرفوا جميع أحوالكم وما أنتم عليه من عدم احتفالكم بهم واشتغالكم؛ طمعوا لا بلَّغ الله لهم أملًا وقيل المراد، وأجمعوا بدَّد الله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 226) من حديث أنس، وإسناده لا يصح. (¬2) أخرجه البخاري (6/ 13) من حديث أبي هريرة.

شملهم فيما بلغنا عنهم على الخروج لهذه البلاد، والاستيلاء على أموال العباد. مع أنه بلغنا أيضًا أن من استولوا عليه فهو في الجهد العظيم والعذاب الأليم، قد أُبدلوا بعد العزِّ والفرح غمًّا وحُزنًا، واستولى عليهم الكرب والقرح حِسًّا ومعنًى، قد وُثِّقوا بالسلاسل والحديد، وهم كل يوم في عذاب شديد، وصاروا من جملة المماليك والعبيد. كانوا بالأمس أغنياء آمنين، فأصبحوا فقراء خائفين؛ انتُهِبت أموالهم، وتغيَّرت أحوالهم، وفُرِّقت عنهم نساؤهم، وأُخذت منهم بناتهم وأبناؤهم، وصار الكفرة يتنافسون في بيعهم في الأثمان، وجعلوا يفرقونهم في سائر البلدان، ويريدون أن يفتنوهم عن دينهم، ويفسدوا عليهم قوَّة يقينهم. فما هذه الغفلة عن إخوانكم يا معشر المسلمين؟ وهم منتظرون لكم في كل وقت وحين؛ لا يشبعون من طعام، ولا يجدون راحة في المنام. فما حال مَن يَبيتُ في السلاسل مغلولًا؟! وبالقيود والأغلال معقولاً؟! لا يستخدمونهم إلاَّ بالانتهار والضرب، والشتم القبيح واللطم والسب؛ لا تُدركهم عليهم شفقة ولا رحمة، ولا يُبالون بما كلفوهم في ذلك من كربٍ أو نقمة؛ دموعهم على الوَجَنَات سائلة، وأحزانهم متوالية غير زائلة؛ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يقدرون على شيء من الأسباب سرًّا ولا جهرًا، إلاَّ البكاء والنَّحيب، والتضرُّع للسميع المجيب، العالِم بأحوالهم، القادر على خلاصهم من أغلالهم وأنكالهم. فيا لها من حُرقةٍ ما أعظمها في القلوب، ويا لها من حسرةٍ يكاد القلب من سماع حكايتها يذوب؛ لا يغفل عنها إلاَّ من عَمِيتْ بصيرته وعظمت جريرته.

ألا مَنْ فيه غيرة؟! ألا من يبرِّد حرّ هذه الجمرة؟! أين رأفة أهل الإِسلام؟! أين شفقة أمة محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، الموصوفين بالأوصاف الجميلة، المخصوصين باتباع المخصوص بالفضيلة والوسيلة؟! أَمَا بلغكم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما يَرْحمُ اللهُ مِنْ عبادِه الرُّحماءَ" (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: "الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون كَجَسَدٍ واحِدٍ، إن اشْتكى عضو منه تداعى إليه سائر الجسد" (¬3). فاقبلوا وصية نبيكم النَّاصح لجيِّدكم ورديِّكم، واستيقظوا من غفلتكم، وأفيقوا من سكرتكم. أين أرباب الهمم العالية؟ أين أصحاب النفوس الزاكية؟ أين أرباب العقول، البائعون نفوسهم في نصرة دين الرسول؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3/ 151)، ومسلم (2/ 630) من حديث أسامة بن زيد. (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2/ 160)، وأبو داود (4941)، والترمذي (1924) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث صحيح. انظر تفصيل الكلام عليه في رسالة "العروس المَجْلِيَّة" للزبيدي المطبوعة ضمن سلسلة لقاء العشر الأواخر (ص 32). (¬3) أخرجه البخاري (10/ 438)، ومسلم (4/ 2000) من حديث النعمان بن بشير.

أين الأبطال والشجعان؟ أين الأقيال (¬1) والفرسان؟ أين أرباب العدَّة؟ أين أصحاب البأس والشِّدَّة؟ أين أُسود الرِّجال المؤثرون برضوان ذي العظمة والجلال، الذين لا تدركهم دهشة ولا خوف عند القتال؟ أين مَنْ يهجر النوم والرقاد؟ أين من يترك الأهل والأولاد؟ هل من بائع نفسه من الله؟ هل من مستوجب جزيل الثواب من مولاه؟ هل من مخالف نفسه الأمَّارة؟ هل من مُنفق ماله في أعظم تجارة؟ فيا أيَّتها النفوس السَّالمة، والعقول الكاملة، افتحوا أعين بصائركم، واصغوا بقلوبكم إلى ناصحكم، وأطيعوا أمر أمير المؤمنين، وجاهدوا في الله تعالى أعداءكم أعداء الدِّين؛ واغتنموا في ذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم؛ قال الله تعالى في محكم كتابه القديم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 20 - 22]. ولا يثقل عليكم عباد الله بَذْلُ ما يفنى من أموالكم في نُصرة دينكم، ¬

_ (¬1) قوله: الأقيال: جمع قيل، وهو الملك العظيم. اهـ من هامش المخطوط.

وانفكاك إخوانكم؛ فكأنكم بالدنيا لم تكونوا، وبالآخرة لم تزولوا، وكأن كل واحد به ملك الموت قد نزل، فندم على ما جمع، وانقطع له من نيل آماله الطمع، وفي حفرته تبدو له ثمرة ما زرع؛ ترك ذلك لمن بعده، وقد كان يظن أنه عنده من أعظم عدة، فقد أخطأ المسكين؛ أَمَا كان عليه شِبْه أمين؟!، بل العدَّة ما قدَّم منه أمامه؛ فيكون له أعظم ذخيرة يوم القيامة، ولا يغرَّنكم الشيطان، بتخويفه إيَّاكم الفقر على الأهل والولدان؛ فرزق كل ذي روح مقسوم، وما جرى به القلم محتوم، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. أفلا تنظرون إلى رفق الله جلَّ وعلا بمن بقي بعد والديه، كيف يقلِّب له القلوب، فكل أحدٍ يجد رأفة في قلبه عليه. فحسِّنوا ظنكم بمولاكم، واشكروه على ما أولاكم، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 78]، وخالفوا الشيطان الذي بحبل غروره دلاَّكم، ولا تبخلوا؛ فالبخل أهلكَ مَنْ كان قبلكم، وتصدَّقوا؛ فالصدقة تزكَّي أعمالكم. قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. وقال الضحَّاك في تفسير هذه الآية: مَنْ أخرج درهمًا من ماله ابتغاء مرضاة الله، فله في الدنيا بكل درهم سبعمائة درهم خَلَفًا عاجلاً، وألف ألف درهم يوم القيامة. وقال عزَّ من قائل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة: 262]

وفي حديث عليِّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه قال: مَنْ قام لفرس غازٍ بمخلاته أو جَلَّلَهُ أو سقاه، فُتحت له ثمانية أبواب الجنَّة يدخل من أيها شاء (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: "من ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنفق عليه احتسابًا كان شبعه وربُّه وجوعه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة" (¬2). وقال ابن سَبُع: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَثُرت سيئاته وقلَّت حسناته فليرتبط فرسًا في سبيل الله، ومن ارتبط فرسًا في سبيل الله كان كمن نصر موسى وهارون وقاتل فرعون وهامان" (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام.: "إنَّ بُدلاء أُمَّتي لم يدخلوا الجنَّة بصلاةٍ ولا صيامٍ ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدر" (¬4). وقال يحيى بن معاذ: ما أعرف حَبَّة تزن جبال الدُنيا إلاَّ الحبة من صدقة. ¬

_ (¬1) ذكره ابن النحاس في "مشارع الأشواق" (1/ 314). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 458)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (12/ 482) من حديث أسماء بنت يزيد، وإسناده ضعيف، فيه شهر بن حوشب، لين الحديث. ويغنى عنه ما أخرجه البخاري (6/ 57) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من احتبس فَرَسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعدِهِ فإن شِبَعَهُ وربَّهُ ورَوثَهُ في ميزانِهِ يوم القيامة". (¬3) لم أقف عليه. (¬4) أخرجه الدارقطني في "المستجاد" وأبو بكر ابن لال في "مكارم الأخلاق" من حديث أنس، وهو ضعيف جدًّا، أشار إلى ذلك الحافظ العراقي. انظر: "إتحاف السادة المتقين" للزبيدي (8/ 177).

وقال لقمان لابنه: إذا أخطأتَ خطيئة فأعط صدقة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنَّ الأعمال تتباهى، فقالت الصدقة: أنا أفضلها. وقال عليه الصلاة والسلام: "تجافوا عن ذنب السخيّ، فإنَّ اللهَ أخذ بيده كلما عَثَر، وإيَّاكم والبخل، فإنه من أقبح الخصال" (¬1). ومؤثره لا يصفى له حال؛ وسبب ذلك: حُبُّه لهذا الغَرَض الفاني، واشتغاله عن طاعة مولاه بالتعلُّل والأماني، ولم يعلم المسكين أنَّ حُبَّ الدنيا رأس كل خطيئة، وبغضها رأس كل حسنة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 37 - 41]. وقال عليه الصلاة والسلام: "الدُّنيا ملعونةٌ مَلْعونٌ ما فيها إلَّا ذِكْرَ اللهِ وما والاهُ" (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: "احذروا الدُّنيا، فإنها أسحر من هاروت وماروت" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (570)، والطبراني في "الأوسط" (5706) من حديث ابن عباس، وهو ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 282): "وفيه جماعة لم أعرفهم". (¬2) أخرجه الترمذي (2323)، وابن ماجه (4112) وغيرهما من حديث أبي هريرة، وهو صحيح. (¬3) حديث منكر لا أصل له، كما ذكر ذلك الحافظ العراقي في "تخريج الِإحياء" (3/ 2004).

ورُوي أنَّ عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز شمطاء شوهاء، عليها من كل زينة، فقال لها: كم نُكحتِ؟ فقالت: لا أحصيهم. فقال: طلَّقوكِ أو ماتوا عنكِ؟ فقالت: بل قتلتهم كلهم. فقال لها عيسى عليه السلام: بؤسًا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بالماضين! فلا تغرَّنَّكم -عبادَ الله- بظاهر جمالها، وتفكَّروا في فعلها بالمُؤْثِرين لوصالها، كيف قطعت آمالهم، وصرمت حبالهم؛ أنستهم آجالهم، فأساؤوا أعمالهم، فندموا حيث لا ينفعهم الندم على تفريطهم وتقصيرهم فيما تقدَّم. * * *

الباب الثاني في الأسباب التي تقتضي امتداد أطماع الكفرة اللئام في نيل شيء من بلاد الإسلام

الباب الثاني في الأسباب التي تقتضي امتداد أطماع الكفرة اللئام في نيل شيء من بلاد الإِسلام اعلم أنَّ مَنْ خرج من حصن الشريعة المطهَّرة يُخشى عليه أن تختطفه الأعداء، ومن لم يَحمِ نفسه من الوقوع في المعاصي والمخالفات يستولي عليه الداء، فبسبب وقوعكم في المعاصي وفرقتكم، تجاسر العدوّ على هتك حرمتكم، فبادروا رحمكم الله لنصرة دينكم؛ لأنَّ ما أصابكم إنما هو من ضَعف إيمانكم وقلَّة يقينكم، واستهزائكم بأمور الدِّين، ومخالفتكم لسيِّد المرسلين، ومجاهرتكم بالفواحش لرب العالمين، واشتغالكم بجمع الحُطام، ولم تبالوا بجمعه من حلال أو حرام. أطعتم الشيطان وعصيتم الرحمن، وأعطيتم النفوس مرادها ومشتهاها، وبَلَّغْتموها من المعصية غاية مناهاة تعدَّيتم حدود الشريعة إلى الأمور الشنيعة، كأنكم لم يُنَزَّلْ عليكم كتاب، ولا أمركم ونهاكم ربُّ الأرباب. رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إن لم تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكرة ليصرفنَّ الله قلوب بعضكم إلى بعض، ويلعنكم كما لعن بني

إسرائيل؛ كانوا إذا عمل العامل منهم خطيئة نهاه الناهي تعذيرًا، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس؛ فلما رأى الله ذلك منهم صَرَف الله قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان داود عليه السلام وعيسى ابن مريم عليهما السلام، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (¬1) [البقرة: 61]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إلا يُعذَّبُ العامَّة بِعَمَلِ الخاصَّةِ، ولكن إذا عملوا المنكر جِهارًا استحقوا العقوبة كلهم" (¬2). وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُذِّب أهل قرية فيها ثمانيةَ عَشَرَ ألفًا أعمالهم أعمال الأنبياء" قالوا: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: "لم يكونوا يغضبون لله ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر" (¬3). وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أيها الناس، إنَّكم تقرأون هذه الآيات وتتلونها على خلاف تأويلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...} [المائدة: 105]، وإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من قومَ عَمِلوا بالمعاصي وفيهم من يَقدر أن يُنكر عليهم فلم يفعل إلاَّ ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه الطبراني في "الكبير" من حديث أبي موسى الأشعري كما في "مجمع الزوائد" (7/ 269)، وقال الهيثمي بعده: "رجاله رجال الصحيح". وله شاهد من حديث ابن مسعود: أخرجه أبو داود (337)، والطبراني في "الكبير" (110268) لكنه منقطع. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 192)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2431) من حديث عدي بن عَميرة الكندي، وهو حديث حسن. (¬3) قال الحافظ العراقي في "تخريج الِإحياء" (2/ 310): "لم أقف عليه مرفوعًا".

يوشك أن يعمَّهم بعذاب من عنده" (¬1). فانتبهوا رحمكم الله من نوم هذه الغفلة، وبادروا بالأعمال الصالحات، فقد أزلفت النُّقْلَةُ. أَوَلَم تعلموا أنَّ بإقامة الحدودة تنزل الرحمة من الرب المعبود؟ وتستقيم بإذن الله جميع الأمور؟ وينقطع أهل البغي والفجور؟ فالقطع في السرقة فيه حِفظ الأموال، التي بها قامت سائر الأحوال، والحدُّ في الزنا فيه حفظ الإنساب، التي التباسها يؤدي إلى التخليطِ في الانتساب، والالتباسِ في المواريث التي أحلَّها رب الأرباب، أو، الحدُّ في القتل فيه حفظ النفوس، التي خُلقت لخدمة الملك القدوس، والحدُّ في القذف فيه حفظ الأعراض، وكذلك جميع حدود الشرع الشريف، المحفوظ من التبديل والتحريف. فبدَّلتم وغيَّرتم أغلب ما إليه نُدِبتم، وأسعفتم الشيطان حيث دلَّكم بغروره، واستنزلكم بإضلاله وفجوره. وعصيتم سيّد البشر، في غالب ما نهى عنه وأمر، وجعلتم لأنفسكم ارتباطات استحسنتم ظواهرها بمخالطة الأجانب من أهل الملل، هي خلاف معتبر العادات، فأعقب ذلك خللاً (¬2) وعللاً كإدخال السم في المطعومات، لا يصغي لاستماعها عاقل، ولا يرضى بذكرها ناقل. ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه أحمد في "مسنده" (1/ 2)، أبو داود (4338)، والمروزي في "مسند أبي بكر الصديق" (86، 87)، وأبو يعلى في "مسنده" (132) وإسناده صحيح. (¬2) في الأصل: حبلًا.

وبعتم أنفسكم بالدينار والدرهم، الذي آخر الأول نار وآخر الثاني هم. فلما اتَّبعتم أهواءكم، وتبعتم أراذلكم ونساءكم وصغاركم وسفهاءكم؛ فَسَدت بها بتقدير الله جميع الأحوال، ورفعت البركة من الأموال، وحُجِبتْ القلوب عن سماع المواعظ، فلم يؤثر فيها كلام حكيم ولا وعظ واعظ؛ فنعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق في السرِّ والِإعلان. فسارعوا عباد الله لدخول حرز التوبة، وأقلعوا عن كل زلّة وحَوْبة، فعسى تنالوا إن شاء الله قُربة؛ لأنَّ التوبة تطهِّر العبد من قبائح سيِّئاته، ويكتسب بها في أعلا الفردوس جزيل هباته، فيصير بعد البعد قريبًا، وبعد الهجر حبيبًا. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التائب حبيب الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬1). ومبدؤها الصبر عن المعاصي، ونهايتها اتباع سُنَّة شفيع الخلق من الداني والقاصي، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال في فضل اتِّباع سُنَّة نبته وحبيبه عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. فإنكم إن امتثلتم أمر ربكم، واستغفرتموه من جميع ما سَلَف من مخالفتكم وقُبح ذنبكم، واتَّبعتم سُنَّة نبيّكم، وأحببتم بعضكم؛ نَفَس عنكم ¬

_ (¬1) قال الحافظ العراقي في "تخريج الِإحياء" (4/ 5): "لم أجده بهذا اللفظ".

ما اشتدَّ من كربكم، وأصلح لكم ما اختلَّ من أحوال عزكم وظفركم بأعدائكم، وآتاكم النصر من أمامكم وورائكم، وأمدَّكم بنصره وعزّه، وأدخلكم في كنفه وحرزه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، أي: إن تنصروا دين الله ورسوله وخليفته ينصركم ويثبِّت أقدامكم. فالبدارَ البدارَ معاشرَ المسلمين! والعجلَ العجلَ عبادَ الله المؤمنين! فهذا منادي التوجُّهِ يناديكم، وهذه الآيات والأحاديث تستفزكم لجهاد من طغى عليكم من أعاديكم، مذكَّرةً لكم بعض ما أعدَّ الله عزَّ وجلَّ للمجاهدين من عظيم ثوابه، وما ادَّخر لهم من الخيرات في أعلى الجنة مع خاصة أحبابه؛ فمن كان طالبًا رضوان ربه فهذا أوانه، ومن كان طامعًا في نَيْل قربه فهذا إبانه؛ لأنَّ الأعداء -دمَّرهم الله- قد استفاض من خبرهم بأنهم عازمون على الخروج إليكم، وقد اصطلحوا على الورود عليكم. فاعزموا هممكم -رحمكم الله- للِإكثار من اكتساب العُدد، من أجاويد الخيل الموصلة للغرض في أقرب الأمد، وأقيموا إليهم الرحلة، وائتوهم على حين غفلة، ولا تعطوهم فترة ولا مُهلة، فعساكم إن أوجفتم عليهم بخيلكم ورَجِلِكم تظفروا إن شاء الله بآمالكم، وتحوزوا جميع ما بأيديهم، وتَغْنَموا أموالهم وأهليهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "رباط ليلة على ساحل البحر أفضل من قيام الخلائق وصيامهم سنة، فإن مات (¬1) في رِباط فهو مرابط إلى يوم القيامة" (¬2). ¬

_ (¬1) كررت في الأصل، خطأ. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، ويغني عنه ما أخرجه مسلم (3/ 1520) من حديث =

وروى مكحول عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: فضل صلاة الرجل متقلدًا بسيفه في سبيل الله على صلاة الذي يصلي بغير سيف سبعون ضعفًا، ولو قلتُ سبعمائة ضِعف لكان ذلك (¬1). وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما اصطحب قوم في سبيل الله إلاَّ كان أعظمهم أجرًا أحسنهم خُلُقًا" (¬2). فتمسَّكوا عباد الله بدينكم، واقتدوا بفعل نبيكم، وما كان عليه الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، من حمايتهم ونصرهم لدين الإِسلام، وملازمتهم لسُنَّة نبيِّه عليه السلام، وقد بالغ في أذيَّته المشركون والمنافقون، وهو مع ذلك حين شَجُّوا وجهه الشريف وكسروا رُبَاعِيَتَه يقول: "اللَّهُمَ اغفِر لقومي فإنهم لا يعلمون" (¬3). فينبغي للِإمام أو نائبه أن يأخذ بالاحتياط للمسلمين، وأن يرتبهم عند القتال كما ذكر العلماء في سائر الدواوين، فإذا وجد فيهم ضعفًا أو آنس فيهم خوفًا حضَّهم على الصبر واللَّجَإِ إلى الاستغفار، وكثرة الدعاء للملك القهَّار، الذي له القدرة والانتصار. قال النووي رحمه الله تعالى: يُستحبُّ للمجاهد استحبابًا مؤكدًا أن يقرأ من القرآن ما تيسَّر، وأن يدعو بالدعاء المأثور الذي هو في الصحيح ¬

_ = سلمان الفارسي مرفوعًا: الرباطُ يومٍ وليلةٍ خير من صيامِ شهر وقيامِهِ، وإِنْ مات جرى عليه عمله الذي كان يعملُهُ وأُجري عليه رِزقهُ، وأَمن الفتَّان". (¬1) ذكره ابن النَّحاس في "مشارع الأشواق" (1/ 498). (¬2) لم أجده بهذا اللفظ، وانظر: "إتحاف السَّادة المتقين" للزبيدي (6/ 207). (¬3) أخرجه البخاري (6/ 514)، ومسلم (3/ 1417) من حديث ابن مسعود.

مذكور: "لا إللهَ إِلاَّ اللهُ الحليمُ العظيمُ، لا إلهَ إلاَّ اللهُ ربُّ العَرْشِ الكريم العَظِيم، لا إلله إلاَّ اللهُ رب السماوات وربّ الأرض ربّ العرش الكريم، وحسبُنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليّ العظيم، اعتصمنا بالله، واستعنَّا بالله، توكلنا على الله" (¬1). وكان عليه الصلاة والسلام إذا غزا يقول: "اللَّهُمَّ أنت عَضُدِي ونصيري، بِكَ أَحُولُ وبِكَ أَصول، وَبِكَ أُقاتل ... " (¬2) إلى غير ذلك من الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي المختار - صلى الله عليه وسلم -، وبغير ذلك من التوسُّلات المأخوذة عن العلماء الأعلام والجهابذة الفخام. وليختم جميع ذلك بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، فإنها باب القبول ونِعَم الختام. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه البخاري (11/ 145)، ومسلم (4/ 2092) من حديث ابن عباس. وانظر كلام الِإمام النووي في كتاب "الأذكار" له (ص 343). (¬2) أخرجه أبو داود (2632)، والترمذي (3578) من حديث أنس وهو صحيح. ومعنى: "عضدي" قوتي، أو ناصري ومُعيني.

خاتمة في حكم الغنيمة

خاتمة في حكم الغنيمة وإنما ذكرتُ حُكمها في هذه النبذة تفاؤلاً بحصولها، فأقول: الغنيمة، معناها لغة: الربح. وشرعًا: مال أو ما ألحق به، حصل لنا من كفار أصليين مما هو لهم بقتال منّا، أو إيجاف خيل أو رِكاب أو نحو ذلك، ولو بعد انهزامهم في القتال أو قبل شهر السلاح حين التِقاء الصفين. ومن الغنيمة ما أُخذ من دارهم سرقة أو اختلاسًا أو لُقَطة، أو ما أَهْدَوْا لنا أو صالحونا عليه، والحرب قائم. ومن قتل قتيلًا أُعطي سَلَبه إن اشترط له الِإمام (¬1) لخبر الشيخين: "مَن قَتَل قتيلاً فله سَلَبه" (¬2). وروى أبو داود أنَّ أبا طلبة رضي الله عنه قَتَل يوم خيبر عشرين ¬

_ (¬1) قوله: إن اشترط له الِإمام ... هذا هو المفتى به عند سيِّدنا الِإمام الأعظم، وعند الشافعي يعطى السلب مطلقًا سواء شرطه الِإمام أم لا. اهـ من هامش المخطوط. (¬2) البخاري (8/ 36)، ومسلم (3/ 1371) من حديث أبي قتادة.

قتيلًا وأخذ سَلَبهم (¬1). والسلب: ثياب القتيل التي هي عليه، والخف، وآلة الحرب كدرع وسلاح ومركوب، وآلته من نحو سرج ولجام، وكذا سوار ومنطقة وخاتم ونفقة معه. وتقسم الغنيمة بعد ذلك -أي: بعد إعطاء السلب وإخراج المؤن- خمسة أخماس متساوية؛ فيعطى أربعة أخماسها من عقار ومنقول لمن شهد الوقعة بنيَّة القتال، وهم الغانمون؛ لِإطلاق الآية الكريمة وعملًا بفعله - صلى الله عليه وسلم - في أرض خيبر، سواء أقاتل مَنْ حَضَر بنيَّة القتال مع الجيش أم لا؛ لأنَّ المقصود تهيُّؤُه للجهاد وحصوله هناك، فإن تلك الحالة باعثة على القتال، ولا يتأخَّر عنه في الغالب، مع تكثيره سواد المسلمين، وكذا من حضر لا بنيَّة القتال وقاتل في الأظهر، ومن لم يحضر أو حضر لا بنيَّة القتال ولم يقاتل لم يستحق شيئًا. ويُدفع للفارس ثلاثة أسهم، له سهم ولفرسه سهمان للاتباع فيهما، رواه الشيخان (¬2). ومن حضر بفرس يركبه يُسهم له وإن لم يقاتل عليه إذا كان يمكنه ركوبه، ولا يعطى إلاَّ لفرس واحد وإن كان معه أكثر منها؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يعط الزبير إلاَّ لفرس وكان معه يوم خيبر أفراس (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2718) من حديث أنس وقال بعده: "هذا حديث حسن". (¬2) البخاري (6/ 67)، ومسلم (3/ 1383) من حديث ابن عمر. (¬3) أخرجه النسائي (6/ 228)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 326)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 283) من حديث الزبير، وهو صحيح.

ويُدفع للراجل سهم واحد؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك يوم خيبر، متفق عليه (¬1). ولا يُسهم إلاَّ لمن استكملت فيه سِتّ شرائط: الإِسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والصحة، فإن اختلَّ شرط من ذلك رُضِخَ له، ولم يُسْهَمْ لواحد منهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الجهاد. والرضخ: اسم لما دون السهم من العطاء، مُفوَّض قدره للِإمام أو نائبه، حيث لم يَرِدْ فيه تحديد، فيُرجع فيه إلى رأيه، ويُفاوِتُ على قَدْر نفع المُرضَخ له. والخمسُ الباقي بعد أربعة أخماس الغانمين يقسَّم أثلاثًا: لليتيم والمسكين وابن السبيل، وقدم فقراء ذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب من الأصناف الثلاثة عليهم؛ لجواز الصدقات لغيرهم لا لهم، ولا حق لأغنيائهم، وذِكْرُ الله تعالى في الآية للتبرك، وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - سقط بموته. وعند الشافعي يقسَّم السهم الخامس بعد ذلك على خمسة أسهم؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...} [الأنفال: 41]. الأول: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصرف بعده لمصالح المسلمين. والثاني: سهم لذوي القربى وهم آل النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: سهم اليتامى؛ للآية المذكورة، جمع يتيم، وهو صغير ذكر وأنثى، لا أب له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6/ 67)، ومسلم (3/ 1383) من حديث ابن عمر، وأخرجه مسلم (3/ 1439) من حديث أبي قتادة.

والرابع: سهم المساكين، ويدخل فيهم الفقراء. والخامس: سهم ابن السبيل، وهو منشئُ سفرٍ مباح لا مال معه يوصله إلى وطنه. وبقية مباحث ما يتعلَّق بالغنيمة من أحكام النساء والذراري والأسرى مذكورة في كتب الفقه، ليست هذه النُّبذةُ محلَّ بسطها، وفي هذا القدر كفاية لذوي الهمم العوال، مُغنية لكمال الموفقين من الرجال. فرحم الله امرأً نظر إلى المقول ولم ينظر إلى من قال وسدل بعد الستر بعد التأمل في المقال. اللهُمَّ عَذِّب الكَفَرة الذين يصدون عن سبيلك، ويقاتلون أوليائك ويكذبون رسلك، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم الظالمين. اللهُمَّ زلزل أقدامهم ونكِّس أعلامهم واجعلهم هم وأموالهم وأولادهم غنيمة للمسلمين. اللهُمَّ بَدِّد شملهم، اللَّهُمَّ فَرِّق جمعهم، اللَّهُم فُلَّ حَدّهم، اللهمَّ اجعل الدائرة عليهم، اللهُمَّ أرسل العذاب إليهم، اللَّهُمَّ أخرجهم عن دائرة اللطف والحلم، واسلبهم مدر الِإمهال، وغل أيديهم، واربط على قلوبهم، ولا تبلِّغهم فينا الآمال. اللهُمَّ مَزِّقهم كل مُمزَّق مزَّقته لأعدائك، وانتصر لنا انتصارك لأوليائك وأنبيائك ورسلك. اللهُمَّ انصرنا نصرك لأحِبَّائك على أعدائك. اللهمَّ لا تمكِّن الأعداء فينا ولا منَّا، ولا تسلِّطهم بذنوبنا علينا. اللهُمَّ إنَّا آمالنا في فضلك عظيمة، وأعمالنا غير مستقيمة، فلا

تحرمنا من فضلك وكرمك بما ضيَّعنا من حقوقكَ وانتهكنا من حُرَمك، وتقطع عنَّا ما عوَّدتنا من جزيل نعمتك يا أرحم الرَّاحمين. إلهي أنت قلتَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، فها نحن متوجِّهون إليك بكليتنا فلا تردَّنا، واستجب لنا كما وعدتنا. اللَّهُمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلحهم وأصلح ذات بينهم، وألِّف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الِإيمان والحكمة، وثبِّتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يشكروا نِعمتك التي أنعمتَ عليهم، وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوِّك وعدوّهم إله الحق، واجعلنا منهم. اللهُمَّ صَلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه، كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182]. تمَّت في 2 شهر جمادى الثاني سنة ألف ومائتين وسبعين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) فرغت من مقابلته بأصله المخطوط في يوم السبت 24 رمضان 1420 هـ بين المغرب والعشاء في المسجد الحرام، تجاه الكعبة المشرفة، وقد عارضه معي الأخ الشيخ نظام يعقوبي والشيخ رمزي دمشقية جزاهما الله عني خير الجزاء.

§1/1