البدعة الشرعية

أبو المنذر المنياوي

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1433 هـ / 2012 م رقم الإيداع بالمكتبة الشاملة 9/ 2012

[مقدمة]

[مقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬1). روى النسائي بسند صحيح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» (¬2). قال السندي في حاشيته على النسائي: "وأحسن الهدى هدى محمد هما بضم ففتح أو بفتح فسكون والأول بمعنى الإرشاد والثاني بمعنى الطريق". ولما كان الأصل في صيغة التفضيل المشاركة في أصل الفعل، فقد يتوهم شخص مشاركة هدي غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الحسن إعمالاً لمقتضى صيغة التفضيل. وللإجابة على ذلك نقول: أن صيغة التفضيل قد ترد في القرآن، وفي اللغة مراداً بها مطلق الاتصاف، لا لتفضيل شيء على شيء، فمن ذلك أنهم في أساليب اللغة العربية إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل، كقول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - لأبي سفيان: أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ ... فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ ¬

_ (¬1) هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه وكان السلف يفتتحون بها خطبهم في دروسهم، وكتبهم وللشيخ الألباني - رحمه الله - فيها رسالة لطيفة، جمع فيها طرق حديثها، وألفاظها، وذكر فيها بعض الفوائد التي تتناسب مع موضوعها. (¬2) أخرجه النسائي في كتاب صلاة العيدين (19)، باب كيف الخطبة (22)، (3/ 188) حديث رقم (1578)، وصححه الألباني، وسيأتي - بمشيئة الله - بيان عدم شذوذ زيادة: (وكل ضلالة في النار) في الباب الثالث.

ذم البدع والمبتدعين

وكقول العرب: الشقاء أحب إليك، أم السعادة؟ ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} (¬1)، {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2)، {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬3)، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (¬4) ... (¬5)، ولما كانت صيغة المفاضلة لا تحمل على هذا الوجه الذي هو خلاف الأصل إلا لدليل خارج يقتضي ذلك كان لابد من إيجاد دليل هنا للدلالة على منع مشاركة غير هديه - صلى الله عليه وسلم - لهديه في الحسن، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬6)؛ فتحصل من ذلك منع مشاركة غير هديه - صلى الله عليه وسلم - لهديه في الحسن - إلا إذا دل الدليل على خلاف ذلك، وسيأتي - بمشيئة الله - عقد فصل لمناقشة الأصول التي يصح أن يستند إليها العمل ليكون سنة لا بدعة. ذم البدع والمبتدعين: أولا: من القرآن الكريم (¬7): 1 - قال الله تعالى: {وأنَّ هذا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تتَّبعُوا السبُل فتفرَّق بِكُمْ عنْ سَبُيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُمْ تتَّقُون} [فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع. وليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقاً تُسْلك دائماً على مضاهاة التشريع (¬8). وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات؛ ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدّثنا حماد بن زيد عن ¬

_ (¬1) (الفرقان:24). (¬2) (النمل: 59). (¬3) (يوسف:39). (¬4) (النساء: 122). (¬5) انظر للكلام على صيغة المفاضلة: أضواء البيان (6/ 109، 294)، شرح الواسطية للشيخ العثيمين (ص /79). (¬6) (النجم:3، 4). (¬7) - هذه الأدلة، ووجوه الاستدلال بها منقولة من الاعتصام (1/ 38) ببعض التصرف البسيط. (¬8) - وسوف يكون لنا وقفة مع معنى المضاهاة عند الشاطبي - بمشيئة الله -.

ثانيا: من السنة

عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: خط لنا رسول الله (يوماً خطاً طويلاً، وخط لنا سليمان خطاً طويلاً، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: (هذا سبيلُ اللهِ) ثم خط لنا خطوطاً عن يمينه ويساره وقال: (هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) ثم تلا هذه الآية: {وأنَّ هذا صِراطِى مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} - يعني الخطوط - {فتفرَّقَ بِكمْ عنْ سَبِيلِهِ} (¬1) ... عن مجاهد في قوله: {ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُل} قال: البدع والشبهات]. 2 - قول الله تعالى: {وعلَى الله قصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ ولوْ شَاءَ لهَداكُمْ أجْمعِين} فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق؛ أي عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات، أعاذنا الله من سلوكها بفضله. وكفى بالجائر أن يحذر منه. فالمساق يدل على التحذير والنهي. عن التستري: {قصْدُ السَّبِيلِ} طريق السنة، {ومنها جائرٌ} يعني إلى النار، وذلك الملل والبدع، وعن مجاهد {قصْدُ السَّبِيلِ} أي المقتصد منها بين الغلو والتقصير، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدع. 3 - {إنَّ الَّذِين فرَّقوا دِينهُمْ وَكانُوا شِيعاً لسْت مِنْهُمْ في شْيءٍ إنَّما أمْرُهُمْ إلىَ اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يفْعَلُون} قال ابن عطيّة: هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوءِ المعتقد، قال القاضي [إسماعيل]: ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية؛ لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً. ثانياً: من السنة: 1 - روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (¬2). ¬

_ (¬1) - أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 348) حديث رقم (3241) من طريق إسماعيل بنحوه، وتابع إسماعيل: عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد، عند أحمد (1/ 430)، وعفان عند الدارمي (1/ 78) حديث رقم (202)، ومعلي بن مهدي عند ابن حبان (1/ 180) حديث رقم (6)، والحديث حسن الأرناؤوط إسناده في هامش المسند. (¬2) - أخرجه البخاري في كتاب (الصلح) (57)، باب (إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح باطل) (5)، (2/ 959) حديث رقم (2550)، ومسلم في كتاب (الأقضية) (30)، باب (نقض الأحكام الباطلة) (8)، (3/ 1343) حديث رقم (1718).

2 - روى الشيخان عن ابن عباس مرفوعاً قال: (قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم - عليه السلام -، ألا وإنه سيجاء برجال من آمتي فيؤخذ بهم ذاتَ الشمال فأقول يا رب أصحابي، فيُقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيقال لي: (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)) (¬1). 3 - وفي مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: (من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أُجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) (¬2). 4 - وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) (¬3). ثالثاً: الآثار: · ... قال أبو بكر الصديق - - رضي الله عنه - -: " لست تاركاً شيئاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به لأني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ". · عن عبد الله بن عمر - - رضي الله عنه - ما - قال: " كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ". · ... عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر ¬

_ (¬1) - أخرجه البخاري في كتاب (الأنبياء) (64)، باب (قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (11)، (3/ 1222) حديث رقم ... (3171)، ومسلم في كتاب (الجنة) (51)، باب (فناء الدنيا) (14)، (4/ 2194) حديث رقم (2860). (¬2) - أخرجه مسلم في كتاب (العلم) (47)، باب (من سن سنة حسنة أو سيئة) (6)، (4/ 2060/) حديث رقم (2674). (¬3) - رواه الطبراني في "الأوسط" (4/ 581) حديث رقم (4202)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 307): (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة)، وحسن إسناده الألباني في صحيح الترغيب.

العتيق". عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة". · ... عن ابن عباس - رضي الله عنه -: " النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة، عبادة ". · ... قال عمرو بن يحيى: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب ابن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد ... وذكر إنكاره على من يكبرون جماعة في المسجد وقوله لهم: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا نضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وهذه ثيابه لم تبلَ وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة ... (¬1). · ... عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما كان في مجلس فعطس رجل، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول معك الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قل: الحمد لله، أو قال له قل الحمد لله رب العالمين. · ... عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيه القرآن، حتى يأْخذه المؤمن والمنافق، والرجل، والمرأة، والصغير، والكبير، والعبد، والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأْت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة، وأُحذِّركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. عن حذيفة أنه أَخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لَتَفْشُونَّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة. · ... قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد ¬

_ (¬1) - أخرجه الدارمي في سننه (1/ 79) أثر رقم (204)، وقال حسن أسد: إسناده جيد.

زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً. وقال الإمام أبو حنيفة: عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة. وقال الإمام أحمد: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله، والإقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة. قال الفضيل بن عياض: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة. · ... وقال أيضا: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.

الباب الأول تعريف البدعة

الباب الأول تعريف البدعة: أولا ً: تعريف البدعة لغة: قال المطرزي: (الْبِدْعَةُ) اسْمٌ مِنْ ابْتَدَعَ الْأَمْرَ إذَا ابْتَدَأَهُ وَأَحْدَثَهُ كَالرِّفْعَةِ اسْمٌ مِنْ الِارْتِفَاعِ وَالْخِلْفَةِ مِنْ الِاخْتِلَافِ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى مَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ أَوْ نُقْصَانٌ مِنْهُ (وَفِي) حَدِيثِ نَاجِيَةَ مَاذَا أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِعَ عَلَيَّ مِنْهَا الِاسْتِعْمَالُ أُبْدِعَ بِفُلَانٍ إذَا انْقَطَعَتْ رَاحِلَتُهُ عَنْ السَّيْرِ لِكَلَالٍ أَوْ عَرَجٍ وَلَوْ رُوِيَ بِمَا أَبْدَعَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ لَصَحَّ لِأَنَّ الْكِسَائِيَّ قَالَ أَبْدَعَتْ الرِّكَابُ إذَا كَلَّتْ وَعَطِبَتْ كَأَنَّهَا أَحْدَثَتْ أَمْرًا بَدِيعًا. (¬1) قال ابن منظور: [بدع: بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. وبدَع ... والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوّلاً. وفي التنزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}؛ أَي ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ، قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير. والبِدْعةُ: الحَدَث وما ابْتُدِعَ من الدِّينِ بعد الإِكمال ... وأَبْدَعَ وابْتَدَعَ وتَبَدَّع: أتَى بِبدْعةٍ، قال اللهِ تعالى: {ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعوها}؛ وقال رؤبة: إِنْ كُنْتَ للهِ التَّقِيَّ الأَطْوعا ... فليس وجْهَ الحَقِّ أَن تَبَدَّعا وبَدَّعه: نَسَبه إِلى البِدْعةِ. واسْتَبْدَعَه: عدَّه بَديعاً. والبَدِيعُ: المُحْدَثُ العَجيب. والبَدِيعُ: المُبْدِعُ. وأَبدعْتُ الشيء: اخْتَرَعْته لا على مِثال ... ] (¬2) وقال الراغب الأصفهاني: [الإبداع: إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء، ومنه قيل: ركية بديع أي: جديدة الحفر ... والبدعة في المذهب: إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة] (¬3). وقال أبو البقاء الكفوي: [البدعة كل عمل عمل على غير مثال سبق فهو بدعة] (¬4). قال الشاطبي: [وأصل مادة ((بدع)) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول ¬

_ (¬1) المغرب مادة: ب د ع. (¬2) لسان العرب مادة: ب د ع. (¬3) مفردات القرآن مادة بد ع. (¬4) الكليات ص 226.

ثانيا: تعريف البدعة اصطلاحا

الله تعالى: {بَدِيعُ السَّموَاِت والأرْضِ} أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُل}، أي ما كنت أول من جاءَ بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة] (¬1). ثانياً: تعريف البدعة اصطلاحاً: أما في الاصطلاح , فقد تعددت تعريفات البدعة وتنوعت ; لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها. فمنهم من وسع مدلولها , حتى أطلقها على كل مستحدث من الأشياء , ومنهم من ضيق ما تدل عليه , فتقلص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام. وسنوجز ذلك في قولين: القول الأول: اتجه فريق من العلماء إلى ذم البدعة , وقرروا أن البدعة كلها ضلالة , سواء في العادات أو العبادات. ومن القائلين بهذا الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو اختيار طائفة من أتباعهم كالشمني، والعيني، والطرطوشي، والشاطبي، وابن رجب، وابن تيمية، وهو اختيار طائفة من محققي الشافعية كالبيهقي، وابن حجر الهيتمي، وقال به طائفة من الصحابة والتابعين كما سبق نقل أقوالهم آنفاً في مبحث ذم البدع، والمبتدعين. القول الثاني: أطلق أصحاب هذا القول البدعة على كل حادث لم يوجد في الكتاب والسنة , سواء أكان في العبادات أم العادات , وسواء أكان مذموما أم محموداً، ويرى هؤلاء العلماء أن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة فإن وافقت السنة فهي حسنة محمودة وإن خالفت السنة فهي سيئة مذمومة. وبناء على هذا الأساس قالوا إن البدعة تنقسم إلى الأقسام الخمسة فهي إما أن تكون ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 36.

واجبة أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة .. وقد نسب هذا القول للإمام الشافعي , ومن أتباعه العز بن عبد السلام , والنووي , وأبو شامة، وابن الأثير، والسيوطي. ومن المالكية: القرافي , والزرقاني. ومن الحنفية: ابن عابدين. ومن الحنابلة: ابن الجوزي. ومن الظاهرية: ابن حزم. وسوف يأتي - إن شاء الله - تحقيق نسبة هذه الأقوال لقائليها، وذكر تعريفاتهم للبدعة، ومناقشة ما استدلوا به تفصيلياً في مبحث خاص (¬1). وسوف نتوقف - بمشيئة الله - في هذا المبحث مع القول الأول؛ لبيان أقوالهم ومسالكهم في تعريف البدعة، وسوف نعرض لأصولهم في هذا الصدد، فالله المستعان: (أقوال العلماء في تعريف البدعة على القول الأول: وبالنظر إلى ما ذكره المحقق الشاطبي في تعريف البدعة نجد أنه ذكر اتجاهين في تعريف البدعة، حيث قال ما ملخصه: [فالبدعة إذن عبارة عن ((طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)) وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: ((البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)) ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم. ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأْي أنه مخترع مما هو متعلق ¬

_ (¬1) ولعل ذلك يكون بمشيئة الله بالرد على رسالة الغماري التي جمع فيها أقوال هذا المذهب وانتصر له حتى أصبحت رسالته الجامعة لشتات أقوال وأدلة هذا القول عمدة في بابها يتشدق بها المبتدعون 0

بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأُصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأُصولها موجودة في الشرع ... (فإن قيل): فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع. (فالجواب): أن له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأْتي بسطها بحول الله. فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي واحد؛ فلبست ببدعة البتة. وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة، لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله. ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة. ويلزم أن يكون دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة. وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة. فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً ... وقوله في الحد ((تضاهي الشرعية)) يعني: أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة: منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة. ومنها: التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً، وما أشبه ذلك. ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته ... وقوله: ((يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى)) هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.

وقفات مع تعريف الشاطبي

وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونَ} (¬1)، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ ... وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات. فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية ... وأما الحد على الطريقة الأُخرى (¬2) فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية. ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأْتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها ... وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله] (¬3). وقفات مع تعريف الشاطبي: الوقفة الأولى: قال الشيخ مصطفى بن محمد بن مصطفى: [وقد رجَّح الشاطبي رحمه الله تعالى هذا التعريف الذي يقول بدخول البدع في العادات والمعاملات (¬4)، حيث قال: ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادى من سابقة التعبد، لأن مالا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي. فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع، والنكاح، والشراء، والطلاق، والإجارات والجنايات كلها عادى، لأن أحكامها معقولة المعنى، ولابد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها ... فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من هذا الوجه صح دخوله في العاديات كالعبادات وإلا فلا". ¬

_ (¬1) الذاريات: 56. (¬2) أي على طريقة من يدخل العادات في معنى البدع. (¬3) الاعتصام للشاطبي (1/ 36: 42]. (¬4) وقد وافق في ذلك الغامدي في كتابه حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 256).

وقال أيضا: شبه والرد عليها: إذا كان الأصل في العقود والشروط والمعاملات العفو حتى يحرمها الله تعالى، فكيف تدخلها البدع؟ والجواب، أولاً: ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادى من شائبة التعبد لكونه مقيداً بأوامر الشرع إلزاماً أو تخييراً أو إباحة. ثانياً: البدع لا تدخل في الأمور العادية إلا من الوجه العبادي فيها، فإذا ألحق المكلف حكماً شرعياً بعمل عادى وقصد به القربة وهو في حقيقته ليس كذلك فقد ابتدع. قال ابن رجب رحمه الله: (فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود ... كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام ... ). وكما يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: والأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر. وقال النووي في شرح مسلم لحديث (وفى بضع أحدكم صدقة)، " في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقة ". ويقول الغزالي في الإحياء (4/ 371): وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات. ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (1/ 311): الأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسنة رسله، ولا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك. وقال في الاستقامة (2/ 152): لذات الدنيا ونعيمها إنما هي متاع ووسيلة إلى لذات الآخرة وكذلك خلقت، فكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهو مما أمر الله به ورسوله، ويثاب على ما يقصد به وجهه ... ). ويمكن توضيح هذه المعاني بالأمثلة: - وضع المكوس على الناس حتى تصبح أمراً محتوماً دائماً أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهى المشروع كالزكاة. - نكاح المحلل الذي يحتال به لإجازة ما هو حرام شرعاً إذا اعتقد فاعلوه جواز ذلك، وحله في الشريعة، أما إذا لم يعتقدوا ذلك فيكون حراماً ومعصية لا بدعة.

الوقفة الثانية

- وفى العادات بمثل التقيد بلباس معين أو عادة معينة، بحيث يجعل ذلك لازماً أو مستحباً وهو في الأصل مباح، فذلك يعد بدعة كما نص شيخ الإسلام على ذلك، وقد نص رحمه الله تعالى على لبس الصوف ( ... اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلى الله بدعة) الفتاوى 11/ 28، 555.] اهـ (¬1). (وفق الشاطبي بين الطريقتين وجعلهما كالقول الواحد حيث قال: [هل يدخل في الأُمور العادية أم يختص بالأُمور العبادية؟ أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين: أحدهما: أن تكون من قبيل التعبدات. والثاني: أن تكون من قبيل العادات. فأما الأول: فلا نظر فيه هاهنا. وأما الثاني: ـ وهو العادي ـ فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعبادات، فكما أنَّا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأُمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأُمور العادية من ذلك الوجه، صح دخوله في العاديات كالعبادات، وإلا فلا. وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ... فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنها تقع وتظهر وتنتشر أُمور مبتدعة على مضاهاة التشريع، لكن من جهة التعبد، لا من جهة كونها عادية، وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة، والمعصية التي هي ليست ببدعة. وإن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة، وحصل بذلك اتفاق القولين، وصار المذهبان مذهباً واحداً، وبالله التوفيق].اهـ (¬2) الوقفة الثانية: إن كلمة الدين في التعريف على كلا الطريقتين يختلف مدلولها من طريقة لأخرى ففي التعريف الأول الذي قصر معنى البدعة على العبادات، فيكون المراد بالدين كل ما جاء لمصالح العباد في آجلتهم فقط دون عاجلتهم، ويكون المراد به في التعريف الثاني كل ما جاء لمصالح العباد في آجلتهم وعاجلتهم. ¬

_ (¬1) تيسير العلام بتهذيب وشرح الاعتصام. (¬2) الاعتصام (2/ 79: 98).

الوقفة الثالثة

الوقفة الثالثة: بالتأمل لتفسير الشاطبي في التعريف على كلا الطريقتين لقيدي: (طريقة، تضاعي الشريعة) مع قوله: [ويتبين ذلك بمثال وضع المكوس في معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً ما، أو في حالة ما، لنيل حطام الدنيا، على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه ذلك، أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائماً، أو في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة، ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك. فأما الثاني: فظاهر أنه بدعة، إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة، بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة، واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك، لأنه شرع مستدرك، وسَنٌّ في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نَهْى عن المعصية، ونهى عن البدعة، وليس ذلك موجوداً في البدع في القسم الأول، وإنما يوجد به النهي من جهة كونه تشريعاً موضوعاً على الناس أمر وجوب أو ندب، إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية؛ بل نفس التشريع هو نفس الممنوع ... ] اهـ (¬1) تلحظ أن من معاني المضاهاة عنده أن يُجعل الأمر المحدث طريقة يسير عليها الناس، ملزمين بها كالدين. وهذا أمر زائد على الابتداع. فقد جعل الشاطبي الفرق بين المعصية والبدعة هو الإلزام بالمعصية كالدين الموضوع والأمر المحتوم، والمدقق في ذلك يجد أن الفرق بين الحالتين إنما هو بالإصرار على العمل، والإصرار على المعصية لا يحولها إلى بدعة، فبطل بذلك جعل الإلزام بدعة ما لم يقيد بقصد القربة. قال الشيخ سليمان الماجد في "ضابط البدعة وما تدخله": (القاعدة الثالثة: مضاهاة المكلف للتعبدات المحضة. ويجري حكم البدعة بمضاهاة التعبدات في صورتين: ¬

_ (¬1) المصدر السابق (2/ 80 - 81).

الصورة الأولى: تخصيص العبادة المحضة، أو تقييدها بمكان أو زمان أو حال أو صفة؛ سواء كان ذلك باعتقاد المشروعية على الوجه الخاص أو المقيد، أو أن يقع هذا التخصيص أو التقييد بمحض العادة، ومطلق المداومة. والصورة الثانية: تخصيص العادات بمحدودات من مكان أو زمان أو حال أو صفة لا يُعقل لهذه المحدودات معنى على التفصيل؛ ولو لم يُرد بها القربة لله أو للبشر؛ كضرب المكوس والوظائف على الدوام، وتنكيس العلم أو الصمت حداداً، وزيارة نصب الجندي المجهول، والأعياد القومية). والصورة الأولى تدخل في البدعة الإضافية، وأما الثانية فهي محل الخلاف وسيأتي الكلام عليها. وقد ناقش الشيخ الغامدي اعتراضات د. عزت على عطية (¬1) على قيد المضاهاة عند الشاطبي ثم قال معمماً لمعنى المضاهاة: [ولا يشترط أن تكون المضاهاة خاصة بالإلزام أو التشريع الزائد فقط، بل وتكون مع ذلك بالتخصيص الزماني أو المكاني، والتخصيص بالهيئة والطريقة ونحو ذلك من أنواع التخصص الذي لا يكون إلا من قبل الشرع، وتكون بالاعتماد على شُبَهِ الأدلة الشرعية، وتكون المضاهاة كذلك بقصد القربة بالعمل المبتدع، وهذا أوسع أبواب المضاهاة، فإن المبتدع إنما يريد ببدعته القرب إلى الله والتعبد بهذا العمل المحدث، فهو يضاهي بقصده هذا وإرادته العمل المشروع] (¬2). وقول الشيخ الغامدي: (ولا يشترط أن تكون المضاهاة خاصة بالإلزام أو التشريع الزائد فقط) موافقة منه للشاطبي في تفسير المضاهاة بذلك وإدخاله في معنى البدعة، ... وقوله: (وتكون المضاهاة كذلك بقصد القربة بالعمل المبتدع) صريح في أنه لا يشترط قصد القربة في المعاني الأُول التي ذكرها لمعنى المضاهاة، ومن المعلوم أنه لابد من قصد القربة للحكم على العمل بالبدعية. وعليه فلابد من تعميم قيد المضاهاة عند الشاطبي على معنى القربة. كما هو معلوم بالاضطرار من معنى البدعة الشرعية أنه لابد من شائبة التعبد والتقرب فيها، ولكن هذا التعميم في الحقيقة يعود على هذا القيد بالبطلان، ويجعله قيداً زائداً يمكن الاستغناء عنه ¬

_ (¬1) في كتابة البدعة: تحديدها، موقف الإسلام منها. وكتابه رسالة دكتوراه تقدم بها لجامعة الأزهر، وسار فيها على القول بتحسين بعض البدع. (¬2) الغامدي (1/ 260) 0

بقيود أخرى في التعريف، كقيد: في الدين، يقصد، المبالغة في التعبد. (قال الشيخ الغامدي: [وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... ينكر على من يتقرب إلى الله بترك جنس الملذات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، ثم ذكر الحديث ... ) (¬1). فالإنكار إنما توجه إليهم بسبب قصد القربة بهذا الترك .... ومن هنا تتقرر هذه القاعدة التي نص عليها الشاطبي - رحمه الله - حيث قال: (ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا، وليس بمشروع) (¬2). فالفعل الذي يقترن به أصل التشريع بإلحاق حكم شرعي له، كالاستحباب أو الوجوب، يكون بدعة، فإن لم يقترن به هذا القصد فهو منهي عنه؛ لكونه معصية أو هو عفو (¬3). ... ثم قال: وقصد القربة يراد به: إلحاق حكم شرعي بعمل محدث، كالندب والاستحباب والإيجاب أو الكراهة والتحريم، قال شيخ الإسلام: (فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله) (¬4)، ويراد به كذلك استحسان الفعل المحدث، وإن لم يلحق به حكماً شرعياً، وإن كان ذلك غير متصور؛ لأن من لوازم استحسانه إلحاق وصف شرعي به، وإلصاق حكم تشريعي بالبدعة. وقصد القربة يتوجه إلى العمل الذي لا يتصور فيه غير إرادة القربة كالعبادات المحضة، وهي حق خالص لله سبحانه، فلابد من مطابقة فعل العبد لأمر الشرع (¬5). وكل ما فهم من الشرع أنه لا خيرة للعبد فيه، سواء كان له معنى معقول أو غير معقول، فإنه مما يعلم أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده من غير زيادة ولا نقصان (¬6) ... ويتوجه قصد القربة كذلك إلى العمل الذي يحمل أوجهاً متعددة مثل الأمور الدنيوية، فينظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه، أو باعتبار وجه القربة إذا اتحدت ¬

_ (¬1) الاستقامة (1/ 339). (¬2) الاعتصام (2/ 108). (¬3) المصدر السابق (1/ 211). (¬4) مجموع الفتاوى (3/ 193)، ولاحظ أن شيخ الإسلام هنا لم يتكلم عن البدعة. (¬5) انظر الموافقات للشاطبي: 2/ 308. (¬6) المصدر السابق: 2/ 308.

أوجه الفعل الواحد، ويتضح ذلك بالمثال: فمن لبس ثوباً بلون معين ولم يرد بذلك القربة فلا يوصف هذا العمل بالبدعة؛ لأنه مباح، إلا إذا لحقته أمور منهي عنها، كالإسبال والاشتهار، فإنه يكون معصية. أما إذا أراد بذلك الثوب المعين، واللون المعين القربة، أو ألحق به وصف استحسان أو ندب أو إيجاب، فإنه يكون حينذاك بدعة، كما تفعل طوائف الصوفية التي تشترط لوناً معيناً لمريدي طريقتها ... وهذا الشرط - الذي هو قصد القربة - هو ما عناه الشاطبي في تعريفه للبدعة بقوله: (طريقة في الدين تضاهي الشريعة ... ) (¬1) ثم شرح ذلك بقوله: ( ... يعني أنها تشابه الطرقة الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة - إلى أن قال -: فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية ... ) (¬2) ومن هذه المضاهاة طلب القربة من الله - سبحانه - ... ثم قال: مع أن المضاهاة من ألزم صفات البدعة ... ومن آكد أوجه المضاهاة بين البدعة والسنة قصد القربة ... )] (¬3). وقوله: (وقصد القربة يراد به: إلحاق حكم شرعي بعمل محدث، كالندب والاستحباب والإيجاب أو الكراهة والتحريم) غير صحيح، وغير مطرد، فقد ينسب البعض حكم شرعي لبعض المحدثات لترويجها، وهو يعلم أنه كاذب فلا يكون مبتدعاً، فما هي إلا معاصٍ تراكم بعضها على بعض، وأما البدعة الاصطلاحية فشيء آخر شرطها نية التقرب لا مجرد الإلحاق. وقوله: (ويراد به كذلك استحسان الفعل المحدث، وإن لم يلحق به حكماً شرعياً، وإن كان ذلك غير متصور؛ لأن من لوازم استحسانه إلحاق وصف شرعي به، وإلصاق حكم تشريعي بالبدعة) وهو كسابقه، والتعبير بالاستحسان أوسع من موضوع الابتداع، فقد يكون الاستحسان مقدمة للبدعة، وقد يكون حجة شرعية على تفصيل ليس هذا محله. والمستحسن قد يستحسن الفعل _ سواء أكان لدليل شرعي، أو لدليل عقلي، أو لأمر يقدح في نفسه ولا يستطيع أن يعبر عنه - ولا يكون هذا الأمر المستحسن من أمور البدع بل قد يكون من باب المصالح المرسلة، أو حتى من الأمور العادية ولا ينوي بها التقرب ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 37. (¬2) المصدر السابق 1/ 39. (¬3) الغامدي: 1/ 291: 298.

أقوال أخرى في تعريف البدعة

، كمن يستحسن بعض أنواع الأطعمة أو الأشربة على بعض.، وبهذا ظهر ما في عبارة الشيخ الغامدي. وقوله: (ويتوجه قصد القربة كذلك إلى العمل الذي يحمل أوجهاً متعددة مثل الأمور الدنيوية، فينظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه) غير منضبط، ولا مستقيم، فمثلا الطعام الوجه الغالب فيه هو حظ النفس، فعلى معنى كلامه أنه لا يدخله الابتداع الشرعي المذموم لعدم تحقق وجه القربة فيه؛ لأن الوجه الغالب فيه هو حظ النفس، وكذلك الشرب والنوم، مع أنه في الحقيقة قد يدخل كل هذه الأمور معنى البدعة بالنية، فمن أكل أو شرب بشماله ناوياً الإقتداء بالنبي، والتقرب بذلك لله، فهو مبتدع، وكذلك من لبس الحرير أو نام منبطحاً بنفس النية السابقة وهكذا. وعليه فالراجح أن العادات المحضة لا تدخل في الإبتداع إلا من جهة شائبة التعبد والتقرب لله عز وجل بها. وقد اعترض الشيخ سليمان الماجد في "ضابط البدعة وما تدخله" على ذلك فقال: (أما الاتجاه الأول وهو اعتبار القربة: فإنه مع افتقاره إلى دليل صحته فهو غير مانع ولا جامع: فهو غير مانع لأنه يُخضِعُ لأحكام البدعة أعمالاً لا يراد منها في أصل شرعها إلا القربة والأجر؛ كالجهاد فِي سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأمور مما لا تدخلها البدعة؛ فلم يقل أحد: إن هذه الأشياء من الأمور التوقيفية التي لا يُحدث فيها، ولا يُجدد في أعمالها إلا بدليل خاص. وهو غير جامع لأنه يُخرج أعمالا تُعد من التعبدات المحضة، ويسمى المحدث فيها في الشريعة مبتدعاً، وهي مع ذلك ليست مما يُراد بها القربة؛ حيث يُخرج الطلاق فِي الحيض، ويُخرج الأعياد الزائدة على الأعياد الشرعية؛ فقد استقر عمل العلماء على تسمية الطلاق الذي وقع على غير الوجه المشروع بالبدعة، وتسمية العيد الجديد بالعيد المبتدع؛ فهو إذاً غير جامع). وأما قوله: (فإنه مع افتقاره إلى دليل صحته) وحديث إنما الأعمال بالنيات ونحوه يدل عليه وهي أدلة كثيرة. وأما اعتراضه عليه بأنه غير مانع وتمثيله بالجهاد والأمر بالمعروف فإن كان بقصد وسائل الجهاد والأمر فهي خارج موضوع البدعة وقد قرر الشاطبي ذلك وسيأتي، وإن كان يقصد ذاتهما وأنه لا ستصور دخول البدعة فيهما فهو متعقب بمن يجاهد أو يأمر وينهي حمية أو من أجل المغنم، أو رياء ونحو ذلك ناويا التقرب لله بهذه النية فهو مبتدع. وأما اعتراضه بأنه لا يشمل الطلاق البدعي فالمقصود بالبدعية فيه أنه على خلاف سنة النبي لا البدعة الإصطلاحية، وأما الأعياد الجديدة فهي محل النزاع فللمخالف أن يقول أنها لا تسمى بدعة إلا إن قصد بها التعبد، وإلا فهي معصية. أقوال أخرى في تعريف البدعة (¬1): قال ابن تيمية: (البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك وسواء كان هذا مفعولا على عهد النبي أو لم يكن فما فعل بعده بأمره من قتال المرتدين والخوارج المارقين وفارس وفارس والروم والترك وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك هو من سنته ... ) (¬2) قال ابن حجر الهيتمي: (البدعة هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب سواء فعل في عهده - صلى الله عليه وسلم - أو لم يفعل كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ... ) (¬3) قال العيني: (قوله محدثاتها جمع محدثة والمراد به ما أحدث وليس له أصل في الشرع وسمي في عرف الشرع بدعة وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة) (¬4). قال ابن الجوزي: (البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتُدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان) (¬5) قال ابن رجب الحنبلي: (والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة ... ¬

_ (¬1) وقد لخصتها من كتاب الشيخ الغامدي. (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 107 - 108). (¬3) الفتاوى الحديثية 281. (¬4) عمدة القارئ 25/ 37. (¬5) تلبيس إبليس 16.

قول الشيخ العثيمين

فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو بريء منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية) (¬1). قول الشيخ العثيمين: (ما أحدث في الدين على خلاف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، من عقيدةٍ أو عمل) (¬2). قول الشيخ الألباني: (إن البدعة المنصوص على ضلالتها من الشارع هي: أ - كل ما عارض السنة من الأقوال أو الأفعال أو العقائد ولو كانت عن اجتهاد. ب - كل أمر يتقرب إلى الله به، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ج - كل أمر لا يمكن أن يشرع إلا بنص أو توقيف، ولا نص عليه، فهو بدعة إلا ما كان عن صحابي. د - ما ألصق بالعبادة من عادات الكفار. هـ - ما نص على استحبابه بعض العلماء سيما المتأخرين منهم ولا دليل عليه. و- كل عبادة لم تأت كيفيتها إلا في حديث ضعيف أو موضوع. ز - الغلو في العبادة. ح - كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد) (¬3). قول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: (والبدعة شرعاً هي التي أحدثت بعد الرسول على سبيل التقرب إلى الله ولم يكن قد فعلها الرسول، ولا أمر بها ولا أقرها ولا فعلتها الصحابة) (¬4). قول الشيخ حافظ الحكمي: (ومعنى البدعة: شرع ما لم يأذن الله به، ولم يكن عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه) (¬5) قول الشيخ أبي بكر الجزائري: (وهي في عرف الشرع: كل ما لم يشرعه الله ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم 266. (¬2) شرح لمعة الاعتقاد 23. (¬3) أحكام الجنائز (ص/242). (¬4) تحذير المسلمين من الابتداع في الدين 10. (¬5) معارج القبول 2/ 502.

تعالى في كتابه أو على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من مُعْتَقد أو قول أو فعل، وبعبارة أسهل: البدعة هي: كل ما لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه ديناً يعبد الله به أو يتقرب به إليه من اعتقاد أو قول أو عمل، مهما أُضفي عليه من قداسة، وأُُُُُحيط به من شارات الدين وسمات القربة والطاعة) (¬1). وكل هذه التعاريف متقاربة، والتعريف الذي أرتضيه ليكون جامعاً مانعاً هو: (كل ما أُحدث بقصد التعبد لله - عز وجل -، ولم يقم عليه دليل أصلاً، أو وصفاً) ليشمل دخول البدعة الإضافية صراحة، وسوف نتعرض - بمشيئة الله - في خلال الفصول التالية لشرح هذا التعريف. ¬

_ (¬1) الإنصاف فيما قيل في المولد 16.

الباب الثاني شرح التعريف

الباب الثاني شرح التعريف الفصل الأول: الكلام على صيغة العموم (كل)، وأنها على عمومها وشمولها لجميع البدع (¬1)، وفيه مباحث: المبحث الأول: بيان عموم ذم البدع (¬2): قال الشاطبي تحت عنوان: (الباب الثالث في أن ذم البدع والمُحدثَات عامُّ لا يخص محدثه دون غيرها): (فاعلموا -رحمكم الله- أن ما تقَدَّم من الأدلَّة حجة في عموم الذم من أوجه: أحدها: أنها جاءت مطلقة عامَّة على كثرتها، لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها شيء مما يقتضي أن منها ما هو هدىً، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة، إلا كذا وكذا، ولا شيء من هذه المعاني، فلو كان هنالك محَدثة يقتضى النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذُكِرَ ذلك في آية أو حديث، لكنه لا يوجد، فدلَّ على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلَّف عن مقتضاها فردٌ من الأفراد. والثاني: أنه قد ثبت في الأصول العلميَّة أن كل قاعدة كلَّية أو دليل شرعي كلَّي، إذا تكرَّرت في مواضع كثيرة، وأتى بها شواهد على معان أصوليَّة أو فروعيَّة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكرُّرها وإعادة تقرُّرها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم ... والثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمَّها كذلك وتقبيحها والهروب عنها وعمَّن اتَّسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقُّف ولا مثنوية، فهو - بحسب الاستقراء - إجماع ثابت، فدلَّ على أن كلَّ بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل. ¬

_ (¬1) وقد زعم محسنو البدع أنها من قبيل العام الذي أريد به الخصوص، واستندوا للتخصيص على بعض الشبه سوف نعرض لها - بمشيئة الله - في الرد على الغماري، وأضرابه. (¬2) وانظر أيضاً ما كتبه الغامدي لتقرير هذا الأصل في كتابه حقيقة البدعة: 1/ 282: 290.

والرابع: أن متعقَّل البدعة يقتضى ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادَّة الشارع واطِّراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة، فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقَّة الشارع ... ) (¬1). وقال ابن رجب الحنبلي: [قوله (: (كل بدعة ضلالة) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله (: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية] (¬2) وقال أيضاً: عند قوله - صلى الله عليه وسلم - المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد): [هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام كما أن حديث الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها وهو ميزان للأعمال في ظاهرها. فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء] (¬3). وقال الحافظ ابن حجر عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) قال: [هذا قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال، حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب] (¬4) وقال الشوكاني: [وهذا الحديث من قواعد الدين؛ لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 141 – 142). (¬2) جامع العلوم والحكم: ص/266. (¬3) المصدر السابق: ص/ 59. (¬4) الفتح: 13/ 254.

المبحث الثاني: البدعة التركية

البدع إلى أقسام وتخصيص الرد ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل فعليك إذا سمعت من يقول هذه بدعة حسنة بالقيام في مقام المنع مسنداً له بهذه الكلية وما يشابهها من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل بدعة ضلالة) طالباً لدليل تخصيص تلك البدعة التي وقع النزاع في شأنها بعد الاتفاق على أنها بدعة فإن جاءك به قبلته وإن كاع (¬1) كنت قد ألقمته حجراً واسترحت من المجادلة] (¬2). المبحث الثاني: البدعة التركية: توطئة: أولاً: هل الترك فعل؟ قال الأشقر: [يرى كثير من الأصوليين أن الكفّ فعل من الأفعال، وهو عندهم فعل نفسي (¬3). ونُسِب إلى قوم منهم أبو هاشم الجبائي أن الكف انتفاء محضّ (¬4)، فليس بفعل (¬5). والأول أولى، كما هم معلوم بالوجدان. وأيضاً نجد في الكتاب والسنة إشارات إلى أن الكف فعل ... ] (¬6). قال الشاطبي: [فإذاً قوله في الحد: ((طريقة مخترعة تضاهي الشرعية)) يشمل البدعة التركية، كما يشمل غيرها؛ لأن الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره. وسواءٌ علينا قلنا: إن الترك فعل أم قلنا: إنه نفي الفعل - الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه] (¬7). ¬

_ (¬1) كاعَ، وهو الجَبان. يقال: كَعَّ الرجُلُ عن الشيء يَكِعُّ كَعَّاً فهو كاعٌّ، إذا جَبُن وأحْجَم. (النهاية) وقال ابن المظَفَّر: رجل كَعٌّ كاعٌّ، وهو الذي لا يَمْضِي في عَزْمٍ ولا حَزْمٍ، وهو الناكِصُ على عَقِبَيْه. (لسان العرب) (¬2) نيل الأوطار: 2/ 69. (¬3) جمع الجوامع وشرحه للمحلى (1/ 214)، الموافقات (1/ 12)، (4/ 58)، شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 13، 14)، أصول السرخسي (1/ 80)، المقصود أنه ليس كترك النائم، بل هو فعل مقصود، وهو من أفعال القلوب؛ لأنه انصراف القلب عن الفعل، وانظر أفعال الرسول للأشقر (2/ 45). (¬4) الأقرب أنه يقصد أن هذا الترك غير مقصود، وهذا ليس موضوعا للقدرة، ولا يدل على جواز، ولا تحريم، وانظر المرجع السابق نفس الموضع. (¬5) شرح جمع الجوامع للمحلى (1/ 215). (¬6) أفعال الرسول (1/ 46 - 47). (¬7) الاعتصام: 1/ 45.

وذكر الشيخ الدردير أن من موجبات الردة إلقاء مصحف بقذر، ومثل ذلك تركه به، أي عدم رفعه إن وجده؛ لأن الدوام كالابتداء. قال الشنقيطي عند قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً}: [اعلم أن السبكي قال إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة «الفرقان» مسألة أصولية، وهي أن الكف عن الفعل فعل. والمراد بالكف الترك، قال في طبقاته: لقد وقفت على ثلاثة أدلّة تدلّ على أن الكفّ فعل لم أرَ أحدًا عثر عليها. أحدها: قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً}، فإن الأخذ التناول والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكًا، أي: فعلوا تركه، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب «نشر البنود، شرح مراقي السعود»، في الكلام على قوله: فكفّنا بالنهي مطلوب النبيّ. قال مقيّده - عفا اللَّه عنه وغفر له -: استنباط السبكي من هذه الآية أن الكفّ فعل وتفسيره لها بما يدلّ على ذلك، لم يظهر لي كل الظهور، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلّت عليه، وهو كون الكفّ فعلاً دلّت عليه آيتان كريمتان من سورة «المائدة»، دلالة واضحة لا لبس فيها، ولا نزاع. فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية «الفرقان» هذه، فإنه قد بيّنته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة «المائدة». أمّا الأولى منهما، فهي قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سمّاه اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة صنعًا في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، أي: وهو تركهم النهي المذكور، والصنع أخصّ من مطلق الفعل، فصراحة دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح؛ كما ترى. وأمّا الآية الثانية، فهي قوله تعالى: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، فقد سمّى جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلاً، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذمّ في قوله: {

لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، أي: وهو تركهم التناهي، عن كل منكر فعلوه، وصراحة دلالة هذه الآية أيضًا على ما ذكر واضحة، كما ترى. وقد دلَّت أحاديث نبويّة على ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فقد سمّى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلامًا، ومما يدلّ من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة: لئن قعدنا والنبيّ يعمل ... لذاك منّا العمل المضلل فسمّى قعودهم عن العمل، وتركهم له عملاً مضللاً .... والصحيح أن الكفّ فعل، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة واللغة؛ كما تقدّم إيضاحه] (¬1). ثانياً: ذكر أقسام وأسباب الترك، والقاعدة التي يسير عليها الباب: أقسام الترك: قال الأشقر تحت عنوان: أقسام الترك، ما ملخصه: [الأول: الترك لداعي الجبلة البشرية. وهذا لا يدل في حقنا على تحريم ولا كراهة. ومثاله ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل لحم الضب، وقال: (إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه). الثاني: الترك الذي قام دليل اختصاصه به - صلى الله عليه وسلم -، وهو تركه لما حرم عليه خاصة كتركه أكل الصدقة. وقد قال أبو شامة في الأفعال إنه يقتدي بالخصائص النبوية الواجبة، على سبيل الاستحباب. فقياس قوله هنا أنه ينبغي أن يستفاد لحقنا كراهة ما خُصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريمه، فيكون أكل الصدقة مثلاً مكروهاً لنا. الثالث: الترك بياناً أو امتثالاً لمجمل معلوم الحكم، عام لنا وله، فيستفاد حكم الترك من الدليل المبين والممتثل. ومثاله: تركه - صلى الله عليه وسلم - الإحلال من العمرة مع صحابته، وقال: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)، ومن الترك الامتثالي تركه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على المنافقين لما نزل قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً}. ¬

_ (¬1) أضواء البيان (6/ 317: 320).

الرابع: الترك المجرد، وهو الذي ليس من الأقسام السابقة، وهو نوعان: الأول: ما علم حكمه في حقه بقوله - صلى الله عليه وسلم -، أو باستنباط. والثاني: ما لم يعلم حكمه. فأما ما علمنا حكمه في حقه بدليل، فينبغي أن يكون حكمنا فيه كحكمه. أخذاً من قاعدة المساواة في الأحكام. وأما ما لم نعلم حكمه في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فما ظهر فيه أنه تركه تعبداً وتقرباً نحمله على الكراهة في حقه، ثم يكون الحكم في حقنا كذلك أخذا من قاعدة المساواة، كتركه ردّ السلام على غير طهارة حتى تيمم (¬1). وما لم يظهر فيه ذلك، نحمله على أنه من ترك المباح، كتركه السير في ناحية من الطريق، أو الجلوس في جهة من المسجد. فعلى ما تقدم ذكره لا فرق بين الفعل والترك في التأسي فيهما، وقد صرح الشوكاني بذلك فقال: " تركه للشيء كفعله له في التأسي به فيه " (¬2). وقال ابن السمعاني: " إذا ترك - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه " (¬3)، ومقصوده بالمتابعة المساواة في حكم الترك، كما تقرر عندنا أن ذلك مراده بهذه العبارة في بحث الأفعال. وليس مقصوده أنه يجب علينا أن نترك ما ترك في جميع الأحوال. فظاهر كلامهم التسوية بين الفعل والترك في مراتب التأسي] (¬4). أسباب الترك: قال الأشقر: [إن ما تركه - صلى الله عليه وسلم - مما كان مظنة أن يفعله كثيراً ما كان يتركه لسبب قائم لولاه لفعله. وترجع تلك الأسباب إلى أنواع منها: ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) إرشاد الفحول ص/42. (¬3) البحر المحيط للزركشي (6/ 70). (¬4) أفعال الرسول للأشقر (2/ 53: 55).

النوع الأول: ترك الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة ... ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك قيام رمضان جماعة، بعد أن قام به ليلتين أو ثلاثاً. ثم قال لهم: " إنه لم يخْفَ على َّ مكانكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم " (¬1). ولذلك لما زالت هذه الخشية بوفاته - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي (¬2)،أعاد الصحابة – رضي الله عنهم – فعلها في المسجد في زمن عمر بن الخطاب– رضي الله عنه-. النوع الثاني: ترك العمل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب. وترك المباح لئلا يظنوا أنه مستحب أو واجب. وهذا نوع مشابه للنوع الأول وليس منه. ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، استحباباً، وقد ترك ذلك يوم فتح مكة، فصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد، فقال عمر:"يا رسول الله فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله"، فقال:"عمداً فعلته يا عمر " (¬3) ... ويسن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في هذا النوع من الترك ممن يقتدى به إذا ظن توهم بعض الحاضرين شيئا من ذلك ... النوع الثالث: الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ولو استحباباً: ومنه ترك الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف ... ومن هذا النوع عند بعض الفقهاء، ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرم للحج من بيته بالمدينة، حتى أحرم من الميقات. فلا يدل على أن الإحرام من الميقات أفضل، فهو أقل عملاً ... والراجح أنه إنما ترك الإحرام من المنزل خشية المشقة (¬4) ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب (الجمعة) (17)، باب (من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد) (27)، (1/ 313) حديث رقم (882)، ومسلم في كتاب (صلاة المسافرين) (6)، باب (الترغيب في قيام الليل) (25)، (1/ 524) حديث رقم (761) من حديث عائشة – رضي الله عنها -. (¬2) أي وحي التشريع، لا مطلق الوحي؛ لحديث عيسى – عليه السلام -: (فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إليه ياعيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ... ) الحديث. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب (الطهارة) (2)، باب (جواز الصلوات كلها بوضوء واحد) (25)، (1/ 232) حديث رقم (277) من حديث بريدة – رضي الله عنه -. (¬4) فائدة: بيان أن تقصد المشقة ممنوع في الشرع: قال أبو عبد العزيز سعود الزمانان: [الذي يظهر لي أن تقصد المشقة ممنوع لما يأتي: أولاً: لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: " قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: " هلك المتنطعون " وقال: " لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم " مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: " مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ... " ثم قال – رحمه الله – في مجموع الفتاوى (10/ 622 - 623 (: " فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة ... فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا، وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم ". ثانياً: النيات في العبادات معتبرة في الشرع، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع، قال الإمام الشاطبي – رحمه الله – في الموافقات 2/ 222: " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " وقال أيضا الموافقات 2/ 229: " ونهيه عن التشديد – أي النبي عليه الصلاة والسلام – شهير في الشريعة، بحيث صار أصلاً قطعياً، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح، هذا واضح وبالله التوفيق " ثالثاً: باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات، لقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، وقوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقوله – صلى الله عليه وسلم -: " بعثت بالحنيفية السمحة "، " وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً " رابعاً: لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل الترخيص، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به، ومعلوم من الدين بالضرورة، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين، كرخص القصر، والفطر والجمع بين الصلاتين. خامساً: ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله، لقوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقوله – صلى الله عليه وسلم -: " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا " سادساً: نقل الإمام الشاطبي في الموافقات 2/ 212 الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في الشريعة. سابعاً: لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً، ونبّه النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك فقال: " القصد القصد تبلغوا " لذلك نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن التنطع وقال: " هلك المتنطعون " أما استدلالهم بحديث: " بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " فالجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: قال الإمام الشاطبي في الموافقات 2/ 225: " إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات ". الوجه الثاني: الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه – صلى الله عليه وسلم –: " كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها ". قلت: فلا حجة لمن تعلق ببعض النصوص واستدل بها على تقصد المشقة في العبادات، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – فمن زاغ عن هذا المنهج يخشى عليه في دينه، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والفتنة كما قال العلماء هي الشرك، نسأل الله أن يحيينا على سنة نبيه وأن يميتنا عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه].

النوع الرابع: ترك المطلوب خشية من حصول مفسدة أعظم من بقائه، وهذا من السياسة الشرعية المقررة، ومثاله ما قاله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: " يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل منه الناس وباب يخرجون " (¬1) ... ومثال آخر: تركه - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين مع عظم فسادهم، وقولهم كلمة الكفر، وإرجافهم، خشية أن يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه، إذ هم في الظاهر مؤمنون، فيكون صادّاً للناس عن الدخول في الإسلام. النوع الخامس: الترك على سبيل العقوبة، كترك الصلاة على المَدِين ... النوع السادس: الترك لمانع شرعي: ومثاله قصة نومه - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عن صلاة الفجر، فما استيقظوا إلا بعد طلوع الشمس (¬2) ... ] (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب (العلم) (2)، باب (من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه) (48)، (1/ 59) حديث رقم (126)، ومسلم في كتاب (الحج) (15)، باب (نقض الكعبة وبنائها) (69)، (2/ 968) حديث رقم (1333). (¬2) ومع ذلك لم يبادر إلى الصلاة، بل اقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادري وصلوا، فيحتمل أن الترك كان لكون الشمس في أول طلوعها، وذلك مانع من الصلاة، ويحتمل أن يكون لأن الوادي كان به شيطان. (¬3) أفعال الرسول (2/ 58: 61).

القاعدة التي يدور عليها الباب وكلام العلماء في تقريرها: والقاعدة التي يدور عليها الباب أن ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وجود المقتضي له، وانتفاء الموانع، ففعله تديناً بدعة، وتركه سنة. والنقل لهذا الترك يكون إما بالتنصيص عليه كأن يقول الصحابي: لم يكن يؤذن ولا يقيم في العيد، ولم يكن يصلي على الراحلة المكتوبة، ونحو ذلك، وإما أن يكون بعدم النقل مطلقاً فيستدل على ذلك بعدم الفعل. (قال عفانة: [من المعلوم عند الأصوليين أن السنة النبوية هي: ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير. وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جزء من السنة النبوية باعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أقسام: منها الأفعال الجبلية التي صدرت عن الرسول عليه الصلاة والسلام بمقتضى خلقته وجبلته وطبيعته كلباسه وقعوده ونومه فهذه وأمثالها لا يجب على الأمة إتباعها. ومن الأفعال ما كان خاصاً به - صلى الله عليه وسلم - كزواجه أكثر من أربعٍ من النساء فهذه لا تشاركه فيها الأمة بالاتفاق. ومن الأفعال التي صدرت عنه ما كان بياناً لمجمل كبيانه للصلاة والصيام والزكاة فهذا بالاتفاق بين أهل العلم يكون البيان تابعاً للمُبَين في الحكم من وجوب أو ندب أو إباحة. والأفعال التي صدرت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلمت صفة الفعل فجمهور العلماء على الإقتداء به على تلك الصفة فإن كان الفعل واجباً فالإقتداء به واجب وإن كان مندوباً فالإقتداء به مندوب وإن كان مباحاً فالإقتداء به مباحٌ. وأما الأفعال التي صدرت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجهلت صفة حكمها أواجبة هي أو مندوبة أو مباحة فهي محل خلاف عند الأصوليين (¬1). وهناك أفعال تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها وهذه على نوعين: ¬

_ (¬1) أصول السرخسي 2/ 86، كشف الأسرار 3/ 200، حاشية التفتازاني على شرح العضد 2/ 22، فواتح الرحموت 2/ 180، شرح الكوكب المنير 2/ 178.

الأول: أفعال تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعدم توفر الدواعي لفعلها كجمع المصحف وتضمين الصناع ونحوها قال الشاطبي: [أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها. وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها. فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعاً بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل] (¬1). والثاني: أفعال تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع توفر الدواعي لفعلها ومع ذلك لم يفعلها فدل على أن المشروع فيها هو الترك لا الفعل كترك الأذان للعيدين وتركه صلاة ليلة النصف من شعبان وتركه التلفظ بالنية وتركه أن يقول للمأمومين قبل بدء الصلاة استحضروا النية وغير ذلك. قال الشوكاني: [تركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسي به فيه] (¬2). وقال ابن السمعاني: [إذا ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ُقدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله أمسك الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه وأذن لهم في أكله وهكذا تركه - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة] (¬3). وقال الشاطبي ما ملخصه: [إن سكوت الشارع عن الحكم الخاص أو تركه أمراً وموجبه المقتضي له قائم وسببه في زمان الوحي موجود ولم يحدد فيه الشارع أمراً زائداً على ما كان من الدين فهذا القسم باعتبار خصوصه هو البدعة المذمومة شرعاً لأنه لما كان الموجب لشريعة الحكم موجود ثم لم يشرع كان صريحاً في أن ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 409. (¬2) إرشاد الفحول ص 42. (¬3) قواطع الأدلة (1/ 311).

الزائد على ما ثبت هنالك بدعة مخالفة لقصد الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حدّ هنالك بلا زيادة ولا نقصان منه] (¬1). قال الشيخ الألباني: [ومن المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادة مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله بقوله ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله فهي مخالفة لسنته، لأن السنة على قسمين: سنة فعلية وسنة تركية، فما تركه - صلى الله عليه وسلم - من تلك العبادات فمن السنة تركها، ألا ترى مثلاً أن الأذان للعيدين ودفن الميت مع كونه ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذلك إلا لكونه سنة تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد فهم هذا المعنى أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فكثر عنه التحذير من البدع تحذيراً عاماً كما هو مذكور في موضعه حتى قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها) وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق)] (¬2). وقال العلامة القسطلاني: [وتركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين فعله وتركه فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله] (¬3). وقال ابن النجار الحنبلي: [التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلك كما فعل لأجل أنه فعل وأما التأسي في الترك فهو أن تترك ما ترك لأجل أنه ترك] (¬4). وقال العلامة ابن القيم: [فصل نقل الصحابة ما تركه - صلى الله عليه وسلم - وأما نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - فهو نوعان وكلاهما سنة. أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد: ولم يغسلهم ولم يصل عليهم. وقوله في صلاة العيد: لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء. وقوله في جمعه بين الصلاتين: ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما. ونظائره. والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 361. (¬2) حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 100 - 101. (¬3) الإبداع ص 36. (¬4) شرح الكوكب المنير 2/ 196.

منهم على نقله فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به في مجمع أبداً علم أنه لم يكن وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة أو تركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائماً بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من الركوع الثانية، وقوله: اللهم اهدنا فيمن هديت. يجهر بها ويقول المأمومون كلهم: آمين. ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل به يوماً واحداً وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف. ومن هاهنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق. فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه. ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال: من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل؟ وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة من أين لكم أن هذا لم ينقل؟] (¬1). وقال الشاطبي: [والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كان هذا المعنى ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين 2/ 389 - 391.

الموجب لشرع الحكم العملي موجوداً ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه] (¬1). وقال الشاطبي أيضاً: [وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلاً إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله أو ترك ما أذن في فعله، أو تقول: فعل ما سكت الشارع عن الأذن فيه أو ترك ما أذن في فعله أو أمر خارج عن ذلك. فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفه في غير عرفات والثاني كالصيام مع ترك الكلام ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة والثالث كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة. وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بيّن. وأما الضربان الأولان وهما في الحقيقة فعل أو ترك لما سكت الشارع عن فعله أو تركه فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع أو أنهما مما يخالف المشروع؟ وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال أما القصد فمسلم بالفرض وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلاً نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركاً لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا يفهم للشارع قصداً معيناً دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالاً للمصالح المرسلة وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالاً للمصالح أيضاً وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالاً للمصالح المرسلة أيضاً. فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى فما وجه ذم هذه ومدح هذه؟ ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص. وتقرير الجواب ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا - إذا وجد المعنى المقتضي للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان. وهو غاية في هذا المعنى قال ابن رشد: الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين - يعني سجود الشكر - لا فرضاً ولا نفلاً إذ لم يأمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه قال: واستدلاله على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ، قال: وهذا أصل من الأصول ... وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها ودل على أن وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجوداً قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل (¬2). ومن أوضح الأمثلة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا القسم وهو ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضى له الأذان للعيدين فينبغي تركه وإن كان فيه مصلحة ظاهرة وهي دعوة الناس للصلاة وإعلامهم بها فهو غير مشروع ما دام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركه رغم دخوله تحت بعض العمومات كما وضحه شيخ الإسلام بقوله: [الأذان في العيدين فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة فلو لم يكن كونه بدعه دليلاً على كراهته وإلا لقيل هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} أو يقاس على الأذان في الجمعة فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع بل يقال: ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة. فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 410. (¬2) الموافقات 2/ 411 - 414.

وأعداد الركعات أو الحج فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح لم يكن له ذلك ... وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له: كل بدعة ضلالة ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها أو أن نعلم ما فيها من المفسدة. فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضى له وزوال المانع لو كان خيراً، فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس. ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدعة بتفريط من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم فيقال له: سبب هذا تفريطك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت تقصد إقامة رياستك وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله عز وجل إلا عن عملك لا عن عملهم. وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة) (¬1). إن الجهل بهذا الأصل المهم أوقع كثيراً من الناس في البدع فانظر إلى البدع التي يفعلها الناس اليوم ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركها مع أن الدواعي لفعلها كانت موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فانظر إلى تلفظ كثير من المصلين بالنية فتسمع الواحد منهم يقول بصوت مرتفع: نويت أن أصلي أربع ركعات فرض صلاة الظهر مقتدياً ... الخ ولم يؤثر مثل ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا علمه لأحد من أصحابه كما في حديث المسيء صلاته حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قمت إلى الصلاة فكبر .. الخ رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح. ولم يقل قل نويت أن أصلي كذا وكذا فلو ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 279 - 281.

كان ذلك مشروعاً لعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم عند الأصوليين. وكذلك قراءة القرآن الكريم على القبور رحمة بالميت تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضي للفعل وهو الشفقة على الميت وعدم المانع منه فتركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة. وكيف يعقل أن يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً نافعاً يعود على أمته بالرحمة؟ وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم. فهل يعقل أن يكون هذا باباً من أبواب الرحمة ويتركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته ولا يقرأ على ميت مرة واحدة؟ وكذلك الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - تركه ولم يفعله وكذا تركه الصحابة الأجلاء مع توفر الدواعي لفعله فإن يوم ميلاده كان يتكرر كل عام ومع ذلك لم يحتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمولده ولا أمر أحداً من الصحابة بالاحتفال بذكرى مولده كما أمرهم بالصلاة والسلام عليه كما هو معروف فدل تركه ذلك على أن الاحتفال بمولده غير مشروع. إذ لو كان الاحتفال بالمولد مشروعاً لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولفعله. ولو كان الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - مشروعاً لسبقنا إليه الصحابة رضي الله عنهم فوالله لقد كانوا أشد حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثر أدباً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين الذين يحتفلون بالمولد. ثم إن بدعة الاحتفال بالمولد حدثت بعد مئات السنين على الإسلام فأين كان المسلمون طوال هذه السنوات الطويلة؟ فقد قيل إن أول من احتفل بالمولد هو صاحب إربل الملك العظيم مظفر الدين كوكبرى الذي توفي سنة 630 هجري. والسؤال أين كان العلماء والعباد والمسلمون طوال ستمائة عام؟ لماذا لم يحتفلوا بالمولد؟ وأين كان أهل القرون الثلاثة الأولى؟ وقد شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية في قوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم) رواه البخاري ومسلم واللفظ له (¬1). وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [ ... فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل] (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري مع الفتح 6/ 187، صحيح مسلم مع شرح النووي 6/ 68. (¬2) فضل علم السلف على الخلف ص 31 نقلاً عن البدعة وأثرها السيئ ص 18.

وخلاصة الأمر أنه لا يجوز لأحد أن يأتي بعبادة لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كما قال حذيفة: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها) ومعنى كلام حذيفة - رضي الله عنه - أي لا تتقربوا بها إلى الله عز وجل ذلك لأنها ليست عبادة أنتم تظنونها عبادة ولكن الدليل على أنها ليست عبادة لأنها لو كانت عبادة لجاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1).] (¬2) وقال محمد أحمد العدوي: [اعلم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك ... وكما لا نتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعل لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك كالتارك لما فعل، ولا فرق بينهما ... وقال صاحب كتاب: (غاية الأماني في الرد على النبهاني) ما نصه: قال صاحب (مجالس الأبرار) أي منلا أحمد رومي الحنفي ما ملخصه: لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما لعدم الحاجة إليه، أو لوجود مانع، أو لعدم تنبه، أو لتكاسل، أو لكراهة، أو لعدم مشروعية، والأولأن منتفيان في العبادات البدنية المحضة، لأن الحاجة في التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عدم التنبه والتكاسل، فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر، فلم يبق إلا كونها سيئة غير مشروعة ... وقال الأستاذ الشيخ بخيت الحنفي مفتي الديار المصرية في كتابه (أحسن الكلام) ما نصه: وأما رفع صوت المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر، أو قصيدة بردة، أو يمانية فهو مكروه، لاسيما على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان، ولم يكن شئ منه موجوداً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمن الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف الصالح، بل هو مما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضى لفعله فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة شرعاً كما هو الحكم في كل ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضى لفعله. أهـ ... ثم قال العدوي: قاعدة تقسيم السنة إلى سنة فعلية، وسنة تركية هي الأساس الأول للكلام على السنة والبدعة، والغلط الحاصل فيها سببه الغفلة عن هذه القاعدة، وقد أريناك من نصوص علماء المذاهب الأربعة أن ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضي على فعله فتركه هو السنة، وفعله بدعة مذمومة ... ] (¬3). (وأما قول الشاطبي: [وفي الحد أيضا معنى آخر مما ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها: إنها طريقة في الدين مخترعة –إلى آخره - يدخل في عموم لفظها البدعة التَّرْكيَّة، كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم، فإن الفعل -مثلاً- قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه، أو يقصد تركه قصداً. فهذا الترك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعاً أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب تركه، كالذي يحرم نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك، بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب، وإن قلنا بإباحة التداوي، فالترك مباح ... وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين (¬4)، وكتارك المتشابه، حذراً من الوقوع في الحرام واستبراءً للدين والعرض. وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديناً أو لا، فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك، ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات. وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصياً بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله. وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد فرضنا الفعل جائزًا شرعًا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع ¬

_ (¬1) انظر فتاوى الألباني ص 188. (¬2) البدعة لحسام عفانة: ص 62: 73. (¬3) انظر أصول في البدع: ص/ 49: 59. (¬4) قال مصطفى بن محمد في تيسير العلام: هذا صحيح لأن على المسلم أن يستبرأ لدينه، ويسد الذرائع الموصلة إلى المحرم، أما حديث " لا يبلغ العبد أن يكون في المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس" فهو ضعيف رواه الترمذي (2451)، وابن ماجة (4215)، والبيهقي في الشعب، والطبراني في الكبير من حديث عطية السعدي، وضعفه الألباني في السنن، والجامع/6320.

التحليل وفي مثله نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬1) فنهى أولاً عن تحريم الحلال. ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداءٌ لا يحبه الله. وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله. لأن بعض الصحابة هَمَّ أن يحرم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هَمَّ بالاختصاء، مبالغة في ترك شأن النساء، وفي أمثال ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من رغب عن سنتي فليس منى) (¬2). فإذاً كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعامل بغير السنة تدينا، هو المبتدع بعينه. فإن قيل: فتارك المطلوبات الشرعية ندباً أو وجوباً، هل يسمى مبتدعاً أم لا؟ فالجواب: أن التارك للمطلوبات على ضربين: أحدهما: أن يتركها لغير التدين إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية. فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر، فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندب فليس بمعصية، إذا كان الترك جزئياً، وإن كان كلياً فمعصية حسبما تبين في الأصول. والثاني: أن يتركها تديناً فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله، ومثاله أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي حدوه. فإذًا قوله في الحد: "طريقة مخترعة تضاهى الشرعية" يشمل البدع التركية، كما يشمل غيرها، لأن الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره. وسواء علينا قلنا: إن الترك فعل، أم قلنا: إنه نفي الفعل، على الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه ... ] (¬3). ¬

_ (¬1) المائدة: 87. (¬2) متفق عليه من حديث أنس مطولاً به. (¬3) الاعتصام (1/ 42: 45).

المبحث الثالث: بيان أن البدع تكون في كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي من الأعمال

فإنما هو بالنظر لفعل المكلف، فقد اعتبر ما تركه المكلف تدينا بدعة تركية، ولما كان الترك فعل لم يبق لإفراد هذا القسم وجه، والأولى ما سبق من إرجاع معنى البدعة التركية لفعل ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وجود المقتضى وانتفاء الموانع، والاصطلاح على أن ذلك هو المقصود بالبدعة التركية، ويكون ذلك غير الابتداع بالترك الذي ذكره الشاطبي هنا في هذه العبارة، وإن كنا لا ننازعه اصطلاحه، ولا شمول البدعة التركية لما ذكر أيضاً، وإنما نحن نتكلم عن اصطلاحنا نحن. المبحث الثالث: بيان أن البدع تكون في كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي من الأعمال [أي الأقوال والأفعال، للجوارح والقلب] (¬1): وقد سبق كلام ابن رجب، وابن تيمية، والألباني، والجزائري في هذا الصدد عند الكلام على تعريف البدعة فراجعه. قال الشاطبي: [وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضاً ضد ذلك. وهو ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد، وقسم القول، وقسم الفعل، فالجميع أربعة أقسام. وبالجملة، فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي، يتعلق به الابتداع] (¬2). وقال الغامدي: [ومما يتعلق به الخطاب الشرعي الفعل والترك، وقد سبق الكلام عن الترك، أما الفعل فهو من حيث تعلق الخطاب الشرعي به فهو على ضربين: أحدهما: متعلق بمراد الشارع من حيث الحظر والإباحة، وهو ما أصطلح عليه باسم العبادات والمعاملات. الثاني: متعلق بفعل المكلف وهو على ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد، قسم القول، قسم الفعل ... وكل هذه الأضرب والأقسام تدخلها البدع وإليك البيان: ¬

_ (¬1) قال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام (1/ 17) عند كلامه على حديث: (إنما الأعمال بالنيات): (ما يتعلق بالجوارح وبالقلوب , قد يطلق عليه عمل , ولكن الأسبق إلى الفهم: تخصيص العمل بأفعال الجوارح , وإن كان ما يتعلق بالقلوب فعلا للقلوب أيضا. ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصص الأعمال بما لا يكون قولا. وأخرج الأقوال من ذلك وفي هذا عندي بعد. وينبغي أن يكون لفظ " العمل " يعم جميع أفعال الجوارح. نعم لو كان خصص بذلك لفظ " الفعل " لكان أقرب. فإنهم استعملوهما متقابلين , فقالوا: الأفعال , والأقوال. ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضا. والله أعلم). (¬2) الاعتصام: 1/ 45.

1 - البدعة تكون في العبادات والمعاملات: أما دخول البدعة في العبادات فظاهر، وأما المعاملات وهي تشمل الشروط والعقود والأمور الدنيوية العادية، فإنها لا تخلو من شائبة التعبد لله سبحانه ... 2 - البدعة تكون في العقائد والأقوال والأعمال: وهذه متعلقات فعل المكلف بالخطاب الشرعي، وسواء قلنا إن الترك فعل، أو نفي الفعل، أو أنه وجودي أو غير وجودي، فإنه يدخل معنا هنا من حيث أن الابتداع يقع في الاعتقاد، والأقوال، والأعمال، من جهة ترك المشروع كما يقع من جهة غير المشروع ... لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). وأمثلة البدع في الاعتقاد: بدع المرجئة والخوارج الأشاعرة والمعتزلة والرافضة. وأمثلة البدع في الأقوال: الجهر بالنية في الصلاة، واتخاذ الأسماء المفردة لله سبحانه للذكر، أو اتخاذ لفظ (هو) للذكر كما تفعله الصوفية، وغير ذلك من الأوراد المحدثة. وأمثلة البدع في الأعمال: لبس الصوف عبادة، ومؤاخاة المردان والنساء تديناً، عمل المولد، وصلاة الرغائب ونحو ذلك] (¬1). ¬

_ (¬1) حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 302: 307).

الفصل الثاني: الكلام على قيد: (ما أحدث بقصد التعبد لله - عز وجل -)

الفصل الثاني: الكلام على قيد: (ما أُحدث بقصد التعبد لله - عز وجل -): والمقصود بالحدث ها هنا عموم الحدث اللغوي في الأعمال والتروك، سواء أكان في العادات أو المعاملات أو العبادات. ويشترط لكي يلحق هذا الحدث بالمعنى الاصطلاحي المذموم أن يقصد فاعله التعبد لله سبحانه وتعالى به. وذلك كفعل هيئة معينة لتحية والده، كأن يقف عند طلوع الشمس رافعا يده، متمتما بكلام، فإن نوى بذلك التقرب لله عز وجل فهي بدعة، ومثل من يأكل نوعا معينا من الطعام، أو يمتنع من نوع معين من الطعام تقربا لله. ويدخل في معنى الحدث بالأولى: المعاصي إذا كانت بنية التقرب لله عز وجل، فهي أحداث من ناحية التعبد بها وإلحاقها بالدين، مثل لبس الرجال للحرير والذهب تقربا لله عز وجل، أو كالشرب بالشمال أو واقفا تقربا لله عز وجل ونحو ذلك. وخرج بهذا القيد الأحداث التي لم ينو صاحبها التقرب لله عز وجل بها كاختراع الأدوية والأسلحة القتالية، ووسائل الإتصالات والنقل الحديثة ونحو ذلك. ويخرج أيضا المعاصي وسوف يأتي باب لبيان الفرق بين البدع والمعاصي - بإذن الله تعالى -. قال ابن القيم: [إذا عدمت النية كان العمل عاديا لا عباديا والعادات لا يتقرب بها إلى باراء البريات وفاطر المخلوقات فإذا عري العمل عن النية كان كالأكل والشرب والنوم الحيواني البهيمي الذي لا يكون عبادة بوجه فضلا أن يؤمر به ويرتب عليه الثواب والعقاب والمدح والذم وما كان هذا سبيله لم يكن من المشروع للتقرب به إلى الرب تبارك وتعالى ولذلك يقصد بها - أي النية - تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض فيميز فرضها عن نفلها ومراتبها بعضها عن بعض وهذه أمور لا تحقق لها إلا بالنية ولا قوام لها بدونها البتة ... ومعلوم أن النية جزء من العبادة بل هي روح العبادة كما تبين علم أن العمل الذي لم ينو ليس بعبادة ولا

مأمور به فلا يكون فاعله متقربا إلى الله تعالى وهذا مما لا يقبل نزاعا] (¬1) قال الغامدي تحت عنوان: البدعة هي التي تفعل بقصد القربة: [وهذا أصل أصيل عند أهل السنة، يفرقون به بين الفعل الذي يكون بدعة والفعل الذي يكون معصية فقط، وإن كانت البدعة معصية لله سبحانه وتعالى إلا أنها تفوق المعصية في الإثم والحكم. فالمعصية في أصل وقوعها من حيث العمل والاعتقاد تختلف عن البدعة من جهة ما يقترن بكل منهما. فالعاصي لا يعتقد أنه بمعصيته يُرضى الله بخلاف المبتدع فإنه يعتقد في عمله المحدث القربة إلى الله، وهذا هو وجه المفارقة. ووجه آخر: هو ما تؤول إليه البدعة من مفاسد حالية ومآلية في الدنيا والآخرة، وذلك باعتقاد المشروعية أو الجواز فيما ليس له أصل، وما يترتب على هذا الاعتقاد من شيوع وانتشار، حتى ينشأ عليها الصغير ويموت عليها الكبير بخلاف المعصية أو المخالفة. ومن هنا نفهم قول سفيان الثوري - رحمه الله - حين قال: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها) (¬2). والسبب في عدم توبة المبتدع أنه يرجوا بعمله أو قوله أو اعتقاده المحدث القرب من الله، فلا ينفك من ملازمة هذا العمل. وبسبب كون البدع أشر من المعاصي، وأهلها أضر من أهل الذنوب، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتال الخوارج، ونهي عن قتال الولاة الظلمة (¬3). ومما جاء عن السلف في اعتبار أن البدعة أشد ضرراً من المعاصي، ما رواه ابن وضاح بسنده عن أبى بكر ابن عياش قال: (كان عندنا فتى يقاتل ويشربُ وذكر أشياء من الفسق، ثم أنه تَقَرّأ فدخل في التشيع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت وهو يقول: لأنت يوم كنت تقاتل وتفعل خير منك اليوم). والدليل على اختصاص البدعة بوصف قصد القربة، ما ورد في الصحيحين ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (3/ 706 - 707). (¬2) رواه أبو نعيم بسنده في حلية الأولياء 7/ 26. (¬3) انظر مجموع الفتاوى 7/ 284.

وغيرهما عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فإني أصلى الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى) (¬1). وفي لفظ مسلم: ( ... فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم لا أنام على الفراش .. ) الحديث. قال الحافظ ابن حجر: "قوله: (فمن رغب عن سنتي فليس منى) المراد بالسنة الطريقة .. ، إلى أن قال، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس منى، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم الله تعالى، ثم قال: وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل) (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( .. ينكر على من يتقرب إلى الله بترك جنس الملذات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، ثم ذكر الحديث .. ) (¬3). فالإنكار إنما توجه إليهم بسبب قصد القربة بهذا الترك. ومثل هذا حديث سعد بن أبى وقاص قال: (رَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) (¬4) ... ومن هنا تتقرر هذه القاعدة التي نص عليها الشاطبي رحمه الله حيث قال: "ولا ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح 6/ 116 (5063)، ومسلم في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه 2/ 1020 (1401). (¬2) فتح الباري 9/ 105. (¬3) الاستقامة 1/ 339. (¬4) مسلم 2/ 1020 (1480)، البخاري 6/ 118 (5073).

معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعاً، وليس بمشروع" (¬1) ... ¬

_ (¬1) ووجه هذه القاعدة عند الإمام الشاطبي – رحمه الله - اعتقاد الفعل المباح، أو المكروه، أو المحرم مشروعا وسنة يتقرب بها لله عزوجل، قال في "الإعتصام" (2/ 108): (حكى الماوردي أن الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب، لأنه كان مفروشا، فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن المسجد، وقال: لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة، وهذا في مباح، فكيف به في المكروه أو الممنوع؟ ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر: ليست بحرام ولا عيب فيها، وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه. وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرا، لأنه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة. وسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها، والتخلية بينهم وبين اقتنائها، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها، وأشباه ذلك. ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا وليس بمشروع). وهذه القاعدة التي ذكرها الشاطبي تحتاج لبعض القيود، وقد راسلت الشيخ الغامدي – حفظه الله – حول هذه القاعدة فأفاد أن: (المشروعية هي ما أمر الشرع به أمر ايجاب أو استحباب). فلكي يصح هذا المحمل لابد من التنصيص عليه في القاعدة إذ أن المشروع يدخل فيه المباح، والمكروه، وهما قد لا يصاحب فاعلهما نية التقرب بهما. قال الحطاب في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل " (1/ 442): (وقد يقال: إن لفظ المشروعية لا يقتضي أنه مطلوب؛ لأن لفظ المشروعية قد يستعمل فيما هو أعم من المطلوب كالبيع والإجارة، قاله ابن عبد السلام في أول باب الأذان، وقاله ابن فرحون، وقال: إنه يطلق على المباح). وقد سبق وأن قررت خطأ الحكم بالبدعية لمجرد إلحاق حكم شرعي بأي حدث، وإن لم يصاحبه نية التقرب، كمن قال بوجوب اختراع الأدوية الحديثة لعلاج المسلمين، واختراع الأسلحة القوية لمقاتلة الأعداء، ونحو ذلك وهذه من العادات التي لا تدخل في البدع، ومن ذلك أيضا من قال علي سبيل الكذب بجواز لبس الحرير والذهب للرجال، فقوله لا يعدو أن يكون معصية، فظهر من هذا أن الحكم بالبدعية يدور حول نية التقرب لا لمجرد إلحاق حكم شرعي ولا نسبته للدين إن تصور خلو ذلك من نية التعبد. وعليه فيتضح المقصود من القاعدة بأن يقال أن: معنى البدعة أن يتقرب المبتدع لله عز وجل بفعل لم يضعه الشارع للتقرب به كالمعاصي والمباحات فيتقرب به معتقدا أنه مندوب أو مستحب)، وإنما لم أذكر المكروه؛ لأن المكروه وإن كان الأولى تركه إلا أنه قد يفعل بنية التقرب فيصير قربة، كأن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بقصد بيان جواز فعله، وانه ليس بنحرم فهنا يصير هذا المكروه قربة في حقه للبيان، وله شروط ذكرها الشاطبي والأشقر في "أفعال الرسول" ليس الآن محل الكلام عليها،، واسضا النذر ابتداءا عبادة وهو مكروه لنهي الشارع عنه، وأيضا الوصال في الصوم، وهكذا فهذا هو وجه عدم ذكري للمكروه؛ لأنه يصح التعبد به في بعض الأحوال وبعض العبادات.

وباعتبار وصف القربة في البدعة جاء تعريف شيخ الإسلام للبدعة، بأنها الدين الذي لم يأمر به الله، ولا يخفي ما في هذا النعت من اعتبار قصد القربة في العمل المحدث ليكون بدعة (¬1). قال رحمه الله: "وقد قررنا في القواعد في قاعدة السنة والبدعة، أن البدعة هي: الدين الذي لم يأمر الله به فهو مبتدع بذلك، وهذا معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬2)]. (¬3) وقال: ( ... فإن البدعة ما لم يشرعه الله من الدين، فكل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة وإن كان متأولاً فيه) (¬4). وقال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث: "البدعة التي يظنها الناس أنها قربة، وهي بخلاف ذلك"، ثم قال: "فهذا الذي وضعت هذا الكتاب لأجله ... " (¬5) ... وقصد القربة يتوجه إلى العمل الذي لا يتصور فيه غير إرادة القربة كالعبادات المحضة، وهي حق خالص لله سبحانه، فلابد من مطابقة فعل العبد لأمر الشرع (¬6). ¬

_ (¬1) الاستقامة (1/ 5). (¬2) الشورى: 21 (¬3) المصدر السابق، نفس الموضع. (¬4) المصدر السابق (1/ 42). (¬5) الباعث 25. (¬6) انظر الموافقات للشاطبي 2/ 308.

والعبادة التي هي حق لله سبحانه وتعالى لا يتصور فيها غير إرادة القربى، فالإحداث فيها يسمى ابتداعاً، سواء قصد القربة أو مع افتراض أنه لم يقصد القربة، فلو أحيا ليلة النصف من شعبان بعبادة مخصوصة، كالصلاة والذكر فهو مبتدع (¬1) حتى مع افتراض عدم قصده للقربة ... مع أن هذا الافتراض تخيلي لا يمكن وقوعه ... والخلاصة، أن كل فعل أو ترك بقصد القربة، مما ليس له أصل في الشرع فهو بدعة. ويخرج بذلك ما فعل أو ترك لا بقصد القربة، فيكون حينئذ معصية، أو مخالفة أو عفواً، ولا يطلق عليه بدعة. مثال ما فعل لا بقصد القربة ويكون معصية: جميع المنهيات الشرعية كالنظر إلى النساء، وسماع الغناء، فإذا كان هذا العمل بقصد القربة إلى الله فهو بدعة ... ومثال ما ترك لا بقصد القربة ويكون معصية: ترك المأمور به شرعاً، كترك النكاح للقادر عليه (¬2)، وترك الدعوة إلى الله ممن وجبت عليه. فإذا كان هذا الترك بقصد القربة إلى الله بذلك فهو بدعة. ومثال ما فعل لا بقصد القربة ويكون عفواً: حلق الرأس في غير نسك (¬3)، فإذا فعل بقصد القربة فهو بدعة. ومثال ما ترك لا بقصد القربة ويكون عفواً: الامتناع عن أكل اللحم للتطبب ونحوه، فإن كان الترك لأكل اللحم تديناً فهو بدعة. وقد ذكر شيخ الإسلام ما يشبه هذا الكلام في مواطن من كتبه، ومن ذلك ذكره ¬

_ (¬1) الوارد في فضل الصلاة في هذه الليلة لا يصح. وانظر في هذا الموضوع: مجموع الفتاوى (23/ 131)، ورهبان الليل (2/ 131)، والإبداع في مضار الابتداع للشيخ على محفوظ (ص286)، وضعيف الترغيب (622، 623، 1651، 1654). (¬2) الأولى تقييد ذلك بالحاجة إليه مع القدرة عليه ليصح دخوله في المعصية فحكم النكاح يدور في الأحكام التكليفية الخمسة. (¬3) لعله بقصد للتداوي، وقال تقي الدين في "مختصر الفتاوى المصرية" (ص: 28): (وَلَيْسَ حلق الرَّأْس فِي غير نسك بِسنة وَلَا قربَة بِاتِّفَاق الْمُسلمين).

الفصل الثالث: الكلام على قيد: (ولم يقم عليه دليل أصلا)

للحلق الذي يكون مشروعاً، والحلق الذي يكون جائزاً، والحلق الذي يكون بدعة (¬1)] (¬2). الفصل الثالث: الكلام على قيد: (ولم يقم عليه دليل أصلاً). توطئة ببيان قواعد هامة للعمل والاستدلال بالأدلة: القاعدة الأولى: الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان: قال الشاطبي: [الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله تعالى قال فيها: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِتُ لكَمْ الإسلامَ دِيناً} (¬3). وفي حديث العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) الحديث (¬4). وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتي ببيان جميع ما يحتاج إليه أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة. فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياءُ يجبَ أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 326 - 327 و2/ 630 - 633، 637، الفتاوى 21/ 317 - 319 و 18/ 346، درء التعارض 1/ 244. (¬2) "حقيقة البدعة وأحكامها" للغامدي (1/ 291 - 297). (¬3) المائدة / 3. (¬4) رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني في الصحيحة (937).

قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول: {اليوم أكملتُ لكم دينكم} فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً] (¬1). القاعدة الثانية: الأصل في العبادات المنع والتوقيف (الإتباع): قال د. عفانة: [الأصل في العبادة الإتباع: إن الأصل في باب العبادات هو إتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدون زيادة ولا نقصان فليس لأحد مهما كان أن يزيد في العبادة شيئاً ولا أن ينقص منها شيئاً وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثين صحيحين مشهورين بالالتزام بالعبادة كما فعلها هو عليه الصلاة والسلام. أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهذا بعض حديث رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي قلابة قال: حدثنا مالك - هو ابن الحويرث - رضي الله عنه - قال: (أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً رفيقاً فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه. قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم). فهذا الحديث الصحيح الصريح يقرر هذا الأصل وهو لزوم الإتباع في الصلاة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فنؤدي الصلاة كما وردت عن رسول - صلى الله عليه وسلم - بلا زيادة ولا نقصان. ثانيهما: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا عني مناسككم) وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم بألفاظ متقاربة. روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي الزبير أنه سمع جابراً يقول: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه). قال الإمام النووي في شرحه للحديث: (وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لتأخذوا مناسككم) فهذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم وهكذا وقع في رواية غير مسلم، ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 48 – 49).

وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس. وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي)] (¬1). فهذان الحديثان يدلان على أن الأصل في العبادات هو التوقيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يثبت شيء من العبادات إلا بدليل من الشرع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وجماع الدين أصلان أن لا يعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬2). وذلك تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه. وفي الثانية: أن محمداً هو رسوله المبلغ فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3)] (¬4). وقال أيضاً: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم وعادت يحتاجون إليها. فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع. وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 420. (¬2) سورة الكهف الآية 110. (¬3) البقرة / 112. (¬4) العبودية ص 170 - 171.

شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أم لهم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}] (¬1). وقال العلامة ابن القيم: [ ... ولا دين إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر. والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما أن الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهو عفو حتى يحرمها. ولهذا نعى الله سبحانه وتعالى على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه (¬2) والتقرب إليه بما لم يشرعه (¬3) ... ] (¬4). ومما يؤيد هذا الأصل ويدل عليه وقوف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف عند ما حدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك: 1 - ما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (أنه قبل الحجر الأسود وقال: إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك) متفق عليه. قال الإمام النووي: [وأما قول عمر - رضي الله عنه -: (لقد علمت أنك حجر وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع) فأراد به بيان الحث على الإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقبيله ونبه على أنه لولا الإقتداء به لما فعله. وإنما قال: (وإنك لا تضر ولا تنفع) لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها رجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها وكان العهد قريباً بذلك، فخاف عمر - رضي الله عنه - أن يراه بعضهم يقبله ويعتني به فيشتبه عليه فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب ... ] (¬5). ¬

_ (¬1) القواعد النورانية ص 78 - 79. (¬2) كالبحيرة والسائبة. (¬3) كالطواف بالبيت عرايا. (¬4) إعلام الموقعين 1/ 344. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 397.

2 - وثبت عن عمر - رضي الله عنه - في حادثة تقبيل الحجر الأسود وما قال فيه أنه قال بعد ذلك: (فما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: شيء صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه) رواه البخاري. ومعنى قوله (رائينا) من الرؤية أي أريناهم بذلك أنا أقوياء قاله الحافظ ابن حجر (¬1). وجاء في رواية أخرى عن عمر - رضي الله عنه - قوله: (فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه ابن ماجه بنحوه ورواه أحمد (¬2). 3 - وعن يعلى بن أمية قال: (طفت مع عمر بن الخطاب فلما كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر أخذت بيده ليستلم فقال: أما طفت مع رسول الله؟ قلت: بلى. قال: فهل رأيته يستلمه قلت لا؟ قال: فأبعد عنه فإن لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط كما قال الهيثمي، ورواه البيهقي أيضاً (¬3). 4 - وفي رواية عند الإمام أحمد أن يعلى بن أمية قال: (طفت مع عثمان ... ) فذكر نحو الحديث السابق (¬4)، قال الساعاتي: [فلعل القصة وقعت ليعلى بن أمية مرتين مرة مع عمر ومرة مع عثمان. ورواه أبو يعلى بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح وسند الإمام أحمد فيه راوٍ لم يسمَّ] (¬5). 5 - وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية - رضي الله عنه - بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس: (لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فقال ¬

_ (¬1) فتح الباري 4/ 217. (¬2) رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وقال الألباني: جسن صحيح. (¬3) رواه أحمد (1/ 37)، وغيره، وصحح الأرناؤوط إسناده على شرط ومسلم، وأفاد أن الركن المقصود هو الركن الشامي. (¬4) رواه أحمد (1/ 70)، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره. (¬5) الفتح الرباني 12/ 32.

معاوية: صدقت) رواه أحمد والترمذي، وقال: (حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني) ورواه البخاري تعليقاً (¬1). قال الشيخ الساعاتي معلقاً على كلام ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم: [يعني - أي معاوية - أنها كلها أركان البيت فلا نستلم البعض ونترك البعض. يريد ابن عباس أننا لم نترك استلام الركنين هجراً للبيت ولكننا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك ففعلنا مثله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فرجع معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم حينما ظهر له الدليل وقال صدقت. وهكذا شأن المؤمن إذ ظهر له الحق وكان مخالفاً لرأيه طرح رأيه واتبع الحق والرجوع إلى الحق فضيلة] (¬2). قال الحافظ ابن حجر: [وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجوراً بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت وكيف يهجره وهو يطوف به؟ ولكن نتبع السنة فعلاً أو تركاً ولو كان ترك استلامهما هجراً لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجراً ولا قائل به] (¬3). 6 - وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: (كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم). 7 - وقد ورد عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر فقال: [الحمد لله والسلام على رسول الله. قال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال] رواه الترمذي والحاكم وقال الحاكم: صحيح الإسناد غريب ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني. ¬

_ (¬1) الفتح الرباني 12/ 41، تحفة الأحوذي 3/ 505، صحيح البخاري مع الفتح 4/ 219 - 220. (¬2) الفتح الرباني 12/ 41. (¬3) فتح الباري 4/ 220.

8 - وورد عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيهما الركوع والسجود فنهاه فقال: [يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟! قال: لا ولكن يعذبك على خلاف السنة] رواه البيهقي وعبد الرزاق والخطيب. 9 - وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: [سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تفعل. قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ إني سمعت الله يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)] ذكره الخطيب البغدادي والشاطبي. 10 - قال الشيخ الألباني: [روى الطبراني بسند صحيح عن طلحة بن مصرف قال: [زاد ربيع بن خيثم في التشهد وبركاته:" ومغفرته "! فقال علقمة نقف حيث عُلِّمنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وعلقمة تلقى هذا الإتباع من أستاذه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فقد ثبت عنه أن كان يعلم رجلاً التشهد فلما وصل إلى قوله:" أشهد أن لا إله الله " قال الرجل: وحده لا شريك له. فقال عبد الله: هو كذلك ولكن ننتهي إلى ما عُلِّمنا أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح] (¬1). 11 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه) رواه أبو داود والدارمي وصححه الحافظ ابن حجر والألباني. وبناء على هذا الأصل المهم فإنه يشترط في العبادات الإتباع ولا يجوز الابتداع ... ¬

_ (¬1) انظر صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 145.

فائدة لطيفة: قال الشيخ تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي: [وجدت بخط الوالد - رضي الله عنه - يقصد والده وهو الإمام علي بن عبد الكافي السبكي -: فكرت عند الاضطجاع في قول المضطجع: باسمك اللهم وضعت جنبي وباسمك أرفعه، فأردت أن أقول: إن شاء الله تعالى، في " أرفعه " لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ثم قلت في نفسي: إن ذلك لم يرد في الحديث في هذا الذكر المنقول عند النوم ولو كان مشروعاً لذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم فتطلبت فرقاً بينه وبين كل ما يجريه الإنسان من الأمور المستقبلة المستحب فيها ذكر المشيئة. ولا يقال: إن " أرفعه " حال ليس بمستقبل لأمرين: أحدهما: أن لفظه وإن كان كذلك لكنا نعلم أن رفع جنب المضطجع ليس حال اضطجاعه. والثاني: أن استحباب المشيئة عام فيما ليس بمعلوم الحال أو المضي. وظهر لي أن الأولى الاقتصار على الوارد في الحديث في الذكر عند النوم بغير زيادة وأن ذلك ينبه على القاعدة ويفرق بها بين تقدم الفعل على الجار والمجرور وتأخره عنه فإنك إذا قلت: أرفع جنبي باسم الله كان المعنى بالإخبار الرفع وهو عمدة الكلام وجاء الجار والمجرور بعد ذلك تكملة وإذا قلت: باسم الله أرفع جنبي كان المعنى الإخبار بأن الرفع كائن باسم الله وهو عمدة الكلام. فافهم هذا السر اللطيف وتأمله في جميع موارد كلام العربية تجده يظهر لك به شرف كلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وملازمة المحافظة على الأذكار المأثورة عنه عليه أفضل الصلاة والسلام] (¬1).] (¬2) القاعدة الثالثة: حكم العمل بعموم الدليل العام والاستدلال به قبل البحث عن مخصص: اختلف العلماء في العمل بالدليل العام قبل البحث عن مخصص على قولين: ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية 10/ 287. (¬2) البدعة ص/ 40: 51.

القول الأول - وهو وجوب العمل بالدليل العام مطلقاً، حتى يثبت تخصيصه. قال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله -: [والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص، والمطلق ظاهر في الإطلاق، حتى يثبت ورود المقيد والنص يجب العمل به، حتى يثبت النسخ بدليل شرعي، والظاهر يجب العمل به عموماً كان أو إطلاقاً أو غيرهما، حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح. كما هو معروف في محله. وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام، حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ونحو ذلك، أبو العباس بن سريج وتبعه جماعات من المتأخرين، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها. وعلى كل حال فظواهر النصوص، من عموم وإطلاق، ونحو ذلك، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، من مخصص أو مقيد، لا لمجرد مطلق الاحتمال، كما هو معلوم في محله. فادعاء كثير من المتأخرين، أنه يجب ترك العمل به، حتى يبحث عن المخصص، والمقيد مثلاً خلاف التحقيق] (¬1). وقال الشيخ العثيمين – رحمه الله -: [يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه. وعندنا دليل وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الحمر قال: " لم ينزل علي َّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} " (¬2) فهنا استعمل الرسول عليه الصلاة والسلام العمل بالعموم. فإذا العمل بالعموم واجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل به وهو المشرِّع، فكأنه بعمله هذا يقول لنا اعملوا كذلك. وهذا تعليل عقلي.] (¬3). القول الثاني – ¬

_ (¬1) أضواء البيان (7/ 432 – 433)، وانظر أيضاً كلامه في المذكرة ص/217 – 218. (¬2) متفق عليه. (¬3) شرح الأصول من علم الأصول ص/ 260.

قال تقي الدين في "مجموع الفتاوي" (19/ 166): (العام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقى وهذا أيضا لا خلاف فيه. وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد فيه روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض). وقد بحث هذه المسألة الشيخ عياض السلمي (¬1) حيث قال: (الذي يظهر لي بعد استعراض أهم الآراء وأدلتها أن الراجح هو التفريق بين العلماء المجتهدين الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، وعرفوا مواطن الإجماع والاختلاف، والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يؤهلهم للفتيا وتولي القضاء. فالقسم الأول لا ينبغي الخلاف في أن أحدهم إذا بلغته آية عامة أو حديث عام ولم يبلغه ما يخصصه، مع تمرسه بالأدلة المنقولة والمعقولة، أنه يجب عليه العمل به إذا حان وقت العمل من غير توقف، ولا يجب عليه البحث عما عساه أن يجده من مخصص أو ناسخ. أما العوام ومن في حكمهم فليس لأحد منهم أن يفتي أو يحكم بالعموم على ظاهره؛ لأنهم ليسوا من أهل الفتيا والحكم، وليسوا مخاطبين بهما ... ويبدو لي أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوه لأحد أمرين: الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه خصصوه، وإلا عملوا به في عمومه. وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: (وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه، فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى نقض ما أمضاه بتبين الخلاف) (¬2). الثاني: أنهم إنما منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم، والحكم به، وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولا شك أنه لو أذن لغير المجتهدين في أن يعملوا بالعموم من غير بحث عن المخصص لتعطل كثير من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها، وعدم البحث عنها ... ). والقول الثاني هو الراجح. فرع – هل يكفى غلبة الظن بعدم المخصص: قال ابن اللحام في "القواعد والفوائد الأصولية" (ص/13): (إذا قلنا على رواية اختارها أبو الخطاب وغيره يمنع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص فهل يشترط حصول اعتقاد جازم بأنه لا مخصص أو يكفى غلبة الظن بعدمه فيه خلاف اختار القاضي أبو بكر الأول وابن سريج وإمام الحرمين والغزالي الثاني) ونص عبارة الغزالي في "المستصفى" (ص/257): (والمختار عندنا أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون ¬

_ (¬1) انظر البحث الذي نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس والعشرين ولقد اقتصرت على ذكر ما رجحه، ومن رام التفصيل في المسألة فعليه بالبحث المشار إليه. (¬2) فواتح الرحموت (1/ 267).

العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا وانتفاء الدليل في نفسه مظنون وهو الظن بالصحابة في المخابرة ونظائرها وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر). ولا شك أن من عجز عن تمام اليقين فليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قوي غالب على ظنه. القاعدة الرابعة: هل يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام فقط أم ... لا بد من دليل خاص: قال الشيخ عفانة: [لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام بل لا بد من دليل خاص. وهذه مسألة مهمة ينبغي التنبيه عليها؛ لأن كثيراً من المبتدعين يزعمون أن الدليل العام يؤيد بدعتهم فمثلاً يقولون إن تلاوة القرآن في المآتم " الختمة " تدخل تحت الأدلة العامة التي تحض على قراءة القرآن الكريم. ويقولون مثلاً إن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان - كما يفعله كثير من المؤذنين بحيث أنهم يجعلونها جزءً من الأذان - مشروعة لأنها داخله تحت عموم قوله تعالى: (يا أيُها الذَينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (¬1). والجواب على هذه المقولة إنه لا بد من دليل خاص للعبادات حتى تكون صحيحة وموافقة لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكفي الاستدلال بعموم الأدلة وكونها داخلة في هذا العموم فمثلاً لو قال شخص عندما رأى المصلين في المسجد يصلون سنة الفجر أشتاتاً في أنحاء المسجد فقال: يا جماعة هلا اجتمعتم وصلينا سنة الفجر في جماعة لأنه صح في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يد الله على الجماعة)، أو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس أو سبع وعشرين درجة). فاستدلال هذا الرجل بالأدلة العامة لا يقبل ولا يصح ولا يجوز أن تدخل سنة الفجر في هذه العمومات ولو لم يثبت لدينا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لا تصلوا سنة الفجر في جماعة. حيث لا يوجد لدينا حديث بهذا المعنى، فصلاة سنة الفجر في جماعة ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 56.

بدعة وإن كان الشرع قد حث على الجماعة وعلى صلاة الجماعة وأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد (¬1)] (¬2). وما قاله الشيخ عفانة وإن كان صحيحاً من ناحية النتيجة، إلا أن عبارته غير سديدة، فمقصود القاعدة التي نقلها عن الشيخ الألباني، واستفادها الألباني من الشاطبي مؤداها صحيح إلا أنه أخطأ في صياغتها، وبيان ذلك من وجوه: الأول: تصدير عبارته بقوله: (لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام) يستشعر منه إلغاء دلالة الدليل العام على أجزائه، وأنه لا يجوز العمل بالدليل العام، وهذا خطأ، كما قدمنا الكلام على هذه المسألة. الثاني: أن تطبيق هذه القاعدة غير مطرد، وسأذكر هنا بعض الأمثلة التي أعمل فيها الشيخ الألباني - الذي ينقل عنه هو هذه القاعدة - النصوص العامة فقط دون نقل خاص. قال الشيخ الألباني: [المستحب أن يقول كما يقول المقيم: " قد قامت الصلاة " لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول. . "] (¬3). وقال أيضاً: [نرجح مشروعية الاستعاذة في كل ركعة لعموم قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) وهو الأصح في مذهب الشافعية ورجحه ابن حزم في " المحلى "] (¬4). وقال أيضاً مرجحاً الجمع للمأموم بين التسميع والتحميد في ذكر الاعتدال من الركوع معلقا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به .. وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد ... ) (¬5): [هذا الحديث لا يدل على أن المؤتم لا يشارك الإمام في قوله: " سمع الله لمن حمده " كما لا يدل على أن الإمام لا يشارك المؤتم في قوله: " ربنا لك الحمد " إذ الحديث لم يسق لبيان ما يقوله الإمام ¬

_ (¬1) انظر فتاوى الألباني ص 49 - 50. (¬2) البدعة لحسام عفانة ص/ 52، وما بعدها. (¬3) تمام المنة (ص/149)، وانظر الثمر المستطاب (1/ 215 - 216). (¬4) تمام المنة (ص/177). (¬5) رواه مسلم، وغيره.

والمؤتم في هذا الركن، بل لبيان أن تحميد المؤتم إنما يكون بعد تسميع الإمام. ويؤيد هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول التحميد وهو إمام. وكذلك عموم قوله عليه السلام " صلوا كما رأيتموني أصلي " يقتضي أن يقول المؤتم ما يقوله الإمام من كالتسميع وغيره] (¬1). (ولا بد من وقفة أيضاً مع الشيخ الألباني وما قاله حول هذه القاعدة لتحرير مذهبه فيها: قال الشيخ الألباني: [النص العام الذي جاء ذكره في السنة فضلاً عن القرآن إذا لم يُعمل به عاماً، إنما عُمل به مقيداً فنحن نعمل به مقيداً وما نأخذ بالنص العام ونحتج به] (¬2) وقال أيضاً: [كل نص عام في السنة أو في القرآن إن لم يجر العمل بجزء من أجزاء هذا النص العام لا يجوز لنا العمل به؛ لأنه لو كان مراداً لعمل به أولئك الذين باشروا سماع هذا النص من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولاً وتطبيقه ثانياً] (8). وهذه القاعدة قالها الشيخ الألباني لتدعيم اختياره بوجوب أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية حيث أنه وقف على آثار لبعض السلف تفيد أنهم كانوا يأخذون ما زاد عن القبضة من اللحية، ولذا فلم يعمل عموم العام وخصه بما نقله عن السلف من أن الإطلاق أو الإعفاء مقيداً بما لا يزيد عن القبضة. فهنا وقف على نقل خاص فأعمله. والأمثلة التي نقلناها عنه آنفاً أخذ فيها بالعموم، دون أن يؤيد ذلك بنقل خاص عن السلف. وعليه فالذي يترجح أنه يخص العام بما نقل عن السلف، وأما إذا لم يكن هناك مقل عن السلف وليس ثم إلا الدليل العام فإنه يعمل العموم دون التوقف على نقل خاص، ويكون الأخذ بالعموم دليلاً يشهد لأصل هذا العمل بالمشروعية، إلا أنه يشكل على هذا الجمع حكمه بالبدعية على وضع اليد على الصدر في القيام من ¬

_ (¬1) هامش صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص/80). (¬2) انظر شريط حكم الأخذ من اللحية. وهذا الكلام للشيخ مستفاد من كلام الشاطبي في الموافقات، وسوف يأتي ذكره قريباً - بمشيئة الله -.

الركوع (¬1)، وعدم تمسكه بالعموم الوارد في حديث سهل ووائل بن حجر كما أوضح الشيخ ابن باز في رده على الشيخ الألباني (¬2)، وعليه فإما أن يكون الشيخ الألباني - رحمه الله - أخطأ في عدم إعمال العام في المسألة الأخيرة كسابقيها، ولعله لم يقف عليه، وخاصة أنه لم يشير إليه في أثناء تقريره للقول بالبدعية، أو أنه كان يضطرب في تطبيق هذه القاعدة فكان يعمل العام أحياناً إذا لم يكن هناك نقل خاص، وأحياناً لا يعمله طبقاً لاجتهاده. والثاني أقرب، والله أعلم. وبقي التنبيه إلى أن الاستدلال بالدليل العام في أمور العبادات لا يكفي إلا لمجرد إثبات أصل العبادة، وهذا لا يكفي في أمور التعبد، ولكن بقي النقل الخاص الذي يثبت الوصف، فإن اختل الأول كانت البدعة حقيقية، وإلا فإضافية كما سبق بيان ذلك. وعليه فالأولى لعبارة الشيخ عفانة أن تكون هكذا: (لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام فقط، بل لا بد من دليل خاص)، ويدخل في الدليل الخاص فهم وقول وعمل الصحابة - رضي الله عنهم -. وهنا تقرر القاعدة التالية: القاعدة الخامسة: العمل بالأدلة الشرعية يكون مقيداً بعمل السلف الصالح بها: وهذا أصل أخص مما سبق ومؤكد له. قال الشاطبي: [كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما أو أكثريا أو لا يكون معمولا به إلا قليلا أو في وقت ما. أو لا يثبت به عمل، فهذه ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندباً أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل والزكاة بشروطها والضحايا ¬

_ (¬1) انظر صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - هامش (ص/82). (¬2) انظر رسالة ثلاث رسائل في الصلاة لابن باز (ص/33 - 43).

والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة وبينها عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو إقراره ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق. والثاني أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال ووقع إيثار غيره والعمل به دائما أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه وفى العمل على وفقه والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي أو لغير معنى شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي فلابد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه وإن لم يكن معارضا في الحقيقة فلا بد من تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه ... ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين: أحدهما أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت أو أوقات عينت أو نحو ذلك كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال: (صل معنا هذين اليومين) فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لأخر وقت الاختياري الذي لا يتعدى ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر وأشباه ذلك ... والضرب الثاني ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى ثم المجتهد فيه أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له وتعظيما فإن العمل المتصل تركه فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان

لنقل حتى روى عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس فقال إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد (¬1) وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه وقوله: (قوموا لسيدكم) إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم وأن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق للمقوم له أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود أو للإعانة على معنى من المعاني أو لغير ذلك مما يحتمل وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل معارض له فنحن في إتباع العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر وذلك لا يقوى قوة معارضه .... ومنها أن يكون هذا القليل خاصاً بزمانه أو بصاحبه الذي عمل به أو خاصاً بحال من الأحوال فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في نهيه عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا وهو قوله: (إنما نهيتكم لأجل الدافة) ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في أمر فعمل فيه ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إنه لو جاءني لاستغفرت له) وتركه كذلك حتى حكم الله فيه فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول صلى الله عليه وسلم وأما دواما فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه وهذا خاص بزمانه إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي وقد انقطع بعده فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينظر الحكم فيه وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك ¬

_ (¬1) قال القاضي عياض في "المعلم": (فقد بين أن القيام الذى كره إنما هو إذا كانوا قيامأ على رأس الجالس).

الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده فإذا العمل بمثله أشد غررا إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته ... وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره. وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يُخَف نسخ العمل أو عدم صحة في الدليل أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة أو ما أشبه ذلك. أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور: أحدها المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها، والثاني استلزام ترك ما داوموا عليه إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه، والثالث أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه إذ الإقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدي به كان أشد، الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به، والله المستعان. والقسم الثالث أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله. والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ولو كان ترك العمل فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف ... وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين وحاش لله من

ذلك ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم) الحديث والحديث الآخر: (ما اجتمع قوم يذكرون الله) الخ وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر، وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الآية وقوله: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) وبجهر قوام الليل بالقرآن، واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدَّرَق (¬1) والحراب وقوله عليه الصلاة والسلام لهم: (دونكم يا بني أرفدة)، واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف وتصنيف الكتب وتدوين الدواوين وتضمين الصناع وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا وغلطوا واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة، فيقال لمن استدل بأمثال ذلك هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك فيقال له أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإجماع وإن قال إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها ¬

_ (¬1) جمع دَّرَقَة، وهي ترس من جلد.

المتقول والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه، فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين وإذا كان مسكوتا عنه ووجد له في الأدلة مساغ فلا مخالفة إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده وهو البدعة المنكرة قيل له بل هو مخالف لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين أحدهما أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه فلا سبيل إلى مخالفته؛ لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد والثاني أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهي المصالح المرسلة وهي من أصول الشريعة المبني عليها إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ... فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه ... وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معنى ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها؛ ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحد من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة وقد مر من ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة وفى كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة ... فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب وأقوم في

المبحث الأول: سنة الخلفاء الراشدين

العلم والعمل] (¬1). الأصول (الأدلة): والمراد بهذا الباب بيان الأدلة التي يعتمد عليها العمل ليحكم عليه بأنه سنة لا بدعة، ومنها أصول متفق عليها كالكتاب، والسنة، والإجماع، وأخرى مختلف فيها، كسنة الخلفاء الراشدين، وعمل (قول أو فعل) الصحابي. وسوف أفرد الكلام هنا على الأصول المختلف فيها لبيان القول المختار في حجيتها: المبحث الأول: سنة الخلفاء الراشدين: روى أبو داود عن العرباض - رضي الله عنه - أنه قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬2). قال ابن رجب: [هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه وفي الأعمال والأقوال والاعتقادات وهذا موافق لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة وهي ما كان عليه وأصحابه ولذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده والسنة هي الطريق المسلوك فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال وهذه هي السنة الكاملة ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله وروي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 56: 76. (¬2) رواه أبو داود في كتاب السنة (35)، باب في لزوم السنة (6)، (4/ 200) حديث رقم (4607)، وغيره وصححه الألباني.

يتعلق بالاعتقاد ... وفي أمره صلى الله عليه وسلم بإتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كإتباع السنة بخلاف غيرهم من ولاة الأمور] (¬1). وقال أيضاً: [وإنما وصف الخلفاء لأنهم عرفوا الحق وقضوا به والراشد ضد الغاوي والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه وفي رواية المهديين يعني أن الله يهديهم للحق ولا يضلهم عنه فالأقسام ثلاثة راشد وغاو وضال، فالراشد عرف الحق واتبعه والغاوي عرفه ولم يتبعه والضال لم يعرفه بالكلية فكل راشد فهو مهتد وكل مهتد هداية تامة فهو راشد لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به] (¬2). (وقد اختلف العلماء في المراد بسنة الخلفاء الراشدين المذكورة في الحديث على أقوال: (القول الأول: جميع سنتهم سواء أكانت راجعة إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أم اجتهادية. قال الإمام ابن القيم: [فقرن سنة خلفائه بسنته وأمر بإتباعها كما أمر بإتباع سنته وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء وإلا كان ذلك سنته ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم؛ لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين] (¬3) وقال أيضاً: [بالجملة فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها] (¬4) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عقب ذكره للحديث: [فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها وإن كان يسمى في اللغة بدعة لكونه ابتدئ] (¬5) ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم (ص / 263). (¬2) المصدر السابق (ص / 266). (¬3) إعلام الموقعين (4/ 140). (¬4) المصدر السابق: 2/ 245. (¬5) مجموع الفتاوى: 21/ 319.

وقال الشيخ مصطفى بن محمد: [فأعطى الحديث – كما ترى- أن ما سَنَّه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين: إما أن يكون مقصوداً بدليل شرعي، فذلك سنة لا بدعة، وإما بغير دليل - ومعاذ الله من ذلك -، ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة، إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة، فدليلهم من الشرع ثابت، فليس ببدعة، ولذلك أردف الأمر بإتباعهم بالنهى عن البدع بإطلاق ولو كان عملهم ذلك بدعة، لوقع في الحديث التدافع. وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد، لأنه منقول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو أحد الخلفاء الراشدين، (وتضمين الصُّنَّاع) وهو منقول عن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم -] (¬1) وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق: [فهذا الحديث نص في وجوب التزام سنة الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كنظام الولاية والخلافة، وتدوين الدواوين، وسياسة الأمة، ونظام الحرب، وشروط الصلح، وجمع المصحف، وتوحيد القراءة، ونحو هذا مما سنه الخلفاء الراشدون] (¬2) (القول الثاني: المراد بسنة الخلفاء الراشدين طريقتهم الموافقة لطريقته - صلى الله عليه وسلم -. قال المباركفوري: [قلت: ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم، قال القاري في المرقاة: فعليكم بسنتي: أي بطريقتي الثابتة عني واجباً أو مندوباً، وسنة الخلفاء الراشدين: فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم: إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياها، انتهى كلام القاري. وقال صاحب سبل السلام: أما حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .. ومثله حديث: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، أخرجه الترمذي وقال: حسن وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان وله طريق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً، فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم، من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها، فإن الحديث عام لكل ¬

_ (¬1) تيسير العلام بتهذيب وشرح الاعتصام. (¬2) انظر البيان المأمول.

خليفة راشد، لا يخص الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حجة] (¬1). وقول الصنعاني: (فإن الحديث عام لكل خليفة راشد، لا يخص الشيخين) يرده ما سيأتي من أدلة عند الكلام على تعيين الخلفاء الراشدين. وقوله: (ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -) استدلال بمحل النزاع، وتخصيص لعموم الحديث بلا مخصص. وقوله: (على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حجة) سيأتي مناقشته عند الكلام على القول الثالث - إن شاء الله -. (القول الثالث: أن قول أحد الخلفاء الراشدين ليس بحجة في ذاته حتى يجتمع على قوله الصحابة، وينبغي التنبه إلى ما قد يخالف فيه أحدهم كما خالف عمر رضي الله عنه في منع متعة الحج، وكما خالف عثمان رضي الله عنه في الإتمام وهو في منى. وأما فعل أحدهم الذي وافقه عليه جميعهم فلا شك أنه حجة وهو الذي أمرنا بالأخذ به وهو ما يسمى فهم السلف أو الإجماع، كقتال المرتدين وجمع المصحف وما شابه (¬2). وعند التحقيق نجد أن محصلة هذا القول تعود على معنى الحديث بالإبطال؛ فإن عاد الأمر إلى إجماع الصحابة فما هو المعنى الذي أضافه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) بل لازم هذا القول تعدي الأمر إلى عصر معاوية - رضي الله عنه - والذي سماه النبي ملكاً، وليس خلافة على منهاج النبوة؛ وعليه فلازم هذا القول تعطيل معنى الحديث، وتخصيصه بلا مخصص. والصحيح أن الحديث له معنى زائد، ووصية من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمسك بهدي وسنة من وصفهم بالخلفاء الراشدين. ¬

_ (¬1) تحفة الأحوذي (3/ 40). (¬2) نقلا عن مقال على موقع ملتقى أهل الحديث.

وأما ما ذكر من أمثلة لتقوية رأيه، فالفرق بينها ليس ما ذكر من اشتراط موافقة الجميع، ولكنهم ردوا قول عمر في التمتع، وعثمان في الإتمام؛ لمخالفتهما للسنة المستقرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عنه أنه أتم في سفر وقد كان إماماً للمسلمين، وهذا يرد تأول عثمان، ويجعله مخالفاً للسنة. وعليه فكان الأولى به القول باشتراط عدم مخالفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ما ذكر. (القول الرابع: المراد اتفاق الخلفاء الأربعة لا إذا انفرد واحد منهم. قال المباركفوري: [وقد حقق البرماوي الكلام في شرح ألفيته في أصول الفقه، مع أنه قال إنما الحديث الأول يدل على أنه إذا اتفق الخلفاء الأربعة على قول كان حجة لا إذا انفرد واحد منهم] (¬1). وهذا القول مخالف لظاهر الحديث، قال ابن القيم: [يتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين] (¬2) الترجيح: وبعد فبالنظر إلى لفظ الحديث يتبين رجحان القول الأول أن المراد جميع سنتهم سواء أكانت راجعة إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أم اجتهادية، وذلك للوجوه الآتية: 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كرر لفظ: سنة، وأضافها إلى لفظ الخلفاء؛ فعمت جميع سنتهم سواء أكانت راجعة إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أم اجتهادية منهم في حال خلافتهم فيما استجد لهم من أمور، كنحو حروب الردة، والأذان الثالث، وتضمين الصناع، وجمع القرآن، وقتل الجماعة بالواحد، وغير ذلك. 2 - ويُقوِّي هذا الوجه في الحديث أن الأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد؛ لأن إعمال الكلام أولى من إهماله. 3 - وأن الأصل في العطف المغايرة. (¬3) ¬

_ (¬1) تحفة الأحوذي (3/ 40) / وانظر البحر المحيط للزركشي (6/ 451). (¬2) إعلام الموقعين (4/ 140). (¬3) انظر البحر المحيط (3/ 224)، شرح التلويح (1/ 214)، وغيرهما.

4 - وعليه فظاهر هذا الحديث يدل على هذا القول، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل، ولا دليل. 5 - وبالنظر إلى حقيقة الأمر نجد أن سنة الخلفاء الراشدين، وما فعلوه من وجوه الاجتهاد فيما استجد لهم من أمور بعد موته - صلى الله عليه وسلم - راجع إلى القواعد العامة في الشريعة، وإلى المصالح المرسلة، وحفظ الضروريات. (وبقي القول باشتراط عدم مخالفة سنة الخلفاء لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل ما خالف القرآن، وصحيح السنة فهو رد على صاحبه كائناً من كان، ويكون هذا الرد من باب الترجيح بين الأدلة، ولا يلجأ إلى هذا الرد إلا بعد تعذر الجمع. وعلى كل حال فهذا الحديث بين أن سنة الخلفاء متبعة، فما استند إليها استند إلى أصل، ولم يلحق بالبدعة المذمومة، وإن سمّي بدعة لغوية. فرع: تعيين الخلفاء الراشدين المهديين: روى أحمد عن النعمان بن بشير قال: كنا قعودا في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان بشير رجلا يكف حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت) قال حبيب فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه فقلت له إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين يعنى عمر بعد الملك العاض والجبرية فادخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه. (¬1) ¬

_ (¬1) رواه أحمد، وقال الأرناوؤط: إسناده حسن، وصححه الألباني في الصحيحة (5)، وقال هناك (1/ 9): (ومن البعيد عندي حمل الحديث على عمر بن عبد العزيز، لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة ولم تكن بعد ملكين: ملك عاض، وملك جبرية، والله أعلم).

وورد في تعيين مدة الخلافة الأولى التي تكون على منهاج النبوة ما رواه أحمد، وغيره عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك قال سفينة أمسك خلافة أبى بكر رضي الله عنه سنتين وخلافة عمر رضي الله عنه عشر سنين وخلافة عثمان رضي الله عنه أثنى عشر سنة وخلافة علي رضي الله عنه ست سنين رضي الله عنهم) (¬1)، ولفظ أبي داود: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء). قال الإمام ابن رجب: [والخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالإقتداء بهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى - رضي الله عنهم - فإن في حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم والخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا وقد صححه الإمام أحمد واحتج به على خلافة الأئمة الأربعة] (¬2) قال أبو الطيب العظيم آبادي: [قال العلقمي: قال شيخنا: لم يكن في الثلاثين بعده إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن، قلت بل الثلاثون سنة هي مدة الخلفاء الأربعة كما حررته فمدة خلافة أبي بكر سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام ومدة عمر عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام ومدة عثمان أحد عشر سنة وأحد عشر شهرا وتسعة أيام ومدة خلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام، هذا هو التحرير فلعلهم ألغوا الأيام وبعض الشهور. وقال النووي في تهذيب الأسماء: مدة خلافة عمر عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين يوما وعثمان ثنتي عشرة سنة إلا ست ليال وعلي خمس سنين وقيل خمس سنين إلا أشهرا والحسن نحو سبعة أشهر انتهى كلام النووي والأمر في ذلك سهل هذا آخر كلام العلقمي] (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي، وأحمد وابن حبان وغيرهم، والحديث صححه الألباني في الصحيحة (459)، حسن إسناده ... الأرناوؤط. (¬2) جامع العلوم والحكم (ص/364). (¬3) عون المعبود (12/ 259).

المبحث الثاني: عمل (قول أو فعل) الصحابي

المبحث الثاني: عمل (قول أو فعل) الصحابي: وهذا الفصل من أهم الفصول، وقد زلت فيه أقدام، نسأل الله التسديد والإعانة، إنه خير مسئول، وهو حسبي ونعم الوكيل. وقد تكلم عن حجية قول الصحابي جمع من العلماء، من المتقدمين والمتأخرين، وقد اشتهر الكلام فيها، إلا أن ما اطلعت عليه من هذه المصنفات، قد أغفل الرد التفصيلي على بعض الجوانب التي لها تعلق مباشر بموضوع البحث، كتوجيه لبعض الأحاديث، والآثار التي تدل على جواز وقوع البدعة من بعض الصحابة، والتي يترتب على التسليم لظاهرها عدم حجية أقوالهم، وأفعالهم، وأنها يستدل لها لا بها، أو التسليم بتخصيص عموم أحاديث ذم البدع، وأن هناك بدعاً حسنة، وستأتي هذه الأدلة، وتوجيهها في مكانها من البحث بعون الله تعالى. والراجح في هذا الباب أن قول الصحابي أو فعله أصل لمن أتي بعده، فلا يجوز أن يوصف من فعل فعلاً أو قال قولاً، وله فيه سلف من هذا الرعيل الأول من جيل الصحابة - الذين اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والذين عايشوا نزول الوحي، واشتدوا في متابعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته - بالبدعية، ولكن هذا لا يمنع أن تكون أقوالهم عند التعارض مرجوحة، أو غيرها راجح عليه طبقاً لما هو مقرر في قواعد الترجيح، فهذا ليس مما نحن فيه. قال الشاطبي: [سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور: أحدها ثناء الله عليهم مَثْنوية (¬1) ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم وذلك يقضى باستقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى. ولا يقال إن هذا عام في الأمة فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول: أولا ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر. وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي. وثالثا أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح، وأيضا فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم؛ فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق وأنهم وسط أي عدول بإطلاق وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به، وهكذا سائر الآيات التي جاءت بمدحهم كقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} الآية وأشباه ذلك. والثاني ما جاء في الحديث من الأمر بإتباعهم وأن سنتهم في طلب الإتباع كسنة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) (¬2) وقوله: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا ومن هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي) (¬3)، وعنه أنه قال: (أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلا به) (¬4) ... والثالث أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل فقد جعل طائفة قول أبي يكر وعمر حجة ودليلا وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المتعمد في المسألة وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون ¬

_ (¬1) أي من غير استثناء. (¬2) صحيح، وقد سبق تخريجه. (¬3) رواه الترمذي، وغيره، وقد حسنه الألباني. (¬4) رواه أبو يعلى، وضعفه الألباني، وحسين أسد.

مخالفة الصحابة ويتكثرون بموافقتهم وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه ... وأيضا فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه فعن سعيد بن جبير أنه قال: ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين. وعن الحسن وقد ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم. وعن إبراهيم قال: لم يدخر لكم شيء خباء عن القوم لفضل عندكم. وعن حذيفة أنه كان يقول: اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه فقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا. وعن ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال علي: إياكم والاستنان بالرجال ثم قال فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء. وهو نهي للعلماء لا للعوام ... وعن حذيفة قال: اتبعوا آثارنا فإن أصبتم فقد سبقتم سبقا بينا وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا 0 وعن ابن مسعود نحوه فقال: اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وعنه: أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول سبحوا عشرا وهللوا عشرا فقال عبد الله إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل بل هذه بل هذه يعني أضل. والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها وحسبك من ذلك دليلا مستقلا وهو: الرابع ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم وأن من أحبهم فقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط إذ لا مزية في

ذلك وإنما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة] (¬1) ومن الأدلة، قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فعموم هذه الآية يدل على أن الصحابة لم يبدلوا، ومن أراد التخصيص فعليه الدليل. ومن الأدلة أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (النجوم آمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا آمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي آمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) قال ابن القيم: ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه وكنسبة النجوم إلى السماء. ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم –وأيضاً - فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم وحرزاً من الشر وأسبابه. فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنةً للصحابة وحرزاً لهم. وهذا من المحال (¬2). ومن الأدلة أيضاً ما قاله عمر بن الخطاب لطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهما- حينما رآه لابساً ثوباً مصبوغاً وهو محرم:- (إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ... ) (¬3). ملاحظات: الأولى: حقق د. ترحيب الدوسري في رسالته: " حجية قول الصحابي عند السلف "، أن القول باعتبار حجية قول الصحابي إن لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر أم لا؟ هو قول الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم، قال: وبناء على ما سبق فإن الصحابي إذا قال قولاً:- فلا يخلو من أن يشتهر قوله ويوافقه سائر الصحابة على ¬

_ (¬1) الموافقات (4/ 74: 80). (¬2) إعلام الموقعين (4/ 111)، وقد ساق فيه بضعاً وأربعين وجهاً على وجوب إتباع الصحابة فأنظرها. (¬3) رواه مالك في الموطأ، وإسناده صحيح.

ذلك، أو يخالفوه، أو لا يشتهر أو لا يعلم اشتهر أم لم يشتهر. فإن اشتهر قوله ووافقه الصحابة فهو إجماع، وإن اشتهر فخالفوه فالحجة مع من سعد بالدليل، وحينئذٍ الحجة فيه لا في كونه قول صحابي، وإن لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر أم لا؟. فهذا هو موطن النزاع. والذي عليه العلماء السابقون والأئمة المتبوعون أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد – رحمهم الله تعالى – وجمهور أصحابهم أنه حجة. الثانية: قال الجويني: [واجمعوا أن قول الصحابي لا يكون حجة على الصحابي] (¬1) قال الآمدي: [اتفق الكل على أن مذهب الصحابة في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً] (¬2). قال الشوكاني: [اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر. وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر والآمدي وابن الحاجب وغيرهم] (¬3). قال الشنقيطي: [قول الصحابي الذي ليس له حكم الرفع ليس بحجة على مجتهد آخر من الصحابة إجماعاً] (¬4). الثالثة: الأحاديث، والآثار التي تدل على جواز وقوع البدعة من بعض الصحابة وتوجيهها: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم ومحدثات الأمور ... ) (¬5) يدل على جواز وقوع الحدث المذموم من آحاد الصحابة. والجواب من وجهين: الأول: أن هذه الصيغة لا تستلزم جواز وقوع البدعة من الصحابة، لأن ذلك يحتمل أن يكون خطاباً للأمة وتحذيراً لها من الوقع في البدع في شخص الصحابة، فهي كنحو قوله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} وهذا ¬

_ (¬1) الاجتهاد (ص/121). (¬2) الإحكام (4/ 385). (¬3) إرشاد الفحول (ص/405). (¬4) المذكرة (ص/166). (¬5) صحيح، وقد سبق تخريجه.

خطاب للأمة متوجهاً لها في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من المعلوم أن أبويه أو أحدهما لم يبلع عنده الكبر. الوجه الثاني: أنه قد يراد تحذير الصحابة من إتباع البدع إن وقعت من غيرهم كنحو الأئمة الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وبدأ مروان بالخطبة قبل صلاة العيد ... 2 - ما رواه أحمد عن مجاهد قال دخلت أنا ويحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب الرسول قال ذكروا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاة لبنى عبد المطلب فقال إنها تقوم الليل وتصوم النهار قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكني أنا أنام وأصلى وأصوم وأفطر فمن اقتدى بي فهو منى ومن رغب عن سنتي فليس منى أن لكل عمل شرة ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى) (¬1). ويجاب عن الاستدلال به بأن هذا من باب التحذير من البدع، كسابقه، ولا يستلزم منه جواز وقوع البدعة من هذه الصحابية , ويوضحه؛ أن هذه الصحابية اجتهدت في العبادة، وقومها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن لها فضيلة الاقتصاد، والتوسط في العبادة، ونحوه الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - ما ورد في بعض الأحاديث أن بعض الناس يذاد عن هذا حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول النبي: (أصحابي أصحابي) فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ... الحديث (¬2). ويجاب عن الاستدلال به بأن هذا الحديث مساق بالمعنى، وأنه لا يشمل الصحابة، بل هو لمن أتي بعدهم من الأمة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفهم بالسيما من آثار الوضوء كما ورد ذلك في الروايات المفسرة، ومنها: ما رواه مسلم عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 409)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح. (¬2) متفق عليه.

من أمتك يا رسول الله فقال أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا)، وهذا الحديث صريح في أنهم ليسوا من الصحابة، ومنها: ما رواه البخاري عن أسماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا على حوضي أنتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول أمتي فيقول لا تدري مشوا على القهقري)، والروايات بلفظ: أمتي كثيرة، وفيما ذكرت الكفاية، وهي وتسقط الاستدلال بالحديث في محل النزاع لتطرق الاحتمال إليه؛ بل إني أويد احتمال استبعاد الصحابة ممن يزادوا عن الحوض بسبب شهادة القرآن لهم بعدم وقوع التبديل منهم قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فعموم هذه الآية يدل على أن الصحابة لم يبدلوا. 4 - بعض الأثار التي فيها وصف الصحابة بعضهم بعضاً بالبدعة، وتوجيهها: أ - ما رواه البيهقي، وأصله في مسلم عن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره أن عائشة وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن أمرن بجنازة سعد بن مالك رضي الله عنه أن يمر بها عليهن فمر به في المسجد فجعل يوقف على الحجر فيصلين عليه ثم بلغ عائشة رضي الله عنها أن بعض الناس عاب ذلك وقال هذه بدعة ما كانت الجنازة تدخل المسجد فقالت ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به عابوا علينا أن دعونا بجنازة سعد تدخل المسجد وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد. ب – ما رواه أحمد، والبيهقي عن القاسم بن عبد الرحمن أن أباه أخبره ثم أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة بالكوفة وأنا جالس مع أبي في المسجد فقام عبد الله بن مسعود فثوب بالصلاة فصلى بالناس فأرسل إليه الوليد ما حملك على ما صنعت

أجاءك من أمير المؤمنين أمر فسمع وطاعة أم ابتدعت الذي صنعت قال لم يأتنا من أمير المؤمنين أمر ومعاذ الله أن أكون ابتدعت أبى الله علينا ورسوله أن ننتظرك في صلاتنا ونتبع حاجتك. (¬1) ج – ما رواه الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عباس أن معاوية صلى العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها فقال معاوية يا ابن عباس ما هاتان الركعتان فقال بدعة وصاحبها صاحب بدع فلما انفتل قال ما قلتما قال قلنا كيت وكيت قال ما ابتدعت ولكن حدثتني خالتي عائشة فأرسل معاوية إلى عائشة فقالت صدق حدثتني أم سلمة فأرسل إلى أم سلمة أن عائشة حدثتنا عنك بكذا وكذا فقالت صدقت أتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فصلى بعد العصر فقمت وراءه فصليت فلما انفتل قال ما شأنك قلت رأيتك يا نبي الله صليت فصليت معك فقال إن عاملا على الصدقات قدم علي فخفت عليه فلقيته فنسيت أن اصلي بعد العصر ركعتين. (¬2) د - ما رواه ابن أبي شيبة عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان علي بن أبي طالب متجردا على منبر البصرة فسأل الناس عنه فقالوا إنه أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد فلقيت ابن الزبير فذكرت ذلك له فقال بدعة ورب الكعبة. وهذه الآثار وأمثالها يترتب على التسليم لظاهرها إما القول بجواز وقوع البدع منهم وهذا لم يقل به أحد من أهل العلم، والهدى، أو القول بتخصيص عموم أحاديث ذم البدع، وأن هناك بدعاً حسنة، وهذا ما ذهب إليه الغماري، وأضرابه. ونحن لا نسلم لأحد الاحتمالين بل نوجه هذه الأقوال بأنها أقوال متعارضة في المسألة – فإنه لا يلزم بعض الصحابة إتباع بعض - وأما من دونهم فإنه يدور بين أقوالهم، ولا يخرج عنها تبعاً لقواعد التعارض والترجيح، وأن هذه الأمور ظنها الصحابة بدعاً، وهي في الحقيقة مشروعة أو جائزة، وهذا يدل على إنكارهم، وبغضهم لما ظنوه بدعة (¬3). ¬

_ (¬1) قال الأرناؤوط: إسناده صحيح. (¬2) إسناده ضعيف، فيه سعيد بن بشير قال عنه في التقريب: ضعيف. (¬3) انظر البدعة للغامدي (1/ 286 – 288).

المبحث الثالث: البدعة الحقيقية

وإيضاح مشروعية هذه الأفعال واضح في الآثار الثلاثة الأول، وأما الأخير فلم ينفرد به ابن عباس، قال السيوطي: [وأما المسجد المصر - أي التعريف فيه - فقد اختلفوا فيه: ففعله ابن عباس، وعمرو بن حريث من الصحابة، وطائفة من البصريين، والمدنيين ... وتعريف ابن عباس: أنه صعد المنبر، فقرأ البقرة، وآل عمران، وفسرهما حرفاً حرفاً، فتعريفه كان على هذا الوجه، فسر للناس القرآن، واجتمعوا إليه لسماع العلم. فقيل عرف ابن عباس بالبصرة لاجتماع الناس إليه فأمر التعريف بالأمصار قريب إلا أن تجري مفسدة. قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن التعريف في الأمصار، يجتمعون يوم عرفة، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، قد فعله غير واحد، كالحسن، وبكر، وثابت، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة. وفي رواية: قال أحمد: لا بأس به، إنما هو دعاء وذكر الله. فقيل له: تفعله أنت؟ قال: لا.] (¬1). المبحث الثالث: البدعة الحقيقية: العمل المتعبد به إذا لم يستند إلى أصل من الأصول الشرعية المعتبرة سالفة الذكر يسمى بدعة حقيقية أو أصلية، وسيأتي الكلام عنها مع البدعة الإضافية بعد قليل بمشيئة الله. ¬

_ (¬1) الأمر بالإتباع (ص/184 - 175).

الفصل الرابع: الكلام على قيد (أو وصفا)

الفصل الرابع: الكلام على قيد (أو وصفاً): وهذا القيد وسابقه (أصلاً أو وصفاً) كان يمكن الاستغناء عنهما في الحد؛ فيقال: (كل ما أحدث بقصد التعبد لله عز وجل ولم يقم عليه دليل) إلا أنني آثرت زيادتهما لزيادة التفصيل ببيان الفرق بين البدعة الإضافية والحقيقية. والبدعة الإضافية قام عليها الدليل من جهة الأصل إلا أنها لم يقم عليها دليل من جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل ونحو ذلك، فهي لها شائبتان شائبة في السنة وشائبة في البدعة، فلذلك أطلق عليها الشاطبي البدعة الإضافية، وهذا مجرد اصطلاح للتقسيم، وتابعه عليه العلماء، فلذلك لم أشاحه في الاصطلاح، ونحيت منحاه. وقد أطلق الشاطبي لفظ البدعة الإضافية على أنواع أخرى سوف أذكرها بمشيئة الله في الفقرة التالية. أقسام الأدلة التي يستند إليها المبتدع في بدعته والتي تنقسم البدعة تبعاً لها إلى حقيقية أو إضافية: تكلم الشاطبي عن البدعة الإضافية، وكشف اللثام عن مقصوده فيها بالتقعيد لها، والتمثيل عليها، وتتابع العلماء على كلامه بالتلخيص وكان من أوفق من وقفت على كلامه في ذلك الشيخ الغامدي حيث فهم محتوى عباراته، ثم أحسن عرضها وزاد عليها، وإليك ملخص ما ذكر بما يتضح به المقصود، والله المستعان. قال الشيخ الغامدي: [ما من مبتدع في دين الله إلا وهو يتعلق في بدعته بدليل يدعي استنادها إليه، ولا يستطيع ترك التعلق بالأدلة؛ لئلا ينسب إليه مضاهاة الشريعة، أو الخروج عليها صراحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حتى يثبت صلاحية هذه البدعة للتعبد والتقرب بها، ولا يمكن له ذلك، ما لم يساندها بأدلة يزعم أنها تعتمد عليها، والأدلة التي يستدل بها المبتدع على بدعته تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أدلة غير معتبرة، وهي صنفان:

الأول: أدلة غير شرعية فاسدة الأصل والدلالة، ويدخل في هذا الصنف أدلة أهل الأهواء، كالرأي والنظر، والذوق والكشف ونحو ذلك، ومن أمثلة هذا الصنف: التحسين والتقبيح عند المعتزلة والأشاعرة، والرؤى والكشوف الشيطانية عند المتصوفة، وعصمة الأئمة عند الرافضة. إذ تجد في كتب المعتزلة والأشاعرة عند حديثهم عن بعض القضايا الإعتقادية أو الأصولية، أنهم يبنون كلامهم ونقاشهم على التحسين والتقبيح ويستدلون به على صحة القضية أو فسادها، ويجعلونها مقبولة أو مردودة، من خلال موافقتها أو مخالفتها للتحسين والتقبيح الذي يعتقده، ويستدل به وهذا كثير في كتب المعتزلة والأشاعرة. وتجد أن كثير من الصوفية يبنون أعمالهم وأقوالهم المبتدعة على رؤيا رآها، أو رؤيت له، أو رآها شيخه، أو على كشف شيطاني بان له، أو على ذوق نفسي وجده. ويستدلل على مشروعية عمله أو جوازه بهذه الأدلة الفاسدة وأمثالها وهذا داخل في البدع الحقيقية. وأمثلة هذا الصنف عديدة بعدد الأهواء وأهلها. الصنف الثاني: أدلة شرعية غير ثابتة، كالأحاديث المتفق على أنها ضعيفة أو موضوعة، أو لا أصل لها، وغير ذلك من أقسام ومسميات الضعيف، فما انبنى على هذا الصنف فهو من البدع الحقيقية، وأما إن كان ثبوتها أو ضعفها مختلفاً فيه بين العلماء المعتبرين فالحديث عنها في البدعة الإضافية. القسم الثاني: أدلة معتبرة شرعاً: وهذه ينظر في استدلال المبتدع بها، فإن كان له نوع شبهة في استدلاله كأن يكون للبدعة شائبة تعلق بهذا الدليل، فهذا من قسم البدع الإضافية. وإن كان المستدل بالدليل الشرعي الثابت لا وجه لاستدلاله، لا في نفس الأمر، ولا بحسب الظاهر، لا في الجملة، ولا في التفصيل، وليست هناك شائبة تعلق بين الدليل والبدعة، ولا شبهة اتصال بينهما، فهذا من قسم البدع الحقيقية ... أما ما يتعلق بالحقيقية والإضافية من جهة التصاق البدعة بالعمل المشروع أو انفرادها عنه، فإن الأمر لا يخلو من أحد هذه الأوجه الأربعة: 1 - أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع.

2 - أن تلتصق البدعة بالعمل المشروع. 3 - أن تصير البدعة الملتصقة بالعمل المشروع وصفاً لذلك العمل غير منفك عنه. 4 - أن لا تصير وصفاً له. فإذا انفردت البدعة عن العمل المشروع، فينظر في دليلها الذي استند إليه المبتدع، فإن كان ثابتاً أو مختلفاً في ثبوته، وفي الاستدلال به شبهة يمكن أن يتعلق بها المبتدع، وشائبة يمكن أن تتعلق بها البدعة فالبدعة هنا إضافية. وما عدا ذلك فتكون البدعة حقيقية ... أما إذا التصقت البدعة بالعمل المشروع فلا يخلو من أحد حالين: الأول أن تصير وصفا للمشروع غير منفك عنه، وهذه قد تكون بدعة حقيقية، وقد تكون إضافية بحسب دليلها الذي قامت عليه كما مر. إلا أن الغالب فيها: أنها تكون بدعة حقيقية، وذلك أن البدعة التي صارت وصفاً للمشروع بسبب التصاقها به، تكون قد أدت إلى انقلاب العمل المشروع إلى عمل غير مشروع ... ومن أمثلة ذلك: قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد، فإن قراءة القرآن من الأعمال المشروعة ولكن لما اتخذ لها المبتدع هذا الوصف البدعي الملازم لها صارت من البدع الحقيقية. الثاني: أن لا تصبح البدعة الملتصقة بالعمل المشروع وصفاً لازماً له. وهي في هذه الحالة لا تخلو من أن تكون عرضة لأن تنضم إلى العبادة المشروعة حتى يعتقد أنها من أوصافها، أو جزءاً منها أو، لا تكون كذلك، وهي في حالتيها هاتين قد تكون حقيقية، وقد تكون إضافية بحسب الدليل الذي يستدل به المبتدع كما مر. إلا أن الغالب عن هذه البدعة أن تكون إضافية لغلبة جانب العمل المشروع وعدم تغطية البدعة عليه. ومن أمثلة هذا النوع: الجهر بالنية في الصلاة، فإنه بدعة ملاصقة للصلاة المشروعة، ولكنها لم تصبح وصفاً لازماً مستولياً على العمل المشروع ومغطياً

عليه، بحيث يتغلب جانب الابتداع على جانب المشروعية، كما هو الحال في البدعة الحقيقية، ومن أجل ذلك كانت هذه البدعة إضافية ... وقد تبين فيما سبق غالب ملامح البدع الإضافية، إلا أنه يمكن أن يقال من باب التوضيح أن: (البدعة الإضافية) هي كما قال الشاطبي: التي لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة تعلق فلا تكون من هذه الجهة بدعة، والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية ... ). وقال أيضاً: - رحمه الله – ( ... فمعنى الإضافية أنها مشروعة من وجه ورأي مجرد من وجه، إذ يدخلها من جهة المخترع رأي في بعض أحوالها فلم تناف الأدلة من كل وجه ... ). وعند التأمل في هذه المعنى الذي ذكره الشاطبي يتضح أن نَظَره انصبّ على علاقة العمل المخترع بالعمل المشروع من حيث الانفراد والالتصاق. وقد سبق بيان أثر هاتين العلاقتين في اعتبار البدعة حقيقية أو إضافية. غير أن الشاطبي – رحمه الله– فصّل في جانب علاقة البدعة بالدليل تفصيلاً بنى عليه الفرق بين البدعتين فقال: ( ... فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي (البدعة الإضافية) أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة؛ لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل ... ) ومراده بها الإسناد ما سلف تفصيله في شأن الأدلة التي يعتمد عليها المبتدع. هذا هو الجانب الأول، وهو في النظر إلى البدعة من جهة الدليل أما الجانب الثاني، وهو النظر إلى البدعة من جهة التصاقها بالعمل المشروع أو انفصالها عنه، وقد سبق تفصيل هذا ... أقسام البدعة الإضافية: قسمها الشاطبي رحمه الله إلى قسمين فقال: (الإضافية أولا على ضربين: أحدهما يقرب من الحقيقية، حتى تكاد البدعة تُعد حقيقية. والآخر يبعُد عنها حتى يكاد يعد سنة محضة ... ).

وهذا التقسيم مبني على النظر المذكور سلفاً من جهة اقتران البدعة بالعمل المشروع، أو انفصالها عنه أولاً، ثم من جهة اعتماد فاعلها على الدليل ثانياً .. وقد بين الشاطبي معنى هذا التقسيم عند ذكره للأمثلة على كل قسم، وأطنب في ذلك وسأكتفي في هذا المجال بذكر بعض الأمثلة ... فمثال القسم الأول: وهو الذي يقرب من الحقيقية حتى يكاد يعد منها: ملازمة الخشن من الثياب أو الطعام مع القدرة على غيره من الطيبات لمجرد التشديد على النفس، بقصد التقرب إلى الله تعالى بذلك لا لأجل غرض صحيح معتبر شرعاً: ككسر كِبْر، أو إسقاط عُجْب، أو مقاومة شهوة باطلة، ونحو ذلك .. فهذا من البدع الإضافية الذي يقترب من الحقيقية حتى تكاد تعد البدعة حقيقية؛ وذلك لأن فيه إيثار الحرمان على التنعم بنعم الله المباحة، وفيه التشديد والتنطع الذي نهى عنهما الشرع، وفيه القصد إلى ما تكرهه النفس بما ليس من مطلوبات الشرع، ولا من مقاصده، لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس والتشديد عليها في التكليف وهذا مخالف لقوله: - صلى الله عليه وسلم -: (إن لنفسك عليك حقاً)) (¬1) ... فمن عمد إلى مخالفة محبات النفس التي أباحها الشرع من غير غرض صحيح معتبر شرعاً، فهو مبتدع يتقرب إلى الله بما لم يشرعه، مثل مخالفة النفس في النكاح، أو المنام، أو بعض أنواع الطعام أو اللباس المباح، كل ذلك داخل تحت هذا النوع من البدع الإضافية، الذي يقترب من البدع الحقيقية بل إن بعض أنواع هذا القسم هو من البدع الحقيقية بلا ريب ... وإنما عُدَّت من البدع الإضافية؛ لكون فاعلها يعتمد على بعض الأدلة التي تدعو للزهادة في الدنيا، والتخفف من مباحاتها، وبعض سير السلف – رحمهم الله – في ذلك مما قد يعد شبه استدلال، وقد مر أن البدعة الإضافية في إحدى جهتيها تتعلق بالسنة لأنها مستندة إلى دليل شرعي، وفي الجهة الأخرى بدعة، لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل ... أما القسم الثاني من أقسام البدعة الإضافية، وهو ما يبعد عن البدعة حتى يكاد يعد سنة محضة ... فقد ضرب له الشاطبي بعض الأمثلة منها: ¬

_ (¬1) جزء من حديث متفق عليه.

العمل الذي شرع أصله ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب سد الذرائع. كأن يلتزم النوافل التزام السنن الرواتب، إما دائماً وإما في أوقات محدودة وعلى طريقة محدودة ... ومثال هذا أن يلتزم صلاة نافلة مطلقة في وقت معين، ويداوم على ذلك ويظهرها في المساجد أو يقيمها جماعة ... والسبب في اعتبار هذا العمل وأمثاله من البدع الإضافية، التي تكاد تعد سنة محضة هو أن العامل له يُخرج العمل عن بابه الذي وضعه الشرع فيه، ويضع له خاصية ليست مشروعة له ... وهذا زيادة على الشرع وتقييد بلا دليل، حتى مع افتراض أن العمل في ذاته صحيحاً فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية، ومن باب التزوّد على الشرع والتقديم بين يدي الله ورسوله. وقد تعرض الإمام الشاطبي رحمه الله لأمور أخرى غير ما سبق وعدها من البدع الإضافية منها: 1 - المتشابه: ويراد به كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فيُنهى عنه أم غير بدعة فيعمل به ... وهذا المشتبه فيه من حيث البدعة أو عدمها، يخرج بسبب هذا التردد بين الحل والحرمة من نطاق البدعة الحقيقية؛ لأنه كما مرّ: أن البدعة الإضافية ذات وجهين، وتعلق بأمرين، أحدهما مشروع والأخر ممنوع، ومن أجل ذلك قيل إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية، وله أمثلة ذكرها الشاطبي يأتي هنا إيجاز بعضها. المثال الأول: إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني سنة يُتعبد بها أو بدعة فلا يصح التعبد بها، ولم يستطع أن يجمع بين الأدلة ولم يتبين له إسقاط بعضها بنسخ أو ترجيح أو تخصيص أو تقييد وغير ذلك، من طرق ووسائل الترجيح. فلو عمل بمقتضى أدلة المشروعية من غير مرجح لكان عاملاً بمتشابه لإمكان صحة الأدلة على عدم المشروعية، فالصواب الوقوف عن العمل استبراءً لدينه وتنزيهاً عن الوقوع في الشبهات، مع أن هذا قد يقع لمجتهدٍ فيكون عنده من المشتبهات، ولا يقع لآخر فيكون من الواضحات.

ومن الأمور التي ألحقها الشاطبي بالبدعة الإضافية: 2 - أن يكون أصل العبادة مشروعا إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل، توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها. وقد جعل الشاطبي هذه البدعة من الإضافية التي تقرب من الحقيقية. وقد ضرب الشاطبي لهذا النوع من البدع الإضافية أمثلة منها: ... إذا جاء إنسان فخصص يوماً من الأسبوع كالأربعاء أو أياماً من الشهر كالأول والثلاثين وما أشبه ذلك، فإن هذا التخصيص آت من جهة رأيه وهواه .. وهو تخصيص بغير دليل، يضاهي به تخصيص الشارع أياماً بأعيانها دون غيرها فصار هذا التخصيص من المكلف بدعة؛ لكونه تشريع بغير مستند، وتقييد بغير دليل، وإخراج للعبادة المشروعة عن وضعها الشرعي إلى وضع مبتدع .. ومنها: تخصيص الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة وعاشوراء ويومي العيد بأنواع من العبادات التي لم تشرع، كتخصيص يوم كذا بصلاة كذا وكذا من الركعات، أو ليلة كذا بختم القرآن فيها أو بإحيائها بالصلاة والذكر وما أشبه ذلك من أنواع التخصيصات التي لا دليل عليها. فيكون هذا التخصيص والعمل به من البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية. ولا حجة في القول بأن هذا اليوم أو هذه الليلة لها من الفضل كذا وكذا فيحسن إيقاع العبادات فيها لأن الذي بين هذا الزمان قادر على تشريع ما يلائمه من قربات، وقد عُرف من الشرع أنه خصص أياماً فاضلة بأنواع من العبادات والقربات لا توجد في غيرها من الأيام، فدل ذلك على أن مجرد الأفضلية لا يكون سبباً في إيقاع العبادات كما أن التخصيص بعبادة في زمن ما من حقوق الشرع وخصائصه، وليست تابعه لآراء العباد وأهوائهم. ومن الأمور التي ألحقها الشاطبي بالبدع الإضافية: 3 - تحديث الناس بما لا يفقهون، وتكليمهم في دقائق العلوم وصعاب المسائل التي لا تصل إليها أفهامهم. وهذا العمل يكون بدعة باعتقاد فاعله: أنه يتقرب إلى

الباب الثالث: تتمات

الله بحديثه في هذه الأمور، أو أنه بفعله هذا ينشر العلم الشرعي، ونحو ذلك من المتعلقات التي يريد من خلالها تحصيل الأجر والمثوبة ... ] (¬1) الباب الثالث: تتمات والكلام في هذا الفصل كالمتمم للبابين السابقين، فنتكلم فيه - إن شاء الله - عن بعض الفصول التي تتمم التأصيل لمعنى وحقيقية البدعة، مع زيادات أخرى لا تخرج عن المقصود، والله الموفق. ¬

_ (¬1) البدعة للغامدي (2/ 7: 35).

الفصل الأول: أقسام البدعة

الفصل الأول: أقسام البدعة: تنقسم البدعة إلى أقسام كثيرة تبعاً لاعتبارات التقسيم. (فتنقسم إلى بدعة فعلية وتركية تبعاً للنظر إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو المكلف - كما سبق توضيح ذلك. (وتنقسم إلى حقيقية وإضافية تبعاً للنظر إلى الأدلة على تفصيل سبق آنفاً. وقد سبق الحديث عن هذين القسمين. (وتنقسم البدعة بالنظر إلى ذاتها إلى: كلية وجزئية، ومركبة وبسيطة. قال الشيخ الغامدي: [فأما البدعة الكلية فهي التي تعتبر كالقاعدة أو الأصل لبدع أخرى تنبني عليها ويتعدى أثرها إلى أمور كثيرة. مثل بدعة عصمة الأئمة عند الرافضة، فهي بدعة كلية ترتب عليها جملة من الضلالات والبدع، كإنزالهم أئمتهم منزلة لا يصلها نبي مرسل ولا ملك مقرب، واعتقاد الصواب المطلق في أقوالهم وأفعالهم، وكاعتقاد خروج المهدي من السرداب، وغير ذلك من الانحرافات. ومن البدع الكلية الأصول الخمسة عند المعتزلة، والقول بأن للشريعة ظاهراً وباطناً كما تقول الباطنية، والزعم بأن منزلة الولي فوق منزلة النبي كما يقول زنادقة الصوفية، وترك العمل بالحديث النبوي كما فعلت الخوارج ... وأما البدعة الجزئية: فهي لا تتجاور ذاتها، فلا يبني عليها شيء من البدع ولا يمتد أثرها إلى شيء من الأعمال الأخرى، التي يفعلها صاحبها فهي على عكس البدعة الكلية، ومن أمثلتها بدعة المداومة على المصافحة عقب الصلوات، وبدعة الجهر بالنية في الصلاة، وبدعة تلقين الميت في قبره بعد دفنه، ونحو ذلك. وأما البدعة المركبة: فهي التي اشتملت على مجموعة من البدع وحوت عدت محدثات، انضمت إلى بعضها حتى أصبحت كأنها بدعة واحدة، ومثالها بدعة المولد، إذ تضم هذه البدعة لفيفاً من البدع، وتشتمل على عدت مخالفات شرعية منها تخصيص يوم معين، وذكراً معين، وهيئة معينة بغير دليل، وإحداث أوراد وأشعار مبتدعة تحوي أصنافاً من الأكاذيب والضلالات وغير ذلك.

الفصل الثاني: حكم البدعة

وأما البدعة البسيطة: فهي على عكس المركبة إذ هي مخالفة بدعية لا يدخل معها غيرها وتشبه الجزئية .. ] (¬1) (وتنقسم أيضا بالنظر إلى حكمها إلى بدعة مكفرة وغير مكفرة، والبعض قسمها إلى كبيرة وصغيرة، وإلى محرمة ومكروهة، وهذا يوجهنا إلى الفصل التالي، وهو الكلام عن حكم البدعة ثم نعود لذكر هذا التقسيم ليتجلى المقام تجلياً تاماً بإذن الله - تعالى -. الفصل الثاني: حكم البدعة: المبحث الأول: بيان تفاوت البدع وأنها ليست على رتبة واحدة: قال الشاطبي في الباب السادس في أحكام البدع، وأنها ليست على رتبة واحدة: [اعلم أنا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إلى الأحكام الخمسة فلا إشكال في اختلاف رتبتها لأن النهى من جهة انقسامه إلى نهى الكراهية ونهى التحريم يستلزم أن أحدهما أشد في النهى من الآخر فإذا انضم إليهما قسم الإباحة ظهر الاختلاف في الأقسام فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم الوجوب كان الاختلاف فيها أوضح وقد مر من أمثلتها أشياء كثيرة لكنا لا نبسط القول في هذا التقسيم ولا بيان رتبه بالأشد والأضعف لأنه إما أن يكون حقيقيا فالكلام فيه عناء وإن كان غير حقيقي فقد تقدم أنه غير صحيح فلا فائدة في التفريع على مالا يصح وإن عرض في ذلك نظر أو تفريع فإنما يذكر بحكم التبع بحول الله. فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام قسم الوجوب وقسم الندب وقسم الإباحة انحصر النظر فيما بقى وهو الذي ثبت من التقسيم غير انه ورد النهى عنها على وجه واحد ونسبته إلى الضلالة واحدة في قوله: " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" (¬2) وهذا عام في كل بدعة فيقع السؤال ¬

_ (¬1) البدعة للغامدي (2/ 34 - 35). (¬2) هذا طرف من حديث جابر بنحوه في خطبة الحاجة الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به. وقد رواه عن جعفر بهذا الإسناد كل من عبد الوهاب بن عبد الحميد وسليمان بن بلال ويحيى بن سليم ومصعب بن سلامة ووهيب ويحيى بن سعيد وأبو موسى إسحاق بن موسى دون ذكر زيادة: (وكل ضلالة في النار). ورواه عنه سفيان، وهو الثوري - كما جاء مصرحا به في رواية ابن بطة في الإبانة - بذكر الزيادة، ولكنه اختلف عليه فيها فرواها عن سفيان ابن المبارك ووكيع. فأما ابن المبارك فزاد (وكل ضلالة في النار) عند النسائي، ابن خزيمة، والبيهقي، وابن بطة في الإبانة، وغيرهم. وأما وكيع فاختلفت الرواية عنه فروى عنه عن سفيان أبو بكر ابن أبي شيبة، وعثمان وسالم بن جنادة: فأما أبي بكر بن أبي شيبة فاختلف عليه فيها فرواه عنه مسلم في صحيحه بدون ذكر الزيادة، ورواها عنه أبو نعيم في المستخرج من طريق الفريابي، وعبيد بن غنام عنه بذكر الزيادة. وأما عثمان وسالم بن جنادة فرواها عنه بذكر الزيادة عند أبي نعيم في المستخرج. والخلاصة أن سفيان ذكر هذه الزيادة مع ثبوت الخلاف عنه فيها فرواها عنه ابن المبارك بلا اختلاف، ورواها عنه وكيع مع الاختلاف فمرة يذكرها، وأخرى لا. وسفيان لم ينفرد بذكر هذه الزيادة فقد تابعه محمد بن منصور الزعفراني عن جعفر به بذكر الزيادة عند ابن بطة في الإبانة (2/ 85) حديث رقم (1491) ومحمد بن منصور هذا قال عنه ابن بطة: وكان ثقة. وعليه فلا وجه لرد هذه الزيادة وإعلالها بالشذوذ، لعدم انفراد سفيان بها، فقد تابعه الزعفراني عند ابن بطة كما سبق بيانه، ويؤيد ثبوت هذه الزيادة وخطأ الحكم عليها بالشذوذ أمران: الأول: أم هذه الزيادة بيانية غير مخالفة كما سيأتي قريباً بمشيئة الله كلام الشاطبي بحصر البدع في المحرم، والمكروه كراهة تحريمية، وهو مما يستوجب النار فلا يكون على هذا المعنى خروج البدع المكروهة تنزيهاً من البدع مخالفة بل تكون زيادة بيانية مقبولة. الثاني: أن هذه الزيادة قد وردت من وجوه أخرى، وإن كانت بعضها لا يخلو من مقال إلا أنها بمجموعها تصلح للاحتجاج، وتدل على حفظ سفيان لهذه الزيادة، وهي: 1 - ما رواه ابن عساكر في تاريخه: أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن بيان أنا أبو الفرج الحسين بن علي بن عبيد الله الطناجيري سنة سبع وثلاثين وأربعمئة أنا أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين نا عبيد الله بن عثمان العثماني نا عبد الأعلى بن حماد النرسينا عثمان بن عمرنا عكرمة نا عوف نا عبد الرحمن قال دخلت مسجد دمشق فإذا رجل من أصحاب النبي يحدثهم قال: قال رسول الله: " إياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة تصير إلى النار ". وهذا إسناد حسن فليس من رواته متهم إلا أنني لم أميز عكرمة، وأظنه عكرمة بن عمار العجلي. وقال عنه ابن حجر: صدوق يهم. 2 - ما رواه الطبراني من طريق عيسى بن ميمون عن محمد بن كعب القرظي عن بن عباس وعن القاسم بن محمد عن عائشة قالا ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا أصوات كدوي النحل قراءة القرآن فقال: "إن الإسلام يشيع ثم تكون له فترة فمن كانت فترته إلى غلو وبدعة فأولئك أهل النار " وهذا إسناد ضعيف فيه عيسى بن ميمون قال عنه في التقريب: ضعيف، والحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع. ... 3 - ما رواه أبو حاتم الخزاعي في جزئه، والدارقطني في الأفراد والقزويني في أخبار قزوين عن أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " أصحاب البدع كلاب النار".والحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع. 4 - وردت هذه الزيادة من قول عمر - رضي الله عنه - عند ابن وضاح بسند حسن. ... 5 - ووردت أيضاً من قول ابن مسعود بإسنادين فيهما مقال، الأول: عند الطبراني بسنده عن عبد الله قال: "إنما هما اثنتان الهدي والكلام وأصدق الحديث كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، وفيه إبراهيم الهجري، قال عنه الذهبي في الكاشف: ضعيف، وقال عنه ابن حجر في التقريب: لين الحديث. ورواه المروزي في السنة من طريق عبد الله بن مرداس عن ابن مسعود قال: " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، وفيه عنعنة الأعمش، وهو مدلس، وأيضاً عبد الله بن مرداس مجهول الحال، وقد ذكره ابن حبان في الثقات.

هل لها حكم واحد أم لا فنقول ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة نخرج عنها الثلاثة فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين، فمنها بدعة محرمة ومنها بدعة مكروهة (¬1) وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات لا تعدو الكراهة والتحريم فالبدع كذلك. هذا وجه. ووجه ثان: أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها متفاوتة فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الآية، وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء} وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح، ومنها ما هو من المعاصى التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة، ومنها ما هو معصية ويتفق عليها ليست بكفر كبدعة التبتل والصيام قائما في الشمس والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع، ومنها ما هو مكروه كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال وقراءة القرآن بالإدارة والاجتماع للدعاء عشية عرفة وذكر السلاطين في خطبة الجمعة - على ما قاله ابن عبد السلام الشافعى - وما أشبه ذلك. فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال إنها على حكم واحد هو الكراهة فقط أو التحريم فقط. ¬

_ (¬1) مقصوده بالكراهة هنا التحريمية، وسيأتي من كلامه بيان خروج البدعة المكروهة تنزيهياً عن حكم البدع، وإنما غرضه هنا بيان تفاوت رتب البدع فحسب.

المبحث الثاني: بيان وجه خروج المكروه تنزيها عن حكم البدع

وجه ثالث إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر ... وإذا كان كذلك فالبدع من جملة المعاصي وقد ثبت التفاوت في المعاصي فكذلك يتصور مثله في البدع، فمنها ما يقع في الضروريات أي أنه إخلال بها ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات وما يقع في رتبة الضروريات منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال ... ] (¬1). المبحث الثاني: بيان وجه خروج المكروه تنزيهاً عن حكم البدع: قال الشاطبي: [إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهى على رتبة واحدة وأن منها ما هو مكروه كما أن منها ما هو محرم فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة "، لكن يبقى هاهنا إشكال وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى: ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِل} وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال فإنه يقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى، ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع المكروه من الأفعال كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة، والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك. ونظيره في الحديث: " نهينا عن اتباع الجنائز ولم يحرم علينا " فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص مع أن الطاعة ضدها المعصية، وفاعل المندوب مطيع؛ لأنه فاعل ما أمر به فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصيا؛ لأنه فاعل ما نهى عنه، لكن ذلك غير صحيح؛ إذا فلا يطلق عليه عاص فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالا وإلا فلا فرق بين اعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية. إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه لكن هذا باطل فما لزم عنه كذلك. ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 36: 39).

والجواب أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت كما تقدم بسطه، وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجرى على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهى المباح وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح، فالأمر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهى وأنما يتعلق بها التخيير، وإذا تأملنا المكروه حسبما قرره الأصوليون وجدناه ذا طرفين طرف من حيث هو منهي عنه فيستوي مع المحرم في مطلق النهى فربما يتوهم أن مخالفة نهى الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة، غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعلة ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية، وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن يدخل تحتها المكروه لم يصح أن يتناوله ضد الطاعة فلا يطلق عليه لفظ المعصية بخلاف الهدى والضلال فإنه لا واسطة بينهما في الشرع يصح أن ينسب إليها لفظ المكروه من البدع، وقد قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} فليس إلا حق وهو الهدى والضلال وهو باطل فالبدع المكروهة ضلال. وأما ثانيا فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض، وإنما حقيقة المسالة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم كما تقدم بيانه وأما تعيين الكراهة التي معناها نفى إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص، أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على من قال أما أنا فأقوم الليل ولا أنام وقال الآخر أما أنا فلا أنكح النساء إلى آخر ما قالوا فرد عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال: " من رغب عن سنتي فليس مني " وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر وكذلك ما

في الحديث أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال: "ما بال هذا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه " قال مالك أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية ... وكليه قوله: " كل بدعة ضلالة " شاهدة لهذا المعنى والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد وهي خاصية المحرم ... وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع وأشباه ذلك، وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى. فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها أكره هذا ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط، فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه ... وأما ثالثا فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة دقت أو جلت وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة، وبيان ذلك من أوجه أحدها أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع رحمة الله أقرب وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح؛ لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان، فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه، ويود لو لم يفعل وأيضا فلا يزال إذا تذكر منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا. ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال

المبحث الثالث: هل تنقسم البدع إلى صغائر وكبائر

فإنه يعد ما دخل فيه حسنا بل يراه أولى بما حد له الشارع فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه وهو يزعم أن طريقه هدى سبيلا ونحلته أولى بالاتباع، هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى ... والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس] (¬1). قال الشيخ الألباني: [يجب أن نعلم أن أصغر بدعة يأتي بها الرجل في الدين هي محرمة بعد تبين كونها بدعة وليس في البدع - كما يتوهم البعض - ما هو في رتبة المكروه فقط] (¬2). المبحث الثالث: هل تنقسم البدع إلى صغائر وكبائر: قال ابن القيم: [وقال مالك بن مغول: الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة. قلت: يريد أن البدعة من الكبائر وأنها أكبر من كبائر أهل السنة فكبائر أهل السنة صغائر بالنسبة إلى البدع وهذا معنى قول بعض السلف البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها] (¬3). وهذا المعنى نصره ابن القيم أيضاً عندما تكلم عن مراحل تدرج الشيطان في الإغواء، فجعل العقبة الأولى هي الكفر، والعقبة الثانية هي البدعة، والثالثة هي الكبائر ... قال ابن القيم: (العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه على العقبة الثانية وهي عقبة البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئا والبدعتان في الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى ... فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة واعتصم منها بحقيقة المتابعة وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 49: 56). (¬2) حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 101. (¬3) مدارج السالكين (1/ 322).

بإحسان ... طلبه على العقبة الثالثة وهي عقبة الكبائر فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوف به وفتح له باب الإرجاء ... والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه لمناقضتها الدين ودفعها لما بعث الله به رسوله وصاحبها لا يتوب منها ولا يرجع عنها بل يدعو الخلق إليها ولتضمنها القول على الله بلا علم ومعاداة صريح السنة ومعاداة أهلها والاجتهاد على إطفاء نور السنة وتولية من عزله الله ورسوله وعزل من ولاه الله ورسوله واعتبار ما رده الله ورسوله ورد ما اعتبره وموالاة من عاداه ومعاداة من والاه وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب ومعارضة الحق بالباطل وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا والباطل حقا والإلحاد في دين الله وتعمية الحق على القلوب وطلب العوج لصراط الله المستقيم وفتح باب تبديل الدين جملة فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين] (¬1). فهذا يدل على أن البدعة عنده أكبر من الكبائر، ولكن طرد هذا الكلام هل يستقيم؟ ‍‍‍‍! أم أنه من ناحية الجنس فقط (¬2)، بمعنى أنه لا منافاة بين هذا الأصل وأن تكون بعض البدع كنحو رفع الإمام يديه يوم الجمعة في إثناء الخطبة أو المصافحة عقب الصلوات ونحو ذلك مما سيأتي التمثيل به، أخف من بعض الكبائر كترك الصلاة، والزنا، وقتل النفس، وشرب الخمر، ... (لازم ما سيأتي من كلام الشاطبي اختيار القول الأخير، فقد ذهب إلى أن البدع تنقسم إلى كبائر وصغائر بأوصاف وشروط، فتعالوا نتوقف مع كلامه لنتبين وجهه، والله المستعان. قال الشاطبي: [المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة حسبما تبين في علم الأصول الدينية فكذلك يقال في البدع المحرمة إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها كما تقدم وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة، ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه ¬

_ (¬1) مدارج السالكين (1/ 222: 224). (¬2) ويوضحه أن مثلاً جنس الرجال أفضل من جنس النساء، ولكن هذا لا ينفي أن تكون من النساء من هي أفضل من بعض الرجال.

وجميع ما قالوه لعله لا يوفى بذلك المقصود على الكمال فلنترك التفريع عليه، وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال وكل ما نص عليه راجع إليها وما لم ينص عليه جرت في الاعتبار والنظر مجراها وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه. (¬1) فكذلك نقول في كبائر البدع (¬2) ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة ومالا فهي صغيرة (¬3)، فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها؛ وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلا وإما فرعا لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانا منه أو تغييرا لقوافيه أو ما يرجع إلى ذلك وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات إن قلنا بدخولها في العادات بل تمنع الجميع، وإذا كانت بكليتها إخلالا بالدين فهي إذا إخلال بأول الضروريات وهو الدين وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة وقال في الفرق: " كلها في النار إلا واحدة " وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل، هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر ¬

_ (¬1) وهذا الحد غير منضبط، فهو غير مانع ولا جامع، أما الأول، وهو أنه غير مانع، فإنه بناء على هذا الحد يلزم أن تكون هذه الأفعال الآتية من الكبائر لأن فيها إخلالاً بأحد هذه الضرورات الخمس مع أنها عنده من الصغائر، كما نص على ذلك، ومن أمثلة ذلك في الإخلال بالنفس: اللطمة وأقل خدش يتصور. وفي الإخلال بالمال: سرقة لقمة أو التطفيف بحبة. وفي الإخلال بالدين قرن القدمين في الصلاة وعدم الترويح بينهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى. وهكذا ... وأما الثاني، وهو أنه غير جامع فلأنه لا يدخل فيه عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم وأكل الخنزير والميتة، ونحو ذلك مما هو معروف ولا يصادم شيئاً مما ذكر. (¬2) ولاحظ أنه بنى قياسه هنا بناء على أن البدع من جملة المعاصي، ولكن هذا القياس مع الفارق، فكل بدعة معصية وزيادة من استدراك على الشرع بالزيادة أو النقصان، وقد تكلم العلماء على الفروق بينهما كما سيأتي بمشيئة الله. (¬3) لاحظ أن جميع البدع فيها إخلال بالدين واستدراك على الشرع، وسيأتي كلام الشاطبي على هذه الجزئية قريباً.

كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان وكذلك سائرها مع الإخلال فكل منها كبيرة، فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة. ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكر ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه: أحدها أنا نقول الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها وقطع عضو واحد كبيرة دونها وهلم جرا إلى أن تنتهي إلى اللطمة ثم إلى أقل خدش يتصور فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة (¬1)، كما قال العلماء في السرقة إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال، فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر، وهذا في ضرورة الدين أيضا ... قال ابن رشد جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة. قاله في المدونة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين وهو من محدثات الأمور انتهى، فمثل هذا إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به اثر فيقال في مثله إنه من كبار البدع، كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب؛ فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة. والثاني أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن وبدعة الخوارج في قولهم ¬

_ (¬1) وما هو الحد الضابط للتفريق بينهما، فكان ينبغي له أن يقيد تعريفه الأول هنا بما يتضح به المقام كما هو شأن الحدود.

لا حكم إلا لله، وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع بل يجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئيا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك: التثوب ضلال وبدعة الأذان والإقامة في العيدين وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين وما أشبه ذلك، فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلا لها. فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصا به لا عاما فيه وفي غيره ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد (¬1)، فلا قطع على أن جميعها من واحد وقد ظهر وجه انقسامها. والثالث أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر ولا شك أن البدع من جملة المعاصي على مقتضى الأدلة المتقدمة ونوع من أنواعها فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضا ولا يخصص وجودها بتعميم الدخول في الكبائر لأن ذلك تخصيص من غير مخصص ولو كان ذلك معتبرا لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام فظهر أنه شامل لجميع ... أنواعها (¬2). فإن قيل إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقا وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف والخفة هل تنتهي إلى ¬

_ (¬1) ويعكر عليه في هذا التقسيم من حصر الكبائر في البدع الكلية، والصغائر في الجزئية أن بدعة القول بخلق القرآن، على حسب تقسيمه من البدع الجزئية، فهل هي عنده من الصغائر مع تصريح السلف بأن من قال بأن القرآن مخلوق فقد كفر. (¬2) سبق بيان الفرق بينهما، وكما هو معلوم فإن الحكم على الأعم لا يقتضي الحكم على الأخص،؛ فيتوجه على هذا الإلحاق ما يسمى بقادح المنع، والمقصود منع وجود حكم الأصل في الفرع، وسيأتي من كلام الشاطبي نفسه ما يؤيد هذا الوجه.

حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم، هذا فيه نظر، وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع. وأما في البدع فثبت لها أمران أحدهما أنها مضادة للشارع ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفى بما حد له. والثاني أن كل بدعة وإن قلت تشريع زائد أو ناقص أو تغيير للأصل الصحيح وكل ذلك قد يكون على الانفراد وقد يكون ملحقا بما هو مشروع فيكون قادحا في المشروع ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدا لكفر إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر فلا فرق بين ما قل منه وما كثر، فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء في الفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية. وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني. وأما الثالث فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام كل بدعة ضلالة وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها، وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصي. وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار إما باعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض فالأشد عقابا أكبر مما دونه وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى الفاضل والأفضل لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل والصغر والكبر من باب النسب والإضافات فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير

بالنسبة إلى ما هو أكبر منه (¬1) ... فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات كما صار اعتقاد نفى الكراهية التنزيه عنها من الواضحات. فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدارك وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها بل صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفته لحكمها، وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ولذلك قال مالك بن أنس من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إلى آخر الحكاية، ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال أي فتنة فيها إنما هي أميال أزيدها، فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة (¬2). فالجواب أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة. وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالما بكونها بدعة وأن يكون غير عالم بذلك وغير العالم بكونها بدعة على ضربين وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها والمقلد له فيها، وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا ¬

_ (¬1) وإلى هنا يتضح أنه لا يقول بتقسيم البدع إلى كبائر وصغائر، وأنه يقول بتفاوت رتبها فقط، ولكن لا يثبت حكم الصغائر على أقل البدع. وقد سئل تقي الدين ابن تيمية عن حد الكبائر وهل يصح حدها بأنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها فقال: [ومن قال إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها وأن ما عصى الله به فهو كبيرة فانه يوجب أن لا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهذا خلاف القرآن فإن الله قال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقال: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وقال: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} وقال: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر.]، وانظر مجموع الفتاوى (11/ 656). (¬2) كذا بالأصل، والصواب إضافة أداة الاستفهام (هل) في أول العبارة، ولعل مقصوده بالبدع الصغيرة إنما هي بالنسبة والإضافة، حتى لا يتناقض كلامه.

حكمنا له بحكم أهل الإسلام لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له فلا بد له من تأويل كقوله هي بدعة ولكنها مستحسنة أو يقول إنها بدعة ولكنى رأيت فلانا الفاضل يعمل بها أو يقر بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه أو فرارا من خوف على حظه أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنة كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه وما أشبه ذلك. وأما غير العالم وهو الواضع لها فإنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة بل هي عنده مما يلحق بالمشروعات كقول من جعل يوم الاثنين يصام لأنه يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقا بأيام الأعياد لأنه عليه السلام ولد فيه وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية ... فهذه كلها من قبل التأويل. وأما المقلد فكذلك أيضا لأنه يقول فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ... كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ومنهم من مات بسببه ... ثم إن البدع على ضربين كلية وجزئية فأما الكلية فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات ... وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار وإن دخلت تحت الوصف بالضلال كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة وإن كان داخلا تحت وصف السرقة بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة (¬1) ... ¬

_ (¬1) وهذا منه يستدعي التعجب، فكيف يقرر هذا مع أنه يحكم على جميع البدع بالتحريم، وأن المكروه تنزيها غير وارد في حكم البدع حيث قال في الاعتصام (2/ 56): (والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس). فلماذا خصص عموم زيادة ... (وكل ضلالة في النار) بلا مخصص، إلا أنه هاهنا بحث ينبغي الإشارة إليه، وهو الخلاف الذي ذكره العلماء في صغائر الذنوب وهل تقع مكفرة عند اجتناب الكبائر أم يشترط لها التوبة كالكبائر، فظاهر كلامه أنه اختار أنها تقع مكفرة، وأن فاعلها كفاعل المباح، وهذا القول ضعيف، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: (ص/178 - 179): [الصغائر هل تجب التوبة منها كالكبائر أم لا؟ لأنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} هذا مما اختلف الناس فيه فمنهم من أوجب التوبة منها وهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم وقد أمر الله بالتوبة عقيب ذكر الصغائر والكبائر فقال تعالى: {) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ومن الناس من لم يوجب التوبة منها وحكي عن طائفة من المعتزلة ومن المتأخرين من قال يجب أحد الأمرين إما التوبة منها أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات وحكي ابن عطية في تفسيره في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب الكبائر قولين أحدهما وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث أنه يقطع بتكفيرها بذلك قطعا لظاهر الآية والحديث والثاني وحكاه عن الأصوليين أنه لا يقطع بذلك بل يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء وهو في مشيئته الله عز وجل إذ لو قطع بتكفيرها لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه وذلك نقض لعري الشريعة قلت قد يقال لا يقطع بتكفيرها بها لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جادت مقيدة بتحسين العمل كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة وحينئذ يتحقق حسن العمل الذي يوجب التكفير وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابن عطية ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر ... وروي عن ابن عباس أنه قال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وروي مرفوعا من وجوه ضعيفة وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها فلابد للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش ... ] إلا أنه حتى على اختيار القول بأنها صغائر المعاصي تقع مكفرة فيعكر على اختياره هذا بالنسبة للبدع ما سبق تقريره من الفرق ببين البدع والمعاصي.

فعلى هذا إذا اجتمع في البدعة وصفان كونها جزئية وكونها بالتأويل صح أن تكون صغيرة والله أعلم، ومثاله مسالة من نذر أن يصوم قائما لا يجلس وضاحيا لا يستظل ومن حرم على نفسه شيئا مما أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام أو النساء أو الأكل بالنهار وما أشبه ذلك مما تقدم ذكره أو يأتي غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس فيوكل النظر فيها إلى الاجتهاد (¬1) اهـ] (¬2). ثم قال: [وإذا قلنا إن من البدع ما يكون صغيرة (¬3) فذلك بشروط: ¬

_ (¬1) وهذا ليس من شأن الحدود فقد أبطل هو بنفسه هذا الحد الغير منضبط. (¬2) الاعتصام (2/ 75: 65). (¬3) لعل مقصوده هنا الكلام على التقسيم بالنسبة إلى الإضافة، أو أن هذا التقسيم جدلي.

أحدها أن لا يداوم عليها فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه لأن ذلك ناشئ عن الإصرار عليها والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ولذلك قالوا " لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار " (¬1) فكذلك البدعة من غير فرق إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها وقد لا يصر عليها ... بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها ... والشرط الثاني أن لا يدعو إليها فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه ... والشرط الثالث أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها أعلام الشريعة فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو ممن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام فإنها لا تعدو أمرين إما أن يقتدى بصاحبها فيها فإن العوام أتباع كل ناعق ولا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس والتي للنفوس في تحسينها هوى وإذا اقتدى بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر ... والشرط الرابع أن لا يستصغرها ولا يستحقرها - وإن فرضناها صغيرة - فإن ذلك استهانة بها والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب به فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغير ... فالعاصي وإن يعمل المعصية لم يقصد بتعمده الاستهانة بالجانب العلي الرباني وإنما قصد اتباع شهوته مثلا فيما جعله الشارع صغيرا أو كبيرا فيقع الإثم على حسبه كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع وإنما قصد الجري على مقتضاه لكن بتأويل زاده ورجحه على غيره بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع فإنه إنما تهاون بمخالفة الملك الحق لأن النهى حاصل ¬

_ (¬1) روي مرفوعا من حديث ابن عباس وأنس وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - وجميع أسانيدها واهية ساقطة. وانظر تفصيلها في: السلسة الضعيفة (رقم4810)، ولكنه صح من قول ابن عباس عند البيهقي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم. ولكن الإصرار يحتاج لضابط، وليس هنا محل تحرير هذه المسألة.

المبحث الرابع: إثم المبتدعين ليس على رتبة واحدة

ومخالفته حاصلة والتهاون بها عظيم ولذلك يقال لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظمة من واجهته بها ... فإذا تحصلت هذه الشروط فإذا ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة أو خيف أن تصير كبيرة كما أن المعاصي كذلك والله أعلم] (¬1) وجلّ هذه الشروط لا تنفك عن البدعة فصاحبها يُصِّر عليها لأنه يظن أنه يحسن صنعاً، ولذلك قالوا أنها أحب إلى إبليس من المعصية، وكذلك صاحبها يدعوا إليها كما ذكر الشاطبي نفسه ذلك، ويفعلها في المجتمعات، وهكذا فيعود الأمر إلى أن كل البدع كبائر. هذا وجه، ووجه آخر وهو أننا إن فرضنا انفكاك هذه الشروط أو بعضها عن بدعة القول بخلق القرآن أو الكلام في القدر فهل يعدها من الصغائر. (وبقيت كلمة وهي أنني لا أميل إلى هذا التقسيم للبدع رأساً وإنما ذكرته لما رأيت من متابعة القوم للإمام الشاطبي في هذا التقسيم. والذي أراه أن جنس البدع أشد من جنس المعاصي من جهة الاستدراك على الشرع بالزيادة أو النقص، ولكن هذا لا يمنع أن بعض المعاصي تكون أشد من بعض البدع كترك الصلاة وقتل النفس المعصومة ونحو ذلك، إلا أن البدع لم يرد فيها إلا النص العام بعموم الذم، وأنها في النار، فلنتوقف إلى هذا الحد ولنسكت عما سكت عنه الشرع من تقسيمها إلى كبائر صغائر، وخاصة أنه لا ينضبط، وأن قياسها على المعاصي قياس مع الفارق كما سبق. والله أعلم. المبحث الرابع: إثم المبتدعين ليس على رتبة واحدة: قال الشاطبي ما مختصره: [إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة، من جهة كون صاحبها مستتراً ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 65: 72).

بها أو معلناً، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية، ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، ومن جهة كونها كفراً أو غير كفر، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه - إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن. أما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان، فظاهر أن المسر بها ضرره مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة. هي باقية على أصل حكمها، فإذا أعلن بها ـ وإن لم يدْعُ إليها ـ فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به ... وأما الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضاً، لأن غير الداعي وإن كان عرضة بالاقتداء فقد لا يقتدي به، ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به، إذ قد يكون خامل الذكر، وقد يكون مشتهراً ولا يقتدي به، لشهرة من هو أعظم عند الناس منزلة منه. وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر، ولا سيما المبتدع اللسن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب، إذا أخذ في الترغيب والترهيب، وأدلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها ... وأما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية، فإن الحقيقية أعظم وزراً، لأنها التي باشرها المنتهى بغير واسطة، ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهراً ... وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأْخذ أو مشكلة؛ فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة، فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة، لإمكان أن لا تكون بدعة، والإقدام على المحتمل، أخفض رتبة من الإقدام على الظاهر ... وأما الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيراً فيعظم بالإصرار عليه، كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها، فإذا كانت فلتة فهي أهون منها إذا داوم عليها، ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها، نظير الذنب إذا تهاون به، فالمتهاون أعظم وزراً من غيره.

المبحث الخامس: حكم قبول أعمال أهل البدع عند الله

وأما الاختلاف من جهة كونها كفراً وعدمه فظاهر أيضاً، لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب ـ عافانا الله ـ ... فلا بدعة أعظم وزراً من بدعة تخرج عن الإسلام ... والله المستعان بفضله] (¬1). المبحث الخامس: حكم قبول أعمال أهل البدع عند الله: ناقش د. الرحيلي في كتابه "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع" مسألة: "موقف أهل السنة من حكم قبول أعمال أهل البدع عند الله" وذكر ما ورد فيها من آثار وتكلم عن توجيهات العلماء، وخاصة الشاطبي لها وموقفهم منها، وأخذ في الرد والتعقب حتى انتهى إلى هذه النتيجة حيث قال [حكم عمل المبتدع من حيث قبوله أو رده خاضع للضوابط المراعاة في قبول الأعمال عند الله على وجه العموم، فما تحققت فيه شروط القبول فهو مقبول إن شاء الله، وما فقد منها أحد شروط القبول فهو مردود. وبناء على ذلك فالمبتدع إما أن يكون كافرا ببدعته أو لا. فإن كان كافرا فعمله كله مردود لفقده شرط الإسلام الذي هو شرط قبول كل عمل صالح. وإن كان المبتدع غير كافر، فإما أن يكون عمله بدعة محضا أو لا، فإن كان عمله بدعة محضة فهو مردود لفقده شرط المتابعة، وكذلك ما فقد منها شرط الإخلاص فإنه مردود أيضا، وأما إن كان لعمله أصل في الشرع، فإما أن تدخل عليه البدعة أو لا، فإن لم يدخل عليه البدعة وكان خالصاً لله فهو مقبول، وإن دخلت عليه البدعة فإما أن تفسده - وذلك بإخلالها بشروط صحته - أو لا. فإن لم تخل بشروط صحته فهو مقبول، وإن أخلت بشروط صحته فهو مردود. وعموما فإعمال المبتدع المسلم مرهونة بتوفر شرطي الإخلاص والمتابعة فمتى تحققا في العمل فهو مقبول، ومتى ما فقدهما أو أحدهما فهو مردود. وأما ابتداعه في بعض الأعمال، فإنه لا يتصور أن يرد به ما كان صحيحا من أعماله، إذ ليس من شروط قبول العمل أن لا يكون صاحبه مبتدعا في غيره. وبذلك يكون قد اتضح حكم عمل المبتدع بكل صوره من حيث قبوله أو رده] (¬2). ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 167: 174). (¬2) موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع (1/ 279: 311).

الفصل الثالث: علاقة البدع بغيرها

الفصل الثالث: علاقة البدع بغيرها: المبحث الأول: العلاقة بين البدع والمعاصي: أولا - وجوه اجتماع البدعة مع المعصية: قال الشيخ الجيزاني في "قواعد معرفة البدع" (ص/28): (وجوه اجتماع البدعة مع المعصية: 1 - أن كلاً منهما منهي عنه (¬1)، مذموم شرعًا، وأن الإثم يلحق فاعله، ومن هذا الوجه فإن البدع تدخل تحت جملة المعاصي. وبهذا النظر فإن كل بدعة معصية، وليس كل معصية بدعة (¬2). 2 - أن كلاً منهما متفاوت، ليس على درجة واحدة؛ إذ المعاصي تنقسم - باتفاق العلماء - إلى ما يكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر، وكذلك البدع؛ فإنها تنقسم إلى ما يُكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر (¬3). 3 - أنهما مؤذنان باندراس الشريعة وذهاب السنة؛ فكلما كثرت المعاصي والبدع وانتشرت كلما ضعفت السنن، وكلما قويت السنن وانتشرت كلما ضعفت المعاصي والبدع، فالبدعة والمعصية - بهذا النظر - مقترنان في العصف بالهدى وإطفاء نور الحق، وهما يسيران نحو ذلك في خطين متوازيين. يوضح هذا: 4 - أن كلاً منهما مناقض لمقاصد الشريعة، عائد على الدين بالهدم والبطلان. ثانيا - وجوه الافتراق بين البدعة والمعصية (¬4): 1 - تنفرد المعصية بأن مستند النهي عنها - غالبًا - هو الأدلة الخاصة، من نصوص الوحي أو الإجماع أو القياس، بخلاف البدعة؛ فإن مستند النهي عنها - غالبًا - هو ¬

_ (¬1) البدع على وجه العموم، والمعاصي على وجه الخصوص غالبا. (¬2) وأما من ناحية النظرة الشمولية لهما فإنه يكون بينهما عموم وخصوص وجهي. (¬3) وقد سبق الكلام على تفاوت مراتب البدع، وانقسامها إلى صغائر وكبائر. (¬4) وبعض هذه الفروق متداخل، وانظر: الاعتصام (1/ 233)، و"قواعد معرفة البدع" للشيخ الجيزاني (ص/30)، وبحث: "ضوابط البدعة وقواعدها الأصولية والفقهية" للشيخ نزيه عفون (ص/85)، و"علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص/85)، وغيرها.

الأدلة العامة، ومقاصد الشريعة، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل بدعة ضلالة ". 2 - وتنفرد البدعة بكونها مضاهية للمشروع؛ إذ هي تضاف إلى الدين، وتلحق به، بخلاف المعصية فإنها مخالفة للمشروع، إذ هي خارجة عن الدين، غير منسوبة إليه، اللهم إلا أن فُعلت هذه المعصية على وجه التقرب، فيجتمع فيها - من وجهين مختلفين - أنها معصية وبدعة في آن واحد. 3 - وتنفرد البدعة بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع؛ إذ حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ورمي للشرع بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكتمل بعد، بخلاف سائر المعاصي؛ فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها، بل صاحب المعصية متنصل منها، مقر بمخالفته لحكمها. 4 - وتنفرد المعصية بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة حدود الله بالانتهاك؛ إذ حاصلها عدم توقير الله في النفوس بترك الانقياد لشرعه ودينه، وكما قيل: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت)، بخلاف البدعة؛ فإن صاحبها يرى أنه موقر لله، معظم لشرعه ودينه، ويعتقد أنه قريب من ربه، وأنه ممتثل لأمره، ولهذا كان السلف يقبلون رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولم يكن ممن يستحل الكذب، بخلاف من يقترف المعاصي فإنه فاسق، ساقط العدالة، مردود الرواية باتفاق. 5 - ولأجل ذلك أيضًا فإن المعصية تنفرد بأن صاحبها قد يُحدِّث نفسه بالتوبة والرجوع، بخلاف المبتدع؛ فإنه لا يزداد إلا إصرارًا على بدعته لكونه يرى عمله قربة، خاصة أرباب البدع الكبرى كما قال تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا) وقد قال سفيان الثوري: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية (¬1)؛ لأن المعصية يتاب منها والبدع لا يتاب منها). ¬

_ (¬1) وتحت هذا العنوان عرض السيوطي في "الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع" بعض الآثار فقال (ص/81): (وقال سفيان الثوري رحمه الله: من سمع مبتدعاً لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. ولما مرض سليمان الهيثمي بكى بكاء شديداً فقيل له: ما يبكيك؟ الجزع من الموت؟ فقال: لا، ولكن مررت على قدري فسلمت عليه فأخاف أن يحاسبني ربي عليه. وقال الفضيل بن عياض: قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب بدعة إلى الله عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وقال: من زَوَّج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها. وقال: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له ... ). وروى ابن وضاح بسنده عن أبى بكر بن عياش قال: (كان عندنا فتى يقاتل ويشربُ وذكر أشياء من الفسق، ثم أنه تَقَرّأ فدخل في التشيع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت وهو يقول: لأنت يوم كنت تقاتل وتفعل خير منك اليوم).

وقد وضح تقي الدين معنى كون البدعة لا يتاب منها فقال في "مجموع الفتاوى" (10/ 9): (ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه. أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله. فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال ... ). 6 - ولذلك فإن جنس البدعة أعظم من جنس المعصية، ذلك أن فتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة، وهذا كله إنما يطرد ويستقيم إذا لم يقترن بأحدهما قرائن وأحوال تنقله عن رتبته. ومن الأمثلة على هذه القرائن والأحوال: أن المخالفة - معصية كانت أو بدعة - تعظم رتبتها إذا اقترن بها المداومة والإصرار عليها أو الاستخفاف بها أو استحلالها أو المجاهرة بها أو الدعوة إليها ويقل خطرها إذا اقترن بها التستر والاستخفاء أو عدم الإصرار عليها أو الندم والرجوع عنها. ومن الأمثلة على هذه القرائن أيضًا: أن المخالفة في ذاتها تعظم رتبتها بعظم المفسدة، فما كانت مفسدته ترجع إلى كلي في الدين فهو أعظم مما كانت مفسدته ترجع إلى جزئي فيه، وكذلك: ما كانت مفسدته متعلقة بالدين فإنه أعظم مما كانت مفسدته متعلقة بالنفس. والحاصل أن الموازنة بين البدع والمعاصي لا بد فيها من مراعاة الحال والمقام، واعتبار المصالح والمفاسد، والنظر إلى مآلات الأمور؛ فإن التنبيه على خطورة البدع والمبالغة في تعظيم شأنها ينبغي ألا يفضي - في الحال أو المآل - إلى الاستخفاف بالمعاصي والتحقير من شأنها، كما ينبغي أيضًا ألا يفضي التنبيه على خطورة المعاصي

المبحث الثاني: العلاقة بين البدع والمصالح المرسلة

والمبالغة في تعظيم شأنها - في الحال أو المآل - إلى الاستخفاف بالبدع والتحقير من شأنها. 7 - أن البدع ضلالة، وأن المبتدع ضال ومضل، بخلاف سائر المعاصي، فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة، وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفو عنه ـ لا يسمى ضلالا، ولا يطلق على المخطئ اسم ضال، كما لا يطلق على المتعمد لسائر المعاصي اسم الضال. 8 - ما تؤول إليه البدعة من مفاسد حالية ومآلية في الدنيا والآخرة، وذلك باعتقاد المشروعية أو الجواز فيما ليس له أصل، وما يترتب على هذا الاعتقاد من شيوع وانتشار، حتى ينشأ عليها الصغير ويموت عليها الكبير بخلاف المعصية أو المخالفة. المبحث الثاني: العلاقة بين البدع والمصالح المرسلة: تمهيد - معنى المصلحة المرسلة: قال الشنقيطي - رحمه الله - في "المذكرة" (ص:201): (الوصف من حيث هو إما أن يكون في إناطة الحكم به مصلحة أو لا، فان لم تكن في إناطة الحكم به مصلحة فهو الوصف الطردي كالطول والقصر بالنسبة إلى جميع الأحكام وكالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق، والطردي لا يعلل به حكم، وان كان في إناطة الحكم به مصلحة فهو المسمى بالوصف المناسب وهو على ثلاثة أقسام: الأول: أن يشهد الشرع باعتبار تلك المصلحة كالإسكار فانه وصف مناسب لتحريم الخمر لتضمنه مصلحة حفظ العقل. وقد نص الشرع على اعتبار هذه المصلحة فحرم الخمر لأجلها. وهذا هو المؤثر والملائم. الثاني: أن يلغي الشرع تلك المصلحة ولا ينظر إليها كما لو ظاهر الملك من امرأته، فالمصلحة في تكفيره بالصوم لأنه هو الذي يردعه لخفة العتق ونحوه عليه لكن الشرع ألغى هذه المصلحة، وأوجب الكفارة بالعتق من غير نظر إلى وصف المكفر بكونه فقيراً أو ملكاً وهذا الوصف يسمى الغريب عند جماعة أهل الأصول.

الثالث: أن لا يشهد الشرع لاعتبار تلك المصلحة بدليل خاص، ولا لإلغائها بدليل خاص (¬1)، وهذا بعينه هو الاستصلاح، ويسمى المرسل، والمصلحة المرسلة، والمصالح المرسلة، وسمي مصلحة لاشتماله على المصلحة وسميت مرسلة لعدم التنصيص على اعتباره ولا على إلغائها. واعلم أن المصالح من حيث هي ثلاث أقسام: الأول: مصلحة درء المفاسد، وهي المعرفة بالضروريات وهي ستة لأن درء المفسدة إما عن الدين، أو النفس، أو العقل، أو النسب، أو المال، أو العرض، ومن فروع درء المفاسد نصب الأئمة ووجوب قتل المرتد، وعقوبة المضل صيانة للدين، وتحريم القتل ووجوب القصاص فيه صيانة للأنفس، وتحريم الخمر ووجوب الجلد فيها صيانة للعقول، وتحريم الزنا ووجوب الحد فيه صيانة للنسب، وتحريم السرقة ووجوب القطع فيها صيانة للمال، وتحريم القذف ووجوب الحد فيه صيانة للأغراض. الثاني: التحسينات: وتسمى التتميمات وهي الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ومن فروعها خصال الفطرة كإعفاء اللحى وقص الشارب، ومنها تحري المستقذرات ووجوب الإنفاق على الأقارب الفقراء كالآباء والأبناء ... ¬

_ (¬1) قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/ 607): (إن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص، ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول). وقال الشيخ علي محفوظ في "الإبداع" (ص/83): (كان الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، إذا لم يجدوا نصا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فزعزا إلى ما سموه رأيا واجتهادا، وهو الحكم في الحادثة بناء على القواعد الكلية والأدلة العامة في الدين كقوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولم يكونوا يهتمون بأصل معين يقيسون على محله الحادثة التي يفتون فيها، أو يقضون بها بين الناس، كما قضى عمر رضي الله عنه على محمد بن مسلمة بأن يمر خليج جاره في أرضه؛ لأنه ينفع جاره ولا يضر محمدا، فهذا قضاه بأصل عام وهو إباحة النافع وحظر الضار، ولم يقله قياسا على أصل معين، وهذا ما يسمى في عرف الفقهاء بالمصالح المرسلة، وقاعدتها أن يناط الأمر لاعتبار مناسب لم يدل الشرع على اعتباره ولا إلغائه إلا أنه ملائم لتصرفات الشرع بأن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين ... ).

شروط اعتبار المصالح المرسلة

والحق أن أهل المذاهب كلهم يعملون بالمصلحة المرسلة وإن قرروا في أصولهم أنها غير حجة كما أوضحه القرافي في التنقيح ... ). وعرف البوطي في رسالته "ضوابط المصلحة" (ص/330) المصالح المرسلة بقوله: (كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء). شروط اعتبار المصالح المرسلة (¬1): 1 - لا تصادم نصا من الكتاب، أو السنة، ولا إجماعا، وإلا كانت مصلحة ملغاة؛ لأن معنى إرسالها أن الشارع لم يلغها ولم يعتبرها. 2 - لا تعارض القياس، فبين مطلق المصلحة والقياس أوجه اتفاق، وأوجه افتراق، إذ القياس إنما هو مراعاة مصلحة في فرع بناء على مساواته في علة حكمه المنصوص عليها ففي القياس مراعاة لمطلق المصلحة بعلة اعتبرها الشارع ... فكل قياس مراعاة للمصلحة وليس كل مراعاة للمصلحة قياسا، إذ تنفرد المصلحة بأن أحد أقسامها وهي المصلحة المرسلة، هي المصالح التي يراها المجتهد مما لا شاهد يؤيده من أصل يقاس عليه ولا دليل يلغيه من الوحي، وإن كانت مستندة إلى دليل ما اعتبره الشارع، غير أنه دليل لا يتناول أعيان هذه المصلحة بخصوصها، وإنما يتناوب الجنس البعيد لها، كجنس حفظ العقل والنسب والروح. وإنما يقال ذلك في دليل المصلحة المرسلة؛ لأن هذا هو حالها حقيقة ولأن تجريدها من الدليل الشرعي الذي تستند عليه من قبيل التشهي النفسي والهوى. لكن دليل المصلحة أقل من دليل القياس إذ دليل المصلحة يتناول الجنس البعيد للمصلحة وتنضوي ضمن مقاصد الشريعة وكلياتها العامة، أما دليل القياس فإنه يتناول عين الوصف المناسب، ويدل عليه صراحة كما في الوصف المؤثر، أو بواسطة جريان الشارع على وفقه كما في الوصف الملائم. ومن أجل هذا الاختلاف في مرتبة كل من القياس والمصالح المرسلة وجب تقديم القياس على المصالح المرسلة، وعدم اعتبارها إذا تعارضت مع القياس، مع ملاحظة أنه ¬

_ (¬1) وهذه الشروط في حقيقتها مستمدة من طبيعة المصلحة، ومن كونها دليلا شرعيا. وانظر: الاعتصام (2/ 627)، بحث المصالح المرسلة لعلي جريشة (ص/44)،"أصول الفقه" للشيخ عياض السلمي (ص/209)، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، حقيقة البدعة للشيخ الغامدي (2/ 179) وغيرها.

لا يوجد تعارض حقيقي بين ذات كل من المصالح المرسلة والقياس، وإنما يوجد تعارض في نظر المجتهد، كما تخيله وبدا لرأيه من كون هذا الأمر مصلحة مرسلة أو قياس، إذ لا يطلق على أي منهما كونه مصلحة مرسلة أو قياسا في حقيقة الأمر إلا إذا سَلِمَ كل منهما من عوارض الإبطال والإلغاء. والحاصل أن المصلحة المرسلة لا عبرة بها إذا عارضها قياس صحيح. 3 - أن تكون فيما يعقل معناه من الوسائل والعادات والمعاملات ونحو ذلك ولا تكون في المواضع التي يتعين فيها التوقيف، كأسماء الله وصفاته، والبعث والجزاء، والعبادات المحضة، والمقدرات كالمواريث وأنصبة الزكاة، فإن المصلحة المرسلة لا يمكن أن يستدل بها على ثبوت عبادة أو زيادة فيها أو نقص شيء منها. فحقيقة التعبديات المحضة ونحوها أنها لا يعقل معناها على التفصيل، وهذا هو السر في اعتبار المصالح المرسلة في العادات والمعاملات ونحوها دون العبادات المحضة ونحوها، بالإضافة إلى أن العبادات حق خاص للشارع، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا وهيئة إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، ولهذا لم يكل شيئا من العبادات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، بينما تهتدي العقول البشرية في الجملة إلى معرفة حكم وعلل ومعاني العادات والمعاملات، ولذلك جاز دخول المصالح في هذا دون ذاك. 4 - أن ترجع إلى حفظ أمر ضروري فتكون من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو ترجع إلى رفع الحرج فتكون من باب التخفيف فمثلا جمع القرآن حفظ للشريعة بحفظ أصلها، وكتابته سد لباب الاختلاف فيه، وتضمين الصناع لحفظ الصنعة والمال، وجواز الحبس والضرب في التهم للاحتيال لحفظ المال وهكذا ... 5 - أن تكون المصلحة حقيقية لا متوهمة، فالمصلحة المتوهمة لا ينظر إليها، ومثالها: ما يتوهمه بعض الناس من أن التسوية بين الرجل والمرأة في الإرث فيه مصلحة، وهي ترغيب الكفار في الإسلام، ومن ذلك: ما يتوهمه البعض من أن العمل بالقوانين الوضعية المستوردة فيه مصلحة وهي التسوية بين الناس في الحقوق والواجبات. وهؤلاء وأولئك غفلوا عن أن خالق الناس أعلم بما يصلحهم وما يناسبهم، وأن ترغيب الكفار في الإسلام بترك فرض من فرائضه مفاسده أعظم مما يتوخى فيه من مصلحة، وما في القوانين الوضعية من المصالح يمكن تحصيلها من الشريعة على وجه أكمل.

وجوه اجتماع المصالح المرسلة مع البدعة

6 - أن تكون عامة؛ لأنها إن لم تكن عامة كانت خاصة، والأحكام في الشريعة لا توضع لفرد ولا لبعض وإنما هي للناس كافة بغير تفرقة. 7 - ألا يترتب على الأخذ بها تفويت مصلحة أخرى أهم منها، أو مساوية لها إذا لم يمكن الجمع بين المصلحتين. 8 - أن يكون حصول المصلحة بالحكم مقطوعًا به أو غالبًا على الظن، أما المصالح التي يكون تحصيلها بالحكم الظني فلا يعمل بها. وجوه اجتماع المصالح المرسلة مع البدعة (¬1): قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة" (2/ 186): (فأما نقاط الاتفاق فهي: 1 - أن كلا من البدعة والمصلحة المرسلة من الأمور الحادثة. 2 - أن كلا من البدعة وما ثبت بالمصلحة المرسلة لا دليل على اعتبارها من جهة الشرع، وأقصد بالدليل: "الدليل الخاص"، أما الأدلة العامة فإن المصالح المرسلة تدخل فيها بخلاف البدع فإنها مضادة للأدلة العامة الخاصة. 3 - تجتمع المصلحة المرسلة والبدعة - غير المنهي عنها بخصوصها (¬2) - في وصف واحد - يبدو لبادي الرأي ويتعلق به محسن البدع - وهو: أن كلا منهما مسكوت عنه بخصوصه من جهة الشرع ... وجوه الافتراق بين المصالح المرسلة والبدعة (¬3): 1 - تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية، وما يلتحق بها من أمور الدين بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل معناه، وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية. 2 - وتنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها؛ فهم - في الغالب - يتقربون إلى الله بفعلها، ولا يحيدون عنها، فيبعد جدًا - عند أرباب البدع - إهدار العمل بها؛ إذ يرون بدعتهم راجحة على كل ما يعارضها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها ¬

_ (¬1) وانظر قواعد معرفة البدع للشيخ الجيزاني (ص/33). (¬2) مثل الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬3) وبعض هذه الوجوه متداخل وتكمل بعضها البعض، وانظر: الاعتصام (2/ 633)، قواعد معرفة البدع للشيخ الجيزاني (ص/33)، حقيقة البدعة للشيخ الغامدي (2/ 187)، علم أصول البدع للشيخ علي الحلبي (ص/225).

مقصودة بالقصد الثاني دون الأول، فهي تدخل تحت باب الوسائل؛ لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، ويدل على ذلك أن هذه المصلحة يسقط اعتبارها، والالتفات إليها شرعًا متى عورضت بمفسدة أربى منها، وحينئذٍ فمن غير الممكن إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة. 3 - تعود المصالح المرسلة عند ثبوتها إلى حفظ منفعة وجلب مصلحة، أو درء مفسدة ورفع حرج، فتكون من الوسائل (¬1) لا من المقاصد وهي وسائل تعود إلى تحقيق مقاصد الشرع، أما البدعة فإنها - وإن تخيل فاعلها المنفعة فيها - فإنها تعود على دين معتقدها وفاعلها بالمفاسد العظيمة والمخاطر الجسيمة، ثم إنها في عامة أحوالها تناقض مقاصد الشرع الحنيف. 4 - وتنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة، هادمة لها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها - لكي تعتبر شرعًا - لا بد أن تندرج تحت مقاصد الشريعة، وأن تكون خادمة لها، وغير معارضة لنص في خصوص، أو عموم، أو في منطوق، أو مفهوم قطعي، أو ظني جلي، أو غير جلي بحيث تكون ملائمة لمقاصد وكليات الشريعة، وإلا لم تعتبر. 5 - سبق بيان أن الوصف الذي يتعلق به الحكم له ثلاثة أحوال: الأول - أن يشهد الشرع بقبوله، والثاني أن يشهد الشرع برده، والثالث ما سكتت عنه الشواهد الخاصة ولم تشهد له باعتبار ولا بإلغاء، فإن كان ملائما لتصرفات الشرع أو يوجد له معنى من جنسه اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين ولم يناقض أصلا أو دليلا أو قياسا صحيحا فهو ما يسمى بالمصالح المرسلة. وأما البدعة فلا تخرج عن القسم الثاني، وهو ما شهد الشرع بطلانه والذي اتفقت الأمة على إهماله ورده وعدم إعماله. 6 - وتنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المقتضي لفعلها، أو أن المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه، بخلاف البدعة فإن عدم وقوعها في عهد النبوة كان مع قيام المقتضي لفعلها، وتوفر الداعي، وانتفاء المانع. ¬

_ (¬1) وقال الشيخ علي محفوظ في "الإبداع" (ص/92): (البدع إنما تكون في المقاصد لخلاف المصالح المرسلة فإنها تكون في الوسائل ولهذا أرجعها بعضهم إلى قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

الباب الرابع الرد على محسني البدع

والحاصل: أن المصالح المرسلة إذا روعيت شروطها كانت مضادة للبدع، مباينة لها، وامتنع جريان الابتداع من جهة المصلحة المرسلة؛ لأنها - والحالة كذلك - يسقط اعتبارها ولا تسمى إذ ذاك مصلحة مرسلة، بل تسمى إما مصلحة ملغاة أو مفسدة. الباب الرابع الرد على محسني البدع المبحث الأول - مثبتو البدعة الحسنة: نسب من يقول بالبدع الحسنة قولهم لـ: 1 - الإمام الشافعي:

نسب من يقول بالبدع الحسنة قولهم للإمام الشافعي، وقد استدلوا على ذلك بقوله:" البدعة بدعتان بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي " (¬1). وبقوله: " المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة. والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: «نعمت البدعة هذه» يعني أنها محدثة لم تكن، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى (¬2). وجه الاستدلال: قال المبتدع: هذا تقسيم إمام معترف بفضله وعلمه وعدالته، وهذا التقسيم صريح في أن من البدع ما هو حسن مقبول في الشرع، وما هو قبيح مردود. والجواب على هذا الاستدلال من عدة أوجه (¬3): الوجه الأول: أن قول الشافعي رحمه الله عن البدعة المذمومة هي ما خالف السنة. وقوله عن المحدث المذموم، بأنه ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، منطبق على سائر البدع في دين الله، فليس هناك بدعة إلا وهي مخالفة للكتاب والسنة والآثار والإجماع، وإلا لما كانت بدعة؛ لأنه لو ثبت لها أصل من هذه الأصول لأصبحت عملاً مشروعاً في دين الله. وهذا ما يتفق عليه علماء المسلمين قديماً وحديثاً، وما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما صنع أمر على غير أمرنا فهو رد ". وعلى هذا الوجه لا حجة في كلام الشافعي لمحسن البدع، بل الحجة عليه في كلام هذا الإمام. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 113) وفيه عبد الله بن محمد العطشي ذكره الخطيب وغيره ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا. (¬2) أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 469)، وفي "المدخل" (1/ 206) (253) من طريق أبي سعيد بن أبي عمرو، وهو محمد بن موسى بن الفضل، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم , ثنا الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي به، ورواته ثقات، وليس كما قال البعض أن محمد بن موسى مجهول، بل هو الصيرفي من الثقات المشاهير كما قال عنه الذهبي في "تاريخ الإسلام". (¬3) انظر: "حقيقة البدعة" للشيخ الغامدي (1/ 432)، "اللمع في الرد على محسني البدع" للشيخ السحيباني (ص/36).

الوجه الثاني: قول الشافعي رحمه الله أن ما وافق السنة فهو محمود، وقوله: ما أحدث لا خلاف فيه لواحد من هذا يعني الكتاب والسنة والأثر والإجماع فهذه محدثة غير مذمومة، قول فيه إجمال، يحتاج إلى بيان: فإن كان مراده بالبدعة والمحدثة معناهما اللغوي فهذا المعنى مقبول ووارد، وسياق الكلام يدل على أن هذا هو مراد الشافعي رحمه الله، حيث وصف البدعة المذمومة شرعاً، وبين معالمها، ووضح مسالكها، توضيحاً استغرق سائر أنواع البدع، ثم عطف بذكر البدع المحمودة، مستدلاً عليها بحديث عمر رضي الله عنه ومعنى كلام عمر يتوجه إلى الاستعمال اللغوي للبدعة. وعلى هذا التوجيه نفسه يمكن حمل كلام الشافعي في قوله هذا. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 131): (ومراد الشافعي رحمه الله: أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصل من الشريعة يرجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة، يعني: ما كان لها أصل من السنة يرجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا، لموافقتها السنة). الوجه الثالث: وقد يكون مراده رحمه الله الحوادث التي استجدت وليس عليها بأعيانها أدلة من الكتاب أو السنة أو الآثار أو الإجماع، ولكنها تدخل تحت أصل من الدين، وتنضوي تحت قاعدة من قواعده، وهي ليست من العبادات المحضة. فهذه الحوادث إذا كانت بهذه الصفة فهي محمودة من جهة الشرع، ولا تسمى بدعاً في الدين، وإن كانت تسمى بدعاً من جهة اللغة. وفي هذا الوجه تدخل المصالح المرسلة، بناء على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة، وإن كانت تلائم قواعد الشرع وهذا محمل آخر يمكن توجيه قول الشافعي إليه. الوجه الرابع: من الإنصاف ألا يحمل كلام هذا الإمام أكثر مما يحمل، وألا ينظر إلى كلامه هذا معزولاً عن بقية مقولاته، لا سيما إذا كان في بعض كلامه إجمال، وفي بعضه الآخر تفصيل، فإنه يجب حمل المجمل على المفصل، ومن كلامه عن الاستحسان: ( ... وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر ... ). وقال: (وإنما الاستحسان تلذذ).

وقال: (لم يجعل الله لأحد بعد رسوله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وضعت من القياس عليها .. ). فهل يمكن بعد كل هذا أن يقال بأن الشافعي يستحسن البدع، ويمدحها ويثني عليها، ويجيز التقرب بها إلى الله؟. الوجه الخامس: لو افترض جدلاً أن الشافعي أراد بقوله في تعريف البدعة ما ذهب إليه المبتدع، فإنه لا يجوز أن يعارض كلام النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم حجة على كل احد , وليس كلام أحد من الناس حجة على كلام النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ليس أحد إلا ويؤخذ من رأيه ويترك , ما خلا النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تبرأ الشافعي نفسه مما يكون خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم من كلامه حيث قال رحمه الله فيما يرويه عنه الربيع بن سليمان: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا به ودعوا ما قلته). 2 - العز بن عبد السلام: قال في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 204): (البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة ... ) ثم أخذ يسوق أمثلة على كل قسم. قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة" (1/ 438): (وهذا التعريف والتقسيم نقله واعتمد عليه كثير من الذين جاءوا بعد العز بن عبد السلام منهم: القرافي في الفروق حيث بسط الكلام في هذه المسألة، شارحاً لرأي شيخه العز، وتبع القوافي صاحب تهذيب الفروق وفعل مثلهما النووي في: تهذيب الأسماء واللغات والزركشي في: المنثور وابن حجر الهيتمي في: الفتاوى الحديثية والسيوطي في: الحاوي، وفي الأمر بالإتباع والسخاوي في: فتح المغيث ومحمد بن جزي المالكي في: قوانين الأحكام الشرعية، وغيرهم من القدماء والمحدثين، مما يدل على اعتمادهم على التعريف والتقسيم الذي قاله العز بن عبد السلام).

الجواب عن كلامه من وجوه (¬1): أولا - أنه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بكلام أحد من الناس كائناً من كان، وقد سبق بيان وجه العموم في ذم البدع، ولا يصلح كلام العز ولا غيره من العلماء للتخصيص. ثانيا - كما أن هذا التقسيم للبدع لا يحسن لأمور: 1 - قال الشاطبي في "الاعتصام" (1/ 246): (إن هذا التقسيم أمر مخترع، لا يدل عليه دليلْ شرعي، بل هو في نفسه متدافع، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي، لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب، أو ندب، أو إباحة، لما كان ثمَّ بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخيَّر فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها، أو ندبها، أو إباحتها، جمع بين متنافيين. أما المكروه (¬2) منها والمحرم، فمسلم من جهة كونها بدعا لا من جهة أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته، لم يثبت بذلك كونه بدعة، لإمكان أن يكون معصية، كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم ألبتة، إلا الكراهية والتحريم). 2 - الإثم قدر مشترك بين البدع كلها، فلا يجوز أن نحكم على بدعة بأنها أقل إثماً من غيرها، والتفريق في الوصف قائم على الرأي المحض وهو بدعة في نفسه، ويعمل على استصغار البدع. 3 - من خلال أمثلة العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ لما أسماه بالبدع الواجبة والمندوبة والمباحة، نجد أن أكثرها مشروع أو مباح من قبل الشرع، فلا يطلق عليه بدعة من ناحية شرعية إذ البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم: كل بدعة ضلالة " أما ما قام دليل على وجوبه، أو استحبابه، أو إباحته فليس من هذا الباب، ولا يصح إدخاله في مسمى البدعة، إلا من ناحية لفظية وهذه الناحية لا خلاف فيها، لأن كل جديد بدعة من حيث اللغة، ولكن محل الكلام هنا هو في البدعة الشرعية التي حذر منها الشارع ونهى عنها، وذمها السلف. ¬

_ (¬1) انظر الاعتصام (1/ 246)، اللمع في الرد على محسني البدع (ص/41)، حقيقة البدعة (1/ 438)، البدعة وأثرها السيئ في الأمة (ص/100)، والبراهين على ألا بدعة حسنة في الدين لأبي معاذ السلفي (ص/15). (¬2) أي كراهة تحريمية، وقد سبق بيان خروج المكروه تنزيها عن البدع.

والخلط بين البدعة اللغوية والشرعية قد يؤدي إلى ضرر ولبس، فيظن أن ما ليس ببدعة بدعة والعكس. ولا يتميز حكم الشرع مع التباس التسميات، ولهذا فإن السلف وهم يفتون في المسائل الحادثة بإيجاب أو استحباب أو إباحة، ما كانوا يقولون هذه بدعة، ولكنها واجبة أو مستحبة أو مباحة، لاستقرار مصطلح البدعة الشرعية عندهم، وثبات حكمها المتراوح بين التحريم والكراهية. وكذلك في فتواهم في الأمور الحادثة، مما يعد معصية شرعية تكون بالتحريم أو الكراهية، مع تفريقهم بين ما هو معصية وما هو بدعة. 4 - يظهر من خلال أمثلة العز بن عبد السلام أنه أدخ المصالح المرسلة في مسمى البدع، بناء على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة، وإن كانت تلائم قواعد الشرع. فلكونها داخلة تحت قواعد الشرع، حكم عليها بالوجوب أو الندب أو الإباحة، ولكونها حادثة غير معهودة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم سماها بدعاً، فيكون بذلك من القائلين بالمصالح المرسلة، وهي ليست بدعاً إلا في اللفظ. فيكون الاحتجاج بقوله وتقسيمه على حسن البدع من الناحية الشرعية احتجاجاً في غير محل النزاع. ويدل لذلك الأمثلة التي ضربها لتلك الأقسام، فقسم الواجب في قول ابن عبد السلام يدخل في باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد صرح هو بذلك، ولقد علمت أن هذا الباب يؤدي إلى حفظ ما هو ضروري شرعاَ، وأنه والبدع لا يستويان، وقد مثل له بالاشتغال بالنحو، الذي يفهم به كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم –، فهل الاشتغال بالنحو بدعة شرعية؟ أم هو من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به، على أنه يمكن أن يقال في النحو: إنه بدعة من حيث اللغة، ولكن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالتعريفات الشرعية، لا التعريفات اللغوية. وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال، فبناء القناطر والمدارس وسائل لدفع ضرر أو جلب منفعة عامة للأمة، فالربط تدفع كيد الأعداء وترهبهم، والقناطر تسهل حركة الناس وتنقلاتهم وتحفظ أرواحهم، والمدارس تحقق فريضة طلب العلم، أما صلاة التراويح فسنة فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وسوف يأتي الكلام عليها قريبا بإذن الله.

وأما قسم المباح، فمثَّل له بالتوسع في المستلذات، وليس هذا ببدعة في الشرع، بل إن وصل إلى درجة الإسراف، فهو من المحرمات، الداخلة تحت جنس المعاصي لا البدع، وثمّ فرق بين المعاصي والبدع كما سبق. وقد ناقش الشاطبي في "الاعتصام" هذه الأمثلة مناقشة مطولة. 5 - أن المعروف عن العز بن عبد السلام- رحمه الله- أنه كان مشهوراً بمحاربة البدع، والنهي عنها، والتحذير منها، وقد كان ينهى عن أشياء هي مما يسميه أهل البدع بدعة حسنة. وقد قال شهاب الدين أبو شامة - أحد تلامذة العز بن عبدالسلام-: (وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة، وأزال كثيراً من البدع، التي كان الخطباء يفعلونها، من دق السيف على المنبر، وغير ذلك، وأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان، ومنع منهما). وقال في كتابه «الفتاوى» (ص/392): «ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد؛ ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص» وقال في «الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة» (ص7 - 8): «فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها. فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه؛ فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربة، إذا لم يكن لها سبب صحيح. وكذلك لا يتقرب إلى الله بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون» ... 3 - ابن الجوزي: قال: (فان ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا حفظا للأصل وهو الإتباع) وكلامه هذا لا يفهم منه بوجه من الوجوه قوله بالبدع المحدثة، وقبل توجيه كلامه سوف أنقله كاملا:

قال في "تلبيس إبليس" (ص/17): (والبدعة: عبارة عن فعل لم يكن فابتدع والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان فان ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا حفظا للأصل وهو الإتباع وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له اجمع القرآن كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا محمد بن علي بن أبي عمر قال أخبرنا علي بن الحسين نا ابن شاذان نا أبو سهل نا أحمد البرني ثنا أبو حذيفة ثنا سفيان عن ابن عجلان عن عبد الله بن أبي سلمة أن سعد بن مالك سمع رجلا يقول لبيك ذا المعارج فقال ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد يرفعه إلى أبي البحتري قال أخبر رجل عبد الله بن مسعود أن قوما يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول كبروا الله كذا وكذا وسبحوا الله كذا وكذا واحمدوا الله كذا وكذا قال عبد الله فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم فأتاهم فجلس فلما سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعود فجاء وكان رجلا حديدا فقال أنا عبد الله بن مسعود والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلما ولقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما فقال عمرو بن عتبة أستغفر الله فقال عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا ... ثم قال: قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها فلم يروا بفعلها بأسا كما روى أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحدانا وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته الجماعة فجمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنهما فلما خرج فرآهم قال نعمت البدعة هذه لأن صلاة الجماعة مشروعة وإنما قال الحسن في القصص نعمت البدعة كم من أخ يستفاد ودعوة مستجابة لأن الوعظ مشروع ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة وإن كانت مضادة فهي أعظم فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له ولهذا استتروا ببدعتهم ولم يكتم أهل السنة مذهبهم فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم ... ). الجواب عن ذلك:

المبحث الثاني - أدلتهم لإثبات البدعة الحسنة

وقد سقت كلامه كاملا ليتبين مراده وأنه يحذر من البدع التي تتهم الشريعة بالنقصان، وأنه لا يقصد إثبات الابتداع المذموم بل كلامه يدور حول المصالح الملحقة بالشرع بالاستحسان بشروطه سالفة الذكر، أو يقصد البدع اللغوية والتي لها أصل في الشريعة، وهذا واضح من الأمثلة التي ذكرها كصلاة التراويح والقصص كما أن ظاهر كلامه البعد عن اعتبار هذه المحدثات وإن كانت غير مخالفة للشريعة وجائزة حفظا للأصل وهو الإتباع. وليت من ينسبون له قولهم أن يسيروا على نهجه ويَحذرون مما حذر. 4 - ابن حزم: قال ابن حزم في "الإحكام" (1/ 47): (البدعة كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه صلى الله عليه وسلم وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويغدر بما قصد إليه من الخير ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به). وكلامه لا يخرج عما سبق، وبنحو ما سبق نسبوا قولهم لجماعة من العلماء منهم: الغزالي، وابن العربي، وابن الأثير، وأبي شامة، والنووي، والعيني، والكرماني، والزرقاني. ولا داعي للتطويل بذكر كلامهم فهو يدور في الجملة حول نفس الكلام السابق. المبحث الثاني - أدلتهم لإثبات البدعة الحسنة (¬1): تمهيد: قال الغماري في "إتقان الصنعة" (ص/13): (العلماء متفقون على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص. ولم يشذ عن هذا الاتفاق إلا الشاطبي ¬

_ (¬1) وقد صدر حديثا كتاب: "هَدْم أُصول أهل البدع-فَضْح أكاذيب وجهالات الغماري" للشيخ عبد الله رمضان موسى ولا تطوله يدي الآن.

صاحب الاعتصام، فإنه أنكر هذا الانقسام، وزعم أن كل بدعة مذمومة، لكنه اعترف بأن من البدع ما هو مطلوب وجوبا أو ندبا، وجعله من قبيل المصلحة المرسلة، فخلافه لفظي يرجع إلى التسمية. أي أن البدعة المطلوبة، لا تسمى بدعة حسنة، بل تسمى مصلحة). ذكر الغماري عبارته هذه بعد أن ساق أقوالا لبعض العلماء بأن البدعة منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، وقد سبق بيان أنه لا يصح تعلقه بهذه الأقوال لتحذير أصحابها مما يعدوه هم من البدع الحسنة، وأن مقصودهم لا يخالف مقصود الإمام الشاطبي من قصد البدع اللغوية، أو المصالح المرسلة. وأما قوله: (العلماء متفقون على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، ولم يشذ عن هذا الاتفاق إلا الشاطبي) فالجواب عن ذلك أن دعواه الاتفاق نشأ عن قلة إطلاعه على أقوال العلماء، أضف إلى أن أقوال من نقل عنهم لا تساعده على مقصوده كما سبق توجيه كلامهم، وقد سبق نقل طائفة من أقوال الصحابة والتابعين في ذم مطلق البدع. كما أنه نقل عن البعض مستشهدا بكلامه على صحة تقسيمه مع أن الواقع خلاف ما ذهب إليه فأقوالهم عكس مقصوده فتراه نقل عن الحافظ ابن رجب قوله: (المراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة) وهذا صريح في أنه لا يطلق على المحدثات مما له أصل في الشرع لفظ البدعية. وكذا نقل عن ابن حجر قوله: (المحدثات بفتح الدال جمع محدثة والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما ... وأما قوله في حديث العرباض فإن كل بدعة ضلالة بعد قوله وإياكم ومحدثات الأمور فإنه يدل على أن المحدث يسمى بدعة وقوله كل بدعة ضلالة قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها أما منطوقها فكأن يقال حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب والمراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام ... ) وهو صريح في عكس مقصوده. كل هذا يبين أن عدم صحة دعواه الإجماع، ولو عكسنا الأمر عليه لكان لقولنا وجه.

وأما تسويته بين البدع التي يقصدها هو وبين المصالح المرسلة وجعله الخلاف لفظي فخطأ بيّن وقد سبق بيان وجوه الافتراق بين البدع والمصالح المرسلة. - وقد ساق هو وغيره بعض الأدلة التي يظنون أنها تؤيد قولهم بصحة التقسيم المذكور للبدع، وظنوا أنهم يخصصون أدلة الذم العامة للبدع بها، ومن هذه الأدلة ما يلي: أولا – - استدلوا بقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] قال عيسى الحميري في "البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع" (ص/31): (وخلاصة القول في هذه الآية ما حكاه عبد الله بن صديق الغماري في كتابه (إتقان الصنعة): فقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} قد استنبط العلماء من هذه الآية مجموعة من الأحكام منها: - إحداث النصارى لبدعة الرهبانية من عند أنفسهم. - عدم اعتراض القرآن على هذا الإحداث، فليس في الآية – كما قال الرازي والألوسي ما يدل على ذم البدعة. - لوم القرآن لهم بسبب عدم محافظتهم على هذه البدعة الحسنة: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} واللوم غير متجه للجميع، على تقدير أن فيهم من رعاها كما قال ابن زيد، وغير متوجه لمحدثي البدعة كما قال الضحاك، بل متوجه إلى خُلفهم كما قال عطاء، ثم قال: ومن خلال هذا التحقيق يتبين لنا خطأ ما ذهب إليه الإمام ابن كثير رحمه الله حيث قال في تفسيره: وقوله تعالى: " إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ " أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل ... ) الجواب عن كلامه من وجوه: الأول – أن محصل ما ذكره من ابتداعهم للرهبانية، وأن الله لم يذمهم على هذا الابتداع يدل على أن الحجة هنا في الإقرار وليس في الابتداع، وسوف يأتي نظيره من أفعال الصحابة رضي الله عنهم. وإنكاره على الحافظ ابن كثير أن يكون الإنكار من الله عزوجل على الابتداع يؤيد أن الحجة عنده في الإقرار وليس في الابتداع.

الثاني – فإن كان كذلك فقد انقطع السبيل عليه في الاحتجاج بهذه الآية على جواز البدع الحسنة؛ لأنه قد انقطع وحي التشريع بموت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الشرع لم يعد بحاجة إلى زيادة؛ لأن الله أتمه وأكمله، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يقربنا من الجنة إلا وقد أمرنا به، ولم يدع أمراً يقربنا من النار إلا وقد نهانا عنه صلى الله عليه وسلم. الثالث – أن هذا ليس من شرعنا وقد وردت عدة أحاديث من طريق ضعيفة تدل على أنه لا رهبانية في الإسلام، وأن رهبانيتنا في الجهاد، ويشهد لهذا المعنى إنكار النبي على عثمان بن مظعون الاختصاء، وعلى الثلاثة الذين تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم. ثم أردف معترضا على الوجه الثالث فقال: (نقل ابن العربي أن معنى الرهبانية في الآية يدل على ثلاثة معان: 1 - رفض النساء. 2 - اتخاذ الصوامع للعزلة. 3 - سياحتهم في الأرض. والمنسوخ في ديننا هو المعنى الأول، أما الثاني والثالث فمستحب عند فساد الزمان لما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن" وهذا الحديث يفيد الإقرار بالعمل بهذه الآية في المعنيين الأخيرين، ويكون منزلته هنا من القرآن البيان والتوضيح: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وانعقد الإجماع على أننا مكلفون بما علمنا من شريعتنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وأمرنا في شريعتنا بمثله). والجواب عن اعتراضه من وجوه: الأول – أن هذا عند فساد الزمان في آخره ولم يأت ذلك بعد، فالاستدلال به في غير زمنه استدلال به في غير محله، فلا حجة له في تعميم القول به. الثاني – قوله: (وانعقد الإجماع على أننا مكلفون بما علمنا من شريعتنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وأمرنا في شريعتنا بمثله) فهو مترتب على الوجه السابق فإن بطل كونه شرعا عاما في شرعنا فلا يكون من شرعنا بإطلاق، فبقي أنه من شرع من قبلنا، وقد نهينا عنه في شرعنا فظهر أنه ليس من شرعنا.

الثالث – أن تسمية ما جاء فيه الترخيص في آخر الزمان من البعد عن الفتن رهبانية مخالف لمقصود الشرع بل هو فرار بدينه. ويوضحه: الرابع – أن الرهبانية تشمل المعاني الثلاث، وإقرار الله عزوجل لهم يشمل جميع معانيها فالاستدلال ببعض معانيها في شرعنا دون البعض تحكم بلا دليل، وكان الأولى أن يقول أن هذا ليس من شرعنا، وقد جاء في شرعنا النهي عن الرهبانية والتبتل والاختصاء فليس من شرعنا، وقد رخص الشارع عند فساد الزمان في البعد عن الفتن. فظهر بهذا أنه لا حجة في الآية على القول بالبدع الحسنة، وأنها لا تصلح لتخصيص عموم أدلة الذم عن البدع. ثانيا – حديث: (من أحدث ... ). قال عيسى الحميري في "البدعة الحسنة" (ص/105) (¬1): (وأما حديث: "كل بدعة ضلالة" فهو عام مخصوص خصصه الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فلو كانت كل بدعة ضلالة بلا استثناء ولا تخصيص لقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو رد ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". فأفاد صلى الله عليه وسلم بقوله هذا أن من أحدث في أمر الدين ما هو منه فليس برد، وهذا تقسيم صريح للبدعة إلى حسنة وسيئة. وفي رواية للبغوي: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية لمسلم: "من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد". وأفاد هذا الحديث برواياته ما يلي: أ- جواز إحداث البدعة الحسنة إذا كانت موافقة لأصل من أصول الدين. ب- عدم جواز إحداث البدعة إذا كانت مخالفة لأصل الشرع، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرنا"، و "ديننا"، فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة "أمرنا" و "ديننا" كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق. ¬

_ (¬1) وانظر: "إتقان الصنعة" (ص/18).

ج- يؤخذ من الحديث جواز فعل وإحداث أمور لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشترط في كل فعل أن يكون موجوداً في عهد السلف). والجواب من وجوه: الأول – إن قصد بالحدث الذي يُلحق بالدين والموافق لأصول الشريعة: المصالح المرسلة التي تكون في الوسائل بالشروط سالفة الذكر فنعم، وإن قصد الحدث التعبدي فهذا لا يكون موافقا أبدا لقواعد الدين لمنافاته لكمال الشريعة وتمام الدين وسوف يتجه النقض لهذا المعنى الثاني؛ لأنه مقصوده. ويوضحه: الثاني – قوله: (قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرنا"، و "ديننا"، فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة "أمرنا" و "ديننا" كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق) صريح في أنه يرى شمول الحدث المذموم والمحمود للعادات والعبادات، وأنه يريد أن يحمل الحديث على ذلك، ويرده ما رواه أحمد، وأصله في مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلي" وما سقته من أحاديث وآثار في قاعدة "الأصل في العبادات المنع والتوقيف" فكل هذا يؤيد أن الأصل في العبادات التوقف، وأن كل ما أحدث بقصد التعبد فهو مذموم، وإنما الحدث المحمود ما كان متعلقا بأمور الدنيا. الثالث - أن هذا استدل منه بمحل النزاع فقد بنى كلامه على صحة تقسيمه للبدع لقسمين: محمودة، ومذمومة، وللمخالف أن يعارضه ويتمسك بعموم الذم لجميع المحدثات في الدين. الرابع – أن المفهوم الذي خصص به عموم الحديث معطل؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ليس منه) جاء موافقا للواقع، وهذا من موانع اعتبار مفهوم المخالفة. قال الشيخ الشنقيطي في "المذكرة" (ص/289)، وهو يتكلم عن موانع اعتبار مفهوم المخالفة: (تخصيصه بالذكر لموافقة الواقع كقوله تعالى: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ)) الآية. فإنها نزلت في قوم والوا اليهود من دون المؤمنون فجاءت الآية ناهية عن الحالة الواقعة من غير قصد التخصيص بها). ويوضحه: الخامس – معنى الحديث لا يعارض حديث "كل بدعة ضلالة" بل يوافقه، فالمقصود بيان أن كل محدث ليس من الدين، والمفهوم الذي استدل به معطل، بقرينة ما ورد في

بعض طرق الحديث عند إسحاق بن راهويه: " من عمل بغير عملنا فهو رد "، وعند الدارقطني: "كل أمر لم يكن عليه أمرنا فهو رد". ثالثا - حديث الصدقة: - روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". قال الحميري (ص/103): (معنى "سن سنة حسنة" أي اخترع طريقة أو أمراً في الدين موافقاً للشرع، ومعنى " من سن سنة سيئة" أي من اخترع أمراً في الدين مخالفاً للشرع. ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحدثه الصحابة واخترعوه بأنه "سنة" فقال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" فإحداث الصحابة أمراً ليس إلا صورة عما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة ما أحدثه الصحابة هو اختراع في الدين، ولكن لما كان موافقاً للشرع كان حسناً ... فسنة الصحابة سنة قياسية، إذن هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من جاء بعد الصحابة من العلماء الربانيين سنتهم الموافقة للشرع سنة قياسية، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذوا الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " من سن سنة حسنة" وحصر اختراع السنة في السلف جمود ظاهر تأباه النصوص، فكل سنة قياسية هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الغماري "إتقان الصنعة" (ص/15): (سن سنة أو استنانها أي إنشاؤها باجتهاد واستنباط من قواعد الشرع أو عمومات نصوصه. وهذا معنى ما أفادته الأحاديث المذكورة بعبارة: "من سن سنةً حسنة" أي من أنشأ سنة حسنة مستندا في ابتداع ذاتها إلى دلائل الشرع كان له أجرها. ومن سن سنة سيئة أي ابتدع سنة مخالفة للشرع، واستند في ابتداعها إلى ما لا تقره الشريعة، كان عليه إثمها ... ) الجواب من وجوه: الأول – قال الشيخ الغامدي في " حقيقة البدعة" (ص/394): (قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن سنة حسنة)) الحديث - ليس المراد به الاختراع ألبتة، وإلا لزم من

ذلك التعارض بين الأدلة القطعية وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك لوجهين: (أحدهما): أن سبب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من سن سنة حسنة " حادثة القوم الحفاة العراة الذين لما رآهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب في الناس، وحث على الصدقة عليهم، فأبطأ الناس حتى كره ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم جاء رجل من الأنصار بصّرةٍ من مال فوضعها، ثم تتابع الناس فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من سن سنة حسنة .. " الحديث. فدلت هذه القصة على السنة المقصودة في هذا الحديث وهي العمل بما ثبت كونه مشروعاً، والسنة التي سنّها الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ هي: مبادرته إلى الصدقة التي حضّ عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن هذا السبب لورود الحديث، يتبين أن المراد به عمل ما هو مشروع، وليس إحداث ما ليس مشروعاً، ثم تسميته سنة حسنة كما فهم المبتدع (¬1). 2 - أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة " لا يمكن حمله على الاختراع والأحداث والابتداء عن غير أصل مشروع معتبر، لأن كون العمل حسناً أو سيئاً قبيحاً لا يُعرف إلا من جهة الشرع ... نعم، يدرك العقل حسن الشيء وقبحه، فيما هو متعلق بالمدح والثواب والذم والعقاب، ولكنه لا يستلزم حكماً في فعل العبد، بل يجعل الفعل صالحاً لاستحقاق الأمر والنهي من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقلُ حسنَه، ولكن إدراك العقل حسن الشيء، لا يلزم منه حكماً بالوجوب أو الاستحباب، بل الحكم من خطاب الشارع، فلو لم يرسل الله رسولاً، لم يكن هناك أمر ولا نهي ولا عقاب، ولا أدرك العقل مصلحةَ أو مفسدةَ الفعل، ومن هنا يقال: بأن حسن الشيء وقبحه وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، يأتي كل ذلك من قبل الشرع والعقل يدرك الحسن والقبح، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي هو وسط في هذا الباب، بين المعتزلة الذين يقولون بأن الحسن والقبح عقلي لا يتوقف معرفته ¬

_ (¬1) ويؤيده ما قاله الشيخ عبد القيوم السحيباني في "اللمع" (ص/17): (أن معنى ((من سن))، أي من أحيا سنة كانت موجودة، فعدمت، فأحياها، وعلى هذا، فيكون "السن" إضافياً نسبياً لمن أحيا سنة بعد أن تركت، ويدل له حديث: ((من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من اْوزار من عمل بها شيئاً).

وأخذه عن الدليل السمعي، والأشاعرة الذين قالوا بأن العقل لا يدرك حسن الشيء ولا قبحه مطلقاً، وإنما الحسن ما حسّنه الشرع، والقبح ما قبّحه الشرع. ومذهب أهل السنة هو الوسط الذي قال بإدراك العقل حسن الشيء وقبحه، ولكن بدون أن يكون مستلزماً لأمرٍ أو نهي أو ثواب أو عقاب، لأن ذلك من خصائص الشارع الحكيم ... ومن هنا نقول بأن استحسان العقل أو الذوق لفعل من الأفعال لا يكون مبرراً لإٌحداثه واعتباره سنة حسنة، لأنه لو اعتبر ذلك، من غير نظر إلى حكم الشارع لا نفرط عقد الشريعة، ولقال كل من شاء ما شاء، ولفعل كل إنسان ما أملاه عليه عقله أو ذوقه، فإذا عُلم ـ مع ما سبق ـ مقدار تنوع عقول الناس وأفهامهم وأذواقهم، عُرف كم في حشايا القول باستحسان البدع من خطرٍ على الدين، وافتئات على الله وشرعه القويم الكامل، الذي قال فيه جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}) (¬1). الثاني – قال الشيخ عبد القيوم السحيباني في "اللمع" (ص/17): (أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من سن))، ولم يقل ((من ابتدع)). وقال: ((في الاسلام)). والبدع ليست من الإسلام، وقال: ((حسنة))، والبدعة ليست بحسنة. ولا يخفى الفرق بين السنة والبدعة، فإن السنة هي الطريق المتبع، والبدعة هي الإحداث في الدين (¬2). وقال أبو معاذ السلفي في "البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين": (لا يمكن أن يكون معنى: «من سن في الإسلام سنةً حسنة ً» أي من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة لأن بهذا يكون معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ٍضلالة» «كل سنة ضلالة». فمن جعل هذا هو معنى ذاك فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه) (¬3). الثالث (¬4) - لم ينقل عن أحد من السلف أنه فسَّر السنة الحسنة، بالبدعة التي يحدثها الناس من عند أنفسهم. ¬

_ (¬1) وانظر الاعتصام (1/ 227)، وما بعدها. (¬2) وانظر: "أقوم السنن في نقض تقسيم البدع إلى سيئ وحسن" (ص/54)، و"تحذير المسلمين" (ص/67 - 86)، "موقف أهل السنة والجماعة من أهل البدع والأهواء" (ص/114). (¬3) «موسوعة أهل السنة» للشيخ عبدالرحمن دمشقية حفظه الله (1/ 340) بتصرف. (¬4) انظر اللمع (ص/17)، والبدعة وأثرها السيئ للشيخ الهلالي (ص/75).

الرابع – قال الشيخ عبد الرحمن دمشقية في "موسوعة أهل السنة" (1/ 338): (ولو كان هذا الذي يفهمه الناس هو الفهم الصحيح للحديث لصار في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " فمن رغب عن سنتي فليس مني " تناقضاً واضحاً وتحريضاً على الإعراض عن السنة، وثناءً منه على من رغب عن سنته. فبينما يقول " عليكم بسنتي " داعياً إلى التمسك بها والعض عليها بالنواجذ والقبض عليها كالقبض على الجمر يدعونا هنا إلى الأخذ بأي سنة يسنها من شاء من المسلمين لا بالتقيد بسنته - صلى الله عليه وسلم - وحده!). ومما سبق يتبين أنه لا حجة لهم في الاستدلال بهذا الحديث وأنه حجة عليهم لا لهم، قال الشيخ أحمد عبدالكريم نجيب في "أقوم السنن" (ص/54): (فالحديث المذكور لو تأملناه لوجدناه دليلا على محاربة البدع لا استحسانها؛ لأن شطره الأول محمول بحكم مناسبته على إحداث السنن، أي الإتيان بالسنن النبوية لا ابتداع البدع والمحدثات، فلا دليل فيه - أصلا – على استحسان البدع، وأما شطره الثاني فهو باق على عمومه وإطلاقه في ذم من أحدث سنة سيئة أو تمسك بها، واتبعه الناس في ذلك وهو باق على دلالته لا معارض له ... وعليه فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع لم يعهد العمل بين الناس لتركهم السنن، ففي عصرنا الحاضر لو أن إنساناً أحيا سنة مهجورة يقال: أتى بسنة حسنة، ولا يقال أتى ببدعة حسنة، إذن فالسنة الحسنة هي ما كان أصله مشروعاً بنص صحيح وترك الناس العمل به ثم جاء من يجدده بين الناس) (¬1) الخامس – قال الشيخ أحمد العدوي في "أصول في البدع والسنن" (ص/113): (إذا صرف النظر عن سبب الحديث يصح أن يراد منه الاختراع في أمور الدنيا والتفنن فيها اختراعا يلتئم مع أصول الدين ومقاصده، كاختراع الملاجئ والمستشفيات، وتشييد دور العلم والطرق المسهلة لرقي الصناعة والتعليم، ونشر الفضيلة وإماتة الرذيلة، فكل هذه المخترعات سنن حسنة يثاب عليها صاحبها ويكتب له مثل ثواب من عمل بها إلى يوم القيامة، فإن شئت فهمت في الحديث الحث على إحياء السنة الدينية التي ورد بها الدين، وشرعها الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم –، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الفقير، والنصيحة لكل مسلم، والحب في الله والبعض في الله، والرضا بالقضاء والقدر، والتعاون على البر، وان تحب لأخيك ما تحب لنفسك ¬

_ (¬1) انظر البدعة للشيخ سليم الهلالي (ص/73).

وتكره له ما تكره لها، إلى غير ذلك من الأعمال التي يدعو إليها الدين، ويحث على إحيائها، وإن شئت فهمت في الحديث الحث على التفكير في الأمور الكونية التي ترقى الشعوب برقيها، وتتقدم الأمة بتقدمها في علومها وأخلاقها ودينها، وقد أريناك مما تقدم أن الدين إنما ينهاك عن الاختراع في أمر حدده الشارع ورسمه على وجه مخصوص كالصلاة والوضوء والصوم والحج ... ويبيح لك ما يمكنك من أنواع الاختراع في الأمور المعاشية والاجتماعية والعمرانية بشرط المحافظة على الأصول العامة وأن يكون هذا الاختراع أساسه درء المفاسد وجلب المصالح وإقامة العدل وإماطة الظلم ورد المظالم إلى ذويها، إلى غير ذلك من الأصول التي أسلفناها لك غير مرة). السادس – وأما تسويته بين الصحابة وسنة الخلفاء الراشدين، وغيرهم ممن هو دونهم فمخالف للأصول العامة للشريعة وقد سبق بيان حجية قول الصحابة وحث النبي - صلى الله عليه وسلم – على إتباع سنة الخلفاء الراشدين، وتحذريه مما أحدثه من جاء بعدهم .. وسوف يأتي بإذن الله الكلام على أفعال الصحابة وسوف نعرض صورا من إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم – على بعض الصحابة مما يؤيد أن أقوالهم وأفعالهم وإن كانت حجة إلا أنها لا يصح أن تعارض سنة النبي - صلى الله عليه وسلم –. رابعا – أفعال الصحابة: استدل الغماري وغيره بما ورد عن بعض الصحابة من اجتهادات في العبادة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على اجتهاداتهم، ومن ذلك: - ما رواه أحمد وأبو داود عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: وكانوا يأتون الصلاة، وقد سبقهم ببعضها النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكان الرجل يشير إلى الرجل إذا جاء كم صلى؟ فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليها، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال: فثبت معه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا» الحديث. - وما رواه البخاري وغيره عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه، قال: " كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن

حمده "، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف، قال: «من المتكلم» قال: أنا، قال: «رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول». - وما رواه أحمد وغيره من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: «بم سبقتني إلى الجنة؟ ‍» قال: ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بهذا». وتتبع هذا يطول. قال الغماري في "إتقان الصنعة" (ص/24): "وهذا يدل على جواز إحداث أمر في العبادة أو غيرها إذا كان موافقا لأدلة الشرع". الجواب من وجوه: الأول – أن ما نقل عن الصحابة من أفعال لا يعدو حالتين، إما أن يكون في حياة النبي، أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وحجية أفعالهم إنما هي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقد سبق التدليل على ذلك وبيان ضوابطه، وأما في حياته فلا تعدو أقوالهم وأفعالهم أن تكون اجتهادات منهم قد يقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو لا. قال عيسى الحميري في "البدعة الحسنة" (ص/88): (القول بحجية فتوى الصحابي هو القول الراجح في العمل عند جمهور علماء المسلمين من المجتهدين ومن تبعهم بشرط أن لا يصطدم بنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلموا به). فإن قالوا: ولم كانوا يبتدرون الفعل أحيانا قبل أن يقفوا على إقرار النبي وقبل سؤاله صلى الله عليه وسلم. قلنا: إن كان المجتهد له أن يعمل باجتهاده إلى أن يتبين له أن خطأ فيرجع عنه وينقضه، فالصحابة أولى بالجواز منهم. أضف إلى ما سبق ذكره من أن الصحابة لا يصح أن تنسب البدعة لأفعالهم ولا أقوالهم. الثاني – لا يصح قياس أفعال وأقوال الصحابة على أقوال وأفعال غيرهم من الأمة؛ لإمكان الرفع فيها دون غيرها لمعايشتهم الوحي والتنزيل ونيلهم شرف الصحبة دون باقي الأمة، فوقف الأمر عندهم ولم يصح تعديته إلى غيرهم. الثالث – الحجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم فليس لأحد أن يعارض قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعادت جميع الوجوه إلى الوحي، وخرج من جاء بعد انقطاعه عن دائرة الاستدلال.

قال الشوكاني في "القول المفيد" (ص/31): "ولا يخفى عليك أن فعل معاذ هذا إنما صار سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بمجرد فعله فهو إنما كان السبب بثبوت السنة ولم تكن تلك سنة إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لا يخفى). الرابع – ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على بعض الصحابة رضي الله عنهم أمورا اجتهدوا فيها وما أرادوا بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ومن ذلك: أ- إنكاره على الثلاثة الذين تقالوا عبادته، وقال: "من رغب عن سنتي فليس مني". ب- ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد». ج- ما رواه البخاري عن ابن عباس، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه». د- ما رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما بسند جوده الأرناؤوط عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قدم معاذ اليمن، أو قال: الشام، فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها، فروى في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم، فلما قدم، قال: يا رسول الله، رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها، فروأت في نفسي أنك أحق أن تعظم، فقال: «لو كنت آمر أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ... " الحديث. هـ - ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس، سمع عمر رضي الله عنه، يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله، ورسوله». و- ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة فاجعلهن آخر ما تقول " فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت. قال: لا، «وبنبيك الذي أرسلت».

وتتبع هذا يطول. تعقيب: قال الحميري في "البدعة الحسنة" (ص/54) بعد أن ذكر صورا من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض اجتهادات الصحابة وصورا لما أنكره من اجتهاداتهم: (فإن قال قائل: إن ذلك جائز في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيعلمه إما بإخبارهم أو بوحي من الله تعالى، فإن كان هدى أقره، وإن كان ضلالة رده، أما بعد حياته صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي فذلك غير جائز. قلنا: إن من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أحدث أشياء ليس له فيها نص بعينها، وهو يعلم أنه لن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد لينظر فيما فعل أهو سنة حسنة أم بدعة ضلالة، ومن ذلك صلاة سيدنا خُبَيْب بن عدي رضي الله عنه ركعتين قبل أن يقتل حيث جاء في حديث البخاري: فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً. قال الدكتور محمود عبود هرموش في كتابه (البدعة وأثرها في اختلاف الأمة): "وفي هذا تصريح واضح بأن خبيباً اجتهد في توقيت العبادة ولم يسبق من الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر ولا فعل، وهو علم أنه سيموت قبل أن يعرض عمله هذا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقدم على هذا العمل وهو يعلم أنه لن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أراد أحد إيقاع الصلاة في غير أوقات الكراهة التي نهى الشارع عن إيقاع الصلاة فيها، فإن هذا الفعل يكون من قبيل السنة الحسنة، وأما من يوقعها في أوقات النهي فإن فعله يكون من قبيل البدعة المذمومة لكونها وقعت مخالفة لهديه وسنته صلى الله عليه وسلم. انتهى. أقول: فهل مات سيدنا خبيب ضالاً مبتدعاً بإحداثه هاتين الركعتين قبل أن يعلم بأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره عليهما؟!! حاشا وكلا، بل هو المؤمن الصالح والشهيد الكريم الذي رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه فقال: "وعليك السلام يا خبيب قتلته قريش" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى وانقطع الوحي، فإن نصوص القرآن والسنة ما زالت موجودة محفوظة ولله الحمد، وما زالت قواعد الشرع الحنيف ومقاصده قائمة معلومة يعرض عليها كل محدث وجديد، فإن قبل في ميزانها كان بدعة حسنة، وإلا فهو بدعة ضلالة نبرأ إلى الله منها، ولسنا

ندعي حسن البدعة دون ضوابط وقواعد وعرض على الكتاب والسنة، بل لذلك شروط وقواعد لابد منها سنعرض لها إن شاء الله تعالى في خاتمة بحثنا ". الجواب عن هذا التعقيب: والجواب من وجوه: الأول – المثال الذي أتي به لا يساعده على تعقبه فكان الأولى به أن يأتي بمثال فعل فيه الصحابي فعلا في حياة النبي ولم ينقل أن النبي أقره عليه ولا أن الوحي أخبره بفعله ثم ينتشر فعل هذا الصحابي ويصبح سنة، وسوف يأتي ما يدل على إقرار النبي له فصار هذا المثال كغيره من الأمثلة السابقة. الثاني – قوله: (فلو أراد أحد إيقاع الصلاة في غير أوقات الكراهة التي نهى الشارع عن إيقاع الصلاة فيها، فإن هذا الفعل يكون من قبيل السنة الحسنة) فيه تسوية بين الصحابة وغيرهم وقد سبق بيان حجية قول الصحابة دون غيرهم ممن أتي بعدهم. الثالث – يحتمل أن يكون خبيب رضي الله عنه قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم نصا خاصا في هذه المسألة. الرابع – قال الحميري في "البدعة الحسنة" (ص/87): (ما كان يعمله الصحابي والوحي ينزل، فهو سنة تقريرية، وما يعمله الصحابي بعد انقطاع الوحي فهو بدعة شرعية حسنة) مع قوله بأن قول الصحابي حجة يدل على أنه يرى أن حجية قول الصحابي إنما تكون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته صلى الله عليه وسلم فالحجة في إقراره، ويدل على صحة ذلك أمور منها: 1 - أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم زمن الوحي قابلة للنسخ. 2 - أن ذلك له أصل وهو الإجماع فهو حجة ولا يعتبر إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. ويستفد من ذلك أن فعل هذا الصحابي يدور بين أمرين إما أنه معه سنة خاصة وأكدها النبي بالإقرار بعد ذلك، وإما إن لم يكن معه سنة خاصة فلا يعدو فعله كغيره ممن اجتهد في حياة النبي أن يقبل، أو يرد. وأما كونه أصبح سنة عند القتل فهذا ليس لفعل الصحابي بل لإقرار النبي له، فلو أنه صلى الله عليه وسلم أنكر فعله عند بلوغه لما اجترئ أحد على فعله ولصار محرما. وسيدنا خبيب عندما صلى الركعتين لم يكن مقصوده أن يقتدي به أحد من الناس بل لعله أراد الدخول في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن عثمان

رضي الله عنه مرفوعا: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه»، وخاصة أن هذا الوقت وقت وداع للدنيا فهو مظنة الإخلاص وعدم تحديث النفس. – ومما يدل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك ... فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، «فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم، وما أصيبوا). قال الشيخ أبو معاذ السلفي في "البراهين": (وكل هذا يدل على أن ما أحدثه بعض الصحابة من أمور تعبدية أصبح سنة بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لا بمجرد فعل الصحابة. وقد قال عبد الفتاح أبو غده (¬1) بعد ذكره لقصة خبيب بن عدي رضي الله عنه: (قال العلامة القسطلاني في «إرشاد الساري» (5/ 165): «وإنما صار فعل خبيب سنةً، لأنه فعل ذلك في حياة الشارع صلى الله عليه وسلم واستحسنه». وقال أيضاً (5/ 261): «وإنما صار ذلك سنةً، لأنه فعل في حياته صلى الله عليه وسلم فاستحسنه واقره». وقال أيضاً (6/ 314): «واستشكل قوله: «أول من سن»،إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته صلى الله عليه وسلم واستحسنهما» انتهى كلام القسطلاني. - ثم قال أبو غدة -: وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه: «أن لفظ (السنة) ولفظَ (سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ «سن»، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ «سن» بلا ريب وهو إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لفعله). ¬

_ (¬1) وهو رجل له مخالفات عديدة متعلقة بالعقيدة والفقه وقد بين شيء من حاله الشيخ الألباني في «كشف النقاب عما في كلمات أبي غدة من الأباطيل والافتراءات» وفي مقدمته لـ «شرح العقيدة الطحاوية»، وممن بين حاله كذلك الشيخ بكر أبو زيد في «براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة» وقد كتب الشيخ عبدالعزيز بن باز، مقدمة قوية لكتاب الشيخ بكر أبو زيد، وقد نقلت عنه هنا إقامة للحجة على أتباعه الذين يقعون في كثير من البدع بحجة أن الصحابة أحدثوا أموراُ لما يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم!!.

الخامس – قوله: (ثم إن رسول الله صلى «الله عليه وسلم إذا كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى وانقطع الوحي، فإن نصوص القرآن والسنة ما زالت موجودة محفوظة ولله الحمد، وما زالت قواعد الشرع الحنيف ومقاصده قائمة معلومة يعرض عليها كل محدث وجديد، فإن قبل في ميزانها كان بدعة حسنة، وإلا فهو بدعة ضلالة نبرأ إلى الله منها) وهذا الحدث الموافق لقواعد الشرع لا يخلو من أن يكون إما في العادات والمعاملات، أو في العبادات، والأول سبق وأن ذكرنا أمه من قبيل المصالح المرسلة بضوابطه الشرعية، وأما الثاني فإنما هو منه من قبيل الاستدلال بمحل النزاع فلا يقبل منه بل الراجح أن نرده للعلل سالفة الذكر والتي تبين مناقضة البدعة للشريعة وكمالها، كما أن الأصل في العبادات التوقف والمنع، ولا يلزم أن يأتي الشرع موافقا لما يستحسنه العقل وقد سبق الكلام على ذلك. السادس – قوله: (ولسنا ندعي حسن البدعة دون ضوابط وقواعد وعرض على الكتاب والسنة، بل لذلك شروط وقواعد لابد منها سنعرض لها إن شاء الله تعالى في خاتمة بحثنا). يشير إلى قوله في "البدعة الحسنة" (ص/114): (أهم الضوابط والشروط التي ينبغي أن تتوفر في البدعة حتى تكون حسنة، وذلك مما فهمناه من تدبرنا في الآثار وأقوال العلماء ونصوصهم في هذه القضية. الشرط الأول: أن تكون البدعة في أمر من أمور الدين التعبدية، لا في العادات والأمور المعاشية التي لا تعبد فيها، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وقد سبق أن قلنا: إن مفهوم هذا الحديث: من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه فهو مقبول غير مردود. وشاهدنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم "في أمرنا هذا"، وفي الرواية الأخرى "في ديننا"، وذلك يعني أن الإحداث في غير الدين من العادات ومما لا تعبد فيه لا يوصف في اصطلاح الشرع بكونه بدعة هدى أو بدعة ضلالة، فإن أحداً من العقلاء لا يقول مثلاً: إن ما أحدث بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركوب الطائرات والسيارات وغيرها من البدع، سواء في ذلك الحسنة والقبيحة ... الشرط الثاني:

أن تكون مندرجة تحت أصل من أصول الشريعة، أو داخلة تحت شيء من مقاصدها، أو أمر عام من أوامرها، وهذا الشرط مما تكاد تجمع كلمة كل عالم أثبت البدعة الحسنة على اشتراطه، وقد رأينا ذلك في ما سقناه من كلامهم. مثاله: ما يقيمه المسلمون من الموالد، فإن المولد في حقيقته ليس إلا اجتماعاً على ذكر لله ومدح وثناء وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءة لقصة مولده الشريف، وكل ذلك يندرج تحت أصول عامة في الشريعة، من طلب الإكثار من ذكر الله، والحث على الصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحض على العلم الذي يندرج تحته قراءة قصة مولده الشريف، وأما مدحه والثناء عليه فمما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المادحين له من الشعراء وغيرهم في عهده صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على أحد. فهو من البدع الحسنة لذلك ما في ذلك شك ولا ريب. الشرط الثالث: أن لا تصادم البدعة نصاً من نصوص الشريعة، ولا يكون في فعلها إلغاء لسنة من سنن الدين. نلمح هذا الشرط جلياً في كلام الإمام الغزالي رحمه الله، وذلك في قوله: إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها. انتهى. مثال ذلك: مسألة السبحة، فإنها في رأينا من البدع الحسنة، وذلك أنا أمرنا بتسبيح الله مئة مرة مثلاً، وضبط العدد شيء يحتاج إلى آله تضبط، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلمنا كيف نضبطه ولم يحدد لنا آلة لذلك، إذن فأي شيء يضبطه لنا فهو مستحب، فإن القاعدة الشرعية معلومة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فكذلك ينبغي أن يكون ما لا يتم المطلوب الشرعي إلا به فهو مطلوب شرعاً، فمن أراد أن يذكر بهذا العدد يستحب له أن يتخذ شيئاً يضبط به العدد المأمور به، سواء كان ذلك سبحة أو حصى أو عقداً في خيط أو غير ذلك. فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم سبح على عقد أصابعه بعد الصلاة، ورغب فيه، وورد أيضاً تقريره على التسبيح بالنوى في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة، وبين يديها نوى أو حصى تسبح، فقال: أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ قولي: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا قوة إلا بالله

مثل ذلك وثبت أنه كان لأبي الدرداء وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي صفية نوى أو حصى يسبحون بها. فإذا علمنا ذلك، علمنا أن من يلزم الناس بضبط عدد الذكر بعقد الأصابع ويبدع مرتكب غير ما أمر به، متحكم مصادم لسنة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها، أو فعلها بعض أصحابه الكرام وهم أكثر الناس حرصاً على متابعته صلى الله عليه وسلم والتأسي به، فكان في ذلك مبتدعاً لأنه أفضى إلى تغيير سنة ثابتة. والله أعلم. الشرط الرابع: كما يشترط في البدعة الحسنة أن يراها المسلمون أمراً حسناً، بعد أن لا يكون فيها مخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع. وهذا الشرط ذكره الإمام العيني في معرض كلامه عن البدعة الحسنة فقال: وهي ما رآه المسلمون حسناً، ولا يكون مخالفاً للكتاب والسنة والإجماع. انتهى. ثم مثل لذلك بأذان عثمان، وتحديد ركعات التراويح في رمضان بعشرين ركعة). الجواب من وجوه: الأول – وأما ما ذكره في الشرط الأول من تخصيص البدعة في العبادات دون العادات والأمور المعاشية التي لا تعبد فيها يرده قوله والذي نقلته آنفا حيث قال (ص/105): (عدم جواز إحداث البدعة إذا كانت مخالفة لأصل الشرع، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرنا"، و "ديننا"، فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة "أمرنا" و "ديننا" كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق). الثاني – قوله: (فإن أحداً من العقلاء لا يقول مثلاً: إن ما أحدث بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركوب الطائرات والسيارات وغيرها من البدع) يدخل فيه هو رأسا بنص كلامه السابق، كما أن هذا النفي يدل على عدم علمه بخلاف العلماء وقد عرض الشاطبي طريقتين للعلماء في تعريف البدعة وذكر منهما من يقول بشمول البدعة للعادات والعبادات، وقد سبق ذكر ذلك سابقا فليراجع. كما أن هذا النفي يدل على هذا يشمل عدم دخول العادات بوجه في البدع مع أن لها مدخل وهي من جهة ما قد يلحق بها من شائبة تعبد فكان عليه أن يستثني ذلك.

الثالث – حصره البدعة في الأمور التعبدية مع فتحه الباب للاستدراك على الشرع بحجة عدم مخالفة النصوص وشهود القواعد العامة للشريعة للعبادات المخترعة تناقض ومخالفة لعموم أدلة ذم البدع وتخصيص لها بلا مخصص كما سبق وسيأتي بإذن الله تعالى. الرابع – وأما ما ذكره في الشرط الثاني من اندراج البدعة الحسنة تحت أصل من أصول الشريعة أو أمر عام ونحو ذلك فقد سبق تأصيل قاعدة: " لا يجوز إثبات نوع من العبادات لدخوله تحت الدليل العام فقط، بل لا بد من دليل خاص"، ويدخل في الدليل الخاص فهم وقول وعمل الصحابة - رضي الله عنهم – فالعمل بالأدلة الشرعية لابد وأن يكون مقيداً بعمل السلف الصالح بها. وأما ما مثل لذلك ببدعة الاحتفال بالموالد فإنه يحتاج لمجلد للرد عليه لبيان ما يقع فيه من شرك ومعاص ومنكرات تخالف الشريعة هذا على فرض كونه من الوسائل فقط، وأما أن كان وسيلة ومقصد يتقربون به لله عزوجل فإن محور الرد يعود للشرط الأول وكما سبق بيان فساده. الخامس – وأما قوله في الشرط الثالث: (أن لا تصادم البدعة نصاً من نصوص الشريعة، ولا يكون في فعلها إلغاء لسنة من سنن الدين) فهو شرط طردي في كل البدع؛ لأن جميعها يكون مصادما ومناقضا للدين، ونطبق ذلك على المثال الذي جاء به لتطبيق هذا الشرط عليه وهو السبحة. وكلامه غير متزن في الاستدلال لها: فتارة يجعلها من الوسائل وأنها مما لا يتم المشروع إلا به فتكون مشروعة. وتارة يجعلها سنة تقريرية أقر النبي صبى الله عليه وسلم امرأة وفي بعض الروايات أنها صفية رضي الله عنها، وان الصحابة كانوا يسبحون بالنوى والحصى. وكل ما ذكر من أحاديث وآثار في التسبيح على النوى والحصى لا يثبت وقد توسع الشيخ الألباني في "الضعيفة" لبيان عللها. إلا أن العجيب أنه يستدل مع اعترافه بأنها من السنن التقريرية على كونها بدعة حسنة، وأن من ينكر على من يستعملها هو المبتدع؛ لأنه مصادم للسنة الثابتة على حد قوله. والمثال على تقريره السابق لا يساعده؛ لأنه لن يكون من البدع الحسنة بل من السنة التقريرية بالإضافة إلى فعل الصحابة لها وهو لا تقع منهم بدعة. ولذلك لا يسلم له هذا المثال على كلا التقديرين:

أما مع ثبوت كونها سنة تقريرية فلا يصح الحكم عليها بأنها بدعة حسنة هذا ليس تأدبا مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما مع ضعف الأحاديث والآثار في التسبيح على النوى يقلب عليه الأمر تطبيقا للشرط الذي ذكره ويقال أنها بدعة؛ لأنها تصادم سنة العقد على الأصابع التي أرشد لها النبي صلى الله عليه وسلم وعلله بأنهن مستنطقات يوم القيامة. السادس – قوله في الشرط الرابع: (أن يراها المسلمون أمراً حسناً، بعد أن لا يكون فيها مخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع) كلامه صريح في أن كلا منهما شرط منفصل عن الآخر مع أن لازم كلامه أن يكونا شرط واحد بمعنى أن كل ما هو غير مخالف للأدلة لا يراه المسلمون إلا حسنا. ويلزم من عدّه لهما كشرطين منفصلين أنه قد يوجد أحدهما دون الآخر وهذا يدخله في لوازم باطلة كأن يرى المسلمون الأمر حسنا مع أنه مخالف للأدلة، وكذا عكسه بأن يكون غير مخالف للأدلة ويراه المسلمون غير حسن، وهذا يفتح باب التشهي في التحسين والذم للبدع. وعلى كل حال فسوف يأتي الجواب عن أثر ابن مسعود رضي الله عنه وبيان أن المقصود منه إما العهد أي الصحابة للاتفاق على حجية أقوالهم وأفعالهم دون غيره، أو يكون مقصود بها الجنس فتكون إجماعا والأمة لا تجتمع على ضلالة، وأما الاستدلال به على تحسين ما يراه دون غيره هو من محدثات فلا يدخل في هذا الشرط على جميع احتمالاته. وأما تمثيله لذلك بأذان عثمان، وتحديد ركعات التراويح في رمضان بعشرين ركعة فسوف يأتي بإذن الله بيان أنهما ليسا من البدع بحال، فالله المستعان. فظهر مما سبق ما في شروطه من نظر وانه لو طبق يعضها لكانت حجة عليه لا له. الخامس (¬1) – قال الشيخ أحمد نجيب في "أقوم السنن" (ص/58): (إن إطلاق القول بأن الصحابة قد ابتدعوا بدعا حسنة، وأنها حسنة مشروعة، واعتبارها بدعة مستحسنة يلزم منه ضلال بعيد، فمن لوازمه أن يقال: إن إبليس أيضا قد ابتدع (أو سن) سنة حسنة حين ارشد إلى قراءة آية الكرسي عند الإيواء إلى الفراش، لتكون حرزا لقارئها من الشيطان حتى يصبح فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وكلني ¬

_ (¬1) من وجوه التعقب على الشبهة الأصلية وليس على التعقيب.

رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ... " فذكر الحديث وإتيان الشيطان له ثلاث مرات وتعليمه له آية الكرسي عند النوم، وقال النبي:"صدقك وهو كذوب". ولا يزال المسلمون يحافظون على قراءة آية الكرسي إذا أوى أحدهم إلى فراشه، فأما أن تكون سنة تقريرية، أو بدعة إبليسية (حسنة!!) فلينظر امرؤ أين يضع قدمه. فلا دلالة إذن للإقرارات النبوية على تحسن المحدثات البدعية؛ لأن الإقرار سنة، والإحداث ابتداع، والسنة والبدعة لا يلتقيان ". خامسا – "نعمت البدعة هي": - روى البخاري في "صحيحه" عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: «إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل» ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. - روى الشيخان عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله ابن عمر جالس إلى حجرة عائشة، والناس يصلون الضحى في المسجد، فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة. - فروى (¬1) سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال: إنها محدثة، وإنها لمن أحسن ما أحدثوا. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج، عن الأعرج، قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى، فقال: بدعة ونعمت البدعة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم، عن أبيه، قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها. وأخرج الطبراني في"الكبير" من طريق سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: صلاة الضحى بدعة. قال الحميري (ص/109): (لا معنى البتة لحمل البدعة هنا على المعنى اللغوي. ومن حمل قول سيدنا عمر وابنه عبدالله: "نعمت البدعة" على البدعة اللغوية فقد أخطأ. ¬

_ (¬1) انظر هامش مسند أحمد بتحقيق الشيخ الأرناؤوط.

وتشديد بعض الناس وإصرارهم على هذا القول يوقع الصحابة الكرام بأمر خطير، وذلك لأن حملهم البدعة هنا على المعنى اللغوي يجعلهم يعدون ما فعله سيدنا عمر ووافقه عليه الصحابة أمراً منكراً وبدعة ضلالة؛ لأن هؤلاء المصرين يجعلون كل بدعة ضلالة، وصلاة الصحابة التراويح جماعة إما أن يكون حسناً في الشرع أو سيئاً، فأما كونه سيئاً، فهو قول أهل البدع، وأما كونه حسناً فهو إجماع الأمة ... ). الجواب من وجهين: الأول – قال الحميري (ص/26) بعد أن ذكر عدة تعاريف للبدعة: "وأستنتج بعد هذا كله وأستخلص من ذلك تعريفاً أراه جامعاً مانعاً يفي بالغرض، فأقول: البدعة الحسنة هي: إظهار صورة مخصوصة لحالة مخصوصة ألحت الدواعي على إبرازها بالقياس الصحيح" وإن كان تعرفه فيه غموض تصان عنه الحدود، إذ أنك لا تستطيع أن تعرف الوقت الذي يعتبر الظهور فيه بدعة هل هو بعد عصر النبي أو بعد عصر الصحابة بإعتبار أن قولهم حجة عنده، أو بعد العصور الثلاثة الفاضلة، كما أن تعريفه فيه إجمال لنوع الصورة والحالة المخصوصتين الذين هما عنده من البدع الحسنة وهل يدخل فيهما العادات والعبادات أم العبادات فقط. لن أتكلم عن كل هذا .. إلا أنه في ضوء كلامه السابق يظهر أن البدعة الحسنة عنده هي عبادة خاصة مخترعة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحاجة أدت إلى ظهورها وهي موافقة للقياس الصحيح والقواعد الشرعية. وعلى ذلك: 1 - فما كان موجودا في عهده صلى الله عليه وسلم فليس ببدعة حسنة بل هو شرع مستقر. 2 - ما دل الدليل على اعتباره بالأصالة وليس بالإلحاق والقياس ولا بالملائمة لقواعد الشرع فليس ببدعة حسنة بل هو سنة مستقرة. لو طبقنا هذا الكلام على الأمثلة التي ذكرها لكانت النتيجة أن صلاة التراويح جماعة وصلاة الضحى ليستا من البدع الحسنة بل هما من السنن الثابتة. ودليل ذلك في صلاة التراويح ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس، فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه

وسلم، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال: «أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها». فالحديث صريح في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم القيام بأصحابه ثلاث ليال وأنه ترك المواظبة خشيت أن تفرض عليهم ويعجزوا عنها. فعلى ذلك لا يصح أن توصف صلاة القيام بأنها بدعة ولذلك فلابد من تأويل قول سيدنا عمر رضي الله عنه، والأقرب أنه لم يرد أصل الصلاة بل أراد المواظبة عليها كل يوم، وحتى على هذا المنحى لا تكون بدعة شرعية؛ لأنها من سنة الخلفاء الراشدين ويدل عليها إجماع الصحابة فهي ليست بمخترعة بل هي مما يدل عليه دليل شرعي. وعلى هذا فلا يصح أن يوصف ما فعله الخليفة الراشد وأجمع عليه الصحابة بدعة شرعية لا محمودة ولا مذمومة، فلقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنتهم سواء أكانت راجعة لسنته صلى الله عليه وسلم أم اجتهادية. إلا أن الظاهر من صنيعه أن ما حدث في عصرهم يسميه بدعة شرعية حسنة، وسوف يأتي مناقشته قريبا بإذن الله في ذلك، وحتى بالفرض جدلا صحة إطلاق بدعة حسنة عليها، فالأمر لا يساعده على تعديتها لغيرها مما لا يدخل تحت دليلها: من دلالة سنة الخلفاء وإجماع الصحابة عليه، فهذه المسألة أقوى وأشد من استدلاله بأفعال الصحابة والتي سبق الرد عليها، وعليه فلا يصح تعدية التسمية لغيرها مما يعتبره هو وأضرابه بدعا حسنة مما ظهر بعد عصر الصحابة أو استحدثه بعض أقطاب ومشايخ التصوف لمريديهم من أذكار ووظائف وأحوال لم يرد بها الشرع. - والأمر أقوى وأشد في صلاة الضحى فهي لا تدخل في تعريفه على أي احتمال وذلك لثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها ووصيته لبعض صحابته بالمواظبة عليها وتقريره لأهل قباء على صلاتها. ومن ذلك: - ما رواه مسلم في "صحيحه" عن عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله». - ما رواه أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى» حسن إسناده الشيخ الألباني، وقواه الشيخ الأرناؤوط.

- ما رواه مسلم في "صحيحه" عن زيد بن أرقم، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون، فقال: «صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال». - وأوصى جماعة من أصحابه رضي الله عنهم بألا يدعو صلاة الضحى ومنهم وصيته لأبي هريرة عند الشيخين، ووصيته لأبي ذر عن أحمد، ولأبي الدرداء عند مسلم، بل وللأمة كلها كما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما فقد ثبت عنه أنه كان يصليها في يومين فروى البخاري عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين: يوم يقدم بمكة، فإنه كان يقدمها ضحى فيطوف بالبيت، ثم يصلي ركعتين خلف المقام، ويوم يأتي مسجد قباء، فإنه كان يأتيه كل سبت، فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكبا وماشيا" وزاد زاد ابن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع، «فيصلي فيه ركعتين» أي النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة رواها البخاري. وإنما أنكرها ابن عمر لأنه يرى أن صلاتها تكون في بعض الحالات وليس دائما ولذلك فقوله عمن صلاها في غير الوقتين الذين ذكرهما أنها بدعة هو اجتهاد منه رضي الله عنه ومن رأي حجة على من لم يرى، وعلى ذلك فلا يصح وصف صلاة الضحى بأنها بدعة لا لغوية ولا شرعية محمودة، أو مذمومة. الثاني – قوله: (حملهم البدعة هنا على المعنى اللغوي يجعلهم يعدون ما فعله سيدنا عمر ووافقه عليه الصحابة أمراً منكراً وبدعة ضلالة؛ لأن هؤلاء المصرين يجعلون كل بدعة ضلالة، وصلاة الصحابة التراويح جماعة إما أن يكون حسناً في الشرع أو سيئاً، فأما كونه سيئاً، فهو قول أهل البدع، وأما كونه حسناً فهو إجماع الأمة). وقوله هذا فيه خلط عظيم إذ أنه فهم أن كل البدع اللغوية مذموم، فسوى بينها وبين البدعة الشرعية، ويمكن قلب الأمر عليه بأن نقول: إن جعل ما فعله عمر بدعة شرعية يخضعها للخلاف ويدخلها عند البعض في عموم البدع المذمومة لأن البدع الشرعية هي المقصودة أصالة بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف البدع اللغوية فهي أعم وأوسع من البدع الشرعية ويقصد بها مجرد الحدث وقد لا تكون مذمومة.

فإن ثبت ذلك فاعلم أن البدعة الشرعية أخص من البدعة اللغوية، ومن المقرر عند أهل الأصول (¬1) أن ثبوت الأخص بالضرورة يوجب ثبوت الأعم، إذ يلزم من كونها بدعة شرعية ثبوت كونها بدعة لغوية، وأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص فإن ثبوت كونها بدعة لغوية لا يوجب ثبوت كونها بدعة شرعية. قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة" (1/ 416): (قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه)، ينصرف إلى البدعة اللغوية لا الشرعية، وذلك لأمور: الأول: أن صلاة التراويح جماعة قد ثبت فعلها جماعة ً على إمام واحد في عهده صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يسمي عمر هذه السنة الثابتة بدعة إلا من باب اللغة. الثاني: أن صرف قول عمر إلى البدعة اللغوية هو الأولى والأجمل بالفاروق ومنزلته رضي الله عنه، فهل يعقل أن يرضى عمر بالبدعة في دين الله وقد تلقى مع غيره من الصحابة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)؟! مع ما عرف عنه رضي الله عنه من حرص على إتباع السنة ومحاربة البدعة، بل وقطع كل ذريعة تؤدي إلى البدعة. الثالث: أنه يرد في استعمال الصحابة بعض المصطلحات الشرعية بمعانيها الأصلية في لغة العرب، كقول أُبي بن كعب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذا ً تكفى همك ويغفر لك ذنبك) ومراده بقوله صلاتي: " دعائي "، كما في الرواية الأخرى للحديث ألا أجعل دعائي لك كله). وكقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر ٍ من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له ... ) الحديث. والمراد: أنه طأطأ رأسه وانحنى له، والسجود بالمعنى الشرعي هو: الجلوس على الأعضاء السبعة عبادةً لله سبحانه، وليس هذا هو مراد أم المؤمنين في وصفها للبعير، وإنما مرادها المعنى اللغوي. وقد فهم جماعة من العلماء هذا المراد من قول عمر رضي الله عنه ونصوا على ذلك في كلامهم، وإليك قول طائفة منهم على سبيل التمثيل: قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في جامع العلوم والحكم: (فكل من أحدث شيئا ً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريءٌ منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع ¬

_ (¬1) انظر المستصفى للغزالي (1/ 34) وغيره.

في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: (نعمت البدعة هذه). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي - إلى أن قال - ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة، وقد عُلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاء به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم). وقال رحمه الله: ( ... كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة، وما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم: إما أن يقال ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة، كما قال: (نعمت البدعة هذه) ... ). وقال في موضع آخر: (ولا يحتج محتج بجمع التراويح ويقول: (نعمت البدعة هذه) فإنها بدعة في اللغة ... ). وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: (والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية كقوله: " فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "، وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم (نعمت البدعة هذه). وتحدث الشاطبي معبرا عن ما يشبه هذه المعاني في معرض رده على المستحسن للبدع، والمستدل عليها بقول عمر رضي الله عنه، فقال: ( ... إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا لأنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه ... ). وقال في موضع آخر موجها كلام العز في تسمية بعض المصالح المرسلة بدعا: ( ... وصار من القائلين بالمصالح المرسلة وسماها بدعا في اللفظ كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة)).

سادسا - "ما رآه المسلمون حسنا": قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة" (1/ 382) ما مختصره: (ومن الشُبه التي يتمسك بها المحسّن للبدع: قوله (¬1) قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوحد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء" وفي بعض الروايات زيادة: (وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه). وهذا الحديث الذي يستدل به المحسن للبدع، لم يرد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 165) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفي سنده أبو داود النخعي وهو سليمان بن عمرو، وقد تفرد بروايته، كما قال الخطيب، وهو كذاب كما قال الذهبي في الميزان (2/ 216) ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: كان يضع الحديث، فالحديث موضوع، وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 80 (وذَكَر تفرد النخعي، وكلام أحمد عنه ثم قال: وهذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعود، أما الأسانيد الأخرى المذكورة فكلها جاءت به موقوفاً على ابن مسعود، وهذا ما جعل الزيلعي في نصب الراية يقول: (غريب مرفوعاً ولم أحده إلا موقوفاً على ابن مسعود). وقال ابن القيم بعد أن أورد هذا الأثر ( .. ليس من كلام رسول الله وإنما يضيفه إلى كلام من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود) ... ومما سبق يتضح أن هذا الأثر الذي يستدل به محسّن البدع، لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه هذا من جهة السند، وقد يبقى فيه شائبةُ احتجاج عند من يترك المحكمات من النصوص، ويتعلق بما اشتبه ليبرر بذلك ما أملاه عليه نظره وهواه فيقول: هذا من كلام صحابي جليل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ عنه، أو يقول: هذا الكلام من قبيل المرفوع حكماً، لكونه مما لا يُدرك بالعقل. ولمناقشة هذه الشبه لابد من وقفات: الوقفة الأولى: المتأمل للآثار الواردة على الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى ¬

_ (¬1) ولم أجد للغماري ولا الحميري كلاما صريحا في الاستدلال بهذا الأثر على قولهم.

أنه من أشد الناس على البدع وأهلها، صغيرها وكبيرها كقوله رضي الله عنه (اقتصادٌ في سنةٍ خيٌر من اجتهاد في بدعة) وقوله: (أيها الناس إنكم ستحدثون ويُحْدَثُ لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول). وقوله (اتبعوا آثارنا فقد كُفيتم). وقوله: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم كل ضلالة) وقوله: (عليكم بالعلم، وإياكم والتبدّع والتنطّع والتعمّق، وعليكم بالعتيق) وهو الذي أنكر على المجمعين في مسجد الكوفة ذكرهم لله بصورة جماعية، وقال لهم: (لقد فَضُلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً، أو لقد جئتم ببدعة ظلماً إلى أن قال والذي نفسي بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقاً بعيداً ولئن حرتُم يميناً وشمالاً لتضلُنَّ ضلالاً بعيداً). والآثار الواردة عنه في ذم البدع والتحذير منها كثيرة، فهل يُعقل أن يقال بعد ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول بحسن بعض البدع، أو بجواز إحداث شيء يُتقرب به إلى الله، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. الوقفة الثانية: إن العلماء استشهدوا بهذا الأثر في غير ما استدل به محسنو البدع، وعلموا من لفظه ومعناه، غير ما اشتبه على هؤلاء وهذه الاستدلالات، تدور حول عدة معان: الأول: أن هذا الأثر جاء في فضل الصحابة رضوان الله عليهم، وعلو منزلتهم، وارتفاع مكانتهم، يدلُّ على هذا المعنى: ما جاء في الأثر من تصريح بفضلهم .. ويدل عليه الجزء الذي يستدل به المبتدع وهو قوله: (وما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ... ) ولذلاك وضعه الحاكم في مستدركه في كتاب معرفة الصحابة ولم يرو إلا هذا الجزء من الأثر، وكذلك فعل البيهقي في كتاب الاعتقاد، إذ أدخله في باب القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك صنع الساعاتي في ترتيبه لمسند الإمام أحمد، حيث جعل هذا الأثر في كتاب المناقب، باب ذكر مناقبهم على الإجمال، وقد سبقهم في هذا التصنيف الإمام أحمد، في كتابه فضائل الصحابة، وبما يشبه هذا التصنيف، كان صنيع الحافظ أبي نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة واستدل به ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. الثاني: هذا الأثر يجيء في أدلة صحة خلافة الصديق رضي الله عنه، وقد استدل به غير واحد، فمنهم على سبيل المثال صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة، بعد أن أورده بالزيادة الواردة في المستدرك وغيره وهي: (وقد رأي الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه) قال: (وهذا من أقوى الأدلة على صحة خلافته رضي الله عنه فإن

الإجماع قطعي) وكذلك ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال بعد إيراده للأثر من مسند أحمد: (وهذا الأثر فيه حكاية إجماع الصحابة في تقديم الصديق). وقد جمع بين هذا المعنى والذي قبله، شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث استدل بهذا الأثر في منهاج السنة على فضل الصحابة جميعاً، وعلى فضل أبي بكر على وجه الخصوص، في سياق رده على الرافضي، الذي زعم أن الذين بايعوا الصديق، إنما كانوا أصحاب جهل وطلب للدنيا، أخزاه الله ورضي الله، عن جميع صحابة نبيه. الثالث: يجيء الاستدلال بهذا الأثر، عند أهل العلم في باب الإجماع عند ذكر حجيته، وممن استدل به ابن قدامه في الروضة وأبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد والخطيب في الفقيه والمتفقه وابن القيم في إعلام الموقعين وفي الفروسية. الرابع: مما سبق يتبين أن المراد بقوله: (ما رآه المسلمون ... ) الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بدليل سياق الأثر: (ثم ينظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن ... ). ويؤيد أن المقصود بالمسلمين في الأثر الصحابة، ما سبق نقله والإشارة إليه من أقوال العلماء، حيث دلت في مجموعها على هذا المعنى، وبذلك لا يبقى لمحتج بهذا الأثر على استحسان بعض البدع أي مستمسك، فإن لم يكن ظاهر اللفظ متضحاً لصاحب الشبهة، فإنه يتوجه إلى الإجماع، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الرد على من استدل بهذا الأثر: (إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعاً، لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً، الحديث دليل عليكم لا لكم - إلى أن قال- إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم، فيلزم استحسان العوام، وهو باطل بإجماع). وقال الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهري رحمه الله: (واحتجوا في الاستحسان بقولٍ يجري على ألسنتهم وهو: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلاً، وأما الذي لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود ثم ذكر سنده إلى ابن مسعود وأورد الأثر ثم قال: وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق؛ لأنه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط، لأنه لم يقل ما رآه بعض المسلمين حسناً فهو حسن ... ).

وقد سبق الإلماح إلى استدلال العلماء بهذا الأثر في باب الإجماع، وهنا جاء أن المراد من الأثر كما يدل سياقه، صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تنافي بين ذلك، ولا حجة فيه على تحسين أية بدعةٍ، بل على العكس من ذلك، فأما إجماع الأمة فإنه لا يمكن أن يكون على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ كقوله صلى الله عليه وسلم: " وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". ولأجل ذلك تقرر عند علماء الإسلام، أن إجماع الأمة حق فلا تجتمع على ضلالة، فإذا كان الأمر كذلك، والنص بأن " كل بدعة ضلالة " أصبح الدليل الذي يستدل به المحسن للبدع ضده. وأما على أن المراد إجماع الصحابة، فإن الأثر ينقلب على المستدل به على حسن البدع، ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذم كل البدع صغيرها وكبيرها، وحذروا منها، ونهوا عن مجالسة أصحابها، بل وحذروا من كل ذريعة تؤدي إلى البدعة، ولم يُنقل عن أحد منهم التوقف في شأن بدعة محدثة في دين الله، بل كان موقفهم كما تشهد بذلك سيرتهم: اعتقادُ أن كل المحدثات ضلال وانحراف عن سواء الصراط، فإذا كان هذا هو حالهم، فهو إجماع منهم على قبح سائر البدع، وحسن محاربتهم وأهلها، وهنا يأتي، مكان الاستدلال بقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ... ) وقد رأى جميع الصحابة أن الاعتصام بالسنة أمر حسن محمود، وأن ترك البدع والتحذير منها أمر لازم ممدوح، وأن إحداث شيء من البدع سيء وقبيح). وهذا أخر ما وقفت عليه من أدلتهم لتحسين بعض البدع الشرعية، ولا حجة لهم في أيها، فثبت أن عموم الذم للبدع الشرعية محفوظ ولم يثبت تخصيصه كما زعموا، ولله الفضل والمنة، وسوف نتوقف في المبحث التالي بإذن الله على توجيهات أخرى لهم لأحاديث ذم البدع، فالله المستعان.

المبحث الثالث - توجيهاتهم الأخرى لأدلة ذم البدع

المبحث الثالث - توجيهاتهم الأخرى لأدلة ذم البدع: قالوا بحمل هذه الأحاديث على المعاصي (¬1): قال الشيخ سليم الهلالي في "البدعة وأثرها السيء" (ص/85): (لا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" على المعاصي التي نهى عنها الشارع الحكيم بخصوصها مثل الزنا، السرقة، الربا ... الخ؛ لأن هذا تعطيل لفائدة الحديث، وهو نوع من التحريف والإلحاد، وفيه من المفاسد أشياء: (أ) سقوط الاعتماد على هذا الحديث، فإن المنهي عنه علم حكمه بذلك التخصيص. (ب) إن اسم البدعة يكون عديم التأثير. (ت) ليس كل بدعة جاء نهي عنها خاص، وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة، فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس وتدليس. (ث) مساواة البدع بالمعاصي، والحقيقة أن البدع شر من المعاصي ... (جـ) وقصر البدع على الأمور المنهي عنها بخصوصها لا ينطبق على البدع؛ لأن البدع لا يدل على شرعيتها دليل أصلاً، أما العاصي فدل الدليل على شرعية اجتنابها والبعد عنها). قالوا بحمل هذه الأحاديث على البدع المذمومة: قال الحميري في (ص/37): (البدعة في هذا الحديث - أي قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" - تشمل البدعة الواحدة والأكثر، والبدعة الحسنة والبدعة السيئة. ومما جاء بصيغة التخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتدع بدعة ضلالة، لا ترضي الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً"، ففي هذا الحديث خصص الرسول صلى الله عليه وسلم البدعة المحرمة بأن تكون سيئة لا توافق عليها الشريعة. والقاعدة الأصولية أنه إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص قدم الخاص، لأن في تقديم الخاص عملاً بكلا النصين بخلاف ما لو قدم العام فإن فيه إلغاء للنص الخاص. فيكون المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم "كل بدعة ضلالة": البدعة السيئة وهي: ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام ... ¬

_ (¬1) وقد سبق بيان وجوه الاتفاق والافتراق بين البدع والمعاصي فراجعها.

قال الإمام الحافظ الفقيه محيي الدين النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه والسلام: (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع. قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق). وقال في (ص/112): (الأعم والأغلب في إطلاقات لفظ البدعة عند السلف، إنما كان في ما يقابل السنة من البدع السيئة الضالّة، حتى شاع على لسانهم إطلاق كلمة البدعة في الشيء الحادث الذي يصادم أصول الشريعة وأدلتها العامة، أو يكون فيه إبطال لسنة، أو تضييع لفريضة، كما شاع على ألسنتهم إطلاق لفظ المبتدع على أرباب هذه الحوادث والبدع، وشاع أيضاً إطلاق لفظ المبتدعة على الفرق الخارجة عن نهج أهل السنة والجماعة، ولذلك قال الشهاب الخفاجي في شرح الشفا: البدعة إذا أطلقت يراد بها السيئة. وقال ابن الأثير: وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم). والجواب من وجوه: الأول – أن هذا الحديث لا يصح فرواه الترمذي وغيره من طريق كثير بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا: " إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا" والحديث ضعيف جدا فمداره على كثير بن عمرو، قال عنه أحمد بن حنبل: منكر الحديث، ليس بشاء، وقال عنه أبو داود: كان أحد الكذابين، وقال عنه الشافعي: ذاك أحد الكذابين أو أحد أركان الكذب، وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث، وقال أبو حاتم بن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على وجه التعجب، وقال أبو أحمد بن عدى: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وترى أن الحميري لم يسق من الحديث إلا ما يظن أنه يوافق استدلاله، مع أن طرفه الأول يشهد لما سبق وأن قررناه من أن معنى سن السنة الحسنة: إحياء وتذكير الناس بما تركوه من سنة النبي وليس الإنشاء والاختراع إلا أننا لا نستدل إلا بما صح من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني – قال الشيخ الغامدي في "حقيقة البدعة" (1/ 381): (إن في هذا الحديث دليلاً على إبطال البدع، وذلك بالحض على إحياء سنة قد أميتت، فإنه وعد بالأجر لمن أحيا سنةً ميتةً، لا لمن يخترع شيئاً جديداً، ثم يطلق عليه سنة حسنة، لأن الذي ورد في

الحديث، إحياء سنة ثابتة نُسيت أو تُركت، وليس فيه إحداث ما لم يثبت، فدل هذا على أن المراد التحذير من الابتداع، لأنه في مقابل الإتباع، ولأنه ملازم للضلال في كل الأحوال). الثالث – وعلى الفرض جدلا صحة الحديث فإن ما زعمه من التخصيص بهذا الحديث بقوله: (والقاعدة الأصولية أنه إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص قدم الخاص) لا يستقيم، وذلك لأمرين: أ- أن المنطوق موافق لدلالة العام، وكما هو مقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يقتضي التخصيص لاختلال أحد شرطي الاستثناء، وهو مخالفة المستثنى للمستثنى منه في الحكم. ب - أن المفهوم غير معتبر؛ لأن المنطوق جاء موافقا للواقع. قال العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (5/ 364): (تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكرا لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذا ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع. ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]؛ لأن قوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وصف مطابق للواقع؛ لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ومن أمثلته في القرآن أيضا قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]؛ لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله من دون المؤمنين ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله: أو امتنان أو وفاق الواقع ... والجهل والتأكيد عند السامع). ومن أمثلته أيضا في القرآن (¬1) قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ¬

_ (¬1) انظر "أضواء البيان" (1/ 264).

[النور: 33]، فروى مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه قال: " أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} الآية. الرابع – أن قولهم هذا مخالف لفهم وعمل الصحابة رضوان الله عليه من إنكارهم لبعض البدع التي تتنزل على أقوالهم في قسم البدعة الحسنة كإنكار ابن مسعود على الحلق الذين يذكرون بالحصى ذكرا جماعيا، وكإنكار ابن عمر على من زاد في ذكر العطس وعلى من ثوب في الظهر، ونحو ذلك مما سبق ذكره.

الخاتمة

الخاتمة: الفصل الأول: أسباب الابتداع (¬1): وقد تجتمع هذه الأسباب جميعها أو بعضها، وقد تنفصل: 1 - انتشار القول بأن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع سيئة وبدع حسنة إما لأعراض سيئة، أو تأولا أو جهلا وتقليدا. 2 - الجهل بـ: أ - السنة المطهرة وعلم مصطلح الحديث، بحيث لا يميزون بين الصحيح والضعيف والسليم والسقيم، فتكثر الأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل بدعة وحدة الوجود تتوكأ على الحديث الموضوع: "ما وسعتني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن"، وبدعة النور المحمدي تقف على الحديث المخترع الموضوع المصنوع: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"، وبدعة خَلْقِ المخلوقات من أجل محمد صلى الله عليه وسلم تعتمد على حديث الكذب: "لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك" وخفي على واضعه الجاهل أن محمداً صلى الله عليه وسلم لولا الخلق ما بعث قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. ب - الجهل بمقاصد الشريعة: فإن الدين قد كمل، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد وضح كل شيء ٍ بشهادة الله سبحانه وتعالى بذلك، حيث قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فأما النوازل الحادثة والوقائع المتجددة، فإنها تنضوي تحت كليات الشرع وقواعده ولا بد أن يكون لها حكما بالقبول أو الرد، سواءً كان ذلك في مجال العبادات أو في المعاملات، ومن كليات هذا الدين وقواعده الأساسية التي تنظم كل الجزئيات الحادثة قوله صلى الله عليه وسلم: ( ... وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ... ). 3 - سوء الفهم للقرآن والسنة: وعدم معرفة أقوال السلف: ¬

_ (¬1) انظر: حقيقة البدعة للشيخ الغامدي (1/ 338: 350)، البدعة وأثرها السيئ في الأمة للشيخ سليم الهلالي (ص/123: 127)، البدعة أسبابها ومضارها للشيخ محمود شلتوت (ص/17: 37)، علم أصول البدع للشيخ علي الحلبي (ص/43: 49)، مراحل ظهور البدع للشيخ أحمد الغامدي (ص/39: 49)، البدع الحولية للشيخ عبدالله التويجري (ص/37: 68) وكلامه من أجمع الكلام في هذه المسألة، وسوف أنقل عن بعض هذه المصادر ببعض الاختصار والتصرف، ولك أن تلاحظ أن بعض هذه الوجوه متداخل وتكمل بعضها بعضا.

أما سوء الفهم للقرآن فمنه ما رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" عن سفيان الثوري، قال: سمعت رجلا سأل جابرا – وهو الجُعْفِي ضعيف رافضي - عن قوله عز وجل: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} [يوسف: 80]، فقال جابر: «لم يجئ تأويل هذه»، قال سفيان: وكذب، فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن عليا في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء يريد عليا أنه ينادي اخرجوا مع فلان، يقول جابر: «فذا تأويل هذه الآية، وكذب، كانت في إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم»، ومثل ذلك فهم بعض الصوفية لقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، وأن المراد به العلم اللدني الذي يؤتاه الولي، فيكون بمثابة الوحي المعصوم وبنوا على ذلك أن الولي أفضل من النبي أو في منزلة مساوية له. ومثال ذلك استدلال الخارجي على أن أهل الكبائر في النار يوم القيامة بقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8، 9]، فقال: المراد في الآية أن من خفت موازينه فهو كافر، والمعلوم أن موازين أهل الكبائر قد خفت فيجب أن يكونوا كفرة. ومثل ذلك استدلاله بقوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]، فقال الخارجي: لا شك بأن صاحب الكبيرة مجازى، فيجب أن يكون من الكفرة، فهذا هو حال المبتدعة مع نصوص الكتاب الكريم، أخْذُ بعضها وترك بعضها مع الفهم السقيم للآيات التي يستدلون بها، مع أنه من المقرر عند أهل السنة والحمد لله (أن كل آية ٍ يستدل بها مبتدع فيها دليلٌ على فساد قوله). أما السنة فإن المبتدعة على قلة اعتمادهم على الصحيح منها، وكثرة أخذهم بالواهي والضعيف، فإنهم كثيرا ما يفهمون الأحاديث الثابتة على غير وجهها، ويدفعون مقاصدها بالتحريفات والتأويلات الفاسدة. أما عدم معرفتهم لكلام السلف فكما قال شيخ الإسلام في سياق كلامه عن تنازع المبتدعين في كلام الله سبحانه وتعالى: ( ... عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف، بل ولا سمعوه ولا وجدوه في كتاب ٍ من الكتب التي يتداولونها؛ لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية، ولا معاني الكتاب والسنة إلا بتحريف بعض المحرفين لها، ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالا مبتدعة: إما قولين أو ثلاثة، وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودل عليه الكتاب والسنة لا يذكره؛ لأنه لا يعرفه ... ).

فترك المبتدعة لكلام السلف وجهلهم به، وإعراضهم عن فهم السلف لنصوص الكتاب والسنة، أحد الأسباب الكبيرة لوقوعهم في الابتداع. 4 - عدم التسليم للنصوص الشرعية والانقياد لها: والمتأمل في حال أهل البدع يجد أن هذا الوصف من أخص نعوتهم؛ ولذلك سماهم عمر بن الخطاب (أعداء السنن)، وصحت فيهم أوصاف أهل السنة لهم بأنهم: أهل الأهواء وأهل الكلام، وأهل القياس الفاسد، وأهل الابتداع، وأصحاب الرأي المذموم ... وغير ذلك من الأوصاف التي تدل أول ما تدل على ترك هؤلاء للنصوص الشرعية وعدم الاعتماد عليها، وعدم الاعتصام بها، ويظهر ذلك من خلال هذه الملامح: أ. رد الأحاديث التي لا توافق بدعهم بالقدح في الرواة الثقات العدول، أو بنفي حجية خبر الآحاد، أو بتحريف الأدلة عن مواضعها وصرفها عن ظواهرها بتأويلات فاسدة، أو الاحتجاج بأن النصوص تفيد الظن وقواعدهم قطعية. ب. إتباع المتشابه من الأدلة وذلك بحمل النصوص المحكمة على المتشابهة، أو جعل المحكم من الأدلة متشابها، كما فعلت الجهمية في الصفات، أو جعل ما ابتدعوه هو المحكم وما جاءت به الأنبياء هو المتشابه، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. جـ. معارضة النصوص الشرعية بالأهواء فالصوفي بالكشف والذوق، والمتكلم بالرأي والمنطق والنظر والقياس الفاسد .. أو بما يسمونه قواعد قطعية ذوقية كانت أو عقلية. د. الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها فنافي الصفات مثلاً يستدل بنصوص نفي التماثل بين الله سبحانه وخلقه، ويترك نصوص الإثبات، والخارجي يستدل بنصوص الوعيد وحدها، والمرجئ بنصوص الوعد وحدها، والشيعي بالنصوص الواردة في فضل علي - رضي الله عنه - وحدها وهكذا ... . هـ. الاعتماد على الحكايات والرؤى والقياسات والأحاديث الواهية والضعيفة مما يؤدي إلى ترك النصوص الصحيحة، والالتفات عنها إلى هذه الأغلوطات. وأمثلة هذا كثير ٌ عند الذين ضلوا في أبواب القصد والإرادة كالمتصوفة. 5 - إحداث قواعد ونظريات عقلية أو ذوقية أو سياسية يسير عليها المبتدع وينقاد لها: وهذا واضح في مسالك المتكلمة والمتفلسفة، إذ سموا ما وضعوه عقليات، وقطعيات وبراهين ...

وأطلقوا على أنفسهم أهل التحقيق والنظر والاستدلال والإيقان. وظاهر ٌ أيضا في مسالك المتصوفة والمتنسكة إذ سموا ما ابتدعوه: حقيقة ويقينا وسموا أنفسهم أهل الحقيقة وغيرهم أهل الشريعة، وفي مسالك المتملكة والمتأمرة إذ سموا طريقتهم بالسياسة الحسنة البديعة، ولو كانت في مخالفة الشريعة، ولهذا فإنك تجد أصناف المبتدعة يبتعدون عن الشرع، ويعتمدون على قواعدهم وأصولهم الضالة تاركين كتاب الله وسنة رسوله خلفهم ظهريا، وإن اعتمدوا على شيء منها فإنما هو للاستئناس ولتعضيد ما أصلوه، مع أن كل دليل عقلي يحتج به المبتدع فيه دليلٌ على بطلان قوله. 6 - التقليد واعتقاد العصمة في الأئمة المجتهدين، أو إعطاء الشيوخ قداسة تقارب منازل الأنبياء. 7 - اتباع العوائد والمشايخ: ويظهر هذا في بدع التشيع والتصوف بصورة جلية، مع أنه لا تكاد طائفة من طوائف المبتدعة تخلو من ذلك ... فعند الشيعة الإمامية: اعتقاد العصمة في أئمتهم، وكذلك عند الإسماعيلية وسائر فرق الباطنية. وعند الصوفية اعتقاد الولاية لفلان، وأنه أعظم من الأنبياء أو مساوٍ لهم إلا أنه لا يوحى إليه، ولا يحق للمريد أن يعترض أو يرفض أمر الشيخ، فإن ذلك نقص في الاتباع حتى قالوا: ليكن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وحتى عند أصحاب البدع الكلامية الذين يزعمون أن طريقتهم في الاعتقاد برهانية يقينية، يجعلون كلام أساتذتهم وقواعدهم الفلسفية من المسلمات التي لا يصح الاعتراض عليها، فضلاً عن نقضها، ولهذا فإنك تجد المعتزلي يقرر قاعدة بدعية ويستدل عليها بقوله - مثلا - وقد تقرر برهان هذه القاعدة في مسألة الحسن والقبح، وكذلك يفعل الأشعري، وعندما تعود إلى قاعدتهم تجدها من بدع مشايخهم أهل الكلام ... وأما اتباع العوائد فيظهر مثالها في الأيام المخصصة بنوع ٍ من العبادات المبتدعة، فيحتج المبتدع بأن هذا الفعل اعتاده الناس منذ كذا وكذا، وجرى العمل به في الأقطار، وتلقاه الناس جيلا فجيلا، وأمثال ذلك من الحجج الواهية. 8 - اتخاذ الناس رؤوساً جهالاً يقومون بالفتوى والتعليم ويقولون في دين الله بغير علم حيث تكثر الاستحسانات التي قوامها ميل الأهواء والاَراء، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم

الفصل الثاني - هجر المبتدع

يُبْقِ عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، وهذا من أشراط الساعة قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر" قال ابن المبارك رحمه الله: "الأصاغر: أهل البدع". 9 - عادات وخرافات لا يدل عليها شرع ولا يقرها عقل، مثل المآَتم وبدعة الزار قال الشاعر: ثلاثة تشقى بهن الدار ... العرس والمآتم ثم الزار 10 - حكاية إجماعات لم تقع، وجعلها أصولا يعتمد عليها، وعدم قبول الحق إلا من طائفتهم: أما حكاية الإجماعات فمثل حكاية الرازي أن المعتبرين أجمعوا على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه. مع أن المنقول عن الأنبياء والصحابة والتابعين مناقض لهذه الدعوى. ومثل ذلك ما نقله أبو المعالي الجويني من اتفاق المسلمين على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادا، فكل جزء لا يتجزأ وليس له طرف واحد ومقصده بذلك نفي الصفات عن الله سبحانه؛ لأن الصفات - في زعمه - لا تكون إلا في جسم مبعض، مع أن قوله هذا لم يقله سوى طائفة من أهل الكلام، ولم يقله بقيتهم، ولم يقله أحد من السلف مطلقا. ومثل ذلك قول النبهاني: إن جمهور الأمة على تنزيه الله سبحانه عن جميع الجهات وجميع الأمكنة والأزمنة والعلويات والنقليات .. أما عدم قبول الحق إلا من طائفتهم، فهذا من ديدن أصحاب الابتداع ولأجل ذلك تراهم يعتمدون على أقوال أصحابهم ومشايخهم، أكثر من اعتمادهم على النصوص الشرعية، ويزعمون فوق ذلك أنهم أصحاب الحق وحدهم، وأن من عداهم فهم أصحاب الضلال، ويدعون أنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية دون من سواهم، وأنهم هم أهل السنة والجماعة، وأن غيرهم أهل البدعة. وعدم قبول الحق إلا من الطائفة التي يهواها الإنسان ويحبها وينتمي إليها، سبب للابتداع وترك الإتباع، وسبب للضلال ورد الحق، وقد وصف الله اليهود بهذا الوصف، ولعنهم لأجل تلبسهم به، فقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]. قال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الآية: (فوصف اليهود: أهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به والدعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة لم يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها إلى أن قال - وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم لا يقبلون من الدين رأيا ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم ... ). فهذا هو حال أهل الابتداع، وهذه أظهر الأسباب التي حملتهم على الوقوع في البدع، ولا يخلو مبتدع من سبب من هذه الأسباب إن لم تكن كلها أو معظمها فيه، فهو يتبع دينا مبدلا أو منسوخا. الفصل الثاني - هجر المبتدع (¬1): مقاصد الإسلام في الهجر: 1 - أن (الزجر بالهجر) عقوبة شرعية للمهجور، وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقربًا إلى الله تعالى بواجب الحب والبغض فيه سبحانه وتعالى. 2 - بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم. 3 - تحجيم انتشار البدعة. 4 - قمع المبتدع وزجره، ليضعف عن نشر بدعته، فإنه إذا حصلت مقاطعته والنفرة منه بات كالثعلب في جحره. أما معاشرته ومخالطته، وترك تحسيسه ببدعته: فهذا تزكية له، وتنشيط وتغرير بالعامة. 5 - إعطاء ضمانة للسنن من شائبة البدع ومداخلتها لصفاء السنن. المقصود بالهجر: والمقصود بالهجر هنا هو الهجر ديانة، وهو هجر التعزير: ويدخل في باب العقوبات الشرعية التبصيرية التي يوقعها المسلم على الفجار كالمبتدع، على وجه التأديب، في دائرة الضوابط الشرعية للهجر، حتى يتوب المبتدع ويفيء. ¬

_ (¬1) وقد لخصت هذا الفصل من رسالة الشيخ بكر أبي زيد - رحمه الله - "هجر المبتدع" مع بعض التصرف البسيط.

شروط الهجر: الهجر الشرعي للفجار من المبتدعين والفساق عبادة، والعبادة لابد من توفر ركنيها: 1 - الإخلاص، وهو ميزان الأعمال في باطنها. 2 - والمتابعة، وهو ميزان الأعمال في ظاهرها. فلابد من أن يكون الهجر: خالصًا صوابًا، فالهجر لهوى النفس: ينقض الإخلاص، والهجر على خلاف الأمر: ينقض المتابعة. منزلة الهجر من الاعتقاد: يؤصل علماء الإسلام (هجر المبتدع ديانة) تحت القاعدة العقدية الكبرى (قاعدة الولاء والبراء) فهم يوالون أولياء الرحمن، ويعادون أولياء الشيطان، وكلٍ بحسب ما فيه من الخير والشر. قال الصابوني: (ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان قَرّت بالآذان وقرت بالقلوب ضرّت وجرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جَرَّت، وفيه أنزل الله عز وجل قوله: {وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. ثم ذكر علامات أهل البدع، وعلامات أهل السنة، ثم قال: (واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم ... ) اهـ (¬1). الأدلة من الكتاب والسنة على هجر المبتدع ديانة: أولًا - الكتاب العزيز: 1 - قال الله تعالى: {وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 68) وفي هذه الآية دلالة على تحريم مجالسة أهل البدع والأهواء وأهل الكبائر والمعاصي. قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. ¬

_ (¬1) رسالته في العقيدة /100، 112.

قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمنا كان أو كافرا. 2 - قال تعالى: {وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ والْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء/140) قال الضحاك: (دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة) (¬1). ثانيًا - السنة النبوية: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم) رواه مسلم في مقدمة صحيحه. قال البغوي رحمه الله تعالى بعده: (قد أخبر النبي لهم عن افتراق هذه الأمة، وظهور الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته، وسنة أصحابه رضي الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلًا يتعاطى شيئًا من الأهواء والبدع معتقدًا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حيًا وميتا، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق) (¬2). 2 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم). رواه أحمد، والطبراني والحاكم. 3 - الأحاديث المتكاثرة في: هجر النبي لأهل المعاصي حتى يتوبوا: * فهجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم لما تخلفوا عن غزاة تبوك، واستمر هجرهم خمسين ليلة، حتى آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله عليهم (رواه الشيخان وغيرهما). * وهجر صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه بتركه صلى الله عليه وسلم رد السلام عليه لملابسته الخلوق حتى غسله. رواه أبو داود في سننه والطيالسي كلاهما من حديث عمار رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 5/ 418. (¬2) شرح السنة 1/ 224

فهذه الأحاديث وما في معناها نص في مشروعية هجر العاصي المجاهر بمعصيته حتى يتوب ويفيء، وعليه: فإن الاستدلال بها على هجر المبتدع هو من باب الأولى في الدلالة على: مشروعية هجره ديانة لاسيما وهو المخصوص بأوصاف: البدعة في الدين، والإحداث والضلال، دون العاصي. ثالثًا - الإجماع: - قال القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى: (أجمع الصحابة والتابعون على مقاطعة المبتدعين). - وقال البغوي رحمه الله تعالى بعد حديث كعب بن مالك رضي الله عنه (¬1): (قد مضت الصحابة والتابعون، وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم). الضوابط الشرعية للهجر: الشرع يزن الواقعات والأحوال الداخلة تحت قاعدته العامة (الولاء والبراء) بميزان قسط، وقسطاس مستقيم، وسطًا عدلًا بين جانبي الإفراط والتفريط، فلا تزيد عن حدها ولا تنقص عنه، فتلتقي العقوبة للمبتدع بالهجر مع مقدار بدعته باعتبارات مختلفة، وما يحف بذلك من أحوال تنزل على قاعدة رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، فنقول إذًا: الأصل في الشرع هو: هجر المبتدع لكن ليس عامًا في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع. وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية، تفريط على أي حال، وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص، والإجماع، وأن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي يرعاها الشرع وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته وضمان السنة من شائبة البدعة .. هذا محصل الضوابط الشرعية للهجر (¬2) لكن ليحذر كل مسلم من توظيف (هوى نفسه) وتأمير (حظوظها) على نفسه، فإن هذا هلكة في الحق، وهو شر ممن يترك الهجر ¬

_ (¬1) شرح السنة، 1/ 226 - 227 (¬2) وهذا طرد لقاعدة الشريعة في العقوبة على قدر الجرم كما في تنوع عقوبات المحاربين لتنوع أحوالهم، والفرق بين عقوبة السارق والمغتصب، والفرق بين عقوبة الزاني المحصن وغير المحصن، وهكذا في سائر العقوبات الشرعية يقدر الجرم وما يحف به من أحوال.

عصيانًا؛ لأنه يعصي الله تعالى بترك الهجر الشرعي للمبتدع، وإظهاره ترك الهجر باسم الشرع تحت غطاء وهمي باسم (المصلحة) و (تأليف القلوب) وهكذا، فالتزام الهجر الشرعي للمبتدع بضوابطه الشرعية لا غير. وعلى هذا التأصيل تتنزل كلمات الأئمة كالإمام أحمد وغيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في المسلك الحق في الهجر: (فإن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات. وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين المغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم) (¬1). فباعتبار اختلاف مرتبة البدعة من الإثم هو من عدة جهات (¬2): * من جهة كونها كفرًا أو غير كفر: - فالمكفرة مثل: البابية، والبهائية، والقاديانية، وغلاة البريلوية. - وغير المكفرة مثل: عامة البدع في العبادات حقيقية كانت أو إضافية. * ومن جهة كون صاحبها مستترًا بها أو معلنًا لها، ففرق بين المعلن لبدعته الداعي لها، وبين الكاتم لها لأن الداعية، والمعلن لها، أظهرها فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شرًا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، هذا وهم في الدرك الأسفل من النار (¬3). ¬

_ (¬1) الفتاوى 28/ 213، وانظر منه: ص / 6 0 2. (¬2) انظر بسط هذه الجهات الست في: الاعتصام للشاطبي رحمه الله تعالى 1/ 167 174. (¬3) الفتاوى 24/ 175، 28، / 205.

* ومن جهة كونها حقيقية أو إضافية فالبدعة الحقيقية هي: البدعة التعبدية المحدثة استقلالًا كصلاة الرغائب، وليست بدعة إضافية، ومثل القول بالقدر، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان، وبدعة الموالد، والأعياد الحكومية، وعيد غدير خم لدى الشيعة، وهكذا. - والبدعة الإضافية: هي الأمر المبتدع مضافاُ إلى ما هو مشروع أصلًا بزيادة أو نقص، مثاله: الدعاء الجماعي بعد الصلاة، فالدعاء مشروع وجعله جماعيًا بدعة مضافة لم يرد بها النص، وبناء العبادات على التوقيف، وسجود الشكر جماعة، واتخاذ التبليغ خلف الإمام سنة راتبة مع عدم الحاجة إليه، وهكذا. * ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، أي كونها ظاهرة المأخذ فهي بدعة متمحضة كبدع المآتم والموالد، وصلاة الرغائب ... * ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه: أما الإصرار عليها فيجعلها من باب: الدعوة إليها فيكون داعية معلنًا لها، وأما عدم الإصرار فهو من باب كونها: فلتة، وزلة عالم، إذا كانت منه ثم لم يعاودها (¬1). * ويختلف باختلاف حال المبتدع وما فيه من خير وشر: (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ... ) (¬2). * وفرق بين عالم تشربت نفسه بالبدع، لكنه لم يختلط بعلماء أهل السنة ولم يتلق عنهم، وبين عالم تلقى عن المبتدعة فنالت منه منالًا، ثم خالط أهل السنة وعلماءهم وجاورهم مدة بمثلها يحصل برد اليقين بل يكون عاشرهم عشرات السنين، ثم هو يبقى على مشاربه البدعية يعملها، ويدعو إليها، ويصر عليها، فهذا قامت عليه الحجة أكثر، واستبانت له المحجة فما أبصر. فهو من أعظم خلق الله فجورًا، وغيضًا على أهل السنة. ¬

_ (¬1) وانظر الاعتصام 1/ 174. (¬2) الفتاوى 28/ 209، وانظر ص / 228، بأبسط من هذا.

فالأول في تأليف قلبه وتودده للرجوع إلى السنة مجال، أما الثاني: فلا والله، بل يتعين هجره، ومنابذته وإبعاده، وإنزال العقوبات الشرعية للمبتدعة عليه، وأن يُهجر ميتًا كما هُجر حيًا فلا يصلي أهل الخير عليه، ولا يشيعون جنازته. * وفرق في حال المهجور: بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه، فإن القوي يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم (¬1). * وكذلك بالنسبة للأماكن: ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك. وهذا على ما أفتى به الأئمة أحمد وغيره بناء على هذا الأصل: رعاية المصالح الشرعية (¬2). * (ويختلف باختلاف الهاجرين أنفسهم في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم) (¬3) فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة ولا حول ولا قوة إلا بالله فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر ولا يحصل المقصود الشرعي، لم يشرع الهجر وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر. وهذا كحال المشروع مع العدو (القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح) (¬4). ومن أهم المهمات هنا: إذا كانت الواجبات لدى أهل السنة مثل: التعليم، والجهاد، والطب، والهندسة، ونحوها متعذر إقامتها إلا بواسطتهم، فإنه يعمل على تحصيل مصلحة الجهاد، ومصلحة التعليم وهكذا، مع الحذر من بدعته، واتقاء الفتنة به وبها ما أمكن، وبقدر الضرورة، فإذا زالت عاد أهل السنة إلى الأصل في الهجر، وأبعد لمبتدع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في جوابه المحرر في الهجر المشروع: ( .. فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون ¬

_ (¬1) الفتاوى 28/ 217 - 218. (¬2) انظر: فتح الباري 8/ 123، كتاب المغازي. (¬3) الفتاوى 28/ 206 - 207، وانظر ص / 212 - 213 فهو مهم. (¬4) الفتاوى 28/ 206.

الفصل الثالث - خاتمة الخاتمة

مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل) (¬1) وختامًا: احذر المبتدع، واحذر بدعته، وأعمل الولاء والبراء معه، وتقرب إلى الله بذلك، وبهجره الهجر الشرعي منزلًا له على قواعد الشريعة وأصولها في رعاية المصالح ودفع المفاسد، وإياك ثم إياك من تأمير الهوى هجرًا أو تركًا. الفصل الثالث - خاتمة الخاتمة: حقيقة وبعد أن وصلت إلى هذه النقطة في موضوع البدعة وأرجو من الله أن أكون قد وفقت في بيان حقيقة البدعة الشرعية والرد على شبهات محسنى البدع بقيت بعض الأمور العامة المتعلقة بهذه الخاتمة، وأرى أن تتبعها يطول وقد رأيت الشيخ الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي - حفظه الله - في رسالته العلمية (الدكتوراه) والتي تحمل عنوان: "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع" قد ذكر في خاتمتها قضايا كثيرة متعلقة بالمواضيع التي كنت أنوى طرح بعضها في خاتمة رسالتي، فقلت أذكر خلاصة رسالته عسى الله أن ينفع بها، وكما يقال: ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه. قال - حفظه الله -: " وفي خاتمة هذا البحث أقيد أهم تلك النتائج المتحصلة من هذا البحث- على ما جرى عليه العمل في البحوث المعاصرة وتؤصله قواعد البحث الحديث- وها هو ذا عرض موجز بذلك: ا- التعريف بأهل السنة وأنهم (هم المتمسكون بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما اتفق عليه الصحابة، والتابعون لهم بإحسان إلى يومنا هذا، ولم يخالفوا في شيء من أصول الدين، ويدخل فيهم عوام المسلمين المقتدون بهم). 2 - بيان أن أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به إلا الإسلام وما دل عليه وأن ما اشتهر عنهم من أسماء (كأهل السنة والجماعة- والفرقة الناجية والطائفة المنصورة- والسلفيين) مستمدة من الكتاب والسنة. فبعضها ثابت لهم بالنص من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والبعض الأخر إنما حصل لهم بفضل تحقيقهم للإسلام تحقيقاً صحيحاً، وهي تخالف تماماً أسماء أهل البدع التي هي في الغالب مشتقة من أصل بدعهم، أو ترجع إلى الانتساب إلى الأشخاص الذين هم رؤوسهم في تلك البدع. ¬

_ (¬1) الفتاوى 28/ 212.

3 - لا يبدع أحد من أهل السنة ولا يحكم بخروجه من أهل السنة بمجرد خطئه، سواء أكان الاجتهاد في مسالة من مسائل العقيدة والتوحيد، أو في مسائل الحلال والحرام. 4 - اتفاق أهل السنة على وجوب اتباع الكتاب والسنة، وطريق السلف الأول المشهود لهم بالخير والفضل، وتحريم البدع كلها وأنها كلها ضلال وهلاك، ليس فيها حسن بل هي مذمومة عند أهل العلم من أهل السنة وكذلك أصحابها مذمومون ممقوتون عندهم. 5 - تعريف البدعة وأنها (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه) (¬1). 6 - أن للبدع تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة، فمن ذلك، تقسيمها إلى حقيقية وإضافية، وإلى عادية، وتعبدية، وفعلية وتركية، واعتقادية وعملية، وكلية وجزئية، وبسيطة ومركبة، ومكفرة وغير مكفرة. 7 - تحديد الضوابط الرئيسة المميزة لأهل البدع، وذلك عن طريق تحقيق لفظ: (أهل الأهواء والبدع) وبيان المراد منه عند الإطلاق، وبيان ما تثبت به الشهادة على الرجل أنه من أهل البدع، وذكر علامات أهل البدع والتي من أهمها: (الفرقة، واتباع الهوى، واتباع المتشابه ومعارضة السنة بالقرآن، وبغض أهل الأثر، وإطلاق الألقاب على أهل السنة بقصد انتقاصهم، وترك انتحال مذهب السلف، وتكفير مخالفيهم بغير دليل). 8 - التعريف بأصول فرق أهل البدع التي تفرعت عنها بقية الفرق وهي: فرقة الخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة، والجهمية. 9 - بيان موقف أهل السنة من تكفير أهل البدع وتفسيقهم، وأنه مبني على أصلين: الأصل الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن القول أو الفعل الصادر من المحكوم عليه موجب للكفر- عند النظر في مسالة التكفير- وموجب للفسق- عند النظر في مسالة التفسيق-. الأصل الثاني: انطباق الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم فيه شروط التكفير أو التفسيق وتنتفي موانعهما. 10 - أن تكفير السلف لبعض فرق أهل البدع كالجهمية، والقدرية المنكرين للعلم وغلاة الرافضة: هو من باب التكفير المطلق الذي لا يلزم منه تكفير كل أفراد تلك الفرق. ¬

_ (¬1) وقد سبقت عدة وقفات مع هذا التعريف وبيان التعريف الراجح بما يغني عن إعادته مرة أخرى.

11 - بيان موقف أهل السنة من لعن أهل البدع: وأن اللعن عندهم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: اللعن المطلق وهو اللعن بالوصف الأعم كاللعن بوصف دلت النصوص على اللعن به، وهي ثلاثة أوصاف: (الكفر، والفسق، والابتداع) أو بوصف اخص كلعن اليهود، والنصارى، والمجوس، وبعض الفرق المنتسبة للإسلام من أهل البدع. القسم الثاني: اللعن للمعين كقولك العن الله فلاناً .. وتُسَمِّيه). أما اللعن المطلق: فجائز بمرتبتيه دلت على ذلك النصوص وكلام السلف وأما اللعن المعين: فحكمه محل اختلاف بين السلف، قسم منعه، وقسم أجازه في حق الكافر دون الفاسق، وقسم أجازه إن كان المعين مستحقاً للّعن سواء أكان كافراً أو مسلماً، بمعنى أن يأتي بفعل ملعون عليه في الشرع وتتحقق فيه شروط اللعن وتنتفي فيه الموانع والقول الثالث هو الراجح والله أعلم. 12 - بيان موقف أهل السنة من حكم قبول أعمال أهل البدع عند الله، وجملة مذهبهم في هذه المسالة: أن عمل المبتدع من حيث قبوله أو ردّه خاضع للضوابط المراعاة في قبول الأعمال عند الله على وجه العموم، فمتى ما تحققت فيه شروط القبول فهو مقبول- إن شاء الله- ومتى ما فقد أحد شروط القبول فهو مردود: فالمبتدع الكافر عمله كله مردود لفقده شرط الإسلام الذي هو شرط قبول كل عمل صالح. وأما المبتدع غير الكافر، فإما أن يكون عمله بدعة محضاً أو لا، فإن كان عمله بدعة محضا فهو مردود لفقده شرط المتابعة، وكذلك ما فقد من أعماله شرط الإخلاص فإنه مردود أيضاً، وأما إن كان لعمله أصل في الشرع فإما أن تدخل عليه البدعة أو لا، فإن لم تدخل عليه وكان خالصاً لله فهو مقبول. وإن دخلت عليه فإما أن تفسده- وذلك باخلالها بشروط صحته- أو لا. فإن لم تخل بشروط صحته فهو وإن كان آثماً على ابتداعه إلا أن عمله مقبول. وإن أخلت بشروط صحته فهو مردود، والله أعلم. 13 - بيان موقف أهل السنة من حكم قبول توبة أهل البدع: وأن توبتهم مقبولة عند الله إن استوفت شروط التوبة، لكنهم لا يوفقون للتوبة ولا تحصل منهم إلا قليلًا لكونهم يرون أن بدعهم من الدين فلا يتوبون منها ما داموا كذلك، بخلاف العصاة، فإنهم يعلمون مخالفتهم للشريعة فتسهل توبتهم من المعاصي وهذا معنى ما روي عن بعض السلف (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، والمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها).

14 - بيان موقف أهل السنة من الصلاة خلف المبتدع وأن الحكم في هذه المسالة يختلف باختلاف أحوال أهل البدع، ونوع الصلاة المقامة خلفهم، فإن كان المبتدع كافراً لا تصح الصلاة خلفه لفساد صلاته في نفسه، لكن إن كان إمام جمعة، ولا يمكن أداؤها إلا خلفه فتؤدى خلفه ثم تعاد، وأما إن كان المبتدع غير كافر، وليس بداعية فتؤدى الصلاة خلفه، وإن أمكن أداؤها خلف العدل فهو أفضل، وإن كان المبتدع غير كافر وهو داعية لبدعته فتؤدى الصلاة خلفه أيضاً إن لم يمكن أداؤها إلا خلفه، وتكره الصلاة خلفه إن أمكن أداؤها خلف إمام عادل. 15 - بيان موقف أهل السنة من مناكحة أهل البدع: وأن حكم مناكحة المحكوم بكفرهم من أهل البدع محرم على الإطلاق لكفرهم وارتدادهم عن الدين، فلا يجوز التزوج منهم ولا تزويجهم بإجماع أهل السنة، وأما إن كان المبتدع غير كافر فلا يزوج السنية؛ لأنه غير كف لها لكن يصح تزويجه منها مع الكراهة بموافقة المرأة وأوليائها؛ لأن الكفاءة حق لهما ويجوز لهما إسقاطه، وأما زواج الرجل من أهل السنة بالمرأة المبتدعة التي لم تبلغ ببدعتها حد الكفر فصحيح؛ لأن الكفاءة إنما تشترط في جانب الرجل بأن يكون كفؤاً للمرأة لا العكس، لكن زواجه من المبتدعة هنا مكروه للمفاسد المترتبة على ذلك الزواج. 16 - بيان موقف أهل السنة من حكم أكل ذبائح أهل البدع: وأن الحكم في المسالة يختلف بحال المبتدع من حيث كفره ببدعته من عدمه، فإن كان كافراً فلا تؤكل ذبيحته؛ لدلالة النصوص وأقوال أهل العلم على تحريم ذبائح الكفرة والمشركين من غير أهل الكتاب. وأما إن كان المبتدع غير كافر ببدعته فذبيحته حلال للإجماع على حل ذبائح المسلمين، أما كونه مبتدعاً فلا تأثير له على حل ذبيحته ما دام مسلماً. 17 - بيان موقف أهل السنة من عيادة أهل البدع: وأن المبتدع الكافر ببدعته لا تشرع عيادته إلا إذا غلب على الظن تحقق مصلحة من ورائها كاستجابة المبتدع إلى الدعوة إلى السنة، وتوبته من البدعة، أو تحقق بها أمر مشروع كصلة رحم، أو إحسان إلى جار، وأما إن كان المبتدع لم يبلغ ببدعته حد الكفر وهو مسلم فعيادته جائزة، بل عيادته من جملة حقوقه على المسلمين، غير أنه إن كان داعية لبدعته، فتترك عيادته من باب الهجر والعقوبة له لا لأن عيادته غير جائزة.

18 - بيان موقف أهل السُنّة من شهود جنائز أهل البدع: وأن المبتدع إن كان كافراً ببدعته فلا تجوز الصلاة عليه لعموم النهي عن الصلاة على الكفار والمنافقين والاستغفار لهم، وان كان المبتدع غير كافر فالصلاة عليه جائزة بل مشروعة، لكن إن كان المبتدع داعية فيشرع ترك الصلاة عليه وذلك مقيد بثلاثة شروط: أ- أن يقصد بترك الصلاة عليه الزجر والتأديب لغيره عن مثل فعله لا أن الصلاة عليه غير جائزة. ب- أن يغلب على الظن تحقق تلك المصلحة وهي الانزجار عن مثل فعل الميت وإلا لم يكن ترك الصلاة عليه مشروعاً. جـ- أن يوجد من المسلمين من يصلّي على ذلك الميت، فإنه لا يجوز أن يجتمع المسلمون على ترك الصلاة على مسلم، وإن كان مبتدعاً بل لابد من الصلاة عليه ودفنه. 19 - بيان موقف أهل السنة من توريث أهل البدع وإرثهم: وأن المبتدع الكافر ببدعته لا يرث أحداً من المسلمين، ولا يرثه منهم أحد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وهذا إن كان المبتدع الكافر مظهراً للكفر معلناً له، أما إن كان مستتراً عليه، مظهراً للإسلام كفعل بعض أهل البدع الذين يخفون معتقداتهم ويلتزمون في الظاهر بعقيدة المسلمين فهؤلاء يحكم لهم بحكم أهل الإسلام، فيرثون أقرباءهم، ويرثهم أقرباؤهم، كما جرى عليه عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع المنافقين، فإنهم كانوا يجرون عليهم أحكام الإسلام في الدنيا من الموارثة وغيرها ما لم يظهروا الكفر والنفاق. 20 - بيان موقف أهل السنة من بغض أهل البدع وإظهار عداوتهم: وأن من أصول أهل السنة بغض أهل البدع ومعاداتهم في الله، لخروجهم عن السنة وابتداعهم في الدين، وأنه ينبغي أن يظهر ذلك البغض وتلك العداوة على الجوارح من التصريح ببغضهم، ومعاملتهم بالغلظة والشدة، وقطع معونتهم والسعي في إبطال مقاصدهم أحياناً، وغير ذلك من الأساليب المظهرة للبغض والعداوة لهم. 21 - بيان موقف أهل السنة من غيبة أهل البدع: وأن غيبة المبتدع إن كانت للتحذير منه جائزة في الشرع، على ما دلت عليه النصوص وأقوال أهل العلم، غير أنها مقيدة بثلاثة شروط: الأول: الإخلاص فيها.

الثاني: أن يكون المبتدع المحذر منه مجاهراً بالبدعة معلناً لها فأما من كان مستتراً فلا تجوز غيبته ولا التشهير به. الثالث: أن يكون المبتدع المتكلم فيه حياً غير ميت، فإن كان ميتاً فلا تجوز غيبته، إلا أن يكون له كتب تقرر البدع وأتباع ينشرونها بعده فإنه يحذر منه. 22 - بيان موقف أهل السنة من السلام على أهل البدع: وأن الحكم في المسالة يختلف باختلاف حال المبتدع من حيث كفره من عدمه، فإن كان كافراً فيحرم ابتداءه بالسلام ويجب الرد عليه إذا سلّم بان يقال له: (وعليكم) حكمه في ذلك حكم الكافر الأصلي، وأما إن كان المبتدع غير كافر ببدعته فيسن ابتداءه بالسلام ويجب الرد عليه إذا سلم، حكمه في ذلك حكم غيره من المسلمين، لكن يشرع ترك السلام على المبتدع الداعية وترك الرد عليه من باب الزجر والعقوبة، كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام على بعض المخالفين والمحدثين من المسلمين لهذا الغرض. 23 - بيان موقف أهل السنة من حكم مجالسة أهل البدع: وأن هجر أهل البدع وترك مجالستهم من أصول أهل السنة التي استفاض بها النقل عنهم في كتب السنة والاعتقاد واتفق عليها العلماء المقررون لمذهب أهل السنة من لدن عصر الصحابة إلى هذه العصور المتأخرة، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد بقوله من أهل السنة، لكن ينبغي أن يعلم أن هجر المبتدع إنما شرع لمقاصد وأغراض شرعية فمتى ما حقق تلك الأغراض فهو مشروع، وإلا لم يكن مشروعاً بل قد يكون التأليف هو المشروع. 24 - بيان موقف أهل السنة من احتقار أهل البدع وإذلالهم وترك تعظيمهم وتوقيرهم وأن احتقار أهل البدع وترك تعظيمهم من أصول أهل السنة التي دلت النصوص وإجماع سلف الأمة على تقريره، وأن من صور تعظيم أهل البدع الواجب تركها والتي حذر العلماء منها: إطلاق الألقاب الحسنة المشعرة بالتعظيم عليهم، وتكنيتهم، والبشاشة في وجوههم وتقديمهم في المجالس، والتلطف معهم، ودعوتهم للطعام، وتهنئتهم واستعمالهم في الوظائف، ومشاورتهم، فيجب الحذر من كل ذلك. 25 - بيان موقف أهل السنة من مجادلة أهل البدع: وأن المجادلة بوجه عام تنقسم إلى قسمين- على ما دلت على ذلك النصوص الشرعية وكلام أهل العلم- مجادلة محمودة وهي: ما كانت لإثبات الحق أو دفع الباطل، أو للتعليم والاستيضاح فيما يشكل من المسائل، ومجادلة مذمومة وهي: ما كانت لرد الحق أو لنصرة الباطل، أو كانت فيما نهى

الله ورسوله عن المجادلة فيه كالمجادلة في المتشابه، وفي الحق بعد ما تبين أو كانت لحظ النفس، كإظهار الفطنة والذكاء والعلم، مراءاة للناس، وطلباً لثنائهم أو لغير ذلك من المقاصد المذمومة كالعناد والتعصب للرأي، فمتى ما كانت مجادلة أهل البدع من النوع الأول فهي محمودة مأمور بها، ومتى ما كانت من النوع الثاني فهي مذمومة منهي عنها. 26 - بيان موقف أهل السنة من عقوبة أهل البدع بالقتل وبغيره من أنواع التعزير: وبيان مشروعية هذه العقوبات عند أهل السنة، وأن لقتل أهل البدع مقصدين صحيحين: أحدهما: قتلهم ردة إن صدر منهم ما يوجب كفرهم وثبتت عليهم الحجة بذلك. والأخر: قتلهم دفعاً لفسادهم وحماية للناس منهم حتى وإن لم يحكم بكفرهم، مراعاة لمصلحة المسلمين العامة. وأما ما دون القتل من العقوبات فهي غير محددة، وإنما ترجع إلى اجتهاد ولاة الأمر في اختيار ما يرونه مناسبا من أنيل العقوبات الملائمة لحال المبتدع، وظروف الزمان والمكان. ولذا تعددت عقوبات السلف لأهل البدع: فمنهم من ضرب وجلد، ومنهم من سجن، ومنهم من غُرّب، ومنهم من حرق كتبهم وهدم بيوتهم إلى غير ذلك من العقوبات المنقولة عن السلف في حق أهل البدع. 27 - بيان موقف أهل السنة من شهادة أهل البدع وأن أهل البدع ينقسمون بالنظر إلى قبول شهادتهم أو ردّها إلى قسمين: قسم مجمع على رد شهادته وهو المبتدع الكافر ببدعته، أومن كان مستحلًا للكذب والشهادة بالزور لموافقيه. وقسم مختلف في قبول شهادته وردها وهو المبتدع المسلم الذي لم يحكم عليه بكفر ولا يعرف عنه استحلال الكذب، فذهب بعض أهل العلم إلى قبول شهادته مطلقاً، وذهب بعضهم إلى ردها مطلقاً، وذهب أكثر أهل العلم إلى التفريق بين الداعية وغير الداعية فأجازوا شهادة غير الداعية، وردوا شهادة الداعية من باب الزجر والعقوبة. وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى (¬1). 28 - بيان موقف أهل السنة من رواية المبتدع: وأن المبتدع تُرَدُّ روايته إن كان كافراً ببدعته على قول الجمهور، وقد نقل بعض أهل العلم الإجماع على ذلك- وأما من كان ¬

_ (¬1) نعم لا تقبل روايتهم من باب الزجر والعقوبة، وأما لاعتبار أنهم ليسوا من أهل العدالة فهذا مبني على تعريف العدالة المشهور من أنها ملكة تحمل على ملازمة التقوى والسلامة من خوارم المروءة، وقد سبق في شرح الموقظة بيان أن مدار العدالة على مظنة الصدق، فالأقوى إمكان قبول شهادة المبتدعة إلا من أجاز الكذب لنصرة مذهبه كالخطابية، أو من كانت بدعته مكفرة.

مستحلاً للكذب في نصرة مذهبه، فلا خلاف بين أهل العلم في أن روايته مردودة، وأما المبتدع غير الكافر فقد اختلف العلماء في قبول روايته على أربعة أقوال، ذهب بعضهم إلى ردها مطلقاً، وذهب بعضهم إلى قبولها مطلقاً إلا أن يستحل الكذب وذهب بعضهم إلى قبول رواية غير الداعية وترك رواية الداعية، وذهب بعضهم إلى قبول رواية غير الداعية إلا إن روى ما يُقَوِّي بدعته. والراجح من تلك الأقوال هو القول الثالث وهو قول الجمهور. 29 - بيان موقف أهل السنة من تلقي العلم عن أهل البدع وحكم استخدامهم في التدريس: ونهى السلف عن تلقي العلم عن أهل البدع، وتنصيب أهل البدع مدرسين لأبناء أهل السنة خشية افتتان الدارسين بهم، ولأن ذلك فيه زجرا لهم وعقوبة عن الابتداع. وهذا في حال السعة، أما عند الضرورة فيجوز استخدامهم في التدريس كان لا يمكن إقامة التعليم إلا بهم، أو ترتب على ترك استخدامهم مفسدة أعظم من مفسدة استخدامهم أو تحقق باستخدامهم مصلحة راجحة على مصلحة ترك استخدامهم. 30 - بيان موقف أهل السنة من استخدام أهل البدع في الجهاد، وأن الحكم في هذه المسالة يختلف باختلاف أحوال أهل البدع وظروف المسلمين. فتجوز الاستعانة بهم عند الحاجة إن كانوا حسني الرأي في المسلمين وتكره عند عدم الحاجة، وتحرم الاستعانة بهم مطلقاً إن كانوا معروفين بغش المسلمين وعدم النصح لهم). وكتبه حامدا ومصليا ... أبو المنذر محمود بن محمد بن مصطفى المنياوي وكان الفراغ منه يوم الجمعة 14 من شهر جمادى الأول لعام 1433هـ الموافق 6 من شهر أبريل لعام 2012م أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبل مني هذا العمل وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وألا يجعل لأحد فيه شيئا، وأن يدخر لي أجره يوم ألقاه. وأرجو من الله أن يكتب له القبول وأن ينفع به المسلمين، أنه ولي ذلك وهو القادر عليه. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

§1/1