الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام
القرافي
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام
حُقوُق الطّبع محَفُوظة للمعتَني به الطبعة الأولى بحلب 1387 هـ - 1967 م الطبعة الثانية ببيروت 1416 هـ - 1995 م قامَت بطباعَته وإخراجه دار البشائر الإسلامية للطبَاعَة وَالنشرَ والتَّوزيع بَيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14
تقدمة الطبعة الثانية
تقدمة الطبعة الثانية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله المنعم الكريم الوهاب، المتفضل على عباده الموفقين لخدمة دينه بمزيد الثواب، المحسن إلى من أطاعه وإليه أناب. والصلاةُ والسلام على سيدنا ونبينا ورسولنا محمد العبد الأوَّاب، الهادي بشريعته إلى طريق الحق والصّواب، وعلى صحابته الغُرّ الميامين الأنجاب، أكرَمِ الأصحاب وأوفى الأتباع والأحباب، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب. أما بعد فهذه الطبعة الثانية من كتاب "الِإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفات القاضي والإِمام" للِإمام أبي العباس أحمد بن إدريس القَرَافي، الصِّنْهاجيِّ المغربيِّ الأصل، المصريّ المولد والمنشأ والوفاة، إمامِ السادة المالكية في عصره رحمه الله تعالى. وقد أنعم الله تعالى عليَّ بإعادة طبعه، مزيداً من التحقيق والتَّعليق، ومنقحاً من التصحيف والتحريف الذي بقي في طبعته الأولى، مع ما كنتُ بذلته من أقصى الجهد في تنقيحها وتصحيحها، فالحمدُ لله الذي يسَّر وأعان، وأمَدَّ في العمر إلى أن طُبع هذا الكتاب مرةً ثانية بمزيد من الِإتقان، وقد كان بين الطبعة الأولى وهذه الطبعة الثانية قُرَابةُ ثلاثين سنة، فالأولى طُبعَتْ بحلب سنة 1387 - 1967، وهذه طُبعت ببيروت سنة 1414 = 1994، وذلك من فضل الله وكرمه سبحانه. وكنتُ في طبعته الأولى التي خدمتُها، رجوتُ من الله تعالى أن ييسِّرَ لي العثورَ على نسخة صحيحة قويمة، لأستدرك بها ما بقي في الكتاب من تحريف
وتصحيف، فأكرمني الله تعالى بذلك، ووقفتُ بأواخر سنة 1387 على نسخة مخطوطة منه في الخزانة العامة بمدينة الرباط في المغرب الحبيب، فقابلتُ بها الطبعة الأولى التي اعتمدتُ فيها على أربع نُسَخ مخطوطة، واستفدتُ منها خيرَ استفادة، وقَوَّمتُ بالإستناد إليها كل أو جُلَّ العبارات التي كانت مختلَّة معتلَّةَ في الطبعة الأولى، فغدت هذه الطبعة الثانية سليمةً مستقيمةَ إن شاء الله تعالى، وتبين فيها من المعاني الصحيحة ما لم يكن بَيِّنَ المعنى في سابقتها. ويمكن أن أقول: إنَّ هذه الطبعة الثانية تميَّزت بمزايا رفيعة جليلة هامَّة جداً، بما حَفَّها من عناية ورعاية ممن تكرَّم بقراءتها وتصحيحها في الطبعة الأولى من الأساتذة الشيوخ الكبار، وممن تكرَّم بمقابلتها بالنسخة المخطوطة المغربية من العلماء العارفين بالمخطوطات المتقنين لقراءتها. فقد قرأ الكتاب في طبعته الأولى عالمانِ جليلان وأستاذان كبيران، من كبار شيوخي الأجلَّة، ومنحاني ملاحظاتهما وتصويباتهما لعبارات كانت معرفة في الأصول، لم أهتدِ إلى تصويبها، أوَّلُهما الأستاذ العلامة الأَفِيْق الفقيه المحقق فضيلة الشَّيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى وأمتع به، والَآخرُ الأستاذ الجليل والعلامة الفقيه المدقق فضيلة الشيخ محمد ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - (¬1). فكلٌّ منهما أبدى نظرَهُ في بعض جُمَلِ منه، وكان لما أبداه فضيلة الشَّيخ ناجي أبو صالح أثرٌ هام في تصويب بعض النصوص وتقويمها، فقد تفرَّغ لدرس الكتاب ورَبْطِ جُمَلِه وتقسيماته ببعضِها، فاهتدى إلى تصويب جُمَلٍ ممَّا في أصولهِ من تحريف، جزاه الله تعالى خيراً وأجزل له الأجر والرضوان. وقد عزوتُ ما أفاداه إليهما. وتكرَّم بمقابلة الكتاب في طبعته الأولى بالنسخة المغربية المخطوطة التي في ¬
الخزانة العامة في مدينة الرباط أمينُ المخطوطات فيها فضيلةُ الأخ الكريم والأستاذ الفاضل السيد إبراهيم الكَتَّاني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأحسن إليه (¬1)، وسيأتي الحديث عن هذه المخطوطة. وقد حَظِيَ هذا الكتاب: "الإِحكام" للقرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، بثناءِ وتقدير من كل من وقف عليه حين ظهر بحُلَّته القشيبة، وكتب إليَّ بذلك غيرُ واحد من العلماء الأفاضل، فأشكرهم على حسن ظنهم وجميل تقديرهم وثنائهم، وكان ممَّا حَظِيَ به في طبعته الأولى ثناءٌ وتقديرٌ كريمان، من عالم فاضل أمريكي مسلم، متخصص بدراسة الفقه المالكي، أخبرني بذلك منذ سنين بعيدة، الأخ الفاضل الأستاذ الشَّيخ نِظَام يعقوبي أحد علماء البحرين النابهين. وكتبت له من قريب أستوضحه عن اسم هذا العالم الفاضل الأمريكي، فكتب إلي: "في حوالي سنة 1979 - هـ 1980 م، زارنا بمدينة مونتريال في كندا، - وكان الأخ الشَّيخ نِظام في حينها متوجهاً للدراسات العلمية الكونية - الأخُ الفاضلُ الدكتور عمر فاروق عبد الله، وهو أخ مسلم أمريكي، من أسرة أمريكية عريقة من الأُسَر الأنجلوسكسونية، المشهورة في تاريخ القضاء الأمريكي، ويحمل الأخ شهادة الدكتوراه في الفقه المالكي، ورسالتُهُ تتعلق بـ (عَمَل أهل المدينة) في "موطأ مالك"، وتقع في مجلدين ضخمين باللغة الإِنجليزية، وهما عندي من أجَلِّ غُنْم. فألقى الأخ الدكتور المذكور محاضرة في قسم الدراسات الِإسلامية بجامعتنا ماكجيل (Mc Gill)، تتعلق بالفقه الإِسلامي والفقه المالكي، وأشار ضمن المحاضرة إلى كتاب "الإِحكام" للقرافي، وقال: نتمنَّى أن تُحقَّق جميعُ كتبنا الفقهية والعلمية والتراثية، بهذا الأسلوب الذي اتبعه محققُ هذا الكتاب الشَّيخ ¬
عبد الفتاح أبو غدة. وحضر ذلك الاجتماع جميع من المستشرقين وطلبة الدراسات العليا في الجامعة. والدكتور الفاضل يقيم الآن في المملكة العربية السعودية، وهو يُدرِّس في جامعة الملك عبد العزيز بجُدة، يدرس فيها الثقافة الإِسلامية ومقارنة الأديان". وصفُ النسخة المخطوطة الخامسة: وقفتُ على نسخة خامسة من الكتاب في (الخزانة العامة) بالرباط في المغرب، تحت الرقم (2657 د)، في 120 صفحة من القطع الصغير، وكانت في مكتبة الشيخ محمد عبد السلام البَنَّاني، المفتي والمدرس بكلية الشريعة في جامعة القَرَويين بفاس - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وجاء العنوان فيها: (الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام)، وجاء في آخرها بخط كاتبها نفسِه قولُه: (اللَّهم يا عظيم المنة، هَبْ لكاتبه ومطالعه الجنة. إذا رأيت عَيباً فسُدَّ الخَلَلا ... جَلَّ مَنْ لا فِيهِ عَيْبٌ وَعَلَى والله أعلم). وقد رمزتُ لهذه النسخةِ بحرف (ر). وهذه النسخة فيها سَقَطُ جُمَلٍ وكلماتٍ في مواضع كثيرة، ولا تاريخ لها. ومعها كتاب "الأُمْنِيَّة في إدراك النية" للإمام القرافي أيضاً، وكلاهما مكتوبٌ بخطِّ مشرقي، يُقدَّرُ أنَّه من مكتوبات القرن العاشر أو بعده. وهذه النسخة - على ما ذكرتُ فيها من سَقَط - استفدتُ منها استفادة جُلَّى، في تصحيح بعض العبارات التي كانت معرفة في النُّسَخ التي اعتمدتُ عليها، كما سيرى القارئ الإشارة إلى ذلك في بعض المواضع، ولم أشر إلى كلها، فالظاهر أنها منسوخة عن نسخة قويمة صحيحة، وقع فيها بعض الأسقاط والتحريفات، فرحم الله مالكها وكاتبها وواقفها برحمتِهِ الواسعة وغفرانه العظيم. ولما وقفتُ عليها في 25 من رمضان عام 1387، لم يكن لدي متسَعٌ من الوقت لأقابلها كلَّها بتمامها، فقابلتُ أوَّلَها، ثم رجوتُ من الأخ الكريم المفضال
الأستاذ الشيخ السيد إبراهيم الكتاني أمين المخطوطات في (الخِزَانة العامة بالرِّباط) آنذاك، أن يتم مقابلتها متكرِّماً متَفضلاً، فجاد بذلك وأجاد، وأحسن وأتقن، وأعاد مقابلتها من الأول حتى الآخر، وأَثبَتَ لي على حواشي نسختي المطبوعة تلك الكلمات المغايراتِ والمزيداتِ، وأشار إلى الكلمات أو الجُمَل الناقصات، وانتهى من مقابلتها في 12 من شوال سنة 1387، فجزاه الله تعالى عني خيراً وأحسَنَ إليه أكرمَ إحسان. وقد علَّمتني هذه النسخة أنَّ تأخُّرَ نَسْخ الكتاب المخطوط، لا يُلغي موضعَه من الإعتبار والتقديم، فلا يصح أن تكون النظرة عامةَ إلى كل نسخة متأخرة النَّسْخ والتاريخ: أنها نسخةٌ ضعيفةٌ متخلفةٌ عن الثقة بها والإعتمادِ عليها لتأخرها (¬1). ¬
ثم وقفتُ في سنة 1404 في (مجلة معهد المخطوطات بالقاهرة)، في الجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين ص 19، على وجود نسخة من "الإِحكام" للقرافي، المكتبة الوطنية بتونس، تحت الرقم (1345)، فطلبتُ من بعض أصدقائي من علماء تونس، أن يفحصها لي، ليَرى قيمتها من الثقة والضبط والإتقان، فأفادني بأنها: نسخة ضعيفة متأخرة، فرأيتُ الإِشارة إلى ذلك هنا للعلم بهذا. وفي الختام: أحمدُ الله تعالى، الذي يسَّر لي خدمة هذا الكتاب على أحسنِ ما استطعت، وأرجو منه سبحانه أن يتقبله عملاً صالحاً ومتجراً رابحاً، ويَنفعُ به كل مفيد ومستفيد، وهو وليُّ التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم. في تورنتو - كندا 25 من المحرَّم 1414 وكتبه عبد الفتاح أبو غُدّة ¬
تقدمة الطبعة الأولى
تقدمة الطبعة الأولى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله رب العالمين حمدَ الشاكرين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد وعلى آلِهِ وصحبِهِ وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فهذا كتابُ رفيعٌ فريدٌ في بابه، أجاد فيه مؤلِّفه الِإمامُ القَرافي أيَّما إجادة، وشرَحَ به حقائقَ من العلم كانت عَصِيَّة شاردةً تستعصي على فحولِ العلماء قبلَه، فطوَّعها وجعَلَها سهلةَ مأنوسةَ منضبطة، وألَّفها أحسنَ تأليف، ويسَّرَ منالَها لطُلابها بأسلوبِ سَهْل جَزْل، وجاء بالجديدِ الكثير من العلم الذي لم يكن مطروقاً من قبل، في الفقهِ والأصولِ وتاريخ التَّشريع، وملأ فراغاً لم يَقُم بمَلئِهِ سواه، ولا ينهضُ للقيام به إلَّا الأئمة الأفذاذ الموهوبون أمثالُ الِإمام القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وتحدَّث في فاتحته عن سببِ تأليفِهِ فقال: "قد وقع بيني وبين الفضلاء مع تطاولِ الأيَّام مَباحِثُ في أمر الفَرْق بين الفُتْيَا التي تبقى معها فُتْيَا المُخالِف، وبين الحكم الذي لا يَنقُضُه المخالِف، وبين تصرُّفاتِ الحُكَّام وتصرُّفاتِ الأئمة ... ، والْفَرْقِ بين الفتيا والحكم ... ، وما حقيقةُ الحكمِ الذي يُنقَض والحكمِ الذي لا يُنقَض، وهل هو نفساني أم لِساني؟ وهل هو إخبار أم إنشاء؟ ... ونظائرُ هذه المسائل كثير، يقَعُ السؤال عنها، فلا يُوجَدُ من يُجيبُ عن ذلك محرَّراً. فأردتُ أن أضعَ هذا الكتابَ مشتمِلاً على تحرير هذه المطالب، وأوردُها أسئلةَ كما وقعَتْ بيني وبينهم. ويكونُ جوابُ كل سؤال عَقِيبَه، وأُنبِّهُ على غوامض تلك المواضع وفروعِها في الأحكام والفتاوى وتصرفات الأئمة. وسمَّيتُ هذا
أصول الكتاب وعملي فيه
الكتابَ كتابَ "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام". وعدَدُ الأسئلة أربعون سؤالاً". انتهى ملخصًا. فهو كتابٌ في الذروة من العلم والبحث، على مستوى الأئمة الكبار من القضاة والمفتين وأعلام الدين. ومن أجل هذا أحببتُ خدمتَهُ والعناية به وإخراجَه للناس، في حُلَّة بهية تلاقي مقامَ الكتاب ومؤلِّفه، "وتُحلُّه المنزلةَ اللائقةَ به من نفوس أهل العلم. وأرجو أن أكون قد وُفقت إلى ما قصدتُ بفضل الله تعالى وعونه. وقد كان إخراجُه أُمنيَّةَ غالية في نفسي من حين أَن قرأته منذ عشر سنوات، حتى مَنَّ الله تعالى بذلك ويسَّر الأسباب، فله الحمدُ والشكر على فضله وتوفيقه. أصول الكتاب وعملي فيه لهذه الطبعة التي بين يديك أربعة أصولٍ خطية، أُجمِلُ وصفَها فيما يلي: 1 - مخطوطة مكتبة شيخ الِإسلام عارف حكمت - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في المدينة المنورة. ورقمها فيها 3 فتاوى، في مجلد لطيف بقطع صغير في 50 ورقة، مذهَّبةَ العنوان تذهيباً خزائنياً. وهي بخطِّ إبراهيم بن نباتة، وعليها في كثير من حواشيها بلاغات تفيد أنها قُرئت وقُوبلت مرتين. وجاء في غير موضع منها على الحاشية لفظُ "وفي نسخة ... "، ممَّا يفيد أنَّه كان بيد كاتبها نسختان. وقد بحثتُ طويلاً عن ترجمة له فلم أقف على شيء. ويُقدَّر أنها من مخطوطات القرن الثامن أو بعده بقليل، والله أعلم. وهي مخطوطة جيدة صحيحة جداً، يَنْدُرُ فيها الخطأ أو التحريف، قابلتُ بها نسختي المستخلَصة المصححة من مخطوطة الأحمدية والأزهر ودار الكتب المصرية، فكانت هي أصحَّ منها جميعاً. قابلتُها بمعاونة ابن أخي الأستاذ الناهض البارع النجيب الشيخ عبد الستار أبو عدة في ثمانية مجالس، آخرها يوم الأحد 25 من ذي الحجة سنة 1385 في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وهي من حيث الصحةُ والجودةُ تأتي في المرتبة الأولى.
2 - مخطوطة المكتبة الأحمدية في بلدنا حلب. وهي ضمن مجموع في كتب الحديث الشريف، رقمه 306. جاء في آخرها: "وكان الفراغُ من تعليقه في شهر صفر من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد". وبجانبه في الصفحة ذاتها بقلم ناسخها نفسِهِ وبحبرِ مغاير ما صورته "بلغَتْ المُعَارضَةُ له مطالعةَ مع مراجعةِ المنقولِ منه، وكان فيه سُقمٌ، فصَحَّتْ هذه النسخة بحسب الإِمكان ولله الحمد والمنة". وناسخُها قد كتَبَ اسمَه في آخر كتابِ "الأمنيَّة في إدراكِ النيَّة" للقرافي أيضاً، الذي هو في المجموع المذكور بخطّه أيضاً بعلى كتاب "الإِحكام"، فقال: "ووافَقَ الفراغُ منه ليلةَ الخميس المبارك من شهرِ صفر، من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى عبدُ الرحمن بنُ عباس بن عبد الرحمن". فهو قد نسَخَ هذين الكتابين: "الإِحكام" و"الأُمنية" في شهر واحد هو صَفَر، كانسَخَ قبلَهما في الشهر الذي قبله المحرَّم: كتابَ "تأويل مختلِف الحديث" لابن قتيبة، وهو أوَّلُ كتابِ في المجموع المذكور، جاء فيه باسم "كتابُ الردّ على من قال بتناقُضِ الحديث وعابَ أهلَهُ". وفَرَغ منه كما قال: "ووافق الفراغُ منه في شهر الله المحرَّم من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة". وقد بحثت كثيراً عن ترجمة له فلم أقف على شيء. فلعله كان ناسخاً محترفاً؟ والله أعلم. وهذا ما يَغلِبُ على الظنّ، فقد وَقَفْتُ له على كتابِ بخطه أيضاً، في زيارتي للمغرب في صيف عام 1388، في خزانة الأستاذ السيد ناصر الكتاني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مدينة الرباط بالمغرب الأقصى، وهو "شرح مقدمة ابن الحاجب في النحو". وقد كتبه كلَّه بخطه وفَرَغ منه كما قال في آخره: "تمَّ شَرْحُ المقدمة في النحو بحمدِ الله وحسن توفيقه، والصلاةِ والسلام على خير خلقه محمدِ وآلِهِ أجمعين، عام 748 ثاني ذي الحجة بحلب المحروسة". انتهى.
ولم يَذكُر فيه اسمَه كما هو ظاهر، غيرَ أن الورَقَ وحَجْمَه وتلوينَهُ ونوعَهُ والخَطَّ وقاعدَتَهُ كلها مماثلةٌ تمامَ المماثلة لما في مجموعِ الأحمدية المشار إليه. ومخطوطةُ الأحمدية هذه عدَدُ صفحاتها 75 صفحة من القطع الصغير، وخطُّها جيد، يَندُرُ فيها الخطأ، وتغلبُ عليها الصحة، ووقع فيها نقصُ ورقة قبل الصفحة الأخيرة من الكتاب. وهي من حيث الصحةُ والجودةُ تأتي في المرتبة الثانية. وهي قريبةُ العهد بالمؤلف بين نَسْخِها ووفاتِهِ 54 سنة. وقد استفدتُ منها كثيراً في تصحيح الأغلاط، واستدراك الأسقاط، وتصويب التحاريف. 3 - مخطوطة مكتبة الأزهر، رَقْمُها فيها في فقه السادة المالكية 1766، عروسي عمومية 42298، كتبها محمد بن محمد بن عبد الباقي الخالدي المالكي سنة 1005 من الهجرة، في 55 ورقة، ومسطرتها 21 سطراً 20 سم. وهي نسخة جيدة مصححة بعناية، كما كتبه لي الأستاذ الدكتور الشيخ نور الدين عِتر الحلبي، وقد رجوت منه أن يقابل نسختي المقابلة بمخطوطة الأحمدية بالنسختين المحفوظتين في مكتبة الأزهر، فتفضل مشكوراً بمقابلتها بالنسخة المذكورة. وقال عن النسخة الثانية التي رقمها في فقه السادة المالكية أيضاً 801، عمومية 12601 المكتوبة سنة 1238 في 42 ورقة،: "قابلتُ بها صدرَ الكتاب لأسطر معدودة، ولم أتابع المقابلة بها لكثرة غلطهما وقربِ عهد كتابتها". وتأتي مخطوطةُ الأزهر التي جرت المقابلة بها من حيث الصحة والجودة في المرتبة الثالثة. 4 - مخطوطةُ دار الكتب المصرية ذات الرقم الخصوصي 21، والعمومي 1850 من كتب فقه السادة المالكية، قلمُها عادي، وفرغ منها ناسخها الذي لم يُسمَّ في 11 من صفر سنة 1173. وهي نسخة سقيمة جداً، مملوءة بالأغلاط الفاحشة والتحريضات العجيبة والسَّقْطِ الكثير بحيث لا تخلو صفحة من صفحاتها عن ذلك. وهي من حيث الصحة والجودة تأتي في المرتبة الرابعة والأخيرة. وعن هذه النسخة طُبع الكتاب منذ ثلاثين سنة، في عام 1357 بمطبعة الأنوار بالقاهرة، وقام بطبعه الأستاذ عزَّت العطَّار، واشتغل بتحقيقه الأستاذ
القاضي الشيخ محمود عرنوس - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. وقد اعتذر الشيخ عرنوس في ختام المطبوعة عما وقع فيها من تحريفات وأخطاء بقوله: "صادفتنا عقبات أثناء طبع الكتاب لقلة أصوله، وكثرة التحريف في الموجود منها، لذلك كله نعتذر إلى حضرات القراء إذا صادفهم ما يؤاخذ عليه". وعلى كل حال فالفضل ثابت لهما بإخراج الكتاب من عالم المخطوطات إلى أيدي القراء وأنظارهم، فجزاهما الله خيراً وإحساناً على ذلك. وبلغت صفحات تلك الطبعة 81 صفحة من القطع الكبير. وقد وازنت بين هذه الأصول الأربعة عند اختلافها، واخترت أصحَّها وأجودها فأثبته، وتركت ما عداه ممَّا هو خطأ أو ضعيف. ولم أستحسن أن أعتمد نسخة بعينها ثم أشير إلى المغايرات بينها وبين غيرها كما يفعله بعضهم، فإن الغاية أن يقدَّم للقارئ نسخة صحيحة أو أقربُ ما تكون إلى الصحة، لا تقديمُ نسخة بعينها ومَلْءُ الحواشي بذكر مغايرات سواها، ويكون فيها الغثُّ والسمين والغلطُ والصحيح، ممَّا يَقطع على القارئ فكرَهُ ويشوش عليه فَهْمَه. وأشرت في بعض المواضع إلى توافق النسخ في الخطأ أو التكرار أو النقص أو التقديم والتأخير، وأغفلت الإشارة في مواضع أخرى وقع فيها أحَدُ هذه الأنواع من الخَلَل، لئلا أثقل على الحواشي بما لا فائدة فيه للقارئ سوى أن يلمح الجهود التي بذلها المعتني بإخراج الكتاب. وكثرةُ التوافق بين الأصول الأربعة في الخطأ ... تشير إلى أنها هي أو أصولها نُسخت من أمّ واحدة، ثم ازدادت تلك الفروع سلامةً أو تحريفًا، بحسب ماتيشَر لها من عالم نابه أو ناسخ ماسخ. ولذا كثيراً ما تركتُ ما جاء في الأصول كلها، وأثبتُ ما هو الصواب ونبهتُ على ذلك كما تراه في ص 158 و 192 و 199 و 200 وغيرها. وقد صحَّحتُ بعضَ الأخطاء الواقعة في الأصول من النقول المأخوذة عن هذا الكتاب في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون و "مُعين الحكام" لعلاء الدين
الطرابلسي. وما يزال في الكتاب أخطاء لم أهتد إليها أو لم أوفق إلى تصويبها، وقد أشرتُ إلى بعضها، وعسى الله أن ييسر لي الوصول إلى نسخة مخطوطة معتمدة أصح من النسخ التي وقفت عليها؟ فأستدرك ما بقي في الكتاب من أخطاء في طبعته الثانية، إن شاء الله تعالى. وقد تمَّ ذلك التصويبُ والتصحيحُ بفضل الله وعونه، إذْ يسَّر لي الوقوف على النسخة الخامسة، التي تقدم وصفُها في (تقدمة الطبعة الثانية) في ص 8، فأغناني ذكرُ حالها هناك عن ذكر حالها هنا.
تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه
تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه اختلفت العبارات في تسميته اختلافاً كثيراً، فجاء الإسمُ في فواتح أكثر النسخ المخطوطة وخواتمها هكذا: "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام". وجاء في "الفروق" للمؤلِّف على أنحاء متعددة، ففي 1: 3 و 51، و 2: 104، و 4: 6 "الإِحكام في الفَرْق بين الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام"، وجاء مثله تماماً في آواخر كتابه "شرح تنقيح الفصول في الأصول" ص 196 في "الفصل السابع في نقض الإجتهاد". وجاء في "الفروق" أيضاً 2: 106 و 4: 48 "الإِحكام في الفَرْق بين الفتاوى والأحكام". ومثلُه في "التبصرة" لإبن فرحون طبعة سنة 1321، 1: 16 و 2: 60، و "مُعين الحكام" للطرابلسي طبعة سنة 1300 ص 126. وفي 4: 54 من "الفروق" أيضاً "الإحكام في الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام". وجاء في "التبصرة" أيضاً 1: 56 و 58 و 281، و "معين الحكام" ص 27 "الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام". وجاء في فتاوى الشيخ عِليش المسماة "فتح العلي المالك" 1: 58 "الإحكام في تمييز الفُتْيَا عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام". وظاهر أن أكثر هذه التسميات يقوم على الرمز والإشارة إلى اسم الكتاب، لا على تحقيق اسمه الكامل. وأتمُّ هذه التسميات وأدقُّها الصيغةُ الأولى التي جاءت في فواتح أكثر النسخ المخطوطة وخواتمها. وأتمُّ منها دقةً ما جاء في فاتحة مخطوطة دار الكتب المصرية وهو "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإمام". وهي التي اخترتُ إثباتها على وجه الكتاب، لما فيها
من جمعِ (التصرُّفاتِ) المفيدِ تنويعاً ما لا يفيده لفظُ (التصرُّفِ) بالإِفراد والمنسجِم مع الجمع في قولهِ: (في تمييز الفتاوى عن الأحكام)، والله أعلم. وهكذا سَمَّاه الإمامُ أحمدُ بن يَحْيَى الوَنْشَرِيشيُّ في كتابه "المِعيار المُعْرِب" 12: 6، فقال: " ... ذكره القرافي في كتاب الإِحكام، في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام"، ثم نَقَلَ منه السؤالَ الثَّاني والعشرين. وقد عَبَّرَ المؤلفُ نفسُه في مقدمة الكتاب بلفظ (التصرُّفات) أكثَرَ من مرَّة، فقال: "وقد وقع بيني وبين الفضلاء مباحثُ في أمر الفَرْقِ بين تصرُّفاتِ الحُكَّام وتصرُّفاتِ الأئمة"، ثم قال في آخر المقدمة: "وأُنبِّهُ على غوامضِ تلك المواضع وفروعها في الأحكام والفتاوى وتصرُّفاتِ الأئمة". انتهى فهذا منه يَدْعَمُ إثباتَ لفظِ (وتصرُّفاتِ الِإمام) بالجمع بَدَلَ (وتصرُّفِ ...). والله أعلم. ثم إنَّ تسمية هذا الكتاب وإن طالت، ليست من باب الإطالة المعهودة في بعض كتب ساداتنا المالكية والمغاربة، بل كل لفظِ فيها له دلالة مستقلة لا يغني عنها سواه وذلك مستحسنٌ منه لإفادته (¬1). أما تاريخُ تأليف الكتاب فلم يُذكَر في النسخ المخطوطة التي وقفت عليها، ولكنَّ الجزم قائم بأنه ألَّفه قبل كتابه "الفروق"، فقد ذكره في مواضع منه وسمَّاه كتابًا وأثنى عليه ثناء كريماً. فقال في 1: 3 "وتقدَّمَ لي قبل هذا - أي قبلَ كتابِ ¬
الفروق - كتابٌ لي سمَّيته كتاب الإِحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام، ذكررتُ فيه أربعين مسألة جامعة لأسرار الفروق، وهو كتاب مستقل يُستغنَى به عن الإِعادة هنا، فمن شاء طالع ذلك الكتاب فهو حسَنٌ في بابه". وقال في 1: 51 و 4: 6 - 7 "وهو كتاب نفيس". وفي 2: 104 - 105 "وهو كتاب جليل في هذا المعنى" أي المعنى الذي تضمَّنه اسمُ الكتاب. وفي 2: 106 " ... ومن فَهِمَ الفرقَ بين المفتي والحاكم، وأنَ حُكمَ الحاكم ... لكن لما كان الفرق خفياً جداً، حتى إنِّي لم أجد أحداً يحققه ... فهذا هو الفرق بين قاعدة الخلاف قبل الحكم وبين قاعدته بعد الحكم. ومن أراد استيعابه فليقف على كتاب "الإِحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام" فليس في ذلك الكتاب إلَّا هذا الفرق، لكنَّه مبسوط في أربعين مسألة منوعة، حتى صار المعنى في غاية الضبط والجلاء". انتهى. وكتابُهُ "الفروق" خالٍ من تاريخ فراغِهِ من تأليفِهِ في النسخةِ المطبوعة. وجاء في آخر كتابه "شرح تنقيح الفصول في الأصول" قولُه: "وكان الفراغ من تأليفه يوم الإثنين لتسعِ ليالٍ مَضَتْ من شهرِ شعبان سنة سبع وسبعين وسِتِّ مئة". انتهى. فيكون تأليفُهُ كتابَ "الإِحكام" قبلَ سنة 677، وقد كانت وفاته سنة 684 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وقد رأيتُ من المناسب أثناء اشتغالي بخدمة الكتاب أن أربط بينه وبين كتاب "الفروق"، فأشرتُ إلى كثير من المواطن التي تتلاقى فيها أبحاثُ الكتابين إذا كان في ذلك فائدة للقارئ المستزيد، وعلَّقتُ بعض عبارات "الفروق، في بعض المواطن، إذ رأيتُ من الأفيدِ نقلَها، وعزوتُها إلى مواضعها من الكتاب المذكور. وربطتُ بين هذا الكتاب والكتب التي نقَلَتْ عنه وخاصة كتابَ "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" للقاضي ابن فرحون المدني المالكي المتوفى سنة 799 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وكتابَ "مُعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام" للقاضي علاء الدين الطرابلسي الحنفي المتوفى سنة 844
- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وأشرت إلى النقول المأخوذة فيهما عن كتاب "الإحكام"، ففي ذلك فائدة حسنة للباحثين. وقد سطا الطرابلسي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - على كثير من أبحاث كتاب ابن فرحون دون أن يعزوها إليه، كما أشرتُ إلى ذلك في مواضع متعددة من التعليقات، فسامحه الله وإيانا. والعزو إلى هذين الكتابين يتبعه رقمانِ بينهما فاصلة، فالرقمُ الأول بعد "تبصرة الحكام" يشار به إلى الطبعة البهية المطبوعة بالقاهرة سنة 1302، والرقمُ الثاني بعد الفاصلة يشار به إلى طبعة مطبعة التقدم العلمية المطبوعة بالقاهرة سنة 1321 على حواشي فتاوى الشيخ عِليش المسماة "فتح العلي المالك". والرقمُ الأول بعد "مُعين الحكام" يشار به إلى الطبعة البولاقية المطبوعة بالقاهرة سنة 1300، والرقمُ الثاني بعد الفاصلة يشار به إلى الطبعة الميمنية المطبوعة بالقاهرة سنة 1310. وإذا لم يكن بعد الكتابين المذكورين أو أحدهما إلَّا رقم واحد فمُفادُه اتحادُ الطبعتين في رقم الصفحة المشار إليها. وإنَّما فعلتُ هذا تيسيراً على مقتني إحدى الطبعتين من هذين الكتابين. وعلَّقتُ بإيجاز حيناً وبإسهاب حيناً على مواضع من الكتاب موضِّحاً أو مصححاً. وعزوتُ الآياتِ الكريمة إلى سُوَرها، وخرَّجتُ الأحاديث الشريفة من مصادرها، وبيَّنتُ منزلتها من الصحة والثبوت، وترجمتُ للأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب، ليكون القارئ على استنارة بمعرفة منزلة العالم الذي يقول رأياً لنفسه، أو يحكي رأياً عن غيره، وصحَّحتُ ما وقع فيه من تحريف أو خَلَل ما أمكنني ذلك. وفصَّلتُ جُمَلَه وجعلته مقاطع قصيرة تيسيراً لقراءته وفهمه، وصنعتُ له محتوى للآيات والأحاديث والأعلام والمصادر والأبحاث. واجتهدت ما استطعتُ في تجويده وتزويقه وتيسيره. وها هوذا جهدي بين يدي القارئ فلا أطيلُ ببيانه، والله المسؤول أن يتقبله عملاً صالحاً لديه، وييسِّرَ النفعَ به، وأن يوفقنا سبحانه لخدمة دينه وشريعته الغراء فذلك الفضل العظيم.
ترجمة المؤلف
ترجمة المؤلف هو الِإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصِّهْناجيُّ الأصل، المِصريُّ القرافيُّ المالكي، الفقيه الأصولي المفسِّر المتكلِّم النَّظَّار المتفنِّن المشارك الأديب. ولد بمصر سنة 626 كما قاله في كتابه؛ العقد المنظوم في الخصوص والعموم" في الباب الثالث منه: "ونَشْأَتي ومَوْلِدي بمصر سنة 626 ست وعشرين وست مئة". ونقله العلامة محمد جُعَيط التونسي في أول حاشيته على "شرح تنقيح الفصول" 1: 7 وكما ذُكِرَ في "كشف الظنون" 1153:2 و "هدية العارفين" 1: 99. وسببُ شهرته بالقرافي أنَّه كان إذا خرج من منزله في دَيْر الطِّين بمصر القديمة ذاهباً إلى المدرسة، مَرَّ في طريقه بمقبرة تُسمَّى: القَرافة. وحدَثَ أنَّ كاتب أسماء الطلبة في ثَبَت سماعهم للكتاب عند الفراغ منه لم يَعرف اسمَه، وكان هو حينئذٍ غائبًا، فأثبته باسم القَرافي، لإعتياده المجيء من تلك الطريق، فلزمَتْهُ هذه النسبة واشتهر بها. هذا ما حكاه ابن فرحون في ترجمته في "الديباج المُذْهَب". وقال القرافي نفسُهُ غيرَ هذا في كتابه "العِقد المنظوم في الخصوص والعموم" إذ قال فيه: ؤالبابُ الثالثُ في صِيَغ العموم المستفادةِ من النقل العُرْفي دون الوضع الُّلغَوي، وهذا البابُ يكون العموم فيه مستفاداً من النقل خاصة، وذلك هو أسماء القبائل التي كان أصلُ تلك الأسماء فيها لأشخاصِ معينة من الآدميين، كتميم وهاشم، أو لامرأةِ كالقَرَافة، فإنَّه اسم لجَدَّةِ القَبِيلَة المسماة بالقَرَافَة. ونزلَتْ هاته القَبِيلةُ بصُقْع من أصقاع مصر لما اختطها عَمْرو بن العاص ومن
معه من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، فعُرِف ذلك الصُقع بالقرافَة، وهو الكائن بين مصر وبِركة الأشراف والمسمَّى بالقرافة الكبيرة. واشتهاري بالقَرافي ليس لأني من سُلالة هذه القبيلة بل للسُّكنى بالبقعة الخاصة مُدَةَ يسيرة، فاتفق الإشتهارُ بذلك، وإنما أنا من صِنهاجة الكائنة في قُطر مُرَّاكش بأرض المغرب ونشأتي ومولدي بمصر". نقله العلامة جُعَيط التونسي في أول حاشيته على "شرح تنقيح الفصول" 1: 6 - 7. فهو المعتَمدُ في بيان سبب نسبته باسم القرافي لا سِوَاه. وقد آتاه الله من المواهب الفذة النادرة ما أهَّله أن يتلقى العلم عن فحول علماء عصره، وأئمة جهابذة دهره. ومن أشهر شيوخه الِإمامُ عز الدين بن عبد السلام الشَّافعي الملقَّب بسلطان العلماء، والِإمامُ شرف الدين محمد بن عمران الشَّهير بالشريف الكَرْكي، وقاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد الِإدريسي، والشيخ شمس الدين الخُسْرُوشَاهِي، والإِمام جمال الدين ابن الحاجب، وغيرُهم - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى -. وقد لازَمَ الشيخَ عزِّ الدين بنَ عبد السلام وأخَذَ عنه أكثر فنونه، واقتبَسَ منه العقليةَ العلمية، والفكرَ الحُرَّ المتزنَ المستنير. وكان الشيخ عز الدين قَدِمَ من الشام إلى مصر سنة 639، وكان القرافي حينذاك في مطلع شبابه يبلغ من العمر نحو 15 عامًا، فلازمه حتى وفاته سنة 660 نحوَ عشرين سنة. وقد مَلَك الشيخُ عليه قلبَه ولُبَّه، بغزارة علمه، وثقابة ذهنه، ومتانة دينه، وقوة شخصيته، وبسالته في نُصرة الحق، وكريم تواضعه وورعه وفضله، فألقى القرافيُّ إليه بالمقاليد، ونَهَل منه وعَلَّ، وأكثر النقلَ والحديثَ عنه في كتبه، وأثنى عليه في كل مناسبة في مواضع كثيرة من تآليفه ثناءَ المرتوي من منهله، والعابِّ من بحر علمه الغزير النَّمِير، فقال في كتابه "الفروق" 2: 197 في آخر الفرق (95) بعد أن تحدَّثَ عن قاعدة من قواعد الشريعة، ودفَعَ ما يَرِدُ عليها من إشكالات قال:
"وهو من المواطن الجليلة التي يَحتاج إليها الفقهاء، ولم أر أحداً حرَّرهُ هذا التحرير إلَّا الشيخ عز الدين بن عبد السلام - رَحِمَهُ اللهُ - وقدَّسَ روحَه، فلقد كان شديدَ التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولها ومنقولِها، وكان يُفتَحُ عليه بأشياء لا توجد لغيره، - رَحِمَهُ اللهُ - رحمة واسعة". وقال في 4: 251 (ولقد حضرتُ يومًا عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان من أعيان العلماء، وأولي الجِدّ في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصَّةَ وعامَّة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلاً عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومة لائم". انتهى. فهو الشخصيَّةُ الفَذَّةُ القُدوةُ التي ملأتْ من القرافي السمعَ والبصرَ والفؤادَ جميعاً، ولذا تراه يتأسَّى به قلباً ورُوحاً وفكراً وعلماً وتأليفًا ومنهجاً. وما أكثر التشابُهَ بين هذين الإِمامين؟ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. ولقد جَدَّ القرافي في تحصيل العلوم ومعرفتها حتى أتقن جملةَ من العلوم إتقاناً بلَّغه الِإمامة فيها، وآتاه الله براعةَ فائقة وبياناً عجيباً يأخذ بالباب الطلبة والمحصِّلين في توضيح المسائل وتحقيق الدلائل، وكشفِ المعضِلات وحل المشكلات، وخَصْمِ المخالفين، وقطع المكابرين والمبطلين، وقُدرةَ عجيبة في سرعة التأليف، فقد حرَّرَ أحَدَ عشر علماً في ثمانية أشهر. ومما يلاحظ عليه - على إمامته في جملة من العلوم - خِفَّةُ ذات يده من علم الحديث، وقد أفصح بذلك في "الفروق" 4: 208 فقال في حديث: سألتُ عنه جماعةَ من المحدثين ... فقالوا لي: لم يصح". انتهى. ووقفتُ له على طائفة من الأحاديث بعضُها موضوع، وبعضُها يقاربه، فمن الموضوع ما في "الفروق" 4: 224 "المَعِدَةُ بيتُ الداء والحِمْيَةُ رأسُ الدواء وصلاحُ كل جسمِ ما اعتاد". ليس بحديث، هو من كلام الحارث بن كَلَدة الثَّقَفِي طبيبِ العرب. وفي 4: 264 "الناسُ كلُّهم هَلْكَى إلَّا العالِمون ... " هو موضوع كما في كتب الموضوعات.
ومما يُعَدُّ من الموضوع ما جاء في 1: 76 "الطلاقُ والعَتَاقُ من أيمانِ الفُسَّاق" و "من حَلَفَ واستثنى عاد كمن لم يَحِلف" كما يُعلَم من الكشف عنهما من كتب الموضوعات وغيرِها. وفي 4: 236 "عن أبي موسى الأشعري أنَّه كان يقول: إنا لنَكْشِرُ في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم". هو من كلام أبي الدرداء كما في "صحيح البُخاريّ" 10: 437. وهناك غيرها وما ذكرتُهُ كنموذج. ولا غرابة في هذا، فكم من عالمٍ إمامٌ في علمٍ عاميٌّ في علم آخر، وشواهدُه كثيرة، ولا يُلحَقُ بالعالم عالب في هذا، قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، وقال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}. وقد تحلَّت مصنَّفاتُه كلُّها بالإبتكار والتميُّز: لغةً وأسلوباً، وبحثاً وتنقيباً، ونخلاً وتحقيقاً، وجمعاً وتنسيقاً، حتى ألزَمَتْ البعيدَ والقريب بالِإذعان لِإمامته، ولو لم يكن له من التآليف سوى كتابه "الفروق" لكفى دليلاً على علو كعبه في العلم، فهو كتابٌ نَسيجُ وحدِهِ، جاء فيه بالعجب العجاب، لم يُسبَق إلى مثله، ولا أتى أحد بعده بشِبهه، فكيف ومؤلفاته أربت على عشرين مؤلَّفاً في فنون متعددة، وفيها النفائس والدُّرَر. وكان - رَحِمَهُ اللهُ - رُحلةً، يَرحَل إليه العلماء من الآفاق البعيدة، ويقصدونه للقاء والمشافهة. وممن رحل إليه: الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البقُّوري الأندلسي المراكشي المتوفَّى فيها سنة 707، صاحبُ "إكمال الِإكمال على صحيح مسلم للقاضي عياض"، رحل إليه إلى مصر وأخذ عنه، واختصر كتابه "الفروق" ورتَّبه وهذَّبه كما في "شجرة النور التركية" لمحمد مخلوف ص 211 و "الديباج المُذْهَب" لإبن فرحون ص 322. وممن رحل إليه أيضاً: الِإمام ابن راشد محمد بن عبد الله بن راشد البكري التونسي شارح "مختصر ابن الحاجب"، كما في "نيل الابتهاج" للتُّنبُكْتِي ص 235، حَكَى عن نفسه سيرتَه في طلب العلم فقال: "أدركتُ بتونس أجلَّة من النبلاء وصدوراً من النحاة والأدباء فأخذتُ عنهم، ثم رحلتُ إلى الإسكندرية
ذكر نبوغه ومهارته الفائقة في صنع الساعة العجيبة
فلقيت بها صدوراً أكابر وبحُوراً زواخر، كقاضي القضاة ناصر الدين ابن المنيِّر، والكمال التَّنَسِي، وناصر الدين ابن الأبياري، وضياء الدين بن العلاق، ومحيي الدين حسَّان رأسِه، فأخذتُ عنهم. ثم رحلتُ للقاهرة إلى شيخ المالكية في وقته، فَقِيدِ الأشكال والأقران، نَسيجِ وحده وثَمَر سَعْده، ذي العقلِ الوافي، والذهنِ الصافي، الشهابِ القَرَافي، كان مُبرِّزاً على النُّظَّار، مُحرِزاً قَصَبَ السَّبْق، جامعاً للفنون، معتكفاً على التعليم على الدوام، فأحلَّني محل السوادِ من العين، والرُّوح من الجسد ... ". فهو إمامٌ رُحلة قُدوة، أُجمِعَ على إمامته في عصره من المالكية وغيرهم، قال قاضي القضاة تقي الدين ابنُ شُكر: أجمع الشافعية والمالكية على أن أفضل أهل عصرنا بالديار المصرية ثلاثة: القرافيُّ بمصر القديمة، والشيخُ ناصر الدين ابنُ المنير بالإسكندرية، والشيخ ابنُ دَقِيق العِيْد بالقاهرة المُعِزِّيَّة" نقله ابن فرحون في "الديباج المُذْهَب" ص 65. قلت: بل قد عَدَّه الإمام السيوطي في "حسن المحاضرة" 1: 127 في طبقة من كان بمصر من المجتهدين وترجَمَهُ فيهم، ولم يترجمه في جملة العلماء الملتزمين للمذاهب الأربعة، ونقَلَ قولَ قاضي القضاة ابنِ شُكرٍ أيضاً. وهذا نظرٌ سديد من الِإمام السيوطي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وكان - إلى جانب إمامته وتبحره في علوم الشريعة وفنونها - من الفلكيين الرياضيين، النَّبَغَةِ البارعين النوادر في عمل التماثيل المتحركة في الآلاتِ الفلكية. قال في كتابه "نفائس الأصول في شرح المحصول" 1: 108 من النسخة المخطوطة في ثلاثة أجزاء بدار الكتب المصرية، وهو يبحث في فصل (الكلام في اللغات) عن الدلالة الصوتية: هل مجرَّدُ الصوت يَدُلُّ على صاحبه؟ فبيَّن أنَّه لا يكفي أن نسمعَ الصوت فنقول: إنه لا بد من شخصٍ صاحبٍ لهذا الصوت، لأنَّ الصوت يُصنعُ في غير الإنسان. ثم قال:
الإشارة إلى مهارة الشيخ عبد الرحمن زين العابدين بصنع الآلات الدقيقة
"بلغني أنَّ الملِكَ الكامل وُضِع له شَمْعَدان - هو عَمُودٌ طويلٌ من نحاس له مراكز يوضع عليها الشمعُ للإِنارة - كلما مَضَى من الليل ساعةٌ انفتح بابٌ منه، وخرج منه شخصٌ يقِفُ في خدمة الملِك، فإذا انقضَتْ عشرُ ساعات طلع الشخص على أعلى الشمعدان وقال: صبَّح الله السلطان بالخيرِ والسعادة، فيَعلمُ أن الفجر قد طلع. قال: وقد عَمِلتُ أنا هذا الشَمْعَدَانَ، وزِدتُ فيه أنَّ الشمعة يتغيَّرُ لونُها في كل ساعة، وفيه أسَدٌ تتغيَّر عيناه من السَّوَادِ الشديد إلى البياض الشديد إلى الحُمرة الشديدة، في كل ساعة لها لون، وتَسقُطُ حَصَاتان من طائرين، ويَدخل شخصٌ ويَخرج شخصٌ غيرُه، ويُغلَقُ بابٌ ويُفتحُ باب، فإذا طلع الفجر طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وإصبعُه على أُذُنِه يُشِيرُ إلى الأذان ولكني عَجَزْتُ عن صَنْعَةِ الكلام، ثم صَنَعْتُ صُورةَ حيوانِ يمشي ويلتفِتُ يمينًا ويساراً، ويُصَفِّرُ، ولا يتكلَّم (¬1). وهذا ذكاء خارق عجيب ومهارةُ يَدٍ صَنَاعٍ فائقة من الإمام القرافي (¬2). ¬
مؤلفاته مرتبة على أوائل الحروف مشارا للمطبوع منها
وكان - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كثيراً ما يتمثلُ - في التحذير من مناظرة الحَسَدة الفَسَدة، سَرَّاقي العلوم، ومدعي المعرفة ومختطفيها من العلماء النبلاء، وما أكثرَهم في كل عصر وبَرٍّ ومِصر - بقول القائل: وإذا جلستَ إلى الرِّجالِ وأشرقَتْ ... في جَوِّ باطنِكَ العُلُومُ الشُّرَّدُ فاحذَرْ مناظرةَ الحسودِ فإنما ... تغتاظُ أنت ويَستفيدُ ويَجحَدُ وكان كثيرًا أيضاً ما يتمثلُ بقول محي الدين المعروفِ بحافِي رأسِه: عتبتُ على الدنيا بتقديم جاهل ... وتأخيرِ ذي علم فقالت خُذِ العُذْرَا بنو الجهلِ أبنائي، وكل فضيلةٍ ... فأبناؤها أبناءُ ضَرَّتيَ الأخرى مؤلفاته مرتبة على أوائل الحروف مشاراً للمطبوع منها 1 - الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على النصارى واليهود. طُبع. 2 - الأجوبة عن الأسئلة الواردة على خطب ابن نُبَاتة. 3 - الإحتمالات المرجوحة. 4 - الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وهو هذا الذي بين يديك. ¬
5 - أدلة الوَحْدَانية في الرد على النصرانية. 6 - الإستبصار فيما لا يُدرَك بالأبصار (¬1). 7 - الإستغناء في أحكام الإستثناء. طُبع. 8 - الأمنيَّة في إدراك النيَّة. طُبع. 9 - الإنتقاد في الاعتقاد. 10 - البارز للكفاح في الميدان. 11 - البيان في تعليق الإيمان. 12 - التعليقات على المنتخب. 13 - تنقيح الفصول في الأصول. طُبع. 14 - الذخيرة في الفقه المالكي طُبع كاملًا في هذه السنة. 15 - شرح الأربعين في أصول الدين للفخر الرازي. 16 - شرح التهذيب للبَرْذَعي المالكي. 17 - شرح الجَلَّاب. 18 - شرح تنقيح الفصول. طُبع. 19 - العِقد المنظوم في الخصوص والعموم في الأصول. طُبع 20 - الفروق. ويعرف بالقواعد أيضاً، واسمُه العَلَمي: أنوار البروق في أنواء الفروق. طُبع بتونس ومصر. 21 - المنجيات والموبقات في الأدعية وما يجوز منها وما يُكره وما يَحرُم. 22 - المَناظر، في الرياضيات. ¬
23 - نفائس الأصول في شرح المحصول. 24 - اليواقيت في أحكام المواقيت. وغيرُها. وما زال يفيد الطالبين والعلماء حتى توفاه الله في جمادى الآخرة سنة 684، ودُفن بالقرافة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأجزل مثوبته، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين. حلب 24 من جمادى الآخرة سنة 1387 وكتبه عبد الفتاح أبو غُدّة خادم العلم بمدينة حلب وفقه الله تعالى
مقدمة المصنف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقول العبدُ الفقير إِلى عفو رَبّه أحمدُ بن إِدريس المالكيُّ عفا الله عنه: الحمدُ لله الملِكِ المالكِ لجميعِ الأكوان، الذي من هِباتِه الممالكُ فهو الكريم المنَّان، الذي لا يكونُ قضاؤه إِلَّا بالعدلِ أو الِإحسان. أنزل الرسائل، وشَرَع الوسائل لنِعَمِه الحِسان، فظهر الحق، وعُرِفَ العدل، وزَهَق العُدوان، يُضاعِف الحسنات، ويمحو السيئات، فهو المَلِكُ الدَّيَّان. يُسْجِلُ العَطاء، ويُسبِلُ الغِطاء، ويُوالي الغُفران. وأفضلُ صلواتِه على خير خلقه المبعوثِ مِن عدنان، القاضي الأحكم، والإِمام الأقوم، والرسولِ الأعظم، للإِنس والجان. صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى آلهِ وأصحابِه، وأزواجِه وأنصارِه، صلاةً تُبلِّغُهم أعلى الجنان، في دار الأمان. ونَحوزُ بها من الله تعالى أفضلَ الرضوان. أما بعد: فإنَّه قد وَقَع بيني وبين الفُضَلاءِ مع تطاول الأيامِ مَباحثُ في أمر الفَرْقِ بين الفُتْيا التي تَبْقى معها فُتْيا المخالِف، وبين الحُكم الذي لا يَنقضُه المخالِف، وبين تصرُّفاتِ الحُكام وتصرُّفاتِ الأئمة. ويُختلَفُ في إِثباتِ أهِلَّة رمضان بالشاهد الواحد، هل يَلْزَمُ ذلك من لا يَرى إِثباتَه إِلَّا بالشاهدينِ أم لا؟ ويُختَلفُ إِذا باع الحاكمُ مِن مالِ الأيتام شيئًا هل ذلك حُكمٌ بصحةِ ذلك البيع؟ فلا يَنقضُه غيرُه أم لا؟ وهل إِذا حَكَم بعدالةِ إِنسانٍ هل لغيره أن يُبطلها؟ أم ذلك حكمٌ لا يُنقَض؟ ونحوِ هذه المسائل.
ثم يقعُ السؤالُ عن حقيقة الحُكمِ المشارِ إِليه بعبارةِ تُوفي به (¬1)، فلا يُجابُ إِلَّا بأنَّ الحُكم إِلزام، والفُتيا إِخبار (¬2). فيقال: إِن أريدَ الِإلزام الحِسيُّ فقد يَعجِزُ الحاكمُ عن الإلزام الحسيُّ من الترسيم والحبسِ وغيرِ ذلك (¬3)، ومع ذلك فحُكمُه حُكم، وإِلزامُه الحِسيُّ ليس حُكماً، وإِن أُريد أنَّه يُخبِرُ عن حُكم الله أنَّه إِلزام، فالفُتيا كذلك. ¬
ثم إنَ الحُكمَ قد يكون بعدَمِ الإلزام، كما أنَّ القولَ الذي حَكَم به عَدِمَ الإلزام (¬1)، وأن الواقعةَ الموافِقةَ يَتعيَّن فيها الإباحةُ وعدَمُ الحَجْر، فتفسير الحُكم بالِإلزام غيرُ جامع. ثم يقَعُ السؤالُ عن حُكم الحاكِم هل هو نَفْساني أو لِساني (¬2)؛ وهل هو إخبار أو إِنشاء؟ فلا يُوجَدُ من يُجيبُ عن ذلك محزَراً، ونظائرُ هذه الأسئلةِ كثير. فأردتُ أن أضع هذا الكتابَ مشتملاً على تحريرِ هذه المطالب. وأُوردُها أِسئلةً كما وقعَتْ بيني وبينهم، ويكونُ جوابُ كل سؤالٍ عَقِيبَه، وأُنبِّهُ على غوامض تلك المواضع وفروعها في الأحكام والفتاوى وتصرُّفات الأئمة، وسمَّيتُ هذا الكتاب: كتابَ الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإِمام وعدَدُ الأسئلةِ أربعون سؤالاً. ¬
السؤال الأول
السُّؤَالُ الأَوَّلُ ما حقيقةُ الحُكم الذي يقَعُ للحاكم ويَمتنعُ نقضُه (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّه إِنشاءُ إِطلاقِ أو إلزامِ في مسائلِ الإجتهادِ المتقارِبِ فيما يقَعُ فيه النّزاعُ لمصالح الدنيا (¬2). فقولُنا: (إِنشاءُ إِطلاقِ) احترازٌ من قول من يقول: إِنَّ الحُكم إِلزام، كما إِذا رُفِعَتْ للحاكم أرضٌ زال الِإحياءُ عنها، فحكَمَ بزوالِ المِلك، فإنَّها تبقى مباحةَ لكل أحد، وكذلك إِذا حكمَ بأنَ أرضَ العَنْوةِ طِلْقٌ (¬3)، ليست وقفًا على الغانمين كما قاله مالك ومن تابعَه (¬4)، والحاكمُ شافعي يَرى الطِلْقَ ¬
دون الوقف، فإنَّها تتقى مباحة، وكذلك الصَّيدُ والنَّحْلُ والحَمَامُ البَرّيُّ - إِذا حيِزَ - ونحوُ ذلك إِذا حُكِمَ بزوالِ مِلكِ الحائز له أوَّلاً، فإنَّ هذه الصُّورَ كلَّها إِطلاقات، وإِن كان يَلْزمُها إِلزامُ المالكِ عدَمَ الإختصاص، لكن هذا بطريق اللزوم، والكلامُ إِنما هو في المقصودِ الأوَّلِ بالذات لا في اللوازم. كما أنَّا نقول: المقصودُ الأوَّلُ من الأمرِ الوجوبُ وإِن كان يَلزمُه النَّهيُ عن الضدّ وتحريمُه، والمقصودُ الأوَّلُ من النَّهي التحريمُ وإِن كان يَلزمُه وجوبُ ضدٍّ من أضدادِ المنهيّ عنه. والكلامُ أبداً في الحقائقِ إِنما يقعُ فيما هو في الرتبة الأولى لا فيما بعدها. وبسببِ الغفلة عن هذه القاعدة قال الكعبي (¬1): المباحُ واجبٌ؛ لأنه يُشتغَلُ به عن الحرام، وتَرْكُ الحرام واجب، فالمباحُ واجب. فجعَلَ الأحكامَ أربعة، وأسقَطَ الِإباحةَ نظرًا لما يَعرِضُ للمباح، وتَرَكَ مقتضاه في الرتبة الأولى. والجمهورُ أثبتوا المباحَ بناءً على ما تقتضيه الحقائقُ في الرتبة الأُولى، ولولا ذلك لكان المندوبُ والمكروهُ واجِبَين، لأنهما قد يُشتغَلُ بهما عن المحرَّمات كما تقدم، ويكون الواجبُ مكروهاً لأنَّه قد يُشتغَل به عن مندوب، وترْكُ المندوبِ مكروه، ويكون الواجبُ أيضاً حرامًا لأنه قد يُشتغَل به عن واجب آخر، وتركُ الواجبِ حرام، فالواجبُ حرام!. ويَتَّسعُ الخَرْقُ وتَتزلزلُ القواعد، ولا تَثبُتُ حقيقةٌ لحكمٍ! بل ما من ¬
شيء يُقضَى به إلَّا صدَقَ القضاءُ بضده فيَبطُل! وهذا تشويشٌ كثير، فالواجبُ حينئذٍ أن يُنظَر إِلى كل حقيقةٍ من حيث هِي هِي، لا لما يَلزمُها ويَعرِضُ لها. وقولُنا: (أو إِلزامٍ) كما إِذا حكَمَ بلزوم الصَّداقِ أو النفقةِ أو الشُّفعةِ ونحو ذلك. وقولُنا: (في مسائل الإجتهاد) احتراز من حُكمه على خلافِ الإِجماع، فإنه لا عبرة به. وقولُنا: (المتقارِبِ) احترازٌ من الخلاف الذي ضَعُفَ مُدْرَكُه جداً (¬1)، فإن الحاكم إِذا حكَمَ به لا عبرة بحُكمه ويُنقَض، فلا بُدَّ حينئذٍ من تقارُبِ المَدارِك في اعتبار الحُكم. وقولُنا: (فيما يقَعُ فيه التنازُعُ لمصالح الدنيا) احترازٌ من مسائل الإجتهاد في العبادات ونحوِها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل ¬
لمصالح الآخرة، فلا جَرَمَ لا يدخلُها حكمُ الحاكم أصلًا (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
السؤال الثاني
السُّؤَالُ الثَّانِي كيف يُمكنُ أن يقال: إِنَّ الله تعالى جعَل لأحدِ أن يُنشئ حُكماً على العِبَاد؟ وهل يُنشئُ الأحكام إِلَّا الله تعالى؟ فهل لذلك نظيرٌ وقع في الشريعة أو ما يُؤنِسُ هذا المكانَ ويُوضِّحه؟ جَوَابُهُ لا غَرْوَ في ذلك ولا نكير (¬1)، بل الله تعالى قرَّرَ الواجباتِ والمندوباتِ والمحرَّماتِ والمكروهاتِ والمباحاتِ على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأَنزل الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). ومع ذلك قرَّر في أصل شريعته أنَّ للمكلَّف أن يُنشِئ الوجوبَ فيما ليس بواجب في أصل الشرع، فيَنْقُلَ أيَّ مندوبِ شاء فيَجعلَه واجبًا عليه. وخَصَّصَ ذلك بالمندوبات، وخَصَّص الطريقَ الناقلَ للمندوبات إِلى الواجبات بطريقِ واحدِ وهو النَّذْر. فالنَّذْرُ إِنشاءٌ للوجوب في المندوب. ¬
وقرَّرَ الله تعالى أيضاً الإنشاءَ للمكلَّف في صُورةٍ أخرى، وذلك أن الله تعالى لمَّا شَرَع الأحكام شَرَع الأسباب، وكما جَعَل الأحكام على قسمين: منها ما قرَّره في أصل شَرْعِه كوجوب الصلوات الخمس ونحوِها ومنها ما وَكَلَهُ للمكلَّف، وهو إِيجابُ المندوب بالنذر فكذلك جَعَلَ الأسباب على قسمين: منها ما قرَّره في أصل الشريعة، ومنها ما وَكَل إِنشاءَ سببيَّته إِلى المكلَّف، وهو عامٌ لم يُخصِّصه بمندوبٍ ولا غيره. بل له أن ينشئ السببيَّة في المندوبات والواجبات والمحرَّماتِ والمكروهاتِ والمباحاتِ وما ليس فيه حُكمٌ شرعيٌ البتة (¬1)، كفعل النائم ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والساهي والمخطئِ والمجنون والبهيمةِ وحركاتِ الرياح والسُّحبِ والسُّيول ونحوِ ذلك، فإن هذه الأفعال ليس لله تعالى فيها حُكم، ولا تَعلَّقَ بها خطابٌ يقتضي حُكماً ألبتة. ومع ذلك فلكل مكلَّفِ أن يَجعل أيَّ ذلك شاء سبباً لطلاقِ امرأته، أو عتقِ عبده، أو إِيجاب حَجٍّ عليه، أو غيره من العبادات، بطريقِ واحدِ وهو التعليق، فدخولُ الدار مثلاً لم يَجعله الشرعُ في أصل الشريعة سبباً لطلاق امرأةِ أحدٍ ولا عِتقِ عبده، ومَنْ شاء جعَلَه سبباً لذلك. فعمَّم صاحبُ الشرع في هذا الباب جميعَ الأشياء في المجعول سبباً، وخصَّص في الطريقِ المجعولِ به، فعيَّنَه في التعليق، وفي الباب الأوَّل خَصَّصَ فيهما، فعيَّن المجعول فيه في المندوب، وخصَّص الطريقَ بالنذر، فهذا الباب خاص، والأوَّلُ خاصٌّ وعامّ. وإِذا تقرَّر أن الله تعالى جَعَل لكلِّ مكلَّف - وإِن كان عاميّاً جاهلًا - الإِنشاءَ في الشريعة لغير ضرورة، فأولى أن يَجعل الِإنشاءَ للحُكَام مع علمِهم وجلالتِهم (¬1) لضرورة دَرْءِ العِناد، ودفعِ الفساد، وإِخماد النائرةِ (¬2)، وإِبطال الخصومة. فهذان بابانِ مُؤنسانِ بل بطريقِ الأَولى كما ظهر لك. وأمَّا الدليلُ على ذلك فهو الِإجماع من الأئمة قاطبةَ أنَّ حُكْمَ الله تعالى ما حَكَم به الحاكم في مسائل الإجتهاد كما تقدَّم (¬3)، وأنَّ ذلك الحكمَ يجبُ ¬
اتبّاعُه على جميع الأمَّة، ويَحرمُ على كل أحَدِ نَقْضُه. وهذا شيء نشأ بعدَ حُكم الحاكم لا قبلَه، لأنَّ الواقعة كانت قبل هذا قابلةَ لجميع الأقوال، ولأنواع النقوض والمخالفات. ولا نعني بالإِنشاء إِلَّا هذا القدر، فقد وَضَح ذلك وبان. ¬
السؤال الثالث
السُّؤَالُ الثَّالِثُ هل لِما ذكرتَه مثالٌ في الوجود غيرُ ما ذكرتَه من القواعد يحصُلُ التأَنيسُ به والِإيضاح؟ جَوَابُهُ مِثالُ الحاكم والمفتي مع الله تعالى - وللهِ المثَلُ الأعلى -: مِثالُ قاضي القُضاة يُولَّي شخصين، أحدُهما نائبُه في الحكم، والآخَرُ تَرْجُمانٌ بينه وبين الأعاجم (¬1). فالتَّرجمانُ يجبُ عليه اتّباعُ تلك الحروفِ والكلماتِ الصادرة عن الحاكم، ويُخبرُ بمقتضاها من غير زيادة ولا نقص. فهذا هو المفتي يجبُ عليه اتِّباعُ الأدلًّة بعد استقرائها، ويُخبرُ الخلائقَ بما ظهر له منها من غير زيادةِ ولا نقص إِن كان المفتي مجتهدًا، وإِن كان مقلّداً كما في زماننا فهو نائبٌ عن المجتهد في نَقْلِ ما يَخُصُّ إِمامَهُ (¬2) لمن يَستفتيه، فهو كلسان إِمامِه والمترجِمِ عن جَنَانه. ¬
ونائبُ الحاكم في الحكم يُنشئ من إِلزام النَّاس وإِبطال الإِلزام عنهم ما لم يُقرِّره مستنيبُه الذي هو القاضي الأصليُّ، بل فوَّض ذلك لنائبه، فهو متَّبع لمستنيبه من وجه، وغيرُ متَّبِع له من وجه. متَّبعٌ له في أنَّه فوَّض له ذلك وقد امتثل، وغير متبع له في أنَّ الذي صدَرَ منه من الِإلزام لم يَتقدَّم مثلُه في هذه الواقعة من مستنيبه بل هو أصلٌ فيه. فهذا مِثالُ الحاكم مع الله تعالى، هو ممتثِلٌ لأمر الله تعالى في كونه فوَّض إِليه ذلك، فيفعله بشروطه. وهو منشئ لأنَّ الذي حَكم به تعيَّن، وتعيُّنُه لم يكن مقرَّراً في الشريعة، وليس إِنشاؤه لأجل الأدلَّة التي تُعتَمدُ في الفتاوى، لأنَّ الأدلَّة يجبُ فيها اتّباعُ الراجح. وها هنا له أن يَحكم بأحدِ القولين المستويين على غير ترجيحِ ولا معرفةٍ بأدلَّةِ القولين إِجماعاً، بل الحاكمُ يَتبعُ الحِجاج (¬1). والمفتي يَتبعُ الأدلَّة. والمفتي لا يَعتمِدُ على الحِجاج بل على الأدلَّة. والأدلَّةُ: الكتابُ والسُّنَّةُ ونحوُهما (¬2). والحِجاجُ: البيِّنَةُ والإقرارُ ونحوهُما (¬3). فهذا مِثالُ الحاكمِ والمفتي مع الله تعالى، وليس له أن يُنشئ حُكماً بالهوى واتِّبِاعِ الشهوات بل لا بُدَّ من أن يكون ذلك القولُ الذي حَكَم به قال ¬
به إِمامٌ معتَبَرٌ لدليلٍ معتَبَرٌ (¬1)، كما أنَّ نائب الحاكم ليس له أن يَحكم بالتشهي عن مُستنيبه. ¬
السؤال الرابع
السُّؤَالُ الرَّابِعُ ظهر الفرقُ بين المفتي والحاكم، فما الفرقُ بينهما وبين الإِمام الأعظم في تصرُّفاته؟ جَوَابُهُ أنَّ الِإمام نِسبتُهُ إِليهما كنسبةِ الكلِّ لجزئه والمركَّبِ لبعضِه. فإِنَّ للِإمام أن تقضي وأن يُفتي كما تقدَّم (¬1)، وله أن يَفعل ما ليس بفُتْيا ولا قضاءِ كجمع الجيوش، وإِنشاء الحروب، وحَوْزِ الأموال، وصَرْفِها في مصارفها، وتوليةِ الولاة، وقتلِ الطغاة. وهي أمور كثيرة يختصُّ بها لا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي. فكلُّ إمامِ: قاضِ ومُفتِ، والقاضي والمفتي لا يَصْدُق عليهما وصف الإِمامة الكبرى. ونبَّهَ على هذه الخصائصِ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم عليّ (¬2)، وأعلمُكم ¬
بالحلال والحرامِ معاذُ بن جبل" (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأشار إلى إِمامةِ الصِّدِّيق - رضي الله عنهم أجمعين - بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "مُرُوا أبا بكر يُصَلِّي بالناس" (¬1). ¬
قال العلماء: كان - صلى الله عليه وسلم - يُريدُ أن يَنزِلَ عليه وحْيٌ بإِمامةِ أبي بكر فلم يَنزِل عليه ذلك، فأُلهمَ - صلى الله عليه وسلم - بالتنبيه لوجه المصلحة بالاستنابة في الصلاة، حرصًا على مصلحة الأُمَّة بالتلويح، وأدبًا مع الربوبية بعدمِ التصريح، فكمَلَ له الشَّرَف، وانتظمَتْ له ولأمَّته المصلحة - صلى الله عليه وسلم -. ¬
قال العلماء: وإِذا كان معاذٌ أعلمَ بالحلال والحرام فهو أقضى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فما معنى قولهِ - عليه الصلاة والسلام -: "أقضاكم عليّ"؟ أجابوا - رضي الله عنهم - بأنَّ القضاءَ يرجع إِلى التفطُّنِ لوجوهِ حِجَاج الخصوم. وقد يكون الإِنسانُ أعلمَ بالحلال والحرام وهو بعيدٌ عن التفطُّنِ للخُدَعِ الصادرة من الخصوم والمكايِدِ والتنُّبهِ لوجه الصواب من أقوال المتحاكمين (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فهذا بابٌ آخرُ عظيم يَحتاج إِلى فِراسةِ عظيمة، وفِطنةٍ وافرة، وقريحةٍ باهرة، ودُربةٍ مساعدة، وإِعانةٍ من الله تعالى عاضدة، فهذا كلُّه محتاجٌ إِليه بعد تحصيلِ الفتاوى، فقد يكون الأقضى أقلَّ فُتيا حينئذٍ، فلا تناقُض بين قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم علي"، وبين قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أعلمُكُم بالحلال والحرام مُعاذُ بن جبل". وظهَرَ حينئذٍ أنَّ القضاءَ يَعْتمِدُ الحِجاج، والفُتيا تَعتمدُ الأدلَّة، وأنَّ تصرُّفَ الِإمامةِ الزائدَ على هذين يَعتمدُ المصلحةَ الراجحة أو الخالصةَ في حقّ الأُمَّة، وهي غيرُ الحُجَّة والأدلَّة. وظَهر أنَّ الِإمامة جُزؤها القضاءُ والفُتيا. ولهذا اشتُرِطَ فيها من الشروط ما لم يُشترط في القُضاة والمفتين، من كونِه قُرَشيًا، عارفًا بتدبير المصالح وسياسة الخلق، إِلى غيرِ ذلك مما نَصَّ عليه العلماء في الإِمامة شَرْطًا وكمالًا. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمَّةُ من قريش" (¬1). ولم يقل: القضاةُ من قريش. وما ذلك إِلاَّ لعمومِ السلطان واستيلاء التصرُّفات والاستقلالات. وذلك لِعظَمِ أمرِها وجلالةِ خطرها. وهو دأبُ صاحبِ الشرع، متى عَظُمَ أمرٌ كثَّرَ شَروطَه، ألا ترى أنَّ ¬
النكاح لمَّا كان أعظمَ خطرًا من البيع اشتَرَط فيه ما لم يَشترط في البيع من الشهادةِ والصَّداقِ وغير ذلك؟ وجَوَّز نَقْلَ السِّلَع بغير شهادة ولا عِوَض، بل بالهبةِ والصَّدَقةِ والوقفِ وغيرِ ذلك. ومنَعَ جميعَ ذلك في النكاح لاشتماله على بقاء النوع الِإنساني، وتكثير الدُّريَّة الموحِّدة لله تعالى، والعابدةِ له، والخاضعةِ لجلاله، وما فيه من الأُلفةِ والمودَّةِ والسكون وانتظام المصالح التي نبَّه عليها قولُهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1). وكذلك اشترَطَ في الطعام ما لم يَشترِط في السِّلع، فلا يُباع كثيرُه بقليله، ولا ناجزُه بمتأخِّره، ولا يُعاقَدُ عليه قبل قبضِه. ولم يَشترِط ذلك في السِّلَع لكونِهِ سببَ قَيامِ بُنْيةِ الأجسام، والمُعِينَ على طاعة الله تعالى بفعل الواجبِ واجتنابِ الحرام. وكذلك اشتَرَط في النَّقْدَين شروطًا كثيرة من المماثلةِ والتناجزِ وغيرِهما، لكونهما أصولَ الأموالِ وقِيَم المُتْلَفات. فكذلك الِإمامة لما عَظُمَ خطرُها اشترَطَ الشارعُ فيها ما لم يَشْترِطه في غيرها، وما عَزَّ شيء وعلا شَرفُهُ إِلاَّ عزَّ الوصولُ إِليه، وكثُرتْ القواطعُ دونه، فالوصولُ إِلى الأمير أيسَرُ من الوزير، وإِلى الوزيرِ أيسرُ من السلطان، وهي عادةُ الله تعالى في خلقهِ وفي شَرْعه (¬2)، فسبحان المُحْكِم لنظام المصالح، العالِمِ بدقائقها ومَواردِها ومَصادِرها. ¬
السؤال الخامس
السُّؤَالُ الخَامِسُ إِذا كان حُكمُ الحاكم إِنشاءَ فهل هو نَفسانيّ أو لِسانيّ (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّه نَفساني، ويَعْضُد ذلك وجهان: أحدُهما: أنَّ حُكمَ الله تعالى إِنما هو كلامُه القائمُ بذاته، وألفاظُ الكتابِ والسُّنَّةِ وغيرِ ذلك إِنما هي أدلَّتُه لا هو، وهذا حُكمُ الله أيضًا غير أنه فوَّضه للحاكم، فكان أيضًا نَفسانيًا قائمًا بنفسِ الحاكم، وقائمًا بذات الله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا، لا أنَّه غيرُ القائمِ بذات الحاكم بل عَيْنُه. فإِنَّ الله تعالى إذا أوجَبَ علينا ما حكَمَ به الحاكمُ فقد قام بذاتهِ تعالى الحُكمُ بذلك كسائر الأحكام، غير أنَّ الحُكمَ القائمَ بنفس الحاكم عَرَضٌ مُحدَث لا يَبقى زمانين، والقائمَ بذات الله تعالى واجبُ الوجود قديمٌ أَزَليّ أبَدي كسائر أحكامه تعالى، كما تقرَّر ذلك في أصولِ الفقه وأصولِ الدين. وثانيهما: أنَّ الذي يَدُلُّ على أنَّ حُكم الحاكمِ نَفساني أنه إِذا حكم فتارةً يُخبِرُ عنه بلسانه فيقول: اشهَدوا عليَّ أني حَكَمتُ بكذا، وتارةً يُسألُ عن ذلك فيشيرُ برأسه أو غيرِ ذلك مما يُفهَمُ عنه به أنه حَكَمَ، وتارةً يَكتُبُ به إِلى حاكمٍ آخر، أو يُحضِرُ مكتوبًا للشهود فيقول: اشهَدُوا عليَّ بمضمونه، ¬
أو يَبعثُ بمكتوب الحاكمِ إِلى الِإقليم الآخَرِ من غير عبارةٍ ولا إِشارة، ويكون ذلك دليلًا على أنه حَكَم. فدَّل ذلك على أنَّ حُكمَه غيرُ لفظِه وكتابتِه وإِشارتِه، وما ذلك إِلَّا الكلامُ النَّفساني، وما عداه دليل عليه كسائرِ ما قام بالنفسِ من الأحكام والأخبار وغيرِهما. فظهر أنَّ حُكمَ الحاكم نَفساني لا لِساني.
السؤال السادس
السُّؤَالُ السَّادِسُ 1 - إِذا كان الحُكمُ نَفْسانيًا (¬1)، فهل هو خَبرٌ عن حُكم الله تعالى يَقبَلُ التصديقَ والتكذيب؟ أو إِنشاءٌ لا يَحتملهما؟ 2 - وما الفَرْقُ بين الإِنشاءِ والخبر؟ 3 - وهل اللفظُ الدالُّ عليه إِنشاءٌ أو خَبَر؟ وهل بين اللفظِ الدالِّ عليه ولفظِ الشاهد فرق؟ فإِذا قال الحاكم: اشهدُوا عليَّ بكذا، هل هو مِثلُ قولِ الشاهد للحاكم: أشهَدُ عندك بكذا؟ 4 - وهل بِعتُ واشتريتُ وأنتِ طالق وأنتَ حُرٌّ مِن باب قولِ الشاهد: أشهَدُ بكذا؟ أو مِن باب قولِ الحاكم: اشهَدُوا عليَّ بكذا؟ 5 - وإِذا كان اللفظُ إِنشاءً فهل جميعُ الألفاظ تَصلُحُ لذلك أم لا؟ 6 - وإِذا كان حُكمُ الحاكم إِنشاءً للحُكم الشرعيّ، فهل تُتَصوَّرُ فيه الأحكام الخمسةُ كما في أحكام الله تعالى أم لا؟ 7 - وإِذا كان إِنشاءً (¬2)، فهل يجبُ أن يتَّصلَ به اللفظُ الدالُّ عليه كالطلاق، أم لا يَضُرُّ تأخيرُ الِإخبار به والإِشهادِ عليه؟ ¬
8 - وهل اتَّفَق العلماءُ على وقوع الإِنشاء أو فيه خلاف؟ وإِن كان فيه خلافٌ فما وجههُ؟ وما الحقُّ فيه؟ 9 - وهل الِإنشاءُ إِنشاءٌ بوضع العَرَب أم بالعُرف؟ 10 - وهل يَستوي في ذلك اللّسانيُّ والنَّفساني؟ أم يَختصُّ الوضعُ باللساني؟ فهذه عَشَرةُ أسئلةٍ في هذا السؤال.
والجواب عن السؤال
وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ أنَّ حُكمَ الحاكم ليس خبَرًا يَحتمِلُ التصديقَ والتكذيب (¬1)، بل إِنشاءٌ لا يَحتملهما، فإِنه إِلزام أو إِذن. ومَنْ أنشأَ إِلزامًا على غيره أو على نفسه، أو أذِنَ لغيره فيِ فعلٍ لا يُقال له: صَدَقتَ ولا كذَبْتَ. وكذلك جميعُ الأوامرِ والنواهي والتخييراتِ والإستفهاماتِ والترجّي والتمنّي والقَسَمِ والنداءِ ونحوِها: لا يَدْخلُها التصديقُ والتكذيبُ، لِمَا فيها من معنى الطَّلَب إِما في الرُّتبة الأولى كالأوامر والنواهي، أو الرُّتبةِ الثانية كالترجِّي والتمنِّي. ¬
والجواب عن السؤال الثاني
وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّانِي (¬1) أنَّ الفَرْقَ بين الِإنشاءِ والخَبَرِ من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أنَّ الخبر يَدخله التصديقُ والتكذيب، والإنشاءُ لا يَدخُله ذلك كما تقدَّم. وثانيها: أن الخبرَ تابعٌ لتقرُّرِ مُخبِرِهِ في زمانه، كان ماضيًا أو حالاً أو مستقبلاً. وثالثُها: أنَّ الخبَرَ ليس سبَبَاً لمدلوله. ولا يقتضِي وقوعَه، والإِنشاءُ سببٌ لمدلوله ويتَرتَبُ عليه، كما وقع ذلك في جميع صُوَره، كالطلاقِ لمَّا ¬
كان إنشاءً ترتَّب عليه ما دَلَّ عليه من زوالِ العِصمة وتحريم المرأة. وكذلك جميعُ صُوَر الإنشاء تترتَّبُ على ألفاظِها مدلولاتُها وتَتبعُها، ولا يُتصوَّرُ ذلك في الخبر ألبتةَ.
والجواب عن السؤال الثالث
وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّالِثْ أنَّ اللفطَ الدالَّ على حُكم الحاكم: تارةً يكون خبرًا إِن قال: قد حَكمتُ بكذا في الصورة الفلانية، لأنَّ هذا اللفظَ يَحْسُن فيه التصديق والتكذيبُ (¬1)، بحسَبِ ما يُطَّلعُ عليه من حالِهِ وحُسنِ الظنّ به. ولا نَعني بالخبر إِلَّا ما يَحتمِلُ التصديقَ والتكذيب. وتارةً يكون أمرًا إِنشاءً للطلب إن قال: اشهَدُوا عليَّ بكذا، لكنه إِنشاءٌ للطلب من الشهود لأن يَشهدوا عليه، لا إنشاءٌ لحُكمِ الله تعالى، بل هو أمرٌ للشهود كسائر الأوامر الصادرة منه، كما لو قال للشهود: اجلِسوا للشهادة في المكانِ الفلاني، فليس في هذا شيءٌ من حُكمِ الله تعالى أنشأهُ الحاكم، بل هذا طَلبٌ له يَخُصُّه. فظهر أنَّ الحاكم على التقديرين لم يكن لفظه مُنْشئًا للحُكم في تلك الواقعة البتة، بل هو خبَرٌ عن إِنشائه الحُكمَ فيها، أو أمرٌ بتحمُّلِ الشهادة عنه، وأما الحكُم الشرعي ففي نفسه، وقائمٌ بذاته من كلامه النَّفساني، وغيرُهُ دالٌ عليه. نعَمْ قد يَقترن إِنشاءُ الحكم في نفسِه بما يدلُّ عليه، فيُوافِقُ وقتُ إِنشائِهِ وقتَ إِشهاده، وقد يقترقان زمنًا طويلاً وسنين كثيرة، بأن يَحكم في نفسِهِ بشيءِ ثم يُشهِدَ بعدَ ذلك بمُدَّةٍ طويلة. ¬
والجواب عن السؤال الرابع
وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَال الرَّابِعْ أنَّ قولَ الحاكم: حَكمتُ بذلك، واشهَدوا عليَّ بأني حَكمتُ بذلك: ليس إِنشاءً للحكم في تلك الواقعة (¬1) كما تقدَّم (¬2). وأمَّا قولُ الشاهد عند الحاكم: أشهَدُ بكذا عندك، وبه يُرَتِّبُ الحاكمُ على قولِه ثبوتَ الواقعة (¬3): فهذا إِنشاءٌ للشهادة عند الحاكم لا يَحتمِلُ التصديق والتكذيب، ولو كانَتْ خبرًا لما جاز أن يُرتَّبَ عليها حُكمٌ من جهة الحاكم في تلك الواقعة، لأنه وَعْدٌ من الشاهد حينئذٍ بأنه يَشهدُ في المستقبل عند الحاكم في تلك الواقعة، والوعدُ بالشهادة لا يَترتب عليه إِلزامُ المشهود به. فظهر حينئذٍ أنَّ لفظَ أداءِ الشهادة إِنشاءٌ للشهادة، ولفظَ الحاكمِ في الإِشهاد أو الِإخبار وَكيفما تَصرَّفَ: ليس إِنشاءً للحُكم. فظهرَ الفرقُ بينهما، وأن قولَ الِإنسان: بِعتُك كذا، أو اشتريتُ منك كذا، وأنتِ طالق، أو أنتَ حُرٌّ، ونحوَ ذلك: من بابِ أداءِ الشهادةِ لا مِن باب إِشهادِ الحاكم، لأنها ألفاظٌ مُنْشِئةٌ لمدلولاتِها وأسبابٌ لها كأداء الشهادة، بخلافِ لفظِ إِشهادِ الحاكم إِنما هو إِخبارٌ صِرْف، أو طلَبٌ لتحمُّلِ الشهادة كما تقدَّم تقريرُه، فظهر الفرق. ¬
والجواب عن السؤال الخامس
وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الخَامِسْ أنَّ اللفظ انقسم إِلى ما يَصلُحُ للإِنشاء في باب، ولا يَصلُحُ له في باب آخر. وتقريرُه: أنَّ اللفظَ الموضوع لِإنشاء الشهادة هو صيغةُ المضارع، بأن يقول الشاهدُ: أشهدُ. ولو نطَقَ بالماضي فقال: شَهِدتُ بكذا لم يكن إِنشاء، ولم يُرتِّب الحاكمُ عليه شيئًا. وفي العُقودِ المتعيِّنُ لها من اللفظ هو الماضي على العكس من الشهادة (¬1)، فيقول البائع: بعتُك هذه السِّلْعة بدرهم. ولو قال: أبيعُكَ هذه السِّلْعة بدرهم لكان وعدًا بالبيع لا بيعًا. وكذلك يقول المشتري: اشتريتُ بصيغة الماضي، ولو قال: أَشترِيها بكذا، بصيغةِ المضارع لكان ذلك وعدًا بأنه سيشتريها. وأما صِيَغُ الأوامِر نحوُ اشْتَرِها بكذا فليس إِنشاء (¬2). هذا ما يتعلَّق بصِيَغ الأفعال. وأما صِيَغُ أسماء الفاعلين فقد وُضِعَ اسمُ الفاعل للإِنشاء في الطلاق والعتاق، نحو أنتِ طالق، وأنتَ حُرّ. ولم يوضع للإِنشاء في العقود، نحو ¬
أنا بائع، وأنا مشترٍ وواهِبٌ ونحوُها. ولم يوضع أيضًا للإِنشاء في الشهادة، فلو قال: أنا شاهدٌ بكذا لم يكن إِنشاء، هذا في باب العقود والشهادات. وأمَّا بابُ القَسَم فيصحُّ الِإنشاءُ فيه بالماضي والمستقبلِ واسمِ الفاعل، نحو أقسمتُ بالله لأفعلَنَّ، وأُقسمُ بالله لأفعلنَّ، وأنا مُقسِمٌ عليك بالله لتفعلَنَّ. فتلَّخص أنَّ الفعل الماضيَ للإِنشاء في العقود فقط، والمضارعَ للإِنشاء في الشهادات فقط، والقَسَم له المضارعُ والماضِي وغيرُه، فهو أعمُّ الأبوابِ في صِيَغ الإِنشاء.
والجواب عن السؤال السادس
وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّادِسْ أنَّ حُكمَ الحاكم وإِن كان حُكمًا لله تعالى، فإِنه لا يُتصوَّر فيه الأحكامُ الخمسة، فإِنَّ مقصودَه إِنما هو سَدُّ باب الخصومات، وردُّ الظُّلامات (¬1). بل يُتصوَّر فيه ما يكون سببًا لذلك (¬2) وهو (¬3): الوجوبُ، كالحكم بوجوب النفقة للمطلَّقةِ البائن عند مَنْ يراه. والتحريمُ، كالقضاء بفسخ النكاح، فإِنَّ معناه إِبطالُ ما وقع مما يُتوهَّمُ أنه عَقْدٌ يُسبِّبُ الِإباحةَ (¬4)، وردُّ المرأة إِلى ما كانت عليه من التحريم. والِإباحةُ، نحوُ القضاء بردِّ الأرضِ مُطلَقةً مَوَاتًا مُباحةً بعدَ زوالِ الإِحياء عند مالكِ ومَنْ يَرى رأيَه. وكذلك الصَّيْدُ والنَّحْلُ والحَمَامُ إِذا توحَّشَ ونحوُها فإِنها إِباحات. وأما الندبُ والكراهةُ فإِنما يقَعُ من الحاكم على سبيل الفتوى لا على سبيل الحكم، نحوُ أمْرِهِ بالمُتعة للمطلَّقةِ - عند الحاكم المالكي - ونحوِها. فإِذا قال الحاكم: الأحسَنُ لكَ أن تفعلَ كذا (¬5)، أو يُكرَهُ لكَ أن تفعل كذا، فإِنما هو فتوى من الحاكم لا حُكمٌ يَدْرَأُ الخِصام. ¬
وسبَبُهُ أنَّ النَّدْبَ والكراهَةَ لا يَفصِلان خِصامًا. والحكمُ إِنما شرعه الله للحُكَّام لدَرْءِ الخِصام، ولن يندفع الخصامُ إِلَّا بالإِلزامِ أو الإطلاق كما تقدَّم (¬1). فيَبطُلُ النزاعُ في الزوجاتِ والنفقاتِ والأراضي وغيرِها (¬2)، لأنه (¬3) جَزْمٌ من الحاكم. وإِذا جَزَم الحاكم بحكم وحَكَمَ به لا يُنقَض. والنَّدْبُ والكرَاهَةُ حقيقتهُما التردُّدُ بين جواز الفعلِ والترك، فلا تندفع الخصومة. ولا يقال: الِإباحةُ أيضًا متردّدةٌ بين جوازِ الفعل وجوازِ الترك، وهذا هو حقيقتُها، لأنَّا نقول: نَعني بالإِباحة الإِطلاقَ المستلزِمَ لحسم مادَّة النزاع ممن تقدَّم ملكُه، فلا يَبقَى له حُكمُه بعد ذلك (¬4)، ولا حُجَّةٌ يَمْنعُ بها غيرَهُ من الإِحياء، بل يصيرُ هو وغيرُه سواءَ في ذلك المكانِ وذلك الصَّيْدِ ونحوِه. ¬
والجواب عن السؤال السابع
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّابِعْ أنَّ حُكمَ الحاكم لا يجبُ أن يَتَّصل به اللفظ، بل تأخُّرُ الإِشهادِ عن الحكم لا يَقدح، لأنه إِنما هو إِخبار عما فَعَله في نفسه، بخلاف لفظِ المُطَلِّقِ والمُعْتِقِ لا بُدَّ من مُقارنتِه للإِنشاء في النفس، لأنَّ صاحب الشرع جَعَل مجموع الأمرينِ أعني النَّفْسانيَّ واللّسانيَّ سببًا للطلاق على مشهور مذهب مالك. ومَنْ لا يَرى الكلامَ النفسانيَّ معتبَرًا في اللساني كَفَى عنده اللّسانيُّ فقط (¬1). فعلى هذا المذهبِ يَسقطُ البحثُ في المقارنة، لإنفرادِ اللفظ حينئدٍ عند هذا القائل، والمقارنَةُ لا تكون إِلَّا بين شيئين، واللفظُ وحده حينئدٍ عند هذا القائل: كافٍ، وهو غيرُ مشهورِ مذهب مالك. وقولُ جماعة من العلماء: (إِن صريحَ الطلاقِ كاف لا يُحتاجُ معه إِلى أمير آخر): أي في النَّفْس. فظهر الفرقُ بين لفظِ الحاكم بعدَ الحكم وألفاظِ الطلاقِ وغيرِها، وأنَّ لفظَ الحاكم لا يُشتَرطُ فيه المقارنة، بخلاف غيره. وكذلك كتابةُ الحاكم إِلى حاكم آخر بما حَكم به قد تكون عقيبَ حُكمه، وقد تتأخرُ عن الحُكم، لأنها إِعلام، والإِعلامُ والإِخبارُ قد يَتأخَّرُ عن المخبَرِ عنه (¬2). ¬
والجواب عن السؤال الثامن
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّامِنْ أنَّ العلماء لم يتفقوا على وقوع الإِنشاء في جميع الصُّوَر، بل اتفقوا عليه في القَسَم. فإِذا قال القائل: أقسمتُ بالله لتفعلَنَّ، لا يَحْسُن أن يقال له: صَدَقتَ ولا كَذَبت إِجماعًا، ولا يُحتاجُ في صدقِ هذه الصيغة إِلى تقدُّم قَسَمٍ منه، بل هو مُنشِئٌ للقَسَمِ بقوله: أقسمتُ. وهذا لاخلاف فيه، نَصَّ على ذلك أئمة العربية وغيرُهم. وأما صِيَغُ العقود فقالت الشافعية والمالكية: أنها إِنشاء للبيعِ وغيرِه. وقالت الحنفية: هي إخبارات على أصل وَضْعِها في اللغة (¬1)، مُحتجِّين بأنَّ أصلَ هذه الصِّيَغ أن تكون خبَرًا، وإِنما الشرعُ (¬2) يُقدَّرُ فيها إِذا نَطَق بها ¬
المتكلِّم بمدلولاتها (¬1)، قبلَ نطقِه بالزمنِ الفَرْد، لضرورةِ تصديقه (¬2). ¬
والتقديرُ أولى من النقل لوجهين: أحدُهما. أنَّ النقل يَحتاجُ إِلى غلبة الاستعمال حتى يُنسَخَ الوضعُ الأوَّل ويَحْدُثَ وضع آخر، والتقديرُ يكفي فيه أدنى قرينة، فهو أولى مما فيه تلك المقدِّماتُ الكثيرة، وأولى مما فيه نَسْخ. وثانيهما: أنَّ التقديرَ متفَقٌ عليه في الشريعة بين العلماء، وهو عامّ في الشريعة، كما بيَّنتُه في كتاب "الأُمْنِيَّة في إِدراك النيَّة" (¬1)، والنقلُ مختلَفٌ فيه، والمتفَقُ عليه أولى من المختلَفِ فيه. ¬
والجواب عن السؤال التاسع
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ التَّاسِعْ أنَّ الحقَّ في هذه المسألة ما قاله الشافعية والمالكية من أنها منقولة (¬1)، لأنه المتبادِرُ في العُرف عند سماعها، فلا يَفهمُ سامع من قولِه: بعتُ واشتريتُ إِلَّا النَّقلَ، وأنَّ المتكلِّم أنشأ البيعَ بها (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومتى حَصَل التبادُرُ كان الحقُّ أنَّ اللفظ موضوعٌ لما يَتبادَرُ إِليه الذهنُ لأنه الراجح، والمصيرُ إِلى الراجح واجبٌ وإِن كان على خلافِ الأصل. ألا ترى أنَّ المجاز على خلاف الأصل، وإِذا رَجَح بالدليل وَجَب المصيرُ إِليه. وكذلك التخصيصُ والِإضمارُ وسائرُ الأمور التي هي على خلاف الأصل، متى رَجَحتْ وَجَب المصيرُ إِليها إِجماعًا، فيجبُ المصيرُ إِلى النقلِ لأنه الراجحُ في العُرف.
والجواب عن السؤال العاشر
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ العَاشِرْ أنَّ كونَ الصّيغَة للإِنشاء: تارةً تكون بوضع العَرَب كالقَسَم، وتارةً تكون بوضع أهل العُرف كصِيَغ الطلاق وغيرها (¬1). ولذلك فإِن صريحَ الطلاق (¬2) قد يُهجَرُ فيصيرُ كناية، وقد تَشتهرُ الكنايةُ فتصيرُ كالصريح للإِنشاء، ولذلك قلنا: إِن قول القائل: أنتِ طالق صريحٌ مستغنٍ عن النيَّة، وأنت مُطْلَقة (¬3) ليس صريحًا بل لا بُدَّ فيه من النيَّة مع اشتراك الصيغتين في الطاء واللام والقاف، وما ذاك إِلَّا أنَّ أهل العرف وضعوا أنتِ طالق للإِنشاء، وبَقَّوْا أنتِ مُطْلَقة (¬4) على وَضْعِه اللغوي خَبَرًا فلم يَحصُل به طلاقٌ إِلَّا بالقصد لذلك. وأمَّا القَسَم فلم يزل في الجاهلية والِإسلام وجميعِ الأيام لِإنشاء القَسَم، فظهر أن الوضع فيهما مختلِف، وأنَّ أحدَهما لُغوي والآخَرَ عُرفي. وأمَّا كونُ الكلام النَّفساني إِنشاءً في حكمِ الحاكم والطلاقِ والعَتاقِ وغيرِ ذلك من مَوارد الإِنشاء، فلا يَدخله وضعٌ لا عُرفي ولا لغوي، فإِنَّ ¬
الأوضاع لا تَدخلُ في النفساني، وإِنما تَدخل في الألفاظ. والخبَرُ والطَّلَبُ والِإنشاءُ وغيرُها في الكلام النفساني لذات الكلام النفساني، لا بوضع واضع. ولذلك كان عند جميع الأُمَم من العرب والعجم وجميعِ أربابِ الألسنةِ المختلِفَة الخبَرُ والطلبُ والتخييرُ وجميعُ أنواع الكلام في أنفسِها سواءً، لا تَختلفُ باختلافِ لغاتها وأطوارِها، فدَلَّ ذلك على أنها لِذاتِها كذلك، لا لوَضْعِها. كما أنَّ أنواعَ الاعتقادات والشكوكِ والظنون وجميعَ أحوال النفوس في جميع الأمم سواءٌ لا تَختلف. وما ذاك إِلَّا أنها لِذاتِها كذلك، كما نقولُه في جميع خصائص الأجناس من السَّواد والبياض والطُّعوم والروائح: إِنها غيرُ مُعلَّلة، بل لا يُمكِن أن تكون إِلَّا كذلك لذواتها، وإِن كانت لا تقَعُ جميعُها إِلَّا بقدرة الله تعالى. ولذلك يقول العلماء: إِنَّ انقلاب الحقائقِ مُحال، ولو كانت بالوَضْع لكان انقلابُها جائزًا، لأن ما بالجَعْل يَقبلُ النقلَ والتحويل. فكمَلَت الأسئلة بهذه العَشَرةِ خمسةَ عَشرَ سؤالًا.
السؤال السادس عشر
السُّؤَالُ السَّادِسُ عَشَرْ ما الفرقُ بين حُكمِ الحاكم في المُجمَعِ عليه، فإِنه لا يُنقَض؟ وبين حُكمِه في المختلَفِ فيه، فإِنه لا يُنقَض أيضًا؟ والِإجماعُ في المسألتين، فهل المانعُ واحدٌ أو مختلِف؟ فإِن كان الإِجماعَ فهو واحد، وإِن كان ثَمَّ مانعٌ آخرُ فما هو؟ جَوَابُهُ أنَّ الِإجماع مانعٌ فيهما، واختَصَّ حُكمُه في مسائلِ الخلاف بمانعٍ آخر. وتقريرُه: أنَّ الله تعالى جعَلَ للحُكَّام (¬1) أن يحكموا في مسائل الإجتهاد بأحَدِ القولين، فإِذا حكموا بأحدهما كان ذلك حُكمًا من الله تعالى في تلك الواقعة. وإِخبارُ الحاكم بأنه حكَمَ فيها: كنصّ من الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورَدَ، خاصٍّ بتلك الواقعة، مُعارِضٍ لدليل المخالِفِ لِما حَكَم به الحاكمُ في تلك الواقعة. مِثالُه قال مالك: دلَّ الدليلُ عندي على أن القائلَ لامرأةٍ: إِن تزوَّجتكِ فأنت طالقٌ ثلاثًا، فإِذا تزوَّجَها طلَقَتْ ثلاثًا، ولا يصحُّ له عليها عقدٌ إِلَّا بعدَ زَوْج. فاتَّفق أن ذلك القائل تزوَّجها وأقام معها على مذهب الشافعي وطلَّقها واحدةً، وبانَتْ منه بانقضاء العِدَّة، ثم عَقَدَ عليها، فرُح ذلك العقدُ لحاكم ¬
شافعيٍّ فحَكَمَ بصحته: صار هذا نصَّاً مِن قِبَل صاحب الشرع في خصوص هذا الرجل الحالف، دون غيرِهِ من الحالفين الذين لم يتصل بهم حكمُ حاكم، لأنَّ الله تعالى قرَّره بالِإجماع، وما قرَّره الله تعالى بالِإجماع فقد دلَّ دليلٌ قطعي مِن قِبَل صاحب الشرع عليه. فتَحقَّق التعارُضُ بَيْنَ الدليلِ الدالِّ عند مالك على أنَّ أنكحة المُعَلِّقين على هذه الصُّورة باطلة، وبَيْنَ هذا الدليل الواردِ في هذه الصورة، وهو أخصُّ من الدليل العام الذي لمالك، لتناوله جميع الصور وهذا يَتناولُ هذه الصُّورةَ خاصّة. ومتى تعارَض الخاصُّقُ والعامُّ يُقدَّمُ الخاصُّ على العام، فلو قلنا: يُنقَضُ هذا الحكمُ لَزِمَ مخالفةُ هذه القاعدة أيضًا مع مخالفةِ الإِجماع، وكذا يَبْطُلُ النَّصُّ الخاصُّ المُعارِضُ للدليل العام، وهو محذورٌ غيرُ محذورِ الإِجماع. فظهر حينئذٍ أنَّ في مسائل الخلاف - إِذا حكَمَ فيها الحاكم - مانِعَينِ من النقص، وفي المُجمَعِ عليه مانعٌ واحدٌ. ومِن العَجَب كيف صار المختلَفُ فيه أقوى من المجمَع عليه؟ وظهر أيضًا أن عدَمَ نقضِ حُكمِ الحاكم في مسائل الخلاف راجعٌ إِلى قاعدةٍ أصولية، وهي تقديمُ الخاصّ على العامّ من الأدلَّة الشرعية. وهذا موضعٌ حسَنٌ فتَنَبَّهْ له.
السؤال السابع عشر
السُّؤَالُ السَّابِعُ عَشَرْ إِذا حَكم الحاكم بمُدْرَكٍ مختلَفٍ فيه (¬1)، كشهادة الصّبيان، أو الشاهدِ واليمين، أو العوائدِ المختلَفِ في اعتبارها، كعادةِ الأزواج في النفقة، هل هي عادةٌ تُصَيّرُ القولَ قول الزوج أم لا؟ وهل يكون ذلك حُكمًا بذلك المُدرَك أم لا؟ وهل لأحدٍ نقضُهُ لبُطلانِ المُدرَكِ عنده ويقول: هذا الحكمُ عندي بغير مُدرَك فإِنَ شهادةَ الصبيان والعَدَمَ سواء، والحكمُ بغير مُدرَك يُنقَضُ إِجماعًا، فأنقُضُ هذا الحكم؟ أم ليس لأحدٍ ذلك؟ جَوَابُهُ أن المُدْرَك المختلَف فيه قسمان: تارةً يكونُ في غاية الضعف، فهذا يُنقَضُ قضاءُ القاضي إِذا حَكَمَ به، لأنه لا يَصْلُح أن يكون مُعارِضًا للقواعد الشرعية، فيكون هذا الحُكم على خلاف القواعد، وما كان على خلاف القواعد الشرعية من غير مُعارِضٍ يُقَدَّمُ عليها نُقِضَ إِجماعًا. وإِن كان المُدْرَك متقاربًا مع ما يُعارِضُه في الشريعة: فهاهنا خِلافان أحدُهما في المُدرَك، والآخَرُ في الحكم المترتب عليه. فإِذا حَكَم الحاكم ¬
بذلك الحكم الذي يقتضيه ذلك المُدرَكُ امتَنَع نقضُ ذلك الحكم، لاتصال حكم الحاكم به. وليس حكمُه بأحدِ القولين في الحكم حكمًا منه بأحدِ القولين في المُدرَك، ولو كان كذلك لامتنع الخلافُ بعد ذلك في الشاهد واليمين، لكون بعض الحكام حكَم به، لكنه لا يرتفع الخلافُ في هذه المداركِ أبدًا إِلَّا أن ينعقدَ إِجماعٌ في عصر من الأعصار على أحدِ القولين فيها. فظهر حينئذٍ أنَّ الحكم بالمُدْرَكِ المختلَفِ فيه ليس حكمًا بالمُدْرَك، بل بمقتضاه. ويُوضحهُ أن الحاكم لم يقصد الإِنشاء في نفسه إِلَّا في إِثرِ ذلك المُدرَك، لا في ذلك المُدرَك، بل القضاء في المدارك مُحال، لأنَّ النزاع فيها ليس من مصالح الدنيا بل من مصالح الآخرة (¬1). وتقريرُ قواعدِ الشريعة وأصولِ الفقه: كلُّهُ من هذا الباب، لم يَجعل الله تعالى لأحدٍ أن يَحكمَ بأحد القولين فيه ويُعيّنَه بالحكم (¬2)، بل إِنما يَجعَلُ له أن يُفتي بأحد القولين، والفُتْيا لا تَمنَعُ خصمَهُ أن يُفتي بما يراه أيضًا، بخلاف الحُكم يَمنَعُ خصمَه من مذهبه، ويُلجئهُ إِلى القول المحكوم به. وقولُهُ (¬3): (إِنَ الحاكم حكَمَ بغير مُدْرَك): ممنوعٌ، بل كلُّ مُدرَكٍ مختلفٍ فيه اختلافًا متقاربًا، كلا القولينِ في ذلك المُدرَك معتَبرٌ شرعًا عند ¬
مَنْ رآه مِن حاكمِ أو مُفْتٍ، فلا معنى لقوله: (حكَمَ بغير مُدرَك)، بل إِنما يصحُّ ذلك إِذا حكمَ بما هو في غاية الضعف كما تقدم (¬1)، أمَّا في المُدرَك المتقاربِ الخلاف فلا. ¬
السؤال الثامن عشر
السُّؤَالُ الثَّامِنُ عَشَرْ هل يُتصوَّرُ أن يَحكمُ الحاكمُ بحكمٍ مختلَفٍ فيه والمُدرَكُ مُجمَعٌ عليه، أم لا يُتصوَّرُ أن يَحكم بحكمٍ مختلفٍ فيه إِلَّا لِمُدركَينِ مختلِفَين متعارضَين لأنه المتصوَّر؟ وكيف يكون الحكمُ مختلفًا فيه والمُدرَكُ متفقٌ عليه؟ بل إِن اتفَقَا (¬1) على المُدرك اتفقا في الحكم. جَوَابُهُ نعَمْ يُتصوَّرُ أن يَحكم بحكمٍ مختلَفٍ فيه والمُدْرَكُ متفَق عليه، وأن يَحكم بحكمٍ متفَقٍ عليه والمُدرَكُ مختلَف فيه طردًا وعكسًا. لأنَّ المُدرَك إِن أُريدَ به ما يَعتمدُ عليه الحاكمُ من الحجاج كالبيِّنةِ ونحوها، دون أدِلَّةِ الفتاوى كالكتاب والسُّنَّة: يجوزُ أن يكون المُدرَكُ مجمَعًا عليه والحكمُ مختلفًا فيه، كما إِذا شَهِدَ عنده عَدْلانِ بالرضاع بين الرجل وامرأته بمَضَّةٍ واحدة، أو أنه علَّقَ طلاقَ امرأته قبل العقد عليها، فإِنه يَحكمُ بفَسْخِ النكاح وإِبطالِه. وهذا الحكمُ في الصورتين مختلَفٌ فيه، والحُجَّةُ وهي الشاهدان مُجمَعٌ عليها. وعكسُهُ تكون الحُجَّة مختلَفًا فيها والحكمُ متفق عليه نحوُ حكمِه بالشاهدِ واليمين في القِصاصِ في الجِراح، فإِنَّ القصاص في الجراح متفقٌ ¬
عليه، ولكنْ إِثباتُهُ بالشاهدِ واليمينِ أكثرُ العلماءِ على مَنْعه، وهو مشهورُ مذهبِ مالك - رَحِمَهُ اللهُ -. فقد تُصوِّرَ الأمرانِ في المُدرَكِ بمعنى الحُجَّة. وأما إن أُريد بالمُدرَكِ الدليلُ الذي هو مستند الفتاوى عند المجتهدين: فقد يكون الحكمُ مختلَفًا فيه والمُدرَكُ متفقًا عليه، ويقَعُ الخلافُ: إِمَّا لأنه دَلَّ عند الخصم على نقيضِ ما دل عليه عند الآخر، وإِمَّا لقوله بمُوجَبِه (¬1)، وإمَّا لإِعتقادِهِ نَسْخَه، أو أنه معارَضٌ بما لا يراه الآخَرُ مُعارِضًا له. كما يَحكمُ الحنفيُّ ببطلان وقفِ المنقول (¬2)، بناءً على قولِه تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} (¬3). والوقفُ عنده سائبة، مع أنَّ الكتاب العزيز متفَقٌ على كونه حُجَّة. ويحكمُ الشافعيُّ بصحةِ استمرار نكاحِ المُعَلِّق قبلَ الملك بناء على قوله - صلى الله عليه وسلم - "الطَّلاقُ لمن مَلَكَ السَّاق" (¬4). وبفَسْخِ البيع بناءً على خيارِ المجلس مع الإتفاقُ على الحديث فيه، ونظائرهُ كثيرة. ¬
وقد يكون الحكمُ متفقًا عليه والمدرَكُ مختلفًا فيه بأن يكون في الواقعةِ حديثان، كل واحد منهما صحيحُ عند أحدِ القائلَينِ بذلك الحكم، غيرُ صحيح عند الآخر، فيتفقانِ على الحكم بناء على الحديثين، ويختلفانِ في المُدرَك. فظهر أنه لا يَلْزَمُ من الإتفاق على المُدرَك الإتفاق على الحكم ولا بالعكس. ¬
السؤال التاسع عشر
السُّؤَالُ التَّاسِعُ عَشَرْ قولُ الفقهاء: إِذا حكَمَ الحاكمُ في مسائل الخلاف لا يُنقَض حُكمُه، هل يتناوَلُ ذلك المَدارِكَ المجتهَدَ فيها؟ وهل هي حُجَّة أم لا؟ وهل يُتصوَّرُ الحكمُ فيها أم لا؟ وهل هذه العبارةُ على إطلاقها أم يُستثنَى منها بعضُ المختلَفِ فيه؛ وإِذا استُثني منها بعضُ المختلَفِ فيه هل يُستثنَى معه المدارِكُ المختلَفُ فيها أم لا؟ جَوَابُهُ أنَّ هذه العبارة مخصوصة (¬1)، وقد نصَّ العلماء على أن حُكمَ الحاكم لا يَستقرُّ في أربعةِ مواضعَ ويُنقَضُ: إِذا وقع على خلاف الِإجماعِ، أو القواعدِ، أو النصِّ، أو القياس الجليّ (¬2). وهذه الثلاثة الأخيرة هي من مسائل الخلاف، وإِلأَ لم يكن إِلاًّ قسمٌ واحد، وهو المُجمَعُ عليه، فخرَجَ من إِطلاقهم بنصوصهم هذه الصُّورُ الثلاث. وأما المَدارِكُ المجتَهدُ في كونها حُجَّةً أم لا: فلا تندرجُ في عمومِ قولهم الذي قصدوه، لأنَ مقصودَهم الفروعُ التي يقعُ التنازُعُ فيها بين الناس لمصالح الدنيا. ¬
وأدِلَّةُ الشريعة وحِجاجُ الخصومةِ المختلَفُ فيها كالشاهدِ واليمينِ ونحوه: إنما وقَع النِّزاعُ فيه لأمر الآخرة، لا لمصلحةِ تعودُ على أحدِ المتنازِعَينِ في دنياه، بل النِّزاعُ فيها كالنزاع في العبادات. ومقصودُ كل واحد من المتنازِعَينِ ما يتقرَّرُ في قواعد الشريعة على المكلَّفين إِلى يوم القيامة، لا شيءٌ يَختصُّ به هو، فلا تندرجُ في قولِ الفقهاءِ هذه الصُّوَرُ أصلاً. واعلم أنَّ معنى قول العلماء: إِنَّ حُكمَ الحاكم يُنقَضُ إِذا خالف القواعدَ أو النصوصَ أو القياسَ الجلي: إِذا لم يعارِض القواعدَ أو القياسَ الجليَّ أو النصَّ ما يُقدَّمُ عليه، وإلاَّ فإذا حَكَم بعقدِ السَّلَم أو الِإجارة أو المساقاة، فقد حَكَم بما هو على خلاف القواعد الشرعية، لكنْ لِمُعارِضٍ راجح فلا جَرَمَ لا يُنقَض، وإِنما النقضُ، عند عدم المُعارِضِ الراجحِ فاعلم ذلك.
السؤال العشرون
السُّؤَالُ الْعِشْرُونْ هل المانعُ من نقضِ حكم الحاكم ما يقوله بعضُ الفقهاء: من أنَّ نَقْضَه يؤدّي إِلى بقاء الخصوماتِ؟ أو أَمرٌ آخر. جَوَابُهُ أنَّ المانع غيرُ ما ذكره بعضُ الفقهاء، وهي قاعدةٌ مقرَّرة في أصول الفقهِ وقواعدِ الشرع، وهي أنه إِذا تعارض الخاصُّ والعامّ قُدِّم الخاصّ على العامّ. وقد تقدَّم بَسْطُه في الفرق بين حُكمه بالمُجمَع عليه وبين حُكمه بالمختلَفِ فيه (¬1)، مع أنَّ كليهما لا يُنقَضُ إِجماعًا. وتخريجُ الأحكام على القواعد الأصوليَّة الكليَّة أولى من إِضافتها إلى المناسبات الجزئية، وهو دأبُ فُحولِ العلماء دون ضَعفَةِ الفقهاء. ¬
السؤال الحادي والعشرون
السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونْ هل مِن شَرْطِ حُكمِ الحاكم الذي لا يُنقَض، أن يكون في صُوَرِ النِّزاع، أم يكفي فيه أن يكون قابلاً للنَزاع والخِلاف، وإِن لم يقع فيه خلاف؟ جَوَابُهُ أنَّ وقوعَ الخلاف ليس شرطًا، بل إِذا كانت الصورةُ مسكوتًا عنها، وقد حَكمَ فيها الحاكمُ بما هي قابلة له: لا يُنقَض، وإِن حَكَم بالمسكوتِ عنه بما هو خلافُ القواعد: نُقِض، ولا فَرْقَ في عدمِ النقض بين المسكوتِ عنه وبين ما قد وَقَعَ فيه الخلاف.
السوال الثاني والعشرون
السُّوَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونْ هل يجبُ على الحاكم أن لا يَحكم إِلَّا بالراجح عنده؟ كما يجب على المجتهد (¬1) أن لا يُفتي إِلَّا بالراجح عنده؟ أَوْ لَهُ أن يَحكم بأحدِ القولين وإِن لم يكن راجحًا عنده (¬2)؟ جَوَابُهُ أنَّ الحاكم إِن كان مجتهِدًا فلا يجوز له أن يَحكم أو يُفتي إلَّا بالراجح عنده، وإِن كان مقلِّدًا جاز له أَنْ يُفتي بالمشهور في مذهبه، وأَنْ يَحكُمَ به وإِن لم يكن راجحًا عنده، مقلِّدًا في رجحانِ القول المحكوم به إِمامَهُ الذي يُقلِّدُه، كما يُقلِّدُه في الفُتْيا. وأما اتّباعُ الهوى في الحكم أَو الفُتْيَا فحرامٌ إِجماعًا. نعَمْ اختلف العلماء فيما إِذا تعارضت الأدلَّةُ عند المجتهدِ وتساوَتْ، وعجَزَ عن الترجيح هل يتساقطان أو يَختارُ واحدًا منهما يُفتي به؟ قولانِ للعلماء. فعلى القولِ بأنه يَختارُ أحدَهما يُفتي به: له أن يختار أحدَهما يَحكمُ به، مع أنه ليس أرجحَ عنده بطريقِ الأولى، لأنَ الفُتْيَا شَرْعٌ عام على ¬
المكلّفين إِلى قيام الساعة، والحكمُ يختصُّ بالوقائع الجزئية الخاصَّة فتجويزُ الاختيار في الشرائع العامَّة أولى أن يجوز في الأمور الجزئية الخاصَّة، وهذا مقتضى الفقهِ والقواعد الشرعية. ومن هذا التقرير يُتصوَّرُ الحكمُ بالراجح وغيرِ الراجح، وليس ذلك اتّباعًا للهوى، بل ذلك بعدَ بَذْلِ الجهدِ والعجزِ عن الترجيحِ وحصولِ التساوي، أمَّا الحكمُ أو الفُتيا بما هو مرجوحٌ فخلافُ الإِجماع (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
السؤال الثالث والعشرون
السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونْ إِذا قلتم: إِنَ حُكمَ الحاكم إِنشاءٌ في النفس، والنَّذْرُ أيضًا إِنشاءُ حُكمٍ لم يكن متقررًا فقد استويا في الإِنشاء وأنَّ كليهما يَتعلَّقُ بجُزْئيٍّ دون شَرْعٍ عامّ، فهل بينهما فَرْقٌ أو هما سَواء؟. جَوَابُهُ أنَّهما وإِن استويا في معنى الإِنشاء فبينهما فروق: أحدُها: أنَّ العُمدة الكبرى في النَّذرْ ونحوِه هو: اللفظ، فإِنه هو السبب الشرعي الناقلُ لذلك المندوبِ المنذورِ إِلى الوجوب، كما أنَّ سبَبَ حُكمِ الحاكم إِنما هو الحُجَّة، وحُكمُ الحاكم مستقلٌّ دون نطق والقولُ الواقعُ بعد ذلك إِنما هو إِخبارٌ بما حَكَم به، وأمْرٌ بالتحمُلِ عنه للشهادةِ في ذلك. وثانيها: أنَّ النَّذْرَ إِلزامٌ لمُنشئِه، والحكمَ إِلزامٌ للغير. وثالثُها: أنَّ حُكمَ الحاكم قد يكون إِطلاقًا وإِبطالاً وإِباحة، كما في الحكم بإِبطال الملك مِن الأراضي بعد ذهابِ الإِحياء عنها، ولا يتعيَّنُ حُكمُ الحاكم للإِلزام، بل قد يكون إِلزامًا وقد لا يكون إِلزامًا، وأمَّا النَّذْرُ فلا يقع إِلَّا إِلزامًا. ورابُعها: أن الحُكمَ قد يكونُ مقصودُهُ التحريم كفَسْخِه للنكاح، فإن مقصوده التحريمُ على الزوج، وأمَّا النَّذْرُ فلا يكون مقصودُهُ التحريم بل الوجوب.
فإِن قيل: مَنَ نَذَر تَرْكَ مكروهٍ فقد حرَّمه على نفسه، فقد تعلَّق النَّذْرُ بالتحريم؟ قلنا: المقصودُ الوجوب، لأنَّ تَرْكَ المكروه مندوب، فنَقَلَ النَّذْرُ ذلك المندوبَ إلى الوجوب.
السؤال الرابع والعشرون
السُّؤَالُ الرَّابِع وَالْعِشْرُونْ المجتهِدُ إِذا كان حاكمًا فهو يُفتي باجتهادِه، ويَحكمُ باجتهادِه. فالإِخبارانِ صادرانِ عن اجتهاد، فما الفرقُ بينهما لا سيَّما في واقعة لم تتقدَّمْ فيها فُتْيَا ولاحُكم؟ وهو يُخبِرُ في الفُتيا والحُكم عما لَزِمَ المكلَّفَ في تلك الواقعة، ولا يُفرِّقُ بأنَّ الحُكمَ لا يُنقضُ والفُتْيَا قابلة للمخالفة، فإِنَّ امتناع النقض فَرْعُ معرفةِ كونهِ حُكمًا؟ جَوَابُهُ أنَّ الفرق بين الحالتين أنه في الفُتيا يُخبِرُ عن مقتضَى الدليلِ الراجحِ عنده، فهو كالمترجِمِ عن اللَّهِ تعالى فيما وجَدَهُ في الأدِلَّةِ، كتَرْجُمانِ الحاكمِ يُخبرُ الناسَ بما يجدُه في كلام الحاكم أو خطِّه، وهو في الحكم يُنشئُ إِلزامًا أو إِطلاقًا للمحكومِ عليه، بحسبِ ما يَظهر له من الدليلِ الراجحِ والسبَبِ الواقع في تلك القضيَّة الواقعة. فهو: إِذا أخبَرَ الناس أَخبرَهُم بما حكمَ به هو، لأنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - فوَّض إِليه ذلك، بما وَرِثَهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما في قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬1). وإِذا أخبَرَ الناسَ بالفُتيا أخبرَهُم عن حكمِ الله الذي فهِمَهُ عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - في أدلَّة الشريعة، فهو في مَقام الحُكمِ كنائب الحاكمِ يَحكمُ ¬
بنفسه، ويُنشئُ الإِلزامَ والإِطلاقَ بحسبِ ما يقعُ له من الأسبابِ والحِجاج، لأنَّ مُستنِيبَه جَعَل له ذلك، بخلاف الترجمان الذي جُعِلَ مُتَبِعًا لا مُنشِئًا. وكما أنَّ نائب الحاكم يُخبِرُ عن إِلزام نفسه، كذلك الحاكمُ المجتهدُ في الشريعة يُخبِرُ عن إِلزام نفسه، لأنه نائبُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - في أرضه على خلقه، وفَوَّض إِليه الإِنشاءَ للأحكام بين الخلق، ويَصيرُ ما أنشأه كنصٍّ خاصًّ واردٍ الآن مِن قِبَل الله - عَزَّ وَجَلَّ - في هذهِ الواقعة، ولذلك لا يُنقَض، لأنَّ الخاصَّ مقدَّم على العام، كما تقدَّمَ بيانُه وبَسْطُه (¬1). فهذا هو الفرقُ بين حُكم الحاكم باجتهاده وبين فُتياه باجتهاده. ¬
السؤال الخامس والعشرون
السُّؤَالُ الخَامِسِ وَالْعِشْرُونْ ما الفرقُ بين تصرُّفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالفُتيا والتبليغ، وبين تصرُّفِه بالقضاء، وبين تصرُّفِه بالِإمامة؟ وهل آثارُ هذه التصرُّفات مختلِفةٌ في الشريعة والأحكامِ أو الجميعُ سواءٌ في ذلك؟ وهل بين الرسالة وهذه الأمور الثلاثةِ فَرْقٌ أو الرسالةُ عَيْن الفُتيا؟ وإِذا قلتم: إِنها عَيْن الفُتيا أو غيرُها، فهل النُبوَّة كذلك أو بينها وبين الرسالة فَرْقٌ في ذلك؟ فهذه مقامات جليلة، وحقائقُ عظيمة شريفة، يَتعيَّن بيانُها وكشفُها والعنايةُ بها، فإِنَّ العلم يَشْرُفُ بشرف المعلوم (¬1). جَوَابُهُ أنَّ تصرُّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفُتْيا هو إِخبارُه عن الله تعالى بما يَجِدُهُ في الأدلَّةِ من حُكم الله تبارك تعالى، كما قلناه في غيره - صلى الله عليه وسلم - من المُفتين. وتصرُّفُهُ - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ هو مقتضى الرسالة، والرسالَةُ هي أَمْرُ الله تعالى له بذلك التبليغ. فهو - صلى الله عليه وسلم - يَنْقُلُ عن الحقّ للخلقِ في مقامِ الرسالةِ: ما وَصَل إِليه عن الله تعالى. فهو في هذا المقام مبلِّغٌ وناقلٌ عن الله تعالى. ووَرِثَ عنه - صلى الله عليه وسلم - هذا المقامَ المحدِّثون رُواةُ الأحاديثِ النبويةِ وحَمَلَةُ الكتابِ العزيز لتعليمه ¬
للناس، كما وَرِثَ المفتي عنه - صلى الله عليه وسلم - الفُتْيا. وكما ظهَرَ الفرقُ لنا بين المفتي والراوي، فكذلك يكون الفرقُ بين تبليغه - صلى الله عليه وسلم - عن رَبِّه وبين فتياه في الدين. والفرقُ هو الفرقُ بعينه، فلا يَلْزَمُ من الفُتيا: الروايةُ، ولا مِن الرواية: الفُتيا، من حيث هما روايةٌ وفُتيا. وأما تصرُّفُه - صلى الله عليه وسلم - بالحُكم فهو مغايرٌ للرسالة والفُتيا. لأنَّ الفُتيا والرسالة تبليغٌ محضٌ واتِّباعٌ صِرْف، والحكمُ إِنشاءٌ وإِلزامٌ من قِبلَهِ - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما يَسْنَح من الأسباب والحِجَاج، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنكم تختصمون إِلي، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعض؟ فمن قَضَيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذْه إِنما أقتطع له قطعةً من النار! " (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دَلَّ ذلك على أن القضاء يَتْبَعُ الحِجاجَ وقوَّة اللَّحَنِ بها، فهو - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام مُنشِئ، وفي الفُتيا والرسالةِ مُتَّبِعٌ مُبلِّغٌ، وهو في الحكم أيضاً مُتبعٌ لأمرِ الله تعالى له بأنْ يُنشِئَ الأحكام على وَفْق الحِجَاجِ والأسباب، ¬
لا أنه مُتَّبعٌ في نَقْلِ ذلك الحكمِ عن الله تعالى، لأنَّ ما فُوِّضَ إِليه من الله تعالى لا يكون منقولاً عن الله تعالى. ثم الفَرْقُ من وجه آخر بين الحكم والفُتيا: أن الفُتيا تَقْبَلُ النَّسْخ، والحكمُ لا يقبلُهُ، بل يقبلُ النقضَ عند ظهور بطلان ما رتِّبَ عليه الحكم، والفُتيا لا تَقْبلُه، فصار مِن خصائص الحكم: النقضُ، ومن خصائص الفُتيا: النَّسخُ. وهذا في فُتياه - عليه السلام - خاصّةً ومَنْ كان في زمانه. وأمّا الفتيا (¬1) بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فلا تَقبل النسخ لتقرُّر الشريعة. فهذا أيضاً فَرقٌ حسن بين القضاء والفُتيا من حيث الجملةُ في جنسيهما، غير أنه لا يتَقرُّرُ في كل فردٍ من أفراد الفُتيا، ومتى ثَبَت الفرقُ بين الجنسين حصَلَ الفرقُ بين الحقيقتين فلا لَبْس. وأما الرِّسَالةُ من حيث هي رسالة فقد لا تَقبلُ النسخ، بأن تكون خبراً صِرْفاً. فإنه تقبل التخصيص دون النسخ على الصحيح من أقوال العلماء، وقد تَقبَلُه إِن كانَتْ متضمِّنةً لحكم شرعي. فصارت الرسالةُ أعمَّ من الفُتيا ومُبايِنةً لها. فظهرت الفروق بين الرسالة والفتيا والحكم. وأما النبوَّة فكثيرٌ من الناس مَنْ يَعتقدُ أنها عبارةٌ عن مجرَّدِ الوحي من الله تعالى للنبي، وليس كذلك، بل قد يَحصُلُ الوحيُ من الله تعالى لبعض الخلق من غير نبوّة، كما كان الوحيُ يأتي مريمَ ابنةَ عمران رضي الله عنها في قصه عيسى - عليه السلام -، وقال لها جبريل - عليه السلام -: {إِنما أنا رَسُولُ رَبّك ليَهَبَ (¬2) لكِ غُلاماً زكيَّاً} (¬3). وقال في موضع آخر: {إِن الله ¬
يُبَشركِ} (¬1). مع أنَّ مريم - رضي الله عنها - ليسَتْ نبيَّةً على الصحيح. وفي"مُسْلم": "إن الله تعالى بَعَثَ مَلَكاً لرجُلٍ على مَدْرَجَتِه، وكان خَرَج لزيارة أخٍ له في الله تعالى، وقال له: إنَ الله تعالى يُعْلِمُك أنه يُحِبُّك لحبّك لأخيك في الله تعالي"الحديث بطوله (¬2)، وليس ذلك نُبوَّة. ولو بَعَثَ الله تعالى لأحدِنا مَلَكاً يُخبره بمذهب مالك في واقعة معيَّنةٍ، أو بضالةٍ ذهبَتْ له: لم يكن ذلك نُبوة، وإنما النبوة - كما قاله العلماء الربانيون - أن يُوحِي الله تعالى لبعضِ خَلْقه بحُكمٍ أُنْشئ لمسألةٍ، يختصُ به، كما أوحى الله تعالى لنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (¬3). فهذا تكليفٌ لمحمدٍ يَختصُّ به في هذا الوقت. قال العلماء: فهذه نبوَّة وليسَتْ رسالة، فلمَّا أنزل الله تعالى عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} (¬4). كان هذا رسالة، لأنه تكليف يتعلَّقُ بغير الموحَى إليه، فتقدَّمَتْ نبوَّةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على رسالتِه بمُدَّة، ولذلك قال العلماء: كلُّ رسولٍ نبي، وليس كلُّ ¬
نبيّ رسولاً، لأنَّ كلَّ رسولِ كُلِّفَ تكليفاً خاصاً به وهو تبليغُ ما أُوحي إِليه. فظهَرَ الفرقُ بين النُّبوَّة وبين الرسالة والفتيا والحكم. وأما تصرُّفه - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامةِ فهو وصفٌ زائد على النبوَّةِ والرسالة والفُتيا والقضاءِ، لأنَ الإِمام هو الذي فُوّضَتْ إِليه السياسةُ العامةُ في الخلائق، وضَبْطُ مَعاقِدِ المصالح، ودَرْءُ المفاسد، وقَمْعُ الجُنَاة، وقَتْلُ الطُّغَاة، وتوطينُ العِبَاد في البلاد، إِلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس. وهذا ليس داخلاً في مفهوم الفُتيا ولا الحُكمِ ولا الرسالةِ ولا النبوَّة، لتحققِ الفُتيا بمجرد الِإخبار عن حُكمِ الله تعالى بمقتضى الأدلة، وتحقُّقِ الحُكم بالتصدّي لفَصْل الخصومات دون السياسة العامَّة، لا سيما الحاكمُ الذي لا قُدْرة له على التنفيذ كالحاكمِ الضعيفِ القُدرة على الملوك الجبابرة، بل يُنشيءُ في نفسه الإِلزام على ذلك المَلِك العظيم، ولا يَخْطُرُ له السعيُ في تنفيذه، لتعذُّر ذلك عليه. بل الحاكُمِ من حيث هو حاكمٌ: ليس له إلَّا الإنشاء، وأما قُوَّةُ التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً، فقد يُفوضُ إِليه التنفيذ، وقد لا يَندرجُ في وِلايته (¬1)، فصارَتْ السَّلْطَنَةُ العامَّة التي هي حقيقةُ الإمامةِ مباينةً للحُكم من حيث هو حُكم. أمَّا إِمامٌ لم تُفوَّض إليه السياسةُ العامة فغيرُ معقولٍ إِلَّا على سبيل إِطلاقِ الِإمامةِ عليه مجازاً، والكلامُ إِنما هو في الحقائق. وأمَّا الرسالَةُ فليس يَدْخُل فيها إِلَّا مجردُ التبليغِ عن الله تعالى، وهذا ¬
المعنى لا يَستلزم أنه فُوِّضَ إِليه السياسةُ العامة، فكم من رُسُلٍ للَّهِ تعالى على وجهِ الدهرِ قد بُعثوا بالرسائل الربانيَّة، ولم يُطلَب منهم غيرُ التبليغ لِإقامة الحُجَّةِ على الخَلْق، من غير أن يُؤمَروا بالنظر في المصالح العامة. وإِذا ظهر الفرقُ بين الِإمامة والرسالةِ فأولَى أن يَظهر بينها وبين النبوَّة، لأنَّ النبوَّة خاصةٌ بالموحَى إليه لا تعلقَ لها بالغير، فقد ظهَر افتراقُ هذه الحقائق بخصائصها (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأما آثارُ هذه الحقائق في الشريعة فمُخْتلفة: فما فَعَله - عليه السلام - بطريق الإِمامةِ كقسمةِ الغنائم، وتفريقِ أموال بيت المال على المصالح، وإقامةِ الحدود، وترتيبِ الجيوش، وقتالِ البُغَاة، وتوزيع الإِقطاعات في القُرى والمعادن، ونحو ذلك: فلا يجوز لأحدٍ الإِقدامُ عليه إلَّا باذنِ إِمامِ الوقت الحاضر (¬1)، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إِنما فَعَله بطريقِ الإمامة، وما استُبِيحَ إِلَّا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرراً لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2). وما فَعَله - عليه الصلاة والسلام - بطريق الحكم كالتمليكِ بالشفعة، وفسوخِ الأنكحةِ والعقود، والتطليقِ بالإِعسار عند تعذُرِ الإِنفاقِ والإِيلاء والفَيئة (¬3). ونحو ذلك: فلا يجوز لأحدِ أنْ يقدِم عليه إِلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر (¬4)، اقتداءَ به - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - عليه السلام - لم تقرر تلك الأمور إلا بالحكم، فتكون أمَّتُه بعدَهُ - صلى الله عليه وسلم - كذلك. وأما تصرُّفُهُ - عليه الصلاة والسلام - بالفُتيا والرسالةِ والتبليغِ، فذلك شَرْعٌ يَتقرّرُ على الخلائق إلى يوم الدين، يَلزمُنا أن نَتْبَع كلَّ حُكمِ مما بلَّغه إِلينا عن ربِّه بسببه، من غير اعتبار حُكمِ حاكمٍ ولا إِذن إِمام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغٌ لنا ارتباطَ ذلك الحكمِ بذلك السبب، وخَلَّى بين الخلائق وبين ربِّهِم. ¬
المسألة الأولى
ولم يكن مُنشِئاً لحُكمٍ مِنْ قِبَلِه ولا مُرتَّباً له برأيه على حسب ما اقتضته المصلحة، بل لم يَفعل إِلَّا مجرَّدَ التبليغ عن ربَّه كالصلواتِ والزكواتِ وأنواعِ العبادات وتحصيلِ الأملاك بالعقودِ من البِياعاتِ والهِباتِ وغيرِ ذلك من أنواع التصرُّفات: لكلّ أحَدٍ أن يُباشره ويُحصل سبَبَهُ، ويَترتَبُ له حُكمُه من غير احتياجٍ إِلى حاكم يُنشئُ حكماً، أو إِمامٍ يُجدّدُ إِذناً. فإِذا تقررَ الفرقُ بين آثار تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامةِ والقضاءِ والفُتيا: فاعلم أنَّ تصرُّفَه - عليه الصلاة والسلام - ينقسمُ إِلى أربعة أقسام: قسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرُّفٌ بالِإمامة، كالإِقطاع، وإِقامةِ الحدود، وإِرسالِ الجيوش، ونحوِها. وقسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء، كإِلزام أداء الديون، وتسليمِ السِّلَع، ونقدِ الأثمان، وفسخِ الأنكحة، ونحوِ ذلك. وقسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرفٌ بالفتيا، كإِبلاع الصلواتِ، وإِقامتِها، وإقامةِ المناسك، ونحوِها. وقسمٌ وقع منه - صلى الله عليه وسلم - مُتردِّداً بين هذه الأقسام، اختَلَف العلماءُ فيه على أيها يُحمَلُ؟ وفيه مسائل: المسألة الأولى قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحيا أرضاً مَيِّتةً فهي له" (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال أبو حنيفة: هذا منه - صلى الله عليه وسلم - تصرُّفٌ بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يُحييَ أرضاً إِلا بإذنِ الإمام، لأن فيه تمليكاً، فأشبَهَ الِإقطاعات، والِإقطاعُ يَتوقَّفُ على إِذن الإِمام، فكذلك الإِحياء. وقال مالك والشافعي: هذا مِن تصرُّفِهِ - صلى الله عليه وسلم - بالفُتيا، لأنه الغالبُ من تصرُّفاته - صلى الله عليه وسلم - فإِنَّ عامَّة تصرفاته التبليغُ، فيُحمَلُ عليه، تغليباً للغالبِ الذي هو وضْعُ الرسل - عليهم السلام -. فعلى هذا: لا يَتوقَفُ الِإحياءُ على إِذن الإِمام، لأنها فُتيا بالِإباحة كالاحتطاب والإحتشاش، بجامعِ تحصيلِ الأملاك بالأسباب الفعلية. وأمَّا قولُ مالك: ما قَرُبَ من العُمْران لا بُدُّ فيه من إِذن الإِمام، فليس لأنه تصرُّف بطريق الِإمامة، بل لِقاعدةٍ أخرى، وهي أنَ إِحياءَ ما قَرُبَ يَحتاجُ إِلى النظر في تحريرِ حَرِيم البَلَد، فهو كتحرير الإعسار في فَسْخ النكاح، وكلُّ ما يَحتاجُ لنظرٍ وتحريرٍ فلا بُدَّ فيه من الحُكَّام. ¬
المسألة الثانية
المسألة الثانية قولُهُ - عليه السلام - لهندِ بنتِ عُتْبَة لمَّا شكَتْ إِليه أنَ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ، لا يُعطيها ووَلَدَها ما يَكفيها، قال لها - عليه السلام -: "خُذي ما يكفيكِ وولَدَكِ بالمعروف" (¬1). قال جماعة من العلماء: هذا تصرُّفٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بالفُتيا، لأنه غالبُ أحواله - عليه الصلاة والسلام -. فعلى هذا: مَنْ ظَفِرَ بجنسِ حَقِّهِ، أو بغير جنسه مع تعذُّر أخذِ الحق ممن هو عليه، جازَ له أخذُه حتى يَستوفي حقَّه. ومشهورُ مذهب مالك - وقالَهُ جماعة من العلماء - أنه لا يأخُذُ جِنْسَ حَقِّهِ إذا ظَفِرَ به وإِن تعذَّرَ عليه أخْذُ حقَّهِ ممن هو عليه (¬2). ¬
واختُلِفَ في المُدْرَكِ للمَنعْ: هل هو كونه - صلى الله عليه وسلم - تَصرَّفَ في قضيةِ هندٍ بالقضاءِ فلا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يأخذ شيئأ من ذلك إلا بحُكم حاكم؟ وهذه الطائفةُ من العلماء جَعَلَتْ هذه القضيةَ أصلاً في القضاء على الغائب. ومنهم مَنْ جَعَلَها أصلاً في القضاء بالعِلْم، لأنها لم تُقِم بيِّنةً على دعواها، حكاه الخطَّابيُّ وغيرُه (¬1). وقيل: القضيَّهُ ليس فيها إلا الفُتيا، لأنَ أبا سفيان كان حاضراً في البلد، والقضاءُ لا يتأتَّى على حاضرٍ في البلدِ قبلَ إعلامه، بل هذا تصرُّفٌ ¬
بالفُتيا (¬1) وعارَضَ حديثَ قضيَّةِ هند قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أدِّ الأمانةَ إِلى مَن ائتَمنك، ولا تَخُنْ من خانك" (¬2). فاتفق الفريقان على الحُكم، واختلفا في المُدْرَك. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المسألة الثالثة
المسألة الثالثة قولُهُ - عليه الصلاة والسلام -: "مَنْ قتَلَ قتيلاً فله سَلَبُه" (¬1) ¬
قال مالك: هذا تصرُّف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحَدٍ أن يَختصَّ بسَلَب إلَّا بإِذن الإِمام في ذلك قَبْلَ الحرب، كما اتَّفق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال الشافعي: هذا تصرُّفٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الفُتيا، فيَستحق القاتلُ السَّلَبَ بغير إذن الإمام، لأنَّ هذا من الأحكام التي تَتْبَعُ ¬
أسبابَها كسائر الفتاوى. واحتَجَّ على ذلك بالقاعدةِ المتقدمة (¬1)، وهي أنَّ الغالب على تصرُّفه - صلى الله عليه وسلم - الفُتيا، لأنَّ شأنَهُ الرسالةُ والتبليغ. وأمَّا مالكٌ: فخالَفَ أصلَهُ في القاعدة، وجعَلَهُ من باب التصرُّف بالإِمامة، بخلاف المسألتين المتقدمتين، وسببُه أمورٌ: أحدُها: قولُهُ تعالى: {واعلَمُوا أنَّما غَنِمتُمِ من شيءٍ فأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} (¬2). فالآية تقتضي أنَّ السَّلَبَ فيه الخُمُسُ لله - عَزَّ وَجَلَّ -، وبقيتُهُ للغانمين. والآيةُ متواترة، والحديثُ آحاد، والمتواترُ مقدَّم على الآحاد (¬3). وثانيها: أنَّ إِباحةَ هذا تُفضِي إِلى فسادِ النيَّات، وأن يَحمِلَ الِإنسانُ بنفسه على قِرْنهِ من الكُفِّارِ لما يَرى عليه من السَّلَب، فربما قَتَله الكافرُ وهو غيرُ مُخْلِصٍ في قتاله، فيَدخُلُ النار! فتذهَبُ النفسُ والدِّين! وهذه مَزَلَّة عظيمة تقتضِي أن يُترَك لأجلها الحديث (¬4)، لأنَّ الآحَادَ قد تُترَكُ للقواعد، لا سيَّما والحديثُ لم يُتْرَك، وإِنما حَمَلناه على حالةٍ وهو أن يُجعَل من باب ¬
التصرُّف بالإِمامة، فإِذا قاله الإِمام صَحّ. وثالثها: الاستدلالُ على صَرْفِه للتصرُّف باللإمامة. وذلك أنَّ هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - يَتبادَرُ للذهن منه أنه إِنما قاله - صلى الله عليه وسلم - لأنَّ تللق الحالةَ كانَتْ تقتضي ذلك ترغيباً في القتال. فلذلك نقول: متى رأى الإِمامُ ذلك مصلحةَ قاله، ومتى لا تكون المصلحةُ تقتضي ذلك لا يقولُه. ولا نَعني بكونه تصرُّفاَ بالإِمامة إلا هذا القدْر. فهذه الوجوهُ هي المُوجِبَةُ لمخالفةِ مالكِ أصلَهُ وفي حَمْل (¬1) تصرُّفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على الفُتيا حتى يَثْبُت غيرُها، لأنها الغالب. ونظائرُ هذه المسألة كثيرٌ في الشريعة، فتَفَقدْه تجده وتجد فيه عِلماً كثيراً ومُدْرَكاً حسناً للمجتهدين. تنبيه لا يتَوهم الفقيهُ أنَّ مِن هذه المسائلِ المختَلَفِ فيها: ما وقع بين عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - في سبايا بني حَنِيفة، فإِنَّ الصديق - رضي الله عنه - أباحَهُنَ سَبْياً، ثم لمَّا وَلِيَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - أمَرَ برَدِّهن لأهلهنّ، ولو كان الصديقُ - رضي الله عنه - حَكَم باسترقاقِ بني حنيفة صاروا مِلكاً للمسلمين، فلا يجوزُ لعمر - رضي الله عنه - إِتلافُهُ عليهم. بل كان ذلك من الصديق - رضي الله عنه - على سبيل الفتوى، لا جَرَم جاز لعمر - رضي الله عنه - مخالفتُه، لأنها مسألةُ اجتهادِ لم يَحْصُل فيها ¬
إِجماع، ولم يتَّصِل بها حُكم، فاعلم ذلك فإِنَّ كثيراً من الفقهاء يَستشكلُ إطلاقَ عمر - رضي الله عنه - لبني حنيفة مع أنَ الصديق استرقهم. ولولا تقريرُ هذه القواعد لعَسُرَ في ظاهرِ الحال فَهْمُ ذلك، فإِنَّ المتبادِرَ إلى الفَهْم أنه مما حَكَمَ به الصديق - رضي الله عنه -.
السؤال السادس والعشرون
السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونْ إذا قلتم: إنَّ حُكم الحاكم لا يُنقَض، فهل معناه أنَّ الحاكم لا يَنْقُضُه وللمفتي أنَّ يُفتي بما يخالفه كما كان قَبْل الحكم، أو تَبْطُلُ الفُتيا بمخالفته وتصيرُ مسألةَ اتفاقٍ بعد الحكم؟ فإن قلتم: تَبْطُل الفُتْيا أيضاً مع الحكم، فيُشكِلُ ذلك بما قاله صاحبُ "الجواهر" (¬1) في قوله في كتاب الأقضية في نقض الأحكام فيما يُنقَضُ منها، قال: "الفَرْعُ الرابعُ أنَّ القضاء وإن لم يُنْقَض فلا يَتغيَّرُ به الحكمُ الباطن، بل هو على المكلَّف على ما كان قبلَ قضاءِ القاضي، وإِنما القضاءُ إِظهارٌ لحُكم الشرع لا اختراعٌ له، فلا يَحِل للمالكي شُفعةُ الجار إِذا قَضَى له بها الحنفي، ولا يَحِلُّ لمن أقام شهودَ زُور على نكاح امرأة فحكمَ له القاضي - لإعتقادِه عدالتَهم - بنكاحِها وإِباحةِ وطئها: أن يطأها، ولا أن يَبْقَى على نكاحها". ¬
هذا نصُه في "الجواهر". ومع هذا النص كيف يقولون: إِن الفُتيا تَبْطُل بحكم الحاكم؟ وهو يقول: الحكُم في الباطن على المكلَّف على ما كان عبيه، وإِنَّ المالكيَّ إِذا حَكَم له الحنفيُّ بشفعة الجار لا يجوزُ له أخذُها، فلو كانت الفُتيا تَبْطُلُ بالحكم وتصيرُ المسألةُ إِجماعيةً لجاز للمالكي أخْذُ شفعةِ الجار، ولا سبيلَ حينئذٍ إِلى القول بتغيير الفتاوى لقضاء الحكام بخلافها؟ جَوَابُهُ اعلم أنَّ جماعةً من أعيان المالكية اعتقدوا بسبب هذا الفرع، أنَّ حكم الحاكم في مسائل الخلاف لا يُغَيرُ الفتاوى، فإِذا حَكَم فيها بالحِلِّ مثلاً بقي المُفتِي بالتحريم يُفتي به بعد ذلك. فالقائلُ: إِنَّ وَقْفَ المُشاع لا يجوز، أو إِنَّ الوقفَ لا يجوز، إِذا حكم حاكمٌ بالجوازِ والنفوذِ واللزومِ بَقي للآخرَ أن يُفتي بجواز بيعِ ذلك الموقوف، والممتنعُ النقضُ دون الفُتيا. وكذلك إِذا قال: إِن تزوَّجتُكِ فأنتِ طالق، فتزوجَها وحكمَ حاكمٌ بصحةِ العقد وبقاءِ النكاح وعدَمِ لزوم الطلاق: إِنَّ لِمخالِفه أن يُفتي بعد ذلك أنها حرام عليه. وهذا أعتقدُه خلافَ الإِجماع، ولم أجد هذا النقلَ الذي في "الجواهر" لغيره، مع أني بذلتُ جهدي في تتبُّعِ المصنَّفات. والظاهرُ أنَّ عبارته - رضي الله عنه - وقَعَ فيها توسُّعٌ، ومقصودُهُ إحدى مسألتين في المذهب: إِحداهما: أنَّ الحكم إِذا لم يصادف سبَبه الشرعي فإِنه لا يُغَيِّرُ الفُتيا، كالحكمِ بالطلاقِ على من لم يُطلِّق، إِمَّا لخطأ البيِّنة وإِما لتعمُّدها الزُّور. وقد ذكَرَها في "الجواهر" في عين الفرع كما تَقدَّم الآن نقلُه، أو بالقِصاصِ أو غيرِه مع انتفاء سببه، فإِنَّ الفتاوى عندنا على ما كانت عليه قبلَ الحكم خلافاً لأبي حنيفة.
والمسألة الثانية: ما هو على خلافِ القواعد أو النصوص، كما قال ابنُ يونس (¬1): قال عبدُ الملك (¬2): معنى قولِ مالكِ: "لا يُنقَضُ قضاءُ القاضي": إِذا لم يُخالِف السُّنَّة، أما إِذا خالَفَها نُقِضَ: كاستسعاءِ العبد بعِتْقِ بعضه، فيقضِي باستسعائه فيُنْقَضُ ويُرَدُّ له ما أدَّى، ويَبقى العبدُ مُعتَقاً بعضُه. وكالشُّفْعَةِ للجار أو بعدَ القسمة، أو الحكمِ بشهادةِ النصراني، أو ميراثِ العمَّة أو الخالة أو المَوْلى الأسفَل، وكل ما هو على خلاف عمل أهل المدينة ولم يقل به إِلَّا الشذوذُ من العلماء، أو طلَّقها البتة فرآها الحاكمُ واحدةً وتزوَّجها الذي أبتَّها فلغيره التفريق. ¬
فهذه نحوُ عَشْر مسائل نقَلها ابنُ يونس، وإِنَّ الفتاوى تتقى فيها، ويُنقَضُ الحكمُ (¬1). فيَبقى قولُ صاحبِ "الجواهر": "إِنا إِذا قلنا: لا يُنْقَض الحكمُ لا يأخذ المالكيُّ شُفعة الجار". مع أنَّ ابن يونس ما نقَلَها إِلَّا في أنَّ الحكم يُنقَض، فبَيْنَ النقلينِ تنافٍ كما ترى. فإِن كان مرادُ صاحب "الجواهر" هاتين المسألتين فهو صحيح، غير أن عبارتَه وتفريعَه على عدمِ نقضِ الحكم يأبى ذلك، مع أنه لم يُمثّل إلَّا بشُفعةِ الجار ومَنْ طُلِّقَ عليه بشهادة الزُّور. وكونُهُ لم يُمثل إِلَّا بالمسألتين يُشعِرُ بأنه لم يُرد إِلَّا إِياهما، وتفريعُهُ على عدم النقض في الحكم يأبى ذلك. فهذا اضطراب لم يوجد لغيره، مع أنَّ نُقولَ المذهب تأباه، وذلك في مسائل: إِحداها: أنَّ الساعي إِذا أخَذَ شاة من أربعين شاة لأربعين مالكاَ، مقلِّداً لمذهبِ الشافعي، قال الأصحاب بتوزيع الشاة على الأربعين مالكاً، وأفتَوْا قبل أخْذِ الساعي لها أنَها - إِنْ أخَذَها غيرَ متأوِّلٍ ولا حاكمٍ - مَظْلَمة (¬2)، ولا تُوزَّع، وتَختصُّ بمن أُخِذَتْ منه. فقد تغثرتْ فُتياهم باعتبارِ مقتضى مذهبهم، وباعتبارِ طرَيَانِ الحكم (¬3)، فدَلَّ ذلك على أنَّ حُكم الحاكم يرفعُ الفتاوى، وتصيرِ المسألةُ كالمجمَعِ عليها بسبب اتصالِ حكمِ الحاكم بها. وثانيها: في "المدوَّنة": إذا كان لأحدِهما أحَدَ عَشَر، وللآخَرِ مئةٌ ¬
وعشرة، قال صاحبُ "الطِّرَاز" (¬1) وغيرُه: لا شيء على صاحبِ الأحَدَ عَشَر إِلَّا أن يأخذها الساعي حاكماً بمذهب من يقلدُه في ذلك فتتوزَّع على الجميع (¬2). وثالثُها: قال سَنَدٌ (¬3) - في صلاة الجمعة -: إِذا نَصَب السُّلطانُ فيها إِماماً مِن قِبَلِه لا تَصحُّ إِلَّا من نائبِ السلطان، لأنَّ افتقارَ إِقامة الجمعة إِلى إِذن السلطان مسألَةُ خلاف، فإِذا اتَصَل بها حكمُ حاكم لم تَصح إِلَّا بنائبِ السلطان. وهذه كلُّها فتاوى تغئرتْ بسبب حكم الحاكم. ¬
ورابعها: قالوا في تخالُفِ المتبايعَيْنِ (¬1): هل يقتضي الفسخَ أو حتى يَحكمَ به الحاكم؟ قالوا (¬2): ويُبْنَى على الخلاف هل لأحدهما أن يُمضي العقد بما قال الآخَرُ قَبْلَ الحكم أم لا؟ فقد تغيَّرت الفُتيا بجواز إِمضاء العقد بما قال الآخر بسبب الحكم. وخامسها: في "المدوَّنة ": أنَّ المُعتِق إِذا كان مُعسِراً ثم طرأ اليسارُ بعدَه قُوِّمَ عليه، إِلَّا أن يَتقدَّم حُكمٌ بسقوط التقويم عليه، فلا يَلزمه تقويم. فقد أَفتى مالك في الكتاب بالتقويم، ثم أَفتى بعدمه لتقدُّمِ الحكم، فقد غيَّرَ الحُكمُ الفتيا. وسادسها: قال مالك في "المدوَّنة" في العتق الأوَّل إِذا رَدَّ الغرماءُ عِتقَ المعسِر: ليس لهم ولا له بيعُ العبيد المعتَقين حتى يُرفَع للإِمام، فإِن فَعَل أو فَعَلوا ثم رُفعَ للإِمام بعد أن أيسر: رَدَّ البيعَ ونَفَذَ العتقُ لحدوث اليُسر، فإِن باعهم الإِمام ثم اشتراهم المعتِقُ بعد يُسرِه كانوا له أرقَّاء (¬3). ¬
فتغيَّرت الفُتْيا ببيعِ الحاكم لأنه مُستلزِمٌ للحكم، وبطَلَ العتقُ، وكانت الفُتيا في بيعِ الغرماء وبيعِ المعتق أن البيع يَبطل باليسار، ويَنْفُذُ العتق، وفي الصُّورتين بَيْع، وفي الصورتين تعلُقُ حق الغرماء، وفي الصُّورتين طَرَيانُ اليُسرِ بعدَ العُسر، ولا فارقَ في تغيُّر الفُتيا إِلَّا حكمُ الحاكم. وسابعها: قال مالك: إِن خُرِصَتْ الثمارُ فنَقَصت لم يُعتبَر النقصُ، لأنَّ الخارص حاكم، ولو لم تُخرَص الثمار وكانت عند وقت الوجوب أقلُّ من النصاب: لم تجب الزكاة، وهاهنا هي في وقت الوجوب أقلُّ من النصاب، وقد أفتى بوجوب الزكاة لأجلِ حُكم الحاكم. فقد تغيَّرت الفُتيا لأجل الحكم، وهذا مع تبيُّن خطئه، وكلامُنا في الحاكم إِذا لم يَتبيَّن خطؤه، فهو أولى وأحرى بأن تَتغيَّر الفُتيا لأجله (¬1). وثامنها: ما قال ابنُ يونس عن جماعة من الأصحاب في كتاب إِحياء المَوَات: إِذا شَرَع اثنانِ في بناءِ بئرينِ لكل واحدٍ منهما بئر، بعد تنازعٍ بينهما في الحَرِيم لذينك البئرين ونفيِ الضرر عنهما، فحكمَ حاكمٌ بعدَمَ الضرر، ثم تبيَّن الضَّررُ: إِنه ليس للمضرور منهما إِزالةُ الضرر، وقد سَقَط حقُّه منه، لأنه بحكم حاكم. وقولُهم: (سَقَط حقُّه) فُتْيَا، فقد تغيَّرت الفُتيا بسبب حكم الحاكم، فإِنه لولا حُكْم الحاكم لكان له دَرْءُ الضرَّرِ عن نفسه، وكُنَّا نُفتيه بذلك اتفاقاً. فإِذا تغيَّرت الفُتيا للحكم وإِن تبيَّنَ خطؤه فأولى أن تتغيَّر بالحكم الذي لم يتبيَّن خطؤه. وما وقع في هذه المسألةِ وفي مسألةِ الخَرْص التي قبلَها بَيْنَ ¬
الأصحاب من الخلافِ إِلَّا لكونِ الحُكم تبيَّن خطؤه، ولو اتَّفقوا على عدم الخطأ لاتَّفقوا على تغيُّر الفُتيا، وإِنما الخلافُ بينهم في نقض هذا الحكم لتبين خطئه فقط. فظهر أنهم لا يختلفون في الحكم الذي لم يَتبيَّن خطؤه أنه تتغيرُ الفُتيا باعتباره. فإِن قيل: إِنما المعنى في هذه المسائل كلِّها أنَّ الحكم لا يُنقَضُ، وليس بتغيُّرِ فُتيا؟ قلنا: النقضُ وظيفةُ حاكمٍ آخر غيرِ الحاكم الأوّل، لا وظيفةُ المفتي، والمفتي في هذه المسائل يُسألُ ويُخبِرُ عن الله تعالى بأنَّ ذلك له أو ليس له، وأنَ ذمَّته تَعفَرَتْ بالزكاة أو ما تَعفَرَتْ. وهل هذا إِلَّا فُتْيَا صِرْفَة؟ وإِلَّا فلا معنى للفُتيا غيرُ قولِنا: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب، هذا غير واجب، هذا مأذون فيه، هذا غير مأذون فيه، إِلى غير هذا. فهذا تغيُّرٌ للفتاوى جزماً، لا امتناعٌ مِن نَقْضِ الحكم. وتاسعها: في الكتاب (¬1): لا يَجزي أن يُؤخَذ في الزكاة ذاتُ العَوَار (¬2) ولا التَيْسُ، فإِنْ رأى السَّاعي أجزأ، فأفتى بالِإجزاء بعد أخذِ الساعي، وبعَدَمِه قبلَه، وهذا تغيُّرٌ في الفُتيا لأجلِ حكم الحاكمِ، لأن الساعي عند مالك حاكم. وعاشرها: قال سَنَدٌ في كتاب الخِلْطة: لو كان لكلّ واحدٍ من الخُلَطاء أربعون شاة، فأُخِذَ من أحدهم ثلاثُ شياه، رَجَعَ على صاحبيه بثلثي شاة، لأنه لا تجب في مئة وعشرين إِلَّا شاة، عليه ثلثُها، وعلى صاحبيه ثلثاها، فإِن أُخِذَ الثلاثُ شياه على رأي من لا يَرى بالخلطة كأبي حنيفة: رَجَع على كل واحد بشَاةٍ. ¬
فقد تغيَّرت الفتيا بعد فعل الحاكم، وليس هذا من باب عدم النقض، لأن النقض إِنما هو للحكام. وأمَّا قولُ العالمِ: لك الرجوعُ، ليس لك الرجوع، إِنما هو فتيا. ونظائرُ هذه المسائل كثيرةٌ في المذهب جداً. وإِنما قَصدتُ بهذه النبذةِ التنبيهَ على المطلوب، وأنَّ المسألةَ - فيما أظنُ - مجمَعٌ عليها، وكيف يمكنُ الخلافُ فيها وبقاءُ الفُتيا بعد الحكم؟ وقد تقدَّم (¬1) أنَّ الله تعالى استناب الحُكَامَ في إِنشاء الأحكام في خُصوصيات الصور في مسائل الخلاف، فإِذا حكَمَ الحاكم بإِذْنِ الله تعالى لَهُ، وصح حكمُه عن الله تعالى: كان ذلك نصاً وارداً من الله تعالى على لسان نائبه الذي هو نائبُه في أرضه، وخليفةُ نبيّه في خصوص تلك الواقعة، فوجَبَ حينئذٍ إِخراجهُا من مذهب المخالِفِ في نوع تلك المسألة. فإِنَّ الدليل الشرعي الذي وجدَه المخالفُ في ذلك النوع عامٌ فيه، وهذا النصُّ خاص ببعض أفراد ذلك النوع، فيَتعارضُ في هذا الفرد من هذا النوع دليل خاصّ وهو حكمُ الحاكم، ودليلٌ عامٌ وهو ما اعتقده المخالِف في جملة النوع، فيُقدَّمُ الخاصُ على العام كما تَقرَّر في أصول الفقه. وهذا هو السرُّ في أنَّ الحكم لا يُنقَض، لا ما يعتقده بعضُ الفقهاء من أنَّ النقض إِنما امتنَع لئلا تنتشرَ الخصومات، فإِنَّ ما تقدَّم شَهدَتْ له قاعدةٌ أصولية، وما ذكروه لم يَشهد له قاعدة أصولية. والمعضودُ بالشهادة أَولى، وإِن سلمنا صِحَّتَه فيَتعاضَدُ هو والمشهودُ له، لأن المَدَاركَ قد تَجتمع، إِلَّا أنه لا ينبغي أن يُلغَى ما شهدَتْ له القواعدُ إِلَّا لمعارضٍ أرجحَ منه. ¬
السؤال السابع والعشرون
السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونْ هل يكون حكمُ الحاكم مدلولاً عليه بالمطابقة تارة، وبالتضمن تارة، وبالالتزام أخرى كسائر الحقائق، أوْ لا توجدُ الدلالةُ عليه إِلَّا مطابقةً؟ وهل يكون الدال عليه تارةً قولاً، وتارةً فعلاً، أم لا يَدكُ عليه إِلَّا القولُ خاصَّةً نحو قوله: قد حكمتُ بكذا، واشهدوا عليَّ أني حكمتُ بكذا؟ وهل إِذا جوَّزتم أن يكون الدالُّ عليه فِعلاً يختصُّ بتصرفات الحكام أم لا (¬1)؟ جَوَابُهُ قد يكون الحكم الذي يُنشئه الحاكم مدلولاً عليه بالمطابقة قولاً، نحو قوله: قد حَكمتُ بفسخ هذا النكاح، وقد يكون مدلولاً عليه بالقول تضمناً، نحو قوله، قد حَكمتُ بفسخ هذين النكاحين، فمجموعُ الحكمين مدلول عليه مطابقةَ، وكلُّ واحد منهما مدلولٌ عليه تضمُّناً، وقد يكون مدلولاً عليه باللفظ التزاماً، نحو قوله: قد حكمتُ بصحة بيعِ العبدِ الذي أعتقه من أحاط الدينُ بماله، فإِنه يَدلُّ بالمطابقةِ على الحكم بصحة البيع، وبالإلتزامِ على الحكم بإِبطال العتق المتقدم على البيع، لأنه يَلزمُ مِن صحةِ البيع بطلانُ العتق، لأنَّ الحُرَّ يَحرُمُ بيعُه، هذا القول. واْما الفعلُ فقد يدلُّ على الحكم مطابقة، فإِن مجرَّدَ بيعِ الحاكم للعبد ¬
الذي أعتقه من أحاط الدينُ بماله مُبطِلٌ العِتقَ (¬1)، فإِنَّ إِقدامه على بيعه يَستلزمُ الحكمَ ببطلان العتق. وكذلك إِقدامُه على تزويج امرأة تزوَّجت قبل هذا العقد بنكاح: فسخٌ (¬2)، فإِنَّ نفس العقد عليها يَستلزم الحكم بفَسْخ نكاحِها المتقدم، بخلاف ما لو زَوَّج يتيمةً تحت حِجره، أو باع سِلعةً لها: لا يدلُّ ذلك على الحكم البتة لا بسابقٍ ولا لاحقٍ ولا مُقارِن، بل لغيره من الحكام أن يَنظر فيه إِن كان مختلَفاً في بعض شروطه عند الحاكمِ الثاني فله فسخُه. وأما دلالةُ الفعل تضمناً: فلا توجد إِلَّا في الكتابة، فإِنها فِعلٌ، وإِذا كتَبَ لحاكمٍ آخر: أني قد أَعتقتُ هذين العبدين على المُعْتِق لبعضِهما، أو فسَختُ هذين النكاحين، فدلالةُ هذه الكتابة على الحكم فيهما مطابقةٌ، وعلى كل واحدٍ منهما تضمُّن، لأنه جزءُ مدلولِ الكتابةِ. وأما الفعل الذي هو البيعُ ونحوُه فلا تتأتَّى فيه دلالةُ التضمُّن البتة، فإِنَّ الحكم لا يقع إِلَّا لازماً له، وجُزءُ اللازم لا يكون مدلولاً تضمّناً، إنما يكون مدلولاً تضمُّناً جزءُ المدلول مطابقةً، والبيعُ لا يَدلُّ مطابقةً بل التزاماً فقط، والكتابةُ وإن كانت فعلاً فهي كاللفظ تدلُّ مطابقة، فتُصورَتْ فيها دلالةُ التضمُّنِ. فتأمَّلْ ذلك، وفَرقْ بين النوعين والدلالتين، ويُحتَمَلُ أن الكتابة تدلُّ بالوضع كاللفظ (¬3)، بخلاف البيع ونحوِه ليس دلالتُه بالوضع بل باللزوم الشرعي فقط. ¬
وظهر لك حينئذ أنَّ الحكم يكون مدلولاً مُطابقةً وتضمُّناً والتزاماً بالقولِ والفعل، وأنَّ الفعل قد يختصُ بالحكام كالبيع على المَديِن، وقد لا يَختصُّ كالكتابة، لأنَّ لكلّ واحدِ أن يكتُبَ بحاله وتصرُّفاته. وظهر لك أيضاً أن فِعلَ الحاكم قد يَعْرَى عن الحُكم البتة، وقد يَستلزمه، والمتقدّمُ من المُثُلِ في هذا الجواب كافٍ في هذه المقاصد فتأمَّلْه.
السؤال الثامن والعشرون
السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونْ هل يتأتَّى نقضٌ من المفتي أو لا يتأتَّى إِلَّا مِن حاكم؟ وقولُ الفقهاء: حكمُ الحاكم في مسائل الخلاف والإجتهاد لا يُرَد ولا يُنقَضُ، هل يَخصُّ ذلك الحُكَّامَ أو يَعمُّ الفريقين: الحُكام والمفتين؟ جَوَابُهُ أنَّ النقض لا يكون إلَّا لمن يكون له الإبرامُ فيما يكون فيه النقض. وإِنشاء الحكم في مَوَاضع الخلاف إِنما هو للحكام، فكذلك النقضُ والفسخُ إِنما هو لهم. والمفتي ليس له إنشاءُ الحكم فليس له نقضُه، كما أنَّ الوليَّ في المحجور عليه له إِنشاءُ العقود على أموال المحجور عليه، وله فسخُها، والمحجورُ عليه ليس له إِنشاؤها، فليس له فسخُها. وكذلك المرأةُ ليس لها إِنشاءُ عقد النكاح على نفسها، فليس لها حَلُّه. والعبدُ ليس له أن يُزوِّجَ نفسه بغير إِذن سيده، فليس له فسخُ العقد عن نفسه إِلَّا أن يأذن له سيده في النكاح فله الطلاق، لأنه بالإِذن صار له الإِنشاء. وهذه قاعدةٌ كثيرةُ الفروع، من لا يَملك العقدَ لا يملك الحَلّ، وبها استَدلَّ علينا الشافعيةُ في التعليقِ قبلَ النكاحِ والملكِ إِذا قال: إِن تزوَّجتُكِ فأنتِ طالق، وإِن اشتريتُكَ فأنتَ حُرّ. قالوا: لم يَملك الآن عصمة فلا يَملك طلاقاً، أولم يَملك إِنشاءَ الطلاق فلا يَملك تعليقه. وكذلك قالوا في العتق، مع أنَّ الزوج والسيد لهما الإِنشاء من حيث الجُملةُ إِجماعاً إِذا مَلَكا العصمةَ والرقّ.
وأما المفتي من حيث هو مفتٍ فليس له أن يُنشئ حكماً على الوجه الذي فُوضَ للحُكَّام - كما تقدم بيانُه - (¬1) ألبتَّةَ في صُورةٍ من الصُّورَ، فلا يكون له النَّقضُ في صُورة من الصُّوَر، وما هو إِلَّا مِثلُ أنَّ المرأة ليس لها أن تُزوِّج نفسَها في صُورة من الصُّور، فليس لها الطلاق في صُورة من الصُّوَر. وبهذا يَظهر لك أن جميع ما يَصدر من المفتي إِنما هو فُتيا، لا نقضٌ ولا حُكمٌ بالمعنى المفوض إِلى الحكام، وإِن كان حكماً شرعياً بالتفسيرِ باعتبار استقراءِ الأدلة الشرعية كالمترجِمِ عن الحاكم، كما تقدَّم تقريره في الفرق بين المفتي والحاكم (1)، وأنَّ الحاكمَ منشئ والمفتيَ مترجِم. ¬
السؤال التاسع والعشرون
السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونْ ما سببُ نقضِ الحكم إِذا وقَعَ في الصوَر الأربع مُخالفةِ الإِجماع، والقواعدِ، والقياسِ الجليّ، والنصِّ؟ وما مُثُلُ ذلك (¬1)؟ جَوَابُهُ أمَّا سببُ النقض فإِنّ الإِجماع معصوم لا يقولُ إِلَّا حقاً، ولا يَحكمُ إِلَّا بحق، فخلافُهُ يكون باطلاً قطعاً، والباطل لا يقرَّرُ في الشرع فيُفسَخ ما خالف الإِجماع. وأمَّا القواعدُ والقياسُ الجلي والنصُّ - وإِن كانت في صورة الخلاف - فالمراد إِذا لم يكن لها مُعارِضٌ راجحٌ عليها، أما إِذا كان لها مُعارِضٌ فلا يُفسَخُ الحكم إِذا كان وَفْقَ مُعارضِها الراجح إِجماعاً، كالقضاء بصحة عقد القِراض والمساقاةِ والسَّلَمِ والحوالةِ ونحوِها، فإِنها على خلاف القواعد والنصوص والقياس، ولكن لأدلةٍ خاصَّةٍ مقدمةٍ على القواعد والنصوص والأقيسة، لأنها عامة بالنسبة إِلى تلك النصوص. ومتى لم يكن هذا المُعارِضُ، بل عُدِمَ بالكلية بأن يكونَ الإجتهادُ لتوهمٍ ليس بواقعٍ في نفس الأمر، أو اعتماداً على استصحاب براءةِ الذمَّة ونحوِه، لعدم الشعورِ بتلك القواعد والنصوص والأقيسة، أو يكونَ ثَمَّ ¬
مُعارِضٌ مرجوحٌ من حديثٍ مضطربِ الإسنادِ ونحوِه: فإِنه لا يُعتدُّ به، ويُنقَضُ ذلك الحكمُ لوقوعه على خلاف المعارِض الراجح. فهذا هو سببُ النقض، فإِنَّ مِثلَ هذا لا يقر في الشرع لضعفه، وكما لا يَتقرر إِذا صدَرَ عن الحكام كذلك أيضاً لا يصح التقليدُ فيه إذا صدَرَ عن المفتي، ويَحرُم اتباعُهُ فيه. ولذلك نقولُ: ليس كلُّ الأحكام يجوزُ العملُ بها، ولا كلُّ الفتاوى الصادرةِ عن المجتهدين يجوز التقليدُ فيها، بل في كل مذهبٍ مسائلُ إِذا حُقّقَ النظرُ فيها امتنَعَ تقليدُ ذلك الإِمام فيها كالحُكَام حَرْفاً بحرف. وأما مُثلُها: فكما لو حكَمَ بأنَّ الميراث كلَّه للأخ دون الجَدّ، فإِن الأُمة على قولين: المالُ كلُه للجَد، أو ويقاسِمُ الأخَ، أما حِرمانُه بالكلية فلم تقل أحدبه. فمتى حكَمَ به حاكم بناءً على أنَّ الأخَ يُدلي بالبنوة، والجدَّ يُدلي بالأبوَّة، والبُنَّوة مقدمة على الأبوَّة: نَقَضْنا هذا الحكمَ، وإِن كان مُفتِياً لم نُقلده. ومثالُ مخالفةِ القواعد: المسألةُ السُّرَيْجِية (¬1)، متى حكَمَ حاكم بتقرير ¬
النكاح معها في حقّ من قال: إِن وقع عليكِ طلاقي فانتِ طالق قبلَه ثلاثاً (¬1). ¬
فطلَّقها ثلاثاً أو أقلَّ، فالصحيحُ لزومُ الثلاثِ له (¬1)، فإِذا ماتت أو مات وحكَم بالإِرث لها أو منها نَقَضنا حُكمَه، لأنَّهُ على خلاف القواعد، لأنَّ من قواعد الشرع صِحَّةَ اجتماع الشرط مع المشروط، لأنَّ حُكمه إِنما يظهر فيه، فشَرْط لا يصحُّ اجتماعه مع مشروطه لا يَصحُّ أن يكون في الشرع شرطاً، فلذلك يُنقَضُ حكمُ الحاكم في المسألةِ السُّريجيَّة. ومثالُ مخالفةِ النصّ: حكمُهُ بشُفعةِ الجار، فإِنَّ الحديث الصحيح واردٌ في اختصاصها بالشَّريك (¬2)، ولم يَثبُت له معارِضٌ صحيح، فيُنقضُ الحكمُ ¬
بخلافه (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومثالُ مخالفةِ القياس: قبولُ شهادةِ النصراني، فإِنَّ الحكم بشهادته يُنقَض، لأنَّ الفاسق لا تُقبَل شهادتُه، والكافرُ أشدُّ منه فسوقاً وأبعدُ عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس، فيُنقَضُ الحكمُ لذلك، فألحِقْ بكلّ قسمِ منها ما يناسبُه. ¬
السؤال الثلاثون
السُّؤَالُ الثَّلَاثُونْ ما الفرقُ بين الحكمِ والثبوتِ والتنفيذ؟ وهل الثبوتُ حكمٌ أم لا؟ وإِذا قلنا بأنَّ الثبوت حُكمٌ فهل هو عينُ الحكم أو يَستلزمُه ظاهراً؟ وعلى التقديرين هل ذلك عامٌّ في جميع صُوَر الثبوتِ أم لا؟ (¬1). جَوَابُهُ أمَّا الحكمُ فقد تقذَمت حقيقتُه (¬2)، وهو إِنشاءُ إِلزامٍ أو إطلاقٍ في صُوَر التنازع لمصالح الدنيا. وتقدَّمتْ فوائدُ هذه القيود (¬3). وأمَّا الثبوتُ فهو قيام الحِجَاج على ثبوت الأسباب عند الحاكم وفي ظنه. فإِذا ثبَتَ بالبيّنة أنَّ السيد أَعتقَ شِقْصاً له في عبد (¬4)، أو أنَّ النكاح كان بغير وليّ أو بصداقٍ فاسد، أو أنَّ الشريك باع حِصَّتَه من أجنبي في مسالةِ الشفعة، أو أنها زوجةٌ للميتِ حتى تَرِث، ونحوُ ذلك من ثبوت أسباب الأحكام، فلا شكَّ أنه قد تَقوم الحجةُ على ثبوت السبب، وتَبقَى عند الحاكم رِيبةٌ، أو لا تَبقى عنده ريبة؟ لكن يَبقى عليه أن يَسأل الخصمَ هل له مطعن أو مُعارِض؟ ونحوُ ذلك، ولا ينبغي أن يُختلَف في هذا أنه ليس ¬
حُكماً (¬1). وإن قامت الحُجَّةُ على سبب الحكم، وكَمَل، وانتفت عنه الرِّيَب، وحصلتْ الشروطُ وجميعُ المطلوبِ فيه، فلا شكَّ أنه يتعيَّنُ على الحاكم على الفور أن يَحكم، لأنَّ أحد الخصمين ظالم، وإزالةُ الظلم واجبةٌ على الفور. وإِذا تعيَّن على الحاكم في هذه الحالة الحكمُ، فَظَاهرُ حاله أنه فعَلَ ما يجب عليه، فصار الحكمُ من لوازم الثبوت على هذا الوجه، فيجب أن يُعتقد أنه حُكمٌ بناءً على ظاهر الحال. فهذا معنى قول فقهاءِ المذهب: إِنَّ المشهور أنَّ الثبوت حُكم (¬2). ¬
والقولُ الشاذُّ يَرى أنَّ حقيقةَ الثبوت مغايرة لحقيقة الحكم، ومع تغايرِ الحقائق لا يمكن القولُ بحصول أحدِ المتغايرين عند حصول الآخر إِلَّا أن يُجزَم بالملازمة، واللزومُ غيرُ موثوق به، لإحتمال أن يكون عند الحاكم ريبة ما علمنا بها، ولا يَلزمُ من عَدَمِ العلم بالشيء العلمُ بالعَدَم، فيُتوقَّفُ حتى يَحصُلَ اليقين بالتصريح بأنه حُكم. هذا في الصُّوَر المتنازَعِ فيها التي حكَمَ الحاكم فيها بطريق الإِنشاء (¬1). اْما الصُّوَرُ المجمَعُ عليها، كثبوتِ القيمةِ في الإِتلاف، والقتلِ للقِصاص، وثبوتِ الدَّينِ عنده في الذمة وعقدِ القِراض، والسرِقة للقطع، فالثبوتُ الكاملُ في هذه الصُّورِ جميعِها لا يَستلزمُ إنشاءَ حكم من جهة الحاكم، بل أحكامُ هذه الصور جميعِها مقرَّرةٌ في أصل الشريعة إِجماعاً. ووظيفةُ الحاكم في هذه الصور إِنما هو التنفيذ، وفيما عدا التنفيذ: الحاكمُ والمفتي فيه سواءٌ، وليس هاهنا حُكم استنابَ صاحبُ الشرع فيه الحاكمَ أصلاً البتة، بل هذه أحكامُها تَتْبَعُ أسبابَها، كان ثَمَّ حاكمٌ أم لا؟ نعم، الذي يقفُ على الحاكم: التنفيذُ. مع أنه غيرُ مختص به في الدَّيْن وشِبهِه، فلو دَفَعَ المُتلِفُ القيمةَ والمَدينُ الدَّينَ وسلَّم البائعُ المبيعَ استُغنِيَ عن مُنفِّذٍ من حاكمٍ أو غيرِه. وإِنما يُحتاجُ إِلى الحاكم في الصُّوَر المجمَع عليها إِذا كانتْ تفتقر إِلى نظرٍ واجتهادٍ وتحريرِ أسباب، كفسخ الأنكحة، أو كان تفويضُها للناس يؤدّي إِلى التهارُجِ والقتال، كالحدود والتعازير، مع أنَّ التعازير من القسم ¬
الأول، تفتقرُ إِلى التحرير وتقديرِ التعزير بقدر الجناية والجاني والمجني عليه. وأما متى عَرِيَتْ الأحكامُ المجمَعُ عليها عن ذلك لم تَحتج إلى تنفيذ الحاكم، وله تنفيذُها. وأما إِنشاءُ حكمِ فلا سبيل إِليه في جميعها. وأما حقيقةُ التنفيذ فهو غيرُ الثبوتِ والحكم، لأنه الإِلزامُ بالحبسِ والسَّجن، وأخذُ المالِ بيد القوة ممن عليه الحق، ودفعُه لمستحقِّه ونحوُ ذلك، فهذا هو التنفيذ. وهو في الرتبة الثالثة الأخيرة (¬1)، والثبوتُ في الرتبة الأولى، والحكمُ بينهما في الرتبة الثانية. فظهر الفرقُ بين الثبوت والحكم والتنفيذ، وأنَّ الثبوت غيرُ الحكم قطعاً، وقد يَستلزمه وقد لا يَستلزمه، وقد تكون الصورة قابلةَ لاستلزامه وقد لا تكون قابلةً له، كما تقدَّمَ في صُوَر الإِجماع (¬2). وأن القولَ بأن الثبوتَ حُكم في جميع الصور خطأ قطعاً، وأنه يتعيَّن تخصيصُ هذه العبارة، وتأويلُ كلام العلماء وحملُه على معنى يصح، فاعلم ذلك (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
السؤال الحادي والثلاثون
السُّؤَالُ الحَادِي وَالثَّلَاثُونْ هل يكون إِقرارُ الحاكم على الواقعة حُكماً بالواقع فيها أم لا؟ كما إِذا رُفع له عَقْدٌ فترَكه من غير نكير، هل يكونُ ذلك كإِقرار صاحب الشرع إِذا رأى أحداً يفعل شيئاً فترَكه؟ فإِنَّ ذلك يكون إِباحةً لذلك الفعل، أو يكونُ إِقرارُ الحاكم أضعفَ؟ لكونه في موطن الخلاف، فله تبقيتُهُ على ما هو عليه من الخلاف، ولا يَتعرَّضُ له، بخلاف إِقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون دليلَ الإِباحة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يُقِرُّ على منكر. جَوَابُهُ أنَّ الِإقرار دليلُ الرِّضَا بالمُقَرِّ عليه ظاهراً، وهو أضعفُ في الدلالة من الفعلِ والقولِ، لأنه مجرَّدُ التركِ والسكوت، وقد يكونُ مع الإِنكار، ألا تَرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلَّغَ النهيَ عن الكفر، والأمرَ بالِإيمان، وآمنَ من آمن وكفَرَ من كَفَر: لم يكن - عليه السلام - يكرّرُ النكيرَ في كل يوم على أهل مكة ولا غيرِهم، ولم يُكرر الكتابة لملوكِ الكفارِ في كل شهر فضلاً عن كل يوم. فتَرْكُهُ للنكير في بعض الأوقات عن تلك المنكرات بعدَ التبليغ لا يقتضي إِباحةَ تلك المنكرات. وأما اللفظُ الدالُّ على إِباحة تلك المنكرات أو الفعلُ فلا سبيل إِليه. فعَلِمنا أنَّ مدلول التَّرْك قد يتَخلَّفُ عنه ما لا يتَخلَّفُ مَدْلُولاَ القولِ
والفعلِ عنهما. إِذا تقرَّرَ أنه أضعفُ في الدلالة من اللفظ والفعل، فإِقرارُ الحاكم أيضاً له ذلك الضعفُ في الدلالة وزيادةُ أمرٍ آخر، لمزيدِ احتمالٍ وهو: أنَّ الحاكم قد يَترك الواقعة على ما فيها من الخلاف، ولا يَتعرَّضُ لِإنشاء حكم فيها، لأنَّ كلا القولين يجوز الأخذُ به، وهو طريقٌ إِلى الله تعالى، فلا غَرْوَ في الإِقرار عليهما. بخلاف إِقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الواقعة، لا يكونُ إِلَّا مع إِباحة الفعل، أو يكونُ تقدَّمَ من الإِنكار ما يكفي في الإِرشاد إِلى حكمِ الله تعالى في حكمِ تلك الواقعة. إِذا تقرَّرَ مزيدُ ضَعفِ إِقرارِ الحاكم فاعلَمْ أنَّه لأجلِ أنه دليل، ولأجلِ ضعفِه اختَلَف أصحابُنا في اعتقادِ كون الحاكم إِذا رُفِعَتْ إِليه الواقعة فأقرَّها على قولين: ففي "الجواهر": إِذا رُفِعَتْ إِليه امرأةٌ زَوَّجَتْ نفسَها بغير إِذن وليها فأقرَّه وأجازه، ثم عُزِلَ: 1 - قال عبدُ المَلِك: ليس بحُكمٍ ولغيره فسخُه. 2 - وقال ابنُ القاسم (¬1): ليس لغيره فسخُه، وإِقرارُه عليه كالحكم ¬
به، واختاره ابنُ مُحْرِز (¬1). وهذا بخلاف ما لو رُفع إليه فقال: لا أُجيزُ النكاحَ بغير وليّ، من غير أن يَحكم بفسخٍ، فهذا فتوى ولغيره الحكمُ بما يراه في تلك الواقعة، ¬
وكذلك إِذا قال: لا أُجيزُ الشاهدَ واليمينَ فهو فتوى اتفاقاً. وقال ابن يونس: قال عبدُ الملك إِذا قيل: إِنَّ التخيير تطليقةٌ بائنةٌ فاختارت نفسَها، فتزوَّجَها قبلَ زوج، ورُفع ذلك لحاكمٍ يَرى ذلك فأقرَّه، فلمَنْ بعدَه فسخُ العقد، ويَجعلُ طلاقَها ثلاثاً. وإِن علَّقَ الطلاقَ أو العتاقَ على المِلك، أو تزوَّجَ وهو مُحْرِم، فأقرَّه حاكم، أو أقام شاهداً على القتل، فرُفِعَ لمن يَرى القَسامة فلم يَحكم بها فلغيره الحكم، لأنَّ الأوَّلَ ليس بحكم. وكأنَّ هذا النقل عن عبد الملك خِلافُ ما نقَلَه صاحبُ "الجواهر" عنه؟ وبالجملة: فكونُ التقريرِ في مسائل الخلاف من الحاكم مشتملاً على نوعين من الضعف كما تقدَّم اقتَضَى الخلافَ بين العلماء، فمن لاحَظَ أصلَ دلالته قال: ظاهِرُ حالِ الحاكم يقتضي أنه حُكم، ومن لاحَظَ ضعفَه أسقَطَ اعتبارَه، ولم يعتقد أن الحاكم حَكَمَ به فيَجُوزُ لَهُ النقضُ (¬1). ¬
السؤال الثاني والثلاثون
السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونْ ما ضابطُ ما يفتقرُ لحكمِ الحاكم، ولا يكفي فيه وجودُ سببه الشرعي؟ وما لا يَفتقرُ ويكفي فيه وجودُ سببه؟ جَوَابُهُ أنَّ الضابط الذي يُرجَعُ إِليه في ترتيب الأحكام على أسبابها من غير حكم حاكم، وما يَفتقرُ لحُكم الحاكم (¬1): أنَّ الموجِبَ للإفتقار الحاكم الحاكم ثلاثةُ أسباب: السببُ الأول: كونُ ذلك الحكم يَحتاجُ إِلى نظرٍ وتحرير، وبذلِ جهدٍ من عالم بصيرٍ، حَكَمٍ عَدْلٍ في تحقيق سببِه ومقدارِ مُسبَّبه، وله مُثُلُ: المثالُ الأول: الطلاقُ بالإِعسار؛ لأنه يفتقر إِلى تحقيق الإِعسار، وهل ذلك الزوجُ ممن تُستَحق عليه النفقة حتى تقدحَ في استمرارِ عصمتِه الِإعسارُ؟ أم هو ممن ظاهِرُ حالِه العجزُ أبدًا؟ كما قال مالك: لو تزوَّجَتْ رجلًا من أهل الصَّنْعَةِ (¬2)، لم يكن لها التطليقُ بسبب الإِعسار، لدخولها ¬
عليه. المثالُ الثاني: التعزيراتُ تَفتقر إِلى تحريرٍ في مقدارِ الجناية وحالِ الجاني والمجنيّ عليه، حتى تقع المؤاخذةُ على وَفقِ ذلك من غير حَيْف. المثالُ الثالث: التطليقُ على المُوْلي، يَفتقر إِلى بذلِ الجهد والتحريرِ في تلك اليمين المحلوفِ بها، هل هي مما تُوجِبُ عليه حُكماً على تقدير الفَيئةِ أم لا؟ وهل ترْكُ الفَيئةِ منه مُضِرٌ بالمرأةِ أم لا؟ وهل كان المقصودُ بتلك اليمينِ الإضرارَ فتُطلَّق عليه؟ أو نَظَراً مَصْلحيًا وغرَضاً صحيحًا فلا تُطلَّق عليه؟ كما لو حلَفَ أن لا يطأها، خوفاً على وَلِده من السَّقَمِ لِفسادِ اللَّبَن، وغيرِ ذلك من جهات النظر. المثالُ الرابع: إِذا حلَف ليَضربَنَ عبدَه ضرباً مُبرِّحًا، فالقضاءُ بالعتقِ عليه يفتقر للحاكم؛ لأنه لا يُدرَى هل ثمَّ جناية تقتضي مثلَ هذا الضرب أم لا؟ ويَحتاجُ إِلى تحقيقِ كون ذلك الضرب مبرِّحًا بذلك العبد، وهل السيّدُ عاصٍ به فيَعتِق عليه؟ لأنَّ الحَلِفَ على المعصيةُ يوجب تعجيلَ الحنث، أو ليس عاصياً فلا يَلزمه عتق؟ السببُ الثاني المُوجِبُ لافتقارِ ترتيبِ الحكم على سببه إِلى حكمِ الحاكم ومباشرةِ ولاةِ الأمور: كونُ تفويضِه لجميع الناس يُفضي إِلى الفِتَن والشحناء، والقتلِ والقتال، وفسادِ النفس والمال، وله مُثُلٌ: المثالُ الأول: الحدودُ، فإِنها منضبطة في أنفسها, لا تَفتقرُ إِلى تحرير ¬
مقاديرها، غيرَ أنها لو فُوِّضَتْ لجميعِ الناس، فبادَرَ العامَّهُ لَجلْدِ الزُّناةِ، وقطع العُداةِ بالسرقةِ وغيرِها، اشتدتْ الحَمِيّات، وثارتْ الأَنَفَاتُ، وغَضِبَ ذوو المُروءات، فانتَشرت الفِتَن، وعَظُمتْ الإِحَن، فحسَم الشَّرعُ هذه المادةَ وفَوَّضَ هذه الأمورَ لولاةِ الأمور، فأذعن الناسُ لهم، وأجابوا طوعًا وكرهاً، واندفعت تلك المفاسدُ العظيمة. المثالُ الثاني: قِسمةُ الغنائم معلومةُ المقاديرِ وأسبابِ الاستحقاق، غيرَ أنَّ النفوس مجبولةٌ على مَزيدِ الأطماع والمنافسةِ في كرائم الأموال، فيقصِدُ كل أحدِ أن يَختص بما يُريد غيرُه أن يَختصَ به، فيُؤدي ذلك لتلك المفاسدِ المتقدّمة، فحسَمَها الشرعُ بتفويض ذلك لولاة الأمور. وهذه الأمورُ وإِن لم تكن مما يَدخل فيه حكمُ الحاكم غيرَ أنه من جنس ما يَفتقر لولاةِ الأمور، فذكرتُه تنبيهاً على سببِ الإفتقار وللمناسبةِ بينه وبين هذا الباب. المثالُ الثالث: جِبايةُ الجِزية، وأخذُ الخراجِ من أرض العَنْوة وغيرِها هو مالُ المسلمين، ولو جُعِلَ لعامَّة الناسَ التَّحَدُّثُ فيه (¬1)، لفسَدَ الحالُ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وساء المآلُ في ذلك (¬1). السببُ الثالث: قُوَّةُ الخلاف مع تعارضِ حقوقِ الله تعالى وحقوقِ الخلق، فوَجَبَ افتقارُ ذلك للحاكم؛ لأنه نائبُ الله تعالى في أرضه خلافةً عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإِذا أنشأ حُكمًا مما تقبلُه ذلك المحل تعين فيه ووجَب الِإذعانُ إِليه. وله مُثُلٌ: المثالُ الأول: من أَعتقَ نصفَ عبدِه لا يُكَمَّلُ عليه بقيتُه إِلَّا بالحكم، لتعارُضِ حقِ الله تعالى في العتقِ، وحق السيد في المِلكِ، وحقِّ العبد في تخليص الكسب، وقُوَّةِ الخلافِ في التكميل عليه. المثالُ الثاني: العتقُ بالمُثْلَة (¬2)، فيه حقُّ الله تعالى وحقُّ السيدِ في الملكِ وحق العبد، كما تقدَّم في المثالِ الأول، فإذا حكَمَ حاكم تعيَّنَ ما حَكَم به، وبطَلَ ما يُخالفُه وسكنَتْ النفوسُ وتعيَّنت الحقوق. ¬
المثالُ الثالث: بَيع من أعتقَه المِدْيانُ (¬1)، لا بُدَّ فيه من الحاكم، لتعارضِ حقِّ الغرماء في ماليّة العبد، وحقِ الله تعالى في العتق، وحق السيد في براءة ذمَّتِهِ من الدَّين، أو تحصيلِ القُربة بالإِعتاق، وقُوَّةِ الخلاف في المسألة، حتى إِنَّ الشافعيَّ يُنكرُها إنكاراً شديداً ويقولُ: الدَّيْنُ في الذمَّة، والعتقُ في عينِ الرَّقيق، فلا تَنافي، فلا يَبْطُلُ العتقُ لعدم تعيُّنِ الرقيق عنده للدَّيْن. فإِذا حكَمَ به حاكم تعيَّن ما حكَمَ به من البيع، وثَبَت الملكُ للمشتري وللمعتقِ إِنْ اشتراه بعدَ ذلك، وصُرِفَتْ الأثمان في الديون، ورَضِيَ كلُّ أحدِ بما صدَرَ عن نائبِ الله تعالى ونائب رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فهذه الأسباب الثلاثةُ هي الموجِبةُ للإفتقار للحُكَّام ووُلاةِ الأمور، فإِذا لم يُوجدُ شيءٌ به. منها تَبِعَ الحُكمُ سبَبه الشرعيَ، حكَمَ به حاكم أم لا. ولأجلِ هذه القاعدة انقسمت الأحكامُ ثلاثةَ أقسام: 1 - منها: ما يَتبَعُ سبَبَه بالإِجماع، ولا يَفتقرُ الحاكم، لقوَّةِ بُعدِه عن اشتماله على أحدِ تلك الأسباب الثلاثةِ الموجِبة للإفتقار. 2 - ومنها: ما يَفتقرُ للحاكم إِجماعاً، للجزم باشتماله على أحدِ الأسباب الثلاثة أو اثنينِ منها. 3 - ومنها: ما اختُلِفَ فيه هل هو من القسم الأول أومن القسم الثاني؟ لِمَا فيه من وجوهِ الإِخالة (¬2)، باشتمالِه على أحدِ الأسباب أو عدمِ ¬
أشتماله، فلحصولِ التردُدِ في الإشتمال حصَلَ التردُّدُ في الإفتقار. وأمثل لك لهذه الأقسام الثلاثة: القسم الأول، مثالُه: العباداتُ كلُّها وتحريمُ المحرماتِ المتفَقِ عليها كالعصير إِذا اشتدَّ، والمختَلفِ فيها كتحريم السبّاع، وطهارةِ المياهِ، ووفاءِ الدُّيون، ورَدِّ الودائع والغُصوبِ، ونحوِه. القسمُ الثاني، مثالُه: تفليسُ المَدِين إِذا أحاط الدَّينُ مسألة، والتطليقُ على الغائبين من المفقودين وغيرِهم، وفَسْخُ النكاحات بالإِعسار أو الإِضرار أو نحوِ ذلك. القسمُ الثالث، المختلَفُ فيه، هل يَفتقرُ إِلى حكمٍ أم لا؟ وله مُثُلٌ: المثال الأول: قبضُ المغصوب من الغاصب إِذا كان المغصوبُ منه غائباً، هل يَفتقر إِلى الحاكم أم لآحاد الناس قبضُه من الغاصب؟ فيه خلافٌ بين العلماء. المثالُ الثاني: من أعتقَ شِرْكاً له في عبد (¬1)، قال ابنُ يونس: اتفق ¬
أصحابُنا على أنه يَعتِقُ بمجرَّدِ التقويم من غير حاجة إِلى حُكم؛ لأنه الواردُ في الحديث، وقال غيرُه: يَفتقرُ للحُكم. المثالُ الثالث: عتقُ القريب إِذا ملَكه الحُرُّ المَلِيء، المشهورُ عدَمُ افتقارِه للحكم، وقيل لابُدَّ فيه من الحكم. المثالُ الرابع: العتقُ بالمُثْلَة، قال ابنُ يونس: قال مالك: لا يَعتِقُ إِلَّا بالحُكم، وقال أشهب (¬1): لا يَفتقر إلى الحكم، بل يَتْبَع سبَبَه. المثالُ الخامس: فَسْخُ البيع بعدَ التحالُفِ من المتبايعَيْن. المثالُ السادس: فَسْخُ النكاح بعدَ التحالُفِ إِذا قيل به. ويُلحَقُ بهذا الباب: إِقامةُ الجمعة، لكنَّ الخلافَ ليس في افتقارها للحكم، بل لِإذن الإِمام وهو غيرُ الحكم. وسببُ الخلاف في هذه المُثُلِ كلها: اجتماعُ الشوائب، وتخيُّلُ ¬
احتياجِها لأسباب الإحْتِياج، وتخيلُ استغنائِها وعَرَائِها عن تلك الأسباب. فهذا تلخيصُ الجواب عن ضابطِ ما يَفتقرُ الحاكم الحاكم، وما لا يَفتقر ويكفي فيه وجودُ سببه، وأقسامِ الأحكام باعتبار الضابط المذكور، وتلخيصُ الأسباب في ذلك مستوعَباً ممثلاً، ليتمكَنَ الفقيهُ من تخريج أمثالِ تلك المُثُل عليها بسبب اطلاعه على سِرّها.
السؤال الثالث والثلاثون
السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونْ أيُّ شيء يُفيدُ الِإنسانَ أهليةَ أن يُنشئ حُكماً في مَواطنِ الخلاف، فيجبُ تنفيذُه ولا يجوزُ نقضُه؟ فهل ذلك لكل أحدٍ؟ أو إِنما يكون ذلك لمن حصلَ له سببٌ خاص؟ وما هو ذلك السبب؟ وهل هو واحد أو أنواعٌ كثيرة (¬1)؟ جَوَابُهُ أنه لا خلافَ بين العلماء أنَّ ذلك ليس لكل أحد، بل إِنما يكون ذلك لمن حصَلَ له سببٌ خاصٌ، وهو وِلاية خاصة، ليس كلُّ الوِلايةِ تُفيدُ ذلك. فمن الولاياتِ: ما لا يُفيدُ أهليةَ شيء من الأحكام، ومنها: ما يُفيدُ أهليةَ الأحكامِ كلِّها، ومنها: ما يُفيدُ أهليةَ بعضِ الأحكام، ومنها: ما تكون أهليةُ الأحكامِ بعضَها، ومنها: ما يكون كمالُها وجُملتُها بعضَ أهليةِ الأحكام. ومن الولايةِ: ما يكون صريحًا في أهلية الحكم، ومنها: ما يكون صريحًا في عَدمِ أهلية الحكم، ومنها: ما يَحتملُها (¬2)، ومنها: ما يَحتملُها ¬
من حيث الجملة. ثم الولاية لها طرفان وواسطة، فأعلاها: الخلافةُ التي هي الِإمامةُ "الكبرى" وأدناها التحكيمُ الذي يكون منِ جهة المتنازِعينِ، وبين هذين الطرفين وسائطُ كثيرة. فأسرُدُ من ذلك خمْسَ عشرةَ رُتبةً وأُمثّلُها وأُبيّنُ أحكامَها. الرتبة الأولى: الإِمامةُ "الكبرى" فأهليةُ جميعِ أنواعِ القضاءِ في الأموال والدماءِ وغيرِها: جُزؤها، وهي صريحةٌ في ذلك، فتَتناولُ بصراحتها أهليةَ القضاء وأهليةَ السياسة العامَّة. الرتبةُ الثانية: الوِزارةُ للإمامة. قال ابنُ بشير من أصحابنا (¬1): يجوز التفويض في جميع الأمور للوزير، ويَختصُّ الإِمامُ عنه بثلاثة أحكام: 1 - لا يَعقِدُ ولاية العهد (¬2)، ويعقدُها الإِمام لمن يريد فيكون إِماماً للمسلمين بعده، كما فعَلَ الصديقُ - رضي الله عنه - مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬
2 - ولا يَستعفي من الولاية (¬1)، وللإِمام الإستعفاء من الإِمامة. 3 - ولا يَعزِلُ من قلَّده الإِمامُ (1). ويُسمى هذا الوزيرُ وزيرَ تفويض (¬2). ثم الوزراءُ أقسام، أعلاها: وزيرُ التفويض، ويليه: وزيرُ التنفيذ، وأدناها: وزيرُ الإستشارة. ولا خفاءَ أنَّ وِزارةَ التفويض تَشملُ أهليةَ القضاء وغيرَها، وأنها صريحة في ذلك إِذا قال الإِمام: ولَّيتُك وِزارةَ تفويض، أو: فوَّضتُ إِليك التصرُفَ، ونحوَ ذلك. وأما إِن نَصَّ على أنه وزيرُ تنفيذٍ فقط، فإِذا حكَمَ الإِمامُ بشيء نفَّذه: فهذا ليس له أهليةُ الحكم. وكذلك وزيرُ الإستشارة. الرتبة الثالثة: وِلايةُ الِإمارة على البلادِ وبعضِ الأقاليم، كالملوكِ مع الخلفاء. وهذه أيضًا صريحة في إِفادة أهلية القضاء إِذا صادفتْ الولايةُ أهلَها ومحلها. وتشملُ أهليةَ القضاء وغيرَها، من السياساتِ وتدبيرِ الجيوش وقَسْمِ الغنائم وتفريقِ أموال بيت المال ونحوِها. الرتبة الرابعة: وزيرُ الأميرِ المولَّى على القُطْر. قال العلماء: ليس له أن يستوزِرَ وزيرَ تفويض إِلَّا بإِذنِ الخليفة، وله أن يَستوزر وزيرَ تنفيذ، فإِن أذِنَ له أن يَستوزر وزيرَ تفويض كان القضاءُ مندرِجاً في ولايته، كوزير الخليفة إِذا كان وزيرَ تفويض. الرتبة الخامسة: الِإمارةُ الخاصَّةُ على تدبيرِ الجيوشِ وسياسةِ الرعيّة ¬
وحمايةِ البَيْضة، دون توليةِ القُضاةِ وجبايةِ الخراج. فهذه الولايةُ أيضًا مقتضى مذهبِ مالك أنَّ القضاءَ مندرجٌ في وِلايتِهم، فإِنَّ مالكاً يقول في الكتاب (¬1): لا يُنقَضُ ما حَكَمَتْ به وُلاةُ المياه. وفسَّره القاضي عِياضٌ (¬2) ¬
بالولاةِ الذين فُوِّضَ إِليهم أمرُ المياه وهم مقيمون عندها. ولا شكَّ أن الذين فُوِّضَ إِليهم تدبيرُ الجيوشِ وغيرِها أعظمُ منهم، فنفوذُ حكمِهم بطريق الأولى، وفيه خلافٌ بين العلماء. الرتبة السادسة: ولايةُ القضاء. وهذه الولايةُ مُتناوِلَةٌ للحُكم (¬1)، لا يَندرج فيها غيرُه، بخلاف ما تقدَّم. فهي تفيد إِنشاءَ الحكم في المختلَفِ فيه، أو القابلِ للخلاف إِن كانت الواقعة لم تقع بعد، ولم يتقدم فيها فُتيا ولا قضاء، وتُفيد تنفيذَ الحكمِ المجمَعِ عليه (¬2). ¬
الرتبة السابعة: ولايةُ المظالم، وأوَّل من أحدثَها في الإِسلام عبدُ الملك بن مروان (¬1)، فكان يجلسُ للمظالم يومًا يَخُصُّه، ويَرُدُ مشكلاتِها لإِدريسَ الأَوْدِيِّ (¬2). وله ما للقُضاةِ غير أنه أفسحُ مجالاً منهم، ¬
لأنَّ له الأخذَ بالقرائنِ وشواهدِ الأحوالِ ما لا يأخذُ به القُضاة، وله وجوهٌ كثيرة اختَصَ بها عن القضاة مبسوطة في الفقه (¬1). فهذا أيضًا له إِنشاء الحكمِ ¬
في المختلفِ فيه، وله تنفيذُ الأحكامِ المجمَعِ عليها إِذا ثبتَتْ أسبابُها. الرتبة الثامنة: نُوَّابُ القُضَاة في عملٍ من أعمالهم أو مُطْلَقاتهم (¬1) ¬
مساوون للقُضاةِ الأصولِ في أنَّ لهم إِنشاءَ الحكم في غير المجمَعِ عليه، وتنفيذَ المجمَع عليه إِذا قامت الحججُ وتعينتْ الأسباب (¬1). وولايتُهم مساويةٌ لمنصبِ الحكم من غير زيادة ولا نقصان، غيرَ أنَّ الفرق بقلَّةِ العمل وكثرته من جهة كثرة الأقطار وقِلَّتها، وأنَّ الأصلَ له عَزْلُ الفرعِ بخلاف العكس، ¬
وهي فروق: ليست زائدةً في مقتضى الولاية. الرتبة التاسعة: ولايةُ الحِسْبَة، وهي تَقْصُرُ عن القضاءِ في إِنشاء كلِّ الأحكام، بل يَجتهدُ (¬1) في إِنشاء الأحكام في الرواشنِ (¬2) الخارجةِ من الدور (¬3) وبناءِ المَصاطِب في الطُرُقِ ونحوِ ذلك مما يتعلَّقُ بالحِسبة (¬4)، ¬
وليس له إِنشاءُ الأحكام ولا تنفيذُها في عقودِ الأنكحة والمعاملات. ويزيدُ (¬1) على القاضي بكونه يَتعرَّضُ للفحص عن المنكرات وإِن لم تُنْهَ إِليه، والقاضي لا يَحكم إِلَّا فيما رُفِعَ إِليه، ولا يَبحثُ عما لم يُرفَع إِليه. وله من السلاَطةِ ما ليس للقُضَاة لأن موضوعَه الرهْبَة، وموضوعَ القضاةِ النَّصَفَة، فصارت الحِسبةُ أعَم من القضاءِ من وجه وأخصَّ من وجه، فيها بعضُ القضاء دون كلِّه، وفيها ما ليس في القضاء. الرتبة العاشرة: الولاياتُ الجزئية المستفادةُ من القُضاةِ وغيرهِم، كمن تولَّى العقودَ والفُسوخَ في الأنكحة فقط، أو النظرَ في شُفُعاتِ الأيتام أو عقودِهم فقط، فيُفوَّضُ إِليه في ذلك النقضُ والإِبرام على ما يَراه من الأوضاع الشرعية. فهذه الولاية شعبةٌ من ولاية القَضاء، وله إِنشاء الأحكامِ في غير المجمَع عليه، وله تنفيذُ المجمَع عليه، وذلك كلُّه فيما وَلِيَهُ فقط، وما عداه لا يَنفُذُ له فيه حكم البتة. الرتبة الحادية عشرة: الولايةُ المستفادةُ من آحادِ الناس، وهي التحكيم، فهو مشروعٌ في الأموالِ دون الحدودِ واللعانِ ونحوه، فهو شعبةٌ من القضاء، فكل ما فيه للقُضاة، وللقُضاةِ ما ليس فيه. فهو مفيدٌ للإِنشاءِ في غير المجمَعِ عليه، والتنفيذِ في المجمَعِ عليه في الأموالِ وما يتعلَّقُ بها خاصَة. قال ابنُ يونس: قال سُحنون (¬2): فإِنْ حكَمَ فيما ليس من أحكامِ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الأموالِ نفَذَ ويُنهَى عن العَوْد. الرتبة الثانية عشرة: ولايةُ السعاةِ وجُباةِ الصدقة. لهم إنشاءُ الحكم في غير المجمَعِ عليه، وتنفيذُ المجمَعِ عليه في الأموال الزكَوِيَّة خاصَّة، فإن حكموا في غير ذلك لم يَنفُذ لعدمِ الولاية فيه. الرتبة الثالثة عشرة: ولايةُ الخَرْص. فليس فيها لمُتولِّيها إِنشاءُ حُكمِ في مختلَفٍ فيه، ولا تنفيذُ حكم في مُجمَعِ عليه. وليس له غيرُ حَزْرِ مقاديرِ الثمار، وكم يكون مقدارُها إِذا يَبِسَتْ فقط. وجعَلَ مالك حُكمَه بالمقدار إِذا تبيَّن خطؤه لا يُنقَض. والقياسُ نقضُه لأنه قد تبيَّن خطؤه قبلَ التنفيذ، والقاضي إِذا تبيَّن خطؤه قطعًا قَبْلَ التنفيذ حَرُمَ التنفيذُ إِجماعاَ فيما علمتُ، ولأنَّ إِيجابَ الزكاة بما دون النصابِ خلاف الإِجماع، أو خلافُ النصّ إِن لم يكن إجماع، وما تبيَّن أنَّ الحكمَ فيه خِلاف الإِجماع وَجَبَ نقضُهُ بالإِجماع. ¬
غيرَ أنَّ مالكاً رأى هذا من باب المصالح العامَّة للفقراءِ والأغنياء، أما للفقراءِ فلعدمِ إِفادةِ دعوى النقض، وللأغنياءِ بَالتمكُّنِ من المالِ يَتصرَّفون فيه كيف شاؤوا. ولولا الوثوق بتعيُّنِ ما حكَمَ به الخارصُ كنا نَحجُرُ عليهم، لئلا يأكلوا الثمرة ويقولوا: نَقَص الخَرْص. والقواعدُ قد تُخالَفُ لمثلِ هذا، كما ضمَّن مالكٌ حاملَ الطعامِ وإِن كان الأجيرُ أمينًا لا يَضمن، وضمَّن الصانعَ المؤثرَ في الأعيانِ بصَنْعتِه كالصبَّاغ والنسَّاج ونحوِهما؛ لأنَّ مصالحَ الناس العامَّة لا تتقررُ إِلَّا بذلك، لمبادرةِ النفوسِ لتناولِ الطعام وعِظَمِ الجُرأةِ على جَحْدِ العين إِذا تغيَّرَتْ بالصنعة. وبهذا يَظهرُ الفرق بين ولاية الخَرْص وولايةِ التقويم ونحوها، فإِن المقوِّمَ إِذا أخطأ بالزيادة أو النقص، وجبَ الرجوعُ للحق بخلافِ الخارص، لما ذكرنا من المصالح العامَّةِ التي لا تُحقَّقُ في المقوِّم ونحوِه. الرتبة الرابعة عشرة: ولايةٌ ليس فيها شيءٌ بلا من الحكم البتة، بل تنفيذُ مصالحَ وترتيبُها على أسبابها، فأهلُها كالقُضاة في التنفيذِ لا في الإِنشاء، كالولايةِ على قِسمةِ الغنائم، وإِيصالِ أموالِ الغائبين إِليهم، وصرفِ النفقاتِ والفروض المقدَرة لمستحقيها، وإِيصالِ الزكواتِ لأصنافها، ونحوِ ذلك مما فيه تنفيذٌ ليس إِلَّا, وليس فيه إِنشاءُ حكم آلبتة. الرتبة الخامسة عشرة: ولايةٌ ليس فيها حكم ولا تنفيذ، كولايةِ المقوِّمِ والتَّرْجُمانِ والكاتبِ والقائف، ومَن يُوضَعُ عنده المُوَاضعةُ (¬1) في الإِماء إِذا ¬
بِيعت، والقاسمِ ونحوِ ذلك، فهذا القِسمُ أيضًا ليس له أن يُنشئ ولا يُنفّذ، ومهما حكَمَ في شيء من الأحكام لا يَنْفُذ حكمُه؛ لأنه لمَّا لم يُولَّ عليه كان كآحادِ الناس. فقد ظهر بهذا التلخيص: ما يستفيد به الِإنسانُ ولايةَ الحكم، وما لا يستفيدُ به ذلك، وأنَّ ذلك ليس لكل أحد، وأنَّ المفيد لذلك أنواع كثيرة من الولايات، منها ما يكون ولايةُ الحكمِ بعضَه، ومنه ما لا يَسعُ ولا يَشملُ إلَّا بعضَ الحكم في شيء خاصّ، ومنها ولايةٌ تزيدُ على الحكم وتَنقصُ عنه من وجه آخر.
السؤال الرابع والثلاثون
السُّؤَالُ الرَّابِعْ وَالثَّلَاثُونْ ما معنى قولِ الفقهاء: إِنَّ للِإنسان أن يَنقُضَ حُكمَ نفسِه، وله نقضُ حكمِ غيرِه إِذا كان ذلك الغيرُ ليس أهلًا للقضاء؟ فهل يَختصُّ ذلك بالمُجمَعِ عليه؟ أو بالمُختلَفِ فيه؟ أو يَعُمُّ النوعين؟ أو ليس ذلك على ظاهره؟ جَوَابُهُ أنَّ نقْضَ الِإنسان لحكمِ نفسِه متصوَّرٌ بشرطين: أحدهما: أن يكون غيرَ مُجمَعٍ عليه. وثانيهما: أن تقطع بخطئه. والصحيحُ أنه لا يُنقَضُ اجتهاد باجتهاد، أما متى كان مجمَعًا عليه فالنقضُ في الحقيقة ليس للحكم، بل التغييرُ إِنما يَلْحقُ السببَ بمعنى أنَّ الذي اعتُقِدَ سببًا لم يُوجد سببًا. أما حُكمُ ذلك السبب لا سبيلَ إِلى نقلِه عنه. كما لو حُكِمَ على رجل بالقِصاصِ في موضعِ أجمَعَ الناسُ على ثبوت القصاص فيه، ثم تَبين أنَّ الرجل لم يقتُل، فالتغييرُ إنما لَحِقَ ما اعتُقِدَ أنه سبب لا ما يترتَّبُ عليه (¬1). وكذلك تعقُّبُ الِإنسان لحُكم غيره إِذا كان الذي تقدَّمه فاسقاً أو ليس بأهلِ: إنما معناه إنْ كان الحكمُ غيرَ مجمَعِ عليه، فله أن يُغيّرَ الحكمَ نفسَه من اللزومِ لعَدَمِه، ومن الفسخ للثبوتِ ونحوِه. وله أيضًا أن يُلغِيَ ما اعتَقَده ¬
الأولُ سببًا، فلا يَجعلُهُ الثاني سببًا إِن كان غيرَ مجمَعٍ على سببيَّته. وأمَّا الحُكمُ المجمَعُ عليه فلا يَنظُرُ إِلَّا في سببه خاصَّةً هل تَحقَّق أم لا؟ فإِن وجَدَه مُتحقِقًا تركَهُ على حاله لا حِيلةَ له فيه, وإِن كان في ثبوت سببه شكٌّ كشَفَ عنه حتى يَعلم نفيَه أو ثبوتَه، فيَنفي الحكم أو يُثْبِته.
السؤال الخامس والثلاثون
السُّؤَالُ الخَامِسُ وَالثَّلَاثُونْ قولُ الفقهاء: إِنَّ الشهود إِذا رجعوا عن الشهادة لا يُنقَضُ الحكم مُشكِلٌ، فإِنَّ إِثباتَ الحكم بغير سببِ خلاف الإِجماع، والسَّببُ لم يَثبت لرجوعِ الشهود عن الشهادة به، فهل هذا مستثنى من قاعدةِ أنَّ ما خالَفَ الإِجماعَ يُنقَضُ؟ أو له معنى آخر؟ جَوَابُهُ أنَّ ما كان خلافَ الِإجماعِ يُنقَضُ، إِلَّا أنَّ المُدْرَك في عدمِ النقض ها هنا كونُ الحكمِ ثبَتَ بقولِ عُدولِ وسببِ شرعي. ودعوى الشهود بعد ذلك: الكذِبَ اعترافٌ منهم أنهم فَسَقة، والفاسقُ لا يُنقَضُ الحكمُ بقوله، فبقي الحكمُ على ما كان عليه.
السؤال السادس والثلاثون
السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونْ قد التبسَ على كثيرِ من الفقهاء بعضُ تصرفاتِ الحكام، هل هو حُكمٌ له أم لا؟ فما التصرُفاتُ التي ليستْ بحكم حتى يكون لغيرهم تغييرُها إِن رأى ذلك، أو المُخالَفَةُ فيها؟ فإِنَّ الحُكمَ نفسَه لا يجوز نقضُه، وغيرَه يجوزُ نقضُهُ والمُخالفةُ فيه. فما ضابطُ ما عدا الحكمَ حتى يُعرَفَ أنه غيرُ حُكمٍ فيُنظَرَ فيه (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّ تصرُّفاتِ الحُكَام والأئمة بغير الحكم أنواعٌ كثيرة، أنا ذاكرٌ منها - إِن شاء الله - عشرين نوعاً، وهي عامَّةُ تصرُّفاتِهم فيُسلَمُ من الغلَطِ فيها: النوع الأول: العقود، كالبيع والشراءِ في أموال الأيتام والغائبين والمجانين، وعقدِ النكاح على من بَلَغ من الأيتام، وعلى من هو تحت الحَجْر من النساء ومن ليس لها وليّ، وعقدِ الإِجارة على أملاكِ المحجورِ عليهم، ونحوِ ذلك. فهذه التصرفاتُ ليست حُكماً، ولغيرِهم النظرُ فيها، فإِن وجَدَها بالثمنِ البخس، أو بدونِ أُجرةِ المثل، أو وجَدَ المرأةَ مع غير الكفء: فله نقلُ ذلك على الأوضاع الشرعية، ولا تكونُ هذه التصرفاتُ في هذه الأعيان ¬
والمنافع حُكماً في نفسِها البتة. نعم قد تكون حُكماً في غيرها، بأن تتوقَّفَ هذه التصرفات على إِبطالِ تصرفاتٍ متقدّمةِ على هذه التصرفات الواقعة من الحاكم الآن، كتزويجِها بعدَ أن تزوَّجتْ من غير هذا الزوج والحاكمُ يَعلمُ ذلك، أو بَيْعِ العين مِن رجلٍ بعد أن بِيعَتْ من رجل آخر والحاكمُ يَعلمُ ذلك، ونحوِ ذلك، فإِنَّ ثبوتَ هذه التصرفاتِ بهذه العقود يقتضي فَسْخَ تلك العقود السابقة ظاهراً. النوع الثاني: إِثباتُ الصفات، نحوُ ثبوتِ العدالة عند حاكمٍ أو الجرحِ، أو أهليةِ الإِمامة للصلاة، أو أهليةِ الحضانة، أو أهلية الوصيَّة، ونحوِ ذلك. فجميعُ إِثباتِ الصفات من هذا النوع ليس حكمًا، ولغيره من الحكام أن لا تقبلَ ذلك، ويَعتقدَ فِسقَه إِن ثبَتَ عنده سببُه، وتقبلَ ذلك المجروحَ إِن ثبَتَ عنده عدالتُه، وكذلك جميعُ هذه الصفات ليست بحكم البتة. النوع الثالث: ثبوتُ أسباب المطالبات، نحوُ ثبوتِ مقدارِ قِيمة المُتلَفِ في المُتلفَات، وإِثبات الدُّيون على الغُرمَاء، وإِثباتِ النفقات للأقارب والزوجات، وإِثباتِ أُجرةِ المِثل في منافع الأعيان، ونحوِه. فإِنَّ إثبات الحاكم لجميع هذه الأسباب ليس حُكماً، فلغيره من الحكام أن يُغيّر مقدارَ تلك الأجرةِ وتلك النفقةِ وغيرِها من الأسباب المقتضِيَةِ للمطالبة (¬1). ¬
النوع الرابع: إِثباتُ الحِجَاجِ المُوجِبةِ لثبوت الأسبابِ الموجِبة للاستحقاق، نحوُ كونِ الحاكم ثبَتَ عنده التحليفُ ممن تعيَّنَ عليه الحلفُ، وثبوتِ إِقامةِ البينات ممن أقامها، وثبوتِ الإِقرارات من الخصوم، ونحوِ ذلك. فإِنَّ هذه حِجَاج تُوجبُ ثبوتَ أسبابٍ موجبةٍ لإستحقاق مسبَّباتها، ولا يَلزمُ من كونِ الحاكم أثبتها أن تكون حُكماً، بل لغيره أن يَنظر في ذلك فيُبطِلَ أولًا يُبطِل، بل إِذا اطَّلع فيها على خَلَلٍ تعقَّبه، ولا يكونُ ذلك الإِثباتُ السابقُ مانعًا مِن تعقُّبِ الخلَل في تلك الحِجَاج. النوع الخامس: إِثباتُ أسباب الأحكام الشرعية، نحوُ الزَّوَالِ، ورُؤيةِ الهلالِ في رمضان وشوالٍ وذي الحِجَّة، مما يترتَّبُ عليه الصومُ، أو وجوبُ الفطر، أو فِعلُ النُسُك، ونحوُ ذلك، وجميعُ أوقات الصلوات. فجميعُ إِثبات ذلك ليس بحكم، بل هو كإِثباتِ الصفات. وللمالكي أن لا يصوم في رمضان إِذا أثبَتَ الشافعيُّ هِلالَ رمضان بشاهدٍ واحد؛ لأنه ليس بحكم وإِنما هو إِثبات سبب، فمن لم يكن ذلك عنده سببًا لا يَلزمه أن يُرتَبَ عليه حُكماً (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
النوع السادس: مِن تصرفات الحكام، الفتاوى في الأحكام في العباداتِ وغيرِها، من تحريمِ الأبضاع، وإِباحة الانتفاع، وطهاراتِ المياه، ونجاساتِ الأعيان، ووجوبِ الجهاد، وغيرِه من الواجبات، وليس ذلك بحكم، بل لمن لايعتقدُ ذلك أن يُفتيَ بخلاف ما أَفتى به الحاكمُ أو الإِمامُ الأعظم. وكذلك إِذا أَمروا بمعروف أو نَهَوْا عن منكر وهم يعتقدونه منكرًا أو معروفاً، فلمن لا يعتقد ذلك أن لا يفعل مثلَ فعلِهم، إِلَّا أن يدعوه الإمامُ للِإنكار، وتكونَ مخالفتُه شِقاقاً، فتجبُ الطاعةُ لذلك. وأما الحاكم فلا يُساعَدُ على ما نعتقدُ نحن خلافَ ما هو عليه، إِلَّا أن يُخشى فتنةٌ يَنهى الشرعُ عن السماحةِ فيها. النوع السابع: تنفيذاتُ الأحكام الصادرة عن الحكام فيما تقدَّم الحكمُ فيه من غير المنفذ بأن يقول: ثبَت عندي أنه ثبَتَ عند فلان من الحكام كذا وكذا. وهذا ليس حُكماً من المنفِّذ البتة. وكذلك إِذا قال: ثبَتَ عندي ان فلانًا حكَمَ بكذا وكذا: فليس حُكماً من هذا المثبِت، بل لو اعتقَدَ أنَّ ذلك الحكم على خلافِ الإِجماع صحَّ منه أن يقول: ثبَتَ عندي أنه ثبَتَ عند فلان كذا وكذا؛ لأنَّ التصرُّف الفاسدَ والحرامَ قد يَثبُتُ عند الحاكم، ليترتَّبَ عليه تأديبُ ذلك الحاكمِ أو عَزْلُه. وبالجملة: ليس في التنفيذ حُكم البتة، ولا في الإِثبات أنَّ فلانًا حكَمَ مساعدةٌ على صحَّةِ الحكم السابق، فلا يُغتَرُّ بكثرةِ الإثبات عند الحكام، فهو كحكمِ واحدِ وهو الأوَّل، إلَّا أن يقول الثاني: حكمتُ بما حكَمَ به الأول.
النوع الثامن: تصرُّفات الحكامِ بتعاطي أسباب الإستخلاص ووصولِ الحقوق إِلى مستحقِّيها، من الحبسِ والإِطلاقِ، وأخذِ الكُفَلاء الأمْلِياء، وأخذِ الرُّهون لذوي الحقوق، وتقدير مدة الحبس بالشهور، وغيرِها. فهذه التصرفات كيفما تقلَّبت ليست حُكماً لازمًا، ولغير الأوَّل من الحكام تغييرُ ذلك وإِبطالُه بالطرق الشرعية على ما تقتضيه المصلحةُ شرعًا. النوع التاسع: التصرُّفُ في أنواع الحِجَاج، بأن يقول: لا أسمعُ البيِّنةَ لأنك حلفتَ قبلَها مع قدرتك على إِحضارها، أو لا أحكمُ بالشاهدِ واليمين، أو لا أردُ اليمينَ على المدَّعي، أو لا أُحَلِّفُ المدَّعَى عليه لأنها يمينُ تُهمة، ومذهبي أنها لا تُحلَّف. فهذا كلُّه ليس حُكماً شرعياً، ولغيره من الحكام أن يفعل ما تركه. النوع العاشر من التصرفات: توليةُ النُوَّابِ عنهم في الأحكام، ونَصْبُ الكُتَّاب والقُسَّام والمترجِمين والمقوِّمين وأمناءِ الحُكم للأيتام، وإِقامةُ الحُجاب والوَزَعة، ونَصْبُ الأُمناء في أموال الغائبين والمجانين، وإِقامةُ من يَتَجرُ في أموال الأيتام، أو يَعمُرُ العَقَار، أو يَجبِي رَيْعَهُ ويَلُمُّ شَعَثَه، ونحوُ ذلك. فهذا كلُّه ليس بحكم في هذه المواطن، ولغيره من الحكام نقضُ ذلك وإِبدالُه بالطرق الشرعية، لا بمجرد التشهي والغَرَض والهوى واللعب. النوع الحادي عشر: إِثباتُ الصفاتِ الموجِبةِ لِلمُكْنَةِ من التصرُفِ في الأموال، كالترشيد في الصبيانِ والبنات، وإِزالةِ الحَجْر عن المُفْلِسين والمكاتَبِين والمبذِّرين والمرتدِّين، أو المُزِيلةِ للمُكْنَةِ من التصرُّف، كضربِ الحَجْرِ على غيرِ البالغين أو المجانين أو المفلِسين أو المبذِّرين ونحوِهم.
فليس ذلك بحكم يَتعذَّرُ نقضُه، بل لغيره أن يَنظرُ في تلك الأسباب، ومتى ظهَرَ له وتحقَّقَ ضدُّ ما تحقق عند الأوَّلِ نقَضَ الحُكمَ وحكَمَ بضدّه، فيُطلِقُ مَنْ حُجِرَ عليه، ويَحجرُ على من أَطلَقه الأول، كما تقدَّمَ في العدالةِ والتجريح (¬1)؛ لأنه إِثباتُ صفاتٍ لا إِنشاءُ أحكام. النوع الثاني عشر: من تصرُّفاتِ الأئمة: الإِطلاقاتُ من بيت المال، وتقديرُ مقاديرِها في كلِّ عطاء، والإِطلاقاتُ من الفيءِ أو الخُمُسِ في الجهاد، والإِطلاقاتُ من أموال الأيتام لهم التي تحت يدِ الحكام، والإِطلاقاتُ في الأرزاق للقُضاةِ والعلماءِ والأئمةِ للصلاة والقُسَّامِ وأربابِ البيوت والصلحاءِ، وإِطلاقاتُ الإِقطاعات للأجنادِ وغيرِهم من القُرَى والمعادِن. ومن ذلك إِنفاقُ بعضِ الجهاتِ العامَّةِ على من يجوز الصرفُ لهم على الخلاف في ذلك، هل يُلاحَظُ أنه صَرْفٌ للمال في جهته الشرعية فيجوز؟ أو يُلاحَظُ الحَجْرُ بالوقفِ على المستحقّ ولم يكن ذلك لازمًا له فيَمتَنع؟ فهذا كلُّه ليس حكمًا، ولغيره - إِذا رُفِعَ له - النظرُ فيه بما يَراه من الطرق الشرعية فيُطْلِقُ ما عَوَّقَ، ويُعوَّقُ ما أَطلَق بحسب ما تقتضيه المداركُ الشرعية. النوع الثالث عشر: اتِّخاذُ الأحْمِيَة من الأراضي المشتركةِ بين عامَّة المسلمين تَرْعَى فيها إِبلُ الصدقة وغيرُها، كما فَعَلَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيرُه. ¬
فهذا ليس حُكماً: ولغيره بعدَه أن يُبطِلَ ذلك الحِمَى، ويَفعلَ في تلك الأرض ما تقتضيه المصالح الشرعية. النوع الرابع عشر: تأميرُ الأمراءِ على الجيوش والسرايا، فقد عزَمَ الصحابةُ رضوان الله عليهم على ردِّ جيشِ أسامة، ونفَّذَه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنه المصلحة في نظره، لا لتعذُّرِ نَقْضه. النوع الخامس عشر: تعيينُ أحدِ الخِصالِ في الحِرابةِ لعقوبة المحارِبين (¬1)، ليس حكمًا شرعياً، وإذا رُء لغيره من أهلِ مَذْهَبه في مذهبِ من يَرى التخييرَ مطلقًا قبلَ التنفيذ، ورأى أنَّ المصلحة تعيينُ غير تلك الخَصْلَة عيَّنَها؛ لأنَّ تعيينها أولًا ليس حُكماً شرعياً. النوع السادس عشر: تعيينُ مقدارٍ من التعزير إذا رُفع لغيره قبلَ تنفيذه فرأى خلافَ ذلك، فله تعيينُه وإِبطالُ الأول؛ لأنه ليس حكمًا شرعياً، بل اجتهادٌ في سببٍ هو الجِناية، فإِذا ظهر للثاني أنها لا تقتضي ذلك حَكَمَ بما يراه. وهذا بخلاف تعيين الأسارى للرِقِّ ونحوِه؛ لأنها مسألةُ خلافٍ بين العلماء، فقال بعضهم: تُقْتَلُ الأسارى فقط، ومذهبُنا ومذهبُ الشافعي وأبي حنيفة: جوازُ الإسترقاقِ أو ضَرْبِ الجزية، فإِذا اختار أحدَهما فهو حُكم منه بالذي اختاره، وهو إِنشاءُ حُكمٍ في مختلَفٍ فيه. ¬
وكذلك كلُّ خَصْلَةٍ من الخِصال الخَمْس التي يُخيَّرُ فيها الإِمامُ في الأسارى: المنِّ، والفداءِ، وضربِ الجِزية، والقتلِ، والإسترقاق. ووافَقَنا الشافعيُّ في التخيير بين الخمسة، ومنَعَ أبو حنيفة المَنَّ والفِداءَ. وبالجملة: فاختيارُ الإِمام لأيّ خَصلةٍ اختارها من الخَمْسِ حُكمٌ بتلك الخَصلة؛ لأنه إِنشاءٌ في مختلَفٍ فيه. أمَّا مَقاديرُ التعزيرِ فليس فيها خلاف، إِنما اتفق الناس على أنه يَتبَعُ سببَهُ في عِظَمِه وحقارتِه، وللإِمامِ أو الحاكمِ تلخيصُ ذلك السبب، فلا يقعُ فيه إِنشاءُ حُكم بتلخيصِ سببٍ وتنفيذِ حُكمٍ مجمَعٍ عليه. وكذلك اختياره لخَصْلَةٍ من عقوبة المحارِبين إِن وُجِدَ من المحارِب القتلُ وعيَّنَ الإِمامُ القتلَ: لم يكن إِنشاءً لحاكم في مختلَفٍ فيه، بل تنفيذٌ لمجمَعٍ عليه. وإِن عيَّنَ القتلَ في محارِبٍ لم يقتُل، لِعظَمِ رأيِه ودَهائِهِ وأنَّ قَتْلَه مصلحة للمسلمين، فهذه مسألةُ خلاف: فالشافعيُّ يَمنعُها ولا يُجيزُ قتلَ المحارب إِلَّا إِذا قَتَل، ولا قَطْعَه إِلَّا إِذا قَطَع، فتصيرُ هذه كمسألة الأسارى سواء، فتتعيَّنُ خَصلةٌ من خِصال عقوبةِ المحارِب بالقتلِ أو القطع، ويكون على هذا التقرير إِنشاءَ حكمٍ في مختلَفٍ فيه لا يجوزُ لغيره نقضُه. وكذلك تعيينُ أرضِ العَنْوَةِ للبيع، أو القسْم، أو الوقفِ، إِنشاءٌ في مختلَفٍ فيه. النوع السابع عشر من التصرُّفاتِ: الأمرُ بقتلِ البُغَاةِ وردْعِ الطُّغاة إِذا لم يُنَفَّذْ، ليس إِنشاءً الحاكم في مختلَفٍ فيه، فلغيره إِذا اتَّصلَ به أن يَنظرَ في تحقيقِ سببه، إِلَّا أن تكون المسألةُ مختلفاً فيها، كتاركِ الصلاة، وقَتْلِ
الزنادقة، فإِنه إذا عيَّنَ القتلَ وحكمَ به، كان هذا إِنشاءً الحاكم في مختلفٍ فيه، فليس لغيره نقضُه، بخلاف قتالِ البُغاةِ المجمَع عليه ونحوِه فإِنه متفَق عليه. النوع الثامن عشر: عَقْدُ الصُّلحِ بين المسلمين وبين الكفار، ليس من المختلَفِ فيه، بل جوازُه عند سببه مجمَع عليه، فلغيره بعده أن يَنظرَ: هل السببُ يقتضي ذلك؟ فيُبقيَه، أو لا يقتضيه؟ فيُبطلَه. والصُلحُ إِنما هو التزامٌ لكفايةِ الشر حالةَ الضعف، فإِن كان فيه تأمين، أوما يُوجبُ نقضُهُ عليه الخِيانَةَ من جهةِ المسلمين امتنَعَ نَقْضُه لذلك؛ لأنه مُوادَعة ومُتاركةٌ للحرب (¬1). النوع التاسع عشر: عَقْدُ الجِزية للكفار لا يجوز نقضُه ولا تغييرُه، ولكن ليس لكويه حكمًا إِنشائياً، كالقضاء بصحةِ العقود المختلَفِ فيها، بل لأنَّ الشرع وضَعَ هذا العقدَ مُوجِبَاً للإستمرارِ للمعقودِ له ولذُرِّيَّتِه إلى يوم القيامة، إِلَا أن يكون وقَعَ على وجهٍ يقتضي النقض، كعَقْدهِ لأهلِ دِينٍ لا يجوز إِقرارُهم، نحوُ الزنادقةِ والمرتدةِ ونحوِهم. وأما متى وقع مستجمعاً لشروطه فلا يجوز لأحدٍ تغييرهُ، كعقد البيع وغيرِه مما مقتضاه الدوام، لا يجوز لأحدٍ إِبطالُه بغير سببٍ حادثٍ يقتضي إِبطالَه. ¬
النوع العشرون: تقرير الخراج على الأَرَضِين وما يُؤْخَذُ من تُجارِ الحربِيين: ليس بحكم، إِنما هو ترتيبُ ما تقتضيه الأسبابُ الحاضرة، فإِن ظهَرَ لغيره أنَّ السبب على خلاف ما اعتقده الأولُ فَعَل غيرَ ذلك، وإن تبيَّنَ أنَّ العقد على خلافِ الغِبْطةِ للمسلمين نقَضَه، كما إِذا باع مالَ اليتيم بالبَخْسِ فإِنه يُنقَض. تنبيه حُكمُ الحاكمِ في مسائل الإجتهاد لا يُنقَض، والحكمُ المجمَعُ عليه لا يُنقَض، وعَقْدُ النَّذْر لا يُنْقَض، وعُقودُ التعاليق في الشروط في الطلاقِ والعتاقِ وغيرِهما لا تُنْقَض، وعقودُ المعاملات لا تُنْقَض. وسبَبُ ذلك مختلِفٌ: ففي مسائل الإجتهادِ كونُه نصَّاً خاصاً كما تقدَّمَ بيانُه (¬1)، فيُقَدَّمُ على العامّ. وفي مسائل الإِجماع لأجلِ الإِجماعِ على أنَّ ذلك السبب يقتضي ذلك الحكمَ فلا يجوز اقتطاعُه عنه. وعَقْدُ النَّذْرِ لأنه سبَبٌ يقتضي اللزومَ فيما التَزَم. وعَقْدُ الجِزية لأنه يقتضي الدوامَ بالإِجماع، وعقودُ المعاملات كذلك. فعدَمُ النقض مشترَك، والأسبابُ مختلفة. ¬
السؤال السابع والثلاثون
السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونْ ما معنى مذهبِ مالكِ الذي يقلَّدُ فيه ومذهبِ غيرِه من العلماء؟ فإِن قلتم: ما يقوله مِن الحقّ، أشكلَ ذلك بقوله: الواحدُ نصف الإثنين، وسائرِ الحسابيات والعقليات، وإِن قلتم: ما يقوله من الحق في الأمور الشرعية مما طلبَهُ صاحبُ الشرع، بطَلَ ذلك بأصولِ الدين وأصولِ الفقه، فإِنها أمورٌ طَلَبها صاحبُ الشرع، ولا يجوز التقليدُ فيها لمالكٍ ولا غيرِه. فإِن قلتم: مذهبُ مالكٍ وغيرِه من العلماء الذين يقلَّدون فيه هو الفروعُ الشرعية. قلتُ: إِن أردتم جميعَ الفروع بطَلَ ذلك بالفروع المعلومة من الدين بالضرورة، كالصلوات الخمسِ، وصوم شهر رمضان، وتحريمِ الكذبِ والزِّنى والسرقةِ ونحوِها، فإِنها يَبطلُ فيها التقليدُ لكونها ضروريَّة، والمعلومُ من الدين بالضرورة يستحيلُ فيه التقليدُ، لاستواءِ العامَّةِ والخاصَّةِ فيه، وهي من الفروع. وإِن أردتم بعضَ الفروع فما ضابطُه؟ ثم إِنْ بيَّنتُم ضابطَه لا يتمُ لكم المقصود؛ لأنَّ الحد حينئذ لا يكون جامعاً، فإِنه خرَجَ عنه ما تَقلَّدتم فيه من أسباب الأحكام وشروطِها، فإِنَّ أسبابَ الأحكام وشروطَها غيرُها, ولذلك قال العلماء: الأحكام مِن خِطابِ التكليف، والأسبابُ والشروطُ مِن بابِ خِطابِ الوضع، فهما بابانِ متباينان. ولأجلِ هذه الأسئلةِ لا يكادُ فقيه من ضعفَةِ الفقهاء يُسألُ عن حقيقةِ مذهب إمامِه الذي يقلدُ فيه فيَعرفه على التحقيق، وهذا عامٌّ في جميع
المذاهبِ المقلَّدِ فيها الأئمة. جَوَابُهُ أنَّ ضابطَ المذاهب التي يقُلَّدُ فيها أنها خمسةُ أشياء لا سادسَ لها: 1 - الأحكامُ الشرعية الفُروعيَّة الاجتهادية. 2 - وأسبابُها. 3 - وشروطُها. 4 - وموانعُها. 5 - والحِجاجُ المثبِتةُ للأسباب والمشروطِ والموانعِ. 1 - فقولنا: (الأحكامُ) احترازٌ عن الذوات. وقولُنا: (الشرعية) احترازٌ عن العقلية كالحساب والهندسةِ والحِسيَّات وغيرِها. وقولنا: (الفُروعيَّة) احترازٌ مِن أصول الدين وأصول الفقه، فإن الشرع طَلَب منا العلمَ بما يجبُ له سبحانه وتعالى، وما يستحيلُ عليه، وما يجوز. وطلَبَ منا العلمَ بأصول الفقه لاستنباط الأحكام الشرعية، فهي أحكامٌ شرعية لكنها أصولية ولا تقليد فيها. فأخرجنا بقولنا: (الفروعية) الأحكامَ الشرعيةَ الأصولية، وهي أصولُ الدينِ وأصولُ الفقهِ المطلوبانِ شرعًا (¬1). وأخرجنا بقولنا: (الاجتهادية) الأحكامَ الفروعيةَ المعلومةَ من الدين بالضرورة. 2 - وقولُنا: (وأسبابُها) نريد به نحوَ الزوالِ ورؤيةِ الهلال والإِتلافِ سَبَبِ الضمان، ونحوَ ذلك من المتفَقِ عليه. ومن المختلَفِ فيه: الرَّضْعةُ الواحدةُ سبَبُ التحريم عند مالك دون ¬
الشافعي، وضَمُّ غيرِ الربوي في نحوِ مسألةِ مُد عجوةٍ ودرهمٍ سبَبٌ للفساد عند مالك والشافعي، خلافًا لأبي حنيفة (¬1)، وحُلولُ النجاسة فيما دون القُلتينِ مع عدم التغيرِ سبَبُ التنجيسِ عند الشافعي وأبي حنيفة، خلافًا لمالك، ونحوُ ذلك. 3 - (والشروطُ) نحوُ الحَوْلِ في الزكاة، والطهارةِ في الصلاة، من المجمَعِ عليه. والوليِّ والشهودِ في النكاح، من المختَلَفِ فيه. 4 - و (الموانعُ) كالحَيْضِ يَمْنعُ الصلاة والصوم، والجنونِ والإِغماءِ يمنعُ التكليفَ، من المجمَعِ عليه، والنجاسةِ تمنعُ الصلاةَ، من المختلَفِ فيه، وكذلك مَنع الدَينِ الزكاةَ. 5 - وقولُنا: (والحِجاجُ المثبِتةُ (¬2) للأسبابِ والشروطِ والموانعِ) نريد به ما يَعتمدُ عليه الحُكَّامُ من البيّنات والأقارير ونحوِ ذلك. وهي أيضًا نوعان: 1 - مجمَعٌ عليه: نحوُ، الشاهدينِ في الأموال، والأربعةِ في الزنا، والإِقرارِ في جميع ذلك إذا صدَرَ من أهله في محله، ولم يأتِ بعدَهُ رجوعٌ عن الِإقرار. ¬
2 - والنوع الثاني مختلَفٌ فيه، نحوُ الشاهدِ واليمين، وشهادةِ الصبيان في القتلِ والجِراح، والِإقرارِ إذا تعقَّبَه رجوع، وشهادةِ النساء إذا اقتُصِرَ منهن على اثنتين فيما يختَصُ بهن الإطّلاع عليه، كعيوبِ الفُروج واستهلالِ الصبي ونحو ذلك. وإِثباتِ القِصاص بالقَسامة، فإِن الشافعي يَمنعُه، ونحوِ ذلك. فهذه الحِجاجُ يَثبُتُ بها عند الحكام الأسبابُ نحوُ القتل، والشروطُ نحوُ الكفاءة، وعدَمُ الموانع نحوُ الخُلُو عن الأزواج، ونحوِه. ونحن كما نُقلِّدُ العلماءَ في الأحكام وأسبابِها وشروطِها وموانِعها، فكذلك نُقلِّدُهم في الحِجاج المثبِتةِ لذلك كما تقدَّم. فهذه الخمسة هي التي يقع التقليدُ فيها من العوامّ للعلماء، لا سادسَ لها، عملًا بالإستقراء، فمن سُئلَ عما يقُلَّدُ فيه العلماء فليذكر هذه الخمسة على هذا الوجه، يكونُ مجيبًا بالضابط الجامع المانع، وما عدا ذلك يكون الجوابُ فيه مختلاً بعدمِ الجمعِ أو بعدمِ المنع. تنبيه ينبغي أن يقال: إِنَّ الأحكامَ المجمَعَ عليها التي لا تَختَصُّ بمذهب، نحوُ جوازِ القِراض ووجوبِ الزكاة والصومِ ونحوِ ذلك: إِنَّ هذه الأمور مذهبُ إِجماعٍ من الأُمَّة المحمدية. ولا يقال: هذا مذهَبُ مالكٍ والشافعي إِلَّا فيما يختَصُ به؛ لأنه ظاهرُ اللفظ في الإِضافةِ والإِختصاص. ألا تَرى أنه لو قال قائل: وجوبُ الخمس صلواتٍ في كلِّ يوم هو مذهبُ مالك، لنبَا عنه السمعُ ونَفَر منه الطبع، وتُدرِكُ بالضرورة فرقاً بين هذا القول وبين قولنا: وجوبُ التدليك في الطهارات مذهبُ مالك،
ووجوبُ الوتر مذهبُ أبي حنيفة، ولا يَتبادَرُ الذهنُ إِلَّا إِلى هذا الذي وقَعَ به الإختصاص، دون ما اشترك فيه السَّلَفُ والخَلَفُ والمتقدّمون والمتأخّرون. كما أنه لا يقال: هذه طريقُ الزُّهَّاد إِلَّا فيما اختَصَّ بهم، دون ما يُشاركهم فيه الفُجَّار والكَفَرة، فالطُّرقُ المشتركةُ لا يَحسنُ إِضافتُها لآحادِ الناس إِلَّا توسُّعاً، وعلى التحقيقِ لا يُضافُ إِلَّا للمُختَصّ. كذلك المذاهبُ إِنما هي طَرِيقٌ مَعْنَوِيّهٌ لا يُضافُ لعالمٍ منا إِلَّا ما اختَصَّ به. وكذلك يقال: المذاهبُ المشهورةُ أربعة، ولن يَحصُلَ التعدُّدُ إِلا بالإختصاصِ لا بالمشتَرَكِ بينها. وعلى هذا ينبغي أن يزاد في الضابط هذا القيدُ، فإِذا قيل لك: ما مذهبُ مالك؟ فقُل: ما اختَصَّ به من الأحكام الشرعيةِ الفُرُوعيةِ الاجتهاديةِ، وما اختَص به من أسبابِ الأحكام والشروطِ والموانعِ والحِجاجِ المثبِتةِ لها. وهذا هو اللائق الذي يُفهَمُ في عرف الإستعمال، وما السؤالُ إِلا عنه. وبهذا التلخيص تزداد المسألةُ غُموضاً والجوابُ عن السؤال بُعداً، وتقلُّ معرفةُ الجواب من كثيرٍ من الفقهاء (¬1). تنبيه اعلم أنَّا إِذا قلَّدنا آحاد العلماء في الأسباب، إِنما نُقلِّدهم في كونها أسبابًا لا في وقوعها، ففَرْقٌ بين قولِ مالك: اللِّواطُ مُوجِب للرَّجْم، وبين قوله: فلانٌ لاطَ، فنُقلِّدُه في الأول دون الثاني، بل الثاني من باب ¬
الشهادة، إِن شَهِدَ معه ثلاثةٌ ثَبَتَ الحكم وإِلا لم يَثبُت. وهو في هذا مُساوٍ لسائرِ العدول، ولا أثَرَ لكونه مجتهداً في هذا الباب لا هو ولا غيرُه من المجتهدين. وكذلك نُقلدُه في أنَّ النبَّاش يقطعُ، ولا نُقلدهُ في أنَّ فلانًا نَبَشَ. وكذلك نُقلدُه في أنَّ النية شَرْطٌ في الطهارة، ولا نُقلدهُ في أن فلانًا نَوَى. ونُقلدُه في أن الدَّيْن مانعٌ من الزكاة، ولا نُقلدُه في أن فلانًا عليه دَيْن يستغرقُ مالَه (¬1)، بل لابُدَّ معه من شاهدٍ آخر. وهو في جميع هذه الأمور كسائرِ العدول، ولا أثر لكونه مجتهداً، بل هذا المعنى يكفي فيه مُطلَقُ العدالة (¬2). ¬
فإن قلتَ: فنحن نُقلدُه إِذا رَوَى لنا عن ماعزٍ أنه زَنى، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَجَمه (¬1). وكذلك الغامِدية (¬2). وكذلك قلَّدناه في سارقِ رِداءِ ¬
صفوان، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطَعَه (¬1). وهذا كلُّه تقليدٌ في وقوعِ الأسباب، ويكفي في العمل بهذه الوقائع رِوايتُه وحدَه. وكذلك إِذا رواه غيرُه من العلماء وحدَه قلَّدناه ورَتَّبنا عليه الأحكام، فبطَلَ ما ذكرتموه من أن التقليدَ لا يَدخلُ في وقوع الأسباب. بل أكثَرُ الشريعة مبنية على الأسباب الواقعة في زمانه - عليه السلام - من الظهار واللعان وغيرهما، وأجمَعَ الناسُ على أنه إِذا نَقَل إِلينا عالمٌ عَدْلٌ شيئًا من ذلك قلَّدناه فيه ورَتَّبنا عليه الأحكَام اللائقةَ به، وليس لكل مجتهدٍ طريقٌ إِلى معرفةِ الأدلة، وانتزاعِ الأحكام من الوقائع والأسباب إِلا بطريق التقليد لناقليها، فظهر أن وقوعَ الأسباب والشروط والموانع يُقلَّد فيها. قلنا: ليس هذا مما نحن فيه لأنَّ هذا من باب الرواية, والروايةُ يكفي فيها الواحدُ على الصحيح من مذاهب العلماء، واشترَط بعضُهم اثنين، واشترَطَ بعضُهم في الأحاديثِ المتعلقةِ بالزِّنا أربعةَ رُواة. وإِذا اكتَفينا بالواحد في الرواية فمعناه أنَّا نُصدّقُه في وقوعِ ذلك السببِ أو ذلك الشرطِ أو ذلك المانع، من حيث إِنه يترتَّبُ عليه شَرْعٌ عامٌّ إِلى يوم القيامة لا يَختصُّ بأحد. ¬
ولا نُصدّقُه ونعتبرُ روايتَه في ترتب الحكم في تلك الصورة الجزئية التي رواها، فلا نَرجمُ غيرَ ماعزِ بقوله (¬1)، ولا نَقطعُ غيرَ سارِقِ رِدَاءِ صفوان بقوله، وإِن كنا نَرجُمُ الزانيَ بتلك الرواية إِلى قيام الساعة، ونقطعُ (¬2) السارقَ إِلى قيام الساعة بقوله، فلا تَثبُتُ الأحكامُ أبداً (¬3) في غيرِ ذلك الجزئي الذي رواه إِلا بطريق الشهادةِ وتكميلِ النصاب منه مع غيره، فافهم هذا الموضعَ فهوَ مزَلَّة لكثير من الفقهاءِ. ولهذا السرّ قال علماء الأصول: إِنما اشتُرِطَ العددُ في الشهادة دون الرواية؛ لأنَّ العداوة تُتوقَّعُ في الصُّوَر الجزئية، وقد لا يُعلَمُ بها، وكذلك أسبابُ التُّهَم، فاشتَرطَ الشرعُ مع الواحد آخَرَ لتَبْعُدَ مظِنَّةُ العداوةِ والتُّهمة (¬4). قالوا: وأما عداوةُ الخَلْقِ إِلى يوم القيامة فَتَبْعُدُ جداً، فلذلك اكتَفى صاحبُ الشرع بالعدلِ الواحد؛ لأنَّ ظاهر العدالةِ الصدق. فظهر حينئذٍ أنَّا إِنما نُقلّد العلماءَ في الوقائع الجزئية إِذا رَوَوْها فيما يَتعلَّقُ بها من غير أحكامها الواقعة فيها، أما في أحكامِها المتعلّقة بها فلا نُقلدُهم أصلًا، بل راويها شاهدٌ من الشهود، فهو مُقلدٌ فيها من وجهٍ دون وجه كما تقدَّم (¬5). إِذا تقررَ أنَّا لا نُقلدُ العلماءَ في وقوع الأسباب في ترتيب أحكامها ¬
الخاصَّة بها عليها، فاعلَمْ أنه قد وَقَع في المذاهب مسائلُ مبنيَّةٌ على تقليدهم في وقوع الأسباب في ترتيب أحكامها الخاصة بها عليها، كما اتَّفق المالكيةُ في نقضِ البِياعات، وإِبطالِ الِإجارات، وتعطيلِ الأخذ بالشُّفُعات في أراضي العَنْوَات كمصر ومكة والعراق ونحوِها. فقال مالك: مِصرُ فُتِحَتْ عَنْوةً فعمَدَ فقهاء المذهب إِلى إِبطال البَيعِ والشُّفعةِ والإِجارةِ في أرض مصر، بناءً على قوله: فُتِحَتْ عَنْوة؛ لأنَّ من مذهبه أن أرض العنْوَةِ لا تُباعُ ولا تُؤجرُ ولا يُستَحقُّ فيها شُفعة. فتقليدُهم له في أنَّ بيعَها وإجارتَها والشُّفعة فيها لا تصح تقليدٌ صحيح (¬1)؛ لأنه تقليدٌ في الأحكام. وتقليدُهم له في أنَّ الأرض إذا فُتحَتْ عَنْوةً اقتضت هذه الأحكامَ: تقليدٌ صحيح؛ لأنه تقليدٌ في سببيّةِ سَبَب. وتقليدُهم له في أنَّ الأخذ قهرًا وعَنْوةً وقَعَ في أرض مصر ومكة تقليدٌ لا يصح؛ لأنه تقليدٌ في وقوع سبب لا يترتّبُ عليهُ أحكامٌ عامة ولا خاصة (¬2). ¬
أمَّا أنه لا يَترتَّب عليه أحكامٌ عامَّة لعموم الخلق كما قلنا في زِنا ماعز، لأنَّ ترتيبَ الأحكامِ العامَّة إِنما نشأ من أنَّ المباشِرَ لتلك الأحكام مَنْ فِعلُه ¬
حُجَّة، وهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فلو كان الراجمُ لماعزٍ مَنْ ليس فِعلُه حُجَّةً ما انتفعنا بروايته في ترتيب الأحكام العامة أصلًا. وكونُ مِصرَ عَنْوَةً لم يُتصرَّف فيها بالوقفِ وإِبطالِ البيع: ليس ممن قولُه حُجَّةٌ ولا فِعلُه، بل إِنما وقع فتحُها في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يَثبت أنهم صرَّحوا بامتناع البيع في خصوصها، ولو ثبَتَ ذلك كان حُجَّة. وأما أنه لا يترتب عليه أحكام خاصة، فلأنَّا قد بينَّا أنّ روايةَ وقوعِ الأسباب لا تقتضي أن تترتَّب عليها الأحكامُ الجزئيةُ الخاصة بها، كما لا يُرجَمُ ماعزٌ برواية واحدٍ ونحوِه. والمالكيَّةُ يُثبِتون بفتاويهم وأقضيةِ حُكَّامِهم نقضَ هذه العقود، وإِبطالَ هذه الحقوق بناءً على قولِ مالك: إِنها فُتِحَتْ عَنْوة، بل كان يَتعيَّنُ عليهم أن يقفوا حتى يَكمُلَ نصابُ الشهادة عندهم، أو يَثبُتَ أنَّ هذه الأحكام في هذه الأراضي، حكَمَ بها أو أَفتَى مَنْ قولُهُ أو فِعلُهُ حُجَّة مِن نَبيّ أو صحابي، وحينئذ كانوا يُقْدِمون على الفتاوى والأحكام في تلك الوقائع. وليت شعري أيُّ فرقٍ بين قوله: فُتِحتْ الأرضُ الفلانية عَنْوةً وقهرًا؟ وبين قوله: فلانٌ قُتِلَ قهرًا وَعُدْوَانًا وعَمْدًا؟ وثَوْبُ فلانٍ أُخِذَ غصبًا؟ وهل ذلك كلُّه إِلَّا إِخبارٌ عن وقوع فِعلٍ من فاعلِ موصوفٍ بالقهر والغلبة؟ وتَراهم إِذا قال لهم مالك: فلانٌ قُتِلَ عمدًا يَقتصُّون مِن قاتِله بمجرَّدِ قوله، ويُرتّبون جميعَ تلك الأحكامِ المتعلقةِ بتلك الواقعة الجزئية، أوْ لا يُرتّبون تلك الأحكام ويُجرونه مُجرَى الشهادة؟ فإِن رَتَّبوا بِتِلكَ خَرَقُوا الإِجماع، وإِن أجروه مُجَرى الشهادة، ووَقَفُوا ترتيبَ تلك الأحكام على
كمالِ نصاب الشهادة أو القَسَامة، فما الفرقُ بين ذلك وكونِ الأرض عَنْوَة، وإِخبارِه عن وقوعِ القهر فيها؟ فإِن قالوا: هو من باب الشهادة، فيقال لهم: إِنه - رضي الله عنه - لم يُباشِر الفتح، فلا تَصحُّ الشهادة إِلَّا بطريق المباشرة. ولا يُمكنهم أن يقولوا: إِنَّ هذا من باب الشهادة بالسماع والإستفاضة، فإِنَّ الأصحاب قد عَدُّوا مسائلَ الشهادة بالسماعِ نحوَ سبعٍ وعشرين مسألة، ولم يَعُدُّوا هذا منها، فأين النَّقلُ الذي يُعتمَدُ عليه في أن مالكًا شَهِدَ في هذا بالسماع؟ ولا يُمكنهم أن يقولوا: حصَلَ له العلمُ بنقلِ التواتو بأنها فُتِحَتْ عَنْوة، وإِذا حَصَلَ العلمُ للشاهد جازت الشهادةُ، باشَرَ المشهودَ به أم لا، كما نَصَّ عليه صاحبُ "المقدِّمات" (¬1). لأنا نقول لهم: حصولُ العلم له بعيدٌ في هذا بالتواتر، وظاهِرُ الحال يأباه، لأنه - رضي الله عنه - من أهل المدينة لا من أهل مصر، والليثُ بن سعد ¬
من أهلِ مصر (¬1)، وهو يقول: إِنها فُتِحَتْ صُلحًا لا عَنْوة، ووافَقه على ذلك جمعٌ كثيرٌ من العلماء وأهلِ التواريخِ والنقل، وأهلُ البلد أخبَرُ بحالِ بلدهم من غيرهم، فإِن يكن ثَمَّةَ تواترٌ فهُمْ أولى به. فحيث جَزَموا بخلافه دَلَّ ذلك على أنَّ النقل لم يَصِل للتواتر عند مالك، بل إِنما وصَلَ إِليه مِمَّن يثقُ به بطريق أخبار الآحاد، فأخَبَرَ بما ظنَّه لا بما عَلِمَه. سلَّمنا أنه حصَلَ له العلمُ، لكن يُمكن أن يقال: إِنَّ الليث أيضًا ومَنْ معه حصَلَ لهم العلمُ بطريقِ الأولى، فتتعارَضُ شهادةُ مالكٍ ومن وافقه، والليثِ بن سعد والشافعيِّ ومن وافقهما. وإِذا تعارضَتْ البيّناتُ وجَسَرَ أحدُ الفقهاء وقال: مالكٌ أعدلُ وكذلك من وافقه، فيقال له: هل هذه المسألةُ مما يُحكَمُ فيها بأعدلِ البينتين؟ مع أنَّ مذهب المالكية أنه لا يُحكَمُ بأعدلِ البينتين إِلَّا في الأموال خاصَّة (¬2)، وهذا ¬
وصفٌ وسبَبٌ شرعي ليس من الأموال في شيء. فإِن قالوا: إنه نقَل الشهادةَ عن غيره، فيقال لهم: مِن شَرْطِ النقلِ في الشهادة أن يأذَنَ الأصلُ للفرع في التحمُّل، فهل ثبَتَ عند حكام المالكية أنَّ المنقولَ عنه أذِنَ لمالكٍ - رَحِمَهُ اللهُ - في النقل عنه؟ مع أنه لا يجوز لحاكمٍ أن يَحكمَ بشهادةِ فرعٍ حتى يَثبُتَ عنده شروطُ التحمُّلِ وجميعُ ما يَتعلَّقُ بتلك الواقعة. وكذلك جميعُ قضايا الحُكّام، لابُدَّ من ثبوتِ كلِّ ما يَتوقفُ عليه ذلك الحكمُ عند الحاكم بطُرُقِه، فمنه ما يُحتاجُ فيه إِلى البيّنة، ومنه ما يُكتَفى فيه بمجرَّد إخبارِ الشاهدِ الفَرْعِ. وهذه كلُّها أمورٌ مشكلةٌ فتأمَّلْها. واعلم أنَّ هذا ليس خاصًا بمذهبنا، بل الشمافعيَّةُ لهم مثلُ ذلك في أرضِ العراق وغيرِها، فيَرِدُ عليهم ما يَرِدُ علينا. فتأمَّلْ هذه المباحث تَتيقَّنْ أنه ليس كلِّ ما يُنقَل عن العلماء يَدخله التقليد، بل يُقلَّدون في تلك الأمور الخمسة التي تقدَّمَ تلخيصُها (¬1)، وما عداه لا يَدخله التقليد. وقد تَدخله الرواية إِن كان المنقولُ عنه مِمَّن فِعلُه حُجَّةٌ أو قولُه، وقد ¬
تَدخله الشهادةُ وهو الإِخبارُ عن وقوع الأسبابِ والشروطِ والموانع، وقد لا يَدخلُه تقليدٌ ولا روايةٌ ولا شهادة، وهو ما يذكرونه من أصولِ الفقه وأصولِ الدين أو غيرِ ذلك من الأمور الحِسيَّات أو العقلياتِ ونحوِها، وقد تقدّمَ تلخيصُ هذه الأقسام كلِّها على أحسنِ الوجوه (¬1). ¬
السؤال الثامن والثلاثون
السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونْ ما معنى قولِنا في الفتاوى: مَسْحُ جميعِ الرأس واجب، والغِناءُ حرام، وسَبُعُ الطيرِ مُباح، إِلى غير ذلك من الفتاوى المختلَفِ فيها؟ هل معنى ذلك أنَّ مسحَ جميع الرأس واجبٌ على جميع الخلائق أو على المالكيّ خاصَّة؟ وإِن قلتم: على المالكيّ خاصَّة، فالدليلُ الدالُّ على ذلك ما دلَّ إِلَّا على عمومِ وجوبِه على عموم الخلق، فكيف خصَّصتموه؟ وإن قلتم: على عامَّة الخلق، فيكون الشافعي قائمًا بتركِ الواجبِ عليهِ ويُصِرُّ على ذلك، والإِصرارُ على تركِ الواجب فُسوقٌ وعِصيان. فيَلزمُ أن يكون الشافعيُّ عاصيًا وفاسقًا عند مالكٍ والمالكية، وأن يكون مالكٌ وشِيعتُه عُصاةٌ عند الشافعي بتركِ البسملة في الصلاةِ، ونحوِها. وكذلك جميعُ المذاهب، فلا يَبقى أحدٌ من الفِرَق إِلَّا عاصيًا لله تعالى بتركِ ما عليه مخالِفُه، وهذا بعيدٌ جدًا. والتخصيص في الأدلَّةِ الدالَّةِ أيضًا على العموم وجعلُها خاصةً: تحكُمٌ محض. وهذه خُطَّتا خَسْفٍ لا خُروجَ عنهما (¬1)، فكيف التخلُّصُ منهما؟ وما يَعتمدُ أحدُكم في فُتياه إِذا أَفتى بالوجوبِ مثلًا يَنوي بذلك العمومَ ¬
أو الخصوص؟ أوْ لا يَخطرُ ببالكم شيءٌ من ذلك؟ وأنتم عن هذه الأمورِ العظامِ غافلون! جَوَابُهُ أنَّ السؤال الذي تتَرتَّبُ عليه الفُتيا له أربعةُ أحوال: 1 - تارةً يُسألُ عن وجوب مسح الرأس مثلًا في نفس الأمر على المكلَّفين، من غير تعرُّضِ لمن قَلَّد. 2 - وتارةً يُسألُ عنه في حقّ من قلَّدَ القائلَ بالوجوب. 3 - وتارةَ يُسألُ عنه في حقّ من قلّدَ المخالِفَ للقائلِ بالوجوب. 4 - وتارةً يُسألُ عنه في حق مجتهدٍ لم يَنظر بعدُ في المسألة. ا - فإن وقع السؤالُ عن الوجوب في نفس الأمر عمَّمنا الفُتيا، لأنَّ الدليل دلَّ بعمومه في نفسِ الأمر على جميع الخلائق، إِلى يوم القيامة، في جميع الأعصار والأمصار، ما لم يَعرِض تقليدٌ لمخالِفِ ولَهُ دليلٌ مُعارِضٌ لهذا الدليل، فإنه يُصرَفُ موجَبُ هذا الدليل عن ذلك المخالف، لأنه أرجحُ عنده في ظنّه، والله سبحانه وتعالى إِنما كلَّفَ كلَّ واحدٍ بما غَلَب على ظنّه. 2 - وإِن وقع السؤالُ عن الوجوب في حقّ من قلَّد القائلَ به أفتيناه بالوجوب، ولا غَرْوَ في ذلك، لأنَّ إِمامه يَعتقدهُ لدليلٍ راجحٍ عنده، وهو قد التَزمَ مذهبَه فيَلزمُه ما التزمه، ولذلك إِذا سألَنا الإِمامُ نفسُه الذي أدَّاه اجتهادُه للوجوب قلنا له: حُكمُ الله تعالى عليك وعلى مَنْ قلَّدك الوجوبُ، بسبب ما غلَبَ على ظنّك من الوجوب، وأنت مكلَّفٌ بظنّك، وكذلك من قلَّدك تَبَعٌ لك في ذلك.
3 - وإن وقع السؤالُ عن مَسْح الرأس في حقّ من قلَّد الشافعيَّ القائلَ بعدمِ الوجوب مثلًا، أفتيناه بعدمِ الَوجوب، لأنَّ الأُمَّة مجمعة على أنَّ المجتهد إِذا أدَّاه اجتهادُه إلى حُكم، فهو حُكمُ الله في حقه وحقِّ من قلَّده إِذا قام به سبَبُه. وقولُنا: (إِذا قام به سَبَبُه) احترازٌ من أن يَجتهد في الزكاةِ ولا مالَ له، أو في النكاحِ ولا مَوْلِيَّةَ له، أو في القَضَاءِ ولا منصِبَ له. وإِذا انعقد الإِجماعُ على ذلك فلو أفتيناه بخلافه كنا خارقين للإجماع، بل هذا حُكمٌ مجمَعٌ عليه لا يجوز لأحد خِلافُه. ونظيرُ هذه المسألة: عَشَرَةٌ اجتهدوا في طلب القِبلة، فأدَّى كلًا منهم اجتهادُه إلى جهةٍ غير الجهة التي أدَّى إِليها اجتهادُ التسعة الأُخَر، وبقي مع هذه العَشَرةِ جماعاتٌ عوامٌّ لا يُحسنون الإستدلالَ على القِبلة، فاتَّبَع كلَّ واحدٍ من العشرة جماعةٌ من أولئك العوامّ، فإِنَّ كلَّ واحدٍ من تلك العشرة العلماءِ بالإستدلال، الذين اختَلفتْ فيه ظنونُهم، واختار كلٌّ منهم جهةً غيرَ التي اختارها الآخَرُ، إِذا سأل التسعةَ الباقيةَ الذين خالفوه: هل يَحْرُمُ عليَّ أن أُصلّي إِلى الجهة التي غلَبَ على ظني أنَّ الكعبة فيها أم لا؟ فإنهم يُفتونه بأنك يجبُ عليك وعلى من اتَّبَعك الصلاةُ للجهة التي غلَبَ على ظنّك أنَّ الكعبة فيها، ولا يَحرُمُ عليك، ونحن يَحرُمُ علينا أن نُصلّي إِليها، وكذلك من قلَّدَنا، لأنا نعتقد أنَّ الكعبة ليست فيها، فيصير إِجماعُ تلك العَشَرَةِ منعقِدًا على أنَّ حُكمَ الله في حقّ كلٍّ منهم ما أدَّى إليه اجتهادُه من تلك الجهات. فكذلك الأحكامُ الشرعية، وتكونُ المرأةُ المتزوِّجةُ بغير وليّ،
أو لَحْمُ السَّبُعِ مثلًا: حرامًا لقومِ حلالًا لقوم، كما جعَلَ الله تعالى الميتةَ حلالًا للمضطرّين حرامًا على المختارين، ويكونُ اختلافُ ظنونِ المجتهدين القائمةِ بهم كاختلافِ أحوالِ المضطرين والمختارين بالإضطرارِ والإختيار، فاختلافُ الصَّفَتَينِ في المحلَّينِ رتَّبَ الله تعالى عليه حُكمين متضادَّين، وهذا حقٌّ واضحٌ لا خَفَاء فيه. فكذلك متى سُئلنا عن الشافعية هل يجب عليهم مسحُ الرأس بكماله؟ نقول: لا (¬1)، ونُفتي الحنفيةَ بأنه يجبُ عليهم الرُّبعُ، ولا نُفتي في مذهبِنا بخلافِ مذهبِنا (¬2)، لِكلِّ فرقةٍ مذهبُ إِمامِها يخالِفُنا بما يخالفُنا ويخالفُ مذهبَنا، لأنه مجمَعٌ عليه. غيرَ أنه يُستثنى من هذا أربَعُ صُوَر خاصَّة، وهي الصُّوَر التي يُنقَضُ قضاءُ القاضي فيها: ما كان على خلافِ الِإجماعِ، أو القواعدِ، أو النصوصِ، أو القياسِ الجليّ، إِذا سَلِمَ كلٌّ مِن هذه الثلاثة عن مُعارِض راجحٍ له (¬3). فإِذا غلَبَ على ظنّنا أنَّ مخالِفَنا في المسألة قد وقع في فُتياه - بما خالَفنا فيه - أحَدُ هذه الأربعة فإِنا لا نُفتي مقلِّديه في تلك المسألة الواقعة على خلافِ أحد الأمور الأربعة إِلَّا بمذهبنا، لأنَّ خلافَه غيرُ مُعتدّ به، ¬
ولا يَتقرَّرُ شرعًا عامًّا للمكلَّفين، لأنَّ ما لا نُقرُّه إذا حَكَم به حاكم وتأكَّد بالحُكم، أَولى أن لا نُقرَّه إذا لم يتصل به حُكمُ حاكم. وكذلك أنَّ كلَّ من قال بجوازِ الإنتقال في المذاهب استَثنَى هذه الأمورَ الأربعة وقالَ: يجوزُ التقليدُ للمذاهب، والإنتقالُ فيها بشرط أن لا يكون على خلافِ الإِجماعِ أو القواعد، أو القياس الجليّ، أو النصّ، السالمةِ عن المُعارضِ الراجحِ عليها. 4 - الحالةُ الرابعة: أن يقع السؤالُ عن وجوب مَسْحِ جميعِ الرأس في حقّ مجتهدٍ له أهليَّةُ الإجتهاد، كالشافعي ونحوِه، فلا نُفتيه بالوجوبِ ولا عدمِ الوجوب، بل نقولُ له: حُكمُ الله تعالى عليك أن تَجتهدَ وتَنظرَ في أدلَّةِ الشريعة ومَصادِرها ومَوارِدها، فأيُّ شيء غَلَب على ظنّك فهو حُكمُ الله تعالى في حقِّك وحق من قلَّدك، ما لم تخالِف أحدَ الأمور الأربعة التي يُنقَضُ قضاء القاضي إِذا خالَفَها. فإِذا خالفتَ أحدَ الأمورِ الأربعةِ ولم تطَّلع عليه، وجَبَ عليك أن تَبقى على ما غلَبَ على ظنك، وإِن كنتَ على خلافِ الإِجماع في نفس الأمر. وقد قال الغزاليُّ (¬1) في كتاب "المستصفَى" في كتاب الإجتهاد: إِن الإِجماعَ ¬
منعقِدٌ على أنَّ من خالفَ الإِجماعَ ولم يَطَّلع عليه، وجَبَ عليه بالإِجماع أن يَبقى على مُخالفةِ الإِجماع، حتى يَطَّلعَ على أنه خالَفَ الإِجماع (¬1). ونقولُ له: فإِذا اطَّلعتَ على أنَّك خالفتَ أحدَ الأمور الأربعة وجَبَ عليك استئنافُ الإجتهاد، ولا نُفتيه أيضًا بالوجوبِ ولا بعَدمِه. وكذلك نُفتي مقلِّديه أنهم إِن لم يَطَّلعوا على أنه خالَفَ أحدَ الأمور الأربعة، فحُكمُ الله تعالى في حقِّهم ما ذهَبَ إِليه، وإِن اطلَّعوا على أنه خالَفَ أحدَ الأمور الأربعة حَرُمَ عليهم موافقتُه، ويُخيَّرون في بقية المذاهب، يُقلِّدون من شاؤوا فيها. ويجبُ هاهنا الإنتقالُ والجمعُ بين مذهبَينِ، أو الإنتقالُ إِلى جملةِ ¬
المذهبِ الثاني الذي هو أحَدُ المذاهب الصحيحة، لأنه لا سبيلَ إِلى تركِ التقليد في مسحِ الرأس في حقّ العامي، لأنه يُضطَرُّ إِليه في صلاته، والتقديرُ أنه لم يجده في مذهبه (¬1)، فيَتعيَّنُ عليه أحدُ الأمرين: إِما الجمعُ بين مذهبِه الذي كان عليه فيما عدا هذا الفرع وبين غيرِ مذهبه في هذا الفرع، أو ينتقلُ عن مذهبه الأول بالكلية إِلى مذهب آخر. وهذه الصُّورةُ ينبغي أن يَتنبَّه لها كلُّ من يقول بالمنع من الإنتقالِ في المذاهب، ويقولُ باستثنائها عن قاعدتِه في عدمِ الإنتقال، فهي ضرورة وموضعُ حاجةِ لا انفكاكَ عنها. فهذه صُورةُ ما يُفتي به المفتون في جميع المذاهب، تارةً تكون الفُتيا عامَّة، وتارةَ تكون خاصَّة، وتارةً تكون بضدّ ما عليه مذهبُ المفتي في نفسه. ومن جَهِلَ هذا وهو يُفتي فقد جَهِلَ أمرًا عظيمًا يتعلَّقُ بمنصِب الفُتيا، ربما وقع في خلافِ الإِجماع في فتاويه وهو لا يَشعرُ إِذا عَرَضَ له مثلُ هذه الأمور الخفيَّة التي لا يكادُ يجدها في الكُتُب، فكم من علمٍ لا يوجد مسطورًا بفَصّه ونَصّه أبدًا (¬2)، ولا يُقدَرُ على نقله، وهو موجودٌ فيما نُصَّ من القواعد ضِمنًا على سبيل الاندراج، يتفطَّن لاندراجه آحادُ الفقهاءِ دون عامَّتِهم (¬3). ¬
مسْألة بعيْدة الغَور معضِلة نقَلَ الشافعية أنه سُئِلَ عنها الشافعيُّ - رضي الله عنه -، ولم أرهم نقَلُوا جوابَه فيها (¬1)، وهي أنَّ المقلِّدين لأرباب المذاهب يجوز أن يُصلّي بعضهُم خلفَ بعضِ، وإِن كان كلٌّ منهم يعتقدُ أنَّ مخالِفَه فَعَلَ ما لو فعلَه هو لكانت صلاتُه باطلة، كمن مَسحَ بعضَ رأسهِ، أو تَرَك البسملةَ أو التدليكَ في الطهارة، ونحوِ ذلك. وكذلك يجوز لأحدِ المجتهدِين في هذه المسائل أن يُصلّي خلفَ من يخالفُه من المجتهدين، ويُحكَى أنَّ ذلك جائزٌ إجماعًا، وأنَّ الخلافَ فيه مسبوقٌ بالإِجماع. ثم انعقدَ الإِجماعُ على خلافِ ذلك في المجتهدين في الأواني والقِبلةِ والثيابِ المختلطِ نجِسُها بطاهرِها ونحوِ ذلك، إِذا أدَّى اجتهادُ أحدِ الشخصين إِلى خلافِ ما أدَّى إِليه الآخر: أنَّه لا يجوز تقليدُهُ له، ولا أن يُصلّي خلفَه، لأنه يَعتقدُ بطلانَ صلاته باعتبار ما خالفه فيه. فما الفرقُ بين البابين؟ ولم يُنقَل عن الشافعي - رضي الله عنه - فيها جواب. وأجاب بعض متأخّري الشافعية (¬2) بأنَّ القِسمَ الأولَ لو مَنَعْنا الإقتداء ¬
فيه، لأدَّى ذلك إِلى تقليل الجماعات لعمومِ مواقع الإختلاف في تلك المسائل وكثرتِها، بخلافِ القسمِ الثاني، الإختلافُ فيه نادر، فمَنْعُ الإقتداءِ فيه لا يُفضِي لذلك، وهو ضعيف، فإِنَّ مصلحة الإقتداء إِن كانت لا يُبطلها الخلافُ في الإجتهاد وجب تجويزُها في الجميع، وإِلا فيَمتنع في الجميع، ولأنه فارِقٌ وبحْثٌ لا يَشهد له شاهدٌ بالإعتبار. والجوابُ الحقُّ أن فقه المسألة أنَّ الله تعالى شَرَع لكل فريقٍ من المخالِفين في مسألة مسحِ الرأس ونحوِها ما أدَّى إِليه اجتهادُه، وجعَلَه شرعًا مقرَّرًا في نفس الأمر، كما جعَلَ الحِلَّ في الميتةِ للمضطر، وتحريمَها على المختار: حُكمين ثابتين في نفس الأمرِ للفريقينِ بالإِجماع، وجعَلَ الله تعالى الظَّنَيْنِ في حقّ المجتهدَينِ، كَالوصفينِ من الإضطرارِ والإختيارِ في حقِّ المكلَّفينِ بالنسبة إلى الميتة. أما المجتهدانِ في القِبلة ونحوِها فقد أجمَعا على أنَّ ثَمَّ حُكمًا معتَبرًا في نفس الأمر، وهو القِبلةُ أو الطَّهُوريَّة، وأنَّ تركه خطأٌ بإِجماع الفريقين إِذا تعيَّن، فكلُّ واحدٍ من الفريقين غلَبَ على ظنّه أنَّ مخالِفَه مخالفٌ للإِجماع، ولا يَقطَعُ باعتباره، ومَنْ غلب على الظنّ أنه مخالفٌ للإِجماع امتَنع تقليدُه إِجماعًا، ولذلك يُنقَضُ ما خالَفَ الإِجماعَ المنقولَ بأخبارِ الآحاد، أو القواعدَ، أو النَّصَّ، وإِن كان ذلك مظنونًا. فهذه قاعدةٌ انعقد الإِجماعُ على اعتبارها. وأما في مسحِ الرأس ونحوِه إِذا غَلَبَ على ظنّ المخالِفِ أنَّ مخالِفَه خالفَ معتبرًا يَظنُّ اعتبارَه ولا يَقطُع باعتباره، فهو مُعارَضٌ بظَنٍّ آخَر قِبالتَه في اعتبار ذلك المعتبَرِ من نصٍّ أو قياس.
وأما الإجماعُ الذي غلَبَ على ظنّنا أنه خُولِفَ في القبلة ونحوِها ليس قِبالتَه معارِضٌ البتة، فلم يُمكن تقليدُ من يخالِفُه في ظننا، وفي الأوَّل لمَّا تقابلَتْ الظنون أمكن أن يكون كلُّ ظنٍّ معتبَرًا في حقّ صاحبه، ولذلك تقرَّر شرعًا عامًا في حقِّ ذلك المجتهدِ وحقِّ من قلَّده إِلى يوم القيامة، سواءٌ فرَّعنا على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ أم لا. ونظيرُه لو اجتمع شافعيَّان يعتقِدان نجاسةَ الأرواث، واجتهدا في ثوبٍ تنَجَّس بالأرواث، لم تَجُز صلاةُ أحدِهما خلفَ الآخر، وتجوزُ صلاتُه خلفَ المالكيّ المعتقِدِ طهارةَ ذلك الثوب، بسبب أنهما أجمعا في الأوَّلِ على عدمِ تقليدِ مالكٍ، والصلاةُ بالرَّوْثِ مع عدمِ تقليدِ من يعتقد طهارتَه باطلةٌ بالإِجماع، فامتنَع تقليدُه له، لأنه غلَبَ على ظنِّهِ أنه على خلاف الإِجماع. وكذلك ماءٌ نَجِسٌ لم يَتغيَّر، غير أنه أُخِذَ مِمَّا دُونَ القُلَّتينِ، إِن كانا شافعيينِ امتَنعَ التقليد، أو مالكيًّا وشافعيًّا جاز. فضابطُ هذا الباب أبدًا أنه متى كان المقلَّدُ فيه على خلاف الإِجماع في ظنّ المقلِّد امتَنَع، وإِلا جاز، وهو سِرُّ الفِقْه في المسألة، فتأمَّلْه (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
السؤال التاسع والثلاثون
السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونْ ما الصحيحُ في هذه الأحكامِ الواقعةِ في مذهبِ الشافعي ومالكٍ وغيرِهما، المرتَّبةِ على العوائدِ والعُرفِ اللَّذينِ كانا حاصلينِ حالةَ جزمِ العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إِذا تغيَّرتْ تلك العوائد، وصارت العوائدُ تَدُلُّ على ضِدّ ما كانت تدلُّ عليه أوَّلًا، فهل تَبْطُلُ هذه الفتاوى المسطورةُ في كتب الفقهاء ويُفتَى بما تقتضيه العوائد المتجدِّدة؟ أو يقال: نحن مُقلِّدون، وما لنا إِحداثُ شرعِ لعدَمِ أهليتنا للإجتهاد، فنُفتِي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين (¬1)؟ جَوَابُهُ أنَّ إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد: خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين، بل كلُّ ما هو في الشريعةِ يَتْبَعُ العوائدَ: يَتغيَّرُ الحكمُ فيه عند تغيُّرِ العادةِ إِلى ما تقتضيه العادَةُ المتجدِّدةُ (¬2)، وليس هذا تجديدًا للإجتهاد من المقلِّدين حتى يُشترَطَ فيه أهليةُ الإجتهاد، بل هذه ¬
قاعدةٌ اجتهدَ فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نَتْبَعُهم فيها من غيرِ استئنافِ اجتهاد. ألا تَرى أنهم أجمعوا على أنَّ المعاملات إِذا أُطلِقَ فيها الثَّمَنُ يُحمَلُ على غالب النقود، فإِذا كانت العادةُ نقدًا معيَّنًا حمَلْنا الإِطلاقَ عليه، فإِذا انتقلتْ العادةُ إِلى غيرِه عيَّنَّا ما انتقلتْ العادَةُ إِليه، وأَلغينا الأوَّلَ (¬1)، لإنتقالِ العادة عنه. وكذلك الإِطلاقُ في الوصايا والأَيمانِ وجميعِ أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إِذا تغيَّرتْ العادةُ تغيَّرتْ الأحكامُ في تلك الأبواب. وكذلك الدَّعاوى إِذا كان القولُ قولَ من ادَّعى شيئًا لأنه العادَة، ثم تغيَّرت العادةُ: لم يَبق القولَ قول مُدَّعِيه بل انعكسَ الحالُ فيه. بل ولا يُشترطُ تغيُّرُ العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذي كنا فيه. وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدِ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذي نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا. ومن هذا الباب ما رُوي عن مالك: إِذا تنازع الزوجان في قبضِ الصَّداقِ بعد الدخول: أنَّ القولَ قولُ الزوج، مع أنَّ الأصلَ عدَمُ القَبْض. قال القاضي ¬
إِسماعيل (¬1): هذه كانت عادتَهم بالمدينة: أنَّ الرجلَ لا يَدخلُ بامرأته حتى تَقبِضَ جميعَ صَداقها، واليومَ عادتُهم على خِلافِ ذلك، فالقولُ قولُ المرأة مع يمينها، لأجلِ اختلافِ العوائد. إِذا تقرَّرَ هذا فأنا أسرُدُ لك أحكامًا نَصَّ الأصحابُ على أنَّ المُدْرَك فيها العادة، وأنَّ مُستنَدَ الفُتيا بها إِنما هو العادة، والواقعُ اليومَ خلافُه، فيتعيَّنُ تغيِيرُ الحكم على ما تقتضيه العادَةُ المتجدّدة. وينبغي أن يُعلَم أنَّ معنى العادة في اللفظ: أن يغلِبَ إِطلاقُ لفظٍ واستعمالُه في معنى حتى يَصِيرَ هو المتبادِرَ من ذلك اللفظ عند الإِطلاق، مع أنَّ اللغة لا تقتضيه، فهذا هو معنى العادة في اللفظ، وهو الحقيقةُ العُرفيَّة، ¬
وهو المجازُ الراجحُ في الأغلب، وهو معنى قولِ الفقهاء: إِنَّ العُرف يُقدَّمُ على اللغة عند التعارض، وكلِّ بها يأتي من هذه العبارات. الحكمُ الأول: بعضُ ألفاظ المُرابحة، وهو قول البائع: بعتُك بوضِيعةِ العشرةِ أحدَ عشر، أو بوَضِيعةِ العشرةِ عشرين أو أكثرَ من ذلك (¬1). قال الأصحاب: هذا اللفظ يقتضي عادةً أن يأخد لكلِّ أحدَ عشَرَ عشرةً، ويَحُطَّ نصفَ الثمنِ في اللفظ الآخر، ويُلزِمون ذلك المتعاقدَيْنِ من الجانبين بمجرَّد هذا اللفظ لأنه العادة. وهذه عادةٌ قد بطَلَتْ ولم يَبق هذا اللفظُ يُفهَمُ منه اليومَ هذا المعنى البتة، بل أكثرُ الفقهاء لا يَفهمه فضلًا عن العامَّة، لأنه لا عادَةَ فيه، ولا يُفهَمُ منه ثَمَنٌ معيَّنٌ باعتبار اللغة أيضًا. فينبغي إِذا وقع هذا العقد بين العامَّة في المعاملات أن يكون العقدُ باطلًا، فإِنه ليس عادتُهم استعمالَه البتة، لأنا طُولَ عُمرِنا لم نسمعه إِلَّا في كتب الفقه، أما في المعاملات فلا. وإِذا لم يكن الثمنُ معلومًا بالعادةِ ولا باللغةِ كان العقدُ باطلًا. الحكمُ الثاني: في المُرابحة إِذا قال: (بعتُكَ بما قامتْ عليَّ). قالوا: يَصحُّ البيع، ويكون للبائع مع الثمن ما بذَلَه من أُجرة القِصارةِ والكِمادة (¬2) والطِّرازةِ والخِياطةِ والصَّبغِ ونحوِ ذلك، مما له عينٌ قائمة، ويَستحقُّ له حِصَّتَه من الربح إِن سَمَّى لكلِّ عَشَرةٍ ربحًا (¬3). ¬
وما ليس له عينٌ قائمة إِلَّا أنه يُؤثّر في السُّوقِ زيادةَ رغبةٍ فيه وتنميةً للثمن: فإِنه يَستحقُّهُ ولا يَستحقُّ له حصةً من الربح، نحوُ كِراءِ الحُمولاتِ في النقلِ للبُلدانِ ونحوِه، وما لا يُؤثّر في السوقِ لا يستحقُّه، ولا يكونُ له ربحٌ كأجرةِ الطيّ والشدّ وكِراءِ البيت ونفقةِ البائع على نفسِه. وهذا التفصيلُ لا يفيده قولُه: (بما قامَتْ على) لغةً، بل يصحُّ هذا البيعُ بهذه العبارة إِذا كان هذا اللفظُ يقتضيه عادةً، فيصيرُ الثمنُ معلومًا بالعادة فيصحُّ البيع، أمَّا اليومَ فلا يُفهَمُ هذا في العادة، ولا يَتعامَلُ الناسُ في أسواقهم بهذه العبارة فلا عادةَ حينئذٍ، فهذا الثمنُ مجهولٌ، فلا يُفتَى بما في الكتب من صحتِهِ وتفاصيله، لإنتقالِ العادة. الحكمُ الثالث: ما وقع في "المدوَّنة": إِذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتُكِ لأهلِكِ: يَلزمُه الطلاقُ الثلاثُ في المدخولِ بها، ولا تنفعُه النيَّة أنه أراد أقلَّ من الثلاث (¬1). وهذا بناءٌ على أنَّ هذا اللفظ في عُرف الاستعمال اشتَهر في إِزالة العصمة، واشتَهر في العَدَد الذي هو الثلاث، وأنه اشتَهر في الإِنشاء للمعنيين، وانتَقَل عما هو عليه من الإِخبار عن أنها حرامٌ، لأنه لو بقي على ما يَدلُّ عليه لغةً لكان كذِبًا بالضرورة، لأنها حلالٌ له إِجماعًا، فالإِخبارُ عنها بأنها حرام كذبٌ بالضرورة. وليس مدلولُ هذا اللفظ لغةً إِلَّا الإِخبارَ عن أنها محرَّمة عليه، وأنَّ ¬
التحريم قد دخَلَ في الوجود قَبْلَ نُطقِهِ بهذه الصيغة. وهذا كذِبٌ قطعًا، فلا بُدَّ حينئذٍ أن يقال: إِنها انتقلَتْ في العُرفِ لثلاثة أمور: إِزالةِ العِصمة، والعَدَدِ الثلاث، والإِنشاءِ، فإِنَّ ألفاظ الطلاقِ إِن لم تكن إِنشاءً أو يُرادُ بها الإِنشاء، لا تُزيلُ عصمةَ البتة (¬1). وملاحظةُ هذه القاعدة هي سبَبُ الخلاف بين الخَلَف والسلف في هذه المسألة. إِذا تقرَّرَ هذا: فأنت تعلمُ أنك لا تجدُ الناسَ يَستعملون هنذه الصِّيَغ المتقدمة في ذلك، بل تَمضي الأعمارُ ولا يُسمَعُ أحدٌ يقول لامرأته إِذا أراد طلاقها: أنتِ خَلِيَّة، ولا: وَهَبْتُكِ لأهلك، ولا يَسمَعُ أحدٌ أحدًا يَستعملُ هذه الألفاظ في إِزالة عِصمةٍ ولا في عَدَدِ طَلاقات، فالعُرف حينئذٍ في هذه الألفاظ متفِ قطعًا، وإِذا انتَفى العُرف لم يَبق إِلَّا اللغة، لأنَّ الكلام عندَ عدَم النيَّةِ والبِساط (¬2). ¬
واللغةُ لم توضع فيها هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قرَّرها مالك في "المدوَّنة" بالضرورة. ولا يَدَّعي أنها مدلولُ اللفظ لغةً إِلَّا من لا يَدري اللغة، ¬
وإِذا لم تُفِد هذه الألفاظ هذه المعانيَ لغةً ولا عُرفًا، ولا نيَّةً، ولا بِساطًا، فهذه الأحكامُ حينئذٍ بلا مستنَد، والفُتيا بغيرِ مستنَد باطلةٌ إِجماعًا، وحرامٌ على قائلها ومعتقِدِها. نعم، لفظةُ الحرام في عُرفنا اليوم لإِزالة العصمة خاصةً دون عَدَد (¬1)، وهي مشتهرةٌ في ذلك، بخلاف ما ذُكِرَ معها من الألفاظ، ومقتَضَى هذا أن يُفتَي بطلقةٍ رجعية ليس إِلَّا، ويُنوَّى في غيرها من الألفاظ التي ذُكِرتْ معها، فإِن لم يكن له نيَّةٌ ولا بِساط لم يلزمه شيء، لأنها من الكنايات الخفية على هذا التقدير. لكنَّ أكثرَ الأصحابِ وأهل العصر لا يُساعدون على هذا وينكرونه. وأعتقدُ أنَّ ما هم عليه خلافُ إِجماعِ الأئمة، وهذا الكلامُ واضحٌ لمن تأمَّلَه بعقلٍ سليم، وحُسنِ نظرٍ سالمٍ من تعصُّباتِ المذاهب التي لا تليقُ بأخلاق المتَّقين لله تعالى. والعجَبُ منهم أنهم إِذا قيل لهم: إِذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق، يَفتقرُ إِلى نية؟ يقولون: لا، لأنه صريحٌ لغةً في إِزالة العصمة، لأنَّ الطاءَ واللام والقاف لِإزالة مُطلقِ القيد، ولذلك يقال: لفظٌ مُطلَق، وحلالٌ طِلْق، ووجهٌ طَلْق، وأُطلِقَ فلانٌ من الحَبْس، وانطلقَتْ بَطْنُه. وعَقْدُ النكاح أحَدُ أنواعِ القيد، فإِذا زال مُطلَقُ القيدِ زال قَيْدُ النكاح بالضرورة (¬2). فيقال لهم: إِن قال لها: أنتِ مُنْطَلِقة، فيها جميعُ هذا؟ فلا يجدون ¬
جوابًا إِلَّا أنه مهجورٌ في عُرف الإستعمال، لا يُستعمل في الطلاق، فلا يُفيد الطلاقَ إِلَّا بالنيَّة. فيقال لهم: فإِن اتَّفق أن يكون لفظُ مُنْطَلِقة مشتهرًا في عصرٍ أو في مصرٍ في إِزالة العصمة، وأنتِ طالقٌ لم يشتهر في إِزالة العصمة عندهم ما الحكمُ؟ فيتعيَّنُ أن يقولوا: يَلزمُهم الطلاقُ بمُنْطَلِقةً دون طالق، إِلَّا أن ينوي بطالقٍ إِزالةَ العصمة، عكسُ ما نحنُ عليه اليوم. فيقال لهم: وكذلك لَفْظُ الحرام ينبغي أن تدور الفُتيا فيها وفي أخواتِها مع اشتهارها في العُرفِ وجودًا وعَدمًا، ففي أي شيء اشتَهَرت حُمِلَتْ عليه بغير نيَّة، وما لم تَشتَهِر فيه لم تُحمَل عليه إِلابنيَّة. ولا يكفي في الإشتهار كونُ المفتي يعتقدُ ذلك، فإِنَّ ذلك نشأ عن قراءةِ المذهب ودراستِه والمناظرةِ عنه. بل الاشتهار أن يكون أهلُ ذلك المصر لا يفهمون عندَ الإِطلاق إِلَّا ذلك المعنى، لا مِن لفظِ الفقهاء بل باستعمالهم هم لذلك اللفظ في ذلك المعنى. فهذا هو الإشتهار المفيدُ لنقل اللفظِ من اللغة للعُرف.
السؤال الأربعون
السُّؤَالُ الأَرْبَعُونْ عن تنبيهات يَتعيَّنُ على المفتي التفطُّنُ لها (¬1)، وأنا أذكرُ منها إِن شاء الله تعالى عَشَرَة: التَّنْبِيهُ الأَوَّلُ التفطُّن للفرق بين النيَّة المُخصِّصةِ والنيَّةِ المؤكِّدة (¬2)، فضابط المؤكِّدةِ ما وافقَ اللفظَ، والمخصِّصةِ ما خالفَ اللفظ في بعض مدلوله. ويَظهرُ ذلك بالمثال، فإِذا قال القائل: واللهِ لا لَبِستُ ثوبًا في هذا اليوم، فإِذا نَوى عمومَ الثيابِ، فهذه نيَّةٌ مؤكِّدة مُرادِفة لمدلول اللفظ، فنُحنِّثُه بكل ثوب، لأنه مقتَضى لفظِه ومقتَضَى نيَّتِه. فإِن قال: نويتُ ثيابَ الكَتَّان ولم يَخطُر لي غيرُها ببال، حنَّثناه بثيابِ الكَتَّان باللفظِ والنيَّةِ، وبغيرِ ثياب الكتَّان باللفظ السالم عن مُعارَضَةِ النية، ¬
فإِن تَرْكَ غيرِ الكتَّان لم يَقصِد (¬1) لإِخراجه من اليمين ولا لتبقيته، فبقي اللفظُ الصريحُ فيه سالمًا عن مُعارضة النية فيَحنَثُ به، فتكون هذه النية مؤكِّدةً للفظِ في بعض مدلوله دون كلِّ مدلوله، وليس فيها تخصيصٌ البتة. وإِن قال: أخطرتُ ببالي غيرَ الكتَّان وأردتُ إِخراجه من اليمين عند الحلف. قلنا: هذه نيَّةٌ مُضادَّةٌ مخالفةٌ للفظ في بعض مدلوله، فهي مُخصِّصة، لأنَّ مِن شرطِ المخصَّصِ أو الناسخِ أن يكون منافيًا، فحينئذٍ لابُدَّ أن يقول الحالفُ في النيَّة المخصِّصة: نويتُ إِخراجَ كذا عن اليمين، ولا ينفعه قولُه: نويتُ ثيابَ الكتان، ولم يَذكر أنه قصَدَ إِخراجَ غير الكتان، فالمفيدُ قصدُ الإِخراجِ لا القصدُ إِلى بعض المدلول. وأكثرُ الذين يُفتون إنما يقولون لمن يستفتيهم: أيَّ شيء أردتَ بقولك؟ فيقول لهم: أردتُ به كذا، فيُفتونه بأنه لا يَحنث بغيره، وهو غَلَط، بل لابُدَّ وَأن يقول (¬2): أردتُ إِخراجَ المعنى الفلاني من نيَّتي حتى تَتحقَّق نيَّةُ التخصيص. فإِن قالوا: ما يُريد بقوله: أردتُ ثيابَ الكتان إِلَّا الله أرادَ إِخراجَ غيرِها. قلنا: هذا في غاية البعد، فإِنَّ الفرقَ بين المخصًص والمؤكِّد إِنما يفهمه خَوَاصُّ الفقهاء، فكيف يُدَّعَى على العوامّ البُلْهِ أنهم يريدونه بلفظٍ لم يوضع ¬
له، وهل هذا إِلَّا إِلغازٌ في اللفظ. بل ينبغي للمفتي إِذا صَرَّح له العامِيُّ بعبارةٍ صريحة أنَّ يَتفقَّد قرائنَ أحواله، وشأنَ واقعتِه، هل ثَمَّ ما يُنافي صريحَه أم لا؟ فكيف نَقنعُ منه بلفظٍ لم يُوضَع للتخصيص، ويقال: إنه أراد به التخصيص، بل نجزمُ بخلافِ ذلك من أحوالِ العوامّ، وأنهم إِنما يَخطُرُ لهم بعضُ مدلول اللفظ، ويَذهلون عما عداه، وهذا ليس تخصيصًا إِجماعًا. فيَتعيَّنُ على المفتي أن يَتفطَّن لهذا ويَتثبَّتَ حتى يَتحقَّقه واقعًا في نفس المستفتي وحينئذٍ يُفتيه، والهجومُ على الفُتيا من غير تيقُّنِ ذلك حرام، ونعني باليقين غلبةَ الظن.
التنبيه الثاني
التَّنْبِيهُ الثَّانِي ينبغي للمفتي إِذا جاءته فُتيا وصاحبُها يقول: ما تقولون في كذا في مذهب مالك هل يَلزَمُني أم لا؟ فإني شافعيُّ المذهب، وقد التزمتُ مذهبَ مالك. فلا يُفتيه المالكيُّ باللزوم أو بِعَدَمِ اللزوم من مذهب مالك، مع أنَّ مذهب الشافعي يُخالفُه، لأجلِ قوله: وأنا شافعيُّ المذهب، فإِنَّ الذي عليه الفُتيا في مذهب مالكِ امتناعُ انتقالِ المالكيِّ لمذهب الشافعي في مسألة، وكذا انتقالُ الشافعيّ إِلى مذهبِ مالك في مسألة. وإِذا كانت الفُتيا على المنعِ من الإنتقال، فالحقُّ الذي يَنبني على امتناعِ الانتقال إنما هو في مذهب مالك لازمٌ للناس، وغيرُ لازم في مذهب الشافعي، وإِنه لا يَلزمه شيءٌ يخالفُه مذهبُ الشافعي (¬1). وكذلك لا يُباحُ له ما يُباحُ للمالكية إِذا كان الشافعيُّ يَمنعه، لأنَّ الإنتقالَ ممنوع، والبقاءَ على مذهبه الذي قلَّده أولًا متعيِّنٌ، وحُكمُ الله تعالى في حقَّه ما قاله إِمامُه دون ما قاله غيرُه. وهذه دَسِيْسَةٌ تقِلُّ التفطُّنُ لها (¬2). ¬
بل يُفتونه بما في مذهب مالك وإِن قال: أنا شافعي، وكذلك الشافعيةُ يفتونه بمذهب الشافعي وإِن قال: أنا مالكي، فاعلَمْ ذلك. ¬
التنبيه الثالث
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ ينبغي للمفتي إِذا ورد عليه مُستفتٍ (¬1)، لا يَعلمُ أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضعُ الفتيا: أن لا يُفتيَه بما عادتُه يُفتي به حتى يَسأله عن بلده، وهل حدَثَ لهم عُرفٌ في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإِن كان اللفظُ عُرفيًا فهل عُرْفُ ذلك البلد موافقٌ لهذا البلد في عُرفه أم لا؟ وهذا أمرٌ متعيِّنٌ واجبٌ لا يَختلف فيه العلماء، وأنَّ العادتينِ متى كانتا في بلدفينِ ليستا سواءً أنَّ حُكمَهما ليس سواء، إِنما اختَلفَ العلماءُ في العُرفِ واللغةِ هلْ يُقدَّمُ العُرفُ على اللغة أم لا؟ والصحيحُ تقديمهُ، لأنه ناسخٌ، والناسخُ مقدَّم على المنسوخ إِجماعًا، فكذلك ها هنا. ¬
التنبيه الرابع
التَّنْبِيهُ الرَّابِعْ يَتعيَّنُ على المفتي إِذا كان يُجوِّز الإنتقالَ في المذاهب في آحادِ المسائل، أن يَتفطَّنَ لما يُفتي به هل في المذهبِ المنتقَلِ عنه ما ياباه أم لا؟ مثالُه: إِذا كان المفتي الشافعيُّ يُجوِّزُ الإنتقالَ مثلًا من مذهبِ مالك إلى مذهب الشافعي، وسُئِلَ عن تَرْكِ التدليكِ في الغُسل للمالكي، فيَتعيَّنُ عليه أن لا يُبيحَه (¬1)، لأنَّ الصلاةَ تصيرُ من المالكيِّ باطلةً بإِجماع الإِمامينِ، لأنَّ المالِكيَّ لا يُبسمِلُ، فيُبطلُها (¬2) مالكٌ لعَدمِ التدليك، ويُبطلُها الشافعيُّ لعدمِ البسملة. ولقد سُئلتُ مرَّةً عن الوضوء في السَّرَامِيزِ المَخْرُوزَةِ (¬3) بشَعْرِ الخِنزير، ¬
هل تجوز الصلاة بأثَرِ ذلك الماءِ المباشِرِ لمواضعِ الخَرْز؟ وكان السائلُ شافعيًّا، فقلتُ له: أمَّا مذهبُ مالك فشَعْرُ الخنزير طاهرٌ، غيرَ أنك شافعيٌّ تَمسَحُ بعضَ رأسك، فيتفق الإِمامانِ على بطلانِ صلاتك، مالكٌ لعدمِ مسحِ جميع الرأس، والشافعيُّ لكونِ شعر الخنزير نَجِسًا عنده. وأمثالُ هذه المسائل ينبغي التفطُّنُ لها، فإِنها كثيرةُ الوقوع (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
التنبيه الخامس
التَّنْبِيهُ الخَامِسُ ينبغي للمفتي أن لا يأخُذَ بظاهرِ لفظِ المستفتي العاميّ حتى يَتبيَّن مقصودَه، فإِنَّ العامَّة ربما عبَّروا بالألفاظ الصريحة عن غير مدلول ذلك اللفظ، ومتى كان حالُ المستفتي لا تَصْلُح له تلك العبارة ولا ذلك المعنى، فذلك رِيبةٌ ينبغي للمفتي الكشفُ عن حقيقة الحال كيف هو؟ ولا يَعتمدُ على لفظِ الفُتيا أو لفظِ المستفتي، فإِذا تحقَّقَ الواقعَ في نفس الأمر ما هو؟ أفتاه، وإِلا فلا يُفتيه مع الرِّيبة (¬1). ¬
وكذلك إذا كان اللفظُ ما مثلُه يَسألُ عنه (¬1)، ينبغي أن يستكشف، ولا يُفتيَ بناءً على ذلك اللفظ، فإِنًّ وراءه في الغالب مَرمىً هو المقصود، ولو صَرَّحَ به امتنَعتْ الفُتيا. ولقد سُئلتُ مرَّةً عن عَقدِ النكاح بالقاهرة، هل يجوز أم لا؟ فارتبتُ وقلتُ له: ما أُفتِيك حتى تُبَيِّنَ لي ما المقصودُ بهذا الكلام، فإِنَّ كلَّ أحدٍ يَعلمُ أنَّ عَقْدَ النكاح بالقاهرة جائز، فلم أزل به حتى قال: إِنَّا أردنا أن نَعقِدَه خارجَ القاهرة فمُنِعْنا لأنه استحلالٌ، فجئنا للقاهرة عقدناه، فقلت له: هذا لا يجوز لا بالقاهرة ولا بغيرها. ¬
التنبيه السادس
التَّنْبِيهُ السَّادِسُ ينبغي للمفتي إِذا وَجَدَ في آخر السطر خلَلًا أو بياضًا خاليًا أنْ (¬1) يَسُدَّه بما يَصلحُ، فإنه ذَرِيعةٌ عظيمةٌ للطعن على العلماء المفتين، وذَرِيعةٌ للتوصُّل للباطلِ والتتميم (¬2). وقد استُفتِي بعضُ العلماء المشهورين عن رجلٍ مات وترَكَ أُمًّا وأخًا ¬
لأُمّ، وترَكَ الكاتبُ في آخرِ السطر بياضًا، ثم قال: وابنَ عم، فكتَبَ المفتي: للأُمِّ الثلث، وللأخ للأمّّ السدس، والباقي لإبن العم، فلما أخَذَ المستفتي الفُتيا كَتَبَ في ذلك البياض: وأبًا، ثم دَوَّر الفُتيا على الناس بالكُوفة وقال: انظروا فلانًا كيف حجَبَ الأبَ بابن العَمّ، فقال له أصحابُه، مثلُه ما يَجهلُ هذا، فقال: هذا خَطُّه شاهدٌ عليه، فوقعَتْ فِتنةُ عظيمةٌ بين فئتين عظيمتين من الفقهاء. فينبغي للمفتي أن يَحذَرَ مِن مثلِ هذا، وأن يَسُدَّ البياضات كما يَفعل الورَّاقون في كُتبِ الأحباس وغيرِها حذرًا من التتميم. وينبغي له إِذا وجَدَ سطرًا ناقصًا في آخر الفُتيا أنَّ يُكملَه بخطّه بما يكتبه في الفُتيا. وإِذا قال المستفتي من لفظِهِ: قَيْدًا يَنضمُّ للفُتيا ويُغيِّرُ الحُكمَ، يَكتُبه بخَطّه بين الأسطر، أو يقول: قال المستفتي مِن لفظِه: كذا، لئلا يُطعَنَ عليه في فتياه. ونحوُ هذه الإحترازات لا ينبغي أن يُغْفَلَ عنها، فالحزمُ سُوء الظنّ، وسَدُّ الذرائع مِن أحسنِ المذاهب، قال - عليه السلام -: "دَعْ ما يَريبُك إِلى ما لا يَريبك" (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
التنبيه السابع
التَّنْبِيهُ السَّابِعْ ينبغي للمفتي أن لا يُفتيَ إِلا على لفظِ الفُتيا بعد الفحص عن الرِّيبة فيه، ولا يَعدِلُ عنه إلى لفظٍ آخرَ يَكتبُه في لفظ الفُتيا زيادةً في الإستفتاء، ثم يُفتي بناءً على تلك الزيادة التي زادها، نحوُ أن يَكتُبَ له (¬1) في الفُتيا: ما تقولُ فيمن اشترى خَمْرًا من المسلمين؟ فيقول في الفتيا: إِنْ كان قد شَرِبَها بعد شرائِه لها وجَبَ عليه الحدُّ، فيقول المستفتي: قد أفتاني الفقهاءُ بأنَّ فلانًا الذي اشتَرى الخمرَ يُحدّ، بناءً على ما كتبه. والمفتي إنما أَفتى بناءً على ما زاده فيَفْسُدُ الحال، بل لا يُفتي المفتي إِلَّا على ما وجَدَ، حتى يقول بعضُ العلماء في هذا المعنى: المفتي لا يكون متبرِّعًا. اللهم إِلَّا أن يكون لفظُ الفُتيا يَحتمِلُ أمرينِ متقارِبَين، وهي مُجملَة محتاجةٌ إِلى الشروط والزيادات فيزيد، نحوُ قولهم: ما تقول فيمن طلَّق امرأتَه اثنتينِ، هل له المراجعة أم لا؟ فيقول المفتي: إِن كان حُرًّا ولم يتقدَّمها طلاقٌ ولا هي بائنةٌ بخُلعٍ ولا بانقضاء العِدَّة وهي مدخولٌ بها، فله الرجعةُ وإِلا فلا. أو يكون لفظُ الفُتيا صريحًا غيرَ أنَّ المستفتي في أمره رِيبةٌ في تلك الفُتيا، نحوُ ظالمٍ يسأل: هل يجوزُ أخذُ المال على سبيلِ القَرْض، ويَفهمُ ¬
المفتي أنه يتذرَّعُ بهذه الفُتيا إِلى الغَصب في الوقت الحاضر، وأنه يَردُّهُ في المستقبلِ إِن خطر له، فيقول المفتي: إِن كان أَخْذُهُ من رَبِّه بإِذنه من غير إِكراه ولا إِلجاء، على الأوضاع الشرعية جاز، وإِلا فلا. أو لا يُفتيه أصلًا وهو الأحسن، فإِن مقصودَه بالفُتيا إِنما هو التوصُّل للفساد. أو يَسألُ مَنْ عادتُه الرِّبا أو العُقودُ الفاسدة: هل يجوزُ بيعُ العُرُوض بالنقود؟ فإِن قال له المفتي: يجوز، باعَ عَرْضًا ودِرْهمًا بألفِ درهم، بناءً على هذه الفُتيا، فيُقيِّدُ المفتي الفُتيا بما يَدفع الفسادَ المتوقَّعَ من جهته، أو لا يُفتيه أصلًا وهو الأحسن. ونحوُ هذه الذرائع ينبغي أن يكون المفتي مُتفطِّنًا لها، فرُبَّ حقٍّ أُريدَ به باطل. وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفقهاءُ أُمناءُ الله على خَلْقِه" (¬1). فلا ينبغي للفقيه الخِيانةُ في الأمانة، وإِذا قَصَد الناسُ أن يجعلوه سُلَّمًا للوصول للمحارم فلا يُساعِدُهم على ذلك، بل ينبغي أن يكون كالمجتهد المتحيِّل على وقوعِ الحقّ في الوجودِ حسَبَ قُدرتِه. ¬
التنبيه الثامن
التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ ينبغي للمفتي إِذا وقعَتْ له مسألةٌ غيرُ منصوصة، وأراد تخريجَها على قواعد مذهبه: أن يُمعِنَ النظرَ في القواعد الإِجماعيةِ والمذهبية، هل فيها ما يُوجبُ انقداحَ فرقٍ بين الصورةِ المخرَّجة والأصلِ المخرَّجِ عليه أم لا؟ فمتى توهَّمَ الفَرْقَ، وأنَّ ثَمَّ معنى في الأصل مفقودٌ في الصورة المخرَّجة، أمكن أن يُلاحظَه إِمامُه المقرِّرُ لتلك القاعدة في مذهبه: امتَنَع التخريجُ، فإِنَّ القياس مع الفَرْقِ باطل، ولأن نسبةَ المفتي إِلى قواعد مذهبه كنسبة المجتهد إِلى قواعد الشريعة، فكما يَمتنعُ على المجتهد القياسُ على قواعد الشرع مع الفارق، كذلك يَمتنعُ قياسُ المفتي مع قيامِ الفارق. ولهذا التقرير لا يَجوزُ لمفتٍ أن يُخرِّجَ غيرَ المنصوص على المنصوص إِلَّا إِذا كان شديدَ الاستحضار لقواعدِ مذهبه وقواعدِ الإِجماع، وبقَدْرِ ضَعْفِه في ذلك يَتَّجِهُ منعُه من التخريج، بل لا يُفتي حينئذ إِلَّا بمنصوصٍ إِن كان له الاطلاعُ على منقولاتِ مذهبه، بحيث لا يَخفَى عليه غالبًا أنه ليس في مذهبه ما يقتضِي تقييدَ هذا النَّصَ المطلَقِ الذي أَفتى به، ولا يُخصِّصُ عمومَه. فإِن لم يكن له هذه الأهليةُ ولا هذا الاطِّلاِعُ امتَنَع أن يُفتي مطلقًا، حَفِظَ نَصَّ المسألةِ أم لا؟ لأنَّ هذا النص الذي حفِظه يَحتمل أن يكون قُيِّد في المذهب بقيدٍ غيرِ موجود في الفتيا، وتَحرُمُ عليه الفُتيا حينئذ. وهذا يقتضي أنَّ مَنْ لا يدري أصولَ الفقه يَمتنعُ عليه الفُتيا، فإِنه
لا يَدري قواعدَ الفروقِ والتخصيصات والتقييداتِ على اختلاف أنواعِها إِلَّا مَن دَرَى أصولَ الفقه ومارَسَهُ. مسألة كان الأصلُ تقتضي ألا تَجوزَ الفُتيا إِلَّا بما يَرويه العدلُ عن العدل، عن المجتهِد الذي يُقلِّدُه المفتي حتى يَصِحَّ ذلك عند المفتي (¬1)، كما تصحُّ الأحاديث عند المجتهد، لأنه نقلٌ لدين الله تعالى في المَوْضِعَيْنِ. وغيرُ هذا كان ينبغي أن يَحرُم. غير أنَّ الناس توسَّعوا في هذا العصر فصاروا يُفتون من كتبٍ يطالعونها من غير رواية، وهو خطَرٌ عظيم في الدين وخروجٌ عن القواعد. غير أنَّ الكتبَ المشهورةَ لِشُهرتِها بَعُدَتْ بُعدًا شديدًا عن التحريف والتزوير، فاعتَمَد الناسُ عليها اعتمادًا على ظاهر الحال. ولذلك أيضًا أُهملت روايةُ كتبِ النحو واللغةِ بالعنعنة عن العدول، بناءً على بُعدها عن التحريف، وإِن كانت اللغة هي أساسَ الشرع في الكتاب والسُّنَّة، فإِهمالُ ذلك في اللغةِ والنحوِ والتصريفِ قديمًا وحديثًا، يَعْضُدُ أهلَ العصر في إِهمال ذلك في كتب الفقه بجامعِ بُعد الجميع عن التحريف. وعلى هذا تحرُمُ الفتوى من الكتب الغريبة التي لم تَشتهر، حتى تتظافَرَ عليها الخواطرُ ويُعلَمَ صِحَّةُ ما فيها، وكذلك الكتبُ الحديثةُ التصنيفِ إِذا لم يَشتهر عَزْوُ ما فيها من النُّقول إِلى الكتب المشهورة، أو يُعلَمْ أنَّ مُصنِّفَها كان يعتمدُ هذا النوعَ من الصحة، وهو موثوق بعدالته، وكذلك حواشي ¬
الكتب تَحرُمُ الفتوى بها لعدم صحتها والوثوقِ بها (¬1). ¬
التنبيه التاسع
التَّنْبِيهُ التَّاسِعْ فيما يَتعلَّقُ بوضعِ الفُتيا ووَرَقةِ الإستفتاء. ينبغي للمفتي: أن لا يَختلِفَ فلَمُه الذي يَكتبُ به الفُتيا بالدِّقَّة والغِلَظِ والتنويم في الخطِّ، فإن تنويعَه سببُ التزوير عليه بأحدِ تلك الخطوط أو بغيرِها، ويقال: هو خَطُّه، لأنَّ خطَّه غيرُ منضبط. وأن لا يكون قلَمُه في غاية الغِلَظِ فيضيع الورَقُ على المستفتي، ولا في غاية الدِّقَّة فتَعْسُر قراءته، بل ينبغي أن يكون وسطًا بين ذلك، وأن يكون بيِّنًا للقراءة لا يَسلكُ به مسلكَ التعليق والإِدماجِ والإختصار لبعض الحروف. وأن يتأْدَّبَ في صورةِ الوضع إِن كان معه في الفُتيا غيره ممن هو أعظمُ منه، فإِن كان الذي تقدَّمه في غايةِ الجلالة فليقل: كذلك جوابي، إِن كان يَعتقدُ صِحَّةَ ما قاله مَنْ تقدَّمَه. ودون ذلك في التواضع: جوابي كذلك، لأنَّ تقديمَ لفظ الجواب قبلَ التشبيهِ تقديمٌ لجوابه على جوابِ من تقدَّمه الكائنِ في التشبيه، وإِن قال: كذلك جوابي، فالإِشارة بـ (ذلك) الذي دخلَتْ عليه كافُ التشبيه هو جوابُ من تقدَّمه، فيكون قد قَدَّمَ جوابَ السابق عليه قبلَ ذكر جوابه، والتقديمُ تعظيم واهتمام، فهو أدخَلُ في الأدب. ودون هاتين المرتبتين في التواضع وأقربُ إلى الترفُّعِ أن يكتب مثلَ
الجواب بعبارةٍ أخرى، ولا يُشبِّه جوابَه بجوابِ من تقدَّمه أصلًا. وأرفَعُ مِن ذلك وأبعَدُ عن التواضع أن يقول: الجوابُ صواب، أو الجوابُ صحيح. وهذا لا يُستعمَلُ إِلَّا لمن يَصلُحُ للثاني أن يُجيزَه في الفُتيا أو يُزكِّيه في قوله، وأن يكون معه في معنى التلميذِ والتَّبَع، لأنه أظهرَ أنَّ جوابَ السابقِ في صورةِ من يَشهدُ له هو بالصحة أو بالصواب من جهة الثاني، وهذه أدنى الرُّتَب لخلوّ اللفظِ عن التعظيم بالكلية، هذا من حيث اللفظ. وأما من حيث الموضع الذي يَكتبُ فيه، فإِن اتَّضعَ كتَبَ خَطَّهُ تحتَ خطّ الأول، وإِن ترفَّعَ كتَبَ قِبالتَهُ في يمين الخطّ أو شِماله، وكذلك الجهةُ اليُمنى أشرَفُ من الجهة اليُسرى (¬1)، فالمتواضعُ يَضَعُ في اليُسرى، والذي لا يَقصِدُ التواضعَ ويقصِدُ التعظيمَ يَضَعُ في الجهةِ اليُمْنَى، لكونها يُمنى. وينبغي للمفتي: متى جاءته فُتيا وفيها خَطُّ من لا يَصلحُ للفُتيا، ألا يَكتبَ معه، فإِنَّ كتابتَه معه تقريرٌ لصنيعه، وترويجٌ لقوله الذي لا ينبغي أن يُساعَدَ عليه وإِن كان الجوابُ في نفسه صحيحًا. فإِنَّ الجاهل قد يُصيب، ولكنَ المصيبةَ العظيمةَ أن يُفتيَ في دينِ الله مَنْ لا يَصلحُ للفتيا، إِما لقِلَّة علمِه، أو لقلَّةِ دينه، أوْ لهما معًا. ¬
ولا ينبغي للمفتي: أن يَكتب في الفُتيا ما لا تدعو حاجةُ المستفتي إليه، فإِنَّ الورق مِلكُه، ولم يأذن في الكتابة فيه إِلَّا بما تتعلَّق به مصلحتُه، وغيرُ ذلك يَحرمُ فلا يزيدُ عليه، إِلَّا أن تَشهدَ العادةُ بالزيادة اللطيفة فيكون مأذونًا فيها عادةً، نحوُ قولِ المفتي في آخرِ فُتياه: (والله أعلم)، ونحوَ ذلك. ولا ينبغي: أن يضَعَ هذه اللفظةَ ونحوَها إِلَّا ناويًا بها ذِكرَ الله تعالى، فإِنَّ استعمالَ ألفاظِ الأذكارِ لا على وجهِ الذكر والتعظيمِ لله تعالى قلَّةُ أدبٍ مع الله تعالى، فيُنهَى عنه، بل يَنوي به معناه الذي وُضِع له لغةً وشرعًا. وإِذا وَجَدَ في الفتيا خطأ مُجمَعًا عليه أو مختلَفًا فيه، فإن كان المفتي به مذهَبُهُ يقتضِي أنه خطأ فهو منكَرٌ تجبُ إِزالته وإِن كَرِه رَبُّ الفُتيا، لأنَّ الفتيا بخلافِ الاعتقاد حرام. وإِن كان مذهَبُ المفتي يقتضِي صِحَّتَه، وهو لا يجوزُ التقليدُ فيه لكونه على خلاف القواعدِ، أو النصوصِ، أو القياسِ الجليّ السالمِ كلِّ ذلك عن معارضٍ راجحٍ عليه، فهو منكَرٌ أيضًا تجبُ إزالتهُ. وإِن كان مما يَجوزُ التقليدُ فيه لا يَتعرَّض له وإن كان على خلافِ مذهبه. وينبغي له: إذا وجدها منكرةً على أحدِ الوجوه، وعلِمَ أنَّ كاتبها إِذا سُيِّرتْ إِليه لا يسوؤه ذلك، وأنه يُغيرُها مع سلامةِ القلوب عن الأحقاد: فلْيَبعث بها إليه فهو أستَرُ له وأحفَظُ لعِرْضه، لئلا تَنتشرَ، أو يَقفَ عليها حاسدٌ أو عدوٌّ، فيَجدَ بذلك السبيلَ لغَرَضِه، وحسْمُ مادَّةِ الفسادِ من أوَّلها أولى. وإِن كان خَلَلًا من جهة سبقِ القلم أو نقصِ بعضِ الحروف فليُصلحْه هو بيده ولا يَبعثْ به إِليه، جمعًا بين مصلحة الفُتيا وحفظِ قلبِ كاتبها عن الألم وتعجيلًا لزوالِ المفسدة.
ولا ينبغي للمفتي: أن يَحكي خلافًا في المسألة لئلا يُشوِّشَ على المستفتي، فلا يَدري بأي القولين يأخذ (¬1)، ولا أن يَذكُرَ دليلًا ولا مَوضعَ النقلِ من الكتب، فإنَّ في ذلك تضييعًا للورق على صاحبه، إِلا أن يَعلمَ أنَّ الفُتيا سيُنكرُها بعضُ الفقهاء، ويقعُ فيها التنازعُ، فَيقصِدُ بذلك بيانَ وجه الصواب لغيره من الفقهاء، الذي يَتوهَّمُ مُنازعتَه، فيَهتدي به، أو يَحفظُ عِرضَه هو عن الطعن عليه. وأما متى لم يكن إِلَّا مجرَّدُ الإسترشاد من السائل فليَقتصر على الجواب من غير زيادة. ومتى كان الإستفتاء في واقعةٍ عظيمة تتعلَّقُ بمَهَامّ الدين أو مصالحِ المسلمين، ولها تعلُّقٌ بوُلاةِ الأمور، فيَحسنُ من المفتي الإِسهابُ في القولَ وكثرةُ البيانِ والمبالغةُ في إِيضاح الحق بالعبارات السريعةِ الفهم، والتهويلُ على الجُناة (¬2)، والحضُّ على المبادرةِ لتحصيلِ المصالح ودرءِ المفاسد. ¬
ويَحسُنُ بسطُ القول في هذه المواطن وذكرُ الأدلَّةِ الحاثَّةِ على تلك المصالح الشرعية، وإِظهارُ النكيرِ في الفُتيا على مُلابِس المنكراتِ المجمَعِ على تحرِيمها وقُبحها. ولا ينبغي ذلك في غير هذه الَمواطن بل الإقتصارُ على الجواب. ومتى كان للمسألة شروطٌ وتفاصيلُ منها قريب ومنها بعيد: فالمتعيِّنُ على المفتي ذكرُ الشروطِ والتفاصيلِ القريبة دون البعيدة، فإِذا سُئلَ عن مُطَلِّقٍ هل له الرَّجعةُ أم لا؟ فيَذكرُ شروطَ كونِها بعد الدخول، ودُونَ العَدَدِ المُحوِجِ لنكاح زوجٍ ثان، ويَذكُرُ عدَمَ انقضاء العِدَّة، ونحوَ ذلك. ولا يَذكرُ الرِّدَّةَ الطارئةَ على أحدِ الزوجين ونحوَها لكونِها نادرةً في الوجود. وعلى هذا المنوال يذكرُ أبدًا القريبَ دون البعيد النادر. ولو وجَبَ على المفتي أن يَذكر جميعَ ما يتعلَّقُ بالفُتيا من الشُّروطِ والتفاصيلِ وإِن بَعُدَ لصارت الفُتيا في نحوِ المجلَّد الكبير، وهذا فسادٌ عظيم في ضياع الوقت والورقِ والفهم. ولا ينبغي للمفتي (¬1): إِذا كان في المسألة قولانِ أحدُهما فيه تشديدٌ والآخَرُ فيه تخفيف: أن يُفتي العامَّةَ بالتشديد، والخواصَّ من ولاةِ الأمور بالتخفيف، وذلك قريبٌ من الفسوقِ والخيانةِ في الدّين، والتلاعبِ بالمسلمين، ودليلُ فراغِ القلب من تعظيمِ الله تعالى وإِجلاله وتقواه، وعِمارتِه باللَّعبِ وحُب الرياسة والتقرُّبِ إِلى الخلق دون الخالق! نعوذ بالله تعالى من صفاتِ الغافلين (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
التنبيه العاشر
التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ ينبغي للمفتي: أن يكون حسَنَ الزِّيّ على الوضع الشرعي، فإِنَّ الخَلْقَ مجبولون على تعظيم الصُّوَر الظاهرة، ومتى لم يَعظُم في نفوس الناس لا يقبِلون على الإهتداء به والإقتداء بقوله. وأن يكون حسَنَ السيرَةِ والسَّريرة، فمن أسَرَّ سريرةً كساهُ الله رِداءها. ويقصِدُ بجميع ذلك التوسُّلَ إِلى تنفيذِ الحق وهدايةِ الخلق، فتصِيرُ هذه الأمور كلُها قُرُباتِ عظيمة. وإليه الإِشارةُ بقوله تعالى حكايةً عن إِبراهيم - عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬1). قال العلماء: معناه ثناءٌ جميلٌ حتى يقتدِيَ بي الناس. وكذلك قولُ عمر - رضي الله عنه -: أحَبُّ إِليَّ أن أنظرَ القارئَ أبيضَ الثياب. أي لِيعْظُمَ في نفوس الناس، فيَغظُمَ في نفوسهم ما لديه من الحق (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأن يكون صَدُوعاً بالحق لأُولي المهابة والسَّطوة، لا تأخذُه في الله لومةُ لائم. وأن يَجتهد في إِيصال الحق بالتلطّفِ إِن أمكن فهو أولى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أَمَر منكم بمعروفٍ فليكن أمرُه ذلك بالمعروف" (¬1). وقال الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬2). هذا هو الأصل. وفي بعضِ الأحوال يَتعيَّنُ الإِغلاظُ والمبالغةُ في النكير، إِذا كان اللَّينُ يُوهِنُ الحقَّ ويُدحِضُه، وبالجملة فلْيسلُك أقربَ الطرق لرواج الصواب بحسَبِ ما يتَّجهُ ¬
في تلك الحادثة. وأن يكون قليلَ الطمع، كثيرَ الورع، فما أفلَح مستكثرٌ من الدنيا ومُعَظمٌ أهلَها وحُطامَها. ولْيَبدأ بنفسه في كلّ خيرٍ يُفتي به، فهو أصلُ استقامةِ الخَلْقِ بفعلِهِ وقوله، قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (¬1). ومتى كان المفتي مُتَّقِياً لله تعالى وضَعَ الله البركةَ في قوله، ويسَّرَ قبولَه على مستمِعه (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وينبغي للمفتي: إذا جاءته فُتيا في شأنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو فيما يَتعلَّقُ بالرُّبوبيّه، يُسالُ فيها عن أمور لا تَصلحُ لذلك السائل، لكونه من العوامّ الجلْف، أو يَسألُ عن المعضِلاتِ ودقائقِ أصول الدِّيانات، ومُتشابِهِ الآيات، والأمورِ التي لا يخوض فيها إِلَّا كبارُ العلماء، ويَعلمُ أنَّ الباعثَ له على ذلك إِنما هو الفراغُ والفضولُ والتصدّي لما لا يَصلحُ له: فلا يُجيبُه أصلاً (¬1)، ويُظهِرُ له الإِنكارَ على مثلِ هذا، ويقول له: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
اشتغِلْ بما يَعنيك من السؤالِ عن صَلاتِك وأمورِ معاملاتك، ولا تَخُضْ فيما عساه يُهلِكُك لعدمِ استعدادك له. وإِن كان الباعثُ له شُبهةً عَرضَتْ له: فينبغي أن يقبِلَ عليه، ويَتلطَّفَ به في إِزالتها عنه، بما يَصلُ إِليه عقلُه، فهدايةُ الخلق فَرضٌ على من سُئل. والأحسَنُ أن يكون البيانُ له باللفظِ دون الكتابة، فإِنَّ اللسان يُفهِمُ ما لا يُفهِمُ القلمُ، لأنَه حَيٌ والقَلَمُ مَوَات، فإِن الخَلْقَ عِيالُ الله، وأقرَبُهم إِليه أنفعُهم لِعياله، لا سيَّما في أمرِ الدين وما يَرجِعُ إِلى العقائد. وهذا آخِرُ كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام" كتبتُه إِليكم معاشِرَ الِإخوان في الله تعالى، وعليكم السلامُ ورحمة الله وبركاته، وهو حسبُنا ونعم الوكيل، ونسألُه أن يَتغمَّدنَا بعفوِه ورحمتِه أجمعين. وكان الفراغُ من تعليقه في شهر صفر من شهور سنةِ ثمانِ وثلاثين وسبع مِئة. والحمدُ لله رب العالمين، وصلواتُه وسلامُه على سيدنا محمّد (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
خاتمة المعتني بالكتاب
يقول العبدُ الفقير إلى الله تعالى عبد الفتاح بن محمد أبو غدة - عفا الله عنه وعن والديه، وأكرمهم بإحسانه يوم القدوم عليه -: فرغتُ من خدمةِ هذا الكتاب والمقابلةِ بين نُسَخِه والتعليقِ عليه بما تيسَّر، في أواخر رجب من سنة 1386، في السجن الحربي في بلدة تَدمُر في قلبِ بادية الشام قُربَ مدينة حمص، معتقلاً في سبيل الله والإِسلام. وقد داهمني الظَّلمَةُ ليلاً، وكان أقربَ شيء إليَّ وأنا أَخرجُ بعد منتصف الليل من بيتي إلى المعتقل: كتابُ "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" من نسختي التي نسختها وقابلتها بأربع نُسَخ مخطوطة، وأَثبتُّ عليها كلَّ المغايرات بين النسخ، فاصطحبتُها معي، وكتابٌ آخرُ هو كتابُ "قواعد في علوم الحديث" لشيخنا العلامة المحدِّث الفقيه الجليل مولانا الشيخ ظَفَر أحمد التَّهَانَوِي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. ولمَّا أُودِعتُ في المعتقل قرأتُ هذا الكتاب "الإِحكام"، قراءة بحث ودرس لنصوصه ومغايراتِ نُسَخِه، وعلَّقتُ عليه بما يُستطاع لمثلي في تلك الحال. ثم فرَّج الله عني بعد سنةٍ إِلا شهراً، فأضفتُ إليه بعد خروجي من المعتقل، في بلدي حلب: بعض التعليقات المتمِّمة، فاكتمل بحمد الله على الوجه الذي خَرَج عليه في الطبعة الأولى سنة 1387، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونعوذ بالله من حال أهل النار. وهذه الطبعة الثانية الممتازة عن الطبعة الأولى بزيادةِ التعليقاتِ والتصويباتِ الكثيرة الهامة جداً، التي استفدتها من النسخة المخطوطة المغربية - الخامسة - التي وقفتُ عليها في الخزانة العامة بالرباط في المغرب: فرغتُ من النظر فيها ومن خدمتها للطباعة - سوى مراجعات يسيرة - في مدينة فان كوفر من كندا سنة 1409. ثم لم يتيسر في إتمام إنجازها لشواغل علمية، وأسفار اضطرارية، إِلا في مدينة تورنتو من كندا أيضاً سنة 1414، فأكرمني الله تعالى بإتمام خدمتها وإكمال نَضْرَتها على الوجه الذي يراه القارئ الكريم. راجياً من الإخوة المستفيدين دعواتِهم، ومن الأفاضل العلماء المفيدين إفاداتِهم، والله يجزي المحسنين، والحمد لله رب العالمين.
بيان رأي طائفة من علماء السادة المالكية في الإشكال الواقع في كلام الإمام القرافي
بيانُ رأي طائفة من علماء السادة المالكية في الِإشكال الواقع في كلام الإِمام القرافي تقدم في ص 121 عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قَتَل قتيلاً فله سَلَبُه"، قولُ الإِمام القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: (قال مالك: هذا تصرُّفٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحدِ أن يَختَصَّ بسَلَبِ إِلَّا بإذن الإِمام في ذلك قَبْلَ الحرب، كما اتَّفق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وذكرتُ هناك تعليقاً أنَّ في قول القرافي: (قَبْلَ الحرب) إشكالاً، وهو أن مذهب الإِمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: لا يجوزُ للإمام التنفيلُ إِلا بعدَ الحرب، فهذا القولُ هنا (قبلَ الحرب) مشكلٌ ومعارِضٌ لما تقرَر في مذهبه، وأني سألتُ عنه طائفة من كبار علماء السادة المالكية، وراسلتهم، فكاتبوني وأجابوا بأجوبة كثيرة، وكلامِ طويل، فرأيتُ إثبات كلامهم وإجاباتهم بآخر الكتاب، نظراً لطولها، ولئلا ينقطع اتصالُ الكلام بفاصلِ طويل جداً، فها أناذا أوردُ ما قالوه مشكورين. وأوَّلُ من سألتُه وراسلته في ذلك العلامةُ الجليل، والفقيه المحدِّث النبيل سماحة الشيخ محمد الجَوَاد الصِّقِلِّي عميدُ كلية الشريعة في مدينة فاس بالمغرب - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى (¬1)، وكانت رسالتي إليه من مدينة الرياض، في 2 من صفر سنة 1389، فأجابني بما يلي، مُضفياً علي بعضَ الأوصافِ اللائقةِ به، عملاً بتواضعه الجم، وأدبِه الرفيع الذي عُرف به ساداتنا العلماء المغاربة، قال: ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى سماحة العلامة المحقق سيدي الفاضل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعد، فالجوابُ عن استشكالكم قولَ القرافي في "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام": (فلا يجوز لأحدٍ أن يَختصَ بسَلَبٍ إِلا بإذن الإِمام في ذلك قَبلَ الحرب، كما اتَّفَقَ ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). بما بينتموه في سؤالكم. الجوابُ عن ذلك هو أن الإمام مالكاً يقول: إنه لا يَستحق القاتلُ سَلَبَ القتيل إِلَّا بإذن الإمام، وإنه لا يَجُوزُ أن يقول الإمامُ قبلَ الحرب: (من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه)، وإنما يجوز بعدَها. نَعَمْ إن قال ذلك قبلَ الحرب مضَى القولُ المذكور كان لم يَجُز، لأنه بمنزلةِ حُكمٍ بمختَلَفٍ فيه، إذ ثَمَ من أجازه كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حنيفة. وعليه: فلو زاد القرافيُّ (ولَوْ)، بحيث تكون العبارة هكذا: (إِلَّا بإذن الإمام في ذلك ولَوْ قَنلَ الحرب)، لكان حسناً، ويكون قولُه: (كما اتفَق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) راجعاً إلى ما قبلَ المبالَغَة. وأحسَنُ من هذا أنْ لو حذَفَ قولَه (قَبْلَ الحرب)، فيكون كلامُه شاملاً لما إذا وقع إذنُ الإمامِ بعدَ الحرب أو قبلَها. ولكن حيث إنه ذَكَرَ هذا اللفظَ وهو (قَبْلَ الحرب)، بدون زيادةِ (ولو)، فكلامُه ليس غلطاً، وغايةُ الأمر أنه صرَّح بالمُتَوَهَم، وهو إذا كان الإِذنُ قبلَ الحرب، فيكون غيرُهُ - وهو إذا كان الِإذن بعدَ الحرب - أولَى وأحرى. وعليه فقولُه: (كما اتفق ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) راجعٌ إلى الِإذنِ لا بقيدِ كونه قبلَ الحرب، إذْ إِذنُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعدَ الحرب لا قبلَها. وبيانُ الأخروية المذكورة - أي البعديَّة - هو أنه إذا كان القاتل يختص بسَلَبِ
القتيل، فيما إذا كان إذنُ الإمام حَرَاماً بأنْ كان قبلَ الحرب، فلأَنْ يَختَصَّ به فيما إذا كان إذنُ الإِمام جائزاً بأن كان بعدَ الحرب من بابِ أولى وأحرى. وأمَّا إبدالُ لفظ (قَبْلَ) بلفظِ (بَعدَ)، فهو غيرُ صحيح، لأنه يقتضي أنه لا يَختَصُّ القاتلُ بالسَّلَب إِلَّا إذا كان إذنُ الإمام بعد الحرب، وأمَّا إذا كان قبلَها فلا يَختصُّ به، وليس الأمرُ كذلك كما علمتم. لا يُقالُ: إنَّ هذا يَرِدُ أيضاً على عبارته، فيقتضي أنه لا اختصاص إِلا إذا كان الإِذنُ قبلَ الحرب، وأمَّا إذا كان بعدَها فلا، لأنَّا نقول: هذا غيرُ متَوهَّم، فضلاً عن أن يكون مقتضىَ للأخروية المتقدمة. كما أنَّ كونَ عبارة القرافي صحيحةً لروايةِ في المذهب تُقرِّرُ ذلك، واختارها القرافي فهو أيضاً غيرُ صحيح لوجهين: الأول: أنه لا وجود لهذه الرواية أصلاً، وإنما هو قولٌ لبعض أشياخ المذهب المالكي، حسبما ذَكَر التلمسَاني ونَقَلَه عنه الرُّهُوني في "حاشيته على الزرقاني" 3: 163. الوجهُ الثاني: أنه لو كانت هذه الرواية موجودة واختارها القرافي، لكان كلامُه فاسداً، لأنه يقتضي أنه لا يَختَصُّ القاتلُ بالسَّلَب إِلا في صورة واحدة من صُورَتَيْ الجواز، وهي ما إذا كان الِإذنُ قبلَ الحرب، دون الصورة الثانية، وهي ما إذا كان الإِذنُ بعدَ الحرب، مع أنه لم يقل أحدٌ بعدمِ اختصاص القاتل بالسَّلَب إذا كان الإِذنُ بعدَ الحرب. هذا ما ظهر لي في المسألة، والله أعلم بالصواب. وتقبلوا أطيبَ تحياتي وفائقَ احترامي، والسلامُ عليكم ورحمة الله. فاس - كلية الشريعة 25/ 2/ 1389 محمد الجواد بن عبد السلام الصِّقِلِّي الحُسَيني. وراسلت في شأن هذا الإشكال في عبارة الإِمام القرافي، صاحبَ الفضيلة الأجل والعلامة الكبير الفقيه الأصولي المالكي، سماحة الشيخ صالح موسى شرف - رَحِمَهُ اللهُ -
تعالى، عضو جماعة كبار العلماء في الجامع الأزهر، وأستاذ الدراسات العليا فيه، أوَّلاَ بواسطة الأخ الفاضل الأستاذ محمد فؤاد البَرَازي وفقه الله، وكان في حينها أحَدَ طلحة الشيخ وملازميه، فأجابني بما سيأتي، ثم راسلته ثانياً مباشرةً بيني وبينه، فأجابني بجواب آخر، وهذا نصُّ الجواب الأول منهما، الذكره تفضل به: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ومولانا محمد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته ومن تَبعَ هديَه إلى يوم الدين. وبعد، فإلى تلميذنا الوفيّ الأستاذ الشيخ فؤاد البَرَازي، أكتب هذه الرسالة التي بَعَثَ بها إليَ، يَستفهم فيها عن سَلَب القتيل لمن يقتله، وذلك بتكليف له من شيخه العلامة المفضال الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، الذي أراد أن يستوثق من قول الإمام القرافي المالكي في هذا الموضوع. أقول وبالله التوفيق: إنَّ للإمام أو أميرِ الجيش أن يُرغب المقاتلين في القتال للعدو، فله أن يُنَفل بعضَهم للمصلحة، بشرط أن يهون هذا النَّفَل من خُمس الغنيمة لا من الأربعة الأخماس التي خُصِّصَتْ للمجاهدين، فله أن يقول - بعدَ انقضاء القتال -: من كان منكم قَتَل قتيلاَ فله سَلَبُه. وهو ما يُوجَدُ مع القتيل حالَ الحرب، من فرسه ودرعه وسيفه ورمحه ومِنطقتِهِ وما شابَة ذلك من السلبِ المعتاد، دون ما ينفردُ بعضُ العظماء من سِوارٍ وتاجٍ على القول المشهور في المذهب. هذا، ولا يجوز للإمام قبلَ انقضاء القتال أن يقول: من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه، لأنَّ ذلك قد يَصرفُ المقاتلين عن نيَّة الجهادِ في سبيل الله، فيصيرَ قتالُهُ لا ثواب فيه، وقيل: إن قول الإِمام ذلك قبلَ انقضاء القتال ممنوع، ولكنَّ المعتمد كراهةُ ذلك، لأنَّ القتال لأجل الغنيمةِ ليس حرامًا، بل خلافُ الأكمَل. وقولُه ذلك (¬1) فيه تجوُّزٌ من الماضي إلى المستقبل، أي من يقتُل قتيلاً فله سَلَبَهُ، ¬
بخلاف ما لو قال ذلك بعدَ انقضاء القتال، فالماضي على حقيقته. وإذا تعدَّد مقتولُه فله سلَبُ الجميع. هذا، ولا يجوز لغير الإمام أو أمير الجيش أن يُنَفِّل شيئاً من خُمُس الغنيمة، لأنَّ هذا موكولٌ لهما فقط، بما يريانه من المصلحة، كما أنه ليس للقاتل من نفسِه أن يَختَصَ بشيء من سلبِ من قتله بدونِ إذنِ الإِمام له بذلك، أو بقوله: من قَتَل قتيلاً فله سَلَبُه، كما أن ذلك ليس مختصاً بالقتال في عصر الرسول - عليه الصلاة والسلام -، بل هو جائز في كلِّ قتال يَدُور بين المسلمين وأعداءِ الإِسلام، يُشترط أن يكون القولُ بعدَ انقضاء القتال، أمَّا قبلَه فمكروه كما تقدم أو ممنوع، روايتان عن الإِمام مالك، ولكن المعتمدَ في المذهب الكراهة. هذا، ولا يكون السَّلَبُ لامرأةٍ أو صبيٍّ أو شيخٍ فانٍ أو راهب، إِلا إن اشتركوا في القتال، والله أعلم. صالح موسى شرف المالكي عضو جماعة كبار العلماء وأستاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر المَرَاجع: 1 - كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني. 2 - حاشية الشيخ علي الصعيدي على هذه الرسالة. 3 - الشرح الصغير على متن خليل للشيخ الدردير. 4 - حاشية الصاوي على الشرح المذكور. 5 - حاشية الدُّسُوقي على الشرح الكبير للشيخ الدردير على متن خليل. 6 - نقولٌ عن سُحنون، عبد الباقي، ابن حبيب، ابن القاسم، المدوَّنة حول هذا الموضوع. انتهى نصُّ جوابه الأول، وهذا نصُّ جوابه الثاني الموجَّهِ منه إليَّ - مع الإِعراض عما أسبغه عليَّ فيه من ثناء وتكريم، والله يغفر لي وله -:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نَحمَدُه سبحانه وتعالى ونشكره على فضله ونَعْمائه الجزيلة، التي لا تُحصَى ولا تُعَد، ونصلي ونُسلم على سيدنا ومولانا خاتم الأنبياء والمرسلين، محمدِ بن عبد الله الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحابته ومن تَبعَ هديَه إلى يوم الدين. وبعد، فإلى صاحب الفضل والفضيلة، العالم الجليل، الذي وهبه الله علماً نافعاً وقلباً خاشعاً، ونوراً ساطعاً، وبسطةَ في العلم، الإِمام الجليل الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، أكتبُ هذه الرسالة، رداً على رسالته فأقول وبالله التوفيق: وعليكم سلام الله ورحمته وبركاته. لقد وصلتني رسالتكم الكريمة، المؤرَّخَة في 9/ 5/ 1398، رداً على رسالتي التي حَمَّلتُها لابننا وتلميذنا الشيخ فؤاد البَرَازي، الذي بلغني عن سعة علمكم في المعقول والمنقول الشيءَ الكثير. أمَّا من خاصَّةِ مما جاء في كتاب القرافي، نقلاً عن إمامنا الجليل الإِمام مالك - رضي الله عنهما - ونفعنا بعلمهما، فإنَّ عبارته سليمةٌ لا غبار عليها، وقولَه في النَّفَل: (لا يجوزُ لأحدٍ أن يختص بسَلَبٍ إِلَّا بإذن الإِمام في ذلك قبلَ الحرب ...) إلى آخره، معناه أنه لا يجوز لغير الإِمام أن يَأذن قبلَ الحرب باختصاص سَلَب القتيل. فقولُه: (قبلَ الحرب) ليس متعلقاً باختصاص السَّلَب، وإنما هو جار ومجرور، متعلقٌ بإذن الإِمام، ويكون معنى العبارة أنَّ للإِمام أن يأذن قبلَ بدءِ القتال بأنَّ من قَتَلَ قتيلاَ فله سَلَبُه، فالإِعلامُ لا يكون إِلَّا من الإِمام - ومثلُهُ نائبُه - قبل الحرب. وأمَّا تملكُ السَلَب والإختصاصُ به يكونُ بعدَ انتهاء القتال، هكذا كان يَفعلُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُهُ مِن بعدِه، لعلمهم أن المقاتلين في هذا العهد لم تَشغلهم الأموال ولا الأولاد عن الجهاد في سبيل الله، لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، فكان إذنُ الإِمام قبلَ الحرب بأنَ من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه (¬1)، لا يَصرفُهم عما خرجوا لأجله، من ¬
نصرة دين الله وإعلاءِ كلمته. ثم لمَّا ضَعُفَتْ النفوس، وشُغِلَت بمُتَع الحياة الدنيا وزخرفها، رأى بعض الفقهاء ومنهم المالكية: أن الإِذن يُكرَهُ قبلَ الحربِ أو في أثناء القتال، خوفاً من أن تُشغَل هذه النفوس بالسَّلَب، فينصرفوا عفا خرجوا لأجله، فيكون قتالهم لأجل هذا السَّلَب. هذا ما وقفتُ عليه في أمهات كتب المالكية، وقد سَبَق أن ذكرتُ لسيادتكم في رسالتي السابقة أنَّ هذا الِإذن ليس خاصاً بعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو متروك للإِمام أو نائبِه في أي عصر، كما ذكرتُ أيضاً أنه ليس لغير الإِمام أو نائبه أن يأذن في ذلك. ومن هذا يُعلم أن نَقْلَ القرافي صحيح، متفِقٌ مع المذهب، من أن الإِعلام يكونُ قبلَ بدءِ القتال، حينما كانت النفوس صافية، لا يُلهيها مالٌ ولا ولد عن نُصرة الدين والقتالِ لأجله، حتى إن بعض الصحابة لا يهمه أن تقتُلَ أباه الكافر أو ابنَه كذلك، لأنَّ الِإيمان عند هؤلاء كان أغلى وأبقَى من رابطةِ النَّسَبِ والقُربَى. ثم لقَا ضَعُفَتْ النفوس وشُغِلت بمَتَاع الحياة من مالي وسلاح، خِيفَ أن يكون الإذنُ قبلَ الحرب داعياً إلى قتالهم لأجل هذا السَّلَب. وعلى كلِّ فالتملُّكُ للسَّلَب بعدَ انتهاء الفتال، إذْ لا يُعقَلُ أن يكون قبلَ الحرب. والله أعلم. الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. كتبه بخطه الفقيرُ الراجي عفوَ ربه وحُسنَ ختامِه، تحريراً في 23 من جمادى الأولى 1398، الموافق 1/ 5/ 1978. صالح موسى شرف عضو جماعة كبار العلماء وأستاذ بالدراسات العليا في كليات الجامعة الأزهرية الإِسلامية والعربية. ورأيتُ بعدَ هذه الإِجابات الثلاث ممن سَمَيتُ من فضلاء علماء السادة المالكية: أن أنقُلَ طائفة من النصوص من كتب فقه السادة المالكية، لاستكمال الوقوف على هذه المسألة، مكتفياً بثلاثة نصوص من كثير نحوِها، فإن كتب المذهب المالكي بالمتناول لمن أرادها.
1 - جاء في "المقدمات الممهِّدات" للإِمام ابن رُشد الجد 1: 269 من طبعة الساسي، قولُه - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:"ولا يَرَى مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - للإِمام أن يُنَفلَ قبلَ القتال، لئلا يَرغب الناسُ في العطاء، فتَفْسُدَ نيَّاتُهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مَضَى، للإختلافِ الواقعِ في ذلك والآثارِ المروية فيه". 2 - وجاء في "المنتَقَى" شرح "الموطأ" للإِمام أبي الوليد الباجي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عند شرح حديث أبي قتادة، وقد شرحه شرحاً أطيب من قَطْر الندى، قولُه في 3: 190:"والذي ذهب إليه مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك بعد أن بَرَد القتال. والدليلُ على أن هذا القول إنما كان بعد الفراغ من القتال ... ". ثم ذكر أربعة وجوه تدل على ذلك. جاء في الوجه الثالث منها قولُهُ: "لا خلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك بعد الفراغ ورجوع الناس من الهزيمة، وهذا يدل على أنه لم يُرِد به التحريض، ولو أراد به التحريض على القتال ذلك اليوم لقاله في أول القتال وقبل الهزيمة. وجاء في الوجه الرابع منها قوله: " ... وإذا قال ذلك الإِمامُ بعد تقضي الحرب كانت النيات قبله سليمة صحيحة، ولم يقاتل أحد إلَّا لتكون كلمة الله هي العليا، وإذا قاله في أول القتال أثر ذلك في النيات، وعرَّضَ الناسَ ليقاتلوا لما يَحصُل لهم من السَّلَب". 3 - وقال العلامة خليل في "مختصره" في باب الجهاد "ونَفّل - أي الإِمام - منه - أي من خُمُس الغنيمة - السَّلَبَ لمصلحةِ. ولم يَجُزْ إن لم يَنْقَضِ القتالُ: - قولُ - مَنْ قتل قتيلاً فله السلب. ومَضَى إن لم يُبطله قبل المَغْنَم". جاءَ في شرحه "جواهر الإِكليل" لصالح عبد السميع الآبي الأزهري 1: 261 تعليقاً على قول خليل: (ولم يَجُزْ) للإِمام، نصُّ المدؤَنة: يُكْرَهُ، فأبقاه بعضهم على ظاهره، وحمَلَه غيره على المنع. (إن لم يَنقضِ القتالُ) صادقٌ بأثنائِه وقبلَه، وفاعِلُ لم يَجُزْ - لَفْظُ - (من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه) أي هذا اللفظُ، لإِفساد نياتهم بالقتال للمال، ولتأديه إلى تحامُلِهم على القتال، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: لا تُقدِّموا جَمَاجِمَ المسلمين إلى
الحصون، فلَمُسْلِمٌ أستبقيه أحَبُّ إليَّ من حِضنِ أفتَحُه. (ومَضَى إن لم يُبطله) الإِمامُ أي قولَه: من قَتَل ... (قبلَ حَوْز المغنم) بأن لم يُبطله أصلاً، أو أبطله بعده. فإن أبطله قبله أي أظهر الرجوع عنه قبله اعتُبِر إبطالُه فيما يُقتل بعده، لا فيما قُتِلَ قبله، ولا يعتبر إبطاله بعده، فيستحق من فَعَل شيئاً من الأسباب ما رتبه عليه الإِمام ولو كان من أصل الغنيمة حيث نَصَّ عليه، فإنْ نَصَّ على أنه من الخمس أو أطلق فمنه". انتهى. هذا، وبقي شيء يتصل بالمقام يَحسن التنبيه إليه، وهو أنه لمَّا جاء في "صحيح مسلم" بشرح الإِمام النووي 58:12، عند حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - في وقعة حُنين، وقولِهِ: " ... ثم إنَ الناس رجعوا وجَلَس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من قتَل قتيلاً فله سَلَبُه". قال الإمام النووي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "اختلف العلماء في معنى الحديث، فقال الشافعي ومالكٌ والأوزاعي .. يَستحق القاتلُ سَلَبَ القتيل في جميع الحروب، سواء قال أميرُ الجيش قبل ذلك: من قَتَل قتيلاً فله سلبه، أم لم يقل ذلك. وهذه فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخبارٌ عن حكم الشرع، فلا يتوقف على قول أحد. وقال أبو حنيفة ومالكٌ ومن تابعهما - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -: لا يَستحق القاتلُ بمجرَّدِ القتل سَلَبَ القتيل، بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة، إِلَّا أن يقول الأميرُ قبلَ القتال: من قَتَل قتيلاً فله سَلَبُه، وحملوا الحديث على هذا، وجعلوا هذا إطلاقاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس بفتوى وإخبار عام". انتهى كلام الإمام النووي. وفيه إقحامُ (مالك) في الرأي الأول خطأً من الناسخ، إذ قد جاء ذِكرُهُ في الرأي الثاني أيضاً مع أبي حنيفة، وإن كان ذِكْرُهُ في الرأي الثاني فيه نظر أيضاً، لأن مالكاً يمنعُ التنفيلَ قبلَ القتال أو يكرهه كما تقدم نقله عن "جواهر الإِكليل" في ص 277. وقد أجاد الإِمام ابن قدامة الحنبلي عَزْوَ مذاهب الأئمهّ الفقهاء في هذه المسألة، فقال في كتابه "المغني" 10: 426: "الفصل السادس: أن القاتل يَستحقُّ السَّلَب، قال ذلك الإِمامُ أو لم يقُل، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة والثوري: لا يستحقه إِلا أن يشرطه الإمام له. وقال مالك: لا يستحقه إِلا أن يقول الإمامُ ذلك، ولم يَرَ أن يقول الإمامُ ذلك إِلا بعد انقضاء الحرب، على ما تقدم من مذهبه في النَّفَل، وجعلوا السَّلَب هاهنا من جملة الأنفال. وقد رُوي عن أحمد مثلُ قولهم". انتهى ما أردتُ ذكرَه في هذا الموضوع.
إلحاقة متصلة بترجمة الإمام القرافي -رحمه الله تعالى-
إلحاقةٌ متصلة بترجمة الإِمام القَرَافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ذكرتُ في أواخر ترجمة الإمام القرافي ص 25 - 26 مهارتَهُ في صُنع الساعة العجيبة، وأشرتُ تعليقاً هناك إلى أن هذه المهارةَ وأمثالَها وأشباهها حينما توجد في أفرادِ من العلماء، تزيدُ في رفعة شأنهم وعظيم مآثرهم، وأشرتُ إلى أن مِثلَ هذه المهارةِ وأعجَبَ منها كان يتمتع بها ويتميزُ بها الأستاذُ الفاضل الكريم الصَّنَاع العجيب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الأنطاكي ثم الحلبي، صديقي وصاحبي وأكبرُ أنجال شيخي العلامة الكبير الشيخ محمد زين العابدين - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -، المولود بأنطاكية سنة 1330، والمتوفى بحلب سنة 1410. وقد كان للشيخ عبد الرحمن مع شيخنا العلامة الجليل والفقيه الأَفيْق النبيل سيدي الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى ورعاه صداقةٌ متينة، وصحبةٌ عميقةٌ مكينة، تتحلَّى بوَخدَة الحال ورفع التكلف، وقد شاهد شيخنا أمتع الله به، من مزايا الشيخ عبد الرحمن ومهاراتِهِ الفائقة مآثرَ كثيرة، شَهِدَها وحَضَرها من أولها إلى آخرها، فرجوتُ من شيخنا أحسن الله إليه أن يُسجَّلَ في بقلمه البليغ الدقيق ما شاهده من تلك العجائبِ الغرائبِ، والحقائقِ الدقائق، لأدرِجَهُ عند ترجمتي للإِمامِ القرافيَّ: الِإمامِ الفقيهِ الأصوليِّ الصَّنَاعِ المُبْدعِ العجيب، وللوفاء بحق الأُخوَّة والصداقة للشيخ عبد الرحمن بَعْدَ رحيله لدار الكرامة، فوَعَدني شيخنا بالِإجابة هاشَّاً باشَّاً للكتابة في تلك المهارة، نظراً لما كان بينه وبين الشيخ عبد الرحمن من المودة الأكيدة والصداقة العتيدة، ولكنَّ شيخنا سلمه المولى كانت أعمالُه العلمية أوسعَ من أوقاته الزمانية، فلم يتمكن من كتابة ما رجوته منه إلَّا بعد مطالبات كثيرة مني، ومتابعاتٍ جاوزت السنتين، حتى يشر الله وأعان، فكتب هذه الترجمة المتعلقة بجانبِ من نبوغ الشيخ عبد الرحمن، وأتحفني بها في يوم 10/ 5/ 1413 بالرياض، فأنا أوردُها كما دَبَّجها قلمُه الرفيع وبيانُه البديع. وأضفتُ إليها نبذةً واحدةً من جمهرة ما كان للشيخ عبد الرحمن من عجائب المهارات.
الأستاذ الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين الكردي (كما عرفته)
واللهَ أسألُ أن يُسبغ عليه الرحمة والرضوان، ويُسكِنَهُ رفيعَ الجنان، بمنه وكرمه، إنه سميع مجيب. وإليك مقالة شيخنا المشار إليها: الأستاذ الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين الكُرْدِي (كما عَرَفتُهُ) والدُه الشيخُ محمد زين العابدين الكُرْدِي - رَحِمَهُ اللهُ -، وأسرتُهُ كلها زوجاً وأولاداً، هم في الأصل من أهل أنطاكية، وهي مركز قضاء تابع ومرتبط بلواء الإِسكندرون، الذي هو أحد الألوية التابعة لولاية (محافظة) حلب في التقسيمات الإِدارية للدولة العثمانية. ثم بعدَ الحرب العالمية الأولى وانفصالِ البلاد العربية عن الدول العثمانية التي انكسرت في تلك الحرب، استمر هذا الترتيب الإداري في العهد الفيصلي، حيث حَكَم بلادَ سورية ولبنان من بلاد الشام الأميرُ فيصلُ بنُ الحسين. وقد كان والدُه الشريف حسين بن علي حاكمُ الحجاز التابعُ للدولة العثمانية قد ثار على الدولة العثمانية في أواخر الحرب العالمية الأولى، حين أقنعه الإِنجليز وأطمعوه بأنهم سيولّونه حُكمَ البلاد العربية، التي ستنفصل عن الدولة إذا خسرت الحرب. فثار على الدولة العثمانية متعاوناً مع الحلفاء ضدها، مما عَجَّل بانكسارها وتقسيم ممتلكاتها. وحينئذِ تولَّى الحُكمَ في سورية ولبنان الأميرُ فيصل بن الحسين قُرابَة سنتين، حتى تَمَّ التفاهُمُ بين بريطانيا وفرنسا على اقتسام البلاد العربية، وكانت سورية ولبنان لفرنسا، وضربوا بوعدهم للشريف حسين عُرْضَ الحائط!! فزحف الجنرال غورو على دمشق وفَرَّ الأمير فيصل، فأقامه الإِنجليز مَلِكاً على العراق، واستقرَّ الحُكمُ الإستعماري لفرنسا في سورية ولبنان في عام (1920 م). وظَل لواءُ الِإسكندرون وما يضمُّه من أنطاكية وسواها تابعاً لمحافظة حلب سنواتِ، بعدَ الإحتلال الفرنسي لسورية ولبنان، ثم عَقَد الحلفاء مع مصطفى كمال - (القائد التركي الذي جَمَع جيشًا تركياً لطرد الحلفاء وذيولهم من البلاد التركية) - صَفْقَةً لكي يعلن إلغاء الخلافة العثمانية، ويَطْرُدَ أسرتها، ويُنفذَ بَرنامَجاً لقطع جذور العربية والإِسلام في البلاد التركية، وهدمِ الجسور مع البلاد العربية المنفصلة، وإعلانِ تركيا دولة علمانية لقاءَ دعم الحلفاء له في أن يكون حاكماً مطلقاً فيها.
مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة
وبعد أن تَمَّ لمصطفى كمال تنفيذُ هذه الصفقة، ومنها إلغاءُ الأذان باللغة العربية، وتغييرُ كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية (حتى كتابة المصاحف)، وتغييرُ أسماء الأشخاص الأتراك الذين أسماؤهم عربية إلى أسماء طُوْرَانِيَّة، وتسمَّى هو (أتاتورك) بدلاً من (مصطفى كمال): اتفَقَتْ فرنسا على أن تتخلى لتركيا عن لواء الإِسكندرون بكامله (ومنه قضاء أنطاكية وما يتبعها)، فسُلِخَ لواء الإِسكندرون عن سورية وأُلحِق بتركيا الحديثة، وطُبَّق فيه نِظامُها العلماني الجديد، ومنه فَرضُ اللباس الِإفرنجي، والقُبَّعَةِ الأوروبية (البرنيطة)، وفَرضُ الحُسُورِ على النساء، ومنعُ تغطية رؤوسهن بغير البرنيطة الإِفرنجية ... إلخ. وكان في أنطاكية إذ ذاك عالِمُها الصالح ومرْجِعُها الديني الشيخ محمد زين العابدين الكردي، فهاجر بأسرته وأولاده من أنطاكية إلى حلب، واستقروا فيها حفاظاً على دينهم. وكان له عدد من الأبناء أبرزَهُم الشيخُ عبدُ الرحمن (موضوع كلمتي هذه والشيخ محمد أبو الخير) - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -، وكانا إذ ذاك من طلاب العلوم الشرعية المتميزين بحُسنِ فهمهم. وقد عُهِدَ إلى والدهم الشيخ محمن زين العابدين بتدريس التفسير والحديث النبوي في المدرسة الشرعية، التي افتُتحَتْ في حلب، أول العِشْرِينيَّات من هذا القرن الميلادي (القرن العشرين)، عقِبَ احتلال الفرنسيين لسورية ولبنان كما أشرتُ إليه آنفاً، وكان اسمها المدرسَةَ الخُسْرُوِية (نِسبةَ إلى خُسْرُو باشا من رجالات الدولة العثمانية وهو بانيها)، وكنتُ أنا من الرعيل الأول الذي دخلها للدراسة بعدَ ترميمها وافتتاحها، فقد تعطل فيها التدريس خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبحَتْ أثناء الحرب ثُكْنَةَ عسكرية، لموقعِها المهم بجانب قلعة حلب، ومزاياها وسعةِ ساحاتها وكثرةِ أجنحتها وغُرَفها. مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة كان الشيخ عبد الرحمن - إلى جانب حسن تحصيله ومداركه الدقيقة في العلوم الشرعية - يتمتع ويتميز بين إخوته بمزايا ومواهب فريدة، وبعضُها عجيب ونادر جداً: 1 - فقد كان حديدَ البصر يُميِّزُ بعينه المجردة دقائق الأشياء التي يَحتاج كثيرٌ غيرُه
في تمييزها إلى مكبِّرة، وإلى جانب ذلك كان دقيق الملاحظة في الفوارق بين الدقائق المتشابهة في الآلات الصغيرة وخصائصها. 2 - وكان منذ شبابه يحب الرياضة البدنية والمشي الطويل. وكان صَيَّاداً ماهراً، يَخرُج إلى الصيد مشياً في مواسمه المختلِفة في البراري والجبال وحَافَاتِ الأنهار: فيصطاد بالبندقية النارية من الطيور البَطَّ البري في حَافَاتِ الأنهار، والحَجَل في الجبال، والأطْرُغْلاَت في الرَّبِيع. ومن الحيوانات يصطاد الأرانب والغِزلان. ويَرمي الطيور وهي طائرة، والحيوانات وهي راكضة، فلا يُخطئها إلَّا نادرًا. 3 - وكان سَدِيدَ الرماية لحدة بصره وثبات يده، ودقة ملاحظته وحسابه لحركة الأهداف المتحركة. وأحببت يوماً أن أشاهِدَ رِمايتَهُ فتواعدنا على لقاء في المدرسة الشعبانية بحلب (وهي مدرسة وقفية واسعة كان يقوم بتدريس الفقه فيها جدي ثم والدي مدة حياتهما - رَحِمَهُمَا اللهُ -، ثم أنا مُدَّةَ من الزمن، وفيها بُحَيرةُ ماء كبيرة وحديقة وأَرْوِقَة وغُرَف كثيرة للطلاب ومرافق)، فجاء ببندقية (من النوع الذي يُستعمَل في مراكز الرِّهانِ والتدريب على التسديد تَرمِي حَبَّة رَصاص واحدةً صغيرة) وهي من صُنعِهِ صَنَعها بيده، وصَمث حَبَّاتِ رَصاصِها (الخُرْدُق)، وجئنا لأحد أروقة المدرسة، وفي سقوف قناطره سلاسل حديد لتعليق المصابيح، فكان يُصوَّبُ بندقيتَه إلى السلسلة فيرميها بالخُرْدُقَة فتبدأ السلسلة تَلُوح ذهاباً دهاياباً، فيرميها ثانية وهي متحركة فتغيِّرُ اتجاهها أيضاً وهكذا فلم يخطئها بواحدة. ثم جاء بإبرة صغيرة فغرسها بين بلاطتين من الأرض حتى غاب نصفها وبقي نصفها ظاهراً، فابتعد عنها نحو ثلاثة أمتار، ثم صَوَّب البندقية ورماها بالخُرْدُقة فانكسرت الِإبرة وطار نصفُها البارز!!، ثمَّ كَرَّر العملية على إبرة أخرى. ثم أتى بقطعة من الفَخار صغيرة مكسورة، التقطها من حديقة المدرسة، لا تتجاوز مِساحتُها (4 - 5) سنتيمترات، فرَكَزَها في مكان مرتفع بعُلُوّ قَامَةِ الإِنسان، وابتعد عنها نحو مترين أو ثلاثة، وأدار ظهره إلى قطعة الفخار المنصوبة، فوضع البندقية على كتفه الأيمن وفُوَّهتُها إلى الخَلْف، وأَمسَك بمَقْبِضِها الخَشَبي، وأَخرَج من جيبه مِرآةَ صغيرة مستديرة، وأمسَكَها بين إصبعَيْ يده اليُسرى وَرَكَزَها على مَقْبِض البندقية
الخشبية، ونَظَر في المرأة إلى قطعة الفخارِ الهدَفِ مُسَدِّداً إليها (وإبهامُ يُمناه على زِناد البندقية) فضغط عليه وأَطلَق خُردقةَ الرصاص، فطارت قطعةُ الفَخَّار وتساقطَت كِسَراً!!. ثم وَذَعتُه متعجباً من هذه الدقة في تسديد الرماية وانصرفنا. وقد حدَّثني مرَّة - (ولم أُشاهِد) وهو صدوق - أنه يَغرِسُ شَفْرةَ من شَفَرات الحِلاقة في الأرض بين بَلاَطَتَينِ أمامَ جِدار، ويَبتعدُ عنها مقدارَ مترين أو ثلاثة مستقبلاً حد الشفرة، ويُصوِّبُ إليها البندقية، ويَسأل من معه: هل تريدون أن أَقْسِمَ الخردقة التي سأُطلقها على حَدِّ الشَفْرَة نصفينِ أو ثُلُثاً وثُلُثينِ؟ ثم يُطلِقُ عليها الخردقة فتنقسم على حد الشفرة قطعتينِ أنصافاً أو ثُلُثاً وثُلُثينِ كما طلبوا!! وقد كنتُ في وقتِ مَّا خِلالَ عُضْوِيَّتي في المجلس النيابي السوري، المنتخَبِ في الدور التشريعي (1954 - 1958 م)، ذكرتُ لبعض المسؤولين الكبار من قادة الجيش مزايا الأستاذ عبد الرحمن زين العابدين، وخاصَّةَ دقتَهُ العجيبة في تسديد الرماية، واقترحتُ عليه أن يَستفيدوا منه ويعهدوا إليه بتدريب الجنود على الرماية، فلم أجد من يهتم!!. 4 - كان الأستاذُ الشيخُ عبدُ الرحمن المتحدَّثُ عنه إلى جانب مزيته النادرة هذه في الرماية صِنْعاً (¬1) لم أعرف ولم أسمع عن نظير له في صُنع الأشياء الدققة التي تحتاج إلى دقة بالغة، لا تُضبَطُ إلَّا بآلاتِ غايةٍ في الدقة والحَسَاسِيَة. فكان يصنعها بيده الصَّنَاع، ويَضبِطُ مقاييسَها الدقيقة ببصره الحديد، ويستخدم فيها المِيشارَ الدقيق للحديد، والمِبردَ ومختلِفَ أحجار السَّنّ والشَّحْذ، ويستخدم المثاقبَ المتنوِّعةَ الحجوم، التي تَثْقُبُ المَعدِن من حديد أو نحاس أو غيرهما، ثَقباً لا يزيد عن حجم النَّقطةِ الصغيرة كرأس الِإبرة الدقيق فما فوق. ويصنع هو تلك المثاقب من الفولاذ بيده. وقد شاهدتُ كلِّ ذلك منه بخفسي في مختلِف زياراتي له، إذ كنتُ أمكُثُ عنده في الزيارة الواحدة ساعات. ¬
ويستوي في دقة الصنع اليدوي لديه الأشياءُ والآلاتُ وقِطَعُ التبديل (قِطَع الغِيَار) الكبيرةُ بعض الشيء والصغيرةُ التي تَحتاجُ في تمييز أبعادها إلى نَظَّارة مكبِّرة قوية كنظَّارة الساعاتية التي توضع في مَحْجِرِ العين الواحدة. 5 - وقد أراني يوماً مَّا مِيلاً فُولاذياً طُولُه نحو عشرة سنتيمترات أو أكثر، وغِلَظُه لا يزيد عن ثلاثة ميليمترات، وهو مضلَّع طولاً إلى سبعة أضلاع متساوية، اشتغله بيده بالمِبرد، صنعه في البداية مبروماً، ثم بَرَده بالمِبرد فجعله مضلَّعاً سبعةَ أضلاعِ متساويةٍ، لا تجد إذا نظرت بالمكبِّرة فرقاً بين ضلع وآخر ولا قَدرَ شعرة، ولا اعوجاجاً في أحد الأضلاع كأنه خارج من مصنع آلي. وقد نبَّهني إلى الفرق العظيم في السهولة والصعوبة بين جعل أضلاعه زوجية (مثل: أربعة أوستة أو ثمانية) وبين جعلِها فَرْدِية (مثل: ثلاثة أو خمسة أو سبعة أو تسعة) فإخراج أضلاع طولانية متساوية في قضيب مَعدِني هو سهل إذا كانت الأضلاع زوجية متقابلة يتوازى فيها كلِّ ضلع مع ما يقابله كما لو كان باربعة أضلاع أو ستة أو ثمانية مثلاً. أما إذا كانت الأضلاع فردية مثل خمسة أو سبعة أو تسعة، فإن إخراجها متساوية بصنع اليد صعب جدا جداً، فإن التوازي بين كلِّ اثنين من الأضلاع المزدوجة يَجعَلُ من السهل على الصانع الموازنةَ بنيها. وفي خلال الحرب العالمية الثانية انكسر في معمل شركة الغزل والنسيج بحلب تُزسٌ مُسَنَنٌ في أحد الأجهزة، وكان مسنناً في أسنانه تعرُّجٌ وحركات دقيقة، وتوقَّفَ المعملُ ولا يُمكِنُ جَلْبُ بديلِ جديد ولا يُمكِنُ لِحامُه. فذُكِرَ لهم الشيخ عبد الرحمن، فأتَوْه بالمسنَّن المكسور فصَنَع لهم بديلاً عنه كأنه هو حين كان جديدًا، وشَغَّلوا به الجهاز. وكان قَنُوعاً لا يُناقِش في الأجر، فأعطَوْه ثمناً له لو طَلَب عشرةَ أضعافه لما ترددوا في دفعه. وفي خلال الحرب المذكورة أيضاً لجأ إليه صانعو الأحذية (الكندرجية)، إذْ كانوا يَثقُبُون الجلود التزيينية في وجه الحذاء بثَقَّابة صغيرة توضع محل الإِبرة في ماكِنَةِ الخياطة، فتثقب الجلد سطوراً منتظمة. وهي ثَقَّابَةٌ عِبارةٌ عن قَضِيبٍ صغير من الفولاذ، مفرَّغٍ نصفُه الأسفل بشكل أُنبوب، وحافَتُه السفلى المسديرة حادَّةٌ مسنونة، وفي جانبه
فتحة تَخرُجُ منها الأجزاءُ الصغيرة التي تُفرَّغُ من ثَقْب الجلد. وهي على بساطها تَقُوم على هندسةٍ دقيقة، فكانت تنكسر معهم هذه الثَّقَّابات أثناء عملها في ماكِنَةِ خِياطةِ الجلود كما تنكسر إبرةُ الخياطة. فكان يصنعها لهم بكثرة. وقد طلبتُ أنا منه مرةً أن يصنع في واحدة على عيني ويضع لها قَبضةً خشبية لأستعملها في ثَقْبِ ثُقوبِ في حِزام البَنْطَال إذا احتَجتُ، فقام وأنا عنده فأخذ من صندوق القطع قضيباً مَعْدِنياً (سِيْخاً) من (الأسياخ) التي تُثبَتُ على قُطبِ عَجَلاتِ الدرَّاجة الهوائية، لتَسْنُدَ إطارَ العجلة فلا ينضغطَ فتختلَّ استدارتُه عند ركوبها. وهذه (الأسياخ) هي من الفولاذ القاسي القوي، فقص أمامي منه قطعة بطول سنتيمترين، ثم عرضها على نارِ مِصباحٍ كُحُولي حتى حَل سِقَايتها لتَذهبَ قساوتُها، ثم تابَع صُنعهَا أمامي وفرَّغ نصفَها الأسفل بمِثقب من صُنعِه هو، وهكذا تابع صُنعَها مرحلةً مرحلة مما يَطُول شرحُه، وصَنَع لها قَبضةَ خشبيةَ، وركَبط للقَبضةِ سِوَاراً مَعدَنياً واقياً، وأعطاني إياها. وقد استغرق صُنعُها معه مقدار ساعتين!!. 6 - ومن أهم مزاياه التي تميز بها بالبراعة واشتَهر بها: أنه كان (ساعاتياً)، خبيراً بصيراً بالساعاتِ على اختلافِ أنواعها وحُجُومها، يَعرف الآلاتِ الدقيقةَ في الساعة ووظائفَ تلك الآلات، ويُحسِنُ تمييزَ الساعة المتينة الثمينةِ والسخيفةِ السريعةِ العطبِ متى فَتَحها ونَظَر آلاتها. لماذا استعصى على الساعاتية في حلب إصلاح ساعة توقَفت، أو احتاجوا إلى قطعةِ غِيار لها غيرِ موجودة، كانوا يلجؤون إليه فيقوم بإصلاحها، أو يَصنَعُ لهم قطعةَ الغِيار المطلوبة. وقد كنتُ أعتمدُهُ في إصلاح جميع الساعات التي أستعمِلُها سواء اليدوية التي أحملها، أو البيتية التي تعلق على الجدار. وكان يقول في: قلَّما تُسَلَّمُ ساعةٌ إلى ساعاتي ليُصلِحها إلأ ويُحدِثُ بها ضرراً، لأنهم جهلاء، فالساعاتي يجبُ أن يكون خبيراً في علم الميكانيكا، لأنَّ الساعة وعَمَلها قائمانِ على هذا العلم. والساعات النسائية الصغيرة جداً مما لا يتجاوز قُطْرُها الخارجي خمسةَ عَشَر
ميليمتراً، وشممونها ساعة فَاصُولِيَّة (أي حَجْمُها بقدر حجم حبة الفَاصُوْلِياء)، كثيراً ما تنكسر فيها إبرة الرَّقَّاص (وهي مِحوَرُه الذي يكون بغلظ الشعرة)، كانوا يأتون بها إليه، فيصنع للرقَّاص مِحْوَراً من الفولاذ، ويَقُصُّ المكسور ويَثْقُبُ محل المِحوَر بمِثْقَبِه الخاص الذي يصنعه بيده، ويُنزِّلُ فيه المِحور الذي صنعه هو، فتشتغل الساعة!!. 7 - إلى جانب هذا كله كان خبيراً ممتازاً في الأسلحة النارية، من بُنْدُقِيَّاتِ الصيد، إلى المسدَّسات بأنواعها، إلى البُنْدُقيات العسكرية الحربية، من عاديَّة وحَرْكَذِيَّة (أتوماتيكية) (¬1). وقد أَحضَر له شخصٌ بُندقيَّةَ صيد معطلة، قد انكسرت فيها قطعة من أجزائها الحركية، وفُقِدَتْ القطعةُ المكسورة، ولا يُعرَفُ شَكلُها، ولا يُوجَدُ نظيرٌ جديد للبندقية، ليَرى شكلَ القِطعة المفقودة فيَصنَعَ مثلَها. فقال له: اتركها عندي إلى الغد. ثم تأمل في أجزائها، وقَدَّر وتَصَوَّر كيف يجب أن تكون القطعة المفقودة حجماً وشكلاً، لكي تشتغلَ البندقية، وصَنَع القِطعة مستعيناً بكِيْر الحدَّاد لإعطائها شكلها الإِجمالي بالنارِ والمِطْرَقَة، ثم أَكمَل هو في بيته تحريرَها بالصورة النهائية بالمِبْرَد، ثم وَضَعها وثبَّتها في موقع القطعة الأصلية المفقودة، فاشتغلت البندقية!! وجاء صاحبها في اليوم التالي فأعطاه إياها. وكان سديدَ الرماية بالمسدَّس قلَّما يُخطئ الهدفَ الصغير. 8 - ومن مزاياه خِبرَتُه الواسعة العميقة في سِقاية الفولاذ بمختلِف أنواعِ السِّقَاية ¬
ودرجاتِها، وتختلفُ درجاتُها جداً في كلِّ قطعة بحسب وظيفتها، فقطعةُ الفولاذ متى أُحمِيَت في النار حتى الإحمرارِ تنفأ سِقَايتُها وتَفقِدُ قساوتَها ومُرُونتَها، وبعدَ أن تُطَرَّق وهي حمراء لتاخذ شكلها المطلوب تُطفَأ بالماء - تُسقَى -، فتَقْسُو حتى لا يَعملَ فيها المِبرد (¬1). ففي النوابض مثلاً (الزنبرك) يجب أن تكون قساوتُهُ لأجلِ مُرونتِهِ ذاتَ درجة معينة. فإذا زادت أو نَقَصت لا يَعمَلُ عمَلَه المطلوب بصورة منتظمة. وسِقايةُ الفولاذ يَختلِفُ تأثيرُها جداً بحسب درجةِ حرارة القطعة المُحمَاة حين تُغمَسُ في الماء، وبحسب غَمْسِها كلِّها بسُرعةٍ أو تدريجياً، وبحسب كونها تُسقَى بالماء أو بالزيت. وقد أخبرني يوماً فا أن أقسى أنواع الفولاذ ما يُسمَّى (فُولاذَ الهوَاء)، وهو نوع إذا أُحمِيَ في النار حتى احمر أو ابيض فانفكت سِقايتُه، وأُخرِجَ من النار ليُمكِنَ العملُ فيه بالطَرق ليُصنَعَ بالشكل المطلوب، فإنه بملامسة الهواء يُسقَى ويقسو دون أن يُغمَس بالماء أو الزيت. فصُنْعُ الأدواتِ والآلاتِ الفولاذية القاسيةِ جداً من هذا النوع، هو صعبٌ جداً ويَحتاجُ إلى خِبرة ووسائل فنية وتِقَانَةٍ (¬2) عاليةِ المستوى. ¬
وقال لي في هذه المناسبة: إنَّ صِناعةَ السيوف هي صناعة عاليةُ المستوى، لأنها تَحتاجُ إلى خِبرة فنية عاليةِ وإتقان، لأن سِقايتها وهي طويلة دون أن يعتري قِوامَها خَلَلٌ أو التواء صعبةٌ جداً. وقد أراني يوماً مُوْسَى من النوع الذي في نِصابه قِطَعٌ عديدة: نَصْلٌ كبير، ونَصْلٌ صغير، ومِفَكُّ بَراغِي، وبعض آلاتِ أخرى صغيرة، وطولُهُ أقلُّ من فِتْر، وهو في غاية الجمال ودقة الصنعة، وقالمالي: هذا فُولاذُه فُولاذُ هواء، وقد صنعتُه كلَّه بيدي!! فقلت له متعجباً: كيف أعملتَ فيه مِبردَك ومِيشَارك وآلاتِك وهو متى أُخرِجَت القِطعةُ المُحمَاةُ منه من النار يَسقيها الهواء فتقسو ولا يَعمل فيه المِبردُ ولا الميشار؟ فقال لي: قد اشتغلتُ نصاله الفولاذية كلَّها بالحَجَر لا بالمِبرد والميشار!!. وقد أُصِيب في أواخر السبعينِيَّات الماضية (بمرض الإكتئاب) فلَزِمَ البيتَ وترك التدريس في المدرسة الخُسْرُويه (الثانويَّة الشرعية بحلب) وسَمِنَ بَدَنُه وترهَّل من عدم الرياضة والحركة. وقد زُرتُه وحاولت إقناعه بالعودة للتدريس فلم أُفلِح. ثم توفي - رَحِمَهُ اللهُ - رحمة واسعة". انتهى مقالُ شيخنا الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى. وأنت تَرى شيخَنا - وهو العلامة الفقيه - في معرفتِهِ وتعبيرِهِ الوافي الدقيق عن هذه المهارات: ماهراً فريداً أيضاً، كأنه من علماء تلك الصناعات. قال عبد الفتاح: وأُضيفُ إلى ما ذكره شيخنا حفظه الله تعالى وأمتع به، في براعة الشيخ عبد الرحمن، في إصابة الهدف وحِذقِ الرماية: ما كان يفعله - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مع أخيه الأستاذ الشيخ محمد أبو الخير، حين كان صغيرًا يافعاً، فقد كان يُوقفُه بعيداً عنه نحوَ أربعة أمتار، ويضعُ على رأسه قطعة النقد السوري، المسماة بـ (الفَرَنْك) قائماً منصوباً على حَافَتِهِ، ويأمرُ أخاه بأن لا يتحرك أيَّ حركة. فيسكُنُ تمام السكون والفَرَنْكُ على رأسه وهو في غاية الطمانينة، فيُطلِقُ الشيخ عبد الرحمن (الخُزدُقَة) من بُندقيتة، فيطيرُ الفرنك من فوق رأس أخيه، ولا يَمسُّ شعرَهُ باي أثر من آثار الخُزدُقة، وهذا شيء من العَجَب العُجَاب، وعنده من هذا الباب في المهارة بمعرفة السلاح والرماية فيه: ما يُدهِشُ الألباب!!
وكم في الزوايا من خبايا، وحقائقَ مُدْهشاتٍ كالمرايا! وكم لنوابغ الأفراد في العالم من مزايا خاصة في إتقانِ: الرماية، أو اللغات، أو الصناعة اليدوية، أو المهارة الجِسمية، أو الفَطَانةِ الفذَّة العقلية، أو العبقرية الحِفظية: بالنظر أو بالسماع، أو القوة البصرية، أو القوة السمعية، أو سُرعة العَدو القَدَمية، وغيرِها وغيرِها، من مزايا النبوغ في الأفذاذ الأفراد في العالم، لا يُحصيهم إلَّا الله تعالى خالقُهم ورازقُهم سبحانه. وأنا أُشيرُ إلى أسماء أفراد منهم على ترتيب ذِكري المواهبَ هنا، في الأسطر التالية لتنوير الأذهان، ففي الرماية: كالإِمام الشافعي والإِمام البُخَاري والشيخ أمين الحُسَيني مفتي فلسطين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فقد كان يكتبُ اسمَه على الجدار بطلَقَات المسدس على أوضح وجه، والشيخ عبد الرحمن زين العابدين، وكالفارابي في معرفة اللغات، وكالإِمام القَرَافىِ والخيَّاطِ في الصناعة اليدوية، وكالمشَّاءِ على الحبل المنصوب في الهواء في المهارة الجسمية، المذكورَيْنِ بقصَّتيهما في مقدمتي لكتابي "صفحات من صبر العلماء"، وكالخليل بن أحمد الفراهيدي وتلميذ سيبويه وخلقِ سواهما في الفطانة العقلية، وكأبي يوسفط القاضي تلميذ الإِمام أبي حنيفة، والإِمام البخاري والدارقطني والحاكم النيسابوري وبديع الزمان الهمَذَاني وخلقِ سواهم في العبقرية الحفظية، وكزرقاء اليمامة في القوة البصرية، وكإبراهيم النَظَّام في القوة السمعية، وكالصحابي الجليل كعب بن مالك وآخَرِينَ من العذَّائين العرب في الجاهلية والإِسلام في سرعة العَدو القَدَمِيَّة إذْ يَسبقون عَنوَ الفَرَس. والله يختص بفضله مِن عِباده من يشاء، ويُودِعُ فيهم من الإِبداع ما يشاء. ولما أخبرتُ شيخنا الأستاذ الزرقا رعاه الله تعالى، بمهارة الشيخ عبد الرحمن في رميه الفَرَنْكَ عن رأس أخيه بالبندقية، ومهارةِ الشيخ الحاج أمين الحسيني رحمهما الله تعالى، تعجَّب جداً، وأخبرني بأعجَبَ وأغرب!! وهو ما شَهِدَه وشَاهَدَه، بعينيه في "السِّيرك": (الألعاب الباهرة) في مدينة إستنبول في صيف عام 1967، فقد شاهد فيه رجلاً رامياً هدَّافاً ماهراً، أقام فتاة صبية أمام جدار من خشب، ووقف بعيداً عنها نحو مترين، وأمامه جملةٌ كبيرة من السكاكين الحادة الكبيرة، فجعل يرميها سكيناً سكيناً على الخشب بلِضق بَدَنِ الفتاة الواقفة تماماً،
حتى رسمها بالسكاكين على الخشب رسماً، من رأسها إلى قدميها، فكأنّه كان بيده قلمٌ مِرسامٌ يرسُمُ به على الورق بإتقان تام وبراعة. ثم فَعَل مثل ذلك بطلقاتِ نارية من مسدس صغير بيده، أطلقها وأحاط بها جسم الفتاة الواقفة إحاطة السوَار بالمِعصَم دون خلل أو خطأ. ثم قام ذلك الرامي الماهر بعمل أدهش وأعجب، فوضع على رأس الفتاة الواقفة على نحو أربعة أمتارِ منه تفاحة، وأخذ بندقيةَ، وأدار ظهره إلى وجه الفتاةٍ، ووجَّه رأس البندقية التي وضعها على كتفه إلى جهة الفتاة، وجعل وجهه إلى مرآةٍ أمامه، وحَدَّدَ الهدف من نظره في المرآة، ثم أطلق البُنْدُقَةَ من بندقيته، فأطارت التفاحة من فوق رأس الفتاة، ولم يُمسَ رأسُ الفتاة بشيء!! انتهى ما شهده وشاهده شيخنا وسمعتُه منه. ومن أبرز العلماء الأعلام الذين لهم مهاراتٌ خارِقَةٌ، إلىَ جانب إمامتهم في العلم والدين: العلامةُ الفقيهُ الحنفي الضليع، الشيخ محمود حمزة الدمشقي نقيبُ الأشراف ومفتي الشام، المولودُ سنة 1226، والمتوفى سنة 1305 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، فإنه كان إلى إمامته في العلم خَطَّاطاً ماهراً دقيقاَ مُتْقِناً عَجَباً، كَتَب في سنة 1267 جميعَ أسماءِ أهل بدر البالغةِ 319 اسم، في ورقة على قَدر فَصّ الخاتم، وكَتَب في سنة 1268 سورةَ الفاتحة، على ثُلُثَيُ حَبَّةِ أَرُزّ، وكَتَب عليها اسمَهُ وتاريخَ الكتابة، كما في ترجمته الحافلة في "الرحلة الحجازية" للشيخ العلامة محمد السَّنُوسِيّ، المتوفى سنة 1318 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - 227:3، المطبوعةِ بتونس سنة 1398، بعناية الشركة التونسية للتوزيع. هذا والأعاجِيبُ لا تنتهي، فإنها من إبداع الله تعالى في الأفذاذ من خَلْقِه سبحانه، وتوجَدُ في كل أُمَّة وقَبِيل.
المصادر والمراجع
المصادر والمراجع 1 - الآداب الشرعية لإبن مفلح الحنبلي. مطبعة المنار 1348. 2 - الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للكنوي. حلب 1384 والقاهرة 1404 وبيروت 1414. 3 - أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإِسلام للدكتور حسن أبو غدة مكتبة المنار في الكويت. الطبعة الأولى 1407. 4 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي. مصطفى البابي الحلبي 1356. 5 - الأحكام السلطانية للماوردي. السعادة 1327. 6 - إحياء علوم الدين للغزالي. لجنة نشر الثقافة الإِسلامية 1356. 7 - أخبار القضاة لوكيع. الاستقامة 1399. 8 - اختصار علوم الحديث لإبن كثير. صبيح الثالثة 1377. 9 - إدرار الشروق على الفروق لإبن الشاط. دار إحياء الكتب العربية 1344. 10 - إرشاد الفحول للشوكاني. السعادة 1327 ومطبعة الكتبي 1413. 11 - أساس البلاغية للزمخشري. مطبعة أورفاند 1372. 12 - الأشباه والنظائر لإبن نُجَيم الحنفي. الحسينية 1322. 13 - الإِصابة لإبن حجر. السعادة 1323. 14 - إعلام الموقعين لإبن قيم الجوزية. السعادة 1374. 15 - الأعلام للزركلي. الطبعة الثانية 1378 والخامسة 1399. 16 - إغاثة اللهفان لإبن القيم. مصطفى البابي الحلبي 1357. 17 - الألفاظ الفارسية المعرَّبة لأذَي شِيْر. مكتبة لبنان - بيروت 1980. 18 - الأُمنية في إدراك النية للقرافي. مخطوط، وُصِفَ في ص 61. 19 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني. دار الكتاب العربي 1402. 20 - البداية والنهاية لإبن كثير. السعادة 1351.
21 - البُرْصَان والعُرجان للجاحظ. نشر وزارة الثقافة العراقية 1982. 22 - بلغة المسالك إلى أقرب المسالك للصاوي. بولاق 1289. 23 - البيان والتعريف بأسباب ورود الحديث الشريف لإبن حمزة الحسيني الدمشقي. حلب 1329. 24 - تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي. الخيرية 1306. 25 - التاريخ الكبير للبخاري. حيدآباد الدكن بالهند 1361. 26 - تبصرة الحكام لإبن فرحون، البهية 1302. والتقدم العلمية 1319 والعزو لهذا الكتاب يتبعه رقمان، الأول للبهية والثاني للعلمية. 27 - التحرير في أصول الفقه لإبن الهُمَام. بولاق 1316. 28 - تحفة الأشراف للحافظ المِزِّي. الدار القيمة بالهند، الطبعة الأولى 1386. 29 - تدريب الراوي للسيوطي. طبعة المكتبة العلمية 1379. 30 - تذكرة الحفاظ للذهبي. الطبعة الثالثة حيدرآباد الدَّكَن 1375. 31 - التراتيب الادارية لعبد الحي الكتاني. الرباط 1347. 32 - ترتيب المدارك للقاضي عياض. بيروت 1387 والمطبعة الملكية. بالرباط بالمغرب 1384 وما بعدها. 33 - التسهيل لإبن مالك النحوي ضمن "المساعد على تسهيل الفوائد" لإبن عقيل. طبع مركز البحث العلمي بمكة 1400. 34 - التصوير عند العرب لأحمد تيمور باشا. لجنة التأليف والترجمة 1942. 35 - تفسير ابن كثير. طبعة مصطفى محمد 1356. 36 - تقريب التهذيب لإبن حجر. دار الكتاب 1380. 37 - التقرير والتحبير شرح التحرير لإبن أمير الحاج. بولاق 1316. 38 - تلخيص المستدرك للذهبي. حيدرآباد الدكن بالهند 1334. 39 - تنوير الحوالك على موطأ مالك للسيوطي. عيسى البابي دون تاريخ. 40 - تهذيب التهذيب لإبن حجر. حيدرآباد الدكن 1325. 41 - تهذيب الفروق لمحمد علي المالكي. دار إحياء الكتب العربية 1346. 42 - التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي. بولاق 1286. 43 - جامع الترمذي. مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الثانية بتحقيق أحمد شاكر 1398. 44 - الجامع الصغير للسيوطي. طبعة مصطفى محمد 1356. 45 - الجرح والتعديل لإبن أبي حاتم الرازي. حيدرآباد الدكن بالهند 1371.
46 - جواهر الإِكليل لصالح عبد السميع الآبي. مصطفى البابي الحلبي 1366. 47 - جواهر العقود ومعين القضاة لشمس الدين الأسيوطي الشافعي. مطبعة السنَّة المحمدية 1374. 48 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية لعبد القادر القرشي. حيدرآباد الدكن 1332، ومطبعة عيسى البابي الحلبي بتحقيق عبد الفتاح الحلو. 49 - الجوهر النقي على سنن البيهقي لعلاء الدين المارديني. مع السنن الكبرى الآتي برقم 68. 50 - حاشية البُجَيرمي على شرح منهج الطلاب. بولاق 1309. 51 - حاشية العدوي على شرح الخرشي لمختصر خليل. بولاق 1317. 52 - حاشية أحمد الطحطاوي على الدر المختار. بولاق 1254. 53 - حُسن المحاضرة للسيوطي. مطبعة عيسى البابي الحلبي 1387. 54 - حَلْبة المُجَلِّي في شرح منية المصلي لإبن أمير الحاج. مخطوط. 55 - حِلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني. السعادة 1351. 56 - الخراج لأبي يوسف بتحقيق محمد البَنَّا دار الإِصلاح 1981. 57 - الدر المختار للحَصْكَفِي. بولاق 1272. 58 - الديباج المُذْهَب لإبن فرحون. مطبعة المعاهد 1351. 59 - ذخائر المواريث للنابلسي. دار المعرفة ببيروت تصويراً عن طبعته السابقة. 60 - الرحلة الحجازية لمحمد السّندي. الشركة التونسية بتونس 1398. 61 - رد المحتار لإبن عابدين. بولاق 1272. 62 - رفع الإِصر عن قضاة مصر لإبن حجر. المطبعة الأميرية 1957. 63 - الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي. الطبعة الثالثة بيروت 1407. 64 - الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري. دار الكتب العلمية بيروت 1405. 65 - زاد المعاد لإبن القيم. السنَّة المحمدية 1370. 66 - سنن ابن ماجه. عيسى البابي الحلبي 1372. 67 - سنن أبي داود. مصطفى محمد 1354. 68 - السنن الكبرى للبيهقي. حيدرآباد الدكن بالهند 1344. 96 - سنن الترمذي جامعُه. المصرية بشرح ابن العربي 1354. 70 - سنن الدارقطني. دار المحاسن للطباعة 1386.
71 - سنن النسائي ومعها شرح السيوطي والسندي. ذات الفهارس العامة بيروت الطبعة الثالثة 1415. 72 - سِيَر أعلام النبلاء للذهبي. مؤسسة الرسالة بيروت 1401. 73 - شجرة النور التركية لإبن مخلوف. المكتبة السلفية ومطبعتها 1349. 74 - شرح تنفيح الفصول في الأصول للقرافي بحاشية جُعَيط، مطبعة النهضة بتونس 1340. 75 - شرح صحيح مسلم للنووي. المطبعة المصرية 1347. 76 - شرح معاني الآثار المختلفة المأثورة للطحاوي. المصطفائي بالهند 1300. 77 - شرح الموطأ للزرقاني. الكستلية 1279. 78 - الشرح الصغير على متن خليل للدردير بحاشية الصاوي بولاق 1289. 79 - شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل للخَفَاجي. الوهبية 1282. 80 - صبح الأعشى للقَلْقَشندي. طبع دار الكتب المصرية 1331. 81 - صحيح ابن حبان. مؤسسة الرسالة ببيروت الطبعة الأولى 1408. 82 - صحيح البخاري بشرح فتح الباري لإبن حجر. بولاق 1300 والعزو إليها ولطبعة السلفية. 83 - صحيح مسلم بشرح النووي. المطبعة المصرية 1347 والعزو إليها. 84 - الصحاح للجوهري، بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار. دار الكتاب 1376. 85 - صفحات من صبر العلماء لعبد الفتاح أبو غدة دار القلم بيروت، الطبعة الرابعة 1414. 86 - صيد المخاطر لإبن الجوزي. دار الفكر بدمشق 1380. ودار الكتب الحديثة بمصر دون تاريخ. 87 - طبقات الشافعية لإبن السبكي. الحسينية 1324 وطبعة عيسى البابي الحلبي المحققة. 88 - الطبقات الكبرى لإبن سعد. بيروت 1376. 89 - الطرق الحكمية لإبن القيم. مطبعة السنَّة المحمدية 1372. 90 - عقود الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة للزبيدي. الوطنية بالإِسكندرية 1292. 91 - عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق لمحمد سعيد الباني مطبعة حكومة دمشق 1341. 92 - الفتاوي الكبرى لإبن تيمية. كردستان العلمية 1326. 93 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري لإبن حجر. بولاق 1300 وطبعة السلفية. 94 - فتح العلي المالك لمحمد عِليش. التقدم العلمية 1319. 95 - فتح القدير للكمال ابن الهُمَام. بولاق 1315. 96 - الفروق للقرافي. دار إحياء الكتب العربية 1346.
97 - فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمُناوي. مصطفى محمد 1356. 98 - القاموس المحيط للفيروزآبادي. الحسينية 1330. 99 - قواعد في علوم الحديث للتهانوي. دار القلم بيروت الطبعة الخامسة 1404. 100 - القواعد والفوائد الأصونية لإبن اللحام مطبعة السنة المحمدية 1375. 101 - الكامل لإبن عدي. دار الفكر 1404. 102 - كشف الخفاء للعجلوني. مكتبة القدسي 1351. 103 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة. طبع إسطنبول 1360. 104 - كنز العمال للمتقي الهندي. حيدرآباد الدكن 1312. 105 - لسان العرب لإبن منظور. بولاق 1300. وطبعة صادر ببيروت دون تاريخ. 106 - مجلة المعجم العلمي العربي بدمشق. السنة الثامنة عشرة. 107 - مجلة الوعي الإصلامي التي تصدر بالكويت السنة الرابعة 1388. العدد 40. 108 - مجمع الزوائد للهيثمي. مكتبة القدسي 1352. 109 - مجموع الفتاوى لإبن تيمية. مطابع الرياض في مدينة الرياض 1381. 110 - المحصول في علم الأصول لفخر الدين الرازي. طبع جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض الطبعة الأولى 1399. 111 - مختصر ابن الحاجب في الأصول. طبع بولاق 1316. 112 - مختصر سنن أبي داود للمنذري. أنصار السنَّة المحمدية 1367. 113 - المدوَّنة في فقه الإِمام مالك لسحنون. دار الفكر بدمشق 1398. 114 - المستدرك للحاكم. حيدرآباد الدكن بالهند 1334. 115 - المستصفى من علم الأصول للغزالي. بولاق 1322. 116 - المسند للإِمام أحمد بن حنبل. الميمنية 1313. 117 - مشكل الآثار للطحاوي. دائرة المعارف النظامية بحيدرآباد الدكن بالهند 1333. 118 - المصباح المنير للفيومي. الأميرية 1328. 119 - المصنف لإبن أبي شيبة 1 و 4. مطبع إقبال في ملتان بالهند، دون تاريخ. 120 - معالم السنن للخطابي. العلمية بحلب 1351. 121 - المعجم الصغير للطبراني. المطبع الأنصاري في دهلي دون تاريخ. 122 - المعيار المعرب للوَنْشَرِيشِي. دار الغرب الإِسلامي ببيروت دون تاريخ. 123 - معين الحكام لعلاء الدين الطرابلسي. بولاق 1300. والميمنية 1310. والعزو لهذا الكتاب يتبعه رقمان، الأول للبولاقية والثاني للميمنية.
124 - المغني لإبن قدامة. دار الكتاب العربي بيروت 1403. 125 - المقاصد الحسنة للسخاوي. دار الأدب العربي 1375. 126 - المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي. السعادة 1331. 127 - الموافقات للشاطبي. المطبعة الرحمانية وغيرها دون تاريخ. 128 - الموطأ للإِمام مالك. مطبعة عيسى الحلبي دون تاريخ. 129 - نصب الراية للزيلعي. طبعه المجلس العلمي الهندي في مصر 1357. 130 - نفح الطيب للمقَّري. الأزهرية المصرية 1302. 131 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي الشافعي. مصطفى البابي 1357. 132 - النهاية في غريب الحديث لإبن الأثير. المطبعة العثمانية 1311. 133 - نهج البلاغة للشريف الرضي. بإشراف عبد العزيز سيد الأهل دار الشمالي للطباعة ببيروت 1374. 134 - نيل الإِبتهاج بتطريز الديباج للتُنْبُكْتِي. السعادة 1330. 135 - نيل الأوطار للشوكاني. مصطفى البابي 1347. 136 - هدية العارفين لإِسماعيل باشا البغدادي. وكالة المعارف باصطنبول 1951. 137 - الهداية للمرغيناني بثرح فتح القدير. بولاق 1315. 138 - وفَيَات الأعيان لإبن خلكان. الميمنية 1310 ودار الثقافة ببيروت بتحقيق إحسان عباس 1398.