اتقاء الحرام والشبهات في طلب الرزق

أحمد الطويل

خطبة الحاجة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خطبة الحاجة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كثيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (¬1). ¬

(¬1) تسمى هذه خطبة الحاجة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه ويستفتح بها، ثم يذكر حاجته، وقد وردت هذه الخطبة المباركة عن ستة من الصحابة رضي الله عنهم، انظر تحقيقها للشيخ محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي ط رابعة سنة 1400 هـ.

تمهيد

تمهيد منطلقنا في هذا الموضوع وتقسيمه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشبهات كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (¬1). ففي هذا الحديث تنقسم الأحكام إلى ثلاثة أمور: لأن الأمر إما أن ينص الشارع على طلبه، مع الوعيد على تركه. أو ينص على تركه، مع الوعيد على فعله. أو لا ينص على واحد منهما: فالأول: الحلال البين، والثاني: الحرام البين. والثالث: المشتبه فيه لخفائه، فلا يدري هل هو حلال أم حرام. ¬

(¬1) متفق عليه واللفظ للبخاري انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، طبعة عيسى البابي الحلبي، بالقاهرة، الناشر المكتبة الإسلامية، بدون تاريخ ج 2 ص 153 - 154 رقم 1028، وأخرجه أيضاً عن النعمان بن بشير أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وأحمد وغيرهم، راجع روايات وألفاظ الحديث للعلامة علي المتقي: علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري المتوفي سنة 975 هـ، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، بيروت، طبعة 1399 هـ ج 3 ص 428، وما بعدها رقم 7291 ورقم 7313 وغيرهما.

وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه، لأنه إن كان (في نفس الأمر) حراما، فقد برئ من التبعة، وإن كان حلالاً، فقد استحق الأجر على الترك لهذا القصد، لأن الأصل مشتبه فيه، أهو حظر أم إباحة (¬1). ومع وضوح الحلال البين والحرام البين، إلا أنه لا بد من الترغيب في كسب المال من الطرق الحلال، والترهيب من طرق الحرام، والتحفظ باتقاء الشبهات. وفي أبواب ثلاثة تناولت بشيء من التفصيل بعض وسائل الحلال البين في الكسب المشروع، والحرام البين في الكسب غير المشروع، وما فيه شبهة حرام، وهو موضوع هذا البحث، فإن وفقت في شيء منه فمن الله تعالى، وإن أخطأت، فمن نفسي وتقصيري، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا. المؤلف أحمد الطويل السعودية- الرياض 11159 ص. ب 7897 بريد داخلي 765 هاتف 4365419/ 01 جوال 0563891935/ 966+ ¬

(¬1) الإمام الشوكاني: محمد بن علي بن محمد، نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار، طبعة دار الجيل، بيروت- لبنان- نشر دار الفكر بيروت، بدون تاريخ، ج 5 ص 321.

الباب الأول الحلال البين

الباب الأول الحلال البين الفصل الأول في الكسب الحلال 1 - التعريف بالحلال. 2 - حكم معرفة الحلال والحرام. 3 - أهمية طلب الحلال في حياة المسلم. 4 - وجوب تحري الحلال في طلب الرزق. 5 - الترغيب في طلب الحلال. 6 - طلب الرزق والعبادة. 7 - العمل والصلاة. 8 - طلب الرزق لا يتنافى مع التوكل. 9 - القناعة بالرزق الحلال. 10 - التعفف عما في أيدي الناس. 11 - متى يجوز سؤال الناس؟ 12 - الترهيب من سؤال الناس. 13 - الترغيب في عدم السؤال. 14 - من لا تحل له الصدقة.

1 - التعريف بالحلال

الفصل الأول في الكسب الحلال 1 - التعريف بالحلال: أ- التعريف اللغوي: الحلال هو المباح (¬1). والحلال ضد الحرام. والأولى أن يقال: الحلال هو المطلق من قيد الحظر (¬2). ب- التعريف الشرعي: الحلال هو المباح الذي انحلت عنه عقد الحظر وأذن الشارع في فعله (¬3). 2 - حكم معرفة الحلال والحرام: ومعرفة الحلال من الحرام فرض عين على كل مسلم مكلف ليكون على بصيرة من دينه حتى لا يقع في المحظور ويخالف أحكام الإسلام، فإن ¬

(¬1) نخبة من العلماء، المعجم الوسيط، نسخة مصورة عن طبعة المجمع اللغوي بالقاهرة بدون تاريخ ج 1 ص 193. (¬2) ابن الأثير: الإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، دار إحياء التراث الإسلامي بيروت طبعة أولى 1383 هـ ج 1 ص 428. (¬3) اخترت هذا التعريف للدكتور يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، المكتب الإسلامي بيروت الطبعة السابعة سنة 1393 هـ ص 13 وراجع في التعريف أيضاً العلامة الآمدي سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد، الإحكام في أصول الحكام الطبعة الأولى سنة 1388 هـ ج 1 ص 113 وص125 وانظر الشيخ محمد الخضري أصول الفقه الطبعة السادسة 1389 هـ ص 47 وما بعدها، والشيخ محمد أبو زهرة، الجريمة، طبعة 1976 م ص 209.

3 - أهمية طلب الحلال في حياة المسلم

من اعتقد الحلال حراماً أو بالعكس فإنه يكفر، إذا كان الحرام حراماً لعينه قد حرمه الإسلام من أول الأمر كالزنا والسرقة وبيع الميتة وتزوج المحارم، فإن الإسلام قد حرم ذلك ابتداءً لما فيه من المفاسد والمضار. أما إذا كان الحرام حراماً لغيره، وهو ما يكون مشروعاً في الأصل ولكن اقترن به عارض اقتضى تحريمه كالبيع إذا اشتمل على الربا، أو الصوم إذا كان يوم العيد، فإن الصوم في ذاته مشروع ولكنه لما اقترن بيوم العيد المحرم صيامه، صار حراماً لهذا العارض، وكذلك البيع، فهو حلال، ولكن لما خالطه الربا صار حراماً، وهكذا. ومنكر الحرام لغيره يكفر، كمنكر الحرام لذاته إذا ثبتت الحرمة بدليل قطعي الثبوت كالقرآن والسنة المتواترة والمشهورة، وقطعي الدلالة، بحيث لا يحتمل تأويلاً آخر. أما إذا كان الدليل ظني الثبوت، كسنة الآحاد، وظني الدلالة يحتمل معنى آخر، فإنه يكون محلاً لاختلاف المجتهدين. 3 - أهمية طلب الحلال في حياة المسلم: ولتحري طلب الحلال، واجتناب الحرام، واتقاء الشبهات، في حياة المسلم، أهمية قصوى، حيث يتوقف على ذلك شرعية منهاجه، وسلوكه في الدنيا، ومصيره في الآخرة، ويتجلى مظهر الامتثال لأوامر الله تعالى ورسوله، والانتهاء عما نهى الله تعالى عنه ورسوله، في الاقتصار على الحلال دون الحرام والشبهات، والرغبة في الخير دون الشر، وذلك في شتى الميادين، وجميع المجالات: في المأكل والمشرب، والملبس، والعمل، والمعاملات، والكسب، والبيع والشراء، ومجال الغريزة، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وكذا العلاقات العامة ... إلخ.

وهذا شأن المؤمن الملتزم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء عن غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (¬1). وعن أبي الدرداء مرفوعاً: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله تعالى لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] (¬2). ويحتل الحلال والحرام من النصوص الشرعية ومن الأحكام الفقهية في الإسلام مساحة عريضة، نظراً لأهميتهما في حياة المسلم وتناولهما شتى شؤون الحياة، بما يصلح للمرء دنياه وأخراه، في مجال العقيدة والعبادة والاقتصاد والسياسة والشؤون الخاصة والعامة والعلاقات مع النفس ومع غيرهما. وسوف نتناول ما يتعلق بطلب الرزق من وجوهه المشروعة مما أحله الإسلام، ونحذر من الوقوع في الحرام بكسب المال من طرق غير مشروعة، وما ينبغي اتقاؤه في هذا الباب بترك الشبهات. ¬

(¬1) رواه أبو ثعلبة الخشني، وأخرجه الدارقطني في سننه، وهو من رواية مكحول عن أبي ثعلبة، وفيه انقطاع، وله شاهد بمعناه أخرجه البزار والحاكم وصححه وغيرهما من حديث أبي الدرداء مرفوعاً، وحسنه النووي والسمعاني، راجع تخريج الحديث لعبد القادر الأرناؤوط في جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير طبعة دمشق 1390 هـ ج 5 ص 59 رقم 3070 وانظر الهيثمي في مجمع الزوائد ج 1 ص 171. (¬2) أخرجه البزار والحاكم بإسناد صحيح.

4 - وجوب تحري الحلال في طلب الرزق

4 - وجوب تحري الحلال في طلب الرزق: تقضي تعاليم الإسلام بأنه يجب على المسلم طلب الحلال وتحريه، ولا سيما في مجال الكسب، كي يسلم وينجو من عذاب الله تعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168]. وقال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88]. وقال أيضا: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [النحل: 114]. وقيل في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] يعني أحل طعاماً (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طلب الحلال واجب على كل مسلم» (¬2). ففي الآيتين والحديث: الحث على طلب الحلال كسباً وتناولاً، على سبيل الوجوب، إذ هو مقتضى الأمر عند إطلاقه. والكون كله بسمائه وأرضه وبحره، ميدان فسيح مسخر لهذا الحلال. قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12 - 13]. ¬

(¬1) الإمام البغوي: شرح السنة، ج 8 ص 5. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط كما قال الحافظ الهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر، وحسنه في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الفكر العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1967 م ج 1 ص 291، وضعفه المحدث الألباني من رواية مسند الفردوس كما في ضعيف الجامع الصغير وزيادته الفتح الكبير ج 4 ص 11 رقم 3624، وراجع علي المنتقي، كنز العمال ج 4 ص 5 رقم 9404.

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. والحلال الطيب، مخلوق أصلاً للمؤمنين، ويشاركهم فيه غيرهم على وجه التبعية في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، صار حقاً خالصاً للمؤمنين وحدهم، بدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. ومطلوب من المسلم أن يطرق السبيل المشروع لتحصيل الرزق الحلال، وهو آت له بعد بذل السبب لا محالة. قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. ولحرص الإنسان وهلعه أقسم رب العالمين على ضمانه، فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22 - 23]. وتقوى الله تعالى والخوف منه سبب لفتح باب الرزق الحلال من حيث لا يتوقع المرء. قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3]. وما عند الله تعالى من رزق حلال إنما يطلب بطاعة الله؛ وهذا الذي يأخذ الرشوة أو يأكل الربا أو يظلم الناس، إنما يطلب الكسب بمعصية الله، ومن غير طرقه المشروعة، ولا يدرك ما عند الله إلا بطاعته.

5 - الترغيب في طلب الحلال

عن حذيفة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن روح القدس نفث في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» (¬1). وفي الحديث: «الرزق أشد طلباً للعبد من أجله» (¬2). 5 - الترغيب في طلب الحلال: أولًا: من القرآن الكريم: كي يجنب الإسلام أتباعه من مخاطر الحرام وعواقبه التي تؤدي إلى المهالك، شرع لهم من طرق الكسب الحلال ما يقيهم من عذاب الله في الآخرة، ويحفظ عليهم دينهم، وحياتهم من الفساد، وذلك ببذل الجهد في العمل، والتكسب من الطرق المشروعة، والأخذ بالأساليب الموصلة إليها. بل وحث الإسلام على الأخذ بها ورغب فيها، وجعلها ضرباً من العبادة التي يثاب المرء عليها. ¬

(¬1) انظر الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب حيث قال: رواه البزار، ورواته ثقات، إلا قدامة بن زائدة بن قدامة فإنه لم يحضرني فيه جرح ولا تعديل: ج 4 ص 12 رقم 2489 وهو في كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي ج 2 ص 81 - 82 رقم 1253 مع اختلاف في اللفظ وليس فيه روح القدس وإنما جبريل. (¬2) حسنه المحدث الألباني عن أبي الدرداء من رواية القضاعي، انظر صحيح الجامع الصغير. جزء 3 ص 188 رقم 3545. وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 950 كما قال الألباني. ولم أجده بهذا اللفظ. ولكني وجدته بلفظ «لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت» رواه أبو نعيم عن جابر مرفوعاً. انظر ج 2 ص 672 رقم 952 وهو في كشف الأستار بلفظ «إن الرزق ليطلب العبد كما يطلب أجله» ج 2 ص 82 رقم 1254 قال: وإسناده صحيح، إلا ما ذكره من تفرد هشام ولا نعلم له علة.

ثانيا: من السنة النبوية

1 - فتارة يقدمها على الجهاد في سبيل الله، فيقول تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. 2 - وتارة يأمر بها عقب الفراغ من العبادة، فيقول تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. 3 - ومثله قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب} [الشرح:7]. 4 - وتارة يتحدث عن أسباب الرزق ولا يمنع من ممارستها حتى في أثناء أداء فريضة العمر، فيقول جل شأنه في سياق الحديث عن مناسك الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]. 5 - وتارة يصف عباده الصادقين المخلصين بمزاولة الكسب الحلال، فيقول: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. 6 - وعن البيع والشراء يقول جل شأنه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. 7 - وفي معرض النهي عن أكل أموال الناس بالباطل يقي الله سبحانه المسلم من الكسب غير المشروع بمشروعية التجارة فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. هذا: ولم أعمد إلى تقصي آيات القرآن الكريم التي وردت في هذا المقام، وإنما أردت الإشارة إليها فحسب، وكذلك الشأن في الأحاديث والآثار الآتية. ثانيًا: من السنة النبوية: ليس الإسلام دين بطالة أو تواكل، أو سؤال وكسل وخمول، وإنما هو دين يحفز أتباعه على العمل ويحث عليه، ويمقت الاعتماد على الآخرين،

فهو يشخص الداء ويضع الدواء، ويتبين مدى حرص الإسلام على الكسب المشروع من الأحاديث التالية: 1 - عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً من الأنصار، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى: حِلْسٌ (¬1) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وَقَعْبٌ نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «من يشتري هذين؟» فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يزيد على درهم. مرتين، أو ثلاثاً»، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه: وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُّوماً فأتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عوداً بيده، ثم قال: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما»، ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقر مدقع (¬2) أو لذي غرم (¬3) مفظع (¬4) أو لذي دم موجع (¬5) (¬6).» ¬

(¬1) حلس: بكسر الحاء. وسكون اللام. وهو كساء غليظ يكون على ظهر البعير، ويحمي به غيره مما يداس ويمتهن من الأكسية. (¬2) الفقر المدقع: بضم الميم وسكون الدال وكسر القاف: الشديد، الملصق صاحبه بالدقعة: وهي الأرض التي لا نبات بها. (¬3) الغرم بضم الغين وسكون الراء: ما يلزم أداؤه تكلفا لا في مقابلة عوض. (¬4) المفظع: الشديد الشنيع. (¬5) ذو الدم الموجع: الذي يتحمل الدية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل، يدفعها إلى أولياء المقتول؛ ولو لم يفعل قُتل قريبه. (¬6) رواه أبو داود والبيهقي بطوله، واللفظ لأبي داود، وأخرج الترمذي والنسائي منه قصة بيع القدح فقط. وقال الترمذي: حديث حسن، نقلاً عن المنذري في الترغيب والترهيب ج 2 ص 143 رقم 199 وج4 ص 3 - 4، رقم 2463 .. وذكره ابن الأثير في جامع الأصول ج 10 ص 156 - 157 رقم 7641. وقال الأرناؤوط: رواه أحمد وابن ماجه.

ففي الحديث توجيه وحث على العمل، وترك السؤال، وتأنيب على البطالة والاعتماد على الآخرين. 2 - وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه» (¬1). فالعمل مهما كان؛ أفضل من سؤال الناس، لأن فيه حفظاً لكرامة المسلم، واستغناءً عنهم. 3 - وعن رافع بن خديج، من طريق، وللطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، من طريق آخر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أطيب الكسل عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» (¬2). ففيه حث على العمل، والبيع المشروع، وأنه أطيب أنواع الكسب. ويعتبر الإسلام السعي للكسب من طريق حلال ضرباً من الجهاد في سبيل الله. 4 - ففي الحديث عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. أما إنه إن كان يسعى على والديه أو أحدهما فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه فهو في سبيل الله» (¬3). ¬

(¬1) محمد فؤاد عبد الباقي: اللؤلؤ والمرجان، ج 1 ص 219 رقم 618. وراجع طرق الحديث ورواياته في جامع الأصول ص 146 ج 10 رقم 7626، 7627. والمنذري في الترغيب والترهيب ج 2 ص 144 رقم 1200، 1201. (¬2) علي المتقي، كنز العمال، ج 4 ص 4 رقم 9196. وصححه المحدث الألباني من الطريقين في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 2 ص 160 رقم 607، وقد أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك. (¬3) رواه البيهقي، انظر علي المتقي، كنز العمال، ج 4 ص 10 رقم 9235 وانظر البيهقي في السنن الكبرى ج 7 ص 479، مع اختلاف في اللفظ، وهو مع الجوهر النقي، دار الباز بمكة عن طبعة حيدر آباد الأولى سنة 1302 هـ.

ثالثا: من الآثار

وعمل الرجل بيده أفضل طريق لطلب الكسب الحلال ووقاية له من الحرام، كما يشير إليه الحديث الآتي: 5 - أخرج البخاري وأحمد عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (¬1). وأكل الحلال الطيب سبب من أسباب دخول الجنة. 6 - عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أكل طيبًا وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة، قالوا يا رسول الله: إن هذا في أمتك كثير، قال: وسيكون في قرون بعدي» (¬2). ثالثًا: من الآثار: 1 - ومن أقوال عمر - رضي الله عنه -، في الحث على طلب الرزق، وقاية المسلم من الكسب الحرام: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة» (¬3). 2 - وكان - رضي الله عنه - يقول: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا سقط من عيني» (¬4). ¬

(¬1) انظر علي المتقي كنز العمال ج 4 ص 8 رقم 9223 ونقله المنذري عن البخاري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 144 رقم 1203. وهو في الصحيح بشرح فتح الباري ج 4 ص 303 رقم 2072. (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 773. (¬3) الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، بدون تاريخ ج 2 ص 62. (¬4) علي المتقي، كنز العمال، ج 4 ص 123 رقم 9858.

3 - وكان يقول أيضاً: «مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس» (¬1). 4 - والقعود عن طلب الرزق، ولو كان باسم العبادة، لا يقرُّه الإسلام ولا غيره: روي أن عيسى عليه السلام رأى رجلاً فقال: «ما تصنع؟ قال: أتعبد. قال: من يعولك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبدُ منك» (¬2). 5 - وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي. فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم. أما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجُعل رزقي تحت ظل رمحي». وقال حين ذكر الطير: «تغدو خماصًا وتروح بطانًا ..» (¬3). وجاء في الأثر أنه قيل: من المؤمن؟ فقيل: من إذا أمسى نظر من أين فرصة (¬4). ففي هذا الأثر وجوب تحري الحلال ومحاسبة النفس على مصدر الرزق. وقال أبو سليمان الداراني: «ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن ابدأ برغيفك فأحرزه ثم تعبد» (¬5). ¬

(¬1) علي المتقي في المرجع السابق، ج 4 ص 123 رقم 1854. (¬2) المرجع السابق. (¬3) ابن قدامة المقدسي: أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، مختصر منهاج القاصدين، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، الطبعة الرابعة، 1394 هـ ص 78. والغزالي، في الإحياء ج 2 ص 62، 63 وقد أخرج الحديث الثاني أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن عمر - رضي الله عنه - كما قال الألباني وصححه في صحيح الجامع الصغير ج 5 ص 60 رقم 5130. والأول جزء من حديث في مسند أحمد 2/ 50. (¬4) أبو سعيد الخراز، الطريق إلى الله، ص 31. (¬5) ابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين ص 78، والإمام الغزالي، الإحياء ص 62.

6 - طلب الرزق والعبادة

ولا يعني الاعتناء بطلب الرزق أن يكون ذلك على حساب العبادة، فالمسلم يؤدي فرضه، ويسعى لرزق ربه. فهذه آيات وأحاديث، وآثار، وأخبار، كلها تحث على العمل المشروع، وترغب فيه، وتبين فضله، وقاية للمسلم من الكسب غير المشروع كالرشوة وغيرها. وأخيراً: فإن قضية الرزق الذي يأتي للإنسان عن طريق العمل المشروع كما أرشد إليه الإسلام، ذات وجهين، كسائر ما يجنيه الإنسان بعمله في الحياة. الوجه الأول: بذل السبب، وممارسة العمل والسعي والبحث عن الرزق. الوجه الثاني: هو الفضل الرباني في تقدير هذا الرزق، وتيسير أسبابه، والتوفيق في العمل، ودفع الموانع، وتحقيق النتائج. وكلا الوجهين في نصوص القرآن والسنة حينما تتحدث عن الكسب فتقرن السعي الإنساني في طلب الرزق بابتغاء فضل الله تعالى. 6 - طلب الرزق والعبادة: ومطلوب من المسلم أن يرغب فيما عند الله تعالى ببذل الجهد في العمل للدار الآخرة، وأن يتفانى في مرضاة ربه، ومطلوب منه كذلك أن يسعى لتحصيل رزقه، وأن يأخذ نصيبه من الدنيا، وأن يعمل على عمارة الأرض بزراعتها واستخراج كنوزها .. الخ. بحيث لا تطغى دنياه على آخرته؛ لأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلا يطغيه المال، ولا يلهيه السعي له عن طاعة ربه، ولا ينقطع للعبادة، ويصبح عالة على الناس. عملاً بقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] ومعناه أن يكون ما عند الله هو أكبر همه. كما قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8].

7 - العمل والصلاة

جاء في مراسيل أبي داود عن أبي قلابة: «أن ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدموا يثنون على صاحب لهم خيراً، قالوا: ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا نزل منزلاً إلا كان في صلاة، قال: فمن كان يكفيه ضيعته؛ حتى ذكر من كان يعلف جمله أو دابته؟ قالوا: نحن، قال: فكلكم خير منه» (¬1). 7 - العمل والصلاة: وإذا كان الإسلام يدعو إلى العمل ويحث عليه، فإنه يجعل للعمل أوقاتاً لا تتعارض مع وجوب أداء الصلاة في وقتها، بحيث يترك المسلم عمله لزوماً إذا جاء وقت الصلاة ويذهب لأدائها، ثم يعود لأداء عمله، فلا يحتج بعمله للتخلف عن الصلاة، ولا يجعل من الصلاة سبباً للتهاون في العمل، فيأخذ أكثر من وقت الصلاة الفعلي باسم الصلاة- ولا سيما الموظف العام- كي لا يسيء إلى الإسلام بسبب الصلاة، كما لا يجوز للمسلم أن يفضل العمل على أداء الصلاة. ويجب على ولاة الأمور أن يعملوا على تفريغ وقت للصلاة أثناء العمل في صلاة الظهر أو غيرها، كي يتمكن المسلمون من أدائها، ويجب ألا تتعارض المؤتمرات، والاجتماعات، والمحاضرات، والندوات، والدروس، والألعاب الرياضية مع وقت الصلاة. ويسيء بعض العامة استعمال بعض الشعارات الدينية للتخلي عن الطاعة والعبادة، بدعوى أن (العمل عبادة)، وأن (من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة)، وهذا استغلال سيء واستدلال خاطئ، إذ لا ينبغي أن يطغى العمل على العبادة، ولا تطغى العبادة على العمل. ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي جامع العلوم والحكم ص 299.

8 - طلب الرزق لا ينافي التوكل

فللصلاة أوقات محددة تؤدى خلالها في بضع دقائق، تجدد النشاط لكثرة الإنتاج، وتحفز على الإخلاص في العمل وإتقانه. ولا أمان لمن يتكاسل عن عبادة ربه باسم العمل، ولا من يعطل العمل باسم العبادة، وكيف تكون العبادة مدعاة للكسل أو البطالة، وتعاليم الإسلام بوجه عام والعبادات بوجه خاص، ترفع معنويات المسلم وتوحي له بالقوة والنشاط، وتولد فيه طاقة معنوية تحفزه إلى القوة المادية والروحية؟! 8 - طلب الرزق لا ينافي التوكل: وكما أن العمل لا يتنافى مع العبادة فهو أيضًا لا يتنافى مع الاعتماد والتوكل على الله تعالى، إذ يطلب الإسلام من المسلم الأخذ بالأسباب، وبذل الجهد فيها لتحصيل رزقه المقسوم له، ثم يترك النتائج لرب العالمين. ولعل من الآيات التالية ما يشير إلى هذا المعنى: 1 - {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. 2 - {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12]. 3 - {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. 4 - {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]. وفي ضرب المثل بأخذ الطيور في الأسباب، عبرة للإنسان، في قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه ابن عمر رضي الله عنهما: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح. انظر ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 379 وعلي المتقي في كنز العمال ج 3 ص 100 رقم 5684.

9 - القناعة بالرزق الحلال

فإذا كانت الطيور تسعى لتحصيل رزقها، ولا تبقى في أوكارها تنتظر الرزق، بل تذهب وهي جائعة في الصباح تلتمس أسباب الرزق، ثم تعود في المساء وقد امتلأت حواصلها وحصَّلت رزقها، وهكذا المسلم يجب عليه أن يبذل السبب ويجتهد في ذلك، وإن غُلِّقت الأبواب أمامه من جهات معينة طرق غيرها، وإن ضاقت عليه الأسباب في بلد سافر إلى غيره، وإن لم تكفه حرفته أو وظيفته تعلم حرفة أخرى، وقام بعمل آخر إلى جوار وظيفته، وهو في ذلك كله يتوكل على ربه ويعتمد عليه. ويعلم أن رزقه معلوم ومقدر، ولكنه لا يعلم الغيب، ومأمور أن يبذل السبب ليأتيه رزقه، والسبب والمسبَّبُ مخلوقان لله تعالى، ومرتب أحدهما على الآخر، وترك الأخذ بالأسباب تواكل وتكاسل، وهناك فرق بين التوكل والتواكل. «لما لقي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ناسًا من أهل اليمن، قال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله» (¬1). فالإسلام إذن لا يعرف التواكل، وتحصيل المعاش لا بد له من الأخذ بالأسباب، والتوكل قوة دافعة إلى ذلك. ولا تعارض بين طلب المعاش، والعمل للمعاد، فكلاهما مطلوب بمقدار. 9 - القناعة بالرزق الحلال: والاكتفاء بالحلال يعني أن يقنع المسلم بما رزقه الله تعالى من الطرق المشروعة، فيعف نفسه به، ولا يطلب ما سواه من الحرام. ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي- جامع العلوم والحكم- ص 384.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة وعفة في طعمة» (¬1). ومعنى عفة في طعمة: أي أن يقنع المسلم ويكتفي ويعف نفسه بالحلال عن طلب الحرام. ومن وصايا لقمان لابنه: «يا بني استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذا الخصال استخفاف الناس به» (¬2). والعمل الصالح سبب للحياة الطيبة وهناء العيش والقناعة بالقليل. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. جاء في تفسير المراد بالحياة الطيبة: أنها القناعة (¬3). والقناعة في الجانب المالي تعني الرضا والتسليم بما رزقه الله تعالى وقسمه للإنسان ولو كان قليلاً، وتعني اليأس عما في أيدي الناس، وعدم ¬

(¬1) رواه الطبراني وإسناده حسن، راجع المنذري: الترغيب والترهيب ج 4 ص 19 رقم 2518. والهيثمي، مجمع الزوائد ج 10 ص 295. وقال العلامة الألباني: وهذا سند صحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الثاني ص 370، 371 رقم 773. (¬2) الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين ج 2 ص 62، وابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين ص 78. (¬3) انظر الشيخ محمد السفاريني الحنبلي، غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، دار الاتحاد العربي للطباعة بالقاهرة 1971 ج 2 ص 225. والإمام القشيري: أبا القاسم عبد الكريم بن هوازن، الرسالة القشيرية، دار الكتاب العربي ببيروت، لبنان، بدون تاريخ، ص 74.

التطلع إلى الحرام في قليل أو كثير. فإن من لم يرض بما قسمه الله تعالى له، وتطلع إلى الكثير فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع، وجره هذا إلى مساوئ الخلاق وارتكاب المنكرات. وإن الاكتفاء بالحلال بعد طلبه والقناعة به أحد أسباب ثلاثة هي مصدر السعادة والاستقرار في الدنيا. عن عبد الله بن محصن - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (¬1). وهي أيضًا سبب لتحقيق الفلاح في الدار الآخرة. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» (¬2). وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «طوبى لمن هُدِيَ للإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، ابن الأثير، جامع الأصول ج 10 ص 135 رقم 7612، انظر تخريج الأرناؤوط فيه. وقد حسنه الترمذي كما قال عبد العزيز بن رباح وأحمد يوسف الدقاق في تحقيق وتخريج أحاديث رياض الصالحين للنووي. دار المأمون للتراث دمشق الطبعة الثانية 1396 هـ ص 243 رقم 509. (¬2) أخرجه مسلم والترمذي، ابن الأثير، جامع الأصول ج 10 ص 38 رقم 7615. (¬3) أخرجه الترمذي وابن الأثير، المرجع السابق ج 10 ص 139 رقم 7616. وقال الشيخ إسماعيل العجلوني في كشف الخفاء مزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: رواه الترمذي والحاكم، وقال الحاكم: على شرط مسلم، ج 2 ص 62 رقم 1681.

10 - التعفف عما في أيدي الناس

ولهذا فقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم ارزق آل محمد قوتًا (¬1) أي كفافًا». وفي القناعة والرضا والعفاف غني عما في أيدي الناس، وصيانة بها عن الحرام. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (¬2). وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: «يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة فإنها مال لا ينفد، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس مما في أيدي الناس، فإنك لا تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه» (¬3). وسئل بشر بن الحارث عن القناعة فقال: «لو لم يكن فيها إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزي» .. ثم قال: مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء (¬4). 10 - التعفف عما في أيدي الناس: وإذا كان الإسلام يطلب من المسلم أن يرضى بما قسمه الله له، ويقنع ويكتفي برزقه الحلال، فإنه يطلب منه كذلك أن يعف نفسه عما في أيدي غيره مما لا حق له فيه فيستغني بما أوتي، ولا يطمع في كسب غير مشروع. ¬

(¬1) متفق عليه عن أبي هريرة، محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 225 رقم 628. (¬2) أخرجه الشيخان والترمذي راجع ابن الأثير، المرجع السابق ج 1 ص 140 رقم 7620، ومحمد فؤاد، المرجع السابق ج 1 ص 121 رقم 624. (¬3) الشيخ محمد السفاريني، غذاء الألباب ج 2 ص 225. (¬4) المرجع السابق ص 527.

أو زيادة من غير حلها؛ وبذلك يتحقق المطلوب من العفة وهو اليأس وقطع الطمع عما في أيدي الناس. وقد مدح الله تعالى قومًا اتصفوا بالعفة في مظهرهم، مع فقرهم وحاجتهم، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «.. ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله» (¬1). وقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» (¬2). وقد وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - معياراً للمسلم إذا جعله نصب عينيه فسيكون قرير العين بما آتاه الله راضياً به عفيفاً عن التطلع والنظر إلى ما عند غيره. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا نظر أحدكم إلى من فَضُلَ عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه» (¬3). وفي رواية ذكرها «رزين» قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا وفوقكم في الدين، فذلك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الشيخان ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي، ابن الأثير، جامع الأصول ج 10 ص 139 رقم 2617. (¬2) أخرجه مسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود، انظر المرجع السابق ج 4 ص 340 رقم 2361. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، المرجع نفسه ج 10 ص 142 رقم 7622. (¬4) الحديث نفسه.

11 - متى يجوز سؤال الناس؟

وبهذا المعنى أمرنا رب العالمين فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. كما أمر القرآن من لا يملكون نفقة الزواج أن يعفوا نفوسهم عن الحرام حتى يغنيهم الله من فضله فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [النور: 33]. وهذا الغنى وهذه العفة عما في أيدي الناس رغب فيها الإسلام وحث عليها وجعلها سبباً موصلاً إلى الجنة بل إن المتصف بها يكون من أهلها. عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رفيق القلب لكل مسلم، وعفيف متعفف ذو عيال ..» (¬1). وبعد: فهذه لمحة موجزة عن هدي الإسلام في طلب الكسب الحلال والاكتفاء به والقناعة برزق الله، والعفة عن الحرام، وهي حصن قوي ودرع واق للمسلم من الوقوع في الحرام أو التطلع إليه. 11 - متى يجوز سؤال الناس؟ والإسلام لا يحب المهانة والمذلة والضعة والعجز، فالمؤمن القوي في إيمانه وبدنه وماله خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. واليد العليا المتصدقة خير من السفلى السائلة. ولا يحب الإسلام التواكل ولا البطالة ولا التسول ومسألة الناس، فقد منع الإسلام التسول وحدد سؤال الناس في حالات معينة ضرورية بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل الحديث الآتي: ¬

(¬1) من حديث طويل أخرجه مسلم، راجع المنذري، مختصر صحيح مسلم بتحقيق الألباني المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1392 هـ ص 523 - 524 رقم 1973.

12 - الترهيب من سؤال الناس

عن قبيصة بن مخارق الهلالي - رضي الله عنه - قال: تحملت حمالة (¬1)، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة (¬2) اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قِواماً (¬3) من عيش، أو قال سداداً من عيش- ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى (¬4) من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيشة،- أو قال سداداً (¬5) من عيش-، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتاً» (¬6). وفي هذا بيان أن المسلم ينبغي أن يكون عالي الهمة، كريم النفس، مترفعاً عن الدنايا، وعن مذلة سؤال الناس إلا في الحالات الثلاث التي جاءت في الحديث، وهي التي يجوز فيها سؤال الناس بمقدار الحاجة فقط، وإلا كان سحتاً يأكل به في بطنه ناراً. 12 - الترهيب من سؤال الناس: وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المُلحِف في المسألة يأتي يوم القيامة وعليه علامات مميزة، فيها ترهيب ووعيد شديد. ¬

(¬1) الحمالة: أن يقع حرب بين فريقين، فيقتل بينهم قتلى، فيلتزم رجل أن يؤدي ديات القتلى من عنده طلبا للصلح وإطفاء للفتنة. (¬2) الجائحة: الآفة التي تعرض للإنسان وتستأصل ماله. (¬3) القوام: ما يقوم به أمر الإنسان من مال ونحوه. (¬4) الحجى: العقل. (¬5) السداد بكسر السين: ما يكفي المُعوز والمقل، يقال في هذا سداد عن عوز. (¬6) راجع ابن الأثير جامع الأصول ج 10 ص 155 - 156 رقم 7640 وأبو داود: سليمان ابن الأشعث السجستاني في سننه طبعة دار الفكر بالقاهرة نشر دار إحياء السنة النبوية بدون تاريخ ج 2 ص 120 رقم 1641 وقد أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.

فالإسلام يحرم السؤال بادئ ذي بدء، ويحرم الإلحاح في السؤال، ويحرم السؤال تكثراً. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية النسائي: «حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم» (¬1). فالحديث يبين أن كثرة سؤال الناس للصدقات يكون سببا في تساقط لحم وجه الإنسان يوم القيامة، علامة له على أنه كان يسأل الناس الصدقة في الدنيا ويكثر من السؤال. وتأتي المسألة مع وجود الكفاف نكتة في وجه السائل يوم القيامة. ومن يملك خمسين درهما فهو غني لا يجوز له سؤال الناس. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل الناس، وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته خُموس- أو خدوش، أو كدوح- قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً، أو قيمتها من الذهب» (¬2) والخمسون درهماً تعدل خمسة دنانير والدينار يعدل مثقالاً، والمثقال يعدل اثنين وعشرين جراماً. ويحرم الإسلام كذلك السؤال بقصد الاستزادة من المال ويبين أن السائل لا يستكثر مالاً، وإنما يستكثر بسؤاله الناس من جمر جهنم والعياذ بالله. ¬

(¬1) ابن الأثير، جامع الأصول، ج 10 ص 144 رقم 7623 ومحمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 219 رقم 167. (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي كما قال ابن الأثير في المصدر السابق ص 151 رقم 7634 قال الأرناؤوط، بعد تحقيقه في الهامش: وإسناده صحيح.

13 - الترغيب في عدم سؤال الناس

أخرج مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل الناس تكثراً، فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر» (¬1). ويؤخذ من هذا الوعيد وهذا الترهيب تحريم الإلحاح في السؤال، وتحريم السؤال لمن أغناه الله تعالى بالكفاف، وتحريم السؤال لمن يسأل استزادة وتكثراً. 13 - الترغيب في عدم سؤال الناس: ولما رهَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسألة، قطع بعض الفقراء عهداً على أنفسهم ألا يسألوا الناس شيئاً، ووفوا بعهدهم حتى توفاهم الله تعالى، منهم: حكيم ابن حزام الذي أبى أن يقبل الفيء من أبي بكر ثم عمر كذلك حتى توفاه الله تعالى (¬2). بل ويرغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك السؤال بضمان الجنة لمن يفعل ذلك: عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يكفل لي ألا يسأل الناس شيئا، وأتكفل له بالجنة»، فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً. أخرجه أبو داود. وفي رواية النسائي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يضمن لي بواحدة، وله الجنة؟ قال: وقال كلمة، ألا يسأل الناس شيئاً» (¬3). ¬

(¬1) ابن الأثير، المصدر السابق ص 153 رقم 7636. (¬2) راجع نص الحديث في اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 218 رقم 614 وابن الأثير في جامع الأصول ج 10 ص 148 وما بعدها رقم 7631 وفي الموضوع أحاديث أخرى كثيرة. (¬3) ابن الأثير، جامع الأصول، ج 10 ص 147 رقم 7628 قال عبد القادر الأرناؤوط: وهو حديث صحيح. وفي الباب أحاديث كثيرة أخرى.

14 - من لا تحل له الصدقة

فعدم سؤال الناس مع الحاجة يكون سبباً في ضمان دخول الجنة، وأي فوز وأي نعيم أفضل من هذا؟ روي أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: «ينادى يوم القيامة، أين بغضاء الله في أرضه؟! فيقوم سؤال المساجد» (¬1). فالمساجد دور للعبادة وسؤال ما عند الله، وليس من الأدب سؤال الناس وأنت في بيت الله، فتوجه بسؤالك إلى الله، وابذل الجهد في تحصيل عيشك. ورد أن عمر بن الخطاب سمع سائلاً يسأل بعد المغرب، فقال لرجل من قومه: عشِّ الرجل فعشاه، ثم سمعه ثانياً يسأل، فقال: ألم أقل لك: عشِّ الرجل؟ قال: عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزاً، فقال: لست سائلاً ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة، وقال: لا تعد ولولا أن سؤاله كان حراماً ما ضربه عمر ولا أخذ مخلاته (¬2). 14 - من لا تحل له الصدقة: وكما حرم الإسلام سؤال الناس تكثرًا أو إلحافًا فإنه حرم قبول الصدقة على الغني والقوي القادر على الكسب، ولم يجزها إلا في حالات معينة كما في الحديث الآتي: عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو الغارم، أو لرجل اشتراها ¬

(¬1) الشيخ علي محفوظ، هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة، دار الاعتصام بالقاهرة، الطبعة التاسعة سنة 1399 ص 281 - 282. (¬2) المرجع نفسه ص 283.

بماله، أو لرجل كان له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهداها المسكين للغني» (¬1). والمراد بالعامل عليها: العامل على جمع الصدقة (الزكاة) المذكورة في أول الحديث، وهو من أهل مصارف الزكاة التي جاءت في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]. والمسألة لا تجوز كذلك لقوي قادر على الكسب، ولا لغني عنده قوت يومه. أخرج أبو داود والنسائي عن عبيد الله بن الخيار - رضي الله عنه - قال: أخبرني رجلان: أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألوه منها، فرفع فينا النظر وخفضه، قرآنًا جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (¬2). وبهذا لا يدع الإسلام مجالاً للتسول والبطالة وسؤال الناس إنما يحرص على العمل ويعلم أبناءه المثابرة والجد والعزة والكرامة وعلو الهمة. ... ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً وأبو داود بمعناه كما قال ابن الأثير جامع الأصول ج 4 ص 662 رقم 2757 قال محقق الكتاب الأرناؤوط: إسناده صحيح. (¬2) ابن الأثير جامع الأصول ج 4 رقم 2756 ص 662 قال الأرناؤوط: وإسناده صحيح.

الفصل الثاني تيسير سبل الكسب الحلال أمام المسلم

الفصل الثاني تيسير سبل الكسب الحلال أمام المسلم تمهيد: أولًا: الزراعة. ثانيًا: إحياء الأرض الميتة. ثالثًا: الصناعة. رابعًا: التجارة. خامسًا: رعي الأغنام. سادسًا: الحرف والمهن. سابعًا: الوظائف العامة. أ- إتقان العمل الوظيفي. ب- الوظيفة أمانة. ج - الوظيفة مسؤولية.

تمهيد

الفصل الثاني تيسير سبل الكسب الحلال أمام المسلم تمهيد: وسبل الكسب الحلال التي يسرها الإسلام أمام المسلم كثيرة ومتعددة. لا يمكن حصرها على وجه التحديد، وللمسلم أن يسلك أيَّاً منها لتحصيل رزقه الحلال، فإن لم يجد ما يكفي حاجته من الراتب الوظيفي، فلا حرج عليه شرعاً أن يلج أكثر من باب حتى يجد كفايته العادية، فالزراعة والغرس وإحياء الموات، من أشرف الأعمال وأفضل المكاسب، وفيها عمارة للأرض واستخراج كنوزها، وحسن استخدامها، وهي صدقة جارية للمسلم في حياته وبعد مماته، وفي الصناعة تقدم حضاري وسبق مادي يعود على البشرية بالخير الوفير، والكسب الحلال- ما لم يزرع أو يصنع محرماً-. ويرى بعض الفقهاء أن الصناعة أطيب المكاسب مستأنسين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من يده» (¬1). كما رغب الإسلام في التجارة المشروعة، ولم يمنع من مزاولتها حتى في أثناء أداء فريضة الحج، ورفع من منزلة التاجر الصدوق. كما أن رعي الغنم عمل شريف، وحرفة عظيمة، له مزايا جمة وفضائل حميدة، يعوِّد الصبر والحلم والأناة والرفق والصدق والحنكة والسياسة. ¬

(¬1) الحديث أخرجه البخاري عن المقدام، باب كسب الرجل وعمله بيده.

أولا: الزراعة

ومن طرق الكسب: المهن اليدوية؛ كالسباكة والحدادة والنجارة والطباعة وأعمال البناء، وإصلاح السيارات، والأجهزة النافعة، والنظافة ... إلخ. وهناك العمل الذهني والفكري، كالعمل في الصحافة أو مزاولة الكتابة مثلاً .. وللمسلم أن يجد ويجتهد، وينظر في ميوله واستعداده، وما عساه أن ينمِّي من قدراته وطاقاته، فإن وجد أن في إمكانه مواصلة الدراسة للحصول على مؤهل أعلى أو تخصص أدق، ليحصُل منه على مرتب أعلى ويحسن مستواه فهو أولى له، حتى يبتعد عن الكسب الحرام. ونحن نفترض في آكل الحرام أنه موظف أو مستخدم أو مزارع أو تاجرٌ أو صانع أو محترف، ونطلب منه رفع مستواه المادي بالكسب الحلال، ومزاولة أكثر من نشاط، ليجد كفايته من الحلال، وليتجنب الحرام المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، وفيما يلي ذكر لبعض أنواع الكسب المشروع: أولًا: الزراعة: عمارة الأرض واستخراج كنوزها، وحسن استخدامها، منوط بخلق الإنسان ونشأته. قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. ومنوط بخلافته فيها أيضاً، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. والقرآن الكريم لفت النظر إليها، وحث عليها في صور متعددة، نذكر منها هذه الآيات المتنوعة في صورها:

1 - قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64]. 2 - {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 9 - 11]. 3 - {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]. 4 - {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلأكِلِينَ} [المؤمنون: 20]. 5 - {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]. 6 - {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32]. 7 - {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141]. وتعمير الأرض بالغرس والزراعة هدف ينشده الإسلام حتى ولو أشرفت الساعة أن تقوم:

1 - عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (¬1). فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها» (¬2). 2 - وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن معقل بن يسار قال: دخل رجل على عثمان بن عفان، وهو يغرس غراساً، فقال له: يا أمير المؤمنين، الغرس، وهذه الساعة قد جاءت؟ فقال: أن تأتي وأنا من المصلحين خير وأحب إلي من أن تأتي وأنا من المفسدين (¬3). 3 - ومنفعة الغرس والزرع متعدية: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يزرع زرعًا، أو يغرس غرسًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كانت له به صدقة» (¬4). وهذا الغرس أو الزرع صدقة جارية للإنسان في حياته وبعد مماته. 4 - روى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه (¬5) أحد إلا كان له صدقة» (¬6). ¬

(¬1) فسيلة: شتلة. (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد وأجمد، وعبد بن حميد- راجع علي المتقي: علاء الدين بن حسام الدين الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان 1399 هـ ج 3 ص 892 حديث رقم 9056، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير، وأشار إلى أنه من زيادات الجامع الكبير، انظر ج 2 ص 7 رقم 1437. (¬3) رواه ابن جرير، راجع علي المتقي في كنز العمال ج 3 ص 909 رقم 9137. (¬4) رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي- راجع محمد فؤاد عبد الباقي في اللؤلؤ والمرجان ج 2 ص 144 رقم 1001 وعلي المتقي في كنز العمال ج 3 ص 891 رقم 9051. (¬5) يرزؤه: ينقصه. (¬6) مسلم ج 3 ص 1176 رقم 88.

ثانيا: إحياء الموات

كما يحصل الأجر أيضًا بتعهد الغرس والزرع والصبر على القيام بهما والمحافظة عليهما حتى تتحقق المنفعة المرجوة. ثانيًا: إحياء الموات: وقد نهى الإسلام عن ترك الأرض دون استغلال وانتفاع بها، فإن لم يفعل المسلم، فليعطها من يستفيد بها ويفيد منها. عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه ولا يكرها» (¬1). وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «من كانت له أرض فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها، فهم أحق بها». وفي هذا الصدد نوه الإسلام إلى إحياء الأرض الموات للانتفاع بخيراتها في مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]. وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. فإذا أحياها فهي له لا ينازعه أحد فيها طالما لم تكن لأحد من قبل. روى البخاري وأحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها» (¬2). ¬

(¬1) رواه سعيد بن منصور، انظر المغني لابن قدامة ج 5 ص 569 والسنن الكبرى للبيهقي عن عمرو بن شعيب ج 6 ص 148 وفقه عمر للدكتور رواس قلعجي. (¬2) علي المتقي، كنز العمال ج 3 ص 892 رقم 9053.

ثالثا: الصناعة

ولعل في أمر الإسلام لنا بالتماس الرزق في خبايا الأرض حثًّا على إحياء مواتها واستخراج كنوزها (¬1). وهذا الفضل والترغيب في شأن الزراعة وعمارة الأرض من طرق الكسب الحلال (ما لم يزرع محرماً) وقاية للمسلم من الكسب الحرام وسائر طرقه غير المشروعة. وإن في المساحات الواسعة من الصحراء المعطلة في بلد واحد من بلاد المسلمين كالسودان أو السعودية حلاً لمشكلات المسلمين الاقتصادية إذا توجهت أنظارهم إلى تعمير هذه الأراضي البور وهي تستوعب معظم أبناء المسلمين وتغنيهم عن الشرق والغرب، وعن التفكير في وسائل تحديد النسل، وفي ذلك حل لمشكلة البطالة، وتشغيل للقوى العاملة المعطلة، والأموال التي ينفق منها على هذه الأراضي موجودة لدى المسلمين إن صلحت النية، وحسن استخدامها. ثالثًا: الصناعة: أشار الإسلام إلى ضرورة الأخذ بالأسباب في مجال الصناعة بما يحقق التقدم الحضاري والسبق المادي ويعود على البشرية بالخير الوفير، والكسب الحلال كتدبير وقائي من الكسب الحرام. ويرفع الإسلام من شأن الصناعة فيعدها من أفضل الأعمال. عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ¬

(¬1) انظر حديثين في هذا المعنى، في المرجع المشار إليه ج 4 ص 21 رقم 9302، 9303. ولم أذكرهما لتضعيف العلامة الألباني لهما في ضعيف الجامع الصغير وزيادته الفتح الكبير، المكتب الإسلامي بيروت، دمشق، الطبعة الثانية 1399 هـ ج 2 ص 329 رقم 1248.

ثمناً، وأنفسها عند أهلها» قلت: فإن لم أفعل؟ قال: «تعين صانعًا أو تصنع لأخرق» (¬1) عاجز، أي أن من لم يحسن عمله فهو أخرق. وقد نوه القرآن الكريم بعدد من الصناعات؛ منها: أ- السفن: فقد أشار إلى صناعة السفن، واستخدامها، والانتفاع بها، فقال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24]. وقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]. وقال: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر} [القمر: 13]. ولفت النظر إليها فقال: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12]. ب- الطائرات: وأشار سبحانه وتعالى إلى وسائل النقل الحديثة التي تستخدم في السلم والحرب والنفع والضرر، كالطائرات، بقوله تعالى بعد أن ذكر بعض ما يستخدم في هذا الجانب: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. وكأن الله تعالى يلفت نظر الإنسان إلى شكل الطير وهيئته ليستخدم هذا الشكل، وهذه الهيئة، في صناعة ما يشبهها في الطيران لنفع الإنسان وخدمته، في مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [الملك: 19]. وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل: 79]. ¬

(¬1) متفق عليه، محمد فؤاد عبد الباقي: اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 16 رقم 51.

فكأن في الآيتين وأشباههما إيحاء إلى الإنسان بالاعتبار والاستفادة. - وإذا كنا قد أشرنا إلى بعض المواصلات البرية والبحرية والجوية فإن القرآن الكريم قد أشار إلى أن علم الغيب مليء دائمًا بكل جديد وبكل ما لم يكن موجودًا في زماننا كما تشير إليه الآية السابقة {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. جـ- الحديد: ونوه القرآن الكريم بضرورة استخدام الحديد في مجال التصنيع كمصدر من مصادر القوة، والتقدم والعمران، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]. وقد علم الله صنعة الدروع لنبيه داود عليه السلام فقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَاسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]. وقد ألان الله تعالى له الحديد ليسهل استخدامه والانتفاع به فقال: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ*أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ (¬1) وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ (¬2) وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10 - 11]. وأشاد القرآن بما كان يصنع لسليمان عن طريق تسخير الجن له، فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ (¬3) وَتَمَاثِيلَ (¬4) وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ (¬5) وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ (¬6)} [سبأ: 13]. ¬

(¬1) سابغات: دروع كوامل واقيات. (¬2) قدر في السرد: أحكم دق المسمار في الحلقة. (¬3) محاريب: مساكن وقصور ومعابد. (¬4) تماثيل: صور مجسدة. (¬5) جفان كالجواب: الحوض الذي يجبى فيه الماء. (¬6) قدور: جمع قدر- راسيات: ثابتات لا تتحرك لعظمها.

د- التعدين: وإلى صناعة التعدين أشار القرآن الكريم في قوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ (¬1)} [سبأ: 12]. وأشاد بسد ذي القرنين في قوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ (¬2) قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 96 - 97]. ويشير سبحانه إلى سبك الذهب والفضة (الحلية) وكذا النحاس والرصاص والحديد (المتاع) في قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17]. هـ - الغزل والنسيج والحياكة: ويشير القرآن الكريم إلى تعلم صناعة الغزل والنسيج والحياكة كحاجة ماسة للإنسان في ضرورة الانتفاع بها، فيقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]. ويشير إلى بعض موادها في قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]. كما يشير إلى بعض منافعها: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَاسَكُمْ} [النحل: 81]. وسرابيل الحر: الثياب من القطن والكتان والصوف وسرابيل البأس: الدروع. ¬

(¬1) القطر: النحاس. (¬2) الصدفين: الجبلين.

وقد ضرب القرآن المثل بهذه الصناعة إشادة بها، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]، وكان بعض النساء في البوادي يغزلن الوبر ويجدلن الشعر بهدف اتقاء الحر والقر. و- الجلود: وأشار القرآن الكريم إلى الانتفاع بصناعة الجلود، فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]. ز- النهضة العمرانية: وعن البناء والقصور المشيدة والنمو العمراني والحضارة المادية، يلفت القرآن النظر إليها في مثل قوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]. وقوله: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74]. وقال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي} [الفجر:9] أي يقطعون الصخر وينحتونه بالوادي. وقد كان قوم صالح ينحتون البيوت في الصخر والجبال. وقال أيضا: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ (¬1) آيَةً (¬2) تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129]. ح- الصيد: وفي مجال الصيد البري والبحري يقول تعالى: 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]. ¬

(¬1) الريع: المكان المرتفع عن مفترق الطرق المشهورة. (¬2) آية: البناء المحكم الهائل.

2 - {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]. 3 - {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]. 4 - {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]. والحلية هي اللؤلؤ والمرجان؛ ويقول الله تعالى عن استخراجهما: 5 - {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]. ط- فضل الصناعة: ويرى بعض الفقهاء أن الصناعة أطيب المكاسب، مستأنسين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» (¬1). ففيه فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره غيره له، وهو في مقام الاحتجاج على أن الكسب من عمل اليد. المجتمع الصناعي: ولئن كان العمل غير الذهني لدى الإغريق اليونانية، وصمة اجتماعية يوجب التحقير لصاحبه ويرون أن المواطن الصالح لا يكون من العمال أبداً، ويرون أن بعض العمال عار، كما كانت نظرة العرب في جاهليتهم. ولئن كانت النظرة اليهودية إلى العمل على أنه عقوبة، رمى الله بها البشر، جزاء عصيان أبيهم آدم في الجنة، (مع أنهم اليوم من أنشط الشعوب، وأحرصهم على العمل). ¬

(¬1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري للحافظ ابن حجر: أحمد بن علي، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، المطبعة السلفية بمصر 1379 هـ، والحديث عن المقدام ج 4 ص 303 وما بعدها رقم 2072 - باب كسب الرجل عمله بيده.

رابعا: التجارة

ولئن كانت بعض الشعوب الأخرى كذلك يحطون من شأن المجتمع الصناعي لأنه يقضي على القيم الإنسانية في رأيهم. فإن الإسلام يشيد بالعمل في شتى ميادينه المشروعة، ويعتبر ضروب السعي للمعاش لونا من العبادة، ويرغب فيه، ويحث عليه، ويعتبره من أفضل الأعمال والقربات التي يُؤجَر المرء عليها، وهو فرض على الكفاية بالنسبة لجميع المسلمين، إذ لا بد أن يكون في المجتمع المزارع والتاجر والصانع والموظف، ومن يقوم على كل صغيرة وكبيرة من أحقر الأعمال أعظمها؛ وإلا أثموا جميعاً وتعطلت حياتهم. ومع هذه الحوافز الإسلامية، فإننا نجد المسلمين في الركب المتأخر في ميدان الصناعة والحضارة المادية وأصبحوا عالة على غيرهم، وهم أصحاب الحضارة العريقة والتاريخ المجيد، وعلى كواهلهم قامت الحضارة الأوروبية المعاصرة. رابعًا: التجارة: وقد أشاد الإسلام بالتجارة ورغب فيها، وحث عليها، واعتبرها تسعة أعشار الرزق، ونوه بتجارة قريش في الجاهلية في قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش]. كما دعا الإسلام إلى سلوك جميع السبل الداخلية والخارجية، واستخدام وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، بحشد الطاقات وحفز الهمم في مجال التنمية والتجارة العالمية. فيقول تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].

ويقول: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء: 66]. وأمر سبحانه بالتجارة عقب آداب الفرائض، وذكرها بين العبادة والجهاد لبيان منزلتها، ولم يمنعها في موسم الحج. وكانت التجارة سائدة في الجاهلية فأقرها الإسلام. واحترفها كثير من أفاضل الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وجاءت في سياق المدح القرآني لمن لم تشغلهم تجارتهم عن طاعة الله، كما جاءت في مقام الذم لمن شغلتهم تجارتهم وأموالهم عن طاعة الله وذكره. قال تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]. ولذلك فإن التجارة قد ترفع صاحبها إلى أعلى الدرجات، وقد تهبط به إلى أسفلها، فإذا كان التاجر أميناً، صادقاً برّاً تقيّاً، سمحاً، فهو من الصنف الأول؛ وإن كان على العكس من ذلك فهو من الثاني. وقد وردت أحاديث كثيرة تبين منزلة التاجر الصدوق الأمين، وأنه أول من يدخل الجنة، أو أنه شهيد، أو أنه بمنزلة الشهيد، أو أنه يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أو أنه تحت ظل العرش يوم القيامة، أو أنه لا يحجب عن أبواب الجنة (¬1). ¬

(¬1) انظر في هذا المعنى: علي المتقي في كنز العمال، ج 4 أحاديث متفرقة من ص 7 إلى ص 49 ومن بينها هذه الأرقام: 9245، 9246، 9218، 9219، 9336، 9337، 9451.

خامسا: الرعي

أخرج الترمذي والحاكم في المستدرك عن أبي سعيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» (¬1). أما عن الصنف الثاني من التجار، فقد روى ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يا معشر التجار إنكم قد وليتم أمرًا هلكت فيه الأمم السابقة المكيال والميزان» (¬2). وروي مرفوعًا وموقوفًا عن رفاعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبر وصدق» (¬3). خامساً: الرعي: والرعي حرفة عظيمة، وعمل شريف، له فضائل ومزايا جمة يعوِّد الصبر، والحلم والأناة والرفق، والصدق، والحكمة، والسياسة والحنكة. ولذا فإن هذا العمل مارسه كل نبي «تقدمةً لهم ليكونوا رُعاة الخلق، ولتكون أممهم رعايا لهم» (¬4). ¬

(¬1) المرجع السابق ج 4 ص 7 رقم 9217 وقال شعيب الأرناؤوط: في سنده كلثوم بن جوشن القشري، وهو ضعيف، وباقي رجاله ثقات، انظر الإمام البغوي: أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء، شرح السنة، المكتب الإسلامي، بيروت طبعة 1395 هـ ج 8 ص 4 رقم 2025. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن، المرجع نفسه ج 4 ص 47 رقم 9437. أسنده أبو علي حنش ووقفه غيره من وجه آخر عن ابن عباس. انظر السنن الكبرى ج 6 ص 32. (¬3) نفسه: ج 4 ص 47 رقم 9437. وقد صححه المحدث الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة عن الترمذي والدارمي وابن ماجه وابن حبان والحاكم، المكتب الإسلامي بيروت، دمشق 1392 هـ انظر ج 2 ص 729 رقم 994. (¬4) السهيلي في هامش سيرة ابن هشام بتحقيق الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد القاهرة 1356 هـ ج 1 ص 178.

سادسا: حرف ومهن

روى البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط» (¬1). والرعي يشمل الإبل والبقر والغنم، ولكنه خص الغنم في الحديث لأنها أشد تفرقاً ونفرة من غيرها، وكأن في رعي الغنم دروساً وفوائد وعبراً، يستفيد منها كل نبي، بترويضها والصبر عليها، مع اختلاف طبائعها، وتجشم المصاعب في سبيلها، وكأن من يعتاد هذا يستطيع بعده أن يسوس الناس ويروضهم ويصبر على أذاهم ويتحمل المشاق في سبيل دعوته ويكون عنده من القوة المادية والمعنوية والطاقة الخلقية ما يجتاز بها مهمته بنجاح في تبليغ وحي ربه، ويكون أيضاً مثلاً أعلى، وقمة أخلاقية لقومه. ويعمل في مجال الرعي قطاع كبير من أبناء المسلمين حاليًّا في بلاد عديدة، وهي ثورة عظيمة، وإنتاج وفير، وجانب هام في حياتنا لا يمكن الاستغناء عنه. فما أجدرنا أن نقتفي أثر من اصطفاهم ربهم واختارهم على سائر البشر في التكسب من الطرق المشروعة كتدبير وقائي من الكسب غير المشروع مثل رعي بهيمة الأنعام. سادسًا: حرف ومهن: وطرق الكسب المشروعة لا تكاد تحصى كما أسلفنا، فالمهن كثيرة ومتعددة ومتجددة، كالطب والهندسة والصيدلة والطباعة والمساحة، والسباكة، والحدادة، وأعمال البناء والكهرباء، وإصلاح السيارات والأجهزة النافعة والقيادة والنظافة وغير ذلك. ¬

(¬1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج 4 ص 441 رقم 2262 وعلي المتقي في كنز العمال، ج 4 ص 11 رقم 9243 وابن هشام ج 1 ص 178.

سابعا: الوظائف العامة

سابعًا: الوظائف العامة: أ- إتقان العمل الوظيفي كسب حلال: يطلب الإسلام من المسلم أن يؤدي كل عمل يناط به- دينيًّا أو دنيويًّا- بإخلاص وإتقان وإحسان على الوجه الأكمل، ومن ذلك المهام الوظيفية، فهي تدخل في الكسب الحلال، والإخلال بواجباتها يدخل في نطاق الحرام. فالمحافظة على ساعات العمل كاملة واستنفادها في أدائه، وبذل الجهد في هذا العمل، وعدم استغلاله في منافع شخصية أو مكاسب خارجة عن نطاق الراتب الوظيفي، كل هذا وغيره يعد إتقانًا للعمل وإحسانًا فيه. وحقيقة هذا الإحسان كما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (¬1). وأداء الواجب الوظيفي المشروع (¬2) لون من ألوان العبادة، ولقد أثنى الله تعالى على من يحسنون العمل للدين والدنيا، وبين أنهم مجزيون عليه الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة. فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. وقد أمرنا تعالى بهذا الإحسان والإتقان، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90]. وأخبر سبحانه وتعالى أنه يشهد كل عمل نعمله ولا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء فقال: ¬

(¬1) من حديث الإسلام والإيمان والإحسان، الإمام مسلم: أبو الحسين ابن الحجاج القشيري النيسابوري الصحيح، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نسخة مصورة عن طبعة القاهرة سنة 1400 هـ ج 1 ص 26. (¬2) احتراز عن الوظيفة غير المشروعة كالعمل في ملهى أو مصرف ربوي.

{وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] (¬1). {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. هذه الآيات وأمثالها توجب على المسلم أن يكون أمينًا على عمله مخلصاً فيه، متقناً له، لأنه يؤمن ويعتقد أنه بمرأى من الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]. فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى السنة النبوية فإننا نجد الكثير، ومن ذلك: 1 - ما رواه شداد بن أوس - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (¬2). ¬

(¬1) وفي الآية دليل على الإحسان ومنه إتقان العمل الوظيفي. (¬2) مسلم ج 3 ص 1548 رقم 1955 (وصححه المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني عن أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته الفتح الكبير، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق الطبعة الأولى 1388 هـ ج 2 ص 121 رقم 1791).

ب- خيانة الأمانة في المجال الوظيفي كسب حرام

2 - وما رواه البيهقي في الشعب عن كليب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن» (¬1). 3 - وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» (¬2). ومن هذا الإحسان الذي كتبه الله تعالى على كل شيء، والذي يحبه تعالى ويأمر به: الإحسان في أداء المهام الوظيفية، بأدائها على خير وجه، وعدم الإتجار بها أو التقصير فيها، أو استغلالها في الحصول على كسب غير مشروع من خلالها. ب- خيانة الأمانة في المجال الوظيفي كسب حرام: للأمانة في الإسلام مدلول واسع، فهي ترمز إلى معانٍ شتى، تهدف جميعها إلى شعور المرء بتبعته، وتحمله مسؤولية كل أمر يناط به، ليكون ذا ضمير يقظ، تصان به حقوق الله وحقوق الناس، وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال (¬3). والذي يعنينا من موضوع الأمانة هو حفظ الحقوق والواجبات الوظيفية وإن استطاع الموظف أن يهضمها، أو تهيأت له ظروف العدوان عليها عن طريق الاختلاس أو الرشوة، ومن ذلك الائتمان على أداء المهام الوظيفية بحفظ ما اؤتمن عليه وأدائه كاملًا مقابل ما يتقاضاه من راتب دون التطلع إلى مقابل آخر أو مكافأة إضافية، وهذا هو مقتضى القيام بواجب الأمانة الوظيفية: ¬

(¬1) حسنه المحدث الألباني في المرجع السابق ص 147 رقم 1887. وهو في الحاديث الصحيحة برقم 1113. (¬2) حسنه أيضا في المرجع نفسه عن البيهقي في شعب الإيمان ج 2 ص 144 رقم 1876. (¬3) انظر في عموم الأمانة وشمولها لجميع حقوق الله وحقوق العباد الحافظ ابن كثير تفسير القرآن العظيم، الآية رقم 58 من سورة النساء ج 1 ص 515.

عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» (¬1). وقد مدح الله تعالى من يؤدي العمل المنوط به بقوة وأمانة، فقال: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]. وأداء المهام الوظيفية على أكمل وجه يدخل ضمن حدود الأمانة التي حملها الإنسان- على ظلمه وجهله وعجزه وضعفه- بعد أن ناءت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها (¬2). والموظف مؤتمن من قبل الدولة على وظيفته، ومطلوب منه أن يؤدي واجباته في دقة وأمانة كما أمره ربه. قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]. فإذا توافرت فيهم هذه الصفة فهم من أهل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8 والمعارج: 23]. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، انظر: ابن الأثير: مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجرزي، جامع الأصول في أحاديث الرسول، تخريج وتحقيق عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني وآخرين، بيروت، لبنان، طبعة 1389 هـ ج 10 ص 573، 574، رقم 8144، قال الأرناؤوط: وإسناده صحيح، انظر أيضاً الشوكاني: محمد بن علي، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، دار الجيل، بيروت، لبنان، بدون تاريخ، ج 10 ص 135. (¬2) انظر معاني الأمانة الواردة في الآية عند ابن كثير في التفسير ج 3 ص 522 - 524.

والقيام بواجب الأمانة في جميع المجالات، ومنها المجال الوظيفي، من أسباب دخول الجنة؛ عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم» (¬1). فإذا خان المسلم الأمانة الموكولة إليه، فأخل بواجباته الوظيفية فقد ارتكب ما يقدح في أمانته، وما يباعده عن الجنة، ويتحقق بهذا إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مجيء الوقت الذي تقبض فيه الأمانة من القلب، ويبقى أثرها. عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت» (¬2). أي النقطة في الشيء من غير لونه. وكما أمرنا الله تعالى بأداء الأمانة فقد نهانا عن الخيانة في شتى صورها، ومنها خيانة المهام الوظيفية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. ¬

(¬1) رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، راجع الحافظ المنذري: أبو محمد زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي، فقد نقل تصحيح الحاكم له في الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، بتحقيق الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1392 هـ ج 5 ص 226 رقم 4332، وص199 رقم 4233. (¬2) من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم والترمذي كما قال ابن الأثير في جامع الأصول ج 1 ص 320 رقم 102.

وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يحب الخائنين، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. وإذا خان المسلم واجباته الوظيفية فهو غير أهل لأن يتولى أمرًا من أمور الدولة، لأنه قد ضيع الأمانة، وإضاعتها من علامات الساعة. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا وُسِد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (¬1). على أن المهام الوظيفية- كثرت أم قلت- أمانة عظيمة، وعبء ثقيل، يسبب الخزي والندامة يوم القيامة لمن لم يحسن القيام بواجباتها، ويؤدي ما عليه فيها نحو الله والعباد. عن أبي ذر - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (¬2). وخيانة المهام الوظيفية، فيه غدر، وغلول، وكسب حرام، والغادر ينصب له لواء يوم القيامة ضمن أهل الغدر والخيانة ليعرف به من الملأ. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة، ينصب يوم القيامة يعرف به» (¬3). وكلما عظمت المهام الوظيفية كلما عظم شأن الأمانة فيها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كما قال ابن الأثير في جامع الأصول ج 1 ص 321، 322 رقم 16. (¬2) مسلم ج 3 ص 1357 رقم 16. (¬3) متفق عليه، محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، المكتبة الإسلامية، بيروت، لبنان، بدون تاريخ ج 2 ص 201 رقم 1133.

ج- المسؤولية الوظيفية والكسب الحلال

ج - المسؤولية الوظيفية والكسب الحلال: ولابد للمسلم أن يدرك إدراكاً جازماً أنه مسؤول أمام ربه مسؤولية تامة عن أداء ما كلف به من الأعمال الوظيفية. قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93]. وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولونَ} [الصافات: 24]. والله سبحانه سيطلعنا يوم القيامة على جوانب التقصير ويحاسبنا عليه. قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]. والوظيفة أمانة ومسؤولية، والله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلكم راع فمسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (¬1). فإذا أدى المسلم مسؤوليات وواجبات وظيفته على الوجه الأكمل كان أجره منها كسباً حلالاً وإلا فقد دخل في نطاق الحرام. * * * ¬

(¬1) أخرجه الشيخان، محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان ج 2 ص 242 رقم 1199.

الفصل الثالث السعي على المعاش في حياة أفضل البشر

الفصل الثالث السعي على المعاش في حياة أفضل البشر 1 - مقدمة. 2 - العمل في حياة الرسل عليهم الصلاة والسلام. 3 - العمل في حياة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. 4 - العمل في حياة الصحابة رضوان الله عليهم.

1 - مقدمة

الفصل الثالث السعي على المعاش في حياة أفضل البشر 1 - مقدمة: طلب الرزق الحلال، والسعي على أمر المعاش، وبذل الأسباب في ذلك ليس خاصاً بعامة الناس، بل يشمل أيضاً أفضل خلق الله على الإطلاق. ولو كانت الأرزاق تأتي دون سعي عليها لكان أولى بها صفوة البشر، بل كانت حياتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مثالاً فريداً في الجد والنشاط والشظف والتقشف وطلب الرزق من وجوهه المشروعة. وسوف نرى ذلك جلياً فيما يأتي: 2 - العمل في حياة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: وإذا تتبعنا حياة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجدها مليئة بالعبر العظيمة في مجال الأخذ بالأسباب، والسعي على المعاش، وهم المصطفون الأخيار، المبلغون عن الله رسالته، والأمناء على وحيه، والذين قال تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89]. وقال عنهم أيضًا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. ومع ذلك فقد كانوا مثلًا أعلى على مر العصور وقدوة حسنة لأممهم في كل شيء، ومن ذلك التكسب من الطرق المشروعة.

أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن زكريا عليه السلام كان نجارًا» (¬1). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان آدم عليه السلام حراثًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا، وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجرًا، وداود زرّادًا، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم وسلم رعاة» (¬2). ويستفاد من الحديث والأثر وغيرهما أن رسل الله جميعاً كانوا يزاولون الأعمال بأيديهم، ويسعون على معاشهم وتحصيل قوتهم وقوت من يعولون. وإليك هذا المختصر فيما يتعلق ببعض رسل الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام: آدم: فقد كان آدم أبو البشر حراثًا وزراعًا، وكان صانعاً يصنع آلات الزراعة بيده وبمساعدة زوجته له، وكان بنَّاء، قيل: إنه أول من بنى الكعبة الشريفة بيده. إدريس: وكان إدريس أول من خاط الملابس بعد أن كانوا يلبسون الجلود ... نوح: وكان نوح يرعى الغنم لقومه، وكان نجارًا، صنع سفينة النجاة بيده من الخشب والمسامير، وكان هذا سببًا لسخرية بعض الجهلاء منه: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38]. ¬

(¬1) مسلم ج 4 ص 1847 رقم 2379. (¬2) ابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين ص 77 ومع اختلاف في اللفظ نسبه الحافظ ابن حجر إلى الحاكم في المستدرك، انظر: فتح الباري، ج 4 ص 306.

يوسف: وكان يوسف وزيرًا على خزائن مصر {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. وكان من قبل خادمًا في بيت عزيز مصر. صالح وشعيب: واشتغل صالح وشعيب بالتجارة. موسى: وكان موسى راعياً لغنم شيخ مدين ثماني أو عشر سنوات على أن يزوجه ابنته التي شهدت له بالقوة والأمانة والعفة التي شاهدتها منه {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]. وقد حمد موسى ربه الذي ساق إليه هذا العمل {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].وكان موسى كاتباً يكتب التوراة بيده. داود: وكان داود زرّاداً يصنع الدروع، وقد ألان الله له الحديد، فاحترف مهنة الحدادة التي يمتهنها بعض الناس اليوم، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَاسِكُمْ} [الأنبياء:80]. سليمان: وكان سليمان يصنع المكاتل من الخوص، وقد طوع الله له النحاس ليصنع التماثيل الجائزة في شريعته، ويصنع المحاريب، وأحواض المياه، والقدور الروابي. قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12]. وقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].

زكريا وعيسى: وكان زكريا وعيسى نجارين، وكان عيسى يأكل من غزل أمه الصدِّيقة (مريم). محمد - صلى الله عليه وسلم -: حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد رعى الغنم في صباه على قراريط لأهل مكة (¬1) والقيراط نصف عشر الدينار. واشتغل - صلى الله عليه وسلم - بالتجارة في شبابه مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - ينقل الحجارة ويشد الحجر الأسود بنفسه في بناء الكعبة الشريفة (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يحب أن يتميز على أصحابه، ففي بناء المسجد النبوي كان ينقل الحجارة بنفسه، ويشجع أصحابه على العمل. تقول أم سلمة رضي الله عنها: «فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفض وفرته بيده». ورأى الصحابة المشاركة الفعلية والروح العالية فنشطوا في البناء وجدوا في العمل وهم ينشدون: «لئن قعدنا والرسول يعمل لذاك منا العمل المضلل» (¬4) ¬

(¬1) راجع صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج 1 ص 441 رقم 2262 وقد رواه ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة كما قال علي المتقي في الكنز ج 4 ص 11 رقم 9243. (¬2) راجع ابن هشام: أبي محمد عبد الملك، سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - طبعة سنة 1396 هـ ج 1 ص 204. (¬3) راجع ابن هشام، المرجع السابق ج 1 ص 213 وما بعدها وانظر الشيخ محمد ناصر الألباني مختصر صحيح البخاري المكتب الإسلامي، دمشق- بيروت الطبعة الأولى سنة 1399 هـ آخر حديث في الاستدراك على الكتاب ص 106 رقم 205 وص376 رقم 782. (¬4) المرجع نفسه ج 2 ص 114 وانظر الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج 7 ص 246 وما بعدها حديث رقم 3908.

3 - العمل في حياة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

وكانت الصخرات القوية التي يعجز عنها القوم تتفتت، تحت ضربات النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - أقرب الناس إلى العدو إذا حمى الوطيس، واشتد البأس في الحروب، وبهذا ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في وجوب العمل، وعدم التمييز عن الرعية. وهكذا هؤلاء وغيرهم من رسل الله وأنبيائه، ممن اختار الله سبحانه واصطفى، لم يقعدوا عن طلب الرزق، ولم يرزقوا دون كد وتعب، وأخذ بالأسباب، بما لهم من منزلة عند الله تعالى، أو من حق القيادة والريادة لأممهم، وإنما عملوا بأيديهم، وسعوا في تحصيل عيشهم، ليستن بهم غيرهم ويحذوا حذوهم، فيطلبون الدنيا من حلها، وقاية لهم من الحرام، والكسب غير المشروع، وليس هناك استثناء في هذا المقام، حتى خاتم الرسل وصفوة خلقه - صلى الله عليه وسلم -. 3 - العمل في حياة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم: الصديق: كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - تاجراً ميسورًا في الجاهلية، ومن أغنياء قريش، وظل هكذا في الإسلام وقد أنفق أمواله في سبيل الله كنشر الدعوة وعتق الرقاب. «ولما تولى الخلافة شوهد ذاهباً إلى السوق ومعه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة رضي الله عنهما، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق، قالا: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين!! قال: فمن ¬

(¬1) المرجع السابق ج 3 ص 233 وما بعدها.

الفاروق

أين أطعم عيالي؟ قالا: انطلق حتى نفرض لك شيئاً، ففرضوا له أجراً من بيت المال، كي يتفرغ لشؤون المسلمين» (¬1). الفاروق: وكان عمر تاجراً يذهب إلى الأسواق ويكتسب رزقه، ويقول: «ألهاني الصفق في الأسواق عن سماع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -» ويقول: «ما من موضع يأتيني فيه الموت أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي: أبيع وأشتري» (¬2). وكثيرًا ما نعى على المتعطلين تواكلهم قائلًا: «السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة». وكان يبذل النصيحة للقراء وهم محل ثقته وتقديره، وأهل رأيه ومشورته. ويقول: «يا معشر القراء التمسوا الرزق ولا تكونوا عالة على الناس، وكان في استطاعته أن يعطيهم من بيت المال» (¬3). ذي النورين: وكان عثمان يبيع الثياب في جاهليته وإسلامه، وقد جهز ثلث جيش العسرة من تجارته وربحه، وظل يضع في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض» (¬4). ¬

(¬1) راجع الحافظ ابن حجر، فتح الباري ج 4 ص 305 وفي المعنى نفسه محمد المجذوب، مشاهد من حياة الصديق، دار المعرفة دمشق الطبعة الثانية سنة 1396 هـ ص 45. (¬2) راجع الإمام الغزالي، الإحياء ج 2 ص 62 في الآثار. (¬3) راجع الإمام الغزالي، الإحياء ج 2 ص 62 في الآثار. (¬4) ابن هشام في السيرة كما في الروض الأنف للخشعمي: أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت- لبنان سنة 1398 هـ ج 4 ص 174.

علي

وكان عثمان يتصدق ويفضل ما عند الله من مضاعفة الحسنات على ربح الدنيا، فليس في وسع أحد أن يعطي عطاء رب العالمين. علي: وكان علي بن أبي طالب يعمل بيده الشريفة، ويؤجر نفسه بتمرات، لاستخراج الماء من البئر لعمل الطين. وينال منه الكد والتعب، وتمجل (¬1) يداه من حبل الليف. روى ابن قتيبة في المعارف: أن علياً سقى بالدلاء على تمرات (¬2). وكان - رضي الله عنه - يحمل الماء، ويطحن الحب على الرحى هو وزوجه الزهراء رضي الله عنهما. ولما فتح الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - سألاه خادماً يعينهما على شؤون الحياة، فأبى أن يعطيهما ويترك أهل الصفة، وأرشدهما إلى التسبيح والتحميد والتكبير إذا أخذا مضجعهما وأن ذلك خير لهما مما طلبا. «أخرج الشيخان من حديث علي: أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم، فقال: «على مكانكما» فقعد بيننا حتى وجدتُ برد قدميه على صدري، وقال: «ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني؟ ¬

(¬1) تمجل: بفتح التاء وسكون الميم وضم الجيم: تعبت، وصلبت، وشحن جلدها. وتعجر وغلظ الكف من آثار العمل. انظر ابن منظور، لسان العرب، دار لسان العرب بيروت، بدون تاريخ ج 3 ص 442 مادة مجل. (¬2) راجع ابن هشام ج 4 ص 172.

4 - العمل في حياة الصحابة رضي الله عنهم

إذا أخذتما مضاجعكما: تكبرًا أربعًا وثلاثين، وتسبحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمدا ثلاثًا وثلاثين فهو خير لكما من خادم» (¬1). وإن لنا في هؤلاء الصحابة الكرام خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شؤون الأمة أسوة حسنة في طلب الكسب المشروع، وعدم الإثراء على حساب الغير من الطرق غير المشروعة. 4 - العمل في حياة الصحابة رضي الله عنهم: ولقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسعون على أرزاقهم، ويسلكون طرق الكسب في غير كسل ولا تواكل، فكان منهم التجار البارعون، وهذه أسواق الجاهلية، تشهد بذلك: سوق عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، وبنو قينقاع، وحباشة .. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج» رواه البخاري (¬2). وكانوا يتاجرون في البر والبحر تجارة داخلية وخارجية. وهاتان رحلتا الشتاء والصيف تشهدان بذلك. وكان من الصحابة رضي الله عنهم الصناع والزراع ومحترفو سائر الحرف والأعمال. ¬

(¬1) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان ج 3 ص 232 رقم 1739. (¬2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج 3 ص 593 - 594 رقم 1770 وج8 ص 186 رقم 4519.

واشتهر الأنصار بأنهم أهل زرع وبساتين ونخيل. كما اشتهر المهاجرون بأنهم أهل تجارة وصفق في الأسواق. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشجعهم على ذلك. وهذه الأعمال جعلتهم أهل عفة وكرامة واكتفاء، وأصحاب فضل ونفع للآخرين. وجعلتهم أيضًا في غنى عن الحرام، وفي وقاية من طرق الكسب غير المشروع كالربا والرشوة .. الخ. وفي الحديث الآتي مثال لهمتهم العالية، وأخلاقهم النبيلة: قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، قال عبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك؟ أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مهيم؟ (¬1)» قال: تزوجت. قال: «كم سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب- أو وزن نواة من ذهب- شك إبراهيم (¬2). يعني راوي الحديث. وقد مات عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن ثروة ضخمة من تجارته. ¬

(¬1) مهيم: سؤال عن الحالة. (¬2) البخاري بشرح فتح الباري ج 7 ص 112 حديث رقم 3780.

وإعجاب المرء بإيثار سعد وسماحته لا يقل عن إعجابه بنبل عبد الرحمن الذي أبى إلا أن يتاجر، ويزاحم اليهود في أسواقهم، ويكتسب من عرقه ما يعف به نفسه، ويحصِّن به فرجه. وهذا خباب بن الأرت كان حدادًا، وعبد الله بن مسعود كان راعيًا، وسعد بن أبي وقاص كان يصنع النبال، والزبير بن العوام كان خياطًا، وبلال بن رباح وعمار بن ياسر كانا خادمين، وسلمان الفارسي كان حلاقًا ومؤبرًا للنخل، وخبيرًا بفنون الحرب، والبراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا تاجرين (¬1). ولقد عاب أعداء الإسلام على المسلمين أن الأساكفة كانوا من الأنصار (¬2) مما يفيد حرصهم على اكتفائهم الذاتي في مجتمعهم، واحترامهم للعمل المشروع مهما كان شأن المهنة أو الحرفة التي تقيهم من الوقوع في الحرام وطرقه غير المشروعة. ¬

(¬1) راجع الحافظ ابن حجز في فتح الباري ج 4 ص 297 رقم 2061. (¬2) كما قال ابن قتيبة في المعارف.

الباب الثاني في الحرام البين

الباب الثاني في الحرام البين الفصل الأول في الكسب الحرام 1 - تمهيد. 2 - التعريف بالحرام. 3 - نبذة تاريخية عن الحرام. 4 - التحليل والتحريم حق الله وحده. 5 - الضرورات تبيح المحظورات. 6 - حكمة وجود المحظور. 7 - الترهيب من الحرام. 8 - صور من الكسب الحرام.

1 - تمهيد

الفصل الأول في الكسب الحرام 1 - تمهيد: إذا كان الإسلام قد أمر بتحري الحلال، وحث عليه، ورغب فيه، وفي القناعة به، ونهى عن التسول والبطالة، وأمر بالعمل، وطلب الرزق من أسبابه المشروعة. إذا كان الإسلام قد أمر بذلك، فإنه نهى نهياً جازماً عن الكسب الحرام، وتحصيل المال من طرق غير مشروعة والتحايل على ذلك بسبب أو آخر، وقد بين الإسلام ما يترتب على أكل الحرام من آثار سيئة وعواقب وخيمة في الدنيا والآخرة يعود أثرها على مكتسب الحرام، وعلى من يعول من أهله وأولاده. كما يؤثر أكل الحرام على عقيدة المسلم وعبادته، وعدم قبول صدقته ودعائه .. الخ. وفي الإسلام محرمات لذاتها جاء النهي الجازم عن تعاطيها والتكسب منها لما فيها من خبث وضرر، كالخمر والميتة ولحم الخنزير وشحمه، سواء أدركنا علة التحريم فيها أم لا. كما حرم الإسلام السرقة والغصب والظلم والرشوة والربا، وما إلى ذلك. وحرم الكسب من كل طريق غير مشروع.

وفي القرآن الكريم أمثلة لما حرمه الله تعالى على المسلم طعاماً وشراباً وكسباً وتعاطياً. أ- ففي محرمات المطعومات يقول تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. ويقول أيضاً: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، والمنخنقة هي التي ماتت خنقًا، والموقوذة: التي وقذت، أي رميت بشيء فماتت، والمتردية: التي تردت من أعلى إلى أسفل فماتت، والنطيحة: التي نطحتها غيرها فماتت. وفي تحريم الخمر، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وفي تحريم أموال اليتامى يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وفي تحريم الربا يقول تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. ب-وفي تحريم سائر أنواع الكسب غير المشروع وأكل أموال الناس بالباطل، كالغصب والسرقة، والنهب والسلب، والقمار، والزور، والرشوة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وهدفنا من ذلك هو الترهيب والتحذير من أكل الحرام عن طريق الكسب غير المشروع. وفيما يلي نعرض ذلك:

2 - التعريف بالحرام

2 - التعريف بالحرام: المعنى اللغوي: الحرام: هو المقيد بالحظر (¬1). أو هو: الممنوع من فعله (¬2) والحرام ضد الحلال (¬3). المعنى الشرعي: الحرام: هو الأمر الذي نهى الشارع عن فعله نهياً جازماً بحيث يتعرض من خالف النهي لعقوبة الله في الآخرة، وقد يتعرض لعقوبة شرعية في الدنيا أيضاً (¬4). وعرفه بعضهم بأنه: ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم والإلزام (¬5) وهو تعريف مختصر شامل. 3 - نبذة تاريخية عن الحرام: أ- في اليهودية: ولقد ترك اليهود أوامر التوراة، وخالفوها بارتكاب المحرمات، واقتراف المنهيات؛ فكفروا بآيات الله، وأشركوا به، وقالوا عزير ابن الله، وقتلوا أنبياءهم، وعبدوا العجل وسفكوا الدماء، وخالفوا أحكام التوراة، كالرجم، والقصاص في الأنفس والأطراف والأعضاء، وأكلوا الربا، واعتدوا ¬

(¬1) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث ج 1 ص 428. (¬2) المعجم الوسيط ج 1 ص 169. (¬3) المصدر السابق ص 169. (¬4) انظر الدكتور يوسف القرضاوي، الحلال والحرام ص 13 والآمدي، أصول الأحكام ج 1 ص 113 والشيخ محمد الخضري، أصول الفقه ص 47 والشيخ محمد أبو زهرة، الجريمة ص 209. (¬5) زكي الدين شعبان، أصول الفقه ص 222.

ب- وفي النصرانية

في السبت، وأكلوا الرشوة، وتعاملوا بها، وكانت خصلة من خصالهم فاشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير في مجال الطعام، والشراب وغيرهما. وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كانوا يقولون ما لا يفعلون. لهذا وغيره؛ ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، وكان من نتائج ذلك أن حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، عقابًا لهم، وجزاء على عصيانهم، وقسوة قلوبهم. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كثيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161]. وقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]. ولذا: فقد حقت عليهم لعنة الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]. ب- وفي النصرانية: جاء عيسى عليه السلام ليحل برسالته بعض ما حرم على بني إسرائيل. قال تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]. ولكن النصارى في العصور اللاحقة، غيروا وبدلوا، وتطرفوا وحرفوا، فترهَّب بعضهم واعتزل النساء والحياة والأحياء، وتباهى بعضهم بأن الماء لم

ج- وفي الجاهلية

يمس جسده سنين عدداً؛ فانحرفوا بهذا وغيره عن جادة الحلال والحرام وحقيقته. قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]. ج - وفي الجاهلية: أباح الناس لأنفسهم في الجاهلية عبادة الأصنام، وقتل الأولاد خوف الفقر، ووأد البنات خوف العار، والاستقسام بالأزلام (¬1) وشرب الخمر، ولعب الميسر، وارتكاب الفواحش، وأنواعاً من الأنكحة المحرمة. وفي مقابل هذا حرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم، فبحروا البحيرة، وسيبوا السائبة ووصلوا الوصيلة، وأول من فعل هذا عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين إبراهيم .. كما روى البخاري عن عائشة (¬2). {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ (¬3) وَلَا سَائِبَةٍ (¬4) وَلَا وَصِيلَةٍ (¬5) وَلَا حَامٍ (¬6) وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. ¬

(¬1) الأزلام: أقداح ثلاثة: مكتوب على أحدها افعل، والثاني لا تفعل، والثالث غفل، فيفعل أو يترك حسبما يشير السهم، فإن خرج الثالث أعاد. (¬2) راجع في مفردات الآية والحديث: ابن كثير: الإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. تفسير القرآن العظيم صححه نخبة من العلماء: دار الفكر بالقاهرة. بدون تاريخ ج 2 ص 11 وص107. وانظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج 8 ص 383 رقم 4623. (¬3) البحيرة: ناقة يُشق أذنها إذا ولدت خمسة بطون آخرها ذكر، ولا تحلب وتقصر على الطواغيت. (¬4) السائبة: ناقة لا يحمل عليها شيء تسيب للآلهة. (¬5) الوصيلة: ناقة بكر تترك للطواغيت إذا ولدت أنثيين ليس بينهما ذكر. (¬6) الحام: فحل الإبل يعفى من الحمل عليه. ولا يجز له وبر، ولا يمنع من حمى يرعاه إذا لقح ولد ولده، ويقولون: حمى ظهره.

وقصروا الطعام من لحوم الأنعام، على ما شاؤوا، وحرموا منه من شاؤوا، ومنعوا ركوبها والحمل عليها. {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138]. وحرموا شرب لبن الأنعام، وأكل ولد الشاة إذا كان ذكراً على النساء، وأباحوه للرجال، أما الأنثى فلا تذبح، والميتة يشتركون فيها. {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139]. وأهل الجاهلية في تحريمهم لما أحل الله تعالى يبررون موقفهم، ويلقون بالتبعة على غيرهم، فقد قال تعالى عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]. ثم يقيم الله تعالى الحجة عليهم: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150]. ويبين الله سبحانه أنه لم يحرم شيئًا مما حرمه هؤلاء، ولم يخص الذكر دون الأنثى كما زعموا بل كلها مخلوقة لله، ومسخرة لبني آدم: أكلاً وحمولة وحلباً، وغير ذلك من وجوه المنافع. قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143 - 144]

د- وفي الإسلام

د- وفي الإسلام: وقد جاء الإسلام الخالد ليرفع عن اليهود وغيرهم، ما فرض عليهم من أغلال وقيود وآثام: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. فحرم القتل، والوأد، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأكل المال بالباطل وغير ذلك، مما لا يتسع له المقام، وأشرنا إلى بعضه فيما سبق. وقد وضع الإسلام معيارًا للحلال والحرام، فأحل كل طيب نافع، وحرم كل خبيث ضار للدين والمال والبدن، وفيما يتعلق بالمطعومات والمشروبات كالخمر والميتة ولحم الخنزير .. الخ. ووضع الإسلام قاعدة كلية في الطعام المحرم تصحيحًا لأوضاع أهل الجاهلية. أخرج أبو داود عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: «كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذرًا، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهم عفو، وتلا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]» (¬1). ¬

(¬1) ابن الأثير: جامع الأصول ج 7 ص 452 حديث رقم 5540، وقال المحقق عبد القادر الأرناؤوط: ورواه أيضاً الحاكم وابن مردويه، وإسناده صحيح.

4 - التحليل والتحريم حق لله وحده

4 - التحليل والتحريم حق لله وحده: وإذا كان اليهود والنصارى وأهل الجاهلية قد حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله تعالى عليهم، فلا بد للمسلم أن يعتقد أن التحليل والتحريم حق الله وحده، وأنه ليس لأحد من البشر مهما كانت منزلته أو علت درجته أن يحل حرامًا أو يحرم حلالًا، فالتحليل والتحريم حق لله وحده. قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. وطاعة الحكام أو العلماء في تحليل ما حرم الله تعالى، أو تحريم ما أحل الله، عبادة لهم من دون الله، كما ذكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم حين قال لما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 31]. قال: إنهم لم يعبدوهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم». وعن سلمان وابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه، فلا تتكلفوه» (¬1). ¬

(¬1) ابن الأثير، جامع الأصول في أحاديث الرسول، مع تخريج الحديث وافيا لمحقق الكتاب عبد القادر الأرناؤوط وذكر أن الترمذي وابن ماجه أخرجه وقد حسنه بعد بحث طويل كما في هامش ص 568 - 569 ج 10 حديث رقم 8134 وقد حسنه الألباني والترمذي وابن ماجه والحاكم من طريق سليمان كما في صحيح الجامع الصغير ج 3 ص 102 رقم 3190 وذكره الهيثمي بلفظ آخر عن البزار والطبراني في الكبير من رواية أبي الدرداء. ثم قال: «إسناده حسن، ورجاله موثوقون» الزوائد ج 1 ص 171.

5 - ضرورات تبيح المحظورات

5 - ضرورات تبيح المحظورات: ومن يسر الإسلام وسماحته أن جعل الضرورات تبيح المحظورات، وأنه يجوز للمسلم أن يرتكب أخف الضررين عندما يغلب على ظنه أنه لو ترك ذلك لوقع في الضرر الأكبر، مع الأخذ في الاعتبار أن كل ضرورة تقدر بقدرها، ولا يجوز التجاوز عن القدر اللازم الذي هو ضرورة فِعْلية يتوقف عليها حياة المرء أو موته: قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]. وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]. وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115]. وقال: {مَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. ويشمل هذا كل ضرورة في الطعام أو الشراب أو اللباس أو الغريزة أو المعاملات .. الخ. 6 - حكمة وجود المحظور: ووجود المحظور المحرم، أمر لا بد منه، ليتميز قوي الإيمان من ضعيفه، وقوي الإرادة من ضعيفها، وليقف المسلم أمام رغباته وشهواته ونزواته، وأمام أهواء نفسه الأمارة بالسوء، ووساوس الشيطان، وكأنه في اختبار لقوة الإيمان والإرادة والصمود، وتغلُّب مراد الله تعالى على مراد النفس وهواها؛ وقهر لفتنة الشيطان واتباع خطواته.

7 - الترهيب من أكل الحرام

ولقد واجه آدم عليه السلام، هذا الاختبار بنهيه عن الأكل من الشجرة. ومع أن هذه القضية مرادة من الله تعالى لعمارة الأرض وتمحيص الإنسان والجزاء الأخروي، فإنه سبحانه سجل لنا تجربة آدم وذكر أسبابها ونتائجها، في القرآن الكريم، كي ينتفع بها الإنسان، ويأخذ العبرة منها. قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 35 - 36]. وفي مجال إغواء الشيطان، وتزيينه المعصية للإنسان ومنها أكل الحرام وبيان أول النتائج المترتبة على هذا العصيان، وهو كشف العورة. يقول تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 21 - 22]. 7 - الترهيب من أكل الحرام: وكما رغب الإسلام في طلب الحلال رهب من الوقوع في الحرام؛ وبين سبحانه وتعالى أن المال فتنة. فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]. وحذرنا سبحانه وتعالى من مخالفة أوامره واتباع طريق الشيطان ومنه أكل الحرام. فقال: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَامُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]. وقال: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]. وفي جمع المال الحرام اتباع لخطوات الشيطان.

وأخرج البخاري والنسائي: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام» (¬1). وزاد رزين: (فإذ ذاك لا تستجاب لهم الدعوة). ففي الحديث ترهيب من الحرام وبيان عدم مبالاة الناس (آخر الزمان) بجمع المال من أي طريق كان، وفي الرواية الثانية بيان عدم استجابة الله عز وجل دعاءهم إذ ذاك. وأخرج البخاري عن خولة الأنصارية رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» (¬2). معناه: أنهم يأخذون المال، ويتخوضون (أي يتملكونه، كما يخوض الإنسان المال يمينًا وشمالًا). وفي رواية الترمذي: «إن هذا المال خضر حلو، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار» (¬3). ففي الحديث على الروايتين وعيد بدخول النار، لمن يأخذ المال بغير حقه، ويجمعه من غير حله. ¬

(¬1) راجع ابن الأثير، جامع الأصول، ج 10 ص 569 حديث رقم 8136. والمنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 22 رقم 2530. وراجع دون زيادة رزين: صحيح البخاري بشرح فتح الباري للحافظ ابن حجر ج 4 ص 296 رقم 2059. (¬2) راجع ابن الأثير، جامع الأصول، ج 10 ص 566 حديث رقم 8132. (¬3) المرجع السابق.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيذهب إلى الجبل، فيحتطب، ثم يأتي به فيحمله على ظهره، فيبيعه فيأكل، خير له من أن يسأل الناس، ولأن يأخذ تراباً، فيجعله في فيه، خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه» (¬1). والترهيب في الحديث بتمثيل جعل التراب في الفم خير من أكل الحرام؛ والبعد عنه من أسباب دخول الجنة. روى مسلم بسنده عن جابر، أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة، قال: نعم. قال: والله لا أزيد على ذلك شيئًا» (¬2). كما أن أكل الحرام من أسباب دخول النار. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تغبطن جامع المال من غير حله- أو قال: من غير حقه- فإنه إن تصدَّق به لم يقبل منه، وما بقي كان زاده إلى النار» (¬3). ¬

(¬1) قال الهيثمي: في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج 10 ص 293، قلت: هو في الصحيح غير قصة التراب، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق، وقد وثق؛ الحافظ المنذري في الترغيب ج 4 ص 21 رقم 2526. وراجع فيه أيضاً علي المتقي، كنز العمال ج 4 ص 14 حديث رقم 9260، وهو فيه من الجزء الأخير الخاص بقصة التراب فقط. (¬2) مسلم: ج 1 ص 44 رقم 18. (¬3) رواه الحاكم من طرق حنش، واسمه حسين بن قيس، وقال صحيح الإسناد، أفاده المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 23 رقم 2533. قلت: وفي صحة الإسناد انظر لأن «حنش» متروك.

وبنحوه ما ورد في مراسيل أبي داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اكتسب مالًا من مأثم، فوصل به رحمه، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك كله فقذف به في جهنم» (¬1). ويصدق هذا المعنى قول الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. والمرء مسؤول يوم القيامة، عن مصدر أمواله وموردها، بل لا تزول قدماه حتى يسأل، من أين آلت إليه هذه الأموال، وفي وجوه الحلال أم في وجوه الحرام أنفقها؟ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» (¬2). ¬

(¬1) المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 21 رقم 2528. وابن رجب الحنبلي: زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين في جامع العلوم والحكم. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة 1382 هـ ص 88. وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه أبو داود في المراسيل من رواية القاسم بن مخيمرة مرسلاً، انظر ج 2 ص 90. (¬2) أخرجه الترمذي، كما قال المحدث الألباني وصححه في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 2 ص 666 رقم 946. وحسنه في صحيح الجامع الصغير ج 6 ص 148 رقم 7176 كما صححه أيضا عن أبي برزة بلفظ مختلف، انظر رقم 7177. والروايتان عند ابن الأثير في جامع الأصول ج 10 ص 436 - 437 رقم 7969 - 7970، ونقل الأرناؤوط في الهامش عن الترمذي قوله: هذا حديث حسن صحيح؛ وقال المنذري في الترغيب والترهيب بعدما أورده عن معاذ، رواه البيهقي وغيره، ورواه الترمذي من حديث أبي برزة وصححه، انظر: ج 4 ص 23 - 24 رقم 211.

فإذا كان مصدر المال من طريق حرام، فإن هذا الجسم الذي نبت من حرام، النار أولى به، وإن اللقمة الواحدة من الحرام تنبت اللحم، كما ورد في عدد من الأحاديث والآثار (¬1). جاء من عدة طرق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما لحم نبت من حرام فالنار أولى به» (¬2). وأكل الحرام يقتضي بالضرورة عصيان الجوارح. يقول سهل بن سعد - رضي الله عنه -: «من أكل الحرام عصته جوارحه، شاء أم أبى، علم أم لم يعلم، ومن كانت طعمته حلالًا أطاعته جوارحه، ووفق للخيرات» (¬3). وجاء في بعض الأخبار: أنه مكتوب في التوراة: (من لم يبال من أين مطعمه، لم يبال الله من أي أبواب النيران أدخله) (¬4). وفي الأثر: (أنه يؤتى يوم القيامة بأناس معهم من الحسنات، كأمثال جبال تهامة، حتى إذا جيء بهم، جعلها الله هباء منثوراً، ثم يقذف بهم في النار. قيل: كيف ذلك؟ قال: كانوا يصلون، ويصومون ويزكون، ويحجون، غير أنهم إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه فأحبط أعمالهم) (¬5). وفيه دليل على ضياع ثمرة العمل الصالح، نتيجة أكل الحرام. ¬

(¬1) راجع علي المتقي، كنز العمال، ج 4 ص 15 حديث رقم 9266. (¬2) المرجع السابق ج 4 ص 15 رقم 9268. ورد بألفاظ متعددة كلها تدور حول هذه المعنى بدرجات مختلفة، انظر المرجع المشار إليه ص 15 وما بعدها. والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج 10 ص 293. والمنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 24 - 25. (¬3) الغزالي: الإحياء ج 2 ص 91. (¬4) المرجع السابق. (¬5) ابن حجر الهيثمي: أبي العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي- الزواجر عن اقتراف الكبائر. دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان بدون تاريخ ج 1 ص 332.

8 - صور من الكسب الحرام

8 - صور من الكسب الحرام: وطرق الكسب غير المشروع متعددة ومتنوعة ومتجددة، كصور الكسب المشروع تماماً؛ فكل ما هو محرم لذاته أو كغيره، تحرم زراعته وصناعته والتجارة فيه، والتكسب عن طريقه وما كان من ذلك عن طريق الوظيفة أو الإخلال بواجباتها؛ وكذلك كل ما فيه أكل مال الغير بالباطل. وكل ما كان ضداً لأنواع الكسب المشروع التي ذكرناها فهو كسب محرم غير مشروع. أولًا: صور عامة: والحرام بين وظاهر في عينه ووصفه، وقيام الدليل على تحريمه، لا يخفى على أحد، فقد كان من آخر ما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته في خطبة الوداع: النهي عن انتهاك حرمة الدماء والأموال والأعراض. ومن الحرام في مجال التعاطي والاكتساب ما يأتي: في الطعام: أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله ... إلخ وبيع ذلك، والتعامل فيه، والتكسب عن طريقه، فالله تعالى إذا حرم شيئًا حرم ثمنه أي حرم بيعه وشراءه وتجارته وكسبه، وما إلى ذلك. وفي الشراب: الخمر، والحشيش وسائر المسكرات .. إلخ بتناول شيء من ذلك أو المتاجرة فيه أو العمل والكسب عن طريقه أو الإعانة عليها والمساهمة فيها بطريقة من الطرق، فقد لعن عاصر الخمر وساقيها وشاربها، وكل ما شابه ذلك فهو محرم.

في اللباس: يحرم لبس الحرير والذهب بالنسبة للرجال، واستخدام آنية الذهب والفضة .. إلخ والتحريم يكون بالاستعمال الممنوع والكسب عن طريقه والمساهمة فيه بشكل من الأشكال. وفي الاقتصاد: يحرم الربا والغلول والسرقة والغش والتطفيف في الكيل والميزان والاحتكار والنهب ... إلخ. وقد حرم الإسلام ذلك كسبًا وتعاطيًا وإعانة ومساهمة، فقد لعن آكل الربا وكاتبه وموكله وشاهده وكذلك غيره. كما حرم الإسلام السلب والغصب وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل المال بالباطل ومنه الرشوة ولعب الميسر والقمار والاختلاس، والتكسب عن طريق السحر والعرافة والكهانة والشعوذة. ومن الأمور المحرمة: بيع ما ليس عند الإنسان وتلقي السلع قبل وصولها لرفع أثمانها على المسلمين. وبيع الملامسة، والمنابذة، والحصاة، وبيع الرجل على بيع أخيه، وبيع حاضر لباد. وبيع النجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، وبيعتان في بيعة. وكسب المال من الطرق غير المشروعة: كالحرف والمهن المحرمة! وكذلك التجارة في مثل المسكرات والمخدرات ... إلخ. والصناعة أو الزراعة في كل ما هو محرم لذاته أو لغيره لما فيه من ضرر يعود على الفرد أو الجماعة أو عليهما معاً.

ثانيا: صور خاصة

كما حرم الإسلام كل ما فيه غبن أو غرر أو ضرر بالمسلمين. أو إشاعة للفاحشة والرذيلة بينهم مما يقوض المجتمع ويفسد الأخلاق، وضروب الحيل والاستغلال. وكسب الإماء، ومهر البغي، وثمن الكلب. وعسب الفحل، وهو ما يؤخذ على مائه. والقسامة بالضم وهي: ما يأخذه القسام على عادة السماسرة بأن يأخذ من كل ألف عشرة مثلاً .. وعدم إتقان العمل بالانتقاص من ساعاته والانتدابات المزعومة والارتشاء .. إلخ. ثانيًا: صور خاصة: أ- الزراعة المحرمة: وسوف نضرب أمثلة للزراعة والصناعة والتجارة التي حرمها الإسلام وحرم الاكتساب عن طريقها. فقد حرم الإسلام الاكتساب من كل زراعة أو نبات يحرم تناوله أو تعاطيه، أو لا يعرف استعماله إلا في الضرر كزراعة الحشيش والأفيون والبانجو والكوكايين ونحوها كالتبغ والتنباك والدخان والبودرة .. إلخ. وليس للمسلم عذر في ترويج الحرام، أو الاكتساب منه بأي طريق من الطرق، كمن يزرع المحرم ليبيعه لغير المسلمين. أو يبيع العنب أو التمر أو البصل لمن يعلم أنه يتخذها للخمر. أو من يبيع الخنازير للنصارى، وذلك لأن المال المكتسب في هذه الحالة عوض عن عين ومنفعة محرمة.

ب- الصناعات والحرف: وكل صنعة حرمها الإسلام لما فيها من ضرر يعود على الفرد أو المجتمع، في عقيدته أو أخلاقه، أو عرضه. وكل حرفة أو مهنة كانت كذلك، يحرم الكسب منها، كصناعة كل مسكر ومخدر والعمل فيه بالترويج أو الدعاية أو التوزيع، ونحو ذلك. ويحرم الكسب عن طريق البغاء المشروع في البلاد الغربية، والمباح في الجاهلية، فإن الإسلام قد حرمه حرمة قاطعة، واعتبره كسباً قذراً رخيصاً، وعده من أبشع صور الكسب وأشنعها. فقد روى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الإماء» (¬1). وقد كانت الأمة تتكسب بفرجها، والبغاء في حد ذاته من أكبر الكبائر، فضلاً عن أن يكون طريقاً للكسب والسحت. جـ- التماثيل والصور: وحرم الإسلام الكسب عن طريق صناعة التماثيل والصلبان ونحوها من كل ما هو مجسد. عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، إذ أتاه رجل، فقال: يا أبا عباس: إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعته يقول: «من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا». فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه. فقال: «ويحك! إن أبيت ¬

(¬1) ابن الأثير، جامع الأصول، ج 10 ص 587 رقم 8165.

إلا أن تصنع، فعليك هذا الشجر، وكل شيء ليس فيه روح» (¬1) متفق عليه. وكذلك الصور التي لا ضرورة لها مما يثير الغرائز، وينشر الرذيلة، أو ما فيه حرمة مزدوجة كتصوير الأنبياء والملائكة. د- كسب تجاري محظور: حرم الإسلام كل كسب في التجارة جاء عن طريق ظلم أو غش أو خداع أو استغلال أو احتكار. أو كان في ذاته محرمًا كالخمور ومشتقاتها، والخنازير والتماثيل، والمخدرات والمسكرات. أو كان الانتفاع به محرماً كالأجهزة والأدوات الهدامة. ومن ذلك: ثمن الكلب والهر. وعسب الفحل: «وهو الأجر الذي يؤخذ على مائه». والقُسامة بالضم: هي ما يأخذه القسام على عادة السماسرة، كاتفاقهم على أن يأخذ من كل ألف عشرة مثلًا. ومهر البغي .. إلخ (¬2). مما سبق ذكره. فهذا وغيره كسب غير مشروع، حرمه الإسلام لذاته أو لغيره، لما فيه من ضرر يعود على الفرد أو الجماعة أو عليهما معًا. ... ¬

(¬1) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان، ج 3 ص 4 رقم 1369. (¬2) راجع في هذا ابن الأثير في جامع الأصول، ج 10 ص 589 إلى ص 9414. أحاديث كثيرة منها هذه الأرقام من رقم 8169 إلى رقم 8176، وعلاء الدين الهندي في كنز العمال ج 4 ص 39 - 42 أرقام 9410، 9414، 9394، 9412.

الفصل الثاني في آثار أكل الحرام

الفصل الثاني في آثار أكل الحرام 1 - مقدمة. 2 - أثر الحرام على العقيدة. 3 - أثر الحرام على العبادة. 4 - أثر الحرام على الاقتصاد. 5 - الجزاء الأخروي لآكل الحرام: أ- الظلم ظلمات يوم القيامة. ب- مصير آكل الحرام في الآخرة.

1 - مقدمة

الفصل الثاني في آثار أكل الحرام 1 - مقدمة: الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المستفيضة، يقرر كل منهما ما أعده الله تعالى في الدار الآخرة من العذاب وسوء العقاب لآكل الحرام، فضلا عما يلحقه من نتائج وخيمة وآثار سيئة في الدنيا. ومن المقرر شرعاً أن كل ما نص القرآن الكريم على تحريمه وتوعد عليه بالعذاب يوم القيامة، أو بغضب الله تعالى أو لعنته أو وصف فاعله بالفسق، أو ورد نفي الإيمان عنه، أو التبرؤ منه، كل ما ورد فيه شيء من ذلك فهو كبيرة من الكبائر. وأكل الحرام من ربا وسرقة ورشوة وغلول وغصب وظلم .. إلخ. من كبائر الذنوب لأن الله تعالى قد توعد على كل منها بألوان الوعيد المختلفة. ومنها ما عده النبي - صلى الله عليه وسلم - نصاً في كبائر الذنوب وذكره ضمن أكبر الكبائر كأكل الربا وأكل مال اليتيم. 2 - أثر أكل الحرام على العقيدة: وأكل الحرام على هذا الأساس يؤثر في عقيدة المسلم إذ فيه لعنه وطرده من رحمة الله تعالى إذا هو فعل ذلك معتقداً حرمته، أما إذا استحل أكله فهو كفر مخرج من الملة. فمن المقرر شرعاً أن من استحل محرماً قطعياً كفر وخرج عن ملة الإسلام.

3 - آثار الحرام على العبادات

فارتكاب كبائر الذنوب كأكل أموال الناس بالباطل يقدح في إيمان العبد وينقصه بهذه المعاصي، ويؤثر في توحيده وعقيدته بحيث يجعل إيمانه غير كامل. وهذه آثار ونتائج تعود على المرء من جراء أكل الحرام، فأكل الحرام يتنافى مع الإيمان الكامل، وفيه ظلم للنفس وإساءة إليها بارتكاب المحرم، ومخالفة للنهي. وفيه إساءة للأهل والأبناء بإطعامهم من حرام وإنبات أجسادهم من سحت، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به. وفي أكل الحرام ظلم للغير، واعتداء على ماله وقد نهى الإسلام عن ذلك، فكل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه ... إلخ. 3 - آثار الحرام على العبادات: مما لا شك فيه أن الله تعالى لا يقبل من العمال والأقوال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وكما قال أيضا: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. والعمل الصالح المقبول على هذا النحو، لا بد له أولاً من طيب المأكل والمشرب والملبس شرطاً أساساً لقبول العبادة بشتى أنواعها ويراد بقبول العمل والعبادة أو عدم قبولها، ثلاثة معان أو مراتب: الأول: الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة الكرام، والمباهاة به.

الثاني: حصول الأجر والثواب عليه. الثالث: سقوط الفرض عنه. والمقصود أن العمل يكون مقبولًا بالمعنيين الأولين. أما المعنى الثالث وهو سقوط الفرض عنه .. فإنه حاصل ولكن بدون رضا عنه، ولا أجر عليه (¬1). وقد كان السلف الصالح يخشون على أنفسهم ألا يقبل الله منهم عملهم، ويتحرون هذه الآية ويضعونها نصب أعينهم هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. ويشهد لهذا المعنى ما قاله أبو عبد الله الباجي الزاهد، رحمه الله، حيث قال: خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل. وذلك إذا عرفت الله عز وجل، ولم تعرف الحق لم تنتفع. وإن عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع. وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع. وإن عرفت الله وعرفت الحق، وأخلصت العمل، ولم يكن على السنة لم تنتفع. وإن تمت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال، لم تنتفع (¬2). ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي في المرجع السابق ص 87. (¬2) راجع ابن رجب الحنبلي في المرجع السابق ص 87.

وقال وهب بن الورد: «لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك أحلال أم حرام» (¬1). هذا: وإن آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ناطقة بربط قبول سائر العبادات من دعاء وصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك من صالح الأعمال بتحري الحلال من الكسب والتعاطي؛ وسنذكر بعضا منها: أولًا: الدعاء: ففي الدعاء، وهو مخ العبادة، يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. وعباد الله الذين استجابوا له، هم من يفعلون الحلال ويتركون الحرام، فيكونون أهلاً للإجابة قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وإجابة الدعاء منوطة بأكل الحلال وترك الحرام وتوقي الشبهات: أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين: فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟» (¬2). ¬

(¬1) راجع ابن رجب الحنبلي في المرجع السابق ص 87. (¬2) مسلم ج 2 ص 703 رقم 1015.

فقد جمع الحديث بين القرآن والسنة في الأمر بالأكل من الطيبات، ورتب عدم قبول الدعاء على أكل الحرام، وذلك لأن استمداد مصدر القوة في الحركات والأنفاس قائم على الغذاء الحرام. ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فأنى يستجاب لذلك؟» استفهام على سبيل التعجب والاستبعاد. وأخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بخصوص المال: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه: أمن الحلال أم من الحرام؟» وزاد رزين: «فإذ ذاك لا تستجاب لهم دعوة» (¬1). ففيه بيان أن الحرام يكون سبباً في عدم إجابة الدعاء. ولذا: فقد قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: «تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: «ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت» (¬2). وكما أن أكل الحرام يكون سبباً لعدم إجابة الدعاء، فإن ترك القيام بالواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون سبباً مانعاً من إجابة الدعاء أيضاً. عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم» (¬3). ¬

(¬1) ابن الأثير، جامع الأصول، ج 10 ص 569 رقم 8136. (¬2) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص 92. (¬3) أخرجه أحمد والترمذي، انظر ابن الأثير جامع الأصول ص 332 رقم 113، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ج 6 ص 97 - 98 واللفظ منه، وقد ورد معناه عن أبي هريرة ضعيفا عند البزار والطبراني في الأوسط. انظر هامش ابن الأثير السابق والهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 266 والألباني في ضعيف الجامع الصغير ج 5 ص 8 رقم 4653.

وارتكاب المحرمات والمعاصي يكون أيضًا سببًا مانعا من إجابة الدعاء. يقول بعض السلف: «لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طرقها بالمعاصي» (¬1). وقال مالك بن دينار: «أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجًا، فأوحى الله إلى نبيه أن أخبرهم: إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفاً قد سفك بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بعداً» (¬2). كما أن فعل الطاعات والأعمال الصالحة تكون سبباً في قبول الدعاء وإجابته وكشف الغم، وتفريج الكرب، والخروج من المحن، كما في الحديث المتفق عليه. عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خرج ثلاث يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان، شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحِلاَب- بكسر الحاء وفتح اللام- فآتي به أبوي، فيشربان، ثم أسقي الصِّبية، وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون (¬3) عند رجلي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر. اللهم إن كنتَ تعلم إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرُج عنا فُرجة، نرى منه السماء. قال: ففُرِج عنهم. ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي في المصدر المشار إليه ص 93. (¬2) المرجع السابق. (¬3) يتضاغون: يصيحون بالبكاء.

وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي، كأشد ما يحب الرجل النساء فقالت: لا تنال ذلك منها، حتى تعطيها مائة دينار (¬1)، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله، ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين. وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً بفرَق (¬2) من ذرة فأعطيته، وأبى ذاك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقراً وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك. اللهم إن كنت تعلم، إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم» متفق عليه (¬3). فقد حفظ الثالث حق الأجير ونماه له ووفاه له كاملاً بعد استثماره وتعهده لمدة طويلة، حفظًا للأمانة وخوفًا من أكل حق الغير بالباطل، فكان الجزاء من الله تعالى بأن شفع هذا العمل لصاحبه وفرج الله عنه كربته، وهكذا كل من يعطي لأحد حقه ولا يأكل المال بالباطل. وفي الحديث بيان أن تفريج الكرب، وحل العقد، والخروج من المحن، إنما يكون بتقوى الله تعالى، والتقرب إليه بصالح الأعمال، لا بالأموال ¬

(¬1) مقتضى السياق أن يقال: لا تنال ذلك مني حتى تعطيني لكنه من الالتفات. (¬2) الفرق بفتح الراء: مكيال يسع ثلاثة آصع، والصاع كيلوان ونصف تقريبا. (¬3) محمد فؤاد عبد الباقي، المرجع السابق، ج 3 ص 236، 237 رقم 1745.

والعقارات وغيرها؛ وهذا مصداق قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3]. وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. وكما ثبت أن دعوة الولد الصالح لأبيه عمل صالح يجري له بعد مماته. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬1). فدل هذا كله: على قبول الدعاء وإجابته بسبب أكل الحلال وتحريه في كل شيء، والقيام بالواجبات، وفعل الطاعات وكثرة العمل الصالح. كما أن التوسع في الحرام، أكلاً وشربًا وملبسًا، وفعل المعاصي، وعدم القيام بالواجب أسباب مانعة من إجابة الدعاء وقبوله. ثانيًا: الصدقة: والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً. والحرام سواء أكان مالاً أم متاعاً أم غير ذلك، غير طيب، لأنه خبيث، ومن مصدر خبيث غير مشروع، فهو بالتالي غير مقبول. ينص على ذلك الكتاب والسنة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. ¬

(¬1) الحافظ المنذري، مختصر صحيح مسلم ص 264 رقم 1001.

ففي الآية أمر بالنفقة من الكسب الطيب، سواء أكانت النفقة تطوعا أم صدقة واجبة، وفيها نهي عن النفقة من الخبيث في هذه الوجوه وغيرها، والخبث أعم من الرداءة، فهو يأتي بمعنى الحرام أيضًا. كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل» (¬1). ففي الحديث أنه لا يصعد إلى الله تعالى إلا ما كان من كسب طيب وأن الصدقة من حلال تربو عند الله عز وجل كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]. وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» (¬2). ففيه نفي قبول الصدقة إن كانت من الغلول، وهو مال حرام. وقال سفيان الثوري: «من أنفق من الحرام في طاعة الله، كان كمن طهر الثوب النجس بالبول، والثوب النجس لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال» (¬3). والمتصدق من مال غيره ارتكب إثمًا بصدقته هذه، وأجرها لصاحب المال: ¬

(¬1) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 209 رقم 595 (¬2) الحافظ المنذري، مختصر صحيح مسلم ص 38 رقم 104. (¬3) الغزالي، إحياء علوم الدين ج 2 ص 91.

أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جمع مالًا حرامًا ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر. وكان إصره عليه» (¬1). ثالثًا: سائر العبادات: وكذلك الشأن في سائر العبادات، فكيف يقبل الله تعالى الصلاة ممن تغذى بالحرام وكانت أنفاسه التي يناجي بها ربه، تمتد طاقتها من الحرام، وكل جسم غذي بالحرام فالنار أولى به. أو كيف يقبل الله منه صلاته وقد لبس ثوبًا من حرام، أو فيه شيء منه. أو توضأ بماء مغصوب مثلًا. أو وقف يصلي في بيته على فراش جاء من طريق حرام. أو كان البيت نفسه أو إيجاره الذي يدفع قد آل إليه من طريق حرام ... إلخ. أو كان يسكن في بيت مغصوب رغمًا عن صاحبه بقوة القانون!! وكذلك الحج: لا بد أن يكون من نفقة طيبة وكسب حلال، خاليًا من الفسوق، وهو شامل للمال الحرام، وذلك لكي يكون الحج مبرورًا مقبولًا. فإذا كان الزاد أو الراحلة من طريق حرام، أو بعض ذلك من حرام، فحجه غير مبرور، وهو بالتالي غير مقبول، ويتعرض صاحبه لرد تلبيته عليه. وكذلك الحال في كل ما يتقرب به العبد إلى ربه كأضحية أو وفاء بنذر، أو كفارة أو صداق امرأة، أو المساهمة في وجه من وجوه الخير، أو كتب علم، أو آلة مهنة، أو وسيلة سفر، أو عمل أو إكرام ضيف .. إلخ أو غير ذلك مما لا يحصى. ¬

(¬1) الهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان بدون تاريخ ص 213 رقم 836. وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 87.

4 - آثار الحرام على الاقتصاد الإسلامي والتطور الحضاري

ومن هذا يتبين مدى تأثير الحرام، كسبًا وتعاطيًا على عدم قبول العبادة والعمل، وعلى الفرد والمجتمع ومن يعول. 4 - آثار الحرام على الاقتصاد الإسلامي والتطور الحضاري: أما آثار الحرام وأضراره ونتائجه فيما يتعلق بالاقتصاد الإسلامي والتطور الحضاري فهي خطيرة جدًّا، وذلك لأن أي مال يدخله السحت يتعرض للزوال والدمار، وهذا أمر مشاهد. فإذا كان منع الزكاة سببًا للقحط والجوع، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» (¬1). أي المجاعة والقحط. فوجود المال الحرام مختلطًا بالمال الحلال يؤثر عليه ويكون سببًا في هلاكه، ناهيك عن الحرام الخالص. والاقتصاد الإسلامي يعتمد أساسًا على الكسب الحلال المشروع كي يثمر ويفيد. وفي أكل الحرام دمار وخراب على الاقتصاد الإسلامي، لأنه كسب حرام، يعوق النمو الاقتصادي، والتقدم الحضاري، ويُعطل حركة الإنتاج والاستثمار، ويعرض أموال المسلمين للضياع، ويضعف شوكتهم، بسبب عدم مشروعية مصدر المال، أو اختلاطه بالحرام، وإن نما الاقتصاد وزاد، وهو من مصدر حرام، فهو ابتلاء من الله تعالى، ومحنة وشقاء، حيث يملي سبحانه للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ¬

(¬1) رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات والحاكم والبيهقي في حديث، إلا أنهما قالا: «ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر» وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، أفاده المنذري، الترغيب والترهيب ج 2 ص 111 رقم 1110.

5 - الجزاء الأخروي لآكل الحرام

قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. فلا بد لبناء الصرح الاقتصادي من استقلال إسلامي، وبعد عن الحرام، حتى تقوى شوكة المسلمين، ويمكن لهم في الأرض، وينصرون على عدوهم. 5 - الجزاء الأخروي لآكل الحرام: أولًا: الظلم ظلمات يوم القيامة: لا شك أن أكل المال بالباطل، واكتسابه من طريق غير مشروع ظلم للآخر، وتعد على حقه، وهذا الظلم يأتي جزاؤه مضاعفاً يوم القيامة. والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، وفسره إياس بن معاوية وغيره بأنه: التصرف في ملك الغير بغير إذنه (¬1). قلت: والمال الحرام ملك للغير، فيدخل في قول إياس دخولاً أولياً، وهو حرام على الغير ملكاً وتصرفاً. وقد لعن الله تعالى الظالمين في قوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]. واستحقوا هذه اللعنة جزاء لما ارتكبته أيديهم الآثمة من ظلم العباد، والله تعالى غير غافل عما يعمله الظالمون، ومعنى هذا مؤاخذته سبحانه لهم يوم القيامة. قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]. والظالم يتخلى عنه الصديق والحميم والقريب في الدنيا، وليس له ناصر ولا شفيع في الآخرة: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]. ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم ص 195.

وقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه. وجعله محرماً بين العباد. عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن الله تبارك وتعالى: أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ...» (¬1) الحديث. والظلم يأتي مضاعفاً يوم القيامة: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ..» (¬2) الحديث. والله تعالى يملي للظالم ولكن لا يهمله دون عقاب. عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬3). فهذه أدلة واضحة على تحريم الظلم وأنه يأتي يوم القيامة مضاعفًا، وأن الله تعالى توعد الظالمين بالعقاب الشديد، ولا ريب أن أكل المال الباطل من أنواع هذا الظلم؛ وحقوق العباد لا بد فيها من القصاص، بردها أو الاستحلال من صاحبها، ولا يكفرها التوبة إذ من شروط التوبة رد المظالم إلى أهلها، ولا يكفرها العبادة أو الأعمال الصالحة، بل ولا الجهاد ذروة سنام الإسلام، حتى ولا الاستشهاد في سبيل الله، إذ هي من الحقوق التي لا مناص من استيفائها في الدنيا أو الآخرة. ¬

(¬1) مسلم ج 4 ص 1994 رقم 2577. (¬2) مسلم ج 4 ص 1996 رقم 2578. (¬3) مسلم ج 4 ص 1997، 1998 رقم 2583.

وسأذكر بعض الأدلة على ذلك: 1 - أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» (¬1). والمال الحرام إذا لم يُردَّ إلى صاحبه فإنه دين يبقى في ذمة آكله، أو هو بمثابة الدَّين، بل أعظم منه حيث لا يكفره شيء حتى ولا الشهادة في سبيل الله أو الجهاد فيه، ولأنه لم يؤخذ ابتداء عن طيب نفس كالدين. 2 - وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله: تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب. مقبل غير مدبر». ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف قلت؟» قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإنه جبريل قال لي ذلك» (¬2). 3 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين» (¬3). فهو من حقوق العباد التي لا بد فيها من الرد والاستحلال أخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدواوين عند ¬

(¬1) الإمام النووي: رياض الصالحين، ص 115 رقم 208. (¬2) مسلم ج 3 ص 1501 رقم 1885 بتصرف. (¬3) مسلم ج 3 ص 1502 رقم 1886.

الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه أو صلاة، فإن الله لا يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعضًا، القصاص لا محالة» تفرد به أحمد (¬1). فلابد إذن من رد الحقوق إلى أهلها في الدنيا أو الاستحلال منها قبل أن تؤخذ منه حسنات في الآخرة، أو يتحمل من أوزار من ظلمه قدرها. 4 - وشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - حق الآخرين بأنه قطعة من النار، فيما رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها (¬2). وأخذ الحقوق من أهلها يوم القيامة يتعدى الإنسان إلى غيره من المخلوقات. 5 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (¬3). ¬

(¬1) راجع ابن كثير، التفسير ج 1 ص 508، وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بأن في سنده صدقة بن موسى، وفيه يزيد بن بامبوسا فيه جهالة، وقال الهيثمي: في سند أحمد صدقة بن موسى، ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. (¬2) راجع نص الحديث في اللؤلؤ والمرجان ج 2 ص 192 - 193، رقم 1114. والنووي في رياض الصالحين ص 188 رقم 217. (¬3) مسلم ج 4 ص 1997 رقم 2582.

ثانيا: مصير آكل الحرام في الآخرة

مما تقدم تبين أن حقوق العباد لا تسقط إلا باستيفائها في الدنيا أو الاستحلال من صاحبها وأنها ظلم للعباد يأتي مضاعفاً يوم القيامة، ومن ذلك المال والكسب الحرام. ثانيًا: مصير آكل الحرام في الآخرة: وأكل الحرام خزي وعار في الدنيا، وربما كان سببًا لفساد الذرية؛ وعدم التوبة منه يكون سببًا من أسباب إفلاس العبد يوم القيامة: أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (¬1). وإذا كان أكل أموال الناس بالباطل سببًا من أسباب دخول النار فإنه كذلك سبب يمنع من دخول الجنة، حيث تكون النار أولى بكل لحم نبت من سحت. عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام» (¬2). لهذا وغيره: يجب على المسلم أن يتحرى طلب الحلال في كسبه ومعاشه وسائر حالاته، وأن يتجنب الحرام في جميع شؤونه حتى ينجو من عقاب الله تعالى، وينبغي عليه كذلك أن يتقي الشبهات حتى لا يصادف الحرام من حيث لا يدري. ¬

(¬1) مسلم ج 4 ص 1997 رقم 2581. (¬2) رواه أبو يعلى، والبزار والطبراني في الأوسط، والبيهقي، وبعض أسانيدهم حسنة راجع المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 25 حديث رقم 2538.

الباب الثالث في المشتبهات

الباب الثالث في المشتبهات 1 - تمهيد: 2 - تعريف المتشابه. 3 - كمال الدين. 4 - أسباب الاشتباه. 5 - كيف تعرف الشبهة. 6 - حكم الوقوع في المشتبهات. 7 - موقف المسلم من التشابه 8 - تعليل اتقاء الشبهات. 9 - نماذج من المتشابه. 10 - أمثلة من المختلف فيه.

1 - تمهيد

الباب الثالث في المشتبهات 1 - تمهيد: إذا كان في الشرع: الحلال المحض، المقطوع بحله، والحرام المحض المقطوع بحرمته، فإن هناك أمورا تتردد بين الحل والحرمة ويشتبه الحكم فيها على بعض الناس لسبب من أسباب الاشتباه، وقد يظهر هذا الحكم للراسخين في العلم، وقد لا يظهر. ومن هنا فقد نجد من بين الأحكام الشرعية من يفتي فيها من أهل العلم بالحرمة، ومنهم من يفتي بالكراهية في المسألة نفسها، وقد يفتي بعضهم بالحل أيضاً. وذلك في ما ليس فيه نص قطعي صريح، لعموم الدليل، أو عدم تحديد مفهومه، أو اجتماع الأمر والنهي فيه، أو غير ذلك. والمسلم القابض على دينه يتقي الشبهات مخافة أن يقع في الحرام من حيث لا يدري، فلا يستهين بالمكروه مثلاً لاحتمال أن يكون حراماً في حقيقة الأمر، وقد يكون في متناول المسلم أنواع من الكسب والأموال فيها ريبة أو شبهة، فينبغي عليه أن يكف عنها وأن يتركها ورعاً وحفظاً لدينه، وخوفاً من الوقوع في الحرام. 2 - تعريف المتشابه: يأتي التشابه والاشتباه: بمعنى الالتباس، والمشتبهات تعني المشكلات.

3 - كمال الدين

- فالمتشابه هو ملتبس الحكم غير معلومه على وجه القطع. - والمتشابه هو الذي لم يتعين حكمه على التعيين أهو من قبيل الحلال أم من قبيل الحرام. - والمشتبهات: أمور مشكوك في حلِّها مرتاب في حرمتها فلها شبه من الحلال البين، وشبه من الحرام البين (¬1). 3 - كمال الدين: لم يُقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد أكمل الدين بوحي ربه، فلم يترك شيئًا مجهول الحكم. كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك» (¬2). وقال أبو ذر - رضي الله عنه -: «توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علمًا» (¬3). ولما شك ناس في موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عمه العباس - رضي الله عنه -: «والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، وأحل الحرام، وحرم الحلال، ونكح وطلق، وحارب وسالم» (¬4). ¬

(¬1) انظر الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج 1 ص 127، وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 59. (¬2) ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 59. (¬3) المرجع السابق. (¬4) المرجع السابق.

4 - أسباب الاشتباه

فلم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - حلالًا، ولا حرامًا، إلا بينه، لكن بعضه كان أظهر من بعض. فما ظهر بيانه واشتهر، وعلم من الدين بالضرورة، لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام. أما ما كان دون ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حله أو تحريمه، وقد يخفى على بعض من ليس منهم (¬1). وقد يظهر في حياة الناس من المعاملات والأحوال والأحكام ما لم يكن موجودًا من قبل فيقاس على غيره. ومن هنا كانت المتشابهات التي خفي حكمها على بعض الناس، فلم يعلم أهي من الحلال البين، أم من الحرام البين، لوجود شبهة، أو علة تلحقها بأحدهما، فيلزم التحفظ والتبيين حتى لا يقع في المحرم من حيث لا يدري. 4 - أسباب الاشتباه: من الأحكام ما لم يشتهر بين حملة الشريعة، فاختلف في تحليله وتحريمه لأسباب منها: 1 - أن يكون النص غير واضح الدلالة عند بعض أهل العلم. 2 - قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر: فيتمسكون بما بلغهم. 3 - أو يبلغ النصان معاً من لم يبلغه التاريخ، فيقف، لعدم معرفته للناسخ والمنسوخ. 4 - ما ليس فيه نص صريح معين، وإنما يؤخذ من مفهوم، أو عموم، أو قياس، فتختلف أفهام العلماء كثيرًا في هذا النوع. ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 59.

5 - كيف تعرف الشبهة

5 - ومنها ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه وغير ذلك من أسباب الاختلاف. غير أنه لا بد أن يكون في الأمة علماء راسخون يوافق أقوالهم الحقيقة، فيكونوا علماء بهذا الحكم .. وهم الراسخون في العلم، ويكون مشتبهاً على غيرهم (¬1). - وعلى هذا فإن اختلاف العلماء في الحكم ينشأ من تعارض الأدلة، ويجتذبه جانبًا الفعل والترك، فيتردد بين الحلال والحرام، فيقال فيه بالكراهة أو الإباحة. وقسمت الكراهة إلى كراهة تنزيه، وكراهة تحريم، فيكون الحكم أقرب إلى الحل أو الحرمة، وذلك بسبب اختلاط الحلال بالحرام، وعدم ثبوت أي منهما بالدليل القاطع. 5 - كيف تعرف الشبهة: أخرج أحمد والطبراني عن وابصة بن معبد الأسدي قال «جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا لا أريد أن أدع من البر والإثم شيئاً، إلا سألته عنه، فأتبعه، وهو في عصابة من المسلمين حوله، فجعلت أتخطاهم لأدنو منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوا واصبة، أدن مني يا واصبة، فأدناني حيث كنت بين يديه. فقال: أتسألني أم أخبرك؟ فقلت: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكث بهن صدري، ¬

(¬1) نقلاً عن ابن الحنبلي، جامع العلوم والحكم ص 59، 60 والمعنى نفسه للشيخ منصور على ناصف على هامش التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول والمسمى: غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول الطبعة الرابعة سنة 1395 هـ دار الفكر بالقاهرة ج 2 ص 192.

وقال: البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد، وإن أفتاك الناس وأفتوك» (¬1). فالحلال البين لا يحصل منه في قلب المؤمن ريبة، والحرام البين لا يرتاب قلب المؤمن في حرمته؛ أما ما فيه شبهة وشك، فإن القلب يضطرب ويتردد في حكمه، وعلامة صدق الإيمان أن يترك المسلم ما يضطرب منه القلب، فيما لو خلي بينه وبين نفسه، بحيث لا يراه أحد من الخلق، فضلاً عما يطلع عليه الناس، وهذا هو الإثم الذي يحيك في الصدر، ويخاف الإنسان أن يطلع عليه الناس. وأخرج مسلم بسنده عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم، فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطَّلع عليه الناس» (¬2). ولذا فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «دع ما يريبك إلا ما لا يريبك» (¬3). ¬

(¬1) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وأحمد باختصار عنه، ورجال أحمد إسنادي، والطبراني ثقات، انظر ج 10 ص 294. وعلي المتقي في كنز العمال ج 3 ص 432 رقم 7312 وقال المنذري في الترغيب والترهيب بعد أن ذكره، رواه أحمد بإسناد حسن ج 4 ص 26، 27، رقم 2541، وراجع الدارمي: الإمام أبو محمد عبد الله ابن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام، سنن الدارمي، دار إحياء السنة النبوية، طبع بعناية محمد أحمد دهمان بدون تاريخ ج 2 ص 246. (¬2) مسلم ج 4 ص 1980 رقم 2553. (¬3) رواه النسائي والترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والطبراني كما قال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 93 وصححه الألباني عن أنس عند أحمد وعن الحسن عن النسائي وعن وابصة عند الطبراني في الكبير وعن ابن عمر عند الخطيب في التاريخ، انظر صحيح الجامع الصغير ج 3 ص 144 رقم 3372.

6 - حكم الشبهات

وفي رواية أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: «إذا أردت أمراً، فضع يدل على صدرك، فإن القلب يضطرب للحرام، ويسكن للحلال وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة» (¬1). 6 - حكم الشبهات: اختلف العلماء في حكم الوقوع في الشبهات، فقيل: بالتحريم وهو مردود، وقيل: بالكراهة، وقيل: بالإباحة، وقيل: بالتوقف (¬2). وقد جاء في الحديث: أن من اتَّقَ الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. قال الإمام أحمد: ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئًا يسيراً، أو شيئًا لا يعرف (¬3). وقال أحمد أيضاً في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرًا، أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله، لأن القليل إذا تناول منه شيئاً، فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام، بخلاف الكثير. ومن الفقهاء من حمل هذا على الورع دون التحريم، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم (¬4). ¬

(¬1) هو عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ضعيف كما قال ابن رجب في جامع العلوم ص 94. (¬2) راجع في هذا الحافظ ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج 1 ص 127، والإمام الشوكاني في نيل الأوطار ج 5 ص 321، والمعنى نفسه للشيخ منصور علي ناصف في التاج الجامع الأصول ج 2 ص 192 والإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم الطبعة الثانية 1392 هـ دار الفكر بيروت ج 11 ص 28. (¬3) انظر ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 61. (¬4) ابن رجب الحنبلي في المصدر السابق.

7 - موقف المسلم من الشبهات

7 - موقف المسلم من الشبهات: وسواء توقفنا في حكم الشبهة، أو قلنا بالكراهة فضلاً عن التحريم، فإن تركها أولى، أخذاً بالحيطة، وخوفاً من أن تفضي إلى الحرام، أو أن تكون حراماً في حد ذاتها، فيكون قد قارف الحرام من حيث لا يدري. كيف لا؟ وقد كان السلف يتركون بعض الحلال، ولا يستكثرون منه خوفاً من طول السؤال، حيث يسبقهم غيرهم إلى دخول الجنة، ويحبسون عنها بسبب طول السؤال عن مصادر الكسب ووجوه الإنفاق. ويؤيد هذا المعنى: ما جاء في الحديث: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام». قال الخطابي: «ما شككت فيه، فالورع اجتنابه، وهو على ثلاثة أقسام: واجب، ومستحب، ومكروه. فالواجب: ما يستلزم ارتكاب المحرم. والمندوب: اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام. والمكروه: اجتناب الرخص المشروعة (¬1). والمطلوب: اتقاء الشبهات حيطة وورعاً. وإذن فقد يكون ترك الشبهة واجبًا إذا استلزمت المحرم. أدلة ترجيح ترك الشبهات: وفيما يأتي أدلة شرعية على وجوب ترك الشبهات واتقائها وترجيح الترك على الفعل. ¬

(¬1) الإمام الشوكاني، نيل الأوطار، ج 5 ص 323.

1 - جاء في الصحيح: «فمن ترك ما يشتبه عليه، كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان» (¬1). 2 - وفي بعض المراسيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يرعى بجنبات الحرام يوشك أن يخالطه، ومن تهاون بالمحقرات، يوشك أن يخالط الكبائر» (¬2). 3 - وقال ابن المنير شيخ البخاري: «المكروه: عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه؛ تطرق إلى الحرام، والمباح: عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر من المباح تطرق إلى المكروه» وهو يعني ترك المكروه وعدم إتيانه. قال ابن حجر: «وهو منزع حسن» (¬3). ويؤيد كلام ابن المنير ما جاء في رواية ابن حبان في الزيادة (¬4). 4 - «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أربع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه». وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يترك ما فيه شبهة، خوفاً من الوقوع في الحرام. ¬

(¬1) راجع في هذا: الحافظ ابن حجر، فتح الباري ج 1 ص 127 وما بعدها، والشوكاني، نيل الأوطار ج 5 ص 322، وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص 63. وأخرج الألباني زيادة ابن حبان في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات معروفون ج 2 ص 594 وما بعدها رقم 896. (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق. (¬4) المرجع السابق.

5 - وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، أو في بيتي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» (¬1). فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يتأكد لديه أن التمرة من الصدقة، ولما كانت الصدقة محرمة عليه - صلى الله عليه وسلم - كما هو معلوم، تردد في حقيقتها وتركها، مع حاجته إليها، ورغبته فيها، خشية أن تكون حراماً. 6 - وعن عطية بن عروة السعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به، حذراً مما به بأس» (¬2). 7 - وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة - رضي الله عنه -: «كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس ..» (¬3). وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم الحق تجاه الشبهات. ¬

(¬1) ابن الأثير، جامع الأصول ج 4 ص 657 رقم 4748. والشوكاني، نيل الأوطار عن أنس ج 5 ص 323 وراجع ابن خزيمة: الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة السلمي النيسابوري في صحيحه حققه، وعلق عليه، وخرج أحاديثه الدكتور مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي بيروت دمشق الطبعة الأولى سنة 1399 هـ ص 59، 60 الأرقام من 2347 إلى 2352. (¬2) رواه الترمذي وقال حديث حسن، وابن ماجه والحاكم، وقال صحيح الإسناد، انظر: الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 28 رقم 2546، والشوكاني في نيل الأوطار ج 5 ص 323، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير ج 6 ص 85، 86، رقم 6335. (¬3) الإمام القشيري: أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن- الرسالة القشيرية- دار الكتاب العربي بيروت لبنان بدون تاريخ ص 53، وانظر صحيح الجامع الصغير حديث رقم 4456 عن البيهقي.

- وفي أقوال الصحابة وأفعالهم الأمثلة الكثيرة على ترك الشبهات خشية الوقوع في الحرام، فمن الورع اتقاء الشبهات، ومن ذلك: 1 - ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - غلام، يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر. فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني لذلك هذا الذي أكلته منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه» (¬1). وما فعل أبو بكر ذلك إلا لأن كسب التكهن غير مشروع. 2 - وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: «كنا ندع سبعين بابًا من الحلال، مخافة أن نقع في باب الحرام» (¬2). 3 - وقال عمر - رضي الله عنه -: «كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام» (¬3). 4 - ولما شرب عمر من لبن إبل الصدقة غلطًا، أدخل إصبعه في فيه وتقيأ (¬4). 5 - أخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال: شرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبناً، فأعجبه، فسأل الذي سقاه: من أين هذا اللبن؟ فأخبره، أنه قد ورد على ماء- قد سماه- فإذا نعم من نعم الصدقة، ¬

(¬1) المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 27، 28، رقم 2545 وابن الأثير في جامع الأصول ج 10 ص 96 رقم 8179. (¬2) القشيري في الرسالة القشيرية ص 53. (¬3) الإمام الغزالي، الإحياء ج 2 ص 95. (¬4) الإمام الغزالي، الإحياء ج 2 ص 91.

وهم يسقون، فحلبوا من ألبانها فجعلته في سقائي، فهو هذا اللبن، فأدخل عمر يده فاستقاء» (¬1). فهذه أحاديث وآثار تدل على أن المسلم ينبغي له ترك الشبهات ورعًا وتقوى وخوفًا من مصادفة الحرام. ويحسن بنا أن نضرب لهذا الورع أمثلة حية. أمثلة من الورع واتقاء الشبهات: 1 - روي أن عمر - رضي الله عنه -، وصله مسك من البحرين، فقال: وددت لو أن امرأة وزنَتْ حتى أُقَسِّمه بين المسلمين، فقالت امرأته (عاتكة): أنا أجيد الوزن، فسكت عنها، ثم أعاد القول، فأعادت الجواب، فقال: لا، أحببتِ أن تَضَعِيه بكفك، ثم تقولين: فيها أثر الغبار، فتمسحين بها، عنقك، فأصيب بذلك فضلًا على المسلمين (¬2). فهذا ورع عظيم، وتنزه فوق مستوى الشبهة من عمر - رضي الله عنه -. 2 - وروى سليمان التيمي عن نعيمة العطارة، قالت: كان عمر - رضي الله عنه -، يدفع إلى امرأته طيبًا من طيب المسلمين لتبيعه، فباعتني طيبًا، فجعلت تقوم، وتنقص، وتكسر بأسنانها، فتعلق بأصبعها شيء منه، فقالت به هكذا- نفَّضَتْهُ- ثم مسحت به خمارها؛ فدخل عمر - رضي الله عنه -، فقال: ما هذه الرائحة؟ فأخبرته، فقال: طيب المسلمين تأخذينه؟! فانتزع الخمار من رأسها، وأخذ يدلكه في التراب ويشمه، ثم يصب الماء، ثم يدلكه في التراب ويشمه، حتى لم يبق له ريح. ¬

(¬1) ابن الأثير، المرجع السابق ج 4 ص 663 رقم 2759 قال الأرناؤوط: وإسناد منقطع. (¬2) الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 2 ص 96.

قالت: ثم أتيتها مرة أخرى، فلما وزنت علق منه شيء بإصبعها فأدخلت إصبعها في فيها، ثم مسحت به التراب» (¬1). فهذا التصرف من عمر - رضي الله عنه - ورع وتقوى، وزيادة في الحيطة، والحذر من الشبهة، وإلا فإن غسل الخمار، لن يعيد الطيب إلى المسلمين، ولكنه أتلف رائحته على امرأته زجراً وردعاً وخوفاً أن يتعدى هذا إلى غيره. 3 - وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك المسلمين، فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة، وقال: هل ينتفع منه إلا برائحته (لما استبعد هذا منه) (¬2). 4 - وجاءت أخت بشر الحافي إلى أحمد بن حنبل، وقالت: إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟ (يعني: هل يجوز لنا أن نغزل في ضوء شعاع غيرنا؟) فقال أحمد: من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت (بشر الحافي) فبكى أحمد!! وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها (¬3). - قلت: هذه حيطة بالغة، وربما يدخل هذا في باب التنطع في الورع، ولكنه يدل على حرص شديد وورع عظيم واتقاء للشبهات، وبعد في النظر لتحري الحلال المحض، وترك كل ما يأتي عن طريق آخر، مما يشك فيه خشية الوقوع في الشبهات. 5 - وقال ابن المبارك: كتب غلام لحسان بن أبي سنان الأهواز: إن قصب السكر، أصابته آفة، فاشتر السكر فيما قبلك في الجهة التي أنت فيها، فاشتراه من رجل، فلم يأت عليه إلا القليل، فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ¬

(¬1) نفس المرجع، والموضع. (¬2) القشيري، الرسالة القشيرية ص 55. والإمام الغزالي في الإحياء ج 2 ص 96. (¬3) المرجع نفسه ص 54 القشيري، الرسالة القشيرية. والإمام الغزالي في الإحياء ج 2 ص 96.

ألفاً، قال: فأتى صاحب السكر، فقال: يا هذا، إن غلامي كان قد كتب إليَّ، فلم أعلمك، فأقلني فيما اشتريته منك (استرد مني ما اشتريته منك) فقال له الآخر: قد أعلمتني الآن. وقد طيَّبتُه لك: قال: فرجع. فلم يحتمل قلبه، فأتاه فقال: يا هذا، إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه، فأحب أن تسترد هذا البيع؛ قال: فما زال به حتى رده عليه (¬1). 6 - وكان الحجاج بن دينار؛ قد بعث طعاماً إلى البصرة، مع رجل وامرأة، أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه: إني قدمت البصرة، فوجدت الطعام منقصاً فحبسته، فزاد الطعام؛ فازددت فيه كذا وكذا؛ فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا وعملت بخلاف ما أمرناك به، فإذا أتاك كتابي هذا، فتصدق منه بجميع ذلك الثمن- ثمن الطعام- على فقراء البصرة فليتني أسلم إذا فعلت ذلك (¬2). فهذه آثار رائعة في اتقاء الشبهة، وتحري الحلال والمحافظة على الأموال الخاصة والعامة، وإن من يقرأ هذا الورع العظيم، وكان ممن يستحل الشبهات أو يتهاون فيها لحري به أن يقلع من فوره، إن كان عنده قلب، أو ذرة من إيمان، أو بقية من ضمير حي!! فالمسلم القابض على دينه، إذا عرضت له شبهة، ينبغي له أن يقف عندها ويتبين حكمها، فإن أفضت إلى حرام أو مكروه اجتنبها، وكذلك الشأن إن تردد حكمها، فإن أفضت إلى حرام أو مكروه اجتنبها، وكذلك الشأن إن تردد الحكم بين الحرمة والكراهة، فأقل درجاته في هذه الحالة أنه مكروه، والكراهة ليست للتنزيه. وينطبق هذا على الشبه المالية والأخلاقية وغيرهما، فما دام الحكم متموجاً بين الحلال والحرام، غير بيِّن الوجه، فإن الواقع فيه مجازف بنفسه في الوقوع في الحرام لسببين: ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم ص 94. (¬2) المرجع السابق.

8 - تعليل اتقاء الشبهات

أحدهما: احتمال أن يكون في هذا الأمر عناصر محرمة قطعًا فهو يقع فيها مع خليط من الحلال، وينبغي ترك الحلال المخالط للحرام براءة للذمة من الإثم والنقيصة. ثانيهما: أن تكون الشبهة آتية من مجاورة حدود الحرام فيهون عليه القرب من الحرام والدخول فيه شيئًا فشيئًا (¬1). 8 - تعليل اتقاء الشبهات: ذكر الحافظ ابن حجر أن الحلال في حد ذاته مباح، ولكن حيث يؤول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالإكثار من الطيبات، فإنه كما يقول العلماء: يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه، الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا أمر معلوم عند الناس جميعًا (¬2). قلت: إذا كان هذا عن الحلال المباح، فإن الشبهات ينبغي اتقاؤها من باب أولى، لأن احتمال الحل قائم، واحتمال الحرمة قائم، ومن يقدم على الشبهة لا يأمن أن تكون حرامًا في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري، ويعرِّض دينه وعرضه للقدح والذم. 9 - أمثلة من المتشابه: والمسائل المشتبهة هي التي تحتاج إلى البحث والاجتهاد حتى يعلم حقيقتها، والحكم الشرعي بالنسبة لها؛ حيث إن الشبهة غامضة لا يعلم حكمها كثير من الناس، أهي من قبيل الحلال أم من الحرام، ولكن هذا ¬

(¬1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها، دار القلم بدمشق الطبعة الأولى سنة 1399 هـ ج 1 ص 81. (¬2) الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج 1 ص 127.

اللبس والاشتباه لا يخفى على بعض الناس، وهم المجتهدون، الفاهمون، الواعون، وفيما يلي أمثلة من الأمور المشتبهة والتي ينبغي اتقاؤها تعاطيًا وتعاملاً وكسباً وإعانة ... ورعًا وزهدًا وخوفًا من الوقوع في الحرام. ومن ذلك: - من المطعومات: المشتبه في حلها وتحريمها: الخيل والبغال والضب (¬1) .. وكل طعام خالطه لحم أو شحم خنزير بحيث لم يغلب عليه، أما إذا غلب عليه فهو محرم اتفاقاً. - ومن المشروبات: الأنبذة ... وما خالطه شيء من الكحول. وما فتَّر البدن .. ومنها المواد التي تدخل إلى الجسم عن طريق حاسة الشم والتنفس (كالدخان وغيره). - ومن الملبوسات: ما اختلف في إباحة لبسه: كجلود السباع ونحوها ... والثياب يلبسها الكافر فيظن نجاستها لعدم تحرزه عن النجاسة في العادة. - ومن المكاسب: المختلف فيها: كمسائل: العينة (¬2) والتورق (¬3) .. إلخ. وكل مال أو كسب فيه شبهة محرمة. ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي في المرجع السابق ص 59. (¬2) للعينة صور: أقبحها ما قاله ابن القيم: أن يتواطأ المترابيان على الربا، فيعمدان إلى رجل عنده متاع، فيشتريه منه المحتاج، ثم يبيعه للمرابي بثمن الحال ويقبضه منه، ثم يبيعه للمرابي بثمن مؤجل، وهو ما اتفقا عليه، ثم يعيد المتاع إلى صاحبه ويعطيه شيئاً ومن صورها: أن يكون عند الرجل متاع فلا يبيعه إلى نسيئة. (¬3) التورق: مثل أن ينظر في السلعة كم تساوي نقداً فيشتريها إلى أجل ثم يبيعها في السوق نقداً، راجع ابن رجب في المصدر السابق وانظر الشيخ عبد الله بن قاسم النجدي في حاشيته على الروض المربع، المطابع الأهلية، للأوفست بالرياض، الطبعة الأولى سنة 1398 هـ ص 282 وما بعدها.

10 - أمثلة من المختلف فيه

وعلى وجه العموم: فكل ما تردد حكم فعله، أو تركه، بين الكراهة والإباحة، فهو من المتشابه الذي يكون تركه ورعًا وتحفظًا واتقاء للشبهة، أما ما دار حكم فعله أو تركه بين التحريم والكراهة، فينبغي على المسلم تركه واجتنابه. وهذه قاعدة عامة يدخل تحتها كل ما فيه شبهة. 10 - أمثلة من المختلف فيه: وسوف أضرب ثلاثة أمثلة للمسائل المختلف فيها بين الحرمة والكراهة، فأقل درجاتها أنها من المشتبهات التي ينبغي توقيها؛ مخافة أن تكون من الحرام المحض فيقع العبد في المحظور وهذه الأمثلة الثلاثة لمن يستحلها، أو يكتسب عن طريقها، أو يساهم في مجالاتها: المثال الأول: الدخان: 1 - قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]. والدخان ليس من الطيبات باتفاق. 2 - والدخان يدخل في عموم قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] دخولًا أوليًّا، ولا يخرجه من الخبائث إلا من انقلبت عنده الحقائق. والعبرة بالطباع السليمة، التي لم تألفه أو تستحسنه بتزيين الشيطان له في أعينهم. ولا يماري عاقل في أن الله تعالى إذا ميز الخبيث والطيب يوم القيامة فإن الدخان يكون من جملة الخبائث لا الطيبات، وهو خبيث في الدنيا عند غير شاريه ومحبيه.

3 - المسرف المبذر قرين الشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27] وصرف القرش الواحد فيما يضر ولا ينفع من الإسراف والتبذير. 4 - واتفق الأطباء والعقلاء على أن التدخين ضار للبدن وعددوا أمراضه الخبيثة، والإسلام يحرم كل ما فيه ضرر للنفس أو ضرر للآخرين، «لا ضرر ولا ضرار». وبالتالي فهو ضار لدين المسلم، لأن فيه مخالفة صريحة لهذه المبادئ الإسلامية المذكورة. وهو ضار للمال مهما كثر في يد صاحبه، فقد نهينا عن القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال. 5 - وهو يحدث في الجسم فتوراً واسترخاء. وإذا قال مدمن في التدخين: إنه لا يحدث فتورًا، قلنا: وكذلك الحشيش من المسكرات بالنسبة لمن تسمم جسمه بها، لا يتأثر منها، ولكن العبرة بالجسم الخام السليم الذي لم يسبق له التدخين، فإذا دخن لأول مرة يحدث له ما هو قريب من السكر. 6 - وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها عن كل مسكر ومفتر (¬1). 7 - وما دام هذا هو الحكم، والنهي يقتضي الترك دون تردد فإنه لا يجوز تعاطيه ولا المتاجرة فيه، ولا ترويجه، ولا الإعانة على ذلك بتأجير المحل مثلاً للتجارة فيه، أو بشرائه لمتعاطيه، أو بتقديم (الطفاية) له، أو الكسب عن طريقه. ¬

(¬1) ابن الأثير في جامع الأصول ج 5 ص 93 رقم 3115، قال محقق الكتاب الأستاذ عبد القادر الأرناؤوط في هامش الصفحة المذكورة. وقد حسنه الحافظ في الفتح.

المثال الثاني: الغناء: 1 - قال تعالى في خطابه لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]. عن ابن عباس رضي الله عنهما صوت الشيطان: الغناء والمزامير واللهو. وقال مجاهد: هو اللهو والغناء. 2 - وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6]. قال مجاهد: لهو الحديث: الاستماع إلى الغناء؛ والإضلال عن سبيل الله نتيجة طبيعية للغناء والسماع لا تتخلف؛ وقال الحسن البصري، نزلت الآية في الغناء والمزامير. 3 - وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61]. والسمود هو الغناء بلغة حِمْير، يقال: اسمُدي يا فلانة، أي غني لنا. قال عكرمة: وكانوا إذا سمعوا الغناء تغنوا، ليصدوا الناس عن القرآن الكريم بالغناء. 4 - وقال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32]. والغناء خضوع وخنا بالقول. 5 - وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]. والغناء لغو بلا شك لخلوه من الفائدة (¬1). ¬

(¬1) راجع في الآيات المذكورة التفاسير بالمأثور كالطبري والدر المنثور وابن كثير وغيرهم.

6 - وروى البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» (¬1) والمعازف آلات اللهو. وغير ذلك كثير من الأحاديث الواردة في الغناء لم نشأ تقصيها لأنه يخرج عن موضوعنا. 7 - أما أقوال الأئمة الأربعة في الغناء فهي معلومة من مواطنها بالحرمة وعدم الجواز (¬2). 8 - والغناء إذا صحبه آلات الموسيقى والطرب فهو محرم وإن كان ذِكراً وتسبيحاً. 9 - وقد رخص الإسلام في الغناء وضرب الدف في العرس إذا كان الغناء من النساء للنساء وبألفاظ خالية من الفحش والبذاءة. كما رخص في الغناء واللهو في العيدين في حدود الأدب وعدم الخلاعة والمجون. كما رخص فيما يقال لتحميس العمال وتشجيعهم على العمل بالكلام الهادف النبيل. - وليس في وسع مسلم أن يترك كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين إلى أقوال أخرى ممن ينسبون إلى التصوف، أو الذي تولى كبره في الغناء وهو ابن حزم الظاهري، ومن نحا نحوه. ¬

(¬1) نقلاً عن الشيخ أبو بكر الجزائري في رسائله دار الفكر الطبعة الأولى سنة 1398 هـ ص 390. (¬2) راجع السفاريني في غذاء الألباب ج 1 ص 149 وما بعدها وإغاثة اللهفان لابن القيم ورسالة الجزائري في الغناء.

وإنما وضعت الغناء في المتشابه أيضاً نظرًا لما يثار حوله من كلام لبعض المنتسبين إلى العلم بالجواز. والرخصة فيه إذا خلا من المعازف، والكلام الخارج عن حدود اللياقة، ولم يكن من امرأة أجنبية لرجال، أو سماع اليسير منه لمن يتستر في بيته، وفي هذا كله تفصيل طويل. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز العمل في مجال الغناء والموسيقى وآلات اللهو بيعاً وشراءً وتصنيعاً وكسباً وتأجيراً واستخداماً .. فكله كسب غير مشروع، وما أكثر المكاسب من هذا المجال في أيامنا، فأصحابه كما يقال: نجوم المجتمع!! وهم أهل المكاسب العالية والمستوى الرفيع والوجاهة بين الناس. المثال الثالث: اللحية: 1 - أخرج البخاري ومسلم والموطأ والترمذي والنسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انهكوا الشوارب، واعفوا اللحى» وفي رواية «احفوا الشوارب» وفي أخرى قال: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب» (¬1). 2 - وأخرج مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جزوا الشوارب، وأوفوا اللحى، خالفوا المجوس» (¬2). وغير ذلك كثير من الأحاديث التي تأمر بإعفاء اللحية وتنهى عن حلقها. وقد حرم حلق اللحية الحنفية والمالكية والحنابلة. ¬

(¬1) ابن الأثير في المرجع السابق ج 4 ص 763 رقم 2907. (¬2) المرجع والموضع السابق ص 764 رقم 2908.

وقيل في مذهب الشافعية بالكراهية، ورد عليه بأن الشافعي في كتابه «الأم» نص على التحريم. وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة (¬1). وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله: «وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية، وحرمة حلقها، والأخذ القريب منه» (¬2). وضم إليهم الظاهرية في الفتح الرباني (¬3) وأحكام الإسلام لا تخضع لعادات الناس، ولألسنتهم، ولا تخص زماناً دون زمان، أو مكاناً دون مكان. وإنما وضعت التمثيل باللحية في باب الشبهات ولم أضعه في باب المحرمات نظراً للفرق الذي يقول به الأصوليون بين الواجب والسنة المؤكدة بالعقاب على مخالفة الأول دون الثاني، والواجب يقابل السنة المؤكدة في بعض المذاهب. ويقول بعضهم بوجوب إعفاء اللحية، وبالتالي معاقبة حالقها، وبعضهم يقول: بأنها سنة مؤكدة ويستدل الأولون بأن الأمر للوجوب لم يصرفه صارف ولا صارف له هنا. ولما في الحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». فالعمل في مجال حلق اللحية كسب غير مشروع، وعمل غير مشروع، والذي يحتاط لدينه يترك كل كسب يأتي من طريق حرام أو فيه شبهة حرام. ¬

(¬1) راجع رسالة تحريم حلق اللحى للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي نشر دار الإفتاء سنة 1354 هـ ورسالة حكم اللحية للشيخ محمد الحامد، نشر دار الإفتاء، ورسالة الشيخ محمد بن إبراهيم. (¬2) الإبداع في مضار الابتداع دار الاعتصام ط السابعة ص 409. (¬3) انظر تفصيل ذلك في ج 17 ص 313 وما بعدها.

وبعد: فلعلِّي أكون قد ألقيت بعض الضوء على الحلال البين والحرام البين، والمشتبه فيه، من حيث حقيقة كل منها، ووسائل تحصيل الرزق الحلال، واجتناب الكسب الحرام، أو ما فيه شبهة حرام. وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل من اطلع عليه، وأن يجزي من أهدى إلينا عيوبنا فيه خير الجزاء، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. المؤلف

§1/1