الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها

ناصر العقل

[1]

الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [1] للعقل مكانته العظيمة في الإسلام، فهو مناط التكليف، وهو الوسيلة العظيمة لفهم نصوص الوحي، غير أن تلك المكانة لا ترفعه إلى مقام الحاكم على النصوص الشرعية وتحمله ما لا يطيق مما يعجز عن إدراكه، ولذا كانت الحيدة به عن هذا المنهج سلوكاً لطريق الضُلّال في اعتبار العقل من الفلاسفة والمتكلمين والعقلانيين الذين كثر لغطهم في القديم وتعددت مدارسهم في الحاضر، ومع ذلك فلهم قواسم مشتركة في مناهجهم وطرقهم المنحرفة.

مكانة العقل عند الفلاسفة

مكانة العقل عند الفلاسفة مشاهدينا الكرام! أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج (حراسة العقيدة). إن مسألة العقل أخذت حيزاً كبيراً عند فريق المبتدعة؛ حتى إنهم وصفوا أهل السنة أهل الحق بأنهم لا يعقلون، وليس لهم عقول يعملونها. فمن هذا المنطلق نودُّ أن نتعرف على مكانة العقل في الإسلام، ومكانه عند أهل السنة أهل الحق. الشيخ: نشأت معضلة العقل عن أفكار الفلاسفة الإلهيين الذين انطلقوا في الكلام في الغيبيات على غير أسس الوحي السليمة، وهؤلاء غالباً هم خصوم الأنبياء، نقصد الفلاسفة الذين تكلموا في الغيبيات، وليس كل الفلاسفة. فهؤلاء الفلاسفة لما رأوا هذا الكون العجيب، ورأوا بديع صنع الله عز وجل وآياته الظاهرة، وهم لم يؤمنوا بحقيقة وجود الرب عز وجل كما جاء بها الأنبياء؛ صاروا يعملون خيالاتهم وأوهامهم في البحث عن مصادر قوة هذا الكون ونظام هذا الكون وحركة هذا الكون؛ فتوهموا أن هناك عقولاً تدبر الكون. المقدم: لذلك أطلقوا مصطلح العقل الفعال. الشيخ: نعم، فمن هنا توهموا أن هذا العقل له أثر في الإنسان، وانطلقوا من هذا المنطلق، ثم تأثرت بهم مدارس واتجاهات في الأمم الأخرى وفي الأمة الإسلامية التي ضل بعض طوائفها عن طريق الحق، وأخذوا بمسالك الفلاسفة، فهؤلاء كلهم تأثروا بهذا المسلك، وظنوا أن العقل كيان مستقل؛ ولذلك عظموه وقدسوه بأكثر مما يستحق.

مكانة العقل عند أهل السنة

مكانة العقل عند أهل السنة وأما أهل السنة أهل الحق يعرفون للعقل قدره؛ فهو مناط التكليف، وهو أعظم وسيلة منحها الله الإنسان لفقه شرع الله، ومعرفة الواجبات المجملة، أعني الواجبات التي تتعلق بحق الله عز وجل، وواجبات الإنسان في هذا الكون على ضوء شرع الله، فهذا العقل له مكانته وله قدره، وهو الوسيلة لأئمة الدين لفهم شرع الله، وتطبيقه في الحياة. إذاً: مكانته عندهم لا شك في أنها عالية، ولكن لا يعطونه أكثر من قدره. المقدم: هذا رد على الفلاسفة وأهل الكلام؟ الشيخ: أي نعم، ولا يجعلون العقل يعيش في متاهات لا طاقة له بها؛ إذ العقل لا يعرف تفاصيل الغيب، ولا يدرك أسرار القدر، فمن هنا أعطوا العقل كرامته، ومن كرامة العقل ألا يقحم فيما لا يطيقه. ومن هنا اتهمهم الخصوم بأنهم ردوا تقريرات العقل حينما لم يقبلوا الأوهام التي تسمى عقليات، ولم يقبلوا التخرصات التي قال الله في أصحابها: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10 - 11]؛ لأنها ليس لها مستند من مصادر الحق. المقدم: كمثل قول ابن سينا: إن العقل فعَّال، وقواه قدسية. ونحو ذلك، فهذه الأقوال من أين استقَوْها؟ وما هو المصدر لهؤلاء الفلاسفة؟ هل هو الفلسفة اليونانية؟ الشيخ: ليس لهم مصدر علمي ولا شرعي، حتى ابن سينا لو أخذناه بمبدئه الذي يدعيه؛ لما وجد أي دليل على ما يقول سوى التبعية للفلاسفة.

الأدلة على مكانة العقل في الإسلام

الأدلة على مكانة العقل في الإسلام المقدم: إذاً: أهل الحق ينظرون إلى العقل باتزان، فلا إفراط ولا تفريط، فهل هناك أدلة في القرآن والسنة تبين مكانة العقل في الإسلام؟ الشيخ: نعم، هناك آيات كثيرة، فالله عز وجل يذكر نعمه، ويذكر آياته التي تدل على وجوده وعلى ضرورة عبادته، ثم يقول: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ))، ولم يقل: ليس لكم عقول، بل قال: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ))، يعني: تتفكرون، وبعض الآيات -أيضاً- نصت على التفكر، وليس بينهما تقارب في المعنى فحسب، بل هناك تطابق بين التفكر والتعقل. ومن ذلك أن الله عز وجل لما ذكر بعض المنن والنعم، قال: ((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))، وقال عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28]. المقدم: وكذلك عاب على الكفار عدم التعقل بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]. الشيخ: نعم، إذاً: الإسلام يدعو إلى التعقل، ويدعو إلى التفكير في معرفة الحق، ومعرفة حقوق الله عز وجل خاصة، ومعرفة وجوه الخير والنفع للإنسان. المقدم: هناك من يقول: إن الدين يحجر على العقل، هل التقيد بالنصوص الشرعية تحجير على العقل؟ الشيخ: الحقيقة أن الدين يكرم العقل غاية التكريم؛ يدل على ذلك ما يأتي: أولاً: أن الله أكرم به الإنسان. ثانياً: أن الله عز وجل جعله مناط التكليف، فكلف الإنسان بأن يفكر، وأن ينظر، وأن يتدبر آيات الله، وأن يعمر الكون على سنن الله. فالله عز وجل لم يأمر بتدبر آياته المقروءة -وهي القرآن ونصوص الوحي- فحسب، بل أمر بتدبر الآيات الكونية كذلك. إذاً: الإسلام لا يحجر على العقل، بل يوظفه وظيفة تكده إلى قيام الساعة، ولكن على أسس تحميه من غوائل التيه، وتحميه من أسر الأوهام، وتحميه من أسر الخرافات، وتحميه أيضاً من أن يتجرأ على الله أو يتجرأ على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. فهؤلاء يسمون هذه الشروط قيوداً، وليست قيوداً، بل هي في الحقيقة تعتبر مناط التكريم للعقل.

ذكر بعض الاتجاهات العقلانية

ذكر بعض الاتجاهات العقلانية المقدم: نودُّ أن نتعرف الآن على هذه الاتجاهات العقلانية، وأبرز الأفكار التي يمكن أن نناقشها في هذا البرنامج. الشيخ: الحقيقة أن الاتجاهات العقلانية في أصولها متشابهة، وهذا الذي جعلنا نتحدث عنها تحت هذا العنوان، أما في مناهجها التفصيلية وفي غاياتها وفي وسائلها فهي مدارس لا تكاد تحصى. ففي عصرنا هذا يمكن أن نقول: هناك اتجاهات تسمى الاتجاهات العقلانية حتى عند أصحابها، وهي جهات فكرية قائمة الآن، سواء تلك التي تنهج نهج المعتزلة والفلاسفة، والتي تنتهج مناهج حديثة لكنها تنزع إلى الاتجاه العقلاني الغربي. وهذه الاتجاهات أيضاً لها أسماء كثيرة جداً، فيدخل فيها كثير ممن يسمون بالعلمانيين وليس كلهم، وكثير ممن يسمون باللبراليين وليس كلهم، وكثير من أصحاب الفكر التغريبي الذين هم تلامذة للتيارات الغربية، وأصحاب الفكر الحداثي، بل الحداثة تعتبر اليوم الرائدة للاتجاه العقلاني. ويدخل في ذلك أصحاب نزعات فردية، وهنا أنبه على أمر مهم جداً، لأننا سنحتاج إلى هذا البيان فيما بعد، ذلك أنه ليس كل من أطلق عليه أنه (علماني) يكون كذلك، أو يعترف بهذا، وكذلك من أطلق عليه أنه لبرالي أو حداثي. فهذه الأوصاف الآن أصبحت أوصافاً فضفاضة، وهي حقيقية، ولكن لا يلزم أن يكون العقلاني علمانياً أو لبرالياً أو حداثياً، بل قد يكون غير هؤلاء، وقد لا يدري ولا يعرف معنى العلمانية واللبرالية، وإنما أردت التركيز على أشهر التيارات: العلمانية، واللبرالية، وأهل الاستغراب أو التغريب، وكذلك الحداثة، والعصرانية. المقدم: والشيوعية تدخل في هذا؟ الشيخ: إذا اعتبرنا المبادئ الغربية البحتة؛ فكل الاتجاهات الحديثة في الغرب عقلانية، ومنها الشيوعية وعكسها. المقدم: الرأسمالية؟ الشيخ: نعم، كلها تقوم على الاتجاه العقلاني؛ لأنهم ليس عندهم مصادر للتدين الحقيقي تضبطهم، حتى الذين يسمون مفكري النصارى، أو مفكري اليهود هم في الحقيقة عقلانيون، وإن تمسكوا ببعض المذاهب الدينية. المقدم: لكن من أي باب دخلت العلمانية واللبرالية في العقلانية؟ الشيخ: من باب أنها تشترك في الأصول التي سأذكرها بعد قليل. وقد ذكرتني بأمر مهم، فأقول للإخوة المشاهدين: من أجل أن تعرفوا وجه ارتباط هذه المذاهب بعضها ببعض أرجو أن تستمعوا جيداً عندما نعرض موضوع مناهج وأصول اتجاهات العقلانية. وينبغي أن نفهم حين نقول: اتجاهات العقلانية أنها كذلك مع أنها مدارس لها أصول مشتركة عامة، سواء في المنهج وفي الوسائل وفي الغايات، لكن عند الممارسة والتوجهات الفردية أو ما أشبه التوجهات الفردية تجد أنها مدارس.

وصف العقلانية لا يفيد أصحابه رفعة

وصف العقلانية لا يفيد أصحابه رفعة المقدم: عندما نقول: العقلانيون ألا يكون ذلك ثناء عليهم؟ الشيخ: لا يلزم، ومثال ذلك من يسمون بالقرآنيين الآن، فقد اشتهروا بالقرآنيين، أليست النسبة إلى القرآن -وهو كلام الله- شرفاً؟ المقدم: بلى. الشيخ: لقد أصبحت الاصطلاحات أحياناً هي التي تحكم المفاهيم، والمصطلح إذا شاع يحكم المفهوم ما لم يعارض الشرع. فالقرآنيون يقصد بهم الآن: الذين يزعمون أنه لا نأخذ الدين إلا من القرآن. المقدم: يتركون السنة؟ الشيخ: يتركون السنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس للنبوة عندهم اعتبار. ومثال ذلك أيضاً من يسمون بالقدرية، أليس الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؟! المقدم: بلى. الشيخ: وعلى هذا فأنا قدري من هذا الوجه، لكن الذين أخطئوا في باب القدر كان كلامهم في القدر كثيراً. المقدم: ونفوا القدر. الشيخ: ونفوا القدر، وصاروا يتكلمون بغير علم في القدر، فسموا قدرية. وهكذا نقول: العقلانيون، لا لأن العقل مذموم، لكن لأنهم اشتهروا بتقديم العقل على الشرع، فجعلوا الشرع هو المحكوم، واستهانوا بدين الله بدعوى الرأي والعقل والفكر.

الحكم على المناهج دون الأشخاص منهج شرعي

الحكم على المناهج دون الأشخاص منهج شرعي المقدم: هل هناك فرق بين أن نقرر مبادئ العلمانية أو مبادئ اللبرالية، وبين إطلاق هذا المصطلح على أشخاص معينين؛ إذ بعض الناس قد يتساهل فيقول: هذا علماني، هذا لبرالي. فهل هذا فيه إشكال؟ الشيخ: أنا أتصور أن فيه إشكالاً كبيراً، فينبغي أن لا نسارع في إطلاق العلمنة على أفراد، فهنا يحكمنا منهج القرآن ومنهج السلف، وهو الكلام عن الأصول البدعية والمناهج البدعية، وعن الأصول الضالة والمناهج الضالة، وأما تطبيقات ذلك فتترك للحاجة إليها التي يقوم بها أهل الاختصاص عند الضرورة. فنحن نحاكم الناس على منهج، بصرف النظر عن تسمية الأشخاص أو أوصافهم، والله عز وجل ذكر لنا المنافقين، وذكر الفسق والفاسقين، والظلم والظالمين، ومع ذلك لم يسوغ لنا -كما هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج الصحابة- أن ننادي من تظهر عليه علامات النفاق بقولنا: يا منافق، ولا بقولنا: يا فاسق، أو: يا فاجر. المقدم: أي نعم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأسمائهم، ولم يسمهم ولم يعينهم. الشيخ: نعم كان يعرفهم، وكان أهل الفجور والفسق موجودين بين المسلمين، وما كان الصحابة ينادون من يظهر منه فجور بقولهم: يا فاجر أو: يا فاسق، إلا عند الضرورة فقط، وهذا أمر يعرفه أهل الاختصاص من أهل العلم.

ذكر بعض معالم المنهج العقلاني

ذكر بعض معالم المنهج العقلاني المقدم: أشرت -يا دكتور ناصر - إلى أن هناك فصولاً عامة ومعالم كبرى للمناهج العقلانية، فنود ذكر بعض هذه المناهج. الشيخ: لعلي أتمكن الآن من سرد أهمها على جهة الإجمال، والتفاصيل تترك إلى حلقات قادمة إن شاء الله تعالى. فالمناهج العامة للعقلانيين تتلخص فيما يأتي:

الخلط في مصادر تلقي الدين

الخلط في مصادر تلقي الدين أولاً: الخلط في مصادر تلقي الدين. فنحن نتلقى الدين من مصادره النقية: الكتاب والسنة، أي: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما هم فلا، وقد يدعون هذه الدعوى، لكن عند التحقيق تجدهم يجعلون للمقررات العقلية ولأفكار البشر وللنظريات وللفلسفات مقاماً كبيراً في الاستمداد يستمدون منها دينهم. فترى بعض كبار المتكلمين القدامى -وهو مشهور- يقول: أنا أستمد من الكتاب والسنة، وفي كتابه يستدل بكلام أرسطو طاليس في ثوابت الدين، لا في أمور علمية نظرية! المقدم: هل يستدلون بالكتاب والسنة للاعتضاد أم للاعتماد؟ الشيخ: يما خالفوا فيه أهل الحق يجعلون الدليل الشرعي فيه دليلاً ثانوياً غالباً، بل قد يردونه، وغالباً تكون استدلالاتهم بالشرع -كما تفضلت- للمساندة، فالدليل الشرعي عندهم مساند، والأصل هو الدليل العقلي الذي هو آراؤهم، فيقررون مقررات في أذهانهم، ثم يحاولون أن يستدلوا لها من الكتاب والسنة، وهذا انحراف. المقدم: ألا يمكن أن نقول -لتوضيح هذه المسألة بمثال تطبيقي-: هناك في المتكلمين من يرى أن هناك صفات عقلية وصفات خبرية، فالصفات العقلية يثبتها والصفات الخبرية ينفيها، مع أن الصفات العقلية والخبرية كلها ورد بها النص؟ الشيخ: نعم، هذا مثال صحيح. فالخلط في مصادر التلقي أول المناهج العامة للعقلانيين. ولهذا يعتمدون على الرأي، ويسمون نتائجه مقررات عقلية أو قواطع عقلية، وهي نتائج مبنية على الفلسفة، وعلى النظريات، وعلى آراء المستشرقين، بل على بعض كتب الأدب وكتب التاريخ أحياناً إلخ.

الخطأ في منهج الاستدلال

الخطأ في منهج الاستدلال ثانياً: الخطأ في منهج الاستدلال. ومن هنا تأتي العقدة الرئيسة عندهم، التي جعلت كثيراً من الناس يغترون بهم، ذلك أنهم يرون أنه إذا كان العقل هو الذي ينظر في الشرع؛ فهو المحكم، وهو الأول، وهو المقدم، فعندما يظهر للإنسان أن الشرع يعارض العقل فالعقل هو المقدم. المقدم: هذا القانون الكلي عند الرازي. الشيخ: أي نعم، هو القانون الكلي عند الفلاسفة، ثم أخذه الرازي وغير الرازي؛ لأنهم اعتبروا دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية نسأل الله السلامة، وهذا خذلان، وأرجو أن نتأمل هذه العبارة، فهذه مقدمات فاسدة؛ والذي لا يتأملها قد يكون ضحية هذه المقدمات. وهذه المقدمة حقها أن تقلب تماماً، فهم يقولون: المقررات العقلية قواطع، أي: قطعيات لا شك فيها، هكذا زعموا. نعم هناك من الأمور العقلية ما هو قاطع، لكن هل تكون المقررات العقلية قواطع فيما غاب عن العقول؟! A لا. وهل تكون المقررات العقلية قواطع والشرع ظنياً، وإذا تعارض القطعي -وهو عقولهم وآراؤهم- مع الظني -وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- قدم القطعي وهو العقل؟! ولذلك نقول لهم: عقل من يتبع؟! عقلي أم عقلك؟! أنا لا أطيعك، فتفكيرك خاص بك، وتفكيري خاص بي. المقدم: بأي تفكير وبأي عقل نسير؟ الشيخ: لأنهم يتوهمون أن هناك عقولاً مجردة. المقدم: كبار الفلاسفة اختلفوا في أمور جوهرية. الشيخ: الفلاسفة هم الخراصون الذين ذمهم الله عز وجل، وحتى لا يكون هناك لبس عند بعض الناس أنبه على أن مصطلح (الفلاسفة) يطلق على العلماء التطبيقيين، الذين يقوم علمهم على الحس والتجربة، وهؤلاء لا نشك في أن مبدأهم صحيح إذا قام على أسس سليمة، ولذا كان الفلاسفة القدامى يجمعون بين الأمرين: يجمعون بين الخوض في الغيبيات والتخرص، وبين التجارب العلمية الحقيقية؛ ولذلك فاقوا في الطب والكيمياء والفيزياء، وكان لهم نظريات نفعت البشرية. كما يطلق المصطلح نفسه على الوجه الآخر المذموم، وهو الخوض في الغيب، فنحن في الجانب التطبيقي لا نعترض على مقررات الفلسفة العلمية التي منها الرياضيات وغيرها، فهذه مقررات ثبت فيها مشاعة بين البشرية ثبتت بالعلم. لكن الجانب المذموم هو استعمال عقولهم وتفكيراتهم في أمور ليس للعقل فيها مدخل، وهي أمور الدين.

المراد بعلم الكلام

المراد بعلم الكلام المقدم: وهذا تفريق جميل بين الفلاسفة القدامى أو العلماء التجريبيين المعاصرين، فما هو الفرق بين الفلسفة وعلم الكلام؟ الشيخ: الحقيقة أن علم الكلام اصطلاح يطلق على آراء العقلانيين من المسلمين، الذين نهجوا منهج الجهمية والمعتزلة فأخذوا شيئاً من الفلسفة وشيئاً من الشرعيات وجعلوا ذلك علماً، فنظراً إلى أن هذا العلم ليس فلسفة خالصة، ولا علماً شرعياً خالصاً، وإنما هو كلام عن الله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته، وفي القدَر والغيبيات بغير علم؛ سمي كلاماً؛ فلا هو وحي، ولا هو فلسفة خالصة، ولذلك لما قيل لهم: لم تدعون ذلك؟ قالوا: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين الفلسفة. فحسبهم كثير من أجيال المسلمين أنهم على الحق.

الرد على اعتبار الطعن في العقل طعنا في النقل

الرد على اعتبار الطعن في العقل طعناً في النقل المقدم: هناك مسألة شائكة عند بعض الناس، وهناك بعض الحوارات في الإنترنت مع هؤلاء وغيرهم، ذلك أنهم يقولون: إن العقل هو الذي دل على النقل، فإذا طعنت في العقل فأنت تطعن في النقل، كما يقول الرازي وغيره. الشيخ: صحيح أن كثيراً من المقررات الشرعية دلل عليها العقل، بل لا نعرف شيئاً من الشرع في العقيدة والشريعة إلا عن طريق التعقل والتفكر الذي هو الاجتهاد، لكن ينبغي أن نفرق بين كون العقل وسيلة وبين كونه غاية، فالعقل ليس غاية، والعقل ليس أصلاً، وإنما هو نعمة من الله عز وجل ووسيلة إلى فهم الشرع وإدراكه، ووسيلة إلى فهم نعم الله عز وجل على خلقه، وإدراك حقه سبحانه وتعالى، وعمارة الكون على ضوء الشرع. إذاً: العقل وسيلة، والوسيلة لا تلغي الغاية، والدليل لا يلغي المدلول. وقد ضرب العلماء لهذا مثلاً فقالوا: لو أن عامياً جاء يسأل عن العالم، وهناك خادم عند هذا العالم، فخرج فوجد هذا العامي، فقال له: أين العالم؟ أنا أريد أن أسأل عن ديني. فجاء بالعامي الذي يسأل عن الشرع إلى العالم، فسأله، فلما سأل العالم أجابه، فقام هذا الخادم واعترض وقال: هذا الرأي أنا أعترض عليه، وليس هذا هو الحكم الشرعي؛ فإن العامي سيرجع بفطرته إلى العالم، بل سيقول له: لماذا جئت بي من الطريق تدلني على العالم ثم الآن تعترض؟! أنت أحمق ليس عندك عقل. إذاً: العقل لا شك في أنه نعمة عظيمة ولكنه وسيلة. المقدم: وإن اعترض الخادم وقال: أنا دللتك على العالم، فطعنك فِيَّ طعن في العالم، هذا كما يقوله أولئك الفلاسفة؟ الشيخ: هذا تلبيس. المقدم: مردود أصلاً. الشيخ: أحياناً يلبس على بعض السذج.

الجهل بمنهج الاستدلال معلم للاتجاهات العقلانية

الجهل بمنهج الاستدلال معلم للاتجاهات العقلانية نعود إلى المنهج العام الذي تجتمع فيه الاتجاهات العقلية، فأقول: بناء على هذا انحرفت مناهجهم في الاستدلال فقدموا العقل، ثم إنهم أيضاً لم يراعوا في نظرتهم للنصوص الشرعية إلى يومنا هذا منهج الاستدلال، فلو تأملنا بعض الكتابات في الفضائيات أو في غيرها من وسائل الإعلام التي لها أثر على الناس؛ لوجدنا أن أغلب هؤلاء الذين يتناولون القضايا الشرعية من أدلتها لا يعرفون منهج الاستدلال أصلاً، فيضربون الآيات بعضها ببعض، يأخذون بآية ولا يعرفون دلالتها وسبب نزولها، والقرائن والملابسات التي نزلت فيها، ولا يرجعون إلى فهم الصحابة لها، بل لا يردونها إلى الأدلة الأخرى التي قد تخصصها أو قد تعممها أو قد تنسخها إلخ. فهم يضربون النصوص بعضها ببعض، والأصل في منهج الاستدلال أن يرد القرآن إلى القرآن، وهم لا يردون القرآن إلى القرآن، بل يفسرونه بانتقائية مبنية على الهوى، وكذلك السنة يفسرونها بانتقائية مبنية على الهوى.

البعد عن الشمولية معلم للاتجاهات العقلانية

البعد عن الشمولية معلم للاتجاهات العقلانية ثم إنهم أيضاً ليس عندهم شمولية الرسوخ في العلم في النظرة إلى النصوص، فقارن بين إنسان مجرد تناول موضوعاً في الصحافة ربما عكف عليه عشرة أيام أو عشرين يوماً ولم يحط علماً بالنصوص، وبين مثل الإمام أحمد الذي كان يحفظ مليون سند، صح منها عنده أربعون ألف إسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع حفظه القرآن، فهل يستوي هو والرويبضة الذي يتكلم في الدين في الصحف، لا يعرف الأدلة ولا مناطاتها ولا وجه الاستدلال، ولا يعرف العموم والخصوص والنسخ وغير ذلك مما هو من ضرورات الاستدلال. ثم إنهم لا يهتمون بفقه ومعرفة الذين ننزل عليهم القرآن وهم الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرفون قبل هذا تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم للنصوص.

وسائل الإعلام ودور بعضها في الجرأة على الثوابت

وسائل الإعلام ودور بعضها في الجرأة على الثوابت المقدم: وبعضهم قد يحتج أحياناً على بعض كبار العلماء في مسائل دقيقة، مع أن هذا العالم قد عاش مع هذه المسألة فترة طويلة حتى ترجح له هذا الرأي، ثم يأتي هذا الصحفي ويقول: أنا أخالف هذا الرأي. فهل وسائل الإعلام -يا دكتور ناصر - تتحمل جزءاً من تجرؤ أولئك وتطاولهم على العلماء، وتطاولهم على النصوص الشرعية؟ الشيخ: لا أريد أن أتكلم عن وسائل الإعلام عامة، فوسائل الإعلام منها النقية ومنها المشوبة، ومنها التي تسيء إلى الأمة ودينها. فوسائل الإعلام -مع الأسف- غاياتها ومنطلقاتها لا تراعي ثوابت الدين عندنا، ولا تراعي أيضاً ثوابت البلد المسلم كبلد له كيانه دولة وشعباً يقوم على أسس مشتركة، ولا تراعي أيضاً المصالح الكبرى للأمة، ولا قواعد الأخلاق، بل أهم شيء عندها الإثارة والإغراض. فكثير من القضايا تثيرها بعض الصحف، ويثيرها بعض الصحفيين، وحين يقال لهم: لماذا أثرتم هذا الموضوع وفيه من المفاسد كذا وكذا؟! يقولون: لأنه مثير، فكثير من وسائل الإعلام يهمها ما يجذب القارئ، ما يوسع نطاق نشر الصحيفة بدون مراعاة للأصول المعتبرة شرعاً وعرفاً وعقلاً. المقدم: هذا فيه طعن حتى في الوطنية التي ينادون بها، وإلا فما الفائدة من إيجاد شرخ كبير بين العلماء وبين بعض المفكرين وبعض المثقفين. الشيخ: في الحقيقة كثير منهم انطلقوا إلى حد الانفلات في مسألة حرية الرأي، وحرية الرأي لا بد من أن تنضبط بضوابط الشرع.

الضحالة في فقه النصوص وحفظها معلم للاتجاهات العقلانية

الضحالة في فقه النصوص وحفظها معلم للاتجاهات العقلانية هناك قضية يعرفها كل بصير بالدين، ولكن نحتاج إلى أن نبينها بشكل تفصيلي، وهي: الضحالة، فأغلب أصحاب الاتجاهات العقلية عندهم ضحالة في حفظ النصوص، وفي فقهها وفهمها، ضحالة تؤدي إلى أن نقول: سينظر إلينا الآخرون من غير المسلمين على أننا أناس ليس عندنا علم؛ بسبب هذه التوجهات، حيث ترى ضحالة في الثقافة الشرعية، وجهلاً بخصائص الدين وأصوله وسماته، بل بمفردات الدين، ولذلك أقول عن هذا الصنف: جاهل جهلاً مركباً؛ لأنه جاهل ولا يدري أنه جاهل. إن العوام من المسلمين قليلي المدارك، الذين ما شاغبوا عبر وسائل الإعلام هم على الفطرة، وهم جهلة، ويدرون أنهم جهلة، ولكن المشكلة في هؤلاء الذين لا يدرون أنهم جهلة، وهم الذين يتطاولون على العلماء، ويتطاولون على المسئولين، ويتطاولون على أهل الفكر والدعاة والصالحين. المقدم: لذلك قد يؤلف بعضهم أحياناً ويرى أنه قد وصل إلى درجة الاجتهاد في الفقه ولا يعرف عنه فقه، ولا يعرف عنه علم. الشيخ: نعم، أكثر أصحاب هذه الاتجاهات ليس لهم مؤلفات شرعية، ولكن لهم مؤلفات فكرية وثقافية، ويكثرون من هذا. المقدم: قد يأتي شخص يرى أن الصلاة غير واجبة ثم يستدل لها بأدلة من كتب أصحاب هذه الاتجاهات أو غيرها. الشيخ: على مبدأ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]. المقدم: وبعضهم قد يشرح السنة شرحاً عقلانياً واضحاً وينزلها على ما يريد من أفكار. الشيخ: هذا إضافة إلى أنه نزعة هوى، وذلك يعود إلى قلة الفقه، ولو كان عنده بصر بالنصوص الشرعية؛ لخجل من أن يستدل بهذه الطريقة، وعلى الأقل سيخجل من أهل الاختصاص، وكما أننا نخجل من أن نتكلم عند الأطباء في الطب، ومن أن نتكلم عند المهندسين في الهندسة ونحن لسنا من أهل الاختصاص، ألا نستحي من أن نقول على الله بغير علم؟! فهم يقولون على الله بغير علم.

نظرة في نسبة المدارس العقلانية إلى العقل

نظرة في نسبة المدارس العقلانية إلى العقل المقدم: قد نأخذ بعض القضايا الأخرى بعد هذه المداخلة من الأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي عضو هيئة التدريس في كلية المعلمين بجامعة الملك سعود. مرحباً بكم دكتور. مداخلة: حياكم الله. أهلاً وسهلاً. المقدم: دكتور! أنتم من المهتمين بهذا الجانب، ولكم مؤلف بعنوان (منهج المدرسة العقلية الحديثة في تفسير القرآن)، ونود أن نستفيد منكم، فما هي أبرز معالم هذه المنهجية في التعامل مع نصوص القرآن الكريم؟ مداخلة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أولاً: أشكركم على تفضلكم باستضافتي في هذه الحلقة الطيبة مع فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور ناصر. الشيخ: الله يحييك يا دكتور فهد. مداخلة: وفرصة طيبة أن أسمع صوته، وكنت أود أني سمعت الحلقة، لكن لا يتسنى لي أن أسمع هذا البرنامج. مداخلة: الإعادة إن شاء الله. مداخلة: إن شاء الله، ولكن علمت أن الحديث فيها عما يسمى بالمدرسة العقلية، والحقيقة -كما يقال- أن كل الصيد في جوف الفراء، ففضيلة الشيخ من المتخصصين والخبراء في مناهج هذه المدرسة، وقد أتعرض لنقاط أخشى أن يكون تناولها جزاه الله خيراً. الشيخ: موضوع التفسير -يا دكتور فهد - ما تناولناه، فمنهجهم في التفسير ما تناولناه بالتفصيل. مداخلة: الحقيقة أنها متداخلة. الشيخ: هو موضوعك على أي حال، فأنت فارس الحلبة في هذا الموضوع. مداخلة: الله يكرمكم، لكن الحقيقة أن جميع القضايا متداخلة في المدرسة العقلية مع العقيدة ومع القرآن، والحديث عما يسمى بالمدرسة العقلية حديث متشعب؛ لأن المدرسة العقلية ينضوي تحتها فرق ونحل متعددة، منها ما يتسع له رداء الإسلام، ومنها ما نستطيع أن نقول فيه: إنه خرَقَ رداء الإسلام أو خرج عنه ومنه. لكن أود أن أنبه إلى أمرين: أولهما: أن في تسميتها بالمدرسة العقلية تجوزاً، فهي في الحقيقة عن العقل نائية، والعقل كل العقل لا يخرج عما ورد في الوحيين، كيف والنصوص الشرعية نفسها -وهي كثيرة، سواء أكانت قرآنية أم نبوية- تدعو إلى التعقل؟! وورد في نحو أربع وعشرين آية تقريباً يردُ الأمر فيها بالعقل: ((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))، فضلاً عن الألفاظ المرادفة لها من الأمر التفكر والتدبر. الشيخ: والنظر. مداخلة: والتفقه والتعلم والنظر إلخ. فالعقل -في الحقيقة- والعقلانية في أحكام الشريعة الإسلامية، وليس في الخروج عنها. المقدم: اسمح لي -دكتور فهد - أن أسألك في صلب الموضوع: ما هي أبرز معالمهم في النظر إلى النصوص الشرعية في تفسير القرآن الكريم؟ مداخلة: أنا أريد أن أصل من هذا إلى الأمر الثاني وهو أن أقرب التسميات لهذه المدرسة في رأيي ليس هو المدرسة العقلية؛ لأنهم يرون النصوص تعارض أو تخالف ما ألفته عقولهم عادة، فهم أصحاب مدرسة -إن صحت التسمية- اعتيادية؛ لأنهم ينكرون بمبادئهم ومقاييسهم ما يخالف ما ما ألِفته عقولهم من العادة، ويقدمونها على حقائق الشريعة. لأن عقولهم القاصرة لم تستوعب مخالفة ما اعتادته؛ فحسبوا أن ذلك حكماً عقلياً، والحقيقة أنه ليس حكماً عقلياً، بل هو حكم مخالفة العادة التي ألِفوها؛ ولهذا نراهم ينكرون المعجزات، والمعجزات لا تخالف العقل، لكنها خارقة للعادة، وليس هناك أمر شرعي أو حكم شرعي خارق للعقل.

ركوب مسالك التأويل للنصوص بما يوافق العادة سمة المدرسة العقلانية

ركوب مسالك التأويل للنصوص بما يوافق العادة سمة المدرسة العقلانية المقدم: دكتور فهد! كيف ينظرون للنصوص؟ مداخلة: النصوص يوظفونها على حسب ما يرونه، أو ما اعتادوه أيضاً، فإن كانت النصوص الشرعية فيها أمر ينبئ عن خرق للعادة؛ وظفوها على حسب معتقداتهم فأولوها؛ ولهذا ينكرون الجن؛ لأنهم لا يرونهم عادة، وينكرون الملائكة، أو يؤولون وجود الملائكة بأشياء اعتادوها وألفوها، كالجراثيم والميكروبات مثلاً، ويؤولون الجن بأرواح يزعمونها، وينكرون بعض الخوارق ويؤولونها بما لا تصبح به خارقة. المقدم: هذه هي الوسيلة الوحيدة عندهم في التأويل فقط؟ مداخلة: هذا الذي أراه، وهو أن كل ما يرونه مخالفاً لما اعتادوه وألفوه يؤولونه بما يناسب القاعدة الأصل عندهم، وهو مخالفة العادة. فالخوارق الواردة في القرآن أو السنة يتأولونها بما يخرجها عن مخالفة العادة، وهذه قاعدة كبيرة جداً؛ لأن كثيراً من النصوص الشرعية -كالواردة في شأن السحر- قد ينكرونه؛ لأنهم ما اعتادوه أو ما ألِفوه، أو لا تؤمن به عقولهم، فيؤولونه بما يوافق المعتقدات الحديثة. المقدم: كأنك تشير -دكتور- إلى أن من أبرز القضايا التي عندهم في التعامل مع النصوص: مسألة التأويل والتحريف، أعني تحريف النص عن ظاهره. كان معنا الأستاذ الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بجامعة الملك سعود. شكراً لك دكتور فهد. أشار الدكتور إشارة سريعة إلى مسألة تأويل النصوص، وأن بعضهم قد ينكر الأمور الغيبية، مثل الجن، كالفلاسفة وغيرهم، ونعود إليكم دكتور ناصر. أخذنا بعض المعالم الأخرى لمنهج أولئك العقلانيين؟ الشيخ: أولاً: أنا أؤكد على ما قاله أخي وزميلي الدكتور فهد، وهو -في الحقيقة- يشاركني في هذا التخصص؛ لأنه صاحب كتاب (المدرسة العقلية في التفسير) كما أشرت، وله باع في هذا، ويعتبر كتابه مرجعاً في هذا التخصص. فما أشار إليه من أن أصحاب هذه الاتجاهات العقلانية ألفوا أشياء من العوائد صحيح، لكن أحب أن أنبه على أمر، وهو أن الدكتور فهد لا يقصد بالعوائد العادات الأخلاقية فقط، بل يقصد بالعوائد: ما اعتادوه من الأفكار، وما اعتادوه من الطروحات، وما اعتادوه من أنواع الثقافة. فأنماط الثقافة التي تلقوها أصبحت عندهم راسخة في أذهانهم وكأنها عوائد فكرية وعوائد ثقافية، كما أن هناك عوائد عملية موروثة، فهذا صحيح، وأنا أوافق الدكتور عليه. المقدم: وجعلوا هذه العوائد كالقواطع العقلية. الشيخ: نعم؛ لأنها ترسخت في أذهانهم، وليس عندهم موازين، والذي ليس عنده موازين يمتلأ عقله وفكره بأي وافد، وإلا فلماذا نجد جماهير عباد الأصنام من العامة قد تشبعوا بما ينافي عقولهم من عبادة الحيوانات وعبادة أشياء حقيرة نسأل الله السلامة ما أحب أن أسميها، وأعود إلى ما ذكرته.

الجهل بالفرق بين الثوابت والاجتهاديات معلم للمنهج العقلاني

الجهل بالفرق بين الثوابت والاجتهاديات معلم للمنهج العقلاني فمن جهلهم المطبق: عدم التفريق بين الثوابت والاجتهاديات، ودعني أشير إلى أمر؛ لأننا نرجو أن يكون هذا الحديث معالجة لواقع؛ فليس هؤلاء العقلانيون فحسب هم الذين يجهلون التفريق بين ثوابت الحق وبين الاجتهاديات، بل يوجد من يجهل هذا من بعض المنتسبين للعلم بسبب التأثيرات الثقافية الوافدة، وهذا الزخم من التشكيك وضرب العقيدة وضرب المسلَّمات، فأثر ذلك حتى على بعض طلاب العلم الشرعيين. وأحياناً أسمع من يستشكل في الثوابت، وإلى أي حد تكون الثوابت، وهل هناك ثوابت مختلف فيها. وهذا خطير من قبل من عندهم إلمام بالعلم الشرعي، أما عامة الناس فقد يحدث منهم هذا الاشتباه. المقدم: بعض الناس قد يتساءل فعلاً: ما هو ضابط هذه الثوابت؟ الشيخ: الثوابت: هي القطعيات التي تمثل أركان الإيمان وأركان الإسلام؛ هذا أولاً. ثانياً: ما ثبت بنص قطعي من أمور الغيب؛ لأن أمور الغيب ليست قابلة للتفسيرات، فهي غيب، ولو كانت قابلة للتفسيرات والنظر ما صارت غيباً، ولما امتدح الله المؤمنين بالغيب. الأمر الثالث: قطعيات الأحكام، أعني كون الربا حراماً، والغيبة حراماً، والكذب والغدر واستحلال الدماء حراماً، وكون الزنا حراماً، وكذلك السرقة؛ أليست هذه قطعيات؟! فهي ثوابت إذاً، وليست محل شك، نعم قد يكون المتغير هو بعض أحكامها، وبعض تطبيقاتها. أيضاً: ما يتعلق بالثوابت العملية للدين، أعني مناهج الدين الكبرى، مثل: الجهاد بشروطه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه، والولاء والبراء، ومحبة ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبغض ما يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه ثوابت، ولكن قد يتفرع عنها بعض الأصول التي هي محل شك؛ لأن نصوصها لم تثبت. المقدم: ومحل خلاف. الشيخ: ومحل خلاف، وكذلك الأحكام العملية المنبثقة عن هذه الأصول، ومنها الأحكام التفصيلية، الأحكام الشرعية التي تسمى مفردات الشريعة، فهذه اجتهاديات. إذاً: الثوابت واضحة، وهم لا يفرقون بين الثوابت في الأشياء.

أهمية إيجاد الرقابة الشرعية على وسائل الإعلام

أهمية إيجاد الرقابة الشرعية على وسائل الإعلام المقدم: ألا توجد رقابة في بلد مثل هذا البلد؟ الشيخ: إنه يجب أن يكون لكل مسلم رقابة من ذاته، وإذا كنا نضطر إلى رقابة السلطة أو رقابة المجتمع فهذا إجراء -في الحقيقة- احتياطي في درجة ثانية. فيجب أولاً أن نناصح هؤلاء القائمين على بعض المقالات وبعض الزوايا في الصحف، ليس كلهم كذلك، نعلم أن فيهم أخيار، ولذا يجب أن ننصف، ففيهم أخيار، وفيهم أناس ليسوا ممن نصفهم بأنهم ضد الاتجاه الشرعي، لكن يوجد من يخطئ أو يزل، ويوجد نفوذ لبعض أصحاب الاتجاهات العقلانية من خلال شعارات معينة. فأنا أقول: يجب أن نعود الناس على أن يكون عندهم رقابة ذاتية، وأن نناصح هؤلاء، وأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بما نستطيع، فهؤلاء كلهم من أبناء جلدتنا وبين ظهرانينا، فمنهم أقارب ومنهم جيران ومنهم من نعرفه ومن لا نعرفه، وسائل الاتصال متاحة، فيجب يا إخوان -وأقول ذلك لجميع الإخوة- أن نناصح هؤلاء ونبين لهم وجه الحق. وهنا رسالة أعتبرها نصيحة لمن ولاه الله أمر المسلمين، والدين النصيحة، ولعل هذه الرسالة تصل -إن شاء الله- إلى المسئولين، ونحسبهم من الحريصين، وهم الذين حفظ الله بهم ثوابت الأمة، فنسأل الله أن يوفقهم ويسددهم، فهذه الدولة المباركة فيها حرص على الخير، ودستورها ونظامها يقوم على هذه الثوابت كما هو معلوم، لكن قد يغفل الرقيب، قد يكون هناك شيء من الأمور ليس بواضح، وهذه الرسالة هي: أن يكون لكل صحيفة مراقب شرعي على المستوى المطلوب، وقبل هذا يجب على القائمين على الصحف أن يتقوا الله عز وجل.

حقيقة الخلاف المعتبر

حقيقة الخلاف المعتبر المقدم: هل هناك بعض المعالم التي تريد ذكرها في نهاية الحلقة؟ الشيخ: نعم، لعلي الآن أفرع على المعْلَم السابق، وهو أنهم لما جهلوا أصول الدين، وجهلوا أصول العقيدة العلمية والاعتقادية والقولية؛ تجرءوا على الثوابت، فإذا حدثت بعضهم أحياناً بشيء من تلك الأصول يقول: هذا ليس من الثوابت، هذا مما يختلف فيه، والناس يختلفون، والبشرية تختلف. وكلمة (تختلف) و (يختلفون)، من الكلمات الفضفاضة، وغالباً ما تستعمل على غير وجهها، وليس كل اختلاف معتبر؛ فالناس اختلفوا في ربهم عز وجل، فهل اختلاف الناس في ربهم معتبر عند أي عاقل يحترم نفسه؟! إذاً: الاختلاف الذي يقوم على منهج علمي وشرعي وعقلي ومنهجي وموضوعي هو المعتبر، أما أن نأخذ بكل هذيان؛ فهذه مصيبة تهدم الدين والدنيا.

دعوة لتلقي الثقافة من منابعها الصافية

دعوة لتلقي الثقافة من منابعها الصافية المقدم: نرى من هؤلاء العقلانيين التنكر للتراث الإسلامي، ومحاولة تجاهل هذا التراث. الشيخ: هذه مسألة ستأتي، ولكنها مناسبة الآن، فأقول: كل إناء بما فيه ينضح، فأي شاب مسلم ينشأ في أول حياته العلمية على استقاء ثقافته من المشارب غير الصافية -خاصة في الدين- فإنه من الطبيعي أن يتشبع بهذه المشارب، فمن أين جاءت هذه التوجهات؟ أجاءت من فراغ؟ لا، لم تأت من فراغ، بل جاءت من المشارب غير الصافية، ولذلك أذكر بالنهج الشرعي الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، ورسمه للأمة، ثم منهج السلف، فعلى الشاب المبتدئ في طلب العلم -حتى لو لم يكن تخصصه شرعاً- ألا يتلقى الدين والثقافة والفكر من غير المصادر النقية ابتداءً قبل أن يتشبع من المصادر النقية، ثم بعد ذلك لا مانع من أن يوازن، ولكن بقدر أيضاً. لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه -وهو الفقيه العالم- حينما رأى معه صحيفة من التوراة؛ ذلك لأن القرآن كان يتنزل، وكانت الأمة بحاجة إلى أن تستقي ثقافتها في الدين من المنابع الصافية. المقدم: طيب. أنكر على عمر. الشيخ: أنكر على عمر ذلك الفقيه العالم الذي هو الفاروق رضي الله عنه، ولم ينكر فحسب، بل غضب عليه غضباً شديداً، لماذا؟ لأن التوراة حرفت ولم تعد نقية، فكيف بغيرها، كالكتب التي أصبحت الآن مشاعة بكل الوسائل لكل الناس مع الأسف؟!

معالم بارزة للمنهج العقلاني

معالم بارزة للمنهج العقلاني المقدم: هل هناك بعض المعالم التي تريد أن تذكرها؟ الشيخ: سأذكر أشياء رئيسة، ولا بد من أن نفصلها في حلقة قادمة: فمن الأشياء المهمة: أنهم يسعون إلى إسقاط المرجعية الإسلامية بالكلام في العلماء وذمهم، بل الجفاء العملي والواقعي للعلماء، والجرأة في الرد على العلماء، والتطاول عليهم، فالآن إذا نظرت إلى الذين يردون على بعض أعضاء هيئة كبار العلماء أو من في مقامهم في الصحف؛ ستدهم غير أكفاء لهم، ولا قريبين من ذلك، لا في القدر والعلم فحسب، بل حتى في المقدرة المنهجية على التصدي للقضايا. ومن الأشياء المهمة: ما نسميه الانتقائية، أو الانحراف في الاستدلال في القضايا التي يطعنون بها في السنة، فهناك انتقائية بنوع من تحكيم الشهوات، وتلمس الشواذ والغرائب من الأحكام، فيجعلونها أصلاً، ويتناسون القضايا الأساسية والمنهج. ومن الأشياء المهمة: إخضاع الثوابت وأصول الاعتقاد للأهواء والأمزجة. ومن ذلك: تمييع الدين، ومحاولة عزله عن الحياة. ومن ذلك: التذرع بالشعارات الخادعة: التحرير، والتطوير، والتنوير، والحداثة، والعصرانية، والتجرد العلمي الموضوعي. وإذا حققنا في الأمر وجدنا أنهم أبعد الناس في الجملة عن هذه الشعارات وهذه الحقائق. وهناك أيضاً شعار جديد موهوا به على شبابنا، وهو ما يسمونه بالرأي والرأي الآخر. فيجب عليهم أن يفهموا أن الرأي والرأي الآخر معتبر بشروط، ومن ذلك أن يكون صاحب الرأي ممن تحققت فيه شروط الاجتهاد، ثم أن يكون الرأي والرأي الآخر في الاجتهاديات إذا كان عنده قدرة. أما في الثوابت والمسلَّمات ومصالح الأمة العظمى، وما يحفظ للأمة دينها وأمنها ويجمع شملها على ولاتها وعلى علمائها؛ فليس هناك رأي ورأي آخر. المقدم: الحقيقة أن الحديث معك ممتع وشيق، ونعتذر للأخ المشاهد من أننا سنستكمل هذه المسائل الحساسة والهامة في الحلقة القادمة. وهناك عناصر أخرى حول الاتجاهات العقلانية المعاصرة سنناقشها مع الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ومن أراد في الحلقات القادمة أن يشارك بمداخلة أو اقتراح أو اقتراح أو تفريع على هذا العنوان أو العناوين الأخرى التي سنناقشها؛ فالمرجو منه أن يكون منه تواصل في منتديات الصفوة، في النافذة التي خصصت لبرنامج حراسة العقيدة. وإلى أن نلتقي بكم في حلقة قادمة نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[2]

الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [2] يعتبر الحديث عن الاتجاهات العقلانية لتفنيدها أمراً مهماً لا يسع الغيورين من أبناء الإسلام إغفاله، إذ إن هذه الاتجاهات قد جعلت مسارها التشكيك في ثوابت الشريعة وهز عمود الاعتقاد، آخذة في ذلك جملة من الوسائل من أبرزها الجرأة على العلماء والسعي إلى إسقاطهم، وتنحية المرجعية الشرعية جانباً، مع ما عليه أغلب أصحابها من قلة البصيرة بالدين والجهل بأصوله، وضعف التدين والسعي وراء الشهوات.

الموقف من إثراء الحديث عن الاتجاهات العقلانية

الموقف من إثراء الحديث عن الاتجاهات العقلانية المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: حراسة العقيدة. (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها) هو موضوعنا في هذه الليلة من برنامج حراسة العقيدة مع الأستاذ الدكتور/ ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. أهلاً بكم شيخ ناصر! الشيخ: أهلاً بكم وبالمشاهدين. المقدم: أرحب بكم -مشاهدينا الكرام- مرة أخرى، ونتمنى منكم جميعاً المشاركة في إطار الموضوع الذي سنناقشه: الاتجاهات العقلانية أصولها ومناهجها. شيخ ناصر! تحدثنا في بداية حلقة (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها) عن بعض المسائل الأساسية، وأخذنا بعض المناهج العامة في ذلك. وقبل أن نطرق هذا الموضوع أشير إلى أنه من خلال منتديات الصفوة في الإنترنت في نافذة حراسة العقيدة طرح بعض الإخوة طرحين مختلفين في إطار فكرة هذا البرنامج. فمنهم من يقول: حاولوا أن تخففوا من المصطلحات الفلسفية والكلامية والعقلانية، وآخر يقول: الأمة ابتليت بهذه المصطلحات؛ فلا بد من مناقشتها، فما رأيكم فضيلة الشيخ؟ الشيخ: الخلاف في مثل هذه الأمور أمر عادي، لكن هذه الأمور ينبغي أن يراعى فيها رأي المتخصصين، وأنا -من وجهة نظري بوضعي متخصصاً في هذا الموضوع- أرى أنها من الأهمية بمكان؛ لعدة اعتبارات: أهمها: أن هذه القضايا أصبحت الآن قضايا ساخنة ومؤثرة، وقضايا تتسبب في التشويش على أذهان الأجيال. بل أقول وأنا جازم: إنه ذهب ضحيتها من أبنائنا ومن مثقفينا ومفكرينا عدد لا يستهان به، فركبوا موجة هذا التوجه الذي يصادم بعضه الدين، وبعضه يخل بالدين عن حسن نية في الغالب، لكن لشدة ضخ مثل هذه الأمور والمصطلحات والمفاهيم والنظريات أصبحت مؤثرة؛ حتى هزت ثوابت الكثير من الناس. فمن هنا أصبح طرحها ضرورياً، مع أنه قد يكون محرجاً للكثير، أو ربما يكون صعباً عليهم تناوله وفهمه. الأمر الثاني: أننا الآن في برنامج متخصص، وهو القناة العلمية، فهذا نوع من التخصص يحتاج إليه طائفة كبيرة من شبابنا وطلاب العلم، فمن هنا نطرحه على من يهمهم الأمر، أو من يستفيدون منه، وربما يكون كثير من المشاهدين لا يستفيد كثيراً من هذا البرنامج، أو لا يستوعب قضاياه، فليعذرنا حين نتكلم في جانب تخصصي هو فريضة من فرائض الأمة اليوم.

قلة الفقه في الدين سمة ذوي المنهج العقلاني

قلة الفقه في الدين سمة ذوي المنهج العقلاني المقدم: دعنا -يا شيخ- الآن نشرع في مسألة مناهج العقلانيين العامة، فقد ذكرت في بداية الحلقات أن العقلانيين ليسوا على مرتبة واحدة، وأن المناهج قد تختلف من مدرسة إلى أخرى، ولكن هناك مناهج عامة تجمع هؤلاء القوم، فمن المناهج العامة أننا نلحظ في هؤلاء العقلانيين ضحالة المعرفة الإسلامية والثقافة الإسلامية والجهل بعلوم الشريعة. الشيخ: نعم، هذه سمة عامة فأغلبهم -بل المؤثرون فيهم الذين لهم القيادة في هذه الاتجاهات على اختلاف طوائفها وأطيافها- يغلب عليهم الجهل، لا أعني الجهل بمفردات المعلومات؛ لأن الجهل له مصطلح شرعي ومصطلح عام، فلا أقصد المصطلح العام، وإنما أقصد المصطلح الشرعي، وهو قلة الفقه في الدين. فهم لا يعرفون الأدلة، وإن عرفوها لا يفقهون منهج الاستدلال، وهذا نوع من الجهل، والجهل بالأصول والثوابت والقواعد أشد خطراً من الجهل بمفردات الشريعة؛ ولذلك نجد وضع عامة المسلمين الذين هم جهلة بتفصيلات الدين أو قضاياه الجزئية ليس بالخطير؛ لأنهم لا يتبنون أفكاراً ومبادئ وأصولاً ومناهج خطيرة. أما هؤلاء فجهلهم جهل مركب وهم لا يشعرون، فهم يعلمون بعض المفردات، وعندهم كمٌ من الثقافة، ولكن ليس عندهم ضوابط ومناهج شرعية تسلم بها ذممهم ويسلكون بها المنهج الذي يرضي الله عز وجل، ويحقق مصالح للعباد، وهو منهج الدين في تطبيقاته وأصوله. المقدم: ذكرت -يا شيخ- فرقاً مهماً بين الشخص الجاهل الذي لا يعلم مفردات الدين، وبين ذلك الجاهل جهلاً مركباً، ونحن بهذا الكلام نحاول أن نسهل هذه المعلومة أكثر، فما المقصود بالجاهل؟ وهل الجهل كله مذموم؟ الشيخ: الجهل كله مذموم، لكنه بالنسبة إلى الأفراد راجع إلى الاستطاعة والقدرة، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فالإنسان الذي مداركه بسيطة مداركه يسيرة لا نحمله ما لا يطيق؛ إذ لا يستطيع أن يعلم ما يعلمه من هو أعلى منه مداركاً، فالقادر على العلم الشرعي والتمكن فيه يختلف عن غير القادر، حتى لو كان عنده مقدرة ومواهب، ولكنه منشغل بأمور حياته ومنشغل بالقيام بواجبات الأمة في جوانب أخرى، فهذا يسعه أن يجهل كثيراً من أمور الدين ما عدا الضروريات، أعني ما يقوم به دينه، إذاً: هذا الجهل نسبي. وعلى هذا فإنا نقول: إن أصحاب الاتجاهات العقلية جهلة؛ لأنهم -أعني الرواد والرءوس من ذوي المواهب- أصحاب ذكاء وأصحاب مقدرات، فهؤلاء لا يعذرون في تركهم المسلك الصحيح في الفقه في الدين، فجهلهم جاء من حيث إنهم انحرفوا في تلقي الدين بأصوله الصحيحة. المقدم: بعضهم قد يقول: كيف تقولون: إن هؤلاء جهَّال وأحدهم قد يكون بروفسوراً في تخصص معين، ومنهم من كتب بعض الكتابات، أو ألف بعض الكتيبات حول مسائل دقيقة في الفقه، كالمرأة والصلاة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟ الشيخ: لأنه -كما قلت- قد لا يكونون جهلة بالمفهوم العام، فالجهل هنا شأنه كأي مصطلح من المصطلحات العامة، فله مفهوم شرعي، مثل العلم، فالعلم إذا أطلق في النصوص -كالأمر به وفضل طلبه- يقصد به العلم الشرعي، ومع ذلك سمى الله عز وجل سائر العلوم بأنها علوم، لكنها علوم مقيدة. وكذلك الجهل، فالجهل أمر نسبي، فنقول: إن هؤلاء جهلة في الجانب المتعلق بأصول الدين وثوابته، وإلا فهم يدخلون غالباً تحت تصنيف المثقفين، فهم مثقفون، لكنهم من المنظور الشرعي -فيما يتعلق بموضوعنا- جهلة. وهذا وارد في النصوص، فلماذا سميت المراحل التي كانت قبل الإسلام بالجاهلية الأولى، وجاء بذلك ذكرها في القرآن والسنة، مع أن فيهم شعراء وفيهم أدباء وفيهم أفذاذاً في بعض التخصصات؟! ذلك أنهم جهلوا حقيقة الحياة كما أراد الله عز وجل، وجهلوا مناهج الدين التي تضبط الحياة، ولم يكونوا على دين يهذب عقولهم ويهذب عواطفهم، ويجعلهم على مسلك يرضي الله عز وجل فسموا أهل الجاهلية.

منشأ جهل العقلانيين بالثقافة الإسلامية

منشأ جهل العقلانيين بالثقافة الإسلامية المقدم: جهل العقلانيين بالثقافة الإسلامية بمصادرها وبطريقة الاستدلال الصحيحة هل هو ناتج عن عدم قدرتهم على معرفة هذه العلوم من منابعها، أم ناتج عن أمور أخرى كالهوى وغير ذلك؟ الشيخ: الذي يظهر لي من خلال الاستقراء أن كل هذا موجود، حيث يوجد أصحاب ضلالة ولجوا علينا من هذه المداخل، وأرادوا أن يفصلوا أجيالنا عن حقيقة النهج السليم، وهناك أناس أصحاب أمزجة شخصية وآراء شخصية، وربما لا يدركون خطر ما هم عليه، وهناك أناس أيضاً لهم أهواء ورغبات معينة، ولو لم يكونوا أصحاب مذاهب واتجاهات، فهذه التوجهات هي خليط، وينبغي أن نفهم أنه ليس همنا في مثل هذا التأصيل الدخول في المقاصد والنيات، فنحن نحكم على الآثار وعلى المناهج الظاهرة التي لها أثر بالغ على الأمة، وأما مقاصد الأشخاص وتوجهاتهم فهذا أمر لا ندخل فيه. المقدم: ولا نحكم على الأعيان. الشيخ: لا نحكم حتى لو كانت لنا قرائن معينة، فبعضهم قد يدان من كلامه، ولكن ليس هذا همنا، بل همنا أن نذكر الأصول والمناهج الحقة وما ينافيها، وأن نبين للناس هذه الأصول الخاطئة، وهذه المناهج الخاطئة؛ لتجنبها والحذر من شعاراتها الخادعة.

توجيه للمسلم في مورد منهله فيما يخص أمور دينه

توجيه للمسلم في مورد منهله فيما يخص أمور دينه المقدم: قبل أن نخرج من هذه المسألة هل من رسالة من الدكتور ناصر العقل إلى المشاهد الكريم يعرف من خلالها من أين يستقي هذا العلم وهذه الثقافة الإسلامية وهذه العقيدة وهذه الشريعة؟ هل يستقيها من كل أحد أم من أناس متخصصين؟ الشيخ: هذا أمر مهم جداً، فأقول: أولاً: يجب على المسلم في مقتبل حياته سواء أكان طالب علم أم غيره أن يعرف ثوابت دينه، والأساسيات التي بها يعتقد اعتقاداً صحيحاً، فيعرف ما يجب عليه تجاه ربه عز وجل وتجاه الخلق. وأيضاً لا بد من أن يعرف فرائض الدين التي تجب على الفرد، أو تجب عليه بحسب موقعه ذكراً كان أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، يجب عليه أن يتعلم أساسيات دينه في العقيدة وفي الأمور المطلوبة منه في جوانب الشريعة. فهذه كلها مصادرها الكتاب والسنة وما انبثق عن الكتاب والسنة بجهود العلماء أهل الذكر الذين قال الله عز وجل فيهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ومن سؤال أهل الذكر قراءة ما يكتبون، وسماع ما يقولون لمن لم يتمكن من حضور دروس العلماء، أو لم يتمكن من أن يقرأ، فيسمع عبر الأشرطة والوسائل الأخرى. المهم أن العلم الشرعي الذي يحصن به المسلم نفسه وأمته ودينه هو الذي يؤخذ من مصادره النقية: الكتاب والسنة وعلومهما. وقد ينشأ Q هل هذا يعني أن المسلم لا يقرأ الكتب الأخرى؟ فنقول: هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل قد سيأتي، إلا أننا نقول ابتداءً: يقرأ، لكن بعدما يحصن نفسه، وللقراءة ضوابط أيضاً، وإلا فلماذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو في فقهه وجلالة علمه؟! فقد غضب عليه لما رآه يقرأ صحيفة من التوراة؛ لأن هذا كان وقت تنزل الوحي، والتوراة مخلوطة بالحق والباطل، فهي محرفة ومنسوخة، فهي مصدر غير نقي. فمن هنا يجب على الإخوة أن يعرفوا أن هذه حقيقية حتمية، ومن ثوابت الدين، وهي أنه لا يؤخذ الدين إلا من مصادره النقية.

الانتقائية في النصوص الموافقة للهوى سمة ذوي المنهج العقلاني

الانتقائية في النصوص الموافقة للهوى سمة ذوي المنهج العقلاني المقدم: هذا مظهر ومنهج عام عند أولئك، وهو ضعفهم في الثقافة الإسلامية، ولكن هناك منهج آخر عندهم وانحراف في الاستدلال، حيث نجد أن هؤلاء قد يحاولون أن ينظروا في هذه النصوص الشرعية وينتقون منها ما يوافق أهواءهم، وما يوافق الفكر الذي هم عليه، فهل هذا منهج مطرد عندهم؟ الشيخ: نعم، الانتقائية عندهم تنبني على النزعة بشرية في الإنسان، فأي إنسان يقرر في عقله وقلبه وفكره مقررات معينة يتبناها، سواء دان بها أم كانت أفكاراً له، وهؤلاء لا يدينون بدين غالباً، بل عندهم فكر، فيتبنون هذا الفكر، ويضعون القناعات ابتداءً، ثم إذا اطلعوا على النصوص الشرعية، أو اطلعوا على كلام العلماء، أو أرادوا أن يعالجوا واقع المسلمين؛ جعلوا ما عندهم من القناعات هو المرجع، فمن هنا يستدلون لها، مع أنهم يدعون التجرد العلمي، فهم ليسوا متجردين، بل أبعد الناس عن التجرد. فهم عندهم انتقائية في اختيار النص، وفي اختيار الشاهد، وفي اختيار المعلومة، بل حتى في الطرائق العلمية التي يسلكونها في الاستبانات وفي الدراسات، فعندهم نوع من خدمة الفكر السابق في نوعية الأسئلة التي يطرحونها. وقد رأيت بعض الباحثين من هذا الصنف له بعض النتائج حول قضية معينة تخالف الشرع، فرجعت إلى صيغة السؤال فوجدت أنه صاغ السؤال على المقررات التي في عقله، يريد أن يصل إليها من خلال السؤال، ومن خلال القارئ الذي قد يدري أو لا يدري أنها مبنية على الهوى. المقدم: وفيها احتيال على القارئ. الشيخ: نعم، فهم عندهم انتقائية، ولذلك يتبعون شواذ الأدلة وشواذ الشواهد.

منهج العقلانيين في نقد الحق

منهج العقلانيين في نقد الحق ولعلي أقف على أبرز مظهر لهذا التوجه عند الاتجاهات العقلانية والليبراليين والعلمانيين ومن سلك سبيلهم، وهو نقدهم للحق الذي هو منهج الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ومنهج أهل السنة والجماعة ومنهج علمائنا في هذا العصر، ومنهج الدعاة الراشدين. ففي نقدهم لهذا المنهج تجدهم يركزون على التقاط الاجتهادات الخاطئة، وعلى انتزاع المواقف التي لا تمثل الموقف الشرعي، بل إما أن تكون زلات علماء، وإما أن تكون اجتهادات خاطئة، وقد تكون أحياناً ممارسات ممن ينتسبون إلى الدين أو إلى أهل السنة والجماعة؛ ومما ينبغي أن يفهم أنه يجب ألا ندعي أننا في عصمة، فمنهجنا هو المعصوم؛ لأنه الحق، لا لأنه منهجنا، بل لأنه دين الله، فالمنهج معصوم، وأما نحن فلسنا معصومين، ولذلك إذا أخطأ عالم من علمائنا قديماً أو حديثاً، أو داعية من دعاتنا، أو أخطأ أحدنا فإنه يجب ألا ندافع عن خطئه؛ لأن أعداء الحق ينتقون مثل هذه التجاوزات أو التصرفات أو الأقوال أو المواقف، أو الفتاوى أو غيرها، فيحاسبوننا على أنها هي الأصل، وهم يعرفون أنها ليست هي الأصل، وأنا أعرف أن أكثرهم عنده خبرة في المنهج العلمي، أعني التجرد والموضوعية، لكن هذا مشربهم، فهو يتلقط الظواهر الخارجة عن المنهج فردية أو جماعية ويجعلها أصلاً، ويتناسى أن الأصل خلاف ذلك.

أسباب الانتقائية عند العقلانيين

أسباب الانتقائية عند العقلانيين المقدم: هل الانتقائية عندهم في الاستدلال -دكتور ناصر - ناشئة عن جهل بالأدلة الأخرى التي تعارض أقوالهم أم عن علم سابق؟ الشيخ: كل هذه أسباب، فهم من النوع الذي لا يحيط بعموم الأدلة كالعلماء الراسخين، ولذلك يندر أن يكون فيهم عالم راسخ، وأقول: يندر لئلا يكون فيما لا أعلم، وإلا فلا أعلم في هؤلاء عالماً راسخاً. قد يكون فيهم عالم متخصص معين، وهذا هو سبب هلكته وغروره، أما أن يكون فيهم عالم راسخ شمولي فلا، فهم -إذاً- لا يحيطون بعموم الأدلة، ولا يحيطون بمنهج الاستدلال، وغالباً ما يأتون بأفكار سابقة كما قلت، وأي إنسان يأتي بفكر سابق أو رغبة معينة سابقة؛ فمن الطبيعي أن يفتن بالدليل؛ لأن حرصه على نوع معين من الاستدلال يكبله ويغلقه، كحال الغلاة، فالغلاة انغلقوا، فهم ينظرون من زاوية وهم لا يشعرون، فحشروا الأدلة مع فكرهم حشراً، ولذلك لا يأخذون بأدلة السعة، وأدلة الإعذار، وأدلة التيسير، ولا وجود لها في قواميسهم. المقدم: هذه الأدلة ماذا يصنعون بها؟ الشيخ: يتجاهلونها ويجهلونها، والله عز وجل يعمي أبصارهم عنها، وهذا معنى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء يمرقون من الدين، فهذا عمى البصيرة، ولذلك كنا نعرف بعضهم قبل أن يقع في هوى الغلو رجلاً منفتحاً على الرأي يناقش بحيوية وأريحية، تجده يتبصر، ولا يستعجل، وعنده نوع من الهدوء والسكينة، فما أن دخله الغلو حتى أصبح عدوانياً شرساً مغلقاً، يغضب لمجرد أن تأتيه بدليل يحرجه ويخرج من سمته، فما هو ذاك الرجل الذي كنت تعرف فيه سعة الصدر والحلم والتثبت وبراءة الذمة أبداً، وهم لا يشعرون، هم أتوا من قبل شدة التدين، لا نقول: ليسوا متدينين، بل هلكوا من شدة التدين، فهذا مثال على هذه المسألة. وكذلك العكس؛ كي لا نظلم، فأصحاب المنهج الآخر هم أكثر ضيقاً من هؤلاء، لماذا؟ لأن هؤلاء الغلاة أمرهم بيِّن يعرفه العامي الذي هو على الفطرة، أما هؤلاء فأمرهم فيه تلبيس. المقدم: هؤلاء ينادون بالرأي والرأي الآخر. الشيخ: ينادون بالرأي الآخر وهم أكبر أعداء للرأي الآخر، ولكن بطريقة ملبسة مهذبة، مثلما نقول: هذا سارق مهذب، أو: كذاب مهذب. فأولئك الغلاة عندهم من البساطة والسذاجة، والعنف في طرح الرأي. أما هؤلاء فطرحهم غير مبني على التثبت، ولا قبول الرأي الآخر، ولكن يحتالون على نسف الرأي الآخر بالأساليب الخاطئة. المقدم: لا يواجهون الرأي الآخر مواجهة، إنما يحاولون أن يحتالوا عليه. الشيخ: نعم، وهذا منهج ذكره الله عز وجل في كتابه وذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منهج المنافقين: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]. المقدم: إذاً: عندهم خلل كبير في الاستدلال! الشيخ: نعم.

موقف العقلانيين من العلماء الراسخين ومن المرجعية الشرعية

موقف العقلانيين من العلماء الراسخين ومن المرجعية الشرعية المقدم: ما هو موقف العقلانيين من العلماء الراسخين في العلم؟ وما هو موقفهم من المرجعية الشرعية لهؤلاء العلماء الذين يستدلون بالأدلة الشرعية ويأخذونها من منبعها الصحيح؟ الشيخ: هذا من أبرز وأوضح مواقفهم، وعامتهم ينتقصون العلماء انتقاصاً شديداً، ولأنهم أوتوا نوعاً من الفصاحة وحسن العرض، تجد عندهم شيئاً من المجاملة والمداراة للعلماء تخدع الآخرين، فكثير منهم لا يجرؤ على النقد الجارح للعلماء، لكنه يسقط العلماء بأساليب تعطي شيئاً من التفسير المرن من أجل أن يهربوا عندما يحاكموا. المقدم: ما الغرض من إسقاط العلماء؟ الشيخ: إن هؤلاء يرون الدين محصوراً في جانب معين من الحياة، فهم يسمون العلماء رجال الدين، وهذه التسمية غربية. المقدم: وهي تسمية خاطئة. الشيخ: نعم. وهي تنبع عن فهم الدين عند الغربيين، فالدين عند الغربيين دين محرف، وأيضاً جعلوه في زاوية معينة، فهذا المفهوم انتقل إلى العقلانيين، فتصوروا وتوهموا أن العلماء مهمتهم هي العبادات والمواريث والأحوال الشخصية، فإذاً: ينبغي ألا يتجاوزوا حدهم، هكذا تصوروا. ويرون أن العالم إذا تدخل في الاقتصاد وفي السياسة وفي جوانب الاجتماع وغيرها فقد تخطى وتجاوز حده. إذاً: هذا مفهوم أغلبهم، وهو مفهوم راسخ، ومن هنا ائت نظرتهم إلى العلماء، هذا شيء. الشيء الآخر: أن الإنسان إذا أشرب بهوى وضاق من التدين نظر إلى العالم نظرة المستثقل، فهم بطبيعتهم غالباً غير متدينين، وغير ملتزمين بالدين، تؤذيهم الاستقامة، فمن هنا كان من الطبيعي أن ينظروا إلى العالم نظرة الرجل الثقيل عليهم؛ لأن العالم هو قدوة المتدينين، والمتدينون عندهم لهم تجاههم تصور عجيب، كأنهم لا يعيشون بينهم.

نظرة العقلانيين إلى صلة الدين بالحياة

نظرة العقلانيين إلى صلة الدين بالحياة المقدم: يقولون: لماذا يدخل العالم في أمور السياسة أو يدخل في أمور الاقتصاد، وينطلقون من منطلق أن العالم لا يعرف إلا الأدلة الشرعية والنصوص الشرعية، أو المعاملات التي وردت في الفقه الإسلامي، أما الاقتصاد العالمي والنظرة الشمولية فالعالم غير محيط بها. الشيخ: هذا شيء، شيء آخر قبل هذا ناتج عن نظرتهم إلى الدين نفسه، حيث يرون أن الدين لا علاقة له بكثير من شئون الحياة. المقدم: عجيب! الشيخ: نعم، هذا هو الأصل، لكنهم بين مقل ومكثر، فبعضهم يرى أن الدين لا بد من أن يحصر في الأحوال الشخصية فقط، ويصرحون بهذا. وبعضهم يقول: لا، الدين عبارة عن معان عامة مجملة، فهو فضائل وأخلاق، فالدين مجرد توصيات عامة تحكم الحياة، والتفاصيل نأخذها من أي مصدر، ونشرعها من عندنا. وطائفة أخرى تقول: الدين مقبول، ويدخل في جميع جوانب الحياة، لكن يجب أن نفسر الدين كما نشاء؛ وهؤلاء هم الطائفة الأكثر والأخطر. المقدم: أخطر من أي جهة يا شيخ؟ الشيخ: هم أخطر لأنهم يعترفون بأن الدين يدخل في جميع جوانب الحياة، وربما يطالبون بهذا، وقامت على أيديهم جماعات كبرى الآن، وتوجهات وأحزاب. المقدم: ويكون في رأيهم التلبيس على الناس؟! الشيخ: لا، فقد لا يقصدون التلبيس، لكن رأيهم ملبس، فهؤلاء يتحمسون للدين ويدعون إلى تطبيق الدين، لكن عندما تأتي إلى نظرتهم إلى التطبيق تجدهم يريدون أن يتنصلوا من كثير من أمور الدين الكبيرة، مثل الحدود، ومثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد.

نظرة العقلانيين إلى العلماء في ضوء الحضارة المعاصرة

نظرة العقلانيين إلى العلماء في ضوء الحضارة المعاصرة المقدم: لكن كيف نرد عليهم عندما يقولون: ما أدرى العالم بالسياسة، وما أدراه بالاقتصاد، وما أدراه بالمعاملات العالمية؟ الشيخ: هذه مسألة ذات جوانب متعددة، فهم أحياناً ينظرون إلى العلماء والمشايخ من خلال نماذج معينة قد يكون تخصصها أبعدها عن جوانب الحياة الأخرى، فيجعلون هذا النموذج من العلماء الذين ليس لهم تبصر في جوانب الحياة -وإن كانوا قلة- عندما يجيب أحدهم أو يتكلم لا يجيد عندهم، وربما كان هذا راجعاً إلى تقصيرهم؛ لأنهم لا يحسنون العرض على العالم، هذا جانب. الجانب الآخر: أنهم يرون أن العلماء يجب عليهم أن يحلوا جميع المشكلات الجزئية في التخصصات، وهذا خطأ، فليس على العالم أن يدخل في كل تخصص، وأن يكون أسبق إليه، فالعالم ما هو إلا عبارة عن مرجع يقدم له أهل الاختصاص ما عندهم من علوم بأسلوب يتناسب مع القواعد الشرعية. المقدم: هذه نقطة مهمة نود أن توضحها يا شيخ. الشيخ: نعم، هذه مسألة يمثلها -مثلاً- المجمع الفقهي، فالمجمع الفقهي الآن يمثل علماء العالم الإسلامي تقريباً، وهو يعتبر نموذجاً تقوم به الحجة على العلمانيين وأمثالهم؛ لأنهم ما خدموه، ولو خدموه لأبدع وحل أكثر النوازل، بل كل النوازل المعاصرة. فالمجمع العلمي تعرض عليه أي قضية معاصرة ليست من اختصاص علماء الفقه وعلماء العقيدة، فيرجعون فيها إلى المتخصص، فيعرض وجهة نظره، ثم يحكمون على ضوء هذا العرض. المقدم: سواء أكانت مسألة اقتصادية أم مسألة طبية أم غير ذلك؟ الشيخ: أي مسألة طبية أو اقتصادية، وفي أي علم من العلوم في الأرض والآفاق. المقدم: إذاً: العلماء يحترمون التخصص؟ الشيخ: نعم، العلماء يخدمون التخصص، لكن هذا العلماني لا يريد أن يعرض عليهم كل شيء، ولذلك يكبلون المؤسسات الدينية، فالعلمانيون في جميع العالم الإسلامي يحولون بين العالم وبين أن يكون عنده مؤسسة دينية تخدمه، فلا يوفرون له الوسائل؛ لأنهم يدعون أن العلماء عندهم قصور في استخدام الوسائل، وهل الطبيب يستطيع أن يوفر وسائل الطب وحده؟ المقدم: أبداً. الشيخ: إن الدولة والمؤسسات العلمية والثقافية هي التي توفر له ذلك، أليس كذلك؟ المقدم: بلى! الشيخ: إن هذه المؤسسات ما وفرت للعالم الآلية التي تجعله يقدم اجتهاده في كل قضية. وبعضهم يعرف هذا ولا يريده، وبعضهم لا يعرفه، يظن أن العالم لا بد له من أن يكون طبيباً ومهندساً وكيميائياً وفيزيائياً، وهذا ليس بصحيح. فإذا كنت صاحب الاختصاص فلا بد من أن ترجع باختصاصك إلى العالم لتجد عنده الجواب، وإذا ما وجدت الجواب عن واحد ستجده عند مجموعة؛ ولذلك فالقضايا المعاصرة إذا كانت كبيرة لا تحل غالباً عن طريق عالم واحد، بل يحلها العلماء الراسخون مع المختصين. وهذا الموضوع مهم جداً وإن كانت مناسبته بعيدة، وأنا أرى أنه من الأشياء التي ينبغي أن يفهمها المشاهد، وأرجو أن يسمعني كثير من طلاب العلم ومن المسلمين الذين يهمهم أمر الأمة. إنه يجب علينا أن نسعى إلى توفير الوسائل والتقنيات الحديثة لمراكز العلم والعلماء، مثل هيئة كبار العلماء، ومثل المجمع الفقهي، ومثل المؤسسات التي بدأت الآن تجمع فقهاء الأمة عبر مؤسسات علمية وإعلامية وثقافية ومراكز بحوث بدأت تظهر ولله الحمد، فهذه المنظومة من المؤسسات المتنوعة يجب علينا أن نتوجه إلى أن نعرض من خلالها مشاكلنا على العلماء؛ لنقطع الخط، ونقطع ألسنة هؤلاء المتقولين الذين يزعمون أن العلماء لم يعد لهم دور إلا الدور الهامشي، كما صرح به بعض رءوسهم اليوم.

هجوم العقلانيين على العلماء وجرأتهم عليهم والموقف المطلوب إزاء ذلك

هجوم العقلانيين على العلماء وجرأتهم عليهم والموقف المطلوب إزاء ذلك المقدم: من وسائل إسقاطهم للعلماء أن العالم لو رد على أحد منهم في صحيفة أو في كتاب أو في موقع إنترنت نجد أنهم يردون على هذا العالم جماعات وفرادى، وقد يكون منهم أشخاص مشهورون، أو أناس نكرات لا يعرفون، أليس في هذا تهجم على العالم ومحاولة إسقاط له؟ الشيخ: بلى! فهذه -والله- معضلة كبيرة، وأنا أناشد المسئولين عن الإعلام في بلادنا وفي جميع البلاد الإسلامية، فكما شرعوا أنظمة تحمي الإعلامي والصحفي وتحمي حتى بعض الحيوانات، عليهم أن يسعوا إلى حماية مرجعية الأمة؛ لأن هذا من الثوابت الضرورية، فإذا كانوا يقولون: نخشى من خلل الأمن من خلال الغلو، أو نخشى من خلل انفلات الأمة وتفرقها؛ فإن من أعظم أسباب الفرقة المعلومة اليقينية شرعاً وواقعاً حجب الأجيال عن مرجعيتها. ومن ذلك أيضاً جرأة بعض الكتاب على العلماء الكبار بأسلوب غير مؤدب، ونحن لا نقصد الرأي والرأي الآخر في الاجتهاديات، بل نقصد الجرأة على الطرح بأسلوب يستنقص قدر العلماء، مع أنه لو كان هذا الاستنقاص لمفكر كبير من العلمانيين لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها. المقدم: صحيح. الشيخ: فعندما يعرِّض شخص بـ طه حسين وله زلات كبرى، أو يعرض -مثلاً- بـ محمد عبده وله زلات كبرى -غفر الله لنا ولهم- يقيم هؤلاء الدنيا ولا يقعدونها. وعندما يُتعرض لعالم -تحتاج إليه الأمة اليوم أكثر من أي وقت مضى- لا نجد من يحميه، فلا الصحافة ترشد هؤلاء، ولا وسائل الإعلام، بل تجرئهم وتشجعهم. المقدم: وأحياناً قد يكون ذلك وسيلة لابتزاز أموال الناس وشراء الصحيفة؛ لأنه يهجم على الشخصية الفلانية أو العالم الفلاني. الشيخ: هذا من الأساليب أو من الأسباب، لكن ليس هو السبب الأساسي. إن لهم أشياء مقننة لا يتخطونها، فكيف يتخطون هذا الثابت من الثوابت؟! وأنا أقول: كل أمة من الأمم الآن تحمي علماءها، فكيف وديننا يأمرنا باحترام العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وأهل الذكر، ومرجع الأمة، وهم مع الولاة بعد الله صمام الأمان؟! المقدم: صحيح، فكما يحرص أولئك الإعلاميون على أن لا يمس الحكام وولاة الأمر بسوء، عليهم أن يحرصوا على أن لا يمس العلماء بسوء. الشيخ: حتى رموزهم لا يمسون إلا بطرائق معينة، فهم الآن يغربلون -فيما أعلم- ما يرد ضد رموزهم، فلماذا هذا وحقوق العلماء أكبر من كل ذلك؟! المقدم: صحيح.

نظرة العقلانيين إلى ثوابت الدين

نظرة العقلانيين إلى ثوابت الدين إذاً: واضح موقفهم من المرجعية الشرعية، ومحاولة إسقاطها، لكن يأتينا سؤال آخر: هل لهم موقف واضح من ثوابت الإسلام وأصول الاعتقاد؟ الشيخ: كل كلامنا حول هذا الموضوع، وقد يطول الكلام في هذا، لكن المستقرئ لتراث أو إنتاج هؤلاء العلمي يدرك ذلك، وقد تذهب الكلمات العابرة، والمشاركات العابرة في الفضائيات أو في غيرها قد تكون نتيجة ارتجالات، ولكن سنحاكمهم إلى الكتب والمقالات والبحوث. فسنجد -إذا نظرنا إلى مجموع ما يكتبون وما يقولون وما يبحثون وما يطرحونه طرحاً جاداً- أنهم يرون أن جميع ثوابت الدين ليست ثوابت؛ بمعنى أنها قابلة للنظر. المقدم: كأنها متغيرات عندهم. الشيخ: قابلة للنقاش. الشبهة الثانية -وهي الأخطر: أنهم يزعمون أو بعضهم أو كبارهم- أنه لا شيء هناك يتفق عليه، وأخص بذلك الحداثيين، فالحداثيون يزعمون أن كل شيء متغير، وأن الثوابت هذه ما هي إلا تقارير وأوهام وأساطير التاريخ. وهذا ناتج عن زيغ إن كان متعمداً، أو عن جهل مطبق ولذلك قلت: هؤلاء أغلبهم من أصحاب الجهل المركب؛ لأن المرء منهم جاهل ولا يدري أنه جاهل بالدين. إذاً: هم يقولون: مساحة الثوابت غير مستقرة، وهذا فهم خاطئ، فنحن نقصد بالثوابت الأمور المستقرة الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. وإن اتسع وقت المستقبل -إن شاء الله- فسأسرد نماذج الثوابت التي لا خلاف عليها؛ لأجل أن يفهم أني لا أتكلم من فراغ. المقدم: حتى لا يقال: يتكلم عن علم ولا يعرفه. الشيخ: مثلاً: أركان الإيمان، فهم عندهم شك في بعض أركان الإيمان، فيخوضون في القدر وينكرونه. وعندهم شك في مسألة النبوة والوحي، فالوحي يهدمونه هدماً، وأصلحهم -إن صح التعبير- ممن أعرف من الكبار يقول: الوحي عرفان يجده الشخص من نفسه، وقد لا يُفهَم هذا الكلام بدقة، لكن قصدي أنه يرى أن الوحي صادر عن بشر، وهذا من كبارهم ومن مراجعهم في العصر الحديث. الأمر الآخر: أنهم يكثرون الشكوك حول الثوابت، فبعضهم قد لا يستطيع أن يهدم، ولكنَّه يشكك، ويدخل في محارات الأمور المعضلة حول الثوابت ليثير الشبهات.

أنموذج الحدود شاهد على تجاوز العقلانيين لثوابت الدين

أنموذج الحدود شاهد على تجاوز العقلانيين لثوابت الدين المقدم: لو أخذنا مثالاً حتى يتضح كيف يحاولون أن يشككوا في هذه الثوابت. الشيخ: مثل الحدود، أليست من ثوابت الدين؟ المقدم: بلى! الشيخ: أغلبية العلمانيين لا يطيقون مجرد أن تتكلم عن الحدود، فكيف تكون ثابتاً من الثوابت عندهم؟! ولا يتصورون أن الحدود تصلح في هذا العصر؛ ولذلك عطلت في أكثر البلاد الإسلامية، وأما في بلادنا -ولله الحمد- فلا تزال قائمة، وأنا أسأل الله عز وجل أن يثبت ولاتنا على هذا المنهج، وأنا أعرف أن الدولة -وفقها الله لكل خير- تلقى من المضايقات والهجوم الشيء الذي تحمد على الصبر عليه، فقد صبرت وصابرت ولا تزال تدافع، وبدلاً من هذه الأقلام التي تسلط على الحدود نحتاج إلى هذه الأقلام التي تدافع عن الشرع وعن الحدود. فهم لا يستسيغون الحدود، ويرون أنها من الأمور التي طبقت في عهد من العهود الإسلامية ولا تصلح في هذا العصر؛ فلذلك سموا بالعصرانيين. المقدم: من أنكر حداً من الحدود فما حكمه يا شيخ؟ الشيخ: الحدود الثابتة لا شك في أن إنكارها. المقدم: إذاً: هم على خطر عظيم، فهي مسألة إسلام أو كفر. الشيخ: هذه من الأمور التي ليست محل خلاف، ولئلا يلتبس الأمر علينا، يجب أن نعرف أن الكفر كفران: كفر لا مجال للنقاش فيه؛ ككفر من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وككفر إنكار الثوابت، ومنها الحدود، وهناك كفر هو محل خلاف. فأغلب صور الكفر هي محل خلاف، وكفر دون كفر. إذاً: فإنكار حد من حدود الله كفر لا شك فيه، وهذا محل إجماع بين العلماء المعتبرين.

نظرة العقلانيين إلى الوحي والنبوة

نظرة العقلانيين إلى الوحي والنبوة المقدم: لكننا نلحظ في موقفهم من القرآن الكريم هم لا ينكرون القرآن، ولكن يحاولون أن يفسروه بتفسير خاص لهم. الشيخ: ينبغي أن نسلسل أفكارهم بإيجاز حول نظرتهم إلى الوحي كله: القرآن والسنة. فنظرتهم غالباً تقوم على أن هذا إنتاج إنساني، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندهم رجل عبقري، يقول هذا من يحسن الظن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فبعضهم قد يرميه ببعض النقائص. المقدم: رجل عبقري؟! يعني: ليس بنبي عندهم؟! الشيخ: النبوة عندهم تعني أنه اشتمل بقوة عبقريته وحدسه وقوة فراسته على الوحي؛ فصار هذا هو النبوة. المقدم: هذا عند الغلاة منهم؟ الشيخ: هو -حسب تقديري- في الأغلبية، لكن بعضهم لا يعبر بهذا التعبير، وبعضهم يوجد في مفاهيمه، فليس هذا كلامه، لكن هذا لازم كلامه، فلازم موقفهم أنهم يرون أن النبوة ما هي إلا عبقرية، وما هي إلا جهد إنساني من إنسان فذ يسمونه مصلحاً. وكذلك القرآن لا يرون أنه كلام الله حقيقة، وهنا امتداد لقول المعتزلة، لكن قد لا يفقهون قول المعتزلة بحذافيره، يعني: يرون أن القرآن نتيجة البيئة ومؤثراتها ونتيجة حلول مشكلات معينة، وليس عندهم تصور أن القرآن كلام الله، وأنه -أيضاً- يتضمن شرع الله، وأن القرآن دستور الحياة إلى قيام الساعة، وأن القرآن يعالج جميع أمور الحياة صغيرها وكبيرها، ليس عندهم هذا التصور.

منهجية دعوى الفهم الخاص للقرآن عند العقلانيين

منهجية دعوى الفهم الخاص للقرآن عند العقلانيين المقدم: بعض العقلانيين عندنا قد يقول: أنا أؤمن بالله عز وجل، وأؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأؤمن بأن القرآن هو كلام الله، لكن هذا القرآن فهمه أبو بكر رضي الله عنه بفهمه الخاص، وفهمه الحسن البصري كذلك، وأفهمه أنا بفهم خاص! الشيخ: هذه من معضلاتهم، وهذا دليل جهلهم؛ فنصوص القرآن وما صح من السنة منها ثوابت ليست قابلة للجدل في نصها ومفهومها، وليست محلاً للنقاش. ومنها نصوص هي عبارة عن قواعد للشرع، فتطبيق جزئيات الحياة على ضوئها يحتاج إلى اجتهاد المجتهدين الذين يملكون القدرة على الاجتهاد، لماذا؟ لأن النصوص يفسر بعضها بعضاً، ويبين بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، وبعضها ناسخ وبعضها منسوخ، فمن الذي يستطيع أن يميز بعضها عن بعض؟ إنه العالم الذي يدرك هذا كله. ثم إنهم ليس لهم قاعدة في الاجتهاد، بمعنى أن فقهاء الإسلام كلهم عندهم قواعد في الاجتهاد منضبطة بضوابط الشرع، وأما هؤلاء فليس عندهم قاعدة. ثم إننا لو تركنا كلاً يفسر القرآن برأيه؛ فمعنى هذا أننا أسقطنا المرجعية الأساسية، مرجعية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي فسر القرآن بقوله وفعله وتقريراته، وكذلك الصحابة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكونوا قدوة، وكذلك سبيل المؤمنين، فهذا عبارة عن حيدة عن الدين بحيلة، وخروج عن مقتضى الدين بحيلة أني أفهم كما يفهمون، وأننا رجال كما أنهم رجال، ولكن هل الرجال كالرجال؟! المقدم: وهذا فيه إسقاط لثوابت الإسلام ونصوص الشريعة. الشيخ: لا شك في أن أكبر وسيلة مريحة لهم تقرب لهم سبيل الهدم هي أنهم يقولون: هذه النصوص ننظر إليها كما ينظر إليها الآخرون. فنقول: نعم، تنظرون إليها بشروط، فأنا -مثلاً- لست متخصصاً في الأدب؛ لأجرؤ على أن أتناول النقد الأدبي كما يتناوله أصحابه، ولو تجرأت عليه لعابوني كلهم، فكيف بالشرع؟! وكيف بالدين الذي له قواعد وأسس شرعية ثابتة، رسمها القرآن ورسمها النبي صلى الله عليه وسلم ورسمها سلف الأمة؟! فلماذا يتجاوزون التخصص في القول على الله بغير علم وهم من أكثر الناس حرصاً على أن لا ينقدوا في جوانب التخصصات الأخرى؟! إن الأديب لا يقتحم الطب، ولو اقتحمه عابه أصحابه قبل الآخرين، فلماذا يقال في الشرع الذي هو دين الله وله أسس ثابتة في الاستدلال بغير علم؟ كيف نأخذ بالنصوص؟ وكيف نستدل بها؟ وكيف نعرف النص الذي يستدل به والنص الذي لا يستدل به؟ إنها أمور يعرفها كل عاقل بفطرته. فهم تجاوزوا الحق بدعوى أننا نجتهد كما يجتهد الآخرون.

موقف العقلانيين من شمولية الشريعة

موقف العقلانيين من شمولية الشريعة المقدم: ننتقل إلى نقطة أخرى جوهرية في هذا الموضوع، وهي أن لهم موقفاً تجاه الصلة بين الدين والحياة، وتجاه شمولية هذه الشريعة، فما تعليقكم على ذلك؟ الشيخ: هم درجات، لكن غالبهم لا يرون أن الدين يحكم جميع أمور الحياة. المقدم: هذا الغالب. الشيخ: هذا الغالب، وهذا هو المنهج الذي هم عليه، لكن منهم أناس فيهم تدين تأثروا بالفكر، ومنهم أناس يدارون الآخرين، ومنهم أناس يستصعبون إخراج المجتمعات مما ألفته؛ فيأتون ويقولون: نحن نأخذ بعموم الدين، لكن الدين مفاهيم عامة، وقواعد، ونظم مشتركة، فدعونا من الجزئيات. فيتنصلون من الدين بهذه الدعوى، وأغلب هؤلاء من أصحاب الغفلة، أغلبهم ليسوا من أصحاب النيات والأهواء، بل من الذين انخدعوا بهذا التوجه. المقدم: كأنك تشير إلى -يا شيخ- أن أغلبهم يريدون فصل الدين عن الحياة. الشيخ: هذا هو الأصل عندهم، فصل الدين عن الحياة جزئياً أو كلياً هو الأصل عندهم، وهذا هو المنهج، لكن يتفاوتون. المقدم: لكن عندما ننظر الآن إلى نظرتهم لشمولية الشريعة، وأن الدين لا بد له من أن يسود جميع نواحي الحياة، ألا يرى هؤلاء القوم -من خلال معرفتك لهم -يا شيخ- ودراستك حول هذا الموضوع والبحث في هذا الأمر- ألا يرون أن هذا يعد من الكفر، أي: فصل الدين عن الدولة، أو عن الحياة. الشيخ: المشكلة أن هؤلاء بعيدون عن قضية الكفر، لا يميزون بين الكفر وغير الكفر، وأغلبهم يتعاطف مع الكفار من حيث طرح مناهج الحياة أكثر من تعاطفه مع المسلمين. إن المسلمون عندهم مشاكل جعلت هذا الصنف يحكم على المسلمين من خلال مشكلاتهم، ولا يفصل الدين عن واقع الناس، فالناس انحرفوا، وكثير من المسلمين انحرفوا، فهو يحكم على الدين من خلال واقع الأمة، فمن هنا تجد ميله إلى الغربيين وميله إلى الكفار أكثر من ميله إلى المسلمين. كما أنهم ليس عندهم تمييز حدي بين الإسلام والكفر، ولا بين المسلم والكافر، فكيف نتصور منه أنه يرى أن عزل الدين عن الحياة كفر؟! إنه يرى أن عزل الدين عن الحياة من سنة التطور، ومن مقتضى الحياة، وفحوى الشريعة، وانظر إلى هذه الكلمة المائعة، فما معنى فحوى الشريعة؟! إنه الهوى.

أعمال الإسلام الظاهرة لا تشفع للأفكار الخبيثة

أعمال الإسلام الظاهرة لا تشفع للأفكار الخبيثة المقدم: بعضهم يقول: يا جماعة! أنتم تصفوني باللبرالي أو العقلاني مع أني أصلي وأصوم وأزكي وأحج مع المسلمين، فهل هناك تعارض بين هذه الصفة وهذه الأفعال؟ الشيخ: أولاً: يجب أن نفرق بين الصفة بالعموم وبين الأفراد، فنحن نتكلم عن مناهج وعن جماعات أو فرق أو أحزاب أو توجهات، ولكن عندما نأتي للأفراد يجب أن نتثبت ونتحقق. المقدم: أهل هذا التوجه بعمومهم يقولون: نحن نصلي وندين الله عز وجل، ولكن هذه أفكار عامة لنا. الشيخ: علينا أن نحكم موازين الشرع، فالشرع ما دل على أن إقامة الصلاة فقط هي الدين، وما دل على أن إقامة شعائر الإسلام الظاهرة فقط هي التي تحتسب ديناً. إن إقامة الشعائر العامة يستوي فيها المؤمن الكامل مع المنافق الذي هو في الدرك الأسفل من النار، الذي ذنبه أعظم من ذنب المشرك. فليس كل من جاء ليخدعنا بمثل هذا الأسلوب ننجرُّ معه ونقول: أي والله هو يصلي ويصوم! نعم نحن لا ندري بحاله كفرد. وأوجه كلامي للإخوة المشاهدين، فأقول: الفرد ما أمرنا بتتبع حاله، لكن إذا ادعى هذه الدعوى فهو الذي ورط نفسه، فإذا قال: هذه أفكاري، لكني أصلي وأصوم؛ فإنا نقول: نحكم عليك من الوجهتين: فكونك تصلي وتصوم يجعلك من المسلمين ظاهراً، لكن حينما أعلنت الفكر الآخر حكمت على نفسك، ونقضت عملك بقولك أو بعملك. فإذا كان الدين يشمل الأمور العبادية وغير العبادية؛ فسنحاكمهم بأفكارهم، وإن صلوا وصاموا، أو أقروا بالصلاة والصيام، مع أنهم في عمومهم -نسأل الله أن يهديهم- من أبعد الناس عن إقامة شعائر الإسلام.

الاحتكام إلى الموازين الشرعية قاعدة الحوار مع العقلانيين

الاحتكام إلى الموازين الشرعية قاعدة الحوار مع العقلانيين المقدم: منهم من حاول أن يستدل على مناهجه بأدلة شرعية هو يراها، كما في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) وغيره، ويقول: كما أنكم -أيها العلماء- ألفتم فنحن ألفنا. الشيخ: نحن نحكم الموازين الشرعية في هذا وذاك، والموازين الشرعية ليست قولي ولا قوله، إنما الموازين الشرعية هي مقررات الإسلام، فينبغي عليه أن يتعلم مقررات الإسلام، فإن خضع لها تحاكمنا إليها، وإن لم يخضع لها فمعنى ذلك أن نبحث عن الحد الأدنى لنتفق نحن وإياه عليه ثم نتدرج معه، وهذا يسمى أسلوب الحوار، ولذلك أرجو من الشباب من طلاب العلم الذين يدخلون في الحوار ألا يستعجلوا في الحوارات، بل ينبغي أن يعرفوا أسلوب الحوار والجدل وطريقته. فلكل فئة من الناس أسلوب في الحوار، فهؤلاء العلمانيون واللبراليون ونحوهم من أصحاب هذا التوجه يحتاجون الآن إلى تخصص ينبري لهم، وقد ظهرت الآن دراسات جيدة ورسائل، ولكنها ما وصلت إلى حد وضع أساليب التطبيق بالشكل الكافي، فأنا أقول: يمكن أن نجيبهم على هذا فنقول: إلى أي شيء نحتكم؟ فسنأتي لهم بأولويات الإسلام، وبأوليات الثوابت، ونتدرج معهم، فما أقروا به نقف عنده، ثم نناقشهم على ضوئه، وإلا فسيبقى الكلام عائماً، وهذا عبارة عن ضياع للوقت فعندما يدعي أنه كذا وكذا ثم نأخذه بدعواه، فإننا نتحقق من دعواه، فهل دعواه صادقة، فإذا قال: أنا أحتكم للكتاب والسنة نقول: إذاً ما طريقة رجوعك إلى الكتاب والسنة؟ المقدم: كأنك تنادي -يا شيخ- بإيجاد دراسات وكتب تحاول أن تأخذ شبهات هؤلاء القوم وترد عليها بطريقة حوارية. الشيخ: منهجية وعلمية، هذا الذي أرى أنه ملح الآن.

موقف العقلانيين من التدين والالتزام

موقف العقلانيين من التدين والالتزام المقدم: المسألة الأخيرة التي نريد أن نتوقف عندها لأن لها صلة بهذا الموضوع هي التدين، فهل عندهم مشكلة مع التدين؟ الشيخ: لا شك، فهذه تنتج عن تلك، هذا شيء. الشيء الآخر: أن أغلبهم أصحاب أهواء، وأغلبهم ممن يحبون الشهوات، ولا يقعون فيها فحسب، فكثير من المؤمنين يقع في الشهوات، ولكن لا يحبها، بل ينفر منها، تجد المتدين قد يقع في شهوة أو يقع في فجور -لا قدر الله-، لكنه يوجد عنده تأنيب ضمير، وأما هؤلاء فمنهج أغلبهم يقوم على استسهال هذه الأمور، على التساهل، وعلى التمييع، وعلى التفريط، هذا هو الأصل. وبناء على هذا فمن الطبيعي أن أي إنسان له مسلك في الحياة ينفر مما يكون ضد مسلكه. فهم يستسهلون الشهوات، خاصة فيما يتعلق بالمرأة وتبرج المرأة، فقضية المرأة أقام أكثرهم الدنيا من أجلها ولم يقعدها. فهو فقط يريد أن يحرر المرأة، أو يريد أن يتمتع بالمرأة، وأنا أقول: هذا هو الغالب من خلال كتاباتهم، وما أدينهم إلا من كتاباتهم، فغالبهم يريد التمتع، ولأجل ذلك هل تجدهم يكثرون الكلام عن المرأة كجدة؟ المقدم: أبداً! الشيخ: أو كطفلة؟ المقدم: أبداً! ولا عن حقوق الزوجة. الشيخ: لا، المرأة يريدونها سكرتيرة، أو مذيعة، هذا هو الغالب. إنني أعلم أناساً هناك يدافعون عن قضايا المرأة، ونحن نعلم أن للمرأة قضية وللرجل قضية. ولذلك أقول طرفة ينتقدني بعض الناس فيها، وهي أنه إذا كان حجم ظلم المرأة (70%)، فمعنى ذلك أن هناك ظلماً للرجل قد يكون بنسبة (30%)، فلماذا لا يكون للرجل جمعية؟ المقدم: ليس لهم هوى في هذا الأمر. الشيخ: ما لهم هوى. المقدم: نكمل -يا شيخ- موقفهم من التدين في الحلقة القادمة. الشكر الجزيل لك شيخ ناصر. باسمكم جميعاً -مشاهدينا الكرام- نتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وفي الحلقة القادمة نكمل هذا الموضوع، ونناقش موضوعاً حساساً وهاماً، وهو موقف العقلانيين من المرأة عموماً، والمرأة المسلمة خصوصاً. وإلى أن نلتقي بكم في حلقة قادمة نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[3]

الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [3] لقد ركب أرباب المدرسة العقلانية وأتباعهم موج الضلال الهادف إلى خلع ربقة التدين عبر نظرتهم الاحتقارية للمتدينين، واعتبارهم التدين أمراً تاريخياً، ومسايرة الغرب في الطعن في الدين، ورفع شعار الرأي والرأي الآخر في كل قضية دينية ودنيوية، والمناداة بحقوق المرأة المحققة لشهواتهم، ورميهم علماء الإسلام بالإقصائية والعدوانية، وغير ذلك من المسالك الخبيثة التي يسعون بها لتحقيق مآربهم.

سبب ضعف التدين والنفرة من المتدينين عند ذوي الاتجاهات العقلانية

سبب ضعف التدين والنفرة من المتدينين عند ذوي الاتجاهات العقلانية

النظرة الدنيا المحتقرة لمضامين الشريعة

النظرة الدنيا المحتقرة لمضامين الشريعة بسم الله الرحمن الرحيم. مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: (حراسة العقيدة). تتميز دعوة الأنبياء بتقديس الكتب المنزلة من عند الله تعالى، وقد أتى هذا الوحي موافقاً للعقول السليمة والفطر المستقيمة، أما دعاة العقلانية فقد دعوا إلى تقديس العقل البشري مع نقصه، وتوهموا التناقض بين العقل والنقل. وللعقلانيين مواقف من قضايا عديدة، أشرنا إلى بعضها في حلقات سابقة، وسنحاول أن نجيب في هذا اللقاء عن عدد من الأسئلة. فهل من مشكلة بينهم وبين التدين ومظاهر الصلاح؟ وما حقيقة دعوتهم لحقوق المرأة وتحررها من القيود الاجتماعية؟ وما السر وراء شعارات حرية الرأي والرأي الآخر الإقصائية، وغيرها من اللافتات التي يرفعونها؟ في حلقة (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها) سيكون محور حديثنا مع الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. أهلاً بكم فضيلة الشيخ. الشيخ: أهلاً بك وبالمشاهدين. المقدم: شيخنا الكريم! تحدثنا عن بعض الموضوعات والقضايا الأساسية، وهذه الحلقة تعتبر الحلقة الثالثة في هذا الموضوع: (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها). في نهاية الحلقة السابقة تحدثتم -حفظكم الله- حول مسألة هامة، ألا وهي: موقفهم من التدين، وأخذنا منكم وعداً باستكمال هذا الموضوع في هذه الحلقة بإذن الله تعالى. الشيخ: الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فموقفهم من التدين هو ثمرة المنهج الذي يقوم عليه هذا الاتجاه بمختلف طوائفه وأطيافه. فنظراً لأن نظرتهم للدين نظرة دونية، وغالباً ما تكون نظرتهم للحياة وللإسلام على أساس تغليب الرأي الشخصي والهوى، أو المؤثرات. وربما تكون المؤثرات الخارجية في هذا العصر هي الأشد، بمعنى أنهم غالباً يستقون أصولهم ومناهجهم ومفاهيمهم وأطروحاتهم من ثقافة واردة أو وافدة، وهذا الاتجاه يقوم على رواد مستغربين، وأقصد بالمستغربين الذين تتلمذوا على الغرب، والأمم الغربية التي لها مواقف مخالفة للإسلام مخالفة جذرية. فهؤلاء الذين هم أصحاب الاتجاهات العقلانية وغيرها ينطلقون من هذه المفاهيم والمنطلقات، فمن هنا تكون موقفهم من الإسلام بوصفه دين، ومن الشريعة بوصفها تطبيقات، ومن العقيدة بوصفها ثوابت، ثم ممن يحملون هذا الدين وهذا الحق اليوم، المستمسكون بالدين، وعلى رأسهم العلماء والعباد. فنظرة هذه الفئة للصالحين نظرة دونية، بمعنى أنهم لا ينفرون من سلوكيات الاستقامة لأنها تتنافى مع رغباتهم وآرائهم فحسب، بل أيضاً يحتقرون المضامين التي يدين بها المستمسكون بالإسلام، فيحتقرون المضامين نفسها التي هي مضامين الإسلام. وإن كنا لا نتهمهم كلهم بأنهم يردون الإسلام، لكن إذا أحسنا الظن ببعضهم فهم يفسرون الإسلام بتفسيرات على ضوء الثقافة الوهمية. فمن هنا كان من الطبيعي أن يكون موقفهم من التدين والمتدينين موقفاً سلبياً، فينظرون إلى المتدينين نظرة سلبية، وينظرون إليهم نظرة احتقار. لكن الكثيرين منهم لا يصرحون بذلك؛ لأنهم -كما ذكرت سابقاً- عندهم نوع من المداراة والتلطف في العبارة؛ لأجل أن تقبل آراؤهم. إذاً: فهم ينفرون من المتدينين ومن التدين لأنه يخالف أهواءهم، ولذلك تجد عندهم مفاهيم معكوسة، فهم لا يميلون إلى الفضيلة بمعناها الشرعي، كالحجاب، والستر، والحياء، ويرون هذه قيوداً، فمن الطبيعي أن ينظروا إلى من يتميز بالحياء والفضيلة وكل معاني الستر من رجل أو امرأة نظرة دنيا.

اعتبار الدين أثرا تاريخيا

اعتبار الدين أثراً تاريخياً الأمر الآخر: أنهم يفسرون أصول الدين وثوابته بأنها موضة انتهت، فكثير من الموروثات تجاوزها الزمن، فجعلوا ثوابت الدين مثل الأدوات التي يستعملها الإنسان، فالإنسان الآن يستعمل أدوات متطورة، فأصبحت الأدوات القديمة آثاراً. فهم يسحبون نفس المفهوم على التدين، فيرون التدين ما هو إلا حشر الإنسان في غابر التاريخ، ثم يتبع هذا أنهم يفسرون التدين -سواء الظاهر والباطن- بأنه عوائد وتقاليد وموروثات، ويصفونه بأنه يحمل سمات الجمود إلخ. وينبني على هذا أمر آخر، وهو أنهم حينما يعبرون عن التدين يعبرون بتعبيرات منفرة، ويرون أن المتدينين يعيشون في أوضاع تجعلهم غير قابلين للتطور، ولا قابلين لمواكبة الحياة إلخ. فهذه التفسيرات صارت توحي إلى الأجيال الذين يتلقون مثل هذه المذاهب والاتجاهات بأن التدين أمر شخصي، وأنه لا يساير الحياة، وأنه ممارسة ينبغي أن تحسب لأصحابها، ولا تعمم.

كيفية دحض افتراءات العقلانيين على الدين والمتدينين

كيفية دحض افتراءات العقلانيين على الدين والمتدينين المقدم: لذلك -يا شيخ- نسمع الآن بعض ألفاظهم مثل الظلامية، والقسوة أو التعقيد، حيث يسمون المتدينين بالمعقدين مثلاً، فكيف نستطيع أن نناقشهم، أو نحاورهم، أو نبين ضلال هذا الكلام؟ الشيخ: أرى أن مثل هذه الأمور لا تناقش بتفصيلاتها، فهذه تحتاج إلى كشف أصولها ومناهجها من ناحية، ومن ناحية أخرى تحتاج إلى أن نعرضها على قواعد الشرع عرضاً واضحاً بالدليل والبرهان العلمي، والاستقراء الدقيق والدراسات والإحصائيات؛ لأن أكثر ما يعتمدون عليه الآن أنهم يوهمون الناس بأن المجتمعات الإسلامية تضيق بالتدين. وقد يكون عندهم نوع من الاستقراء الناقص، والانتقائية غير الرشيدة، فيحشرون هذه الأصول أو المقررات التي يزعمون أنهم وصلوا إليها، ويجعلونها هي المنطلقات لإقناع الآخرين، بينما يكون الأمر خلاف ما يدعون تماماً، وهذا ما سنناقشه بعد إن شاء الله تعالى. وجواباً على سؤالك أقول: إنه ينبغي أن نؤصل، وأن نربط الناس بالموازين الشرعية، وأن نطرح الحلول الإسلامية الشرعية المؤصلة لقضايا العصر؛ لنقطع عليهم خط الرجعة، ونضيق عليهم الهوة، وندحض هذا الادعاء الذي يدعونه.

المسايرة العقلانية للموقف الغربي تجاه المسلمين

المسايرة العقلانية للموقف الغربي تجاه المسلمين المقدم: ألا تلاحظ أن هناك توافقاً بين مواقف هؤلاء العقلانيين وبين ما يراد للأمة من أمم الكفر بالطعن في التدين؟ الشيخ: كيف؟ المقدم: هناك محاولات غربية في عدم تطبيق الشريعة، أو الطعن في المتدينين، فبعض العقلانيين أو المنافقين أصبحوا أدوات لأولئك في تمثيل هذا الأمر واقعاً؟ الشيخ: بعضهم كذلك، وبعضهم يخدم هذا الاتجاه وهو لا يشعر، وكل هذه الاتجاهات تخدم توجهات الأمم الأخرى، خاصة القوى التي أصبحت الآن تسمى قوى عظمى لها هيمنة ظاهرة، فهذه لما صار لها على المسلمين نكاية في هذه المرحلة التي نعيشها، فتحكمت في بعض أمصار المسلمين وفي بعض البلاد الإسلامية تحكماً ظاهراً؛ تقوى أصحاب هذا الاتجاه بها؛ لأنهم ظنوا أن تحكم هذه القوى في بعض الأمة الإسلامية يعني بداية النصر لهم، والعكس هو الصحيح، فهذا بداية نهضة الأمة ورجوعها إلى دينها، لكنهم ينتهزون الفرص، فهم الآن لا يتبنون هذه المناهج بغير قصد، بل أغلبهم يتبنونها بقصد الطرح الغربي المعادي للأمة، ولكن يصبونه في قوالب الإصلاح، وفي قوالب التطوير، وفي قوالب التنوير، وفي قوالب المسايرة إلخ.

انتهاج دعوى الإقصاء سبيل العقلانيين في طمس معالم الحق

انتهاج دعوى الإقصاء سبيل العقلانيين في طمس معالم الحق المقدم: أيضاً يقولون: عندما تحبون أنتم التدين لماذا تقصون الآخر؟! وهذا أيضاً من الشعارات الزائفة. الشيخ: هذا من أكبر الشعارات الهدامة أو الفعالة، فهم يعتبرون صمود أهل الحق على الحق، ويعتبرون إظهار الحق والاعتزاز به، ويعتبرون إنكار الباطل -حتى وإن كان بحكمة ورفق- إقصاء. وأهم من هذا اعتزاز الأمة بدينها، واعتزاز المسلم بسلوكه الإسلامي، والانتماء للدين الحق، والانتماء للسنة والجماعة، ويتبعه التدين بمعنى التمسك بالإسلام، فهذا كله يسمونه إقصاء للآخر، فإذا كنت تعتز بدينك، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتناصح الآخرين، وتبين الضلالة للناس لئلا يقعوا فيها، وتبين الحق وتدعو إليه؛ اعتبروا هذا نوعاً من التميز غير المشروع، ويترتب عليه الإقصاء للآخر. ولذلك دعني أقف وقفة عند مسألة الإقصاء، فأقول: أولاً: يجب أن نعرف أنهم يقصدون بالإقصاء: إنكار الباطل بأي صورة من الصور، كإنكار عقدي، أو إنكار علمي، أو إنكار وجداني، أو إنكار بالسلوك، فأي إباء للباطل بجميع صوره -حتى الصور الجزئية الصغيرة- يعتبرونه نوعاً من الإقصاء لأهل الباطل، ولعل هذا -إن شاء الله- يمر منه نماذج في خلال الحلقات القادمة بقدر ما يتيسر. والحقيقة أنا لو أخذنا هذه الدعوى بالميزان العلمي الموضوعي المتجرد بالتتبع والإحصاء والاستقراء؛ لوجدنا أنهم هم الذين يمارسون أقصى وأقسى أنواع الإقصاء. المقدم: عجيب! الشيخ: أي نعم؛ لأن الإقصاء إذا أخذناه -أولاً- بالمفهوم اللغوي فإنه يعني: رفض الآخر، وهذا الرفض إذا كان ينبني على أسس علمية وشرعية فهو أمر طبيعي فطري في بني الإنسان. بل الإقصاء هو الحاصل عند الذين يتباهون بديمقراطيتهم الآن، فهم يمارسون أقصى درجات الإقصاء. المقدم: مثل ماذا يا شيخ؟ الشيخ: مثلاً: لما أراد الغرب أن يدخل في هذه الحرب الاستباقية أعلن مبدأ: (من لم يكن معي فهو ضدي)، أليس هذا إقصاء للبشرية؟ المقدم: بلى. الشيخ: حتى الذين انساقوا مع هذا التيار من الأمم رغبة أو رهبة -أو لاجتماع المصالح على المسلمين- هم -في الحقيقة- يعانون من الإقصاء، ولولا القوة والهيمنة لأعلنوا ذلك. فهذا هو الإقصاء بأعلى درجاته: إقصاء اليهود للأمم الأخرى، وإقصاء الدول الغربية التي تحمل لواء الصليبية والحرب على الإسلام، فهذه أعلى درجات الإقصاء ممن يمجد هؤلاء ويرى أنهم مثال وأنموذج للديمقراطية، فالديمقراطية الآن تحمل بأصحابها لا بمعناها، فمعناها يحتاج تفصيل؛ إذ الديمقراطية تحمل معاني صحيحة ومعاني باطلة، لكن أقصد الديمقراطية كشعار يمارس أصحابه اليوم -ومنهم هؤلاء العقلانيون عندنا- أقصى درجات الإقصاء للآخر، هذا أمر. الأمر الآخر: نجد أنهم -بناءً على ما سبق من الكلام الماضي- يمارسون الإقصاء -في الحقيقة- من خلال نفورهم وازدرائهم وسخريتهم من المؤمنين ومن الصالحين، وهذا ظاهر، وهو ما نهج عليه أسلافهم خصوم الأنبياء الذين قالوا لنوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ} [هود:27]، فمن هم الأراذل عندهم؟! إنهم أتباع نوح عليه السلام خيار الخلق في جميع أنواع الخيرية، والخيار من أتباع الأنبياء ليسوا -كما يتوهم هؤلاء- عبارة عن عباد يتقوقعون في زوايا المساجد، بل هم رواد الحياة، تجدهم ينشطون في أمور الدنيا والدين؛ ولذلك كابدوا وجاهدوا وأقاموا حضارات. أعود فأقول: هم يقصدون بالإقصاء: الولاء والبراء الذي قرره الله عز وجل في كتابه، وهو من ثوابت الدين، ويقصدون بالإقصاء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون بالإقصاء: الأحكام الشرعية التي يقول بها المتدينون، وتقسيم البشر على ضوء التقسيم الشرعي، أي: مؤمن وكافر، ومستقيم وفاجر، مع أن هذا الأمر لا نمارسه كتسلط على العباد، بل نحن نحكم بأحكام الشرع. ولا يفوتني في نهاية هذا التعليق أن أشير إلى مسألة مهمة ينبغي أن أذكرها في كثير من المواضع التي تحتاج إليها، وهي أن هؤلاء الذين يتهمون الأخيار بالإقصائية قد يتذرعون ويستدلون ببعض المواقف الفردية للمؤمنين، كبعض المواقف الفردية لأهل الحسبة، أو بعض المواقف الفردية للدعاة، أو غيرهم من عامة المسلمين، فيستدلون بالمواقف التي تخرج عن المنهج، فيأخذونها ويجعلونها ذريعة لاتهام المؤمنين بالإقصائية، واتهام المتدينين بالإقصائية. أقول: هذه التصرفات والسلوكيات ليست على المنهج، ونحن نحكم بحكم الإسلام في التفريق بين تصرف البشر والمنهج، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بالحكمة، ونجاهد في سبيل الله إذا توافرت عندنا شروط الجهاد، ونناصح الخلق بما أمر الله به، وندعو الناس، كما أننا نعتز بديننا، ونعتز بمقوماتنا، واعتزازنا لا يعني احتقار الآخرين، بل يعني دعوة الآخرين للحق.

الممارسات الديمقراطية حل غربي لغياب المنهج الشرعي

الممارسات الديمقراطية حل غربي لغياب المنهج الشرعي المقدم: هم -كما ذكرت يا شيخ- يقصون المجتمع الإسلامي بأكمله، فهناك مجتمع يريد تطبيق الشريعة، ويريد أن يعود إلى دين الله عز وجل، وهم يمارسون أحياناً -بالسيطرة على صحيفة إعلامية أو نحو ذلك- نوعاً من الإقصاء، ويلبسون على الناس بأن المجتمع هو الذي يطالب بهذا الأمور. الشيخ: هذه أيضاً نقطة منهجية، والحقيقة أنه ينبغي أن ندرك الفرق بين المجتمعات المسلمة التي تدين بالإسلام حقاً، وبين المجتمعات التي ليس عندها دين كالإسلام إلهي شامل، وإلا فغالب الأمم الآن تدين بديانات، أليس كذلك؟ المقدم: بلى. الشيخ: لكن ليس هناك دين يحمل منهج الحق الكامل المعصوم الشامل إلا دين الإسلام؛ لأنه دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الباقي المحفوظ. فيجب أن نفرق بين المسلمين وغير المسلمين في مسألة حرية الفرد، أو الممارسة الديمقراطية. فنحن أمة ذات اختصاصات، ففي مصالح الأمة العظمى، والمصالح الشرعية، والمصالح الكبرى وما يتعلق بأمن الأمة وما يتعلق بولايتها، وما يتعلق بالمرجعية، وما يتعلق بحفظ الجماعة، وما يتعلق بحفظ البلاد ومقدَّراتها؛ في كل ذلك لا يستشار الناس، ولا نريد أن نصير مثل أمريكا وأوروبا؛ حيث يكون الرئيس أحياناً دمية في توجهات الغوغائية. نعم، تكون الاستشارة فيما يتعلق بمصالح دنيا الناس، كالمجالس البلدية ونحو ذلك مما يتعلق بحقوق الأفراد. المقدم: مجلس الشورى كذلك. الشيخ: أي نعم، والمراد الشورى التي تكون عن طريق الناس الناضجين، فهذه أطر شرعية صحيحة، لكن لا يستفتى الناس في القضايا المحسومة شرعاً، فهذا غلط، فالديمقراطية لا تدخل في ثوابتنا؛ لأن الله عز وجل هو الذي قررها، والديمقراطية لا تنفي حقاً مما ثبت في الشرع، ولا ينبغي أن تفرض علينا باطلاً. إن الغرب ليس عندهم دين يرتكزون عليه، فمن هنا احتاجوا إلى أن يستشير بعضهم بعضاً، ومع ذلك فإن تماديهم في الديمقراطية في القضايا الكبرى والمصالح العظمى أوقعهم في مشكلات ربما تؤدي إلى سرعة انهيارهم، ومع ذلك نقول: هذا أمثل ما يمكن أن يصل إليه الغربيون وغيرهم من الدول التي تحكم بذلك، فأمثل ما يصلون إليه هو هذا الطريق الديمقراطي، أما نحن فنأخذ من الديمقراطية ما يحقق الشورى بضوابطها الشرعية. ولا نلغي الفرد، ولا نقيد حريته، لكن حريته منضبطة بالإسلام، ولا ننتهك الثوابت باسم الديمقراطية. إن بعض الصور الديمقراطية تعتبر قريبة من النكتة، لكن وراؤها ما وراءها لو أخذت الأمور بدراسات. ففي بعض الدول الإسلامية التي استشيرت فيها الغوغائية في بعض القضايا دون الرجوع إلى الشرع وصلوا إلى نتائج مخزية. وأذكر أن أحد الباحثين في إحدى الدول قال: إنَّه في الدولة الفلانية كان من أسباب ترشح امرأة للرئاسة أنَّ صورها عرضت بشكل عاطفي في الشوارع وغيرها. فهذا استهوى شباباً، واستهوى بعض البسطاء لمجرد الصورة والشكل، وهذا يدل على عدم نضج، فهل هذا طريق شرعي؟ المقدم: لا. الشيخ: ليس طريقاً شرعياً، فهذه الأمور الكبرى تسند إلى أهل الحل والعقد، والديمقراطية معتبرة لكن في حدود، مثلما فعل الخلفاء الراشدون في ضبط الشورى.

تعميم الرأي والرأي الآخر شعار المدرسة العقلانية

تعميم الرأي والرأي الآخر شعار المدرسة العقلانية المقدم: من الشعارات التي نريد أن نتحدث حولها -شيخ ناصر - شعار نسمعه كثيراً في وسائل الإعلام، حتى في مجالس الناس، وهو (الرأي والرأي الآخر)، فهل هو شعار حقيقي؟ الشيخ: الشعارات ينبغي أن تؤخذ دائماً بشيء من الموضوعية والتقعيد، لكن الحقيقة أنَّ أصحاب هذه الاتجاهات العلمانية واللبرالية ونحوها من الذين ليس عندهم فقه للإسلام حقيقي، والذين مواقفهم تجاه الإسلام سلبية جزئياً أو كلياً يجمعهم الإطار العام، فأكبر وسيلة عندهم: التشكيك في ثوابت الأمة ودينها، سواء أكانت عقدية أم علمية أم سلوكية، مثل الحجاب، ومثل قضايا المرأة، ومثل قضايا الشباب، ومثل قضايا الحرية الفردية إلخ. فهذه القضايا يطرحون فيها أفكاراً تنافي الإسلام وتضاده مضادة حادة بدعوى الرأي وحرية الرأي، أو الرأي والرأي الآخر؛ ولذلك ليس من المناسب أن نطرح القضايا تفصيلاً. أنا أريد أن أذكر إخواني بقواعد شرعية، وهي أيضاً عقلية فطرية يدركها كل إنسان، حتى لو لم يتفقه في الدين، ذلك أن نأخذ شعار الرأي والرأي الآخر -أو ما يسمونه أحياناً (حرية الرأي) - بمنطق عقلي. فهل كل مصالح الأمة وقضاياها الكبرى في دينها وأمنها ومستقبلها وتخصصات المتخصصين فيها خاضعة لكل رأي؟ المقدم: لا. الشيخ: هل كل قضية فيها رأي ورأي آخر؟ المقدم: لا. الشيخ: إن أي أمة عندها ثوابت، فما معنى الثوابت؟ معنى الثوابت: الأصول القطعية التي استقرت، فلا تقبل الرأي؛ لأنها فوق الرأي، فهل ثوابتنا الإسلامية فوق الرأي لأننا نحتقر عقول الناس أو لأننا نصادر حرياتهم؟! المقدم: لا، بل لأنها من الله عز وجل. الشيخ: لأنها من الله الحكيم الخبير، تعبدنا بها، ولأنها فوق مداركنا، فلو أخذناها بأسلوب علمي موضوعي لوجدناها فوق مداركنا. فهل أركان الإيمان تدركها مداركنا تفصيلاً؟! المقدم: لا. الشيخ: وهل أركان الإسلام تدركها مداركنا تفصيلاً؟ المقدم: لا. الشيخ: بل شرعها الله، وهذا نموذج للثوابت. إذاً: فهذه الثوابت ليس فيها رأي ورأي آخر، فالرأي والرأي الآخر لا يمكن أن يمس ثوابت أمة ذات دين باق كامل تكفل الله بحفظه، بل لا يجوز ولا يسوغ أن يدخل الرأي والرأي الآخر في القضايا القطعية في مصالح الأمة العظمى التي قررها الإسلام. مثلاً: المرجعية الشرعية هي الرجوع إلى الراسخين في العلم الذين قرن الله عز وجل طاعتهم بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة أولي الأمر، فهذه القضية محسومة، فالاجتهاديات الكبرى التي تحتاج إلى الرسوخ في العلم من الثوابت عندنا أن مرجعها العلماء. وكذلك مسألة حفظ الأمن، فهذه تنبني على طاعة السلطان وطاعة الأمير، فهذه أيضاً مقررات شرعية هي ثوابت. فالسلطان المسلم تجب طاعته بالمعروف، والسمع له وحفظ الأمن تحت لوائه، والدعاء له، والنصح، وكثير من هؤلاء يرون مناصحة ولاة الأمر نوعاً من السذاجة. المقدم: لماذا يرونها سذاجة؟ الشيخ: لأنه ينبغي عندهم أن تقاوم -بزعمهم- الاتجاهات السياسية التي يتبناها الحكام بتيارات سياسية تكافئ هذه السلطات، يعني: منازعة السلطان، إما منازعة بالقوة وهذا قليل، وإما منازعة بالإثارة والتصعيد، ومنازعة بالغوغائية، أو طرح الأطروحات السياسية التي تؤدي للتصادم مع الحاكم. المقدم: لكن بعض الدول عندها في نظامها أو في دستورها السماح للمعارضة بأن تشكل نفسها، وأن تعارض بعض المبادئ وبعض القوانين معارضة، وأيضاً معارضة قانونية في إطار معين تحكمه تلك الدولة. الشيخ: هذه أمور لا أستطيع أن أدخل في تفاصيلها، لكن في الإجمال أقول: كل ما يخالف الشرع من هذه الأمور يجب العدول عنه، وأغلب الدول تطرح الطرح السياسي على نمط الغرب، وفي الوقت نفسه لا تمارس هذه الأطروحات السياسية كما يمارسها الغرب، وهذه ازدواجية في العالم الإسلامي الآن، فأغلب الدول الإسلامية -ما عدا بعض الدول القليلة التي دستورها ونظامها يقوم على شرع الله، كهذه الدولة المباركة: المملكة العربية السعودية نسأل الله أن يثبتها على الحق، وأن ينصرها- أكثر هذه الدول تمارس تعاملها مع شعوبها بالدساتير الغربية، وهي دساتير مستوردة، وفي نفس الوقت لا تطبقها، فهي تعمل بازدواجية يدركها الآن كل إنسان، حتى الساذج في الشارع يدرك هذا. إذاً: فوجود اختراق الأسس الشرعية في الأنظمة ليس حجة علينا. المقدم: كأنك ترى -يا شيخ- أن الأمور التي هي من دين الله، ومن القطعيات والثوابت لا يمكن أن يدخل فيها مسألة الرأي والرأي الآخر. الشيخ: نعم.

مساحة الرأي والرأي الآخر المفتوحة

مساحة الرأي والرأي الآخر المفتوحة المقدم: لكن المسائل التي قد تكون فيها مصالح للناس يفتح فيها باب المشورة في هذا الأمر، وللناس أن يتبادلوا الآراء فيما يصلح أمرهم. الشيخ: نعم. دعني أستكمل الحديث؛ فأنا لم أنته. الأصل الأول: أن الثوابت ومصالح الأمة الكبرى والواجبات المسندة إلى فئات معينة -مثل واجبات الحكام على ضوء شرع الله، وواجبات العلماء على ضوء شرع الله- ليست محل نقاش، فبقي هناك مساحة كبيرة جداً للرأي والرأي الآخر. فالثوابت أسس محدودة، لكنها هي ضمانات حفظ الدين، بل هي ضمانات حفظ الأمة في دينها ودنياها. فهذه الضمانات هي التي لا تمس، وتبقى مساحة الرأي الآخر في الاجتهادات الشرعية بشروطها، وهذا باب مفتوح، فباب الرأي الآخر في مصالح الدنيا المنضبطة بضوابط الشرع مفتوح. وكذلك في القضايا المستجدة، بمعنى: أن كل ما عدا الثوابت مساحة واسعة للرأي والرأي الآخر لكن بضوابطه، وكل شيء بضوابطه، حتى غير علوم الشرع. فإذا كان الإنسان يريد أن يناقش قضية في الطب فهل يناقشها بمجرد رأي ورأي آخر؟ المقدم: لا بد من أن يكون متخصصاً. الشيخ: بل متخصصاً ومؤهلاً، فالدين من باب أولى؛ لأن القول فيه بالرأي قول على الله بغير علم. المقدم: حتى المسائل الفقهية التي هي قابلة للنقاش بين العلماء لا ينبغي للشخص غير المتخصص أن يدخل فيها وأن يرجح هذا أو ذاك، وهو يعتبر من المقلدين أصلاً. الشيخ: صحيح. المقدم: هل بقي شيء في هذه النقطة أم ننتقل إلى محور آخر؟ الشيخ: الوقت ضاق، وإلا فعندي مسائل.

العدوانية المنتهجة من ذوي الاتجاه العقلاني

العدوانية المنتهجة من ذوي الاتجاه العقلاني المقدم: من الشعارات التي نسمعها أحياناً رميهم لأهل الخير وأهل الحق بالعدوانية، فهل هذا المصطلح له وجاهة؟ الشيخ: الحقيقة كما قال صاحب المثل: رمتني بدائها وانسلت. فهذا الشعار هو واقعهم في الحقيقة، كما قلنا في مسألة الإقصائية، فهم يرون أن اعتزاز المسلم بدينه، وتمسكه بشعائر الإسلام، وتمييزه بين الحق والباطل، ومناصحته للآخرين، وإنكاره للمنكر نوعاً من الإقصائية، وكذلك نفس العبارة الأخرى التي ذكرتها وهي العدوانية. فنظراً لأنهم يرون عدم التمييز بين كثير من مظاهر الحق ومظاهر الباطل، ويرون عدم التمييز بين المنكر والمعروف، وبين الفضيلة وغير الفضيلة، ويرون سلوك التمييز إقصائية، وإن كانوا يتفاوتون، لكن في الجملة يضعف عندهم التمييز بين المختلفات، إلا على ضوء مقررات عقلية يرونها. فمن هنا يرون أن إنكار المنكر، أو عدم قبول الباطل، وعدم التسامح الذي يؤدي إلى تمييع الدين إقصائية. المقدم: يعني: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وحاول أن يقيم دين الله عز وجل ويطبق شرع الله يرون أنه عدواني، وأنه شخص لا يحترم آراء الآخرين، ويتهجم عليهم. الشيخ: نعم، ولعلي أركز على ما يقصدونه بالعدوانية بالدرجة الأولى، فهم يقصدون بالعدوانية: أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فيرون أن إنكارك للمنكر حتى لو كان بحكمة نوع من العدوانية. ثانياً: البراءة من الباطل وأهل الباطل، وإن كانت بأسلوب حكيم، يرون أن هذا نوع من العدوانية. ولعلنا -إن شاء الله- في مناسبة أخرى نتكلم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل أوسع. وأما كيف نرد فهذا -في الحقيقة- يختلف من شخص إلى آخر، أعني الذي يريد أن يرد، أو يريد أن يتخذ موقفاً إيجابياً تجاه هذه المواقف السلبية ضد الخير وأهله، فهذا يختلف من شخص إلى شخص. فمن كان عنده شيء من العلم فليرد بالتأصيل والتقعيد وبالدليل، وإذا لم يكن عنده شيء من العلم فلا يدخل في التفاصيل، بل ينبغي أن يبدي ما يعرفه من الحق بأسلوب فيه رفق وحكمة وأناة، دون الاستجابة للاستفزاز، أو الاستجابة لردود الأفعال. ثم إن هذه الأمور طبيعي أن تحدث؛ لأنها ابتلاء، فينبغي لمن يسمع مثل هذه الأمور من السخرية بالمؤمنين، أو سبِّ أهل الخير ألا ينفعل؛ لأنه يعرف أنه بذلك مأجور، وأن الله عز وجل ناصر دينه، وأنه سيدافع عن الذين آمنوا، فيأخذ الأمور بشيء من التدرج والحكمة والصبر، والتثبت من القول؛ إذ إن كثيراً مما يحصل من بعض الغيورين استعجال، فتجد القضية ليست على ما صوروا، فمن هنا لزم التثبت من القالة أو من الموقف، ثم معالجته بشيء من الحكمة والرفق، والرجوع إلى أهل الاختصاص.

التجرد والموضوعية وقيدهما في الشريعة

التجرد والموضوعية وقيدهما في الشريعة المقدم: هناك مصطلحات نسمعها يطالبونك بها عندما تناقشهم في بعض قضاياهم، كالتجرد والموضوعية في الطرح العلمي، فهل هم يتقيدون بهذا؟ الشيخ: هذا كما سبق، فالحقيقة أن مفهومهم للتجرد مفهوم خاطئ. ومسألة التجرد إنما تصح في جانبين: الأول: في الأمور العلمية البحتة، سواء أكانت تطبيقية أم نظرية، فالأمور العلمية البحتة التي تتعلق بدنيا الناس لا بد لأي باحث يريد أن يصل فيها إلى الحقيقة من أن يتجرد من أي رأي سابق أو تعصب. المقدم: كأن يدرس ظاهرة معينة من ظواهر المجتمع. الشيخ: أي نعم. المقدم: ويعرف مقياسها ونسبة النتيجة في هذا الأمر، فهنا لا بد له من أن يتجرد. الشيخ: نعم، فإذا كان إنسان يريد أن يصل إلى مدى جنوح التغير في أخلاق معينة؛ فينبغي له ألا يتبنى نتيجة سابقة بناءً على خلفياته السابقة حتى يدرس ويحصي ويمارس العملية من خلال الميدان، فيصل إلى نتيجة، فهذا التجرد فيه هو الأصل. الجانب الثاني: التجرد ممن لا يملك الحق، كإنسان ليس عنده دين، أو دينه غير صحيح، كدين وثني أو دين كتابي محرف، فهذا من الطبيعي أن يحتاج إلى التجرد؛ لأن الأسس التي انبنى عليها دينه، أو القناعات الموجودة في بيئته غير شرعية ولا عقلية، فيحتاج إلى أن يتجرد. ولكن لا يسوغ للمسلم أن يتجرد عن الحقيقة الشرعية الثابتة؛ لأن معنى هذا التنصل من الحق، وأحياناً يكون ذلك ردة. فلا يسعني -مثلاً- أن أتجرد في مسألة من حكم الله بكفره، مثل أبي جهل وأبي لهب أليسا كافرين مشركين؟ المقدم: بلى. الشيخ: وأتت النصوص القطعية بذلك؟ المقدم: نعم. الشيخ: لا يسع باحثاً أن يقول: أنا سأبحث الآن عبر كتب التاريخ، وعبر النصوص، وعبر أقوال الأدباء والشعراء حتى أصل إلى نتيجة أن أبا جهل كافراً أم لا؟ لأن هذا تجرد عن الحق الذي تقرر في الثوابت. نعود فنقول: الثوابت -سواء أكانت عقدية أم علمية أم أخلاقية- لا يسع المسلم أن يتجرد عنها؛ لأن التجرد خروج من الحق، والخروج من الحق بهذه الصورة قد يكون ردة، فهو خطير. فمن هنا كان التجرد في الموضوعات العلمية القابلة للبحث، أما الحق فلا يسع المسلم التجرد منه. إذاً: دعواهم التجرد معكوسة، فهم الآن باسم التجرد العلمي يشككون في ثوابت الدين، وباسم التجرد أحياناً يجورون على أهل الحق، وباسم التجرد أحياناً يروجون الباطل، في حين أنهم إذا أتوا إلى كثير من الثوابت زعزعونها، خاصة في القضايا الحساسة، مثل قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقضايا المرأة، ففي هذه القضايا لا يتجردون من الهوى، بل يتجردون من الحق تجرداً واضحاً بيناً في ثوابت الدين التي يعرفونها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعني طوائف منهم ممن يعلمون نعرف أنهم يتعمدون، والدليل على هذا أنهم يحرفون النصوص عن دلالاتها. المقدم: لذلك تجد بعض دراساتهم الاجتماعية، أو الاستبانات التي توزع، أو الاستفتاءات غير متجردة؛ لأنها تريد من المشارك أن يجيب بجواب محدد يخدم الهدف الذي رسموه. الشيخ: هذا يعتبر تقصيراً، وأحياناً ينشأ عن عدم خبرة في صياغة الأسئلة أو غيرها. المقدم: وأحياناً يكون عن هوى. الشيخ: قد يكون عن هوى.

موقف العقلانيين من المرأة

موقف العقلانيين من المرأة المقدم: من الأمور المهمة في هذا الإطار -اتجاهات العقلانيين المعاصرة- التي نود -شيخ ناصر - أن نتحدث عنها موقفهم من المرأة، وحبذا لو كان الحديث عن الثوابت العامة والأصول العامة في هذا الأمر؛ لأن التفاصيل في قضية المرأة والدخول فيها قد يطول. الشيخ: أولاً: لا بد من أن أشير إلى أن كثيراً من القضايا التي يثيرونها حول المرأة هي من الثوابت، وفيها ما هو قابل للرأي والرأي الآخر، وهذا من أجل أن ننصف، لكنهم -مع الأسف- يلبسون الحق بالباطل، فيدخلون من خلال القضايا التي هي محل للرأي -مثل بعض تفصيلات الحجاب، وبعض تفصيلات قوامة الرجل، وبعض تفصيلات الاختلاط، وبعض التفاصيل التي هي محل خلاف- على الثوابت، وهذا أحياناً يكون متعمداً، وهو في كبارهم، وأحياناً يكون غير متعمد، ولكن نتيجة جهل، ونتيجة قلة فقه في الدين. فكثير مما يثار حول المرأة هو من الثوابت، وسأشير إلى هذا على جهة الإجمال. وقبل ذلك أذكر إخواني بأننا نعتقد أن من ثوابتنا التي لا تقبل الجدل: أن ديننا دين شامل كامل محفوظ، وأنه دين صالح لكل زمان ولكل مكان، وأنه -أيضاً- وضع الحلول لكل المشكلات، وإن قصرت الأمة، بمعنى: أن الإسلام يتضمن حلولاً لجميع المشكلات الصغيرة والكبيرة، ويتضمن دواعي نهضة الأمة في كل مكان، وأسباب النصر والنهضة في كل زمان وكل مكان، ولكن المشكلة في ممارسات المسلمين، في تخلفهم عن دينهم، وفي افتراقهم إلى آخر ذلك من الأمور المعروفة. فما دام أن هذا الثابت محل اتفاق؛ فهناك -إذاً- ثوابت في الإسلام تتعلق بالمرأة، وهي بيت القصيد. فمن هذه الثوابت: أن المرأة إنسان كالرجل، والمرأة المؤمنة لها حقها كالرجل في الجملة، فهي إنسان كريم له حقوقه، وتوزن المرأة بميزان الإيمان والعمل الصالح كالرجل تماماً؛ لأن الله عز وجل يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، فلا فرق بين المؤمن والمؤمنة في الحساب عند الله عز وجل وفي الأجر على العمل وفي الحساب على التقصير في الإجمال. وتبقى بعض التفصيلات حول الواجبات وحول العقوبات الجزئية، وهذه راجعة إلى خصوصية كل جنس من ذكر أو أنثى. الثابت الثاني: أنه في كثير من الأمور ليس الذكر كالأنثى، وهم يخلطون في هذه القضية، فيقولون: الناس سواسية، ويقولون: المرأة نصف المجتمع، وإذا كانت نصف المجتمع فماذا يعني ذلك؟ إنَّ المرأة كريمة ومحفوظة في الإسلام، ولها حقوقها، وعليها واجبات، وهذا معلوم قطعاً، لكن في كثير من الأمور ليس الذكر كالأنثى. بل إن هؤلاء من أصحاب الاتجاهات العقلانية يرون أن هناك خصائص للرجل لا يريدون أن يتنازلوا عنها. المقدم: إذاً دعوى المساواة ليست عملية؟ الشيخ: لأن المساواة في كل شيء مستحيلة، وأما العدل فنعم، وهم يموهون علينا وعلى أجيالنا بقضية المساواة، فهل الرجال يستوون؟ المقدم: لا يستوون. الشيخ: إذاً: تستحيل المساواة، فكيف يستوي الرجل والمرأة؟! إن المرأة عليها واجبات غير واجبات الرجل، والرجل عليه واجبات غير واجبات المرأة، وتبقى التفاصيل، لكن في الإجمال ليس الذكر كالأنثى. المقدم: إذاً: هذه الدعوى ليست موضوعية. الشيخ: ولا يريدون أن تكون موضوعية؛ لأنهم لو جعلوها موضوعية لما طرحوها بهذا الشكل المنكوس المعكوس. وهناك أمر آخر وهو أن المرأة لها حقوق محفوظة في الإسلام، وعليها حقوق، كما أن الرجل له حقوق وعليه حقوق، فهناك حقوق عامة مشتركة بين الجميع، وهذه ليست محل خلاف، وهناك حقوق وواجبات ليست مشتركة، فيجب أن تبقى للمرأة خصائص تختص بها، وللرجل خصائص يختص بها، سواء في الحقوق أو في أداء الأعمال. وأمر ثالث: أن هناك قواعد عامة لا تعني الغض من قدر المرأة، وهي أن القوامة للرجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34]. المقدم: وهذا مما ينتقدونه أصلاً. الشيخ: هذا كلام الله عز وجل العليم الخبير. المقدم: نعم. سبحانه. الشيخ: وأنا أعجب -ولا ينقضي عجبي- من أنهم كثيراً ما يدندنون حول هذه القضية، قضية أن المرأة ظلمت وأن جميع مقاليد الأسرة جعلت بيد الرجل، وأنَّ الرجل سلط على المرأة. فطريقتهم -كما أشرنا إليها سابقاً- انتقائية، ويبدو لي أنَّ كثيراً منهم يعانون من مشكلات معينة، فيصبونها على المجتمع، أو يحكمون على المجتمع بمعاناتهم، ولا أقول: كلهم. الأمر الآخر: أنهم يأخذون بعض المشكلات التي تقع فيها مظالم للمرأة فيجعلونها ذريعة لباطلهم، نعم توجد مظالم لها، لكن توحد مظالم للرجل، وأنا أعتقد أنه في الآونة الأخيرة لما نفخت بعض النساء بأكثر مما يطقن ظلمن الرجال، ولذلك نقول: لا مانع من أن يقيموا جمعيات حقوق المرأة، ولكن لماذا لا تقام جمعيات لحقوق الرجل كما تقام للنساء؟! المقدم: لا يريدون هذا. الشيخ: إذاً: القضية في

[4]

الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [4] يتميز منهج أهل السنة والجماعة بكونه المنهج الآخذ بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في التمسك بسنته ولزوم الجماعة حال افتراق الأمة، ولكونه منهجاً لا يروق لأرباب المدرسة العقلانية مسلكه؛ إذ يصادم تقريراتهم العقلية الفاسدة؛ اتخذوا تجاهه موقف العداء، وسلكوا في الصد عنه جملة من الوسائل، ومن أبرزها قذف الشبهات المفتراة حوله، كدعوى اختلاط مشاربه، ودعوى اختلاف السلف في الثوابت، ودعوى حصول الفرقة في أنقى عصوره، ودعوى تأثر هذا المنهج بمناهج السلاطين، ونحو ذلك مما هو ظاهر كذبه وزيفه.

مقترحات بين يدي الموضوع

مقترحات بين يدي الموضوع

الرد على الإساءة إلى الإسلام عبر الوسائل الإعلامية

الرد على الإساءة إلى الإسلام عبر الوسائل الإعلامية بسم الله الرحمن الرحيم. مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم (حراسة العقيدة). منذ أن شع نور الإسلام تكالب الأعداء عليه بين مسفه ومكذب وحاقد وحاسد، وتوالى الهجوم على كل من اقتفى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه أصحاب المذاهب الضالة سهامهم إلى منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، لذا نجد العقلانيين في زماننا هذا يحذون حذوهم بتشكيك في أصول الإسلام، وهجوم على أتباع الحق. وفي هذا اللقاء نحاول الإجابة على الدعاوى التي يطرحها أرباب الاتجاهات العقلانية المعاصرة. فهل أهل السنة والجماعة مختلفون في ثوابت الدين؟ وهل عقيدة السلف لها مشارب متعددة؟ وهل وصف أهل السنة والجماعة وصف لا أصل له؟ وهل مذهب السلف محصور فيما يسمونه بالوهابية أو الحنابلة؟ بداية -مشاهدينا الكرام- أرحب بضيف البرنامج الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ! الشيخ: مرحباً بك -أستاذ تركي - وبالمشاهدين. المقدم: نرحب بكم -مشاهدينا الكرام- مرة أخرى. شيخنا الكريم! وردت علينا عن طريق منتديات الصفوة في النافذة الخاصة بحراسة العقيدة بعض الاقتراحات، وبعض التساؤلات. فهذه إحدى الأخوات ترحب بهذا البرنامج، وتذكر أن هناك من تعمد الإساءة إلى عقيدة الإسلام في الصحف، وفي بعض المجلات، وفي مواقع الإنترنت أيضاً، وتقترح أن يكون للشيخ ناصر العقل مكان في إحدى الصحف للرد التأصيلي على هذه الشبهات، وهذه الأشياء التي يتناقلها أناس غير متخصصين. الشيخ: على أي حال هي طلبت واجباً، وأنا لا أعتذر، ولكني أجدني مشغولاً بأمور هي أولى بالنسبة لي؛ لوضعي كأستاذ في الجامعة، وعندي كثير من الأمور الملزمة، فأرجو -إن شاء الله- أن أتمكن من تحقيق بعض هذا المطلب، وأنا لست وحدي في الساحة، فهذا الاقتراح يجب أن يكون مطروحاً على جميع المتخصصين، وأنا لا أتنصل من المسئولية. المقدم: وأنت من كبار المتخصصين في هذا المجال. الشيخ: على أي حال نسأل الله الإعانة، فهو اقتراح وجيه، ومحل تطبيق إن شاء الله.

التفصيل في مسائل العقلانية والليبرالية ونحوهما

التفصيل في مسائل العقلانية والليبرالية ونحوهما المقدم: هنا أخ آخر يقترح نفس الاقتراح، وهو معجب بالبرنامج، ومعجب بطرحكم حفظكم الله، ويقول: هل ستناقشون مسائل عقلانية ولبرالية وتنويرية وعصرانية؟ يقول: نريد أشياء مفصلة في هذا الباب. الشيخ: علي أي حال فإننا في مثل هذه الحلقات لا نزال نناقش، لكن الوقت لا يتسع لمناقشة تفصيلية؛ ولذلك ركزنا -ولا نزال نركز- على الأصول والمناهج والضوابط العامة، أما الدخول في التفاصيل فهذا أمر لا ينتهي. هذا إن كان يقصد الطرح من خلال هذا البرنامج وأمثاله، وأما إن كان يقصد الطرح المكتوب أو المشاركات الأخرى أو الدورات العلمية والمحاضرات، فهذا -ولله الحمد- حاصل، ولكن يحتاج إلى شيء من الدفع الإعلامي والنشر، ونسأل الله أن يعين على ذلك. المقدم: هو يسأل فيقول: هل اللبراليون هم منافقو هذا الزمان؟ الشيخ: الكلام في مثل هذه الأمور حساس، وإذا نظرنا إلى المفهوم العام للنفاق، فإنه يدخل فيه النفاق الخالص الذي لا يعلمه إلا الله، وإذا نظرنا إلى هذه الاتجاهات على مختلف طرائقها ومناهجها ومختلف أطيافها التي هي العقلانية والحداثة والعصرانية والتجديد بالمعنى السلبي، وكذلك العلمنة، واللبرالية وغيرها، سنجدها كلها يجمعها منهج واحد يشكل أصلاً من أصول النفاق. لكن لا يلزم أن يكون كل فرد من أصحاب هذه الاتجاهات متهماً بالنفاق، فهذا أمر صعب. المقدم: وقد أكدت -يا شيخ- من بداية الحلقات -وما زلت تؤكد- على أننا في هذا البرنامج سنطرح ونناقش المسألة كمفاهيم عامة، دون تنزيلها على أناس معينين. الشيخ: ولا على تيارات؛ لأنها تختلف. وأذكر بأن هذه المسميات يجمعها وصف النفاق في السابق، إنما التغير الآن تغير مصطلحات وشعارات.

الإعلان للبرنامج وكتابة محتواه خطيا

الإعلان للبرنامج وكتابة محتواه خطياً المقدم: يقترح الأخ أن يكون هناك إعلان للبرنامج، وبناءً على هذا الاقتراح رفعنا ذلك لإدارة البرامج، وإن شاء الله سينفذ. كما يقترح اقتراحاً آخر، وهو اقتراح بناء أيضاً، وهو كتابة الحلقات خطياً، وهذا الاقتراح نرحب به ونتمنى من الإخوة والأخوات في منتديات الصفوة ومن المشاهدين أن يتبنوا مثل هذه المشاريع؛ لأن المشايخ والعلماء مشغولون بأشياء كثيرة وبأعباء كثيرة، ولا يساعدهم الوقت على متابعة مثل هذه الأمور. وسنتابع كل من يكتب هذه الحلقات عن طريق منتديات الصفوة، وسنعرضها على الشيخ بإذن الله تعالى؛ حتى يؤيدها الشيخ، أو يعدل ما يشاء فيها. الشيخ: جزاكم الله خيراً، وأنا مستعد لأبذل ما أستطيعه، لكن كتابة الحلقات: ليس عندي لها وقت. المقدم: هناك اقتراح آخر يقول: نتمنى أن تكون لكم زاوية خاصة في إحدى الصحف لمناقشة هذه القضايا، وسبق الجواب على ذلك منكم.

عقيدة أهل السنة والجماعة تحت مجهر المدرسة العقلانية

عقيدة أهل السنة والجماعة تحت مجهر المدرسة العقلانية

دعوى تعدد مشارب عقيدة أهل السنة ومصادرها

دعوى تعدد مشارب عقيدة أهل السنة ومصادرها شيخنا الكريم! النقاش في هذه الحلقة عن مواقف الاتجاهات العقلانية المعاصرة من عقيدة السلف أهل السنة والجماعة. بداية دعني أسألك: هل عقيدة السلف متعددة المشارب؟ أي: هل مصادرها متعددة؟ الشيخ: الحقيقة أن هذه دعوة يثيرها كثيرون، ولعل أول من أثارها بشكل مقنن -إن صح التعبير- هم المستشرقون، فالمستشرقون يرون أن الإسلام كله خليط من مشارب اليهودية والنصرانية والمؤثرات البيئية، وأن الإسلام استفاد مما عند العرب، سواء الجانب العقدي والجانب الأخلاقي والجانب التعاملي، ومما عند غير العرب من الأمم المجاورة، فزعموا أن الإسلام خليط من عدة مشارب، وهذا الزعم نفسه تبناه كثير من أصحاب الاتجاهات الفكرية والعقلانية منذ زمن، وأصحاب الأفكار العصرانية خاصة، فهم يزعمون أن منهج السلف هو نتيجة مؤثرات كثيرة، من ضمنها المؤثرات الشخصية، أي: نزعات الأشخاص الذين هم أئمة السلف. ثم يقولون أيضاً: هو نتيجة تأثير البيئة، أي: ما عند الناس من تقاليد وأعراف، سواء العرب والعجم الذين دخلوا في الإسلام، ونظراً لأنهم لا يفرقون بين عقيدة السلف الصافية وبين عقائد المتكلمين -وأحياناً يخلطون بينهما- زعموا أن العقيدة تطورت من خلال التاريخ، والتطور في سنن الحياة وفي العلوم الاجتهادية وفي البحوث العلمية البحتة كائن، لكن العقائد ليس فيها تطور. المهم أنهم زعموا أن عقيدة السلف -كغيرها- تطورت فتأثرت بالمؤثرات البيئية والجغرافية والسياسية، وبتدخل السلاطين، وبتدخل الأهواء والفلسفات إلى آخره، فشكلت خليطاً بزعمهم، وهذا عن من يحسن منهم النظرة إلى عقيدة السلف، فيزعم أن عقيدة السلف شكلت خليطاً من هذه المؤثرات، وهذا كله جهل، فعقيدة السلف -والمقصود بها الثوابت- ليس لها مصدر إلا الكتاب والسنة، أي: الوحي المعصوم. المقدم: هل مع المستشرقين حق في قولهم: إن الإسلام استفاد من الأديان السابقة، اليهودية والنصرانية؟ الشيخ: هم يستغلون بعض وجوه التشابه في الديانات؛ ليجعلوها برهاناً لهم على تأثر الإسلام، بتلك الديانات، وهذا راجع إلى أنهم لا يؤمنون بالإسلام أصلاً، ومن ناحية أخرى: لا يفقهون الدين، وقد يكون عندهم معلومات، ولكنها معلومات لا تنظمها قواعد، بل تنظمها منطلقاتهم الشخصية، كل واحد منهم له منطلق شخصي ديني وبيئي وعقلي، أعني: المستشرقين. وكذلك من أخذوا بمنهجهم من المستغربين الذين هم العقلانيون، فهؤلاء ينطلقون من خلفيات معينة ومن قناعات معينة ومن قلة الفقه في الدين. إنَّ الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة هي عقيدة الأنبياء جميعاً، ولذلك يوجد في العقيدة الإسلامية ما هو موجود في البقية الباقية في التوراة والإنجيل، فهما محرفان، لكن يوجد فيهما إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، ويوجد فيهما إشارة إلى الإيمان بالبعث، ويوجد فيهما إشارة إلى بعض الإلهيات. المقدم: الوصايا العشر؟ الشيخ: الوصايا العشر وغيرها، يوجد بعض الحق في التوراة والإنجيل قرره الإسلام على وجه أصفى وأكمل، وبعيد عن الغبش والخلط، فظنوا أن هذا الاقتران والتشابه يعني الاستمداد، والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استمد شيئاً إلا مما أوحى به إليه ربه عز وجل، فهذا نوع من اللبس والالتباس والتلبيس حيث لبسوا على الناس بحكم وجود وجوه التشابه، حتى فيما يتعلق بالأخلاقيات وبعض الأحكام، بل حتى فيما يتعلق بمشابهة الفقه الإسلامي لبعض الدساتير أو الأنظمة الوضعية من بعض وجوه التشابه، فجعلوه وسيلة أو ذريعة للقول بأن الإسلام خليط من مصادر شتى. المقدم: هل تأثر منهج السلف مع الهجمة الفلسفية في عهد المأمون وما تبعه من العصور بالمناهج الكلامية والفلسفية؟ الشيخ: لا، فالسلف لا يملكون أن يجددوا في ثوابت الدين شيئاً، السلف الصالح يتميز منهجهم في العقيدة بأنهم أخذوا بمنهاج النبوة، لا يزيدون ولا ينقصون، ولا أحد يملك أن يزيد أو ينقص في العقيدة السلفية، عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الحق، وهي الإسلام الذي ثبت بخصائص الثوابت نفسها، لذا لا يمكن أن يتصور هذا عقلاً ولا شرعاً من أجل أن نقول مثل هذه المقالة، فعقيدة السلف عبارة عن ثوابت لا دخل لاجتهادات السلف فيها فضلاً عن غيرهم.

الرد على دعوى تعدد مصادر ومشارب عقيدة أهل السنة

الرد على دعوى تعدد مصادر ومشارب عقيدة أهل السنة المقدم: القضية مثلاً بشيء من التفصيل دعواهم أن عقيدة السلف لها مشارب متعددة ولها مصادر مختلفة، ما هي طريقة الرد عليها بشكل مجمل؟ الشيخ: ينبغي أولاً أن تعرف أسباب هذا التصور عندهم؛ لأنه إذا عرفنا سبب قولهم هذا القول، وعلى أي أساس بنوا ذلك؛ هدمنا أصولهم بقواعد الحق. الأمر الثاني: أننا نحتاج إلى أن نشيع التأصيل الشرعي الذي يجهلونه هم ويجهله كثير من الناس، بل كثير من أجيال أهل السنة والجماعة المتأخرين من الشباب يجهلون هذه الثوابت؛ لأنهم لم يتلقوها بشكل منهجي يقاوم الغزو الذي استهدف العقيدة. فأنا أقول: هؤلاء يرد عليهم بالتذكير بثوابت الحق، أي: ما هي مصادر الدين؟ ثم ما هو المنهج؟ فحينما نقول: ما هي مصادر الدين؟ نقول: هي الكتاب والسنة، ثم نأتي بالأدلة التي دلت على أنه لا يجوز استمداد الدين من غير الوحي من القرآن والسنة بدلالاتهما ومعرفة كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك وكيف كان يطبقه. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بين للصحابة ورباهم على ألا يتلقوا الدين من غير الوحي. وقد حدثت حادثة هي عبارة عن رسم للمنهج، وعبارة عن حماية للمنهج، هي حادثة اطلاع عمر رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم على صحيفة من التوراة، فالنبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً، حتى لفت ذلك أنظار الصحابة، فالتفتوا إلى عمر، فلما أدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب؛ عرف أنه أخطأ، وأنه يخشى أن يخلط، وأن هذا منهج، مع أن عمر -وهو عمر في فقهه- لا يتصور منه أن يتأثر مثل تأثر الناس اليوم، ومع ذلك سد النبي صلى الله عليه وسلم باب الاستمداد من أي مصدر آخر في ثوابت الدين حماية لجناب الدين وثوابت الحق. أما الاستدلال في العلوم الاجتهادية فنعم.

دعوى عدم اتفاق السلف على الثوابت

دعوى عدم اتفاق السلف على الثوابت المقدم: من الدعاوى التي نسمعها أحياناً أن هؤلاء المدعين يقولون: إن السلف لم يتفقوا على الثوابت الشرعية. الشيخ: هذا جهل كذلك، ولا نستغرب أن يكون هذا الجهل من أصحاب هذه الاتجاهات؛ لأنهم لم يفقهوا الدين، ولم يعرفوا عقيدة السلف بالشكل الذي يجعلهم يعرفون قيمتها، لكن المؤسف أن هناك ممن ينتسب للعلم الشرعي من قد يجاري من غير تبصر بهذه الشبهة، فقد يقول: مساحة الثوابت قد تتفاوت. وهذا خطير، فالثوابت بمعناها الشرعي الدقيق هي أصول الدين وقواطعه ومسلماته، أركان الدين وفرائضه وواجباته الأساسية، ليس فيها زيادة ولا نقص، ولا تختلف مساحة الإيمان بها بين عالم وآخر من علماء السلف، وقد يوجد من غير المنتسبين للسلف من يشكك، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه لا يعرف الثوابت أو لا يؤمن بها، وليس عنده الأسس التي كان ينطلق منها السلف. وقد يوجد من علماء السلف من يزلُّ زلة، والزلة لا اعتبار لها، لكن إذا نظرنا إلى عموم المنهج نجد أنهم لا يختلفون في الثوابت، ولا يختلفون في الأصول وفي القطعيات إطلاقاً، لا يختلفون في مصادرها ولا في قطعيتها، فمن هنا كان لا بد من استدراك أخشى أن أنساه، وهو الذي يتذرع به هؤلاء الذين يثيرون الشبه على السلف وعقيدة السلف، ويقولون: إنهم لا يتفقون على شيء، أو إن مساحة الاتفاق قد تقل وتكثر. أقول: هؤلاء -في الحقيقة- يستدلون بأشياء تدل على قصورهم في إدراك الجانب المنهجي الدقيق والموضوعي عند السلف. فكثيراً ما يستدلون على مقولتهم بأن السلف اختلفوا في كتب العقائد في كثير من المسائل، والحظ التحديد أو الإحالة على كتب العقائد، فهذا الأمر يوهم كثيراً من الناس، فما دام أن في كتب العقائد اختلافات؛ فمعنى ذلك أن هناك اختلافاً في الثوابت. ومن هنا فلا بد من وقوف عند هذه النقطة بوقفة ضرورية من عدة جوانب: الجانب الأول: ليس كل ما يكتبه السلف في كتب العقائد هو من الثوابت، فهم في كتب العقائد يميزون بين الثوابت وغير الثوابت، هذا أولاً. ثانياً: المسائل التي يختلفون فيها في كتب العقيدة هي مسائل خلافية فعلاً، لكنها ليست الأصول، فهي متفرعة، فدخلت في كتب العقائد لأنها متفرعة عن العقائد وخذ على سبيل المثال في المسلمات عند السلف أركان الإيمان، فهي من الثوابت عند السلف، لا يشكون فيها، وقد يقول قائل: هل هناك من العقلانيين من يشك في أركان الإيمان؟ فأقول: نعم. المقدم: عجيب! الشيخ: فإذا كان يقول: الملائكة هي نوازع الخير، وليس هناك خلق اسمه الملائكة فإنه ما آمن بالملائكة. المقدم: وهل هذا الكلام موجود؟ الشيخ: نعم، هو مذهب واسع يؤمن به عدد وفئام من الناس، وليس مذهباً قليلاً أو نادراً عندهم، يرون أن الملائكة نوازع الخير، وهذه نزعة فلسفية، فهؤلاء ما آمنوا بالملائكة. الأمر الآخر: أنهم يسخرون من وصف الملائكة بصفات خَلْقية. المقدم: عجيب! الشيخ: أي نعم، يسخرون سخرية واضحة. ومن الغيبيات القطعية: الإيمان بالجن، وأحد كبار المعاصرين يرى أنه ليس هناك شيء اسمه جن، فالجن ما هم إلا مستضعفو البشر، وهذا معناه أن الفقراء عندهم جن، والمستضعفون من الناس جن، والشياطين هم الكبراء من بني آدم. وهذا مذهب يحتذى الآن، مع أن ذلك من الثوابت عند السلف، فهم خرقوا هذه الثوابت بشبهات. فالشاهد من هذا أنه توجد مسائل يختلف فيها السلف هي تابعة للعقيدة. المقدم: مثل ماذا؟ الشيخ: لهذا أمثلة كثيرة، فالسلف حينما أثبتوا الإيمان بالملائكة اختلفوا في كتب العقائد في هل هناك ملكان اسمهما منكر ونكير، فـ (منكر ونكير) لم يردا في نص، بل ذكرا في نصوص ضعيفة، فاختلفوا في اسم منكر ونكير، ولم يختلفوا في الملكين اللذين يأتيان العبد في القبر. ومن ذلك ملك الموت، قيل: إن اسمه عزرائيل، وجاء الخلاف فيه في كتب العقائد، فهو اسم لم يثبت، وثبت اسم إسرافيل وجبريل وميكائيل، وأما عزرائيل فلم يرد في نص قاطع، فهذه أمثلة في الإيمان بالملائكة. والإيمان بالرسل تتفرع عن الثوابت الموجودة فيه والقواعد القطعية مسائل، كمسألة الخضر؛ فقد دخل في كتب العقائد الخلاف في الخضر هل هو نبي أو غير نبي، وهذا الخلاف لا يضر؛ لأنه لا يوجد نص قطعي، فلا يضر ولا يؤثر في مبدأ الإيمان بالملائكة. وخذ مثالاً غير أركان الإيمان الستة، ولنأخذ الرؤية مثلاً، أي: رؤية العباد لربهم عز وجل يوم القيامة في الجنة بأبصارهم، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بهذا. فالرؤية متفق عليها؛ لأن فيها نصوصاً قواطع، ونصوصاً متواترة، وآيات قاطعة في الدلالة، لكنهم اختلفوا في مسائل في الرؤية؛ لأن الدليل فيها غير واضح، أو لم يثبت، أو أن دلالته غير قطعية، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، فهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه أم بفؤاده؟ هذه محل خلاف، لكن أصل الرؤية ثابت. وهكذا لا تجد أصلاً من الأصول القطعية إلا وله حد لا يختلف فيه السلف، وهناك ما دون هذا الحد مما يختلفون فيه من المسائل التي تفرعت عن هذا. فأخذ هؤلاء المفتونون -نسأل الله السلامة- مثل هذه المسائل

بيان المقصود بمصطلح السلف وأهل السنة والجماعة

بيان المقصود بمصطلح السلف وأهل السنة والجماعة المقدم: اسمح لي أن أرجع خطوات قليلة إلى الوراء قبل أن ننتقل إلى النقطة التي تليها في الدعاوى، فإنه يسمع كثيراً عبارة (السلف)، فما المقصود بالسلف؟ الشيخ: ينبغي أن نؤصل هذه الكلمة من النصوص. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الافتراق، وذكر الأهواء، وذكر الاختلاف؛ أوصى بوصايا، فهو أخبر أن الافتراق سيقع حتماً، وأن هناك طوائف من الأمة هم من المسلمين، لكنهم ارتكبوا البدع وركبوا الأهواء؛ فخرجوا عن السنة، فأوصى بوصية القرآن، وهي اتباع سبيل المؤمنين، فالله عز وجل قال: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115]. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الاختلاف، فذكر المشاقة التي ستكون من بعض الطوائف، فقال في الحديث الصحيح: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وفي بعض ألفاظ حديث الافتراق قال: (عليكم بالجماعة)، وقال: (إياكم والفرقة)، وقال: (إن يد الله مع الجماعة). فهنا أوصى وصايا قطعية بالسنة وأوصى بالجماعة، إذاً: عندنا توجيه ووصية من النبي صلى الله عليه وسلم ثمينة، هي أنه إذا وقع الاختلاف والافتراق فلنسلك سبيل السنة والجماعة، فمن هم أهل السنة والجماعة؟ لقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي)، فتحددت الخطوة الثالثة؛ لئلا يدعي أي مبتدع بأنه على السنة، فنقول: السنة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هؤلاء الذين هم أهل السنة والجماعة هم أئمة الهدى الذين شقوا الطريق من قبلنا، بمعنى أنهم سلفوا، فتسمية (السلف) تسمية تاريخية واصطلاحية، وإلا فهم أهل السنة والجماعة. فالسلف وصف وليس اسماً؛ لأنهم سبقوا على طريق الهدى، وسبقونا على منهاج النبوة؛ ولأنهم -أيضاً- رسموا لنا طريق الاتباع والاهتداء والاقتداء، فهم المرجعية لنا، ونظراً لأنهم سلفونا وسبقوا في الزمن وصفوا بالسلف، لكن اسمهم: أهل السنة والجماعة. المقدم: هل يقيد بالقرون الثلاثة الأولى المفضلة، أم أنه مطلق لكل من سبقنا؟ الشيخ: لا يقيد إلا من حيث الأفضلية، فإذا قيل: من هم أول قدوة في السلف؟ نقول: الصحابة ثم القرون الفاضلة، ثم كل من سلك هذا السبيل فهو سلفي. إذاً: المسألة مسألة أولويات وأخرويات تاريخية فقط.

دعوى ابتداء الافتراق في عصر الصحابة

دعوى ابتداء الافتراق في عصر الصحابة المقدم: من الدعاوى -يا شيخ ناصر - التي يقولونها: أن هؤلاء الصحابة الذين أنتم تنادون باتباعهم والسير على نهجهم كان أول افتراق في عصرهم. الشيخ: نعم، أول افتراق كان في عصرهم، لكن يجب أن نفهم جيداً أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا هم السبب في الافتراق، هذا أولاً. ثانياً: لم يكن منهم رأس في الافتراق. وبعبارة أدق: لم يكن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة ببدعة أو بمنهج يتعلق بمصالح الأمة العظمى، بمعنى أنه لم يخرج عن السنة من الصحابة أحد، وإنما اختلفوا في الاجتهاديات. المقدم: كيف نفسر الخلاف بين علي رضي الله عنه ومعاوية، وما حصل بينهما من اقتتال؟ الشيخ: كل خلاف بين الصحابة كان في الاجتهاديات، حتى قتالهم كان اجتهاداً فيه المخطئ وفيه المصيب، ولا يعدم كل منهم من الأجر أو الأجرين كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فهم مجتهدون، ولم يكن في الصحابة من يعتبر قدوة لأهل البدع والأهواء والافتراق على الإطلاق، ولذلك كان ظهور الخوارج والشيعة في عهد الصحابة، ثم كان ظهور القدرية في عهد متأخري الصحابة، ولم يكن في الصحابة أحد على هذه المذاهب على الإطلاق، بل بدأ الافتراق في الجيل الثاني والثالث وما بعدهما. إذاً: أعود وأحرر العبارة بدقة؛ لأن هذه -في الحقيقة- مزلة قد توهم فيها بعض العلماء، فكيف بطلاب العلم ومن دونهم؟! فأقول: ليس في الصحابة من فارق الجماعة أو وقع في افتراق، وكل خلافاتهم التي وقعوا فيها هي في الاجتهاديات.

حقيقة دعوى فرق الابتداع انتسابها إلى بعض الصحابة في المنهج

حقيقة دعوى فرق الابتداع انتسابها إلى بعض الصحابة في المنهج المقدم: لكنا نرى أن من أتباع الفرق كل منهم ينسب نفسه إلى منهج صحابي، فيقول: أنا أتبع الصحابي الفلاني، أو المجموعة الفلانية من الصحابة يدعمون هذا الرأي أو هذه العقيدة التي أنا أنتمي إليها. الشيخ: بعد التحقيق الحاصل من أئمة السلف، ثم عرض الموضوع على أي إنسان يدعي البحث العلمي والتجرد والتحقيق والتثبت أقول له: أتحداه في أن يصل ببحث علمي مؤصل تتوافق فيه شروط البحث العلمي إلى هذه النتيجة، وهي أن أحداً من الصحابة كان قدوة لفرقة من فرق الابتداع. ولا يوجد عند الصحابة مذهب يوافق أي فرقة من الفرق التي خرجت عن السنة، إلا بالتلبيس والتدليس والافتراء، وهذا أمر آخر. وقد يكون السبب اللبس، فأغلب الفرق تدعي أنها على مذهب بعض الصحابة. المقدم: وهذه دعوى. الشيخ: أو طائفة من الصحابة، ولنأخذ على سبيل المثال: الصوفية الطرقية، فهؤلاء يدعون أنهم أخذوا كثيراً من أحوالهم وعقائدهم وطرقهم من أهل الصفة، وعند المقارنة نجد البون شاسعاً، فلا علاقة لأهل الصفة من الصحابة رضي الله عنهم بهؤلاء الصوفية على الإطلاق، بل العكس هو الصحيح. المقدم: هل أخذوها من كونهم عبدوا الله في الصفة؟ الشيخ: ذكروا لهم أشياء ما حدثت، وكذلك بعض السمات العامة المشتركة بين جميع من يسلكون هذا المسلك من البشر، مثلاً: يوجد فيمن ينتحلون التصوف من يميل إلى الزهد والفقر، وأهل الصفة زهاد وفقراء، ولكنهم ليسوا منهج هؤلاء، فالزهد والفقر حالة توجد حتى في الكفار. المقدم: ليست مقصودة منهم لذلك. الشيخ: ليست منهجاً تعبدياً، فالزهد توفيق من الله عز وجل، الزهد الشرعي يهبه الله لمن يشاء، وليس خاصاً بأهل الصفة، لكنهم كانوا أكثر عرضة للفقر، فزهد أهل الصفة يختلف عن هؤلاء في أحوالهم ومقاماتهم ودعواهم، هذا مثال. المثال الآخر: أن المعتزلة يدعون أنهم سموا معتزلة لأنهم على مذهب الذين اعتزلوا الفتنة من الصحابة رضي الله عنهم لما وقعت الفتنة بين معاوية وعلي رضي الله عنهما، فهناك فئة من الصحابة لم يتبين لهم وجه الحق؛ فاعتزلوا الجميع في ذلك الوقت، فقد يصفهم بعض الناس بأنهم معتزلة. لكن المعتزلة التي خرجت عن السنة والجماعة ليست على مذهب هؤلاء، فرءوس هؤلاء المعتزلة صرحوا بسبِّ رءوس الصحابة الذين تبنوا قضية اعتزال الفتنة كـ ابن عمر، وابن عمر رضي الله عنهما أشهر من اعتزل الفتنة، أليس كذلك؟ المقدم: بلى. الشيخ: أو من أشهر من اعتزل من الصحابة، ويدعي متأخرة المعتزلة أنهم على مذهبه وغيره، في حين أن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة يقول عن ابن عمر: ما كان ابن عمر إلا حشوياً. أو نحو هذا الكلام، و (حشوي) يعني: أنه مجسم، والتجسيم كفر. وقال عن تابعي التابعين الذين كانوا أنداداً لـ عمرو بن عبيد، وهم الذين كانوا على مذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومذهب الذين اعتزلوا الفتنة من الصحابة: هؤلاء أنجاس أرجاس. فهذه مفارقات، لكن الله عز وجل يكشفهم. والوقت لا يتسع للتمثيل، إنما هو إشارة إلى أن كل فرقة تنتحل مسلك طائفة من الصحابة كذباً وافتراءً بالنوع أو بالأشخاص؛ فبالنوع مثل الذين ينتحلون مسلك آل البيت. المقدم: سيأتينا كلام حول هذا. الشيخ: وهذه مسألة ثانية. المقدم: أو مسلك أشخاص معينين. الشيخ: أي نعم، كـ ابن عمر أو أبي ذر كما يقول الاشتراكيون، ولذا كتبوا كتابات عن اشتراكية أبي ذر، مع أن أبا ذر بريء من الاشتراكية بمفهومها المعاصر.

الأصل الشرعي لمصطلح أهل السنة والجماعة

الأصل الشرعي لمصطلح أهل السنة والجماعة المقدم: حررت قبل قليل -يا شيخ حفظك الله- مصطلح السلف، وهناك مصطلح آخر هو -أيضاً- لصيق بهذا المصطلح، وهو مصطلح أهل السنة والجماعة، فنود بداية أن نتعرف على معنى هذا المصطلح، ثم نريد أن نعرف هل هو لفظ مخترع مبتدع، أم له أصل؟ الشيخ: أما أن له أصلاً فقد تكلمت عنه قبل قليل، وهو أنه مأخوذ من وصية النبي صلى الله عليه وسلم بتعبير النبي صلى الله عليه وسلم وبلفظه، وهو لفظ الوحي: (فعليكم بسنتي)، فمن استمسك بهذا المنهاج فهو على السنة، ثم قال: (عليكم بالجماعة)، فمن استمسك بهذا المنهج الذي عليه جماعة الصحابة رضي الله عنهم المتبعون للنبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم؛ فهو من الجماعة. إذاً: أهل السنة والجماعة هم الذين سلكوا هذا الطريق الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سماهم بذلك، والمنهاج واضح. بقي الشق الآخر من السؤال، وهو: هل هو مخترع؟ وهذه دعوى -كما قلت- يردها صريح النصوص، فهو لفظ لم يخترعه السلف لأنفسهم، ولم يرفعوه شعار استعلاء على الناس، إنما هو السنة والجماعة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن دخلها فهو الكاسب، ومن أعرض عنها فهو الخاسر، وليس هناك خصوصيات صنعها السلف لأنفسهم، لا في الاسم ولا في الأوصاف.

حقيقة دعوى فرق الابتداع كونها فرق أهل السنة والجماعة

حقيقة دعوى فرق الابتداع كونها فرق أهل السنة والجماعة المقدم: لكن هناك من الفرق من يدعون أنهم هم أهل السنة والجماعة، أما غيرهم فقد يكونون حشوية أو مجسمة إلى غير ذلك من الأوصاف؟ الشيخ: هناك من يدعي أنه من أهل السنة والجماعة وعنده اختلاف، وهناك من الفرق من أهل الأهواء والافتراق والبدع من هم من المسلمين، لكنهم ضلوا عن السنة، وما خرجوا من الإسلام، وأرجو أن يفهم ذلك؛ لأن هناك خلطاً، فحينما نقول: (الفرق) لا نقصد الفرق التي خرجت عن الملة، فهذه لا تحسب من فرق المسلمين، إنما الفرق التي بقيت على أصل الإسلام لكنها ابتدعت في الدين، فوقعت في ضلالات، ووقعت في بدع، وخرجت عن وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه خارج إطار السنة والجماعة. المقدم: مثل ماذا؟ الشيخ: مثل بعض الفرق المشهورة، ولا داعي لذكرها، لكن أقول: إن هذه الفرق كل منها يدعي أنه على مسلك السنة والجماعة، أو أكثرها. وقبل أن أذكر الميزان في تحقيق الدعوى لا بد من أن أشير إلى أمر، وهو أن منهج السنة والجماعة قد توجد بعض أصوله وبعض ثوابته عند الفرق الأخرى، فهذه الفرق ما خرجت من الدين كله، وهي تتفاوت، فبعض الفرق بقي عندها الكثير من أصول السنة، وبعضها تركت كثيراً، وبعضها ما بقي عندها من السنة إلا القليل، لكنهم كلهم خرجوا عن السنة؛ لأن الضابط في الخروج عن السنة هو: أن من خالف في أصل أو أكثر من أصول السنة والجماعة الاعتقادية أو العلمية أو العملية، أو في مناهج الدين؛ فقد خرج عن السنة في أصل أو أكثر. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من ميزان لتحقيق دعوى السنة والجماعة عند هؤلاء، فنقول: هذه ثوابت السنة: أركان الإيمان، أركان الإسلام، الشفاعة، الرؤية، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التعامل مع ولاة الأمر، التعامل مع العلماء، العبادات التي شرعها الله وشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم، عدم الإحداث في الدين إلخ. فننظر فيما عند هذه الفرق ثم نطبقه على هذه الثوابت، فإن تحقق أن كل أصولهم على الثوابت فهم من أهل السنة والجماعة، وإذا تحقق أنهم خالفوا في أصل أو أكثر سقطت الدعوى بهذا المنهج العلمي الواضح. المقدم: بعض الناس يقول: إن أهل السنة والجماعة هم تلك الفرق التي تقوم مقابل الرافضة، فهل هذا المصطلح له وجاهة؟ الشيخ: قصدك السنة في مقابل الرافضة؟ المقدم: السنة أو أهل السنة. الشيخ: نعم قد يطلق هذا؛ لأن كل مصطلح من المصطلحات أحياناً يكون له إطلاق عام، وأحياناً يكون له إطلاق خاص. فإذا أخذنا مفهوم السنة والجماعة بالإطلاق الخاص الاصطلاحي الشرعي؛ فإنه يعني الفرقة التي ثبتت على منهاج النبوة. ولكن هناك إطلاق عام له عندما نقسم المسلمين إلى قسمين، فنقول: سنة وشيعة، فيدخل في المفهوم العام للسنة الفرق الكلامية الأخرى والصوفية الذين لا ينتحلون التشيع في مقابل الشيعة، وهذا التصنيف لم يكن موجوداً قديماً، بل أغلبه جاء من المستشرقين، لكن مع ذلك له أصل عندما ننظر إلى عموم الوصف. المقدم: الذي نقصد في هذا اللقاء أن أهل السنة هم من كان على منهج النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه. الشيخ: الوصف الشرعي، لا الوصف العام.

كتب في عقيدة السلف

كتب في عقيدة السلف المقدم: ننتقل إلى نقطة أخرى جديدة حول أبرز الكتب في العقيدة، وإن كانت الكتب متشعبة في أبواب متعددة، فهل من كتب تقترحها للأخ المشاهد أو الأخت المشاهدة؟ الشيخ: يظهر لي أن مثل هذا السؤال يستفيد منه عموم المشاهدين، وتحضرني الآن كتب جيدة لبعض مشايخنا المعاصرين؛ لأنها ألفت بأسلوب سهل، وهي لا تخرج عن كتب السلف عموماً، يعني: الكتب الشاملة، فهناك كتب متخصصة في جانب معين، مثل كتاب التوحيد. وأما في العقيدة كلها فكتاب الشيخ محمد بن عثيمين، وهو كتاب جيد ومعنصر عنصرة جيدة. المقدم: كتاب ماذا؟ الشيخ: العقيدة، أو عقيدة السلف، أو عقيدة أهل السنة والجماعة، أو نحو ذلك، فالعناوين قد لا تحضرني بدقة. وللشيخ صالح الفوزان كتاب في العقيدة جيد ومركز ومعنصر. وللشيخ ابن باز رحمه الله عدة كتب، منها المختصر جداً، مثل: (ما لا يسع المسلم جهله)، وهناك كتاب آخر للشيخ ابن باز في العقيدة معنصر وجيد. فأنا أقول: كل مشايخنا الكبار الآن -كالشيخ ابن جبرين - أو أغلبهم لهم كتب في العقيدة، وكلها جيدة ومعنصرة بحسب ما يجد المطلع الكتاب قريباً منه، فيستفيد منه إن شاء الله.

الوهابية والحنبلية في ميزان المدرسة العقلية

الوهابية والحنبلية في ميزان المدرسة العقلية المقدم: من الدعاوى التي قد يطرحها هؤلاء قولهم: أنتم تقصدون بمذهب السلف الوهابية -كما يسمونها- أو الحنابلة، فهل هو محصور في هذين الوصفين؟ الشيخ: هذا الكلام قد يكون له شيء من الصحة من جانب، لكن لو نظرنا إلى الناحية الشمولية الشرعية فهذا لا يخلو من خطأ أو من نوع من التلبيس والتمويه على الناس. فالوهابية وهي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذا أخذناها على حقيقتها فما هي إلا امتداد لمنهاج النبوة، وما هي إلا إحياء وإظهار وإعزاز لمنهج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والقول والعمل وفي التطبيق في المجتمع والسياسة وكل أمور الحياة. إذاً: هي تجديد لمنهاج النبوة، وهي منهج السلف الصالح، هذه حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وأما تسميتها (وهابية) فهو نوع من اللمز، ونوع من التشويه الدعائي من قبل خصوم الدعوة والجاهلين بحقيقتها، سواء كانوا من الكفار أو من المسلمين أصحاب البدع والأهواء، أو من الجهلة بحقيقتها، فهم يظنون أن الوهابية فرقة، والوهابية ليست فرقة، هي منهج السنة والجماعة قام بها هذا الداعية المصلح مثلما قام بها الدعاة المصلحون السابقون، فنسبت إليه من باب التعيير، وهذه في الحقيقة تزكية، ولذلك أقول لإخواني الذين يعرفون حقيقة دعوة الشيخ: يجب أن تعتزوا بهذا الوصف وبهذا التعيير؛ لأنه تزكية إذا أخذنا الوهابية على حقيقتها، لكن إذا كان القصد بالوهابية ما يقوله أصحاب البهتان والافتراء على الدعوة من أنها خارجة عن الإسلام، أو أنها خارجة عن السنة، أو أنها مخترعة أو مبتدعة، أو أنها تبغض الأولياء أو تبغض النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه اقتراءات؛ إذ كيف تبغض الأولياء وتبغض النبي صلى الله عليه وسلم وقد قامت على نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة الأنبياء، وبذلت مهجتها في نصرة الحق الذي يمثله النبي صلى الله عليه وسلم ويمثله الأولياء؟! أقول: الوجه المشوه للوهابية قد يسيء فعلاً عند هذا الإطلاق. وكذلك الحنابلة ليسوا إلا مذهباً فقهياً اجتهادياً، ومذهب أهل السنة والجماعة لا يخص الحنابلة، وإن كان مذهب أهل السنة في الحنابلة كثيراً؛ لأن الإمام أحمد هو آخر الأئمة الأربعة، وعلى منهجه استقر منهج السلف العملي، فأكثر منهج السلف العملي استقر على منهج الإمام أحمد؛ لأنه آخر الأئمة الأربعة، وكلهم في العقيدة سواء، ولذلك فمن الأمور التي يجب أن نكشفها للإخوة؛ لأنها تبين -مع الأسف- مدى السذاجة عند الجاهلين، ومدى البهتان عند المتعمدين الذين يطلقون على منهج السلف لفظ الوهابية أو الحنابلة على سبيل اللمز، أن الدليل على جهلهم: أن أكثر الذين رسموا منهج السلف في القرون الثلاثة الفاضلة وما بعدها أغلبهم ليسوا من الحنابلة. المقدم: ممن؟ الشيخ: من المالكية، ومن الشافعية، ومن الأحناف، وهذا يحتاج إلى استقراء دقيق، ولكن من خلال اطلاعي على بعض البحوث العلمية والرسائل المعاصرة نجد أن الأكثر عدداً ممن نصروا منهج السلف ومنهج أهل السنة والجماعة هم الشافعية والمالكية ثم الأحناف، هذا أمر. الأمر الآخر: ينبغي أن يعرف أن أكثر منهج السلف من الناحية المنهجية العلمية الشاملة استقر قبل الإمام أحمد؛ إذاً: فالمفترض أن ينسب إلى مالك، وينسب إلى الشافعي وينسب إلى أبي حنيفة قبل أن ينسب إلى أحمد.

سر التصاق منهج السلف بالحنابلة

سر التصاق منهج السلف بالحنابلة المقدم: ما هو السر في نسبته إلى الإمام أحمد دون غيره؟ الشيخ: هذا من الأشياء التي لا نعتبرها تعالياً على الآخرين، وهو أن الإمام أحمد رحمه الله كان قوياً وحازماً، ورسم للسلف منهجاً علمياً وعملياً في واقع الحياة. كما أنه جدد في الوسائل، ليس في الأصول والثوابت، بل في الوسائل العلمية والوسائل المنهجية في تقرير عقيدة السلف والدفاع عنها، الأمر الذي جعل إسهامه في هذا أكثر من غيره. المقدم: وهل المحنة التي تعرض لها الإمام أحمد لها دور في هذا؟ الشيخ: لا شك، فالمحنة ما هي إلا دليل على ما نقول فقط، فلها دور في تعاطف المسلمين عموماً مع الإمام أحمد، لكن الكلام على تعلقهم بمنهجه. فمن هنا قيل لأهل السنة: الحنابلة، هذا شيء. الشيء الآخر: أن الحنابلة تميزوا بالحزم في نصر السنة أكثر من غيرهم، إلى حد أن بعضهم قد يؤخذ عليه أنه أخذ منهج الشدة، لكن هذا قليل، فالأكثرية من الحنابلة عندهم حزم نصر الله به السنة. المقدم: لذلك الحنابلة يوصمون بالتشدد. الشيخ: نعم يوصمون بالتشدد؛ لأن الحزم لا يطيقه الناس، والناس لا يفرقون بين الحزم وبين العنف، فكثير من الناس يفسر الحزم والقوة في الحق -ولو كانت بضوابط شرعية- بأنها عنف، ولذلك اتهموا المذهب الحنبلي بأنه عنيف وأن أهله فيهم عنف، وليس فيهم عنف، بل حزم، وقد يوجد منهم من يتجاوز، وهذا حق. والأمر الثالث في شهرة مذهب الحنابلة: أن أكابر المصلحين -كـ ابن القيم وابن تيمية - احتذوا منهج الإمام أحمد في الاجتهاد، وإن كانوا لا يتقيدون به. فمن هنا جاءت هذه الشهرة، ونسب الناس السنة والجماعة إلى الحنابلة والوهابية، وهذا فيه لبس وتلبيس. المقدم: لذلك قد ينسب بعض أهل البدع إلى إمام من الأئمة كـ الشافعي أو مالك، كل فئة تنسب نفسها إلى إمام فقهي معين، يقولون: نحن ننتسب إلى العالم الفلاني، لذلك صنف أغلب الشافعية من قبل أهل البدع، كما صنف أغلب الحنفية. الشيخ: لكن هذا التصنيف لم يكن سبباً للخلط؛ لأن الذين يلبسون على الناس يستهدفون المنهج الذي يصادم قناعاتهم ويصادم مناهجهم، وهو أقوى منهم. وإلا فهم عند التحقيق يعرفون، وفي الحقيقة الأئمة الأربعة هم أئمة السنة، وأئمة العقيدة، ولا يختلفون؛ ولذلك فمن الأشياء التي ننبه عليها في هذا المقام: أن حقيقة انتساب أهل الأهواء والافتراق والبدع إلى الأئمة الأربعة لا تستقيم شرعاً ولا عقلاً، وعند البحث المتجرد نجد أنهم ليسوا شافعية ولا مالكية ولا حنابلة، ولا أحنافاً؛ لأن الأصل عند الأئمة الأربعة هو العقيدة، بل إنهم أشاروا إلى أن ما خالفوا فيه الدليل يطرح، وهم مجتهدون متواضعون، وما أرادوا أن يتعصب لهم الناس، ولا يرضون لأحد من أتباعهم أن يترك نهج السنة والجماعة، وقد أكدوا على ذلك. إذاً: الحقيقة أن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الأئمة الأربعة، وأن الذين ينتسبون إلى الأئمة الأربعة ممن خرجوا بالبدع عن السنة والجماعة انتسابهم غير صحيح وغير شرعي.

حقيقة دعوى تأثر عقيدة السلف بالسلاطين

حقيقة دعوى تأثر عقيدة السلف بالسلاطين المقدم: من الدعاوى الأخيرة التي يدعونها أنهم يقولون: إن عقيدة السلف تأثرت ببعض السلاطين وآرائهم واجتهاداتهم؛ لتسلطهم وقوتهم، فهل هذا صحيح؟ الشيخ: نعم يقولون هذا، ويبدو لي أن الذين اطلعت على كتاباتهم وأقوالهم من هذا الصنف في هذا الزمن خاصة أنهم أصحاب خلفيات فرقية، معروفون بالانتماءات الفرقية سابقاً، فلما رأوا أن منهج السلف منهج متكامل يسد عليهم جميع أبواب الشبهات وجميع أبواب الاعتراضات؛ ذهبوا يلصقون بمنهج السلف كل تهمة، فنظراً إلى أن منهج السلف فيه حزم تجاه رءوس البدع الذين يدعون إلى البدعة، وأن السلف يرون أن من دعا إلى بدعة وأفتى الناس بها فهو مفسد، فكانت أحكامهم النظرية والتطبيقية أحياناً على أهل البدع قاسية، وكانوا أيضاً يوصون الحكام بالأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء بالحزم، نظراً لذلك جاءت شبهة أن بعض أئمة السلف عملاء للسلاطين، وهذا كذب وافتراء، فالسلف وأتباعهم يناصحون السلاطين في كل زمان ومكان إلى يومنا هذا، فعلماؤنا ومشايخنا يناصحون السلاطين أبراراً كانوا أو فجاراً، وليست هذه عمالة، يناصحونهم ويسمعون ويطيعون بالمعروف. إذاً: الشبهة جاءت من هذا الجانب، فهم لما ضاقوا بما بين السلف والولاة من التعاون على البر والتقوى قالوا: هؤلاء الأئمة -أئمة السلف- استجابوا لضغط السلاطين في بعض مسائل العقيدة. ومن ضمنها: دعواهم أن مسألة التقعيد لطاعة ولاة الأمر بالقواعد المعروفة نتيجة ضغط السلاطين عليهم، حتى اعتبروا جميع أبواب الأحكام السلطانية والتعامل مع السلطان وأحكام الولاية والإمامة والخلافة التي هي جزء من أبواب العقيدة وجزء من أبواب الفقه، اعتبروها كلها نتيجة عمالة بعض أئمة السلف للسلاطين؛ كاستجابة لواقع سياسي أو ضغط أو مداهنة إلخ. وليس في عقيدة السلف -حتى في منهج التعامل مع ولاة الأمر- ما هو استجابة لرغبة سلطان ولا نتيجة ضغط ولا مجاملات، وإن حدث من بعض السلف شيء من ذلك فإنما ينفيه المنهج؛ لأنها تصرفات فردية تشذ عن القاعدة وليست محسوبة على المنهج. المقدم: يوضح ذلك موقف الإمام أحمد أمام الحاكم في عصره وفي تلك الفتنة قتل بعض أئمة السلف ولم يرضخوا لهذا الحاكم أو ذاك لأجل تغيير عقيدة من عقائد المسلمين. في نهاية الحلقة نشكر شيخنا الشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل على هذه الطروح الجميلة في موضوع: (الاتجاهات العقلية المعاصرة) في الحديث عن عقيدة أهل السنة والجماعة.

§1/1