الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف
الصنعاني
مقدمة
الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف تأليف: محمد بن إسماعيل الصنعاني تحقيق: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنَّ من أصول أهل السنة والجماعة الإيمانَ بكرامات الأولياء وإثباتَها والتصديقَ بها واعتقادَ أنَّها حق، وذلك "باتفاق أئمة أهل الإسلام والسنة والجماعة، وقد دلَّ عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة، والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين وغيرهم"1 ولذا أودع أهل السنة والجماعة رحمهم الله هذا الأصل العظيم في كتب المعتقد؛ ليُدرس ويُتعلم في ضمن أصول أهل السنة، بل إنَّ من الأئمة من أفرده بالتصنيف كأبي بكر الخلال وابن الأعرابي وابن أبي الدنيا واللالكائي وغيرهم. وقد انقسم الناس في هذا الأصل إلى أقسام ثلاثة طرفين ووسط2:
1- فقسم غلوا في شأن الكرامة وأفرطوا وتجاوزوا فيها الحد وهم المتصوفة حيث ادَّعوا باسم الكرامة للأولياء ما هو من خصائص الله وحده؛ كقول بعضهم: إنَّ لله عباداً لو شاءوا من الله ألا يقيم القيامة لما أقامها، وقول بعضهم: إنَّه يعطى في أيّ شيء أراده قول كن فيكون، وقول بعضهم: لا يعزب عن قدرته ممكن كما لا يعزب عن قدرة ربه محال إلى غير ذلك من الضلالات الواضحة والكفريات الظاهرة، التي يدَّعيها هؤلاء باسم الكرامة. 2- قسم جفوا في شأنها وفرَّطوا، فقالوا بإنكار الكرامة، ونفوا وقوعها وهم المعتزلة ومن تأثر بهم وزعموا أنَّ الخوارق لو جاز ظهورها من الأولياء لالتبس النبي بغيره إذ فرق ما بينهما عندهم إنَّما هو المعجزة، وبنوا على ذلك أنَّه لا يجوز ظهور خارق إلا لنبيّ. 3- قسم أهل وسط واعتدال، وهم الخيار العدول؛ لتوسطهم بين الطرفين المذمومين، حيث ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وهم أهل السنة والجماعة، فأثبتوا الكرامات للأولياء على ضوء النصوص ووَفْقِ الأدلةِ دون غلو أو جفاء أو إفراط أو تفريط. وفي هذا الموضوع المهمّ كتب الإمام الصنعاني رحمه الله هذه الرسالة التي بين أيدينا والتي أسماها (الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف) صنفها رحمه الله ردّاً على عصري له غلا في شأن الأولياء وكرامتهم، وادَّعى أنَّ لهم ما يريدون، وأنهم يقولون للشيء كن فيكون، وأنَّهم يخرجون من القبور لقضاء الحاجات، وأنَّهم في قبورهم يأكلون ويشربون وينكحون، إلى أمور أخرى عجيبة تمجُّها الأسماع، وتقذفها الأفهام، وينكرها من لديه بالشرع أدنى اطلاعة أو إلمام.
وقد بيَّن الصنعاني رحمه الله في ردّه هذا ما في كلام هذا المبطل من تناقض، وأوضح ما فيه من غلو في الأولياء المزعومين [من أوتاد وأنجاب وأقطاب وأغواث] وما خالف فيه بهذه البدعة من أدلة الكتاب والسنة. وإن كان رحمه الله قد جنح في كتابه هذا إلى قول أبي إسحاق الإسفرايني ومن قبله المعتزلة من أنَّ الكرامة إنما تكون في غير الأمر الخارق للعادة، وهو قول مخالف للحق والصواب، وسيأتي الكلام عليه ومناقشته وبيان بطلانه في الدراسة الآتية عن موضوع الكتاب1. ولم يكن هذا مانعاً - فيما أرى - من الإفادة من مادة الكتاب العلمية الجيدة في الرد على المتصوفة وأضرابهم ممن غلوا في الأولياء، مع التنبيه في هامشه إلى ما يحتاج إلى تنبيه. وقد كنت بادئ الأمر متردّداً في تحقيق ونشر هذا الكتاب نظراً لما فيه من أخطاء ومخالفات ليست باليسيرة غير أنَّه دفعني لذلك أمران: الأول: اشتماله على ردود جيدة ومناقشات مفيدة مع المتصوفة الذين غلوا في الأولياء وكراماتهم غلوّاً شديداً. الثاني: خشية أن تقوم بعض دور النشر بطبعه على علاته وأخطائه دون تنبيهٍ على ما فيه أو كشفٍ لخوافيه، اعتماداً على مكانة مؤلفه. هذا وقد جعلت بين يدي الكتاب دراسة موجزة للمؤلف وأخرى للكتاب نبَّهت فيها على جوانب مهمة في الموضوع، راجياً من الله الكريم
القبول والتوفيق، كما أرجوه سبحانه أن يغفر لمؤلفه ومحققه وقارئه ووالدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنَّه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
دراسة موجزة عن المؤلف 1- نسبه: هو محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد بن علي بن حفظ الدين ابن شرف الدين بن صلاح بن الحسن بن المهدي بن محمد بن إدريس ابن علي بن محمد بن أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن الحسن ابن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير، ويكنَّى بأبي إبراهيم. 2- مولده: ولد ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة 1099? بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى مدينة صنعاء سنة 1107?، وأخذ عن علمائها. 3- شيوخه: أخذ الصنعاني العلم عن شيوخ كثيرين منهم: 1- زيد بن محمد بن الحسن. 2- صلاح بن الحسين الأخفش. 3- عبد الله بن علي الوزير. 4- علي بن محمد العنسي.
4- رحلاته: رحل إلى مكة والمدينة وقرأ الحديث على العلماء فيهما. 5- مؤلفاته: له رحمه الله من التصانيف ما يربو على المائتين، منها: 1- سبل السلام شرح بلوغ المرام. 2- منحة الغفار على ضوء النهار. 3- العدة شرح العمدة. 4- التنوير شرح الجامع الصغير. 5- قصب السكر نظم نخبة الفكر. 6- تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد. 7- إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة. وقد اعتنى غير واحد بجمع مؤلفات الصنعاني رحمه الله، منهم الدكتور عبد الله شاكر الجنيدي في تحقيقه لكتاب "إيقاظ الفكرة ... " وبلغ عدة ما ذكر (229) مؤلفاً. 6- تلاميذه: تلقى العلم على الصنعاني رحمه الله جمعٌ غفيرٌ من طلاب العلم منهم: 1- عبد القادر بن أحمد. 2- أحمد بن محمد قاطن. 3- أحمد بن صالح بن أبي الرجال.
النص المحقق
النص المحقق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي له الملك والملكوت، الحي الجبار الذي لا يموت، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1، فليس للعبد تصرفٌ مع مولاه، ولا له تقدمٌ بين يديه، ولا شفاعةٌ، ولا غيرها إلا بإذنه ورضاه، والصلاة والسلام على من تركنا على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها، وأشرقت شمس نبوته فامتلأت الأرض بأنوارها. أخرج ابن ماجه عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نتذاكر الفقر ونتخوَّفُه، فقال: آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتُصبنَّ عليكم الدنيا صبّاً، حتى قال: لقد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها سواء" 2، [قال أبو
الدرداء: صدق والله رسول الله، لقد تركنا على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء] 1. وعلى آله الذين بهديه يهدون، وبه يقتدون. واعلم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد حذر أمته من الابتداع لما أعلمه الله من أنَّ أمته تأتي من الابتداع2 بأجناس وأنواع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "شر الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة" 3، وقال: "خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة" 4، وقال: "لا يقبلُ الله لصاحب بدعة صوماً، ولا صلاةً ولا صدقة ولا حجاً ولا عمرةً، ولا جهاداً، ولا صرفاً، ولا عدلاً، يخرج من الإسلام كما تخرج الشَّعرةُ من العجين" 5، أخرج هذه الأحاديث ابن ماجه وغيُره. قلت: ووجه عظمة الابتداع في الدين أنَّه كالرد على قول الله {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً} 1 فالابتداع بزيادة2 في الدين أو نقصان منه، فلهذا عظم شأن البدعة في الدين، وخرج3 بها صاحبها من الدين كما تخرج الشعرة من العجين. وبعد: فإنَّي وقفتُ على رسالة جواب سؤال عن شأن الأولياء الأحياء منهم والأموات، وما هو لهم من الأحوال والكرامات، فقضى الجواب فيها أنَّ للأولياء ما يريدون، وأنَّهم ممن يقول لأيِّ شيء أرادوه كن فيكون، وأنَّهم من القبور لقضاء الحوائج يخرجون، وأنَّهم لمواقف جهاد الكفار يحضرون، وأنَّ العلماء منهم بعد الموت للعلوم يدرسون، وأنَّ الخضر أخذ عن أبي حنيفة علوم الشريعة بعد أنْ ضمه الرُّخام، ولازم قبره خمسة عشر من الأعوام4، وأنَّهم ينكحون في القبور، ويأكلون، ويشربون، ويطعمون، ولهم ما يشتهون، ومن هذا الكلام الذي تمجه الأسماعُ، وتقذفه الأفهامُ. فتعين إيقاظُ أهل الغفلة [597] والمنام من القاصرين والعوام ببيان حقيقة الولي، وما ورد في صفته من الآثار، وبيانه من الكتاب والسنة والأخبار، ثم بيان رد ما أورده المجيب من الهذيان، وأنَّه جعل الأولياء من جملة الأصنام والأوثان، ووصفهم بأنَّهم كالإله تقدس وتعالى يقولون للشيء كن فكان.
فرأيته يتعين إبانةُ الصواب، وبيان حقيقة ما افتراه من الأوتاد والأنجاب والأقطاب، وما خالف فيه بهذه البدعة من أدلة السنة والكتاب، أرجو ببيان ذلك الإثابةَ من الرب الوهاب، والهداية لمن هو من أولي الألباب، وأمَّا من غلب عليه الابتداع، وخالف طريقة من هم للكتاب والسنة أتباع، فإنَّه يسد عمَّا نلقيه الأسماع، والواجب علينا1 هو البلاغ المبين، وأمَّا الهداية والتوفيق فمن رب العالمين. فنقول: قوله: "نعم أولياء الله، وهم العارفون به حسبما يمكن، المواظبون على الطاعات، والمعرضون عن الانهماك في اللذات والشهوات". أقول: هذا رسم2 لحقيقة3 الأولياء، وهذا اللفظ نقله من شرح المحلي على جمع الجوامع4، إلا أنَّه فاته5 قوله: "المجتنبون للمعاصي" وهو قيد لا بد منه اتفاقاً، فكأنَّه وقع من سقط القلم. والانهماك يقال: همكه في الأمر فانهمك لَجَّجَهُ فلج، كما في القاموس6، وفسر اللجاجة بالخصومة7. ولا يظهر مناسبتها لما هنا، وهي عبارة المحلي.
ثم هذا التفسير للولي هو الذي يفسرون به العدل، فإنَّه قال ابن حجر في شرح النخبة إنَّ العدل: "من له مَلَكَةٌ تحمِلُهُ على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة"1 انتهى بلفظه، وقد فاته أيضاً فيه قيد لا بد منه في تفسير التقوى، وهو الإتيان بالواجبات، فإنَّه لا يكفيه فيه اجتناب السيئة2، ولكنَّه كأنَّه لما قال: "من شرك أو فسق أو بدعة" علم أنَّه لو لم يأت بالواجبات ما صدق عليه اجتناب السيئات، وأيُّ: سيئة أعظم من ترك الواجبات. وإذا عرفت هذا علمت أنَّ الولي عند العلماء هو العدل؛ لتلاقي التفسيرين، بل تعريف العدل أضيق؛ لأنَّه أخذ فيه الملكة، وأخذ فيه عدم التلبس ببدعة، وقد أوضحنا ما في تفسيرهم العدالة بما ذكر في مؤلفاتنا3 كثمرات النظر في علم الأثر4 وغيرها.
وأقول: اعلم أنَّ الله تعالى قد عرفنا بأوليائه في كتابه العزيز فقال: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 1 ثم فسرهم2 تعالى بقوله: {الذِينَءَامَنُوا ... } الآية، فإنَّها مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنَّه قيل: من هم؟ فقال: {الذِينَءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . يدل على ذلك3 ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد: "في قوله {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قيل: من هم يارب؟ قال: {الذِينَءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} "4، وفسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان في حديث جبريل الذي أخرجه مسلم من حديث عمر حين جاء يسأله عن الإيمان، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" 5 والحديث مأخوذ من قوله تعالى {ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّءَامَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُّسُلِهِ} 6 ولم يذكر في الآية إلا أربعة أركان
والحديث ستة1؛ لأنَّ من آمن بكتب الله ورسله [598] فقد آمن باليوم الآخر، وبالقدر؛ أي: سَبْقُ تقدير كلِّ كائن، وإنَّما الحديثُ فَصَّلَ والآيةُ أَجملتْ بعض الإجمال، لأنَّه تعالى قال لرسوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 فبين بزيادة التفصيل لأركان الإيمان، وقد ذكر تعالى المؤمنون حقاً بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 3 ففسرهم بأنَّهم مَنِ اتصف بهذه الست الصفات، وأما المتقون فإنَّ الله تعالى بين مَنْ هم وفسرهم في صدر سورة البقرة حيث قال: {هُدَى لِلْمُتَّقِينَ} كأنَّه قيل من هم؟ قال: {الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 4 فوصفهم بأنَّهم من اتصف بهذه الصفات الست، وهي صفاتٌ مركبة من أجزاء الإسلام ومن أجزاء الإيمان، كما أنَّ آية الأنفال حيث ذكر الله تعالى صفات المؤمنين حقاً مركبة من أجزاء النوعين، وذلك أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال في
حديث جبريل الذي تقدمت الإشارةُ إليه1، وقد قال له: ما الإسلام يا محمد؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" الحديث. فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أجزاء الإسلام. فالآيتان أشارتا بذكر بعض أجزاء الإسلام وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلى اعتبار الإسلام بجميع أفراده، إلا أنَّهما خصتا أعظم أجزائهما البدنية والمالية، وتعلم الصوم والحج بالسنة التي وردت بياناً للقرآن، فإنَّ بيانه بتفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتفسير مبهمه وغير ذلك، وأشارتا بالإيمان وزيادته إلى اعتبار الإيمان بأجزائه، فأفادتا أنَّه لايكون العبد مؤمناً إلا باستكماله لخصال الإسلام والإيمان، وأشارت آيةُ البقرة إلى أنَّ المتقين هم الجامعون بين الإسلام بقوله: {الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 2 والإيمان بقوله: {وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} الآية. وإذا عرفت هذا فقد بين القرآن أولياء الله بياناً شافياً أنَّهم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى، ثم بين تعالى الإيمان وأجزاءه، والتقوى وأجزاءها.
ثم بعد تقرير هذا فلا ريب أن رتبة الإيمان تتفاوت1 إلى زيادة ونقصان حتى ينتهي الإيمان إلى مقدار مثقال الخردلة، كما وردت به الأحاديث النبوية الثابتة الصحيحة2، وقد قرر في مجاله، كما أنَّ رتبة3 التقوى تتفاوت. فقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال: "قال الحواريون يا عيسى بن مريم من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا فيها ما يخشون أن يميتهم، وتركوا ما علموا أنَّه سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً4، وفرحهم بما أصابوا منها حزنا، وما عارضهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، خَلِقَت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها [599] وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها ويشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها الفرحين، وباعوها فكانوا ببيعها المربحين، ونظروا إلى أهلها صرعى، وقد خلت منهم المثلات، فأحيوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله تعالى، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به، لهم خبر
عجيب، وعندهم خبر عجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أماني دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون"1 انتهى. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [قال: "هم:] الذين إذا رؤوا يذكر الله لرؤيتهم"2. وأخرج أحمد والحكيم الترمذي عن عمرو بن الجموح أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يستحق العبد صريح حق الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله، وإنَّ أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم" 3.
وهذا المعنى كثيرٌ1 في الأحاديث كثرة واسعة. والمراد من قوله: "يحب لله" أي: يحب الطاعة؛ لأنَّ الله يحبها، ويبغض المعصية؛ لأنَّ الله يبغضها. قال تعالى: {وَلكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2، وفي الحديث: "المؤمن من سرته حسنته، وساءته سيئته" 3، وكذلك يبغض العاصي لعصيانه ويحب التقي لتقواه، فهذا هو الحب لله والبغض له. وقوله: "الذين يذكرون بذكري" يحتمل المراد الذين يذكرون4 بسبب ذكرهم إياي، أي: أنَّ ذكرهم [لله] 5 تعالى كان سبباً لذكره تعالى لهم، من باب قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 6، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حاكياً عن الله: "إنَّ العبد إذا ذكره في ملأ
ذكره الله تعالى في ملأ خير من ملئه، وإن ذكره في نفسه ذكره تعالى في نفسه"1. ويحتمل أن يراد الذين يذكرون بسبب ذكري إياهم، أي أنَّه تعالى إذا ذكرهم في الملأ الأعلى ذكروا الله فبسبب ذكر الله لهم ذكروا، وأذكرهم؛ أي: بسبب ذكرهم إياي إذا ذكروني2، فهم يذكِّرون العباد بالله وبنعمه ونقمه، فيذكرون الله عند ذلك. ويحتمل أن المراد يذكرون الله بالأذكار الشريفة من التسبيح والتقديس والتهليل فيذكر الله العباد بذلك بسبب تذكرهم إياي3. إذا عرفت هذا عرفت أولياء الله، وأنَّ صفاتهم الخوف من الله، والإقبال على ما يرضاه، والإعراض عن كلِّ ما سواه، ويعرف بطلان ما يأتي من تفسير القوم للأقطاب والأوتاد والأنجاب بأنَّهم الذين لهم التصرف في الأكوان، وأنَّهم الذين يقولون للشئ كن فكان، وغير ذلك من الافتراء والبهتان والهذيان مما لا يقبله من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ممن جعل إمامه القرآن وكلام سيد ولد عدنان صلى الله عليه وآله وسلم ما اختلف الملوان.
قوله: "موجودون [600] إلى يوم القيامة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". أقول: هو خبر قوله: أولياء الله؛ أي: أولياؤه تعالى1 موجودون إلى يوم القيامة واستدل بحديث: "لا تزال طائفة ... " الحديث، أخرجه أئمة الحديث. فأخرج الشيخان البخاري ومسلم عن المغيرة أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" 2. وأخرج مسلم والترمذي وابن ماجه عن ثوبان عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" 3. وأخرج مسلم عن عقبة4 بن عامر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم كذلك" 5. وأخرج أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم عن عمران بن حصين أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تزال طائفة من
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال" 1. وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عنه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" 2. وأخرج أبو داود الطيالسي وعبد بن حميد عن زيد بن أرقم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يأتي أمر الله" 3. وأخرج أبو داود أيضاً والحاكم عن عمر مرفوعاً أنَّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين حتى يأتي أمر الله" 4. وأخرج الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه 5 عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" 6. وأخرج مسلم وأحمد عن جابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة
فينزل عيسى فيقول أميرهم: صل بنا. فيقول: لا. إن بعضكم على بعض أمير تكرمة [الله] 1 لهذه الأمة" 2 والأحاديث في هذا كثيرةٌ شهيرةٌ. وقد اختلف العلماء في هذه الطائفة من هم؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أنَّهم أئمة الحديث3، وذهبت طائفة أخرى إلى أنَّ المراد بهم أهل الإجماع وهم العلماء المجتهدون، وعليه بنى الحسين بن الإمام في شرح الغاية4 في بحث الإجماع وفي بحث الاجتهاد. والحق ما قاله جماعة من العلماء أنَّ المراد بهم المجاهدون في سبيل الله لتصريح الأحاديث بقوله: "يقاتلون" و"ينصرون" ونحوه5، وما
أطلق فهو محمول على ما قيد. كيف وقد صرح بأنَّه ينزل عيسى عليه السلام، وهؤلاء الذين ينزل فيهم هم الذين يقاتلون الدجال، وهو واضح من لفظ الأحاديث في غير موضع. نعم الأولياء وهم المؤمنون العدول باقون حتى تقوم الساعة على القول بأنَّه لا تخلو الأرض من1 مؤمن، وإلا فقد ثبت في الأحاديث أنَّها: "لا تقوم الساعة حتى لا يعبد الله في الأرض، ولا يقال الله" 2. قوله: "كالأبدال". أقول: في القاموس: "الأبدال: قوم بهم يقيم اللهُ عزوجل الأرض، وهم سبعون: أربعون بالشام وثلاثون بغيرها، لا يموت أحدهم3 إلا قام مقامه واحدٌ من سائر الناس"4 انتهى. وفي النهاية من حديث علي: "الأبدال بالشام وهم الأولياء والعُبَّاد. الواحد منهم بدل كجمل. سموا بذلك لأنَّه كلَّما مات منهم واحد بُدل بآخر" 5. وفي التعريف للمناوي: "أنَّ الأبدال سبعةٌ6 لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة فكلُّ بدل له إقليم7 فيه ولايته، منهم واحد على قدم الخليل وله الإقليم الأول، والثاني على قدم الكليم،
والثالث على قدم هارون، والرابع على قدم إدريس، والخامس على قدم يوسف، والسادس على قدم عيسى، والسابع [601] على قدم آدم. على ترتيب الأقاليم، وهم عارفون بما أودع الله في الكواكب السيارة من الأسرار والحركات والمنازل وغيرها، ولهم من الأسماء أسماء الصفات، وكلُّ واحد بحسب ما يعطيه حقيقة ذلك الإسم الإلهي من الشمول والإحاطة". انتهى1. قلت: وهذا افتراء على الله فإنَّه لم يأت عنه تعالى ولا عن رسله حرفٌ واحدٌ من هذه الأقوال في هؤلاء السبعة، ولم يأت في الأبدال2 إلا ما سنذكره لك قريباً من الأحاديث، وفي كلٍّ منها مقال. ومن عجائب ما في التعريفات أنَّ "الأوتاد أربعة في كلِّ زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، أحدهم3 يحفظ الله به المشرق وولايته فيه، والآخر المغرب، والآخر الجنوب، والآخر الشمال، ويعبر عنهم بالجبال لحكمهم في العالم حكم الجبال في الأرض، وألقابهم في كلِّ زمن: عبد الحي، وعبد العظيم4، وعبد القادر وعبد المريد"5. وفي التعريفات أيضاً القطب، وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الواحد6 إليه، عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في زمانه7،
أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الملكوت1 وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض2 الأعم، وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات الغير المجعولة، [فهو] يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو [على] قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الكاملة3 مادة الحياة [والإحساس، لا] من حيث الإنسانية4، وحكم جبريل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة5 فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الواقعة فيها67. وقال في التعريفات: "النجباء ثمانية في كلِّ زمان لا يزيدون ولا ينقصون عليهم أعلام القبول في أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، هم أهل علم الصفات الثمانية، ومقامهم الكرسي لا يتعدونه ماداموا نجباء، ولهم القدم الراسخ في علم تسيير الكواكب كيفاً8 واطلاعاً لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن، والنقباء9 هم الذين حازوا علم الفلك التاسع"10 انتهى كلامه.
وإنَّما نقلناه بألفاظه ليعلم من يقف عليه ممن له بقية نظر لدينه ولإيمانه بالله ورسله وما جاءت به الرسل أنَّ هذه النقولات كلَّها مجانبةٌ لما جاءت به الرسل ولما وردت به كتب الله تعالى المنزلة، وأنَّ هذه كلَّها نقطةٌ من نقطات1 المعطلين لله ولرسله، وأنَّها من كلمات العُبَّاد للعباد، وأنَّ هذا عائدٌ إلى قول من يقول بإلهية الأفلاك والكواكب، وانظر تلعّبه بملائكة الله، بل إنكارهم وهزوّهم2 نعوذ بوجه الله من الخذلان. فهؤلاء أولياء الله عند هؤلاء المبتدعة؛ بل المعطلة. وانظر بالله عليك إن كان فيك بقيةٌ من عقلٍ كم بين وصف عيسى عليه السلام لأولياء الله الذي سقت حديثه في أول هذه الرسالة من الخشوع والعبادة والزهادة وبين وصف هؤلاء لمن وصفوه لمشاركة الله في التصرف في العالم، بل إنَّ العالم قد استغنى بهم عن الله، وانظر في كلام رسل الله فإنَّ نوحاً يقول لقومه: {وَلاَأَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} 3 ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول له الله: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} 4 وهؤلاء الضلال جعلوا الملائكة الأربعة أبعاضاً لهؤلاء الأقطاب.
وكلُّ هذه الألفاظ من الأقطاب وغيرها مبتدعةٌ اصطلاحيةٌ لم تأت سنةٌ بها ولا كتابٌ ولا لغةٌ، إلا الأبدال1 كما أفاده القاموس والنهاية؛ لأنَّه قد روى في ذلك أحاديث2 [602] . فأخرج أحمد عن عبادة بن الصامت مرفوعاً: "الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلاً، قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن، كلَّما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلاً"3. وأخرج الطبراني عن عبادة أيضاً مرفوعاً: "الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض، وبهم يمطرون، وبهم ينصرون" 4. وأخرج الطبراني عن عوف بن مالك مرفوعاً: "الأبدال في أهل الشام وهم أربعون رجلاً، كلَّما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقى
بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب"1. وأخرج الخلال في كرامات الأولياء والديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعاً: "الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة، كلَّما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، وكلَّما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة"2. فهذه الأحاديث في الأبدال وفي صحتها عند أئمة الحديث3 مقالٌ، وإن سلمنا صحة الأحاديث في ذلك فإنَّه لم يجعل الله لهم علامةً يعرفون بها بأعيانهم اتفاقاً، فلا يعرف أنَّ الشخص من الأبدال حتى يعتقد أنَّه وليُّ الله الولاية الخاصة التي يزعمون، وإلا فالمؤمنون المتقون أولياء الله قال الله تعالى: {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} 4 على أحد الوجهين في الآية كما
في البيضاوي1، فهذا مثل آية يونس التي قدمناها، وإنَّما هذه حصرت أولياءه على المتقين، فالمتقي هو الولي، وغير المتقي لا يكون ولياً، والمتقي هو المؤمن الآتي بالواجبات والمجتنب للمقبحات، والذي يصدق عليه كلامُ المجيب في حده للولي، ولكنَّ المجيبَ وأشباهه يريدون بالولي غير هذا. ولقد كبرت كلمةٌ قالها شيخ شيخنا إبراهيم الكردي2 في كتابه "قصد السبيل" فإنَّه قال في خطبته: "إنَّ معرفة الله التي وراء طور العقول مما لا تستقل العقول بإدراكها بطريق الفكر وترتيب المقدمات وإنَّما يدرك بنور النبوة والولاية"3 ولم يزل هكذا يجعل الولاية قسيماً للنبوة كأنَّه يريد أنَّ الولي غيرُ داخلٍ تحت الدعوة النبوية، ولا من الأمة المحمدية، بل هو قسيمٌ له، وهذا من الجهل أولاً بدعوى أنَّ الولي غيرُ المؤمن التقي، بل له رتبةٌ غير هذه الرتبة، ثم دعوى أنَّه يستمد من غير واسطة الرسول، وهم كذا يصرحون بذلك. واعلم أنَّ البيضاوي وغيره يقسمون التقوى4 ثلاث مراتب: "التقيّ صفة مشبهة من قولهم وقاه الله فاتقى، والوقاية فرط الصيانة،
وهي في عرف الشرع اسم لمن صان نفسه عما يضره في الآخرة، ولها ثلاثُ مراتب: الأولى: التقوى عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك، وعليه قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 1. والثانية: التجنب عما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قومٍ، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعني بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ [أَهْلَ] الْقُرَىءَامَنُوا وَاتَّقَوا} 2. والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويقبل لله بشراشره3، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله: {اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} "4 انتهى. والشراشر بالشين المعجمة والراء المهملة مكررتين بينهما ألف هي النفس هنا5. وهذا التقسيم اصطلاحيٌّ ليس عليه دليلٌ من لغةٍ ولا شرعٍ، وكلمة التقوى هي لا إله إلا الله كما في التفاسير الأثرية، والضمير في {أَلْزَمَهُمْ} له صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابِهِ، وهذه هي كلمة التقوى لكلِّ مؤمن. قال ابن عباس: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} وهي: "شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأسُ كلِّ تقوى"6 حتى رأس الثلاثة الأقسام وغيرها.
وقد قدمنا لك أن التقوى تزيد وتنقص كالإيمان، وأمَّا حصره في ثلاث أو أقل أو أكثر فلا دليل عليه [603] . وقد فسر السلف قوله {حَقَّ تُقَاتِهِ} بقول بعضهم: "وهو استفراغ الوسع بالقيام بالواجب والاجتناب عن المحارم"1 كقوله: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} 2. وعن ابن مسعود "وهو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى"3 انتهى. قوله: "وكراماتهم ثابتةٌ، وتصرفهم باقٍ إلى يوم القيامة، ولا تنقطع بالموت؛ لأنَّ مرجع الكرامة – كالمعجزة - إلى قدرة الله تعالى التامة العامة المحيطة المتعلقة بجميع الممكنات بأسرها إيجاداً وإعداماً، على وَفْقِ الإرادة الأزلية التي يترجح بها حصول الممكن على مقابله، ولا يمتنع شيءٌ منها على قدرته وإرادته". أقول: في "جمع الجوامع" لابن السبكي وشرحه للمحلي ما لفظه: "وكرامات الأولياء حقٌّ؛ أي: جائزةٌ وواقعةٌ. قال القشيري: "ولا ينتهون إلى نحو ولد بلا والد، وقلب جماد بهيمة"4. قال المصنف وهذا حق يخصص قول غيره: ما جاز أن يكون معجزةً لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، لا فارق بينهما إلا التحدي. قال: ومنع أكثر المعتزلة الخوارق
من الأولياء وكذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني1 قال: "كلَّما جاز تقديره معجزة للنبي لا يجوز أن يكون ظهور مثله كرامة لولي، وإنَّما مبالغ الكرامات إجابة دعوته أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو نحو ذلك مما ينحط عن خرق العادات" انتهى2.
واعلم أنَّ إعطاء الله المؤمن الكرامات بإجابة الدعوات وتيسير الطلبات [وتسهيل المتعسرات وتخفيف المشقات] أمر [حق] لا شك فيه، [ولا يخالف فيه مؤمن، إذ كلُّ مؤمن قد جرب من إجابة الدعوات وتيسير الطلبات أمر لاشك فيه] 1 ولكن هذا لا يختص به طائفةٌ معينةٌ، بل هو حاصلٌ للمؤمنين إذا أخلصوا النيات، وأقبلوا على الله تعالى إقبال صدقٍ وثباتٍ ووثوقٍ بتيسير المطلوبات، ومراعاةً لمواقع الإجابات2، فإنَّه تعالى خاطب جميع المؤمنين بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3، وبقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ... } 4 الآية، لكن إعطاؤه تعالى للمطلوب وتفريجه عن المكروب يتوقف على مشيئته وحكمته، فقد لا يُعَجِّل للعبد ما أراده، إذ قد يكون فيه هلاكه في دينه أو في دنياه قال تعالى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} 5 وثبت في الأحاديث أنَّ للدعوة ثلاثَ حالاتٍ: إما أنْ يعجلها الرب، أو يدخرها لعبده ليوم القيامة، أو يعطيه خيراً مما سأل. وفي رواية: أو يكفر عنه بها6.
فإن أريد بالكرامات ما ذكره أبو إسحاق الإسفرايني فهو حق لا ريب فيها، ولا يخالف فيها إلا جاهل. أعني نفي الكرامة بهذا المعنى، فمن أنكرها بهذا المعنى قد فرط، كما أنَّ من ادعى إثبات الخوارق قد أفرط، والحق التوسط بين الطرفين، كما يقوله أبو إسحاق وغيره1. وأما قولهم: "إنَّ كلَّ معجزة لنبي تصح أن تكون كرامةً لولي" فهذه دعوى لا دليل عليها، وقد نقل أقوامٌ عوامٌ كذباتٍ لقومٍ من الصالحين تجاوزوا حد الإعجاز2 كما في حلية أبي نعيم أنَّه قال قائل لأبي يزيد البسطامي بلغني أنَّك تمر في الهواء. قال: وأي أعجوبة في هذا! الطير يأكل الميتة ويمر في الهواء، والمؤمن أشرف من طير"3. انتهى. ولا يقول هذا عارفٌ؛ فإنَّ الله تعالى جعل من آياته مرور الطير في جو السماء {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4 وقال: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} 5 ونحوها من الآيات، ولا يعاب الطير بأنَّه يأكل من الميتة، بل هي رزقه، ولم تحرم عليه كما أنَّها حرمت الزكاة على الغني وأحلت للفقير، والله سبحانه لما أسرى برسوله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطر في السماء، بل أرسل إليه البراق ثم صعد إليها على المعراج6. فما هذا
الكلام الفارغ الذي ينقلونه عن أبي يزيد، إن صح فهو من شطحات هؤلاء المتهوكة. ولقد راجت هذه الدعاوى الفارغة [604] على جماعة من علماء الإسلام صاروا كالعامة في قبول المحالات، فلقد ألف الحافظ السيوطي رسالة سماها: "المنجلي في تطورات الولي"1، وأتى فيها بحكايات باطلة، وأقوال عن الأدلة عاطلة، حتى كأنَّه ما عرف السنة والكتاب، ولا ملأ الدنيا بمؤلفاته التي أتى فيها بكلِّ عجاب، فلا يغتر الناظر بنقل ما يخالف السنة والكتاب، وإن حكاه من العلماء بحرُ علمٍ عبابٍ، وما أحسن ما قاله ابنُ الجوزي في كتابه صيد الخاطر قال: "واعلم أنَّ المحقق لا يهوله اسمٌ معظمٌ، كما قال رجل لعلي رضي الله عنه: أتظن أنَّا نظن أنَّ طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له عليٌّ "عليه السلام"2: "إن الحق لا
يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" ولعمري إنَّه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيءٌ فسمعه الجاهلُ بالشرع قبله لتعظيمهم في نفسه، كما ينقل عن أبي يزيد أنَّه قال: "تراعنت عليَّ نفسي فحلفت أنْ لا أشرب الماء سنة"1، وهذا إذا صح عنه كان خطأً قبيحاً، وزلةً فاحشةً؛ لأنَّ الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء، وإذا لم يشرب فقد سعى في أذية بدنه، وقد كان يُستعذب الماءُ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2، أفترى هذا فعل من يعلم أنَّ نفسه ليست له، وأنَّه لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن من مالكها، وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية أنَّه قال: "سرت إلى مكة على طريق التوكل حافياً فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان علي مسحٌ، فكانت عيني إذا آلمتني أدلكها بالمسح، فذهبت إحدى عيني". وأمثال هذا كثيرٌ، وربما حملها القُصَّاص على الكرامات
وعظموها عند العوام فتخايل لهم أنَّ فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي وأحمد. ولعمري إنَّ هذا من أعظم الذنوب وأقبح العيوب، فإنَّ الله تعالى قال: {وَلاَتَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} 1، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ لنفسك عليك حقاً" 2، "وقد طلب أبو بكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ظلاً حتى رأى صخرة ففرش له في ظلها"3. قلت: وفي هذا الحديث أيضاً أنَّه حلب له صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر كُثبة من لبنٍ ثمَّ صبَّ عليها الماء لتبرد، ثم أسقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكم ينقلون عن ذي النون أنَّه لقي امرأة في السياحة فكلمها وكلمته4، وينسون ما في الأحاديث الصحاح: "لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً وليلة إلا بمحرم"5. وكم ينقلون أنَّ أقواماً مشوا على الماء6 وقد قال إبراهيم الحربي: "لا يصح أنَّ أحداً يمشي على الماء قط". فإذا سمعوا هذا قالوا تنكرون كرامات الأولياء فنقول: لا ننكرها؛ بل نتبع ما صح، والصالحون هم
الذين يتبعون الشرع ولا يتعبدون بآرائهم. قال: "واسمع مني بلا محاباة: لا تحتجنَّ عليَّ بأسماء الرجال، وتقول قد قال إبراهيم بن أدهم، قد قال بشر الحافي من احتج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأصحابه رضي الله عنهم أقوى حجة". إلى أن قال "ومن تأمل هذه الأشياء علم أنَّ فقيهاً واحداً وإن قلَّ أتباعه وخفت إذا مات أشياعه أفضلُ من ألوفٍ يتمسح العوام بهم تبركاً، ويشيع جنائزهم مالا يحصى. وهل الناس إلا صاحبُ أثر يتبعه أو فقيهٌ يفهم مراد الشرع ويفتي به؟! نعوذ بالله من الجهل وتعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل فإنَّ من ورد المشرب الأول رأى سائر المشارب كدرة، والمحنة العظمى مدائح العوام1، فكم غرت كما قال علي رضي الله عنه: "ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً"2 انتهى من فصل طويل أردت بنقله إعلاماً للناظرين أنَّ أكثر الكرامات التي شاعت بين العوام وحازت على عقول الخواص كذب من العوام الذين هم فتنة دين الإسلام أتباع كلِّ ناعق لم يستضيئوا بنور العلم وهم الهمج الرعاع كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه [605] في كلامه لكميل بن زياد3 ولكنه نفذ
سهام العوام فصار العلماء لهم أتباعاً ولأقوالهم أشياعاً يؤلفون ترويجاً لما يروونه من الكذبات وينحلون1 لهم في التصانيف بوارد الدلالات كما قدمناه عن "تطورات الولي"2 وكهذه الرسالة التي نحن الآن بصدد الرد على ما فيها وكم وكم ولا إله إلا الله ما أشدَّ ضرر العالم المعروف بين الأنام إذا روج لهم الأباطيل وزخرف لهم باطل الأقاويل ويحاول إجراءها على سنن السنة وتنزيلها التنزيل3 فيصدق الكذب المحال عقلاً وشرعاً ويؤلف في صحتها ليكون لمن يأتي بعده أصلاً متبعاً، فإذا أراد العالم بالكتاب والسنة أن يبين بطلان تلك الأساطير صدمه الجاهل ورد عليه بقوله: قد قال بصحة هذا السيوطي وابن حجر الهيتمي وفلان الرملي4 وفلان وفلان. فأين يقع من هؤلاء الأعيان وقد يسخر5 به العوام ويقولون أنكر كرامات الصالحين الأعلام ولله الكلمةُ العَلَوِيَّة "اعرف الحق تعرف أهله" لكن أين مَنْ يتأهل للخطاب ويسمع ويعقل6، إن هم إلا كالدواب. قوله: "ولا ينقطع" أي: تصرفهم وكراماتهم بالموت. لم يعلل هذه الدعوى إلابأن مرجع الكرامة إلى قدرة الله تعالى، وأنَّه لا يمتنع شيء على قدرته وإرادته".
أقول: علل وقوع الكرامة للأولياء بعد موتهم بعموم قدرة الله تعالى المتعلقة بجميع الممكنات، وقدرة الله على جميع الممكنات مما لا نزاع فيه بين المسلمين، فإنَّه قد علم من ضرورة الدين أنَّ الله على كلِّ شيء قدير، ولكن ما كلُّ مقدورٍ واقعٌ اتفاقاً وقطعاً عقلاً وسمعاً، قال الله تعالى: {إِن يَّشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} 1 قال: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} 2 {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 3 وفي بعضها بين الله تعالى الحكمة التي اقتضت عدم إيجاده المقدور، كقوله: {وَلَوْلاَ أَن يَّكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَّكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ ... } 4 الآية، وجميع ما تمدَّح به تعالى من هذه الأمور المقدورة لم يقع، والبحث عن وقوع المقدور لا في إمكانه5. وما قوله6: إنَّ الكرامات للأموات واقعة؛ لأنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات إلاَّ نظير قولك لجبل من الجبال هذا ذهب؛ لأنَّ الله تعالى قادر على أن يجعله ذهباً. فيقال: صدق نصف هذا الكلام وكذب نصفه، فإنَّ قولك إنَّه ذهب كاذب وقولك إنَّ الله قادر على أن يجعله ذهباً صادق، لكن لا ينفع صدقه في مدعاك7.
قوله: "وهذا أمرٌ قطعي لا مرية فيه البتة عند أهل السنة والجماعة". أقول: إن أراد كونه تعالى على كلِّ شيء قدير، وأنَّه لا يمتنع شيءٌ عن قدرته فهذا يقوله جميع فرق المسلمين؛ بل وأهل الكتابين بلا نزاع فيه لمن أثبت الرب تعالى، وإن أراد بالإشارة ثبوت الكرامات للأموات وتصرفهم كما قاله، فهذا أبو إسحاق الإسفرايني من أئمة أهل السنة بلا نزاع1 وقد ثبت نزاعه معهم2 في الكرامات للأحياء فضلاً عن الأموات. وهب أنَّه يقول أهل السنة والجماعة3 بذلك فلا دليل في ذلك إذ ليسوا بأهل الإجماع حتى يكون قولهم دليلاً وقد أطلنا الكلام على تسميتهم أنفسهم بأهل السنة والجماعة في مؤلفنا "الأنفاس الرحمانية في الأبحاث على الإفاضة المدنية"4. قوله: "قال شيخ الإسلام ... إلى آخره".
أقول: دليل شيخ الإسلام هو الدليل الأول وهو كونه تعالى على كلِّ شيء قدير ولا نزاع في الدليل لكنَّه لا يدل1 على مدعاه، وليس له إلى إثباته سبيل. قوله "تارة بدعائهم وتارة بفعلهم واختيارهم". أقول: هذا يتم في الأحياء دون الأموات. قوله: "وتارة بغير قصدٍ ولا شعورٍ ولا اختيارٍ منهم" أقول: فما وجه نسبتها إليهم فإنَّه إنَّما ينسب إلى الإنسان ماله فيه اختيار وإلا فهو وغيره فيه سواء. قوله: "فقد أثبت علماء الإسلام قاطبة". أقول: في القاموس "قاطبة: جميعاً. لا تستعمل إلا حالاً"2. انتهى، ولا يخفى ما في هذه الدعوى، فإنَّ المعتزلة من علماء الإسلام عند العلماء جميعاً [606] ، منهم أهل السنة والجماعة لأنَّهم لا يخرجون أحداً من أهل الإسلام ولا يكفرونه، فعلماء المعتزلةِ غيرُ داخلين فيما ذكره، وكذلك الأستاذ أبو إسحق من علماء الإسلام بلا مرية وقد خالف هو والمعتزلة في وقوع الخوارق من الأولياء3 فكيف يجازف المجيب هذه المجازفة ويذكر
الاتفاق عن علماء الإسلام قاطبة، والواجب على من يريد أن يتكلم أن يتحرى الصدق في مقاله، سيما في مسائل العلم والنسبة إلى العلماء. ثم تعليله لهذه الدعوى بأنَّ معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تنحصر، ومنها كرامات الأولياء. فجعل الكرامات بعضها من المعجزات، وهذا جهل أو تجاهل بحقيقة المعجزة، فإنَّ للمعجزة شروطاً خمسة1: ثالثها أن تكون عقيب دعوى المدعي للنبوة2 وهذا معلوم قطعاً أن لايكون شرطاً في الكرامة، إذن لكان الولي نبياً3، والغرض أنَّه ولي، وكأنَّه يريد أن الكرامة كالمعجزة من حيث إنَّها دلت على صدق الرسول حيث وقعت على يد بعض من اتبعه فدلت على صدقه كما قال: الدال على صحة نبوته. وهذه الدلالة لا أدري لمن تكون، إن كانت للولي الذي حصلت له الكرامة فالغرض أنَّه قد آمن بالرسول صلى الله عليه وآله سلم وصارت نبوته عنده قطعية وصحتها لديه ضرورية وإلا فما قد كمل
الإيمان فضلاً عن الولاية، وإن أراد أنَّها تكون دالة لمن لم يدخل في الإسلام ويصدق نبوَّة سيد الأنام فهذا أعجب1، فإنَّ الكافر لم يصدق بالمعجزة الحقيقية، فكيف بالكرامة وهذا القرآن باقٍ ببقاء الأزمان وسائر المعجزات الواقعة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم قد تواترت لمن له أذنان2. ولا يقول قائل: إنَّ هذا منَّا إنكارٌ للكرامات. فإنَّا قد قدمنا أنَّه لا ينكرها بإجابة الدعوات وتيسر المطلوبات ودفع المحذورات إلا جاهلٌ بالحقائق3، لكنَّا لا نخصها بفريق معين مثل هؤلاء الذين ينصون عليهم من الشيخ أحمد البدوي4 وغيره5، بل نقول عطاء ربنا غير محصور، فإنَّه أَمَرَ بالدعاء جميع عباده ووعد بالإجابة، فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 6 {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 7 ولا نعرف من الكرامات إلا إجابة الدعوات بعافية المريض والسلامة من المخاوف
والتيسير للمطالب ونحو ذلك، وهذا عامٌ للمؤمنين، لا يمنع الإجابة إلا ما عُرف من أكل الحرام أو الدعاءِ بالقطيعة والآثام؛ بل قد أخبر الله تعالى أنَّه يجيب دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ بل قال تعالى في خطاب المشركين: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُوراً} 1 وهذه للمشركين كما قال {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِمًاً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2 إنَّما وسع القاصرون نطاق الكرامة قالوا: كلَّما كان معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاز أن يكون كرامة لولي، وأنَّه يقلب العصا حية ويخرج الناقة العشراء من الصخرة الصمَّاء3، فهذا لا نقوله ولا كرامة، ولا دليل عليه ولا يقول الإمام أبو إسحاق الإسفرايني، وقد قال ابن السبكي إنَّه يستثنى مثل هذا ويقيد به الإطلاق4.
قوله: "قال شيخ مشايخنا أحمد الرملي" إلى آخره. أقول: ليس في نقل كلامه فائدة فإنَّه ليس إلا أنَّه أخبر عن اعتقاده ونحن نطالبه في دليل هذه العقيدة. قوله: "أما الأنبياء فلأنَّهم أحياءٌ في قبورهم يأكلون ويشربون ويصلون ويحجون؛ بل وينكحون كما وردت بذلك الأخبار". أقول: الذي وردت به الأخبار: حياة الأنبياء عليهم السلام في قبورهم وقد ألف فيما ورد [607] في ذلك الحافظُ السيوطي رسالة سماها "إنباه الأذكياء بحياة الأنبياء"1 وسبقه إلى ذلك البيهقي فجمع كتاباً لطيفاً في حياة الأنبياء عليهم السلام2 ذكره ابن حجر في فتح الباري وسرد أحاديث لا تقوى على هذا الأصل وذهب أنَّهم أحياء في القبور3، والكلام في الأولياء، وأصل السؤال فيهم مع أنَّه لا يمكن دعوى معجزة للنبي تحصل بعد موته لما عرفت من حقيقتها ولأنَّه قد ثبت أنَّه "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" أخرجه البخاري في الأدب ومسلم في الصحيح وأبو داود والترمذي والنسائي4 ووردت أحاديث فيها خصال أخرى انتهت إلى عشر وقد سردناها منظومة في "جمع الشتيت شرح أبيات
التثبيت"1 وهذا لفظٌ يعم كلَّ إنسان، وسلمنا أنَّه يخص الأنبياء عليهم السلام بالصلاة في قبورهم، فالأولياء أين الدليلُ على حياتهم فيها؟ ثم لا يعزب عنك أن في ذكره حياة الأنبياء عليهم السلام في القبور ما يشعر أن الكرامات لا تثبت عنده إلا للأحياء وإلا فمالنا وللخوض في حياة الأنبياء عليهم السلام في القبور على أنَّه قد أخرج أبو داود والبيهقي عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإنَّ صلاتكم تعرض علي. فقالوا يا رسول الله: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت يعني: بليت؟ قال: إنَّ الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" 2، وهذا ظاهر في أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كغيره من الأموات إلا أنَّ جسده لا تأكله الأرض ولو كان صلى الله عليه وآله وسلم حياً في قبره لقال إنِّي حيٌّ في قبري، وقد بين هذا الغرض وإدراكه صلى الله عليه وآله وسلم لما يعرض ما أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من أحد يسلم عليَّ إلاَّ رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام" 3 ولا
ريب أنَّ هذا دالٌ على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم تفارقه روحه، وقد تكلف السيوطي من القائلين بحياة الأنبياء عليهم السلام إلى تأويل هذا الرد وهو قوله: "إلا رد الله علي روحي" بما هو مردودٌ1، وقد حقق ابنُ القيم أنَّ للأرواح بعد مفارقتها الأبدان اتصالٌ2 بالأبدان بسببه يعرف الميت زائره كما ثبتت به الأحاديث في كلِّ مؤمن، وبسببه يرد السلام على من يسلم عليه وهو مع ذلك ميت مفارق لروحه3 وقد نقلنا كلامه في "جمع الشتيت"4 وبسطناه في "أوائل التنوير شرح الجامع الصغير" في حديث الإسراء. وأما قوله: "يأكلون، ويشربون، ويصلون، ويحجون، بل وينكحون" فلم يأت خبر بهذه من الأخبار التي ادعاها5، ولا رأينا ما يدل عليها إلا ماورد عن ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبر موسى عليه السلام وهو قائم يصلي فيه6. وأخرج أبو يعلى في مسنده والبيهقي في كتاب حياة الأنبياء عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الأنبياء أحياءٌ في قبورهم
يصلون"1. أخرجه أبو نعيم في الحلية2. فهذا الذي ورد في موسى عليه السلام وفي عموم الأنبياء أنَّهم يصلون في قبورهم على أنَّ طرق هذه الأحاديث مظلمة3، إذ ليس رجالها لنا بمعروفين ولئن قلنا بصحتها فأين
أدلةُ أنَّهم يأكلون ويشربون ويحجون وينكحون، فإنَّ هذا الحافظ السيوطي ألف كتاباً في حياتهم ولم يأت بحرف واحد في أنَّهم يفعلون شيئاً غير الصلاة وهو أكثر الآخرين اطلاعاً [608] وأوسعهم تأليفاً. نعم ثبت نص القرآن أنَّ الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله؛ بل نهى الله عن تسميتهم أمواتاً فقال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُّقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ1 بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} 2 وثبت في الأحاديث أنَّ أرواح الشهداء في [جوف] 3 طير خضر ترعى في رياض الجنة ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش4، وأرواحهم في قباب بيض من قباب الجنة5، وورد أنَّهم يرزقون من ثمار الجنة ويجدون ريحها ولا يدخلونها6، والأحاديث في هذا كثيرة7. وكأنَّهم أنواعٌ وكلٌّ منهم له رزقٌ ونعيمٌ، فالثابت بلا شك حياتهم، وأنَّهم يرزقون.
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء كما قاله ابنُ مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف تسعاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف يميناً واحدة أنَّه لم يقتل"1، وذلك أنَّ الله اتخذه نبياً واتخذه شهيداً، أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة. وأخرج البخاري والبيهقي عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه: لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم" 2 وحينئذ فيكون صلى الله عليه وآله وسلم شهيداً، وبهذا استدل السيوطي على حياته صلى الله عليه وآله وسلم في قبره3، إلا أنَّ هذه الشهادة سماها العلماء شهادة الأخرى؛ كالمبطون والمطعون فلهم حكم الشهداء في الآخرة؛ ولهذا غسل صلى الله عليه وآله وسلم وصلي عليه صلاة الجنازة، ثم لا يخفى بعد هذا كلِّه أنَّ هذا الخوض في الأنبياء عليهم السلام خوض أجنبي لا يتعلق به سؤال السائل4؛ بل سؤاله عن الأولياء
وكراماتهم، لا عن الأنبياء ومعجزاتهم، ولكنَّه تدرج بذكرهم إلى إلحاق الأولياء بهم في حياتهم بعد الموت وكراماته وهو استدلالٌ باطلٌ وقياسٌ فاسدٌ، فإنَّ النبوة رتبةٌ عاليةٌ، والمعجزات منهم مطلوبةٌ عند التحدي، فلا يلحق أحد بالأنبياء عليهم السلام في لوازم النبوة بالاتفاق، إذ من شرط القياس مشاركة الفرع للأصل في علة الحكم1، والحكم هنا ثبوت المعجزات، والعلة النبوة والتحدي، والولي ليس له نبوةٌ اتفاقاً فلا معجزة، والكرامةٌ بإجابة الأدعية ونحوها ثابتة بأدلة القرآن والسنة، وغيرُها من الخوارق ممنوعٌ صدوره عن الأولياء كما تقدم نقله عن ابن السبكي والقشيري والأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني الذي قال الأسنوي في وصفه: "أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني صاحب العلوم الشرعية والعقلية واللغوية والاجتهاد في العبادة والورع"2 وأثنى عليه ثناء كثيراً. ذكره في طبقات الشافعية. إذا عرفت هذا فإنَّه لم يثبت دليلٌ على ما ادعاه من أنَّ الأنبياء3 عليهم السلام يأكلون ويشربون وينكحون. غاية ما في ذلك أنَّه ثبت للشهيد منهم الرزق الذي ذكره الله تعالى ولا ينفعه هذا جميعه في جواب السؤال.
قوله: "والشهداء أيضاً أحياءٌ عند ربهم شوهدوا نهاراً وجهاراً يجاهدون الكفار". أقول: يكذب هذه الدعوى ما أخرجه الحاكم وصححه عن جابر رضي الله عنه أنَّه قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا جابر إنَّ الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً، قال: ألا تمنى؟ قال: أتمنى أن ترد روحي وتنشئ خلقي كما كان وترجعني إلى نبيك فأقاتل، فأقتل في سبيل الله مرة أخرى، قال إنِّي قضيت أنَّهم إليها لا يرجعون" 1. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وهنَّاد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن ماجه [609] وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن مسروق قال: "سألنا عبد الله ابن مسعود عن هذه الآية {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ... } 2 الآية. وفيه: أنَّه تعالى اطلع على الشهداء اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أيُّ شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث نشاء،
ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنَّهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا: يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجةٌ تركوا"1. وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له الله يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أيْ ربِّ خيرُ منزل. فيقول له: سل وتمنه. فيقول: ما أسألك وأتمنى: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات. لما رأى من فضل الشهادة" 2. وأخرج أحمد والنسائي عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مامن نفس تموت ولها عند الله خيرٌ تحب أن ترجع إليكم إلا القتيل في سبيل الله فإنَّه يحب أن يرجع فيقتل مرة أخرى" 3. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من أحد من أهل الجنة أحدٌ
يسرُّه أن يرجع إلى الدنيا وله عشرة أمثالها إلا الشهيد فإنَّه ودَّ لو رُدَّ إلى الدنيا عشر مرات فاستشهد لما يرى من فضل الشهادة" 1. والأحاديث كثيرةٌ بأنَّ الشهداء لا يرجعون إلى الدنيا ولا يقاتلون ولا يقتلون؛ بل يحبون ذلك وأجاب الله بأنَّهم إليها لا يرجعون. فاعجب لدعوى المجيب، ثم أيُّ حاجة له إلى إثبات عود الشهداء إلى الدنيا يقاتلون فيها مع أنَّ الكرامة عنده ثابتةٌ للموجود والميت المفقود. قوله: "وأما الأولياء.. إلىقوله: والدليل على جوازها أنَّها أمورٌ ممكنةٌ". أقول: قدمنا لك أنَّ إمكان الشيء ودخوله تحت القدرة الإلهية لا يستدل أحدٌ به بوقوع الممكن فما كلُّ ممكن واقع، وقدمنا لك الأدلة على هذا فلا نعيدها. قوله: "وعلى الوقوع". أقول: أي: والدليل على وقوع الكرامة للأولياء قصة مريم، وأنَّ الله كان يأتيها بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء وهذا قد نطق به التنزيل فكذلك ما ذكره من القصص الواقعة للصحابة2.
والجواب: أنَّ هذا أولاً في حق الأحياء، وكلامه في الأحياء والأموات، ثم إنَّه قال القرطبي: "الصحيح أنَّ مريم نبية"1، وبهذا فليست قصتها من محل النزاع، ثم إن أراد أنَّا نثبت الكرامات لمن ادعاها؛ لأجل أنَّها قد وقعت لمن ذكر فهذا غير صحيح؛ لأنَّه إثبات لها بالقياس، وإثبات الكرامات بالقياس ما يقوله أحدٌ من أهل الإسلام لا من العلماء ولا العوام؛ لأنَّ الكرامة إنَّما هي فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء لا من نشاء نحن، والقياس لا يُحكم به على الرب عز وجل؛ فيقال كما أحدث كرامة لمريم يحدثها لفلان هذا هذيان وتحكم على جناب الله الرحمن، وإن كان المراد أنَّها وقعت لا ننكرها فقد قدمنا لك عدم إنكار غير الخارق وأما الخارق فهو محل النزاع، ولا يتم الاستدلال بقصة مريم فإنَّ الله اختصها بخوارق لم تكن لغيرها؛ مثل الإتيان بولد من غير أب، ونطق ولدها في المهد فدل أنَّ لها رتبةً ومزيةً ليست لغيرها، وأما قصة أبي بكر2 فهي من إحداث البركة في الطعام، ولا يُنكر فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ صلة الأرحام سبب لزيادة الأرزاق
والأعمار1 وكذلك كثير من أنواع الخير أسبابٌ لحصول كثيرٍ من أنواع الخيرات2 أمرٌ لا يُنكر3. فعله الله من باب الأسباب والمسببات لا يختص به الولي؛ بل أخبر أنَّ طعام الواحد يكفي الاثنين لحصول البركة4، وأما قصة سارية مع عمر فلم يسندها ولم نجدها مسندة5 ومثلها لو كان لشاع وكان متواتراً، وهذا مما يقول أهل الأصول أنَّه إذا انفرد [610] الواحد بخبر توفر الدواعي على نقله فإنَّه يرد خبره ومثلوه بقتل خطيب على المنبر، وهذه نقلها لا بد من تواترها6. قوله: "فأجاب بأنَّه ما قاله صحيح".
أقول: أيْ من أنَّ الولي هو يقول للشيء كن فيكون. قلت: سبحانك هذا بهتان عظيم، بينما المجيب يخوض في إثبات الكرامة لولي صار الكلام في إثبات خواص الإلهية له1، والحال أنَّ الرسل الذين هم الهداة للأمم وباتباع شعاع أنوارهم صار الولي ولياً إذا قالت لهم الأمم يأتون بآية يقولون: إنَّما الآيات عند الله، ويأمر أفضل رسله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ} 2 ونهاه أن يقول لشيء إنِّي فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الل?. وهؤلاء يقولون أمر الولي بين الكاف والنون، وهذا غلو كغلو النصارى في المسيح أو نوع من الجنون، وقد اختلفت أئمة الأصول هل يجوز أن يفوض الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حكماً من الأحكام الشرعية3 فكيف إطلاق التصرف في الأكوان إيجاداً أو إعداماً في الأمور الكونية، وبالجملة فرد هذا الهذيان لا يحتاج إلى دليل من سنة ولا قرآن، إنَّما يحتاج إلى عقل يفرق بين خالق الأكوان وبين الإنسان.
قوله: "قال شيخ الإسلام أحمد بن علي: ما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان.. إلى قوله: فأجاب بأنَّ الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة وعلله بأنَّ معجزات الأنبياء وكرامة الأولياء لا تنقطع بموتهم"1. أقول: هذا الكلام كما يقال: لحم جمل غث على جبل وعر لا سمينٌ فينتقى ولا سهلٌ فيرتقى. أما قوله: "المعجزات لا تنقطع بالموت بمعنى أنَّ الله يحدثها للنبي عليه السلام بعد موته فقد عرفت أنَّ المعجزة من شرطها مقارنة التحدي عند دعوى النبوة2 والميت لا يدعي النبوة ولا يتحدى باتفاق العقلاء وكتبِ الله ورسله، قال عيسى عليه السلام {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} 3 وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 4 فأيُّ دعوى للنبوة بعد الموت، وأيُّ تحدي، وأيُّ معجزة، ثمَّ هذه الاستغاثة معلوم يقيناً أنَّها بدعة5، فلم يعلم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم استغاث برسول من أولي العزم ولا غيرهم عند الشدائد التي لاقاها؛ بل كان أعظم ما لاقاه منها يوم الطائف فكان دعاؤه
الدعاء المعروف واللجأ إلى الله تعالى1، وكذلك أصحابه من بعده لا يعلم عن أحد منهم أنَّه استغاث به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، ولا يمكن أحدٌ يأتي بحرفٍ واحدٍ عن أصحابه أنَّه قال: يا رسول الله ويا محمد مستغيثاً به عند شدة نزلت به؛ بل كلٌّ يرجع عند الشدائد إلى الله تعالى2، حتى عُباد الأصنام إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه3، وهذا خليل الله إبراهيم لما أرمي به إلى النار لاقاه جبريل في الهواء فقال له: هل من حاجة؟ قال: أما إليك فلا4. وهذه الأدعية النبوية المأثورة قد ملأت كتب الحديث ليس منها حرفٌ واحدٌ فيه استغاثةٌ بمخلوق وسؤالٌ بحقه. وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين أنَّه ورد في أثرٍ إسرائيلي أنَّ داود عليه السلام قال:"يارب أسألك بحق آبائي عليك،
فأوحى الله إلى داود، ياداود أيُّ حقٍ لآبائك عليَّ، ألستُ أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم فلي الحق عليهم"1. فهذه البدعة وهي الاستغاثة بالأموات وإنزال الحاجات بهم والتوسل إنَّما هو بقية من عبادة الأصنام؛ فإنَّ الجاهلية كانوا يستغيثون بهم ويطلبون الحاجات منهم، وكلُّ بدعة ضلالة، كما ثبت في الأحاديث2، وأيُّ ضلالةٍ أعظم من عبدٍ يُنزل حاجاته بالأموات [611] ويعرض عن باري البريات. وقد ثبت أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم بايعه جماعة من الصحابة على أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم إذا سقط سوطه وهو على راحلته لم يسأل من يناوله، بل ينزل بنفسه3، كلُّ هذا لتفرد الله بالسؤال وطلب الحاجات. وإن قال: لم أُعرض عن الله، إنَّما تقربت بهم إليه. فيقال: هذا بعينه هو الذي قاله من قال إنَّه لا يعبد الأصنام إلا لتقربه إلى الله زلفى، غاية الفرق أنَّ صنمه من حجارة أو خشب وصنمك من سلالة من طين، وأماَّ التوسل وطلب الحاجات فهو العبادة بل هو مخ العبادة كما ثبت في الأحاديث4 ولو كان التوسل بالأموات جائزاً أو مندوباً لعلَّم رسولُ الله
صلى الله عليه وآله وسلم أمته ذلك فإنَّه قد علمهم كلَّ خير ونهاهم عن كلِّ شر، فإنَّه علمهم صلاة الاستخارة، وأذكار الصباح والمساء والدعوات عند العوارض من الهم والغم والأخواف1؛ بل قال لهم: "من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي" 2 الحديث، فعلمهم التأسية عند المصايب، ولم يأت عنه حرفٌ أنَّه قال: من نزل به أمر فليستغث بي. وقد نهى العلماء عن هذه البدعة والضلالة وبينوا أنَّها حرامٌ. قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، فلا يقول أسألك بفلان وفلان وبملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك لأنَّه لاحق للمخلوق على خالقه"3. قال ابن عبد السلام: إنَّه لا يجوز سؤال الله بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم إلا أنَّه توقف في نبينا صلى الله
عليه وسلم لاعتقاده أنَّه جاء فيه حديثٌ، ولا يعرف صحته1. قال ابن القيم: "قال شيخنا - يريد ابن تيمية-: هذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتبُ أبعدها عن الشرع أن يسأل الميتَ حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام؛ ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعُبَّاد الأصنام، وكذلك السجود للقبر والتمسحُ به وتقبيلُه. الثانية: أن يسأل الله به وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين. الثالثة: أن يسأله بعينه. الرابعة: أن يظن أنَّ الدعاء عند القبر مجاب، أو أنَّه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته والدعاء عنده؛ لأجل طلب حوائجه، وهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمةٌ وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين، وإن كان كثيرٌ من المتأخرين يفعل ذلك"2 انتهى.
فإن قلتَ: قد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حق الله على العباد. قال: الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار"1. قلتُ: هذا الحق الذي أثبته لعباده على نفسه هو الإثابة لهم بإفراده بالعبادة، ولا دليل أنا نسأله بحقهم، وكذلك كما قيل: ما للعباد عليه حقٌّ واجب كلا ولا سعيٌ لديه ضايع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع2 وورد في دعاء الصلاة3: "وبحق السائلين عليك"4. أي: بما وعدت به إجابة السائلين، فهو توسل إلى الله بإجابة السائلين الذي جعله5 على نفسه حقاً لهم بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 6 فهو نظير قول زكريا عليه السلام: {وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} 7 أو المراد: بحقك الواجب على المسلمين8 من الاخبات وإنزالهم الحاجات بك
ورفع الأكف إليك فهذا حق لله على السائلين أن يفعلوه لقوله ادعوني، فقد [112] أمر بالدعاء فصار حقاً له، فالإضافة في حق السائلين إضافة إلى المفعول؛ أي: بحقك على السائلين، ثم حذف حرف الجر بعد حذف فاعل المصدر وأضيف إلى مفعوله وهذا الأخير أقوى. فإن قلتَ: قد أخرج الطبراني في المعجم الصغير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي [كلاهما] 1 في الدلائل وابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعتُ رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوبٌ لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أن ليس أحدٌ أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله: يا آدم إنَّه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك" 2. قلتُ: بعد صحة الحديث فيختص هذا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده، ولكني لا أدري كيف صحته، ولعله الذي توقف فيه ابن
عبد السلام لعدم معرفته بصحته، ويحتمل أنَّ الذي توقف فيه حديث صلاة الحاجة فإنَّ فيه يا محمد أتشفَّعُ بك إلى الله الحديث وفيه مقال1، كما في الحديث الذي أخرجه ابن النجار من حديث ابن عباس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه؟ سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين2 انتهى. والحاصل أنَّ سؤال الله بحق غيره عليه أمرٌ عظيمٌ لا يؤخذ فيه إلا بأحاديث صحيحة؛ لأنَّه خطابٌ للرب عز وجل وإثباتٌ لحق المخلوقين عليه وكيف يجزم به القائل والله تعالى أمر عباده أن يدعوه بأسمائه الحسنى، فقال {وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 3 وقد ثبتت الأحاديث وصحت أنَّه لا يجوز الحلف إلا بالله، وأنَّ من حلف بغيره فقد أشرك4، وذلك لما فيه من تعظيم المخلوق به، فالاستغاثة والإقسام على الله بحقه إذا لم يكن أعظم من الحلف به كان مثله في أنَّه شرك، وقد وسعنا الكلام في هذا في رسالتنا "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد".
قوله: "في جواب ابن الشِّحنة1 وينبغي الدعاء عندها". أقول: هذا بدعة قطعاً فالزيارة النبوية التي كان يفعلها صلى الله عليه وآله وسلم عند زيارة الصالحين كعمه حمزة وسائر الشهداء وغيرهم أن يقولوا "السلام عليكم دار قوم مؤمنين ورحمة الله وبركاته" وفي بعضها "نسأل الله لنا ولكم العافية"2، فالدعاء بطلب الحاجات عند قبر الميت كلام في غير محل السؤال، فإنَّ محله التوسل وهذا شيء آخر هو أن محل قبره3 مما يستجاب فيه الدعاء. والحاصل أنَّ زيارة الأموات التي شرعها الله لعباده تكون بثلاثة أمور: الأول: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ كما أفاده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "زوروا القبور فإنَّها تذكر بالآخرة" 4. والثاني: الإحسان إلى الميت كما يحسن إلى الحي بزيارته فإنَّه إذا زاره وأهدى إليه هدية من صدقة أو دعاء واستغفار سر به وفرح، ولذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يسلم عليهم ويدعو لهم بالعافية والرحمة كما يسر الحي ويفرح به إذا زاره وأهدى إليه هدية.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والمتابعة له صلى الله عليه وآله وسلم فيما فعله واقتداؤه به فيما قاله فهذه الزيارة النبوية بلا زيادة. وأما طواف الزائر بقبر الميت وتقبيلُه الأركان وسؤالُ الحاجات منه وعنده فهي عبادة المشركين لأصنامهم كما قررناه في تلك الرسالة. قوله: "وقد اشتهر عند أهل بغداد: إجابة الدعاء عند قبر الشيخ معروف الكرخي"1. أقول: قال بعض المحققين: إنَّ العبد إذا وقف [613] على قبر من يستعظمه حصل له رقةٌ وخشوعٌ وإقبالُ قلبٍ وإخلاصٌ في الدعاء فقد يجاب فيظن أنَّه ببركة صاحب القبر2، والمعلوم أنَّ صاحب القبر طالبٌ من الزائر أن يدعو له ويستغفر له فهو في برزخٍ قد انقطع عن الأعمال. يفرح بما يهدى إليه من الأحياء، لا أنَّه بصدد قضاء حاجات الأحياء. وعلى الجملة هب أنَّ الدعاء عند قبور الأولياء مندوبٌ كما قال: "ينبغي"، فالندب حكمٌ لا بدَّ له من دليل ثم هذا غيرُ محل السؤال قطعاً3. قوله: "وقد توسل عمر بالعباس". أقول: هذا غير محل السؤال فإنَّ عمر إنَّما جعل العباس إماماً يدعو لهم ويستسقي ويسأل الله4؛ لاعتقاد عمر أنَّه مجاب الدعوة لقرابته من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا أنَّه توسل به كما يتوسل القبوريون بالأموات، ولا قال عمر: أسألك بحق العباس؛ بل هو مثل طلب الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقي لهم، فهذا غير محل النزاع. قوله: "لأنَّ الطلب إنَّما هو من الله". أقول: هذا هو الحق لكن التوسل إليه بالمخلوقين شيء لم يأذن الله لعباده به فهو بدعة، وهو تهجم على الجناب العلي بمالم يأت به شرع؛ بل هو طريقة عُبَّاد الأوثان القائلين إنَّهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، والذي أمر الله به عباده في كتابه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصك بالاستعانة فلا نستعين إلا بك كما عرف في علم البيان أن تقديم المفعول هنا أفاد الاختصاص1 سيما وقد قدم قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: نخصك بالعبادة فكما أنَّه مختصٌ بالعبادة لا يُعْبَدُ سواه بالاتفاق، فهو مختصٌ بأنْ لا يستعان بغيره، والتوسل بالمخلوقين استعانةٌ بهم، ثم إنَّه تعالى يقول {مَن ذَا الذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 2 ويقول: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 3 فمن أين للمتوسل بالمخلوقين أنَّ الله تعالى قد أذن لهم بالشفاعة للسائل في قضاء حاجاته؟ ثم قد قرر آنفاً هذا المجيبُ أنَّ لهؤلاء الأولياء أن يقول للشيء كن فيكون. فأيُّ حاجةٍ إلى التوسل بهم؟ بل منهم تُطلب الحاجات وتسأل الحياة والممات، وقد صيرهم آلهة يفعلون ما
يريدون وتنقاد لهم الأكوان وما فيها كما يشاؤن، وربنا جل جلاله يقول لأشرف مخلوقاته: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَاشَآءَ اللهُ} 1 ويقول له أنْ يقول: {قُلْ لاَأَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَأَقُولُ لَكُمْ 2 إِنِّي مَلَكٌ} 3، وهؤلاء الجهلة قالوا: الولي يقول للشيء كن فيكون فزاد على رتبة الملائكة ورتبة الأنبياء وصاروا أرباباً؛ بل جعلوا الملائكة الأربعة أبعاضاً للقطب كما أسلفنا الإشارة إليه4. واعلم أنَّ التوسل بالمخلوقين إلى رب العالمين هي طريقة الصابئة أحد الفرق الست التي عدهم الله في سورة الحج حيث قال: {إِنَّ الذِينَءَامَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالذِينَ أَشْرَكُوا} 5 وذكرهم الله في آيات تضمهم إلى أهل الكتاب كما حققه الأئمة من أهل الملل والنحل كعبد الكريم الشهرستاني6 وغيره.
والمعروف كتاباً وسنة أن نسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وهذا هو أحد التأويلين في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِهَا} 1 مثل الدعاء المأثور الصحيح أنَّه قال: "ما أصاب عبداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وشفاء صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله تعالى همه وغمه، وأبدل مكانه فرحاً" 2 وهذا أحد ثلاثة أنواع شرعت في [614] الدعاء. الثاني: أن تدعوه متوسلاً بفقرك وحاجتك نحو أن تقول: أنا العبد الفقير الخائف المستجير، ومنه قول أبي البشر {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَّنَ مِنَ الْخَاسِرينَ} 3 فتوسل بظلمه4 أن جعله عنوان سؤاله، ومثله الدعاء الذي علمه صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر
وقد سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته، فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ... " 1 الحديث صحيح. والثالث: أن تدعو الله طالباً لحاجتك غير متوسل باسم من أسمائه2، ولا بحاجتك وفقرك، وأما التوسل بالمخلوقين في الأدعية فهو بدعة وكلُّ بدعة ضلالة ولا يقبل لصاحب بدعة صرفاً ولا عدلاً. قوله: "أوعمارة مشهده". أقول: هذا هو مسئلة النذر على القبور وقد أشبعنا الكلام عليه في رسالتنا "تطهير الاعتقاد" وَأَبَنَّا أن الواجب هدم مايعمرونه في القبور ويسمونه مشهداً عملاً بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي "عليه السلام" حين بعثه إلى اليمن أن لايدع قبراً مشرفاً إلا هدمه وسواه بالأرض والحديث أخرجه مسلم3. قوله: "وقال العلامة ابن حجر: الحق أنَّ أهل السنة والجماعة من الفقهاء والمحدثين والأصوليين.. إلى آخر كلامه". أقول: فيه أولاً أبحاث: الأول: أنَّ أهل السنة هم الذين كانوا على طريقة المصطفى وأصحابه الذين لم يبتدعوا بدعة في الدين ولا خالفوا طريق سيد المرسلين وهؤلاء الذين أرادهم ابن حجر من أهل الابتداع لمسائل الكلام وغيرها وأعظمها بدعة عبادة القبور والتسريج عليها والنذور، فإن قلنا إنَّ البدعة
لا تضرهم في تسميتهم أهل السنة فإنَّها لا تضر المعتزلة وأشباههم؛ بل والخوارج لأنَّ لكلٍّ نسبةً في الجملة إلى السنة. الثاني: اشترط في الأولياء السلامة من الهفوات والزلل، فإنَّه شرط لم يأت به المجيب في أول كلامه ولا يقوله أحدٌ فإنَّ بني آدم كلَّهم خطاؤن كما في الحديث: "وخيرُ الخطائين التوابون" 1. الثالث: ذكر أنَّه يخرج الولي من قبره ويقضي حوائج الناس، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمعلوم من الضرورة الدينية أنَّ من واراه القبر لا يخرج منه إلا في المحشر. قال الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَّةً أُخْرَى} 2 ولم يقل تارات أخر. وقال تعالى {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} 3 قال الله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قبَلْهُم مِن الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} 4 وأما الأحاديث النبوية فإنَّها متواترة أن من أدخل قبره لا يخرج منه إلا عند النفخة الثانية في الصور وقد سردها السيوطي في شفاء الصدور في أحوال الموتى والقبور5، وقد ذكرنا من ذلك عدة أحاديث صحيحة في كتابنا "جمع الشتيت"6
وبالجملة فالقول بخروج الميت من قبره وبروزه بشخصه لقضاء أغراض الأحياء قول مخالف للعقل والنقل، وهو غير محل النزاع، فإنَّ النزاع إنَّما هو في حصول الكرامة للميت لا في خروجه من قبره. الرابع: قوله: "إنَّ الخضر كان يحضر مجلس فقه أبي حنيفة يتعلم علم الشريعة". أقول: أولاً إنَّ أئمة العلم من المحققين قائلون بعدم حياة الخضر ولم يأت حديثٌ صحيحٌ أنَّه حيٌ، ولا أتى حديث صحيح1 أنَّه لقي نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم. قال الحافظ ابن حجر: الذي جزم به البخاري وإبراهيم الحربي وابن العربي وطائفةٌ عدَّهم من الأئمة أنَّه قد مات، وذكر أدلة القائلين بحياته والقائلين بوفاته وأطال في ذلك وقوى وفاته2، والجواب لا يتسع لها. هذا الجواب، ثم سلمنا أنَّه حي3، أما كان له في التعلم للشريعة المحمدية من الآتي بها محمد بن عبد الله في حياته كفايةٌ يأخذ عنه كما أخذ عنه الصحابة، ثم هلا أخذها عن الصحابة من بعده [615] صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تأخر أخذه لها إلى عصر أبي حنيفة وصبر على الجهل بها هذه المدة الطويلة، ثم ماذا كان يأخذ منه؟ هل علم درايته وفروعه التي قاسها، أم علم روايته؟
الأول لا يحتاج إليه إلا من يقلد أبا حنيفة، وللفرض1 أنَّ الخضر نبي لا يجوز له التقليد، وإن كان الثاني فأبو حنيفة ليس من المكثرين في علم الرواية. والعجب من هزوّهم بالأنبياء ونيلهم من قصور همة الخضر كيف لم يأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم الشريعة ولا عن علي2 ولا عن أحد من الصحابة، وكأنَّه أخذ عن أبي حنيفة فروعه الفقهية طمعاً في أن يتولى القضاء في بلاد الحنفية ولعله أدرك فتاوى القاضي خان3 وغيره من حنفية الزمان فإن لم يكن هذا القول من أقوال أهل الجنون وإلا فلا جنون في الأكوان، وأعجب من هذا قول السيوطي: "أنَّ من كرامة الولي أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجتمع به في اليقظة ويأخذ عنه ما قسم من مذاهب ومعارف". قال: "وممن نص على ذلك من أئمة الشافعية الغزالي والسبكي واليافعي، ومن المالكية القرطبي وابن أبي حمزة وابن الحاج في المدخل". قال: "وحكي عن بعض الأولياء أنَّه حضر مجلس فقيه فروى ذلك الفقيه حديثاً، فقال له الولي: هذا الحديث باطل. فقال له الفقيه: من أين لك هذا؟ قال: هذا النبي واقفٌ على رأسك يقول: إنِّي لم أقل هذا الحديث. وكُشف للفقيه فرآه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: لو
حجب عني النبي صلى الله عليه وآله وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين"1. وهذا استدل به السيوطي على أنَّ عيسى بن مريم إذا نزل من السماء آخر الزمان فإنَّه يأخذ علم شريعة النبي محمد عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبره2. وأما الخضر فقالوا: أخذ عن أبي حنيفة خمسة عشر سنة بعد موته، وفيه دلالة على بلادة الخضر عندهم وقلة فهمه حيث بقي هذه المدة يأخذ العلم. والحاصل: أنَّ هذا كلام لا تجري به أقلام من لهم عقول فضلاً عمن يعرف أثارة3 من علم معقول أو منقول، وقد ثبت أنَّ أبا بكر الصديق وعمر الفاروق كانا يتمنيان لو سألا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسائل من علم الدين، وهذا أبو بكر يقول للجدة لما جاءت تطلب ميراثها من ابن ابنها أو ابن بنتها. ما أجد لك في الكتاب شيئاً ولا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً وسأسأل الناس العشية، فلما صلى الظهر أقبل على الناس فقال: إنَّ الجدة أتتني تسألني ميراثها. إلى أن
قال: فهل سمع أحدٌ منكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقضي لها بالسدس فقال: هل سمع ذلك معك أحد فقام محمد بن سلمة فقال: كقول المغيرة1. ومثله قصة عمر في الاستئذان2 ورجوعه إلى أمير المؤمنين علي "عليه السلام" في عدة وقائع3، وكم من مسائل اجتهد فيها الصحابة وهم في الحجرة النبوية وفي المدينة الطيبة. فكيف ساغ لهم الاجتهاد مع إمكان وجود النص وأخذه عن لسان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. وكم وكم من قضايا حار فيها الصحابة فرجعوا إلى الرأي وبعضهم كان لا يعلم الحديث في القضية التي حار فيها حتى يرويها له بعض الصحابة، ولا حاجة إلى التطويل لذلك. فيا عجباه لعقول تقبل هذا الهذيان، ومن قوم يعدون أنفسهم من العلماء الأعيان، ثم يصيرون كعبدة الأوثان يعتقدون في القبور والموتى بمالم يأتوا عليه ببرهان، وينسون [616] ما قاله سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم
وعلى آله ما اختلف الملوان حيث يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" 1، ويقول: "خير القرون قرني"2 ثم تأتي هذه الحثالة بهذه الجهالة بعد مضي القرون الفاضلة وذهاب الأمم الفاضلة فيجعلون القبور أوثاناً، وأموالهم لها نذراً وقرباناً، وينبذون وراء ظهورهم سنة وقرآناً، ويأتون بهذه البدع التي تقشعر منها الجلود وبهذه الكذبات على عباد الله التي ضمتهم بطون اللحود؛ كقولهم إنَّ هذا الحنفي قال في مرض موته: إنَّهم يأتون لحاجتهم إلى قبره وإنَّه لا يحجبه عنهم ذراع من تراب فإنْ كان هذا كذباً عليه فقد خاب من افترى، وإن كان قاله فما على المريض حرج، فإنَّه يحصل الهذيان للمرضى، ويأتون من الأقوال والأفعال بما لا يُرضى. ويا عجباه هذا رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم القيامة وهو على حوضه ورأى جماعة من أصحابه يذادون عن الحوض فيقول: "أصحابي! أصحابي! فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيقول سحقاً سحقاً. لمن بدل بعدي" 3، فلم يعرف صلى الله عليه وآله وسلم تبديل من بدل إلا يوم القيامة وهؤلاء يقولون: لا يحجب الولي عن أصحابه ذراع من تراب؛ بل يعلم بأصحابه ويقضي
حوائجهم. وأحاديث أنَّه يذاد عن الحوض أقوامٌ من أصحابه صحيحةٌ متواترةٌ. قوله: "وأما تقبيل توابيت الأولياء وأعتابهم فلا خلاف في جوازه ولا كراهة". أقول: التقبيل للجمادات لم يثبت إلا في تقبيل الحجر الأسود، كما أخرجه النسائي من حديث عمر. عن ابن عباس قال: رأيت عمر قبل الحجر ثلاثاً ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك ما قبلتك1. قال الطبري: "إنَّما قال عمر ذلك لأنَّ النَّاس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال أن تقبيل الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد أن يبين لهم أنَّ ما فعله اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا لأنَّ الحجر يضر أو ينفع2"3. انتهى.
فهذا الذي ورد في تقبيل الجماد ولا يقاس على الحجر الأسود غيرها1؛ لأنَّها اختصت بخصائص ليست لشيء من الجمادات؛ ولأنَّ تقبيلها لحكمة تختص بها فإنَّه أخرج الحاكم من حديث أبي سعيد أنَّ عمر لما قال هذا قال له عليُّ بن أبي طالب: إنَّه يضر وينفع، وذكر أنَّ الله لما أخذ الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر الأسود. قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسانٌ ذلقٌ يشهد لمن استلمه بالتوحيد" 2. انتهى. فهذه خاصة بالحجر الأسود ولا يلحق بها غيرها؛ إذ من شرط القياس الاشتراك في العلة اتفاقاً، وبهذا يعلم بطلان ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري من أنَّه استنبط بعضهم من تقبيل الحجر الأسود تقبيلَ كلِّ من يستحق التعظيم3 فإنَّه استنباطٌ باطلٌ، ولو سلمنا صحته فقد عارضه مفسدةٌ عظيمةٌ وهي أنَّ تقبيل القبور والأخشاب التي تنحت عليها ويقال لها التوابيت هو بعينه التي كانت تفعله عباد الأوثان لأوثانهم وهي من جملة عبادتها4، إذ كلُّ تعظيم فهو من العبادة، وتعظيم جماد لا يضر ولا ينفع منهي عنه؛ لأنَّ التعظيم من خاصية المعبود بحق فلا تعظيم إلا له تعالى بالعبادة بكلِّ جارحة من الجوارح ومن أذن لنا بأنْ نعظِّمه [617] من الأحياء من الأنبياء والمرسلين والعلماء العاملين ونحو ذلك.
وأما قوله: "إنَّه أفتى بجواز ذلك الرملي". فمجرد فتواه لا يحق باطلاً ولا يحلل محرماً ولا يحرم حلالاً حتى يأتي بالدليل وعليه يدور القال والقيل. والعجب قوله آخراً: "وهذا كلُّه ظاهرٌ غنيٌ عن طلب دليل" كأنَّه جعله من ضروريات الدين. نعم هو من ضروريات الدين دين الجاهلين عُبَّاد القبور المغفلين الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، بل التحقيق أنَّهم ما عرفوا ظاهر الحياة حيث قَبَّلوا بالأفواه وعفَّروا الجباه لمن لا ينفعهم شيئاً ولا يضرهم، أفٍ لهم ولما يعبدون، فإنَّ من عرف الظاهر من الدنيا يحرص على أن لا يبذل مقالاً ولا مالاً ولا قُبلةً ولا استلاماً إلا إذا كان لأمر يعود عليه نفعه في دينه أو دنياه، ولقد عقل هذا المشركون عُبَّاد الأصنام لما قال لهم الخليل: {مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَاءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} 1 فانظر كيف أجابوا بأنَّها لا تسمع ولا تضر ولا تنفع، بل أثبتوا عبادتها لأنَّهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون، فلقد عقل المشركون2 مالا يعقله الجاهلون من هذه الأمة فإنَّ هؤلاء الجهلة قالوا بنفع هؤلاء الأموات وتقبيل القبور لما فيها من العظام النخرة الرفات وهذا ليس وراءه ضلال، وليس لإبليس بعده في الغواية مجال، إذ ابتدع هؤلاء
القبوريون هذه الابتداعات من العمارة على القبور وإضاعة الأموال في رصِّ الأحجار عليها والصخور وتسميتها بالقباب والمشاهد وإقرار عين إبليس بهذه البدع التي هي للشريعة أعظم مضادة، ثم جعل عليه التابوت وكسوته بنفيس الثياب، وهذا هو والله بعينه الذي كانت تصنعه عُبَّاد الأوثان والكلاب ثم الكتب عليه وإيقاد الشموع والقنديل والمصباح وهذا هو الذي لعن المصطفى فاعله في الأحاديث الصحاح. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: "أصل تعظيم القبور مأخوذ من عُبَّاد الأصنام فإنَّهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب من الله تعالى ومزية لا تزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف1 بواسطتها؛ كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فحق الزيارة2 أن يتوجه الزائر بروحه وبقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كلَّه وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلَّما كان جَمْعُ الهمةِ والقلب عليه كان أعظمَ لانتفاعه به3، وذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرُهما، وصرح بها عُبَّاد الكواكب في عبادتها، قالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العُلوية فاض عليها منها النور،
وبهذا السر عُبِدت الكواكبُ، واتُّخِذت لها الهياكلُ، وصُنعت1 لها الدعواتُ، واتخذت الأصنام المتخذة2 لها وهذا بعينه هو الذي أوجب لعُبَّاد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهذا هو الذي قصد صلى الله عليه وآله وسلم إبطاله بالكلية، وسدَّ الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه وناقضوه من قصده، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شقٍّ [618] وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور هي الشفاعة التي ظنوا أنَّ آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله [قالوا: فإنَّ العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرَّب عند الله] 3 وتوجه بهمته إليه وعكف قلبه عليه صار بينهم وبينه اتصال يفيض به عليه [منه] نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوةٍ وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما حصل لذلك من السلطان من الإفضال والإنعام فإنَّه ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه. فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح أموالهم ودماءهم وسبى ذراريهم وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملؤ من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 فأخبر أنَّ الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده، والشفاعة له، والذي يشفع إنَّما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده وهذا ضدّ الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم وهي التي أبطلها سبحانه وتعالى في كتابه بقوله {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} 2 وقوله: {مِن قَبْلِ أَن يَّأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} 3 وقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الذِينَ يَخَافُونَ أَن يُّحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 4 وقال تعالى: {الله الذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَالَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَّلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} 5 فأخبر سبحانه أنَّه ليس للعباد شفيع من دونه؛ بل إذا أراد تعالى رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} 6 وقال تعالى: {مَن ذَا الذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 7 فالشفاعة بإذنه ليست شفاعته من
دونه، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، والشفاعة التي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول: اشفع في فلان إذا كان المشفوع له ممن ارتضاه سبحانه لقوله {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 1 وقال {يَوْمَئذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 2 فأخبر تعالى أنَّها لا تحصل يؤمئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع فيه، وسر هذا كلِّه أنَّ الأمر كلَّه بيده وحده فليس لأحد معه من الأمر شئ، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيدٌ لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه وأمره. وأما قياس رب العالمين على الكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصه وأوليائه من يشفع عنده في الحوائج فهذا قياسٌ فاسدٌ والفرق بينهما هو الفرق بين الخلق والخالق والرب والعبد والمالك والمملوك والغني والفقير والذي لا حاجة له إلى أحد قط، والمحتاج من كلِّ وجه إلى غيره"3، فأيُّ قياس أبطل في الوجود من هذا القياس مع مخالفته للنصوص القرآنية والسنة الإلهية والطريقة الإيمانية.
وقد انتهى ما أردت بطلانه لوجوب ذلك عليَّ، ووجوب بيانه، حذراً من اغترار الجهال بهذه الضلالات من الأقوال؛ لعموم الجهال وعدم العلماء العاملين الناصحين للأمة بالأقوال والأفعال وحسبنا الله ونعم والوكيل، عليه لا على غيره الاتكال وصلى الله على سيدنا محمد وآله خير آل. انتهت الرسالة الجليلة والحمد لله كثيراً، فرغت من نقلها يوم الأربعاء من بواقي ربيع الأول عام 12991.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة: للشيخ حمود التويجري، طبع مطابع الرياض، الأولى 1394?. إجابة السائل شرح بغية الأمل: للصنعاني، تحقيق حسين السياغي، والدكتور حسن الأهدل، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة الجيل الجديد، صنعاء، الأولى 1406?. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لعلاء الدين علي بن بلبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الأولى 1408?. أخبار أصفهان: لأبي نعيم، طبعة مطبعة بريل، ليدن. الأدب المفرد: للبخاري، عالم الكتب، بيروت، الأولى 1404?. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1399?. الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر، دار إحياء التراث العربي، بيروت. إغاثة اللهفان: لابن القيم، تحقيق محمد الكيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. الاقتباس لمعرفة الحق من أنواع القياس: للصنعاني، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، الأولى 1416?. الأولياء: لابن أبي الدنيا، تحقيق مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن، القاهرة.
إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: لإسماعيل باشا، الفيصلية، مكة. إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة: للصنعاني، تحقيق عبد الله شاكر محمد الجنيدي، رسالة علمية مقدمة في الجامعة الإسلامية لنيل درجة الدكتورا?. البحر المحيط: للزركشي، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، الثانية 1413?. البداية والنهاية: لابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، الثانية 1397?. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: للشوكاني، مطبعة السعادة، القاهرة، الأولى 1348?. تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين: لسليمان بن سحمان، طبعة دار العاصمة، الرياض، الثانية 1410?. تذكرة الموضوعات: لمحمد بن طاهر الهندي الفتني، نشر أمين دمج، بيروت. تفسير البيضاوي المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل: دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1408?. تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، طبعة الشعب، القاهرة. تقريب التهذيب: للحافظ ابن حجر، تحقيق أبي الأشبال صغير أحمد شاغف، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1416?. التوقيف على مهمات التعاريف: للمناوي، تحقيق الدكتور عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب، القاهرة، الأولى 1410.
تيسير العزيز الحميد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1397?. ثمرات النظر في علم الأثر: للصنعاني، تحقيق رائد بن صبري بن أبي علفة، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1417?. جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لابن جرير الطبري، دار الفكر 1405?. جامع العلوم والحكم: لابن رجب، دار المعرفة، بيروت. الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1408?. جمع الجوامع: لابن السبكي مع شرحه للمحلي، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الثانية 1356?. جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت: للصنعاني، مطبعة القادر، كراتشي، الثانية 1398?. جمع جهود الحفاظ النقلة بتواتر روايات زيادة العمر بالبر والصلة: للطفي بن محمد بن يوسف الصغير، أضواء السلف، الرياض، الأولى 1418?. حصول الرفق في أصول الرزق: للسيوطي، تحقيق أبي الفضل الحويني دار الصحابة للتراث، الأولى 1410?. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم، دار الكتاب العربي، بيروت، الثانية 1387?. حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم: للبيهقي، تحقيق الدكتور أحمد عطية الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة، الأولى 1414.
الدر المصون في علوم الكتاب المكنون: للسمين الحلبي، تحقيق د. أحمد الخراط، دار القلم، دمشق، الأولى 1406?. درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الأولى 1399?. دفاع عن الحديث النبوي والسيرة: للألباني، مؤسسة الخافقين، دمشق. دلائل النبوة: للبيهقي، تحقيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1405?. ديوان الأمير الصنعاني: مطبعة المدني، القاهرة، الأولى 1384?. الرسائل التسع: للسيوطي، دار إحياء العلوم، بيروت، الأولى 1405?. الرسالة التبوكية: لابن القيم، تحقيق طارق السعود، مكتبة المنار ودار الهجرة، الثالثة 1405?. الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، دار الكتاب العربي، بيروت. رصف المباني في شرح حروف المعاني: لأحمد المالقي، تحقيق د. أحمد الخراط، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. الروح: لابن القيم، دار الكتاب العربي، الثالثة 1408?. الزهد: للإمام أحمد، تحقيق محمد زغلول، دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى 1406?. الزهد: لهنَّاد بن السري، تحقيق عبد الرحمن الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، الأولى 1406?.
زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه: لعبد الرزاق البدر، دار القلم والكتاب، الرياض، الأولى. سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1403?. سلسلة الأحاديث الضعيفة: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الرابعة 1398?. السنة: لابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية 1405?. سنن أبي داود: تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية. سنن ابن ماجه: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. سنن الترمذي: تحقيق أحمد شاكر وآخرين، دار إحياء التراث العربي. سنن الدارمي: تحقيق عبد الله هاشم يماني، شركة الطباعة الفنية المتحدة، 1386?. السنن الكبرى: للبيهقي، درا المعرفة، بيروت. سنن النسائي بشرح السيوطي: دار إحياء الكتاب العربي، بيروت، الأولى 1348?. سير أعلام النبلاء: للذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1401?. شذرات الذهب: لابن العماد، دار المسيرة، بيروت، الثانية 1399?.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق د. أحمد سعد حمدان الغامدي، دار طيبة للنشر، الرياض. شرح السنة: للبغوي، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1390?. شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور: للسيوطي، مطابع الرشيد، المدينة، 1403?. شرح العقيدة الأصفهانية: لابن تيمية، تحقيق حسنين محمد مخلوف، دار الكتب الحديثة، القاهرة. شرح العقيدة الطحاوية: تحقيق د. عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الثانية 1413?. شرح الكوب المنير: لابن النجار، تحقيق الدكتور محمد الزحيلي والدكتور نزيه حماد، نشر مركز البحث العلمي بجامعة أمّ القرى. شرح صحيح مسلم: للنووي، المطبعة المصرية، القاهرة. صحيح سنن النسائي: للألباني، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الأولى 1409?. صحيح مسلم: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار: للدكتور أحمد محمد العليمي، دار الأمة، دبي ودار الكتب العلمية بيروت، الأولى 1408?. صيد الخاطر: لابن الجوزي، المكتبة العلمية، بيروت. ضعيف سنن النسائي: للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1411?.
طبقات الشافعية: للأسنوي، تحقيق عبد الله الجبوري، مطبعة الإرشاد، بغداد 1390?. الطبقات الكبرى: لابن سعد، دار صادر، بيروت. عمل اليوم والليلة: لابن السني، تحقيق بشير عيون، مكتبة دار البيان، دمشق، الأولى 1407?. عنوان المجد في تاريخ نجد: لعثمان بن بشر، مكتبة الرياض الحديثة. الفتاوى الكبرى الفقهية: لابن حجر الهيتمي، نشر المكتبة الإسلامية، ديار بكر، تركيا. فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لابن حجر، دار المعرفة، بيروت. الفردوس بمأثور الخطاب: للديلمي، دار الباز، مكة، الأولى 1406?. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لابن تيمية، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى، طبعة دار طويق للنشر والتوزيع، الأولى 1414?. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: للشوكاني، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، الأولى 1380?. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: لابن تيمية، تحقيق الدكتور ربيع بن هادي مدخلي، مكتبة لينة، الأولى 1409?. القاموس المحيط: للفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1407?.
قصد السبيل إلى توحيد الحق الوكيل: نسخة مصورة في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (590فلم) . اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: للسيوطي، دار المعرفة، بيروت، الثانية 1395?. لوامع الأنوار البهية: للسفاريني، مطبعة المدني، القاهرة. المجروحين: لابن حبان، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب، الأولى 1306?. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الثالثة 1402?. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط. مجموع مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. مختصر الفتاوى المصرية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، اختصار أبي عبد للَّه محمد بن علي البعلي، دار نشر الكتب الإسلامية، لاهور. مدارج السالكين: لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت 1392?. المستدرك على الصحيحين: للحافظ أبي عبد الله الحاكم، دار المعرفة، بيروت. المسند: للإمام أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت، الخامسة 1405?. المسند: للإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف، مصر 1373?.
مسند أبي يعلى الموصلي: تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، بيروت، الثانية 1410?. مسند الطيالسي: دار المعرفة، بيروت. مشكاة المصابيح: للخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1405?. المصنف: للإمام عبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية 1403?. المعجم الصغير: للطبراني، تحقيق محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، بيروت، ودار عمار بعمان، الأولى 1405?. المعجم الكبير: للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، الدار العربية للطباعة، بغداد. معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت. المعجم الوسيط: لعدد من المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، الثانية. المغني في الضعفاء: للذهبي، نشر إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر. مفتاح دار السعادة: لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت. الملل والنحل: للشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت 1404?. المنار المنيف في الصحيح والضعيف: لابن القيم، تحقيق عبد الفتاح أبي غدة، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية، الثانية 1403?. المنتخب من مسند عبد بن حميد: للحافظ أبي محمد عبد بن حميد، تحقيق صحبي السامرائي ومحمود الصعيدي، عالم الكتب، بيروت، الأولى 1408?.
الموضوعات: لابن الجوزي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة، الأولى 1386?. النبوات: لابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت 1402?. نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: لابن حجر، المكتبة العلمية. نزول عيسى ابن مريم آخر الزمان: للسيوطي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1405?. النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، دار الباز، مكة. نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول: للحكيم الترمذي، دار صادر، بيروت.