التسعينية
ابن تيمية
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة للناشر، فَلَا يجوز نشر أَي جُزْء من هَذَا الْكتاب، أَو تخزينه أَو تسجيله بأية وَسِيلَة، أَو تَصْوِيره أَو تَرْجَمته دون مُوَافقَة خطية مُسبقة من الناشر. الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، 1420 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر ابْن تَيْمِية، أَحْمد عبد الْحَلِيم التسعينية / تَحْقِيق مُحَمَّد إِبْرَاهِيم العجلان - الرياض. 376 ص، 17 × 24 سم ردمك: 5 - 36 - 830 - 9960 (مَجْمُوعَة) 3 - 37 - 380 - 9960 (ج 1) 1 - العقيدة الإسلامية 2 - الفلسفة الإسلامية 3 - الْفرق الإسلامية أ - العجلان، مُحَمَّد إِبْرَاهِيم (مُحَقّق) ب - العنوان ديوي 245. . . 4206/ 19 رقم الْإِيدَاع: 4206/ 19 ردمك: 5 - 36 - 830 - 9960 (مَجْمُوعَة) 3 - 37 - 830 - 9960 (ج 1) مكتبة المعارف للنشر والتوزيع هَاتِف: 4114535 - 4113350 فاكس: 4112932 - برقيًّا دفتر ص:. ب: 3281 الرياض - الرَّمْز البريدي 11471 سجل تجاري 6313 الرياض
وكذلك تسعينية فيها له ... رد على من قال بالنفساني تسعون وجهًا بينت بطلانه ... أعني كلام النَّفس ذا الوحدان
مقدمة التحقيق
المقدمة الحمد لله ربّ العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، القائل سبحانه {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (¬1)، والقائل جلّ ذكره: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صَلَّى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرًا بعثه الله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين. فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة وبين لها جميع ما تحتاج إليه في أصول دينها وفروعه، حتَّى تركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، وعلي هذا المنهج سار أصحابه الكرام، ومن تلاهم من القرون المفضلة، حتَّى ظهرت البدع، واستبدت ظلماتها وذاق الأئمة -الذين وهبهم الله الإيمان والعمل- في سبيل إخمادها أنواع العذاب (¬3). ومن أبرز هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله رحمة واسعة- الذي قدم المؤلفات الكثيرة في بيان السنة وتوطيد العقيدة وهدم البدع ومما ألفه في هذا الباب (التسعينية) في الرد على الأشاعرة والكلابية القائلين بالكلام النفسي، وغيرهم. ¬
وكانت علاقتي بمؤلفات هذا العالم الجليل عندما كنت في سنوات الدراسة، حيث قرأت العقيدة الواسطية، فالحموية، فالتدمرية، وكنت أعجب من مناقشة هذا العالم لخصومه، ومدى قدرته على استنباط الأدلة العقلية الموافقة للأدلة النقلية، وصبر هذا الإمام عليهم ومجادلتهم مجادلة موضوعية عجيبة، فكنت في شغف للاطلاع الحر على مؤلفات هذا الإمام. وفي مرحلة الدراسات العليا -الماجستير- سجلت موضوعًا باسم "الإيمان- حقيقته وآثاره"، وفي هذه المرحلة يصبح الإنسان مدفوعًا إلى ضرورة القراءة الواسعة، والمراجعات الدقيقة، فاعتمدت في هذا البحث -بالدرجة الأولى- على كتاب "الإيمان" لابن تيمية، وعندئذ زادت علاقتي بمؤلفات هذا الإمام الكبير، واطلعت على قدر لا بأس به من مؤلفاته -رحمه الله- وكان ممَّا وقع في يدي كتابه "التسعينية" فما انتهيت من بحثي السابق إلّا وسارعت وبدون تردد إلى تسجيل هذا الكتاب للحصول -بتحقيقه ودراسته- على درجة الدكتوراه، للأسباب التالية: 1 - ما تقدمت الإشارة إليه من رغبتي الأكيدة في الاطلاع على مؤلفات هذا الإمام وقراءتها قراءة متأنية، وهذا ما تم بفضل الله تعالى -حيث دعاني البحث في هذا الكتاب إلى الاطلاع على بعض كتب الشَّيخ -رحمه الله- مثل: "درء تعارض العقل والنقل"، و "منهاج السنة النبوية"، و"بيان تلبيس الجهمية"، وغيرها كثير، كـ "مجموع الفتاوى"، و "بعض رسائله رحمه الله" والتي سأفيد منها -إن شاء الله- في تعليقاتي على بعض مسائل الكتاب. 2 - أن هذا الكتاب من الكتب التي ألفها -رحمه الله- في الأصول للرد على القائلين بالكلام النفسي، وهم: الأشاعرة، والكلابية، ومن سلك سبيلهم، فقد بحث الشَّيخ هذه المسألة بإفاضة وتحليل، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، من غير محاباة ولا مداهنة، فهو بحق يعد من أهم المصادر في العقيدة التي تحتاج إلى خدمة علمية تعين القارئ على قراءته، وفهم مسائله ودقائقه. والكتاب لم يقم أحد بتحقيقه علميًّا -رغم أهميته- لذا رأيت أن تحقيقي
له بعد دراسة لأهم مسائله يعد مشاركة واجبة مني في خدمة تراث السلف الذي يحتاج من طلاب العلم إلى الجهد والتضحية في سبيل إخراجه بصورة سليمة كما أرادها أولئك. 3 - أنَّه ممَّا ألفه -رحمه الله- في ظل ظروف صعبة -فقد ألفه وهو في السجن بمصر، وطلب منه الرجوع عن بعض معتقده، وكتبوا له ورقة في أهم المسائل التي يريدون منه عدم البوح بها، وهي ما أجاب عنه الشَّيخ في هذا الكتاب، إذ هو ثمرة صبره -رحمه الله- على المحنة، ومفارقة الأهل والوطن، والثبات على العقيدة السلفية المتلقاة من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح. يقول الشَّيخ (1) -رحمه الله- مشيرًا إلى ما ذكرته: "وقد كتبت هنا بعض ما يتعلق بهذه المحنة التي طلبوها مني في هذا اليوم، وبينت بعض ما فيها من تبديل الدين واتباع غير سبيل المؤمنين، لما في ذلك من المنفعة للمسلمين، وذلك من وجوه كثيرة. . . ". 4 - أن هذا الكتاب يناقش مسألة عظيمة من أهم المسائل وهي: مسألة كلام الله -تعالى- والرد على من طعن فيه، ودحض باطل من يحاول التشكيك في القرآن الكريم الذي هو دستور المسلمين، وبه نجاتهم، إذ الإيمان به أصل الإيمان، لذا يجب على علمائهم المدافعة عنه، وبيان ضلال من قدح فيه. فإخراج هذا الكتاب محققًا مدروسًا فيه منفعة للمسلمين -إن شاء الله- ممن يهمهم الحفَّاظ على معتقدهم، كما أشار الشَّيخ -رحمه الله- في أول هذا الكتاب (¬1) حيث بين أنَّه ضمنه ما فيه المنفعة للمسلمين. 5 - أن هذا الكتاب يتحدث عن مسألة كتاب الله تعالى، ويوضح القول الحق الذي يجب على المسلمين اعتقاده، ويرد القول بخلق القرآن، وكثير من النَّاس لا يعلم أن المقصود من ذلك إبطال الصفات والشرائع (¬2). ¬
6 - أن هذا الكتاب يمثل عقيدة السلف الصالح -رضوان الله عليهم- بما يحويه -إضافة إلى مسألة الكلام- من موضوعات عقدية أبرزها شيخ الإسلام بصورة توافق الكتاب والسنة وأقوال الصّحابة والتابعين لهم بإحسان، كمسألة علو الله، وعلم الله وقدرته، ونزوله، ومجيئه، وضحكه، وغيرها. 7 - نقل الثقات من أهل العلم عن هذا الكتاب في مقام الاستشهاد كابن القيِّم -رحمه الله- والشيخ عبد العزيز بن حمد آل معمر (¬1)، وكذلك عالم الشام: جمال الدين القاسمي (¬2)، وكذلك محمد السفاريني (¬3)، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. 8 - أن هذا الكتاب يتضمن نقولًا من مصنفات مفقودة، أو لم ييسر خروجها إلى الآن، وذلك مثل كتاب "السنة" لأبي الشَّيخ الأصبهاني، و "السنة" للطبراني، وغيرهما. 9 - أن الشَّيخ -رحمه الله- أحسن في تناوله لمسائل هذا الكتاب، بالإشارة إلى مجموعة كبيرة من المراجع التي تعين الباحثين في موضوع صفات الله -سبحانه- وهي مراجع أصيلة، منها ما يتعلق بأحاديث النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ومنها ما يتعلق بمصنفات لمؤلفين عنوا بهذا الموضوع، وهذا الصنيع من شيخ الإسلام يجعل لكتابه هذا مهمة التوجيه والإرشاد البحثي في موضوع عظيم من موضوعات العقيدة (¬4). وقد واجهتني بعض الصعوبات أثناء التحقيق، والتي عادة ما تواجه الباحث، أذكر منها: 1 - كثرة البياض والتي تتفق عليه النسخ، وهو يتراوح ما بين كلمة وبضعة أسطر، وهذا أمر أعاقني كثيرًا، حيث بذلت -بالتعاون مع المشرف- وفقه الله- جهدًا في سبيل إيجاد بعض الكلمات والعبارات التي تتفق وأسلوب الشَّيخ وتكمل المعنى وتناسب السياق، وأذكر منها على سبيل المثال: ¬
البياض في ص: 111، وفي ثلاثة أماكن، منها بقدر سطر تقريبًا. ص: 201 بقدر ثلاث كلمات. ص: 792 بقدر عدة أسطر. 2 - من عادة الشَّيخ -رحمه الله- في مصنفاته أنَّه يقوله: "وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع" وهذه العبارة وردت في هذا الكتاب كثيرًا، ممَّا تطلب مني جهدًا في البحث عن الموضع الذي أحال عليه الشَّيخ -رحمه الله- في مصنفاته الأخرى إلّا ما ندر. 3 - يذكر الشَّيخ -رحمه الله- كتابًا لمؤلف، وينقل منه باسم مختصر، أو يذكر اسم الكتاب بالمعنى، لاعتماده على الحفظ، ممَّا يعيق سرعة الحصول على الكتاب -إن كان موجودًا- أو التعريف به من الكتب التي تهتم بالتراث، ومن أمثلة ذلك ما ورد في ص: 323 وما ورد في ص: 325، ص: 334، 436 إلى غير ذلك. 4 - النقل من كتب مخطوطة، وقد يبلغ الكتاب مجلدات، وصعوبة العثور على بعض النقول من الكتب المخطوطة لا يخفى على من سلك هذا الطريق، لا فيما إذا كان المخطوط مصورًا، أو لم يخدم بوضع فهارس، ومن أمثلة المخطوطات التي رجعت إليها في التحقيق ونقل منها المؤلف رحمه الله: - نهاية العقول في دراية الأصول- للفخر الرازي. - السنة "المسند من مسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل رواية أبي بكر الخلال". - ذم الكلام- لأبي إسماعيل الهروي. - إبطال التأويلات لأخبار الصفات- للقاضي أبي يعلى. - الأسنى شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى- لأبي عبد الله القرطبي. 5 - طول الكتاب وصعوبة مادته العلمية، ولا أبالغ إذا قلت: إنني أمضي الساعات الطويلة لفهم بعض العبارات.
6 - أن الشَّيخ -رحمه الله- يشير إلى بعض الروايات برموز عامة يصعب تحديدها، وخاصة إذا كانت الرواية ضعيفة أو موضوعة، ممَّا يجعل البحث عنها يتطلب وقتًا وجهدًا، وذلك مثل ما أورده في ص: 965 حيث قال: "كحديث الملائكة الأربعة" وإشارته إلى أنَّه حديث موضوع. وعلي الرغم من حجم هذه الصعوبات وتنوعها، فإن ما فيها من متاعب، كانت متاعب ممتعة، لما وجدته من إفادة طلاب العلم بمسائل هذا الكتاب، والذي يرغب الشهد، فليصبر على إبر النحل. وستكون خطتي في هذا البحث على النحو التالي: المقدمة. التمهيد: وسأذكر فيه ما يتعلق بالفرق الضَّالة وخطرها على المعتقد الصَّحيح. القسم الأول: الدراسة. وفيه بابان: الباب الأول: المؤلف، حياته وعصره. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: حياته، وفيه مبحثان: 1 - اسمه ومولده. 2 - نشأته وصفاته. الفصل الثَّاني: عصره، وفيه مباحث: 1 - الناحية السياسية. 2 - الناحية الاجتماعية. 3 - الناحية العلمية. الفصل الثالث: محنته، ووفاته. الباب الثَّاني: كتابه التسعينية ودراسة بعض مسائله. وفيه فصلان: الفصل الأول: تعريف بالكتاب، وفيه مباحث:
1 - سبب تأليف الكتاب وتسميته. 2 - تاريخ تأليفه. 3 - توثيق نسبته إلى مؤلفه. 4 - منهج المؤلف في الكتاب. 5 - نسخ الكتاب. 6 - منهجي في تحقيقه. الفصل الثَّاني: دراسة بعض مسائله، وفيه مباحث: 1 - فتنة القول بخلق القرآن. 2 - مسألة كلام الله. 3 - إلزامات. القسم الثَّاني: التحقيق. هذا وإني لست أدعي الكمال، فالكمال لله وحده، فالكل معرض للنقص والتقصير، ولكن حسبي بذلك أني بذلت جهدي، فإن أصبت فمن الله وتوفيقه وعونه، وإن أخطأت فمني، ومن الشيطان، وأستغفر الله وأتوب إليه. ولا يفوتني في ختام هذه المقدمة أن أسجل كلمة شكر وعرفان لفضيلة الدكتور: محمد رأفت سعيد، المشرف على هذه الرسالة، على ما قدمه لي من عون، وما أرشدني إليه من ملحوظات، فقد كان -وفقه الله- خير معين ومرشد، ولم يبخل علي بوقت ولا علم ولا جهد في سبيل إنجاز هذا البحث. كما أشكر كلًّا من فضيلة الشَّيخ عبد العزيز عبد الله آل الشَّيخ، وفضيلة الدكتور سالم بن عبد الله الدخيل، على توليهما مناقشة هذه الرسالة، وأعدهما أن ما يقدمانه من ملاحظات وتوجيهات سوف تكون نصب عيني، وسوف أعمل -بمشيئة الله تعالى- على تلافيها. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
التمهيد
التمهيد
التمهيد الفرق الضَّالة وخطرها على المعتقد الصَّحيح: الصراع بين الحق والباطل قديم منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، وسوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فبينهما صراع لا يفتر ولا يلين ولا يتوقف، صراع متنوع متعدد الأشكال، فهناك صراع عقدي، وصراع سياسي، وصراع إعلامي، وصراع اقتصادي. . . إلخ، والله شاء ذلك لحكمة، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬1). والصراع الحقيقي هو الصراع العقدي، وما سواه صراعات فرعية، لكن أهل الباطل ربما يتسترون وراء عوامل فرعية خداعًا وتمويهًا، حتَّى يصلوا إلى مرادهم، وهو هدم الإسلام وزعزعة كيانه، وذلك بإثارة الشكوك والفتن بين أفراده والنيل من معينه الصافي (الكتاب والسنة) ومحاولة تحريفهما وتأويلهما (¬2). ولو تتبعنا التاريخ للفرق المختلفة في باب العقيدة لوجدنا أن الحقد الدفين الذي تكنه عناصر دخيلة على الإسلام وراء ذلك التفرق (¬3)، فعندما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد في آسيا وإفريقيا، وغيرهما، دخل تحت ¬
حكمه أمم كثيرة، رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية، ومجوسية، ونصرانية، ووثنية، وغير ذلك، وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير، مثل المجوس والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، لا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم وأقلها شأنًا، كما أن اليهود واجهوا الإسلام ورسوله من أول أمره بالعداء وحاولوا القضاء عليه بأنواع من المكائد والمؤامرات، ولما يئس هؤلاء جميعًا من قدرتهم في مجابهة الإسلام بالقوة وجهًا لوجه انصرف جهدهم وكيدهم إلى الدسائس والمؤامرات والاغتيالات لرجاله العظام. ودخل في الإسلام -ظاهرًا- من هؤلاء من قصده إفساده وتمزيق وحدة أهله، ولا بد أن يكون ذلك عن دراسة، وإعمال فكر وتخطيط وربما يكون هناك جماعات متعاونة، من المجوس واليهود، والنصارى والهنود وغيرهم، وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لإفساد عقائد المسلمين، لتيقنهم أنَّه لا يمكن هزيمة المسلمين إلَّا بإفساد عقيدتهم، فبدأت آثار المؤامرات تظهر شيئًا فشيئًا، فقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيدٍ مجوسية (¬1)، وربما بمؤامرة مجوسية يهودية. ثم قتل الخليفة عثمان بعده بأيدٍ مشبوهة (¬2)، من غوغاء، يدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس (¬3). ثم ظهر القول بنفي القدر، وأول من ابتدع القول به بالعراق، رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه، من أبناء المجوس، وتلقاه عنه معبد الجهني (¬4). ¬
ثم ظهرت بدعة الخوارج في عهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سنة 37 هـ، حيث اعترضوا على قبول التحكيم، واستمروا في ضلالهم وعنادهم إلى أن انتهى الأمر إلى الحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر في الدُّنيا وإباحة دمه وماله، والخلود في النَّار بالآخرة. ولا أستبعد أن يكون وراء هذه البدعة أيد خفية تسترت بالإسلام ظاهرًا. ثم ظهرت بدعة التشيع، وكان وراء هذه البدعة رجل يهودي اسمه عبد الله بن سبأ (¬1)، ادعى الإسلام، وغلا في علي - رضي الله عنه - فقال بنبوته، ثم غلا، فقال بألوهيته، ودعا إلى ذلك قومًا من غواة الكوفة (¬2). والشيعة فرق متعددة مختلفة فيما بينها يجمعها القول بإمامة علي وخلافته نصًّا ووصية، وهي من مخلفات ابن سبأ (¬3). وقد استغل أعداء الإسلام مذهب التشيع للكيد له ومحاولة الوصول إلى أهدافهم عن طريقه، لكن الله حفظه، وأتم نوره. يقول ابن حزم مقررًا هذه الحقيقة: ". . . فلما امتحنوا -يعني الفرس- بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطرًا تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله -سبحانه وتعالى- الحق. . . " إلى أن قال: ". . . فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ¬
واستشناع ظلم علي (¬1) - رضي الله عنه - ثم سلكوا مسالك شتى حتَّى أخرجوهم عن الإسلام. . . " (¬2). ثم ظهرت المرجئة كرد فعل للخوارج والشيعة، وأرجؤوا الحكم على مرتكب الكبيرة إلى يوم القيامة، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة (¬3). ثم ظهرت الجهمية المعطلة لصفات الرَّبِّ -سبحانه- وأصل هذه المقالة -كما يقول الشَّيخ -رحمه الله-: "مأخوذة عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنَّه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني أن الله ليس على العرش حقيقة، وأن معنى (استوى) بمعنى (استولى) ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه". وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبيان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة. . . " إلى أن قال: ". . . فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة" (¬4). أما المعتزلة فقد ثبتت القول بالقدر -الذي قال به وكما تقدم- رجل من أبناء المجوس -وتعددت فرقها فيه، وكفر بعضهم البعض الآخر. وقد تأثر شيوخ المعتزلة- كأبي الهذيل العلاف، والنظام، وغيرهما -بما عرب من ¬
كتب الفلاسفة، وأظهروا موافقتهم لهم (¬1). ثم ظهرت الأشعرية، وهي خليط من مذاهب عدة فرق كالمعتزلة، والكلابية والجهمية (¬2). وأبو الحسن الأشعري -الذي تنتسب إليه هذه الطائفة- أخذ عن الجبائي الاعتزال، ولازمه دهرًا طويلًا، ثم سلك طريق ابن كلاب إلى الصفات، والقدر، وغير ذلك. وسلك طريقه جماعة من العلماء، مثل: الباقلاني، وابن فورك، والإسفراييني، والشيرازي، والغزالي، والشهرستاني، والرازي، وغيرهم وملؤوا الدُّنيا بتصانيفهم، يحتجون، ويدعون أن طريقتهم هي طريقة أهل السنة والجماعة، فانتشر هذا المذهب في البلاد الإسلامية، وجاءت دولة بني أيوب، وكانوا على هذا المذهب، ثم مواليهم الأتراك، وأخذه ابن التومرت إلى المغرب، ونشره هناك، فصار هذا المذهب هو المعروف في الأمصار، بحيث نسي ما عداه من المذاهب أو جهل، حتَّى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلّا أن يكون مذهب الحنابلة (¬3). ومن هذا العرض المختصر لهذه الفرق يتضح لنا مدى تأثير القوى الخفية -التي تدفعها أيد يهودية ومجوسية- عليها، وأن أعداء الإسلام لن يألوا جهدًا ولا يهنأ لهم عيش، ولا يقر لهم قرار حتَّى ينفذوا مخططاتهم -عمليًّا- التي أمضوا الوقت الطَّويل في دراستها، ولهم أساليبهم المختلفة في التنفيذ، وطرقهم الخفية في الغزو، وقد اتخذوا معتقد المسلم هدفًا أسمى يرمون إليه، فإذا استطاعوا صرفه، أو على الأقل الإخلال به وإن ما وراءه من أمور فرعية. وقد أدرك علماء المسلمين خطر هذا التفرق وما يخفيه وراءه من التستر بالإسلام والتسمي به، وأن المقصد أسمى والغاية نبيلة، وإذا حقق الأمر وجد ¬
التعطيل الصرف للباري -سبحانه- وسلبه صفات الجلال والعظمة، فصنفوا المصنفات الكثيرة التي تدحض الباطل وأهله، وتبين الحق وتحث على اتباعه. فصنف حماد بن سلمة (ت: 167 هـ) كتابه في الصفات (¬1)، وكان -رحمه الله- شديدًا على المبتدعة. وصنف عبد الله بن محمد الجعفي (ت: 229 هـ) كتابه في الصفات والرد على الجهمية (¬2). وصنف الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ) كتابه الرد على الجهمية والزنادقة (¬3). وصنف عثمان بن سعيد الدَّارميّ (ت: 280 هـ) كتاب الرد على الجهمية (¬4). وصنف أبو بكر الخلال (ت: 311 هـ) كتاب السنة (¬5). وصنف أبو الشَّيخ الأصبهاني (ت: 369 هـ) كتاب السنة (¬6). وصنف أبو عبد الله بن مندة (ت: 395 هـ) كتاب الرد على الجهمية (¬7). وصنف أبو القاسم اللالكائي (ت: 418 هـ) كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (¬8). وصنف أبو عمر الطلمنكي (ت: 429 هـ) كتاب السنة (¬9)، وصنف ¬
القاضي أبو يعلى (ت: 458 هـ) كتبًا في الرد على الأشعرية والكرامية والباطنية (¬1). هذا قليل من كثير ألفه علماء الإسلام ضد أهل البدع والأهواء في تلك الحقبة من الزمن. وقد تتابع التأليف والتصدي من أئمة الإسلام، وكان من بينهم تقي الدين أبو العباس بن تيمية، فقد تصدى -رحمه الله- للانتصار لمذهب السلف ورد على الأشاعرة، والرافضة، والصوفية، وغيرهم ممن ضل الطريق المستقيم، فألف الكتب الكثيرة، وأجاب على الأسئلة العديدة التي ترده من بلاد شتى. ومما ألفه في الرد على الأشاعرة -خصوصًا- وعلى طوائف أهل الأهواء -عمومًا- هذا الكتاب الذي بين أيدينا، إذ بيّن -رحمه الله- ضلال هذه الطائفة في مسألة عظيمة، وهي: مسألة كلام الله تعالى، وناقش قولهم: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتعلق بمشيئته وقدرته، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة. وبين الشَّيخ -رحمه الله- أن هذا القول ممَّا اختص به الأشعري وابن كلاب، وما سواه فمسبوقان إليه، قد تكلم فيه من سبقهما (¬2). وأستطيع القول من خلال معايشتي لهذا الكتاب إنه الكتاب الوحيد (¬3) من كتب الشَّيخ الذي تفرد بمناقشة الأشاعرة (¬4) في هذه المسألة مناقشة موضوعية ¬
هادئة، كانت نتيجتها -للمحايد- الاعتراف بانتصار الشَّيخ -رحمه الله- على خصومه ببيان الحق في هذه المسألة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال السلف الصالح -رضوان الله عليهم. * * * ¬
الباب الأول المؤلف حياته وعصره
الباب الأول المؤلف حياته وعصره
الفصل الأول حياته
الفصل الأول حياته اسمه ومولده: هو شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد العليم (¬1) بن عبد السلام (¬2) بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية (¬3) الحراني (¬4) الدّمشقيُّ (¬5). ولد -رحمه الله- بحران يوم الإثنين العاشر (¬6) من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة النبوية. نشأته وذكر بعض صفاته: بقي -رحمه الله- بحران إلى أن بلغ سبع سنين، ثم انتقل والده به ¬
وبإخوته إلى الشام -عند ظهور التتار- فقدموا دمشق، ونشأ بها نشأة صالحة، وأنبته الله نباتًا حسنًا، وكانت ملامح النجابة ظاهرة عليه في صغره، وختم القرآن الكريم صغيرًا، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية، حتَّى برع في ذلك، مع ملازمته لمجالس الذكر وسماع الأحاديث والآثار، فسمع دواوين الإسلام الكبار، كصحيح البُخاريّ ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجه والدارقطني، ومسند الإمام أحمد مرات عدة، وأول كتاب حفظه في الحديث "الجمع بين الصحيحين" للإمام الحميدي (¬1). يقول ابن عبد الهادي -بعد ذكره لعناية الشَّيخ -رحمه الله- بالحديث والفقه والعربية: "وأنه تأمل كتاب سيبويه حتَّى فهم النحو، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا حتَّى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك. "وهذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه" (¬2). ونقل ابن عبد الهادي عن الحافظ أبي عبد الله الذهبي أنَّه قال: "نشأ -يعني الشَّيخ تقي الدين -رحمه الله- في تصون تام، وعفاف وتأله وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال، ومات والده -وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم- فدرس بعده بوظائفه، وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكذا كان الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح" (¬3). ولم يزل في ازدياد من العلوم والاشتغال بها، وبث العلم ونشره، ¬
والاجتهاد في سبل الخير، حتَّى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والجلالة والمهابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والعفة وحسن القصد، ومراقبة الله والخوف منه. وقد عقد أبو حفص البزار فصولًا في مآثره الحميدة وصفاته النبيلة. فممَّا قاله في تعبده: ". . . قطع جل وقته وزمانه فيه، حتَّى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى، وما يراد له لا من أهل ولا مال، وكان في ليله منفردًا عن النَّاس كلهم، خاليًا بربه -عزَّ وجلَّ - ضارعًا مواظبًا على تلاوة القرآن العظيم، مكررًا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. . . " (¬1). ومما قاله في ورعه: ". . . كان - رضي الله عنه - في الغاية التي ينتهى إليها في الورع، لأنَّ الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه، فإنَّه ما خالط النَّاس في بيع ولا شراء ولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة. . . ولا كان مدخرًا دينارًا ولا درهمًا ولا متاعًا ولا طعامًا، وإنَّما كانت بضاعته مدة حياته، وميراثه بعد وفاته - رضي الله عنه - العلم، اقتداء بسيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين. . . " (¬2). ومما قاله في زهده: ". . . لقد اتفق كل من رآه، خصوصًا من أطال ملازمته أنَّه ما رأى مثله في الزهد في الدُّنيا، حتَّى لقد صار ذلك مشهورًا بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها، بل لو سئل عامي من ¬
أهل بلد بعيد: من كان أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدُّنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية. . . " (¬1). ومما قاله في إيثاره، مع فقره: ". . . كان - رضي الله عنه - مع شدة تركه للدنيا ورفضه لها، وفقره فيها، وتقلله منها، مؤثرًا بما عساه يجده منها قليلًا كان أو كثيرًا. . . لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به، فقد كان يتصدق، حتَّى إذا لم يجد شيئًا نزع بعض ثيابه، ممَّا يحتاج إليه، فيصل به الفقير، وكان يستفضل من قوته القليل الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك على نفسه. . . " (¬2). وقال في تواضعه: "ما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للصغير والكبير. . . والغني والفقير، وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء، حتَّى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته، جبرًا لقلبه، وتقربًا بذلك إلى ربه. وكان لا يسأم من يستفتيه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عريكة، ويقف معه حتَّى يكون هو الذي يفارقه. . . ولا يحرجه ولا ينفره بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط. . . " (¬3). وقال في لباسه وهيئته: "كان - رضي الله عنه - متوسطًا في لباسه وهيئته، لا يلبس فاخر الثياب ¬
بحيث يرمق ويمد إليه النظر فيها، ولا أطمارًا (¬1)، ولا غليظة تشهر حال لابسها ويميز من عامة النَّاس بصفة خاصة يراه النَّاس فيها، بل كان لباسه وهيئته كغالب النَّاس ومتوسطهم، ولم يكن يلزم نوعًا واحدًا من اللباس فلا يلبس غيره. كان يلبس ما اتفق وحصل، ويأكل ما حضر، وكانت بذاذة (¬2) الإيمان عليه ظاهرة، لا يرى متصنعًا في عمامة، ولا لباس، ولا مشية، ولا قيام، ولا جلوس، ولا يتهيأ لأحد يلقاه، ولا لمن يرد عليه من بلد. . . " (¬3). وقال في كرمه: "كان - رضي الله عنه - مجبولًا على الكرم، لا يتطبعه ولا يتصنعه، بل هو له سجية. . . وكان لا يرد من يسأله شيئًا يقدر عليه من دراهم ولا دنانير، ولا ثياب ولا كتب ولا غير ذلك، بل ربما كان يسأله بعض الفقراء شيئًا من النفقة، فإن كان حينئذ متعذرًا لا يدعه يذهب بلا شيء، بل كان يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه، وكان ذلك المشهور عند النَّاس من حاله. . . " (¬4). ومما قاله في شجاعته وجهاده: "كان من أشجع النَّاس، وأقواهم قلبًا، ما رأيت أحدًا أثبت جأشًا منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم. أخبر غير واحد أن الشَّيخ - رضي الله عنه - كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم أوقفهم، وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم ¬
هلعًا أو رقة وجبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنمية، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، وكان إذا ركب الخيل يتحنك ويجول في العدو كأعظم الشجعان ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيرًا أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت. . . " (¬1). * * * ¬
الفصل الثاني عصره
الفصل الثَّاني عصره وبعد أن تعرفنا على هذه الشخصية الفذة، وما تحويه من الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة التي منّ الله بها عليه، يطيب لي أن نتعرف على العصر الذي عاشت فيه، إذ من الثابت أن الظروف التي تحيط بالشخص، والبيئة التي يعيش فيها، والأحوال السياسية والاجتماعية القائمة في عصره لها أثر في تكوين الشخصية، وتعيين اتجاهها إلى الخير أو الشر. وقد يكون التاثير عكسيًّا، فكثرة الفساد تحمل على التفكير الجدي في الإصلاح، فتدفع المصلح لأنَّ يفكر في أسباب الشر فيقتلعها، وفي نواة الخير الكامنة فيغذيها، وكذلك كان التفاعل بين ابن تيمية وعصره (¬1)، والذي سوف نتكلم عنه في المباحث التالية: الناحية السياسية. الناحية الاجتماعية. الناحية العلمية. الناحية السياسية: الشَّيخ -رحمه الله- عاش في أواخر القرن السابع وأول القرن الثامن للهجرة، وقد كانت البلاد الإسلامية -في هذه الفترة- مليئة بالأحداث المحزنة التي يذكرها المؤرخون بالتفصيل، وأكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى أمور تعد من علامات العصر الذي عاش فيه شيخ الإسلام. فقد بدأ الصليبيون غاراتهم على بلاد الشام سنة 491 هـ، كما يذكر ذلك ¬
ابن الأثير (¬1) عن الحوادث التي جرت في هذه السنة، عندما خرج الفرنج إلى بلاد الشام. واستمر الصليبيون في غاراتهم على الشام ومصر، ينتصرون مرَّة، وينهزمون أخرى نحو قرنين من الزمان، حتَّى انتهى الأمر بطردهم نهائيًّا سنة 690 هـ على يد الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون (¬2). يقول ابن كثير: "في تلك السنة فتحت "عكا" وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق فيها حجر واحد" (¬3). وقد ذكر البزار ما يدل على مشاركة الشيخ -رحمه الله- في فتح "عكا" فقال: "وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح "عكا" أمورًا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها. قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره" (¬4). وبينما كان المسلمون منشغلين بقتال الصليبين، دهمهم خطر التتار الذين قدموا بقيادة زعيمهم "جانكيز خان" يجتاحون البلاد الإسلامية، وكانوا قومًا فيهم غلظة، فأسرفوا في سفك الدماء، ونهب الأموال، وتخريب البلاد حتَّى سقطت بأيديهم بغداد عاصمة الخلافة سنة 656 هـ، وأحالوا هذه المدينة العامرة إلى خراب، فأشعلوا النَّار في دورها، وقتلوا الآلاف من ¬
أهلها، وعلى رأسهم الخليفة العباسي المستعصم بالله (¬1). وبعد استيلاء التتار على العراق وخراسان وغيرها من بلاد الشرق، أصبح الطريق أمامهم مفتوحًا لغزو الشام، فسارعوا بجيوشهم عبر الفرات وما لبثوا أن استولوا على حلب ثم دمشق، حتَّى وصلوا بقيادة "هولاكو" إلى غزة في طريقهم إلى مصر، لكن الملك المظفر "قطز" (¬2) -سلطان ديار مصر- باغتهم بجيش، ودارت بينهم معركة في "عين جالوت" (¬3) سنة 658 هـ، انتهت بهزيمة التتار وفرارهم (¬4). لكن التتار عادوا مرَّة أخرى لغزو الشام سنة 699 هـ، وقصدوا دمشق، فاجتمع أعيان البلد وتقي الدين بن تيمية، واتفقوا على المسير إلى "قازان" -سلطان التتار- ومواجهته قبل دخوله دمشق، وأخذ الأمان منه لأهلها، فتوجهوا إليه، وكلمه الشَّيخ كلامًا قويًّا شديدًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين (¬5)، فحقنت الدماء، وحميت الدَّراري واندحر التتار بعد قدوم العساكر المصرية لمساعدة أهل الشام. وكان رحمه الله يحث النَّاس على الجهاد والاستعداد له في أي لحظة، ¬
ويتلو عليهم آيات الصبر والجهاد، ويجتمع بنواب قازان -بعد رجوعه- لتخليص أسرى المسلمين، وقد فك أسر كثير منهم بسبب جهوده -رحمه الله-. وفي سنة 700 هـ جاءت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، ففزع النَّاس، وشرعوا في الهروب من تلك الديار، لكن الشَّيخ -رحمه الله- حرضهم على البقاء والمدافعة بالغالي والرخيص، وذكرهم بفضل الجهاد، وكلما اقترب التتار من دمشق زاد فزع النَّاس واضطرابهم وهروب البعض منهم، خصوصًا بعد رجوع السلطان الناصر وعساكره إلى مصر من عرض الطريق، وكان خرج منها إلى الشام لمساعدة أهلها، ممَّا جعل الشَّيخ -وبطلب من نائب دمشق- يتوجه إلى مصر بالبريد لحث السلطان على حماية دمشق، إن كانت لهم بهم حاجة. وقال لهم فيما قال: "إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن". ولم يزل الشَّيخ تقي الدين بهم حتَّى خرجت العساكر من مصر إلى الشام، وحثهم على الجهاد ووعدهم بالنصر المؤزر، لكن ملك التتار أحس بضعف جيشه فرجع، وكفى الله المسلمين شرهم (¬1). وفي سنة 702 هـ وردت الأخبار بعزم التتار على غزو الشام، ففزع النَّاس -كما هي حالهم في كل مرَّة- وقدموا فعلًا إلى الشام، وجاءت العساكر المصرية، وخرج الشَّيخ إلى العسكر، واجتمع بهم ووعدهم النصر وحث الأمراء على الصبر ومواصلة الجهاد وعدم التخاذل، ووقعت معركة "شقحب" (¬2) وشارك الشَّيخ -رحمه الله- فيها مشاركة فعلية بعد أن كاد يدب اليأس إلى قلوب النَّاس، وبدأت مظاهر التفرق فيهم، وأفتى -رحمه الله- بفطر النَّاس مدة قتالهم، وأفطر هو -أيضًا- فانتصر المسلمون -بحمد الله- ¬
وغنموا مغانم كثيرة، وخذل التتار وولوا مدبرين (¬1). وفي سنة 705 هـ، كان لجماعة من التتار صولة على جيش حلب، فخرج الشَّيخ أبو العباس ومعه طائفة من الجيش لغزوهم، ثم تبعه نائب السلطان بما بقي من الجيوش الشامية، وقد أبان الشَّيخ -رحمه الله- في هذه الغزوة علمًا وشجاعة ملأت قلوب أعدائه حسدًا وغمًّا (¬2). فمن هذا العرض الموجز نجد أن حياة المسلمين السياسية في الفترة التي عاش فيها الشَّيخ مضطربة، وقد أدى تلاحق الحوادث والحروب إلى عدم استقرارها، ودفع بخيرة أبناء البلاد إلى الحرب والجهاد. هذا بالنسبة للوضع السياسي خارج دولة المماليك. أما في الداخل: فكان حكمهم يزخر بالفتن والاغتيالات والمؤامرات، فما أن تهدأ الأمور وتسير في صالح سلطان حتَّى يتطاول عليه أمير من الأمراء محاولًا اغتصاب السلطة. . . وهكذا، فالقوة كانت إحدى مميزات هذه العصر (¬3)، ممَّا جعل السلاطين يعيشون في وضع غير مستقر، لما يلاقونه ويتعرضون له من القتل والعزل والإذلال. ومما لا شك فيه أن هذا الوضع المضطرب له الأثر السلبي على العلماء المعاصرين له الذين أخذوا العهد على أنفسهم بتوجيه النَّاس الوجهة الصالحة، وبيان الحق لهم، فكانوا يغضبون على تلك الطائفة التي تحاول إثارة الشغب بما تحيكه من المؤامرات ضد السلاطين، خصوصًا وأنهم أظهروا الدفاع عن البلاد الإسلامية، وحماية أهلها، وصدوا هجمات التتار المتكررة -كما رأينا- وحرصوا على مصالح الرعية، وأشاعوا العدل بينهم (¬4). ¬
الناحية الاجتماعية
الناحية الاجتماعية: المجتمع في مصر والشام -في هذه الفترة- يموج بأجناس كثيرة مختلفة في العادات والتقاليد والأخلاق، فكما تقدم جاء الصليبيون وما يحملونه من عادات وأفكار من جهة، وجاء التتار ومعهم تقاليدهم ومبادئهم من جهة، وجاء بعض البغداديين إلى مصر، وخرج البعض من مصر إلى الشام، وذهب آخرون من الشام إلى مصر، وقد امتزجت هذه الشعوب ببعضها في الحرب والسلم، فكان منهم مجتمع مضطرب لا يعرف الاستقرار والسكون. ويصور لنا المقريزي هذا المجتمع بقوله: ". . . فلما كثرت وقاع التتر في بلاد المشرق والشمال، وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرًا منهم وباعوهم، تنقلوا في الأقطار، واشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية، ومنهم ملك ديار مصر، وأولهم المعز أيبك، ثم كانت لقطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهزم التتار، وأسر منهم خلقًا كثيرًا صاروا بمصر والشام. ثم كثرت الوافدية في أيَّام الملك الظاهر بيبرس، وملؤوا مصر والشام. . . فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغول، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعبًا من "جنكيز خان وبنيه" وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم، وكانوا إنما ربوا بدار الإسلام، ولقنوا القرآن، وعرفوا أحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك" (¬1). فالمجتمع في هذا العصر تألف من: طبقة الأمراء وعلى رأسهم السلطان: وهذه الطبقة لها الحظ الأوفر في ¬
النفوذ والجاه، فقد اتخذت من ضعف البلاد، وما حققته من انتصارات على الصليبين والتتار مبررًا يبيح لها ما تستولي عليه من أموال الدولة. طبقة العلماء والفقهاء: وقد كان البعض منهم يعتمدون الوظائف التي تسند إليهم، فهم في عيش رغيد لما يقومون به من خدمة السلاطين، وتنفيذ غاياتهم، وتحقيق مآربهم (¬1). لكن هذا لا ينطبق على البعض الآخرى كابن تيمية -رحمه الله- فقد رأينا كيف كان يقف في وجه السلطان بمصر ويطلب منه التوجه إلى دمشق وحماية أهلها، وإلا أقيم سلطان آخر يحميها، ورأينا كيف وقف في وجه قازان، وكلامه له بقوة وشدة، حتَّى عاد نفع ذلك على المسلمين. فالشيخ -رحمه الله- لم يكن ممن يمد يده ليأخذ، ولا ممن يذل نفسه ليطلب، بل كانت له اليد الطولى على أولئك السلاطين، لما بذله من حث الناس على الجهاد وتهدئة فزعهم (¬2)، ولمشاركته الفعالة في الجهاد -كما مر- إضافة إلى علوه عليهم بما حباه المغربه من علم غزير دفعه إليه الحرص على إصلاح المجتمع والتزامه بتعاليم الكتاب والسنة عقيدة ومنهجًا وسلوكًا. والطبقة الثالثة: عامة الشعب، كالتجار والزراع والصناع وغيرهم، وهؤلاء لاقوا العنت والظلم، وعدم وصول أحدهم إلى ثمرة جهده وعمله، وقد وقف العلماء والفقهاء مع هؤلاء، ومنهم الشَّيخ -رحمه الله- لرفع الحيف عنهم، وتوجيه الطبقة الحاكمة إلى ما يعود عليهم بالنفع، ويدفع عنهم الأذى (¬3). ¬
الناحية العلمية
الناحية العلمية: القرون الثلاثة: السادس والسابع والثامن، كما يقول الشَّيخ أبو زهرة: "امتازت بكثرة العلم، لا بكثرة الفكر، فقد كانت المعلومات كثيرة جدًّا وتحصيلها كان بقدر عظيم، وعكوف النَّاس عليها كان كبيرًا، ولكن التفكير المطلق في مصادرها ومواردها، والمقايسة بين صحيح الآراء وسقيمها مقايسة حرة من التعصب الفكري، والتحيز المذهبي، لم يكن بقدر يتناسب مع تلك الثروة المثرية التي توارثتها الأجيال، فقد كانوا يتلقونها ويستحفظون عليها، ولكن لا يقدرونها حق قدرها بالنظر الفاحص المجرد، أو النظر الذي يعم كل الجوانب، لا ينحاز إلى جانب من الجوانب وينظر من زاويته دون ما سواه. فجاء ابن تيمية وفكر في هذه الثروة، ونظر إليها من كل جوانبها" (¬1). ولعل من المفيد أن نذكر بعض المدارس التي كان نشاطها ظاهرًا في تلك الفترة، وكانت من العوامل التي ساعدت على طلب العلم وتحصيله إضافة إلى الموسوعات العلمية الكبيرة، وخزائن الكتب المتفرقة في البلاد الإسلامية، وخصوصًا في مصر والشام، والرجال الذين وقفوا أنفسهم على شرح الكتب المتوارثة وتوضحيها وردها إلى مصادرها الأولى. فمن المدارس المشهورة التي قصدها طلاب العلم بمصر: 1 - المدرسة الكاملية، نسبة إلى الملك الكامل، وقد أنشئت سنة 622 هـ وتعد الدار الثَّانية للحديث بعد المدرسة العادلية الكبرى بدمشق. 2 - المدرسة الظاهرية: وتنسب إلى الظاهر بيبرس، بدأ في عمارتها سنة 660 هـ، وفرغ منها سنة 662 هـ، وقد أنشأ بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم، ودرس بها جماعة من العلماء. 3 - المدرسة المنصورية: نسبة إلى الملك المنصور قلاوون، وقد رتب بها أربعة دروس لطوائف الفقهاء الأربعة، ودرسًا للطب، وكان المدرسون ¬
يختارون من الفقهاء المشهورين، وبجوارها "القبة المنصورية" بها خزانة كتب في سائر أنواع العلوم. 4 - المدرسة النَّاصرية: نسبة إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقد تم بناؤها سنة 703 هـ، وأول من قام بالتدريس بها القاضي ابن مخلوف المالكي (¬1). ومن المدارس بالشام: 1 - المدرسة الظاهرية: التي بناها الملك الظاهر سنة 670 هـ، وأول من درس بها الشَّيخ صدر الدين سليمان الحنفي (¬2). 2 - المدرسة العادلية الكبرى: نسبة إلى الملك العادل سيف الدين، الذي توفي قبل إتمامها، فأتمَّها ابنه الملك المعظم، وأوقف عليها أوقافًا، وقد درس بها جماعة من القضاة (¬3). إضافة إلى الجوامع التي يلقى بها الدروس، ولقيت عناية من السلاطين، كجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وجامع الحاكم وغيرها (¬4). فهذه الجوامع كان لها أثر بارز في النهضة العلمية في هذا العصر ولكن -كما قلنا- كانت السمة البارزة قلة الإنتاج والجمود الفكري، وأصبح الجهد مقصورًا على جمع المعلومات المتعلقة بكلِّ فن، وتأليف الكتب المطولة والمختصرة فيها، ولا أثر للابتكار والتجديد. ولكن هذا لا يمنع من القوله: إن هناك علماء بارزين على الساحة، ¬
أضاؤوا الشموع وبهروا العقول، فكان لهم دور كبير في النهضة العلمية لهذا العصر وما تلاه من عصور، كابن تيمية -رحمه الله- فمن طالع مؤلفاته وما أثرى به المكتبة العربية والإسلامية رأى النضوج الفكري، ومقايسة الأقوال بمقياس الكتاب والسنة، بعيدًا عن التقليد والتبعية التي مني بها علماء عصره، فكانت محل خلاف بينه وبينهم، فالشيخ -رحمه الله- يتبع الدليل ولا يهمه القائل كائنًا من كان، فإذا استقام القول مع منهجه في الاستدلال أخذه وقبله وحث عليه، وإلّا رده وحذر منه. وأختم الكلام على الناحية العلمية بذكر بعض ما قاله العلماء المعاصرون للشيخ -ممَّا يدل على غزارة علمه في كل فن، وعمق تفكيره، واستقلاله، وكثرة مطالعته: يقول الذهبي -فيما نقله عنه ابن عبد الهادي: ". . . صنف التَّصانيف، وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله من المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيَّام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ (¬1)، ومعرفته بالتفسير إليها انتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقيمه (¬2) فيما يلحق ¬
فيه، وأمَّا نقله للفقه ومذاهب الصّحابة والتابعين -فضلًا عن المذاهب الأربعة- فليس له نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له نظيرًا، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، وصرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب. . . " (¬1). وقال: "وكان له باع طويل في معرفة مذاهب الصّحابة والتابعين، وقل أن يتكلم في مسألة إلَّا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها، واحتج لها بالكتاب والسنة. وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين، بل بما قام الدليل عليه عنده. ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها. وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنة والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمالك الفكر، وسرعة الإدراك والخوف من الله العظيم. . . " (¬2). وقال جمال الدين أبو الحجاج المزي (¬3): ". . . ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله، وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه" (¬4). ¬
وقال القاضي أبو الفتح بن دقيق العيد (¬1): "لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلًا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد. . . " (¬2). وقال العلامة ابن الزملكاني (¬3): ". . . كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنَّه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلَّا فإن فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين" (¬4). * * * ¬
الفصل الثالث محنته
الفصل الثالث محنته ووفاته محنته: ولا شك أن عالمًا بهذه المثابة من العلم وغزارته، ومن الفكر واستقلاله، وما نتج عن ذلك من المؤلفات الكثيرة التي اعترف العلماء المعاصرون له بالعجز عن حصرها، ومن الشجاعة ما جعلته يقف في وجه التتار -كما تقدم- إضافة إلى محاربته أهل الأهواء والبدع في عصره فكان له موقف مع الشيعة الباطنية ممن مالأ التتار والنصارى (¬1) -كما نصب نفسه لكشف أستار أهل التصوف، الذين اتخذوا الشعوذة سبيلًا للتأثير على العامة، إضافة إلى ممالأتهم للتتار، كما كانت له -رحمه الله- مواقف مع الفقهاء في عصره ممن جرفهم تيار التعصب المذهبي، والجمود الفكري إلى تقليد من سبقهم، فكان كل رأي فقهي أو عقدي له أتباع يتبعونه، ويرون أنَّه الصواب، وما سواه الخطأ، حتَّى ولو ظهر لهم أن الصواب خلافه. إن عالمًا بهذه الخصال التي يفتقدها معاصروه لا بد وأن يكون له حساد يتربصون به الدوائر، ويحاولون الخلاص منه، فلم تفتر جهودهم ولم تلن عزائمهم في سبيل تحقيق هذه الغاية. فأول محنة وقعت للشيخ -كما نقلها الثقات- سنة 698 هـ، عندما أرسل إليه أهل حماة يسألونه عن الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن ¬
الكريم، فألف الحموية (¬1) جوابًا لسؤالهم ورجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين وشنع عليهم، فجرى له بسبب تأليفها أمور ومحن. يقول ابن كثير -رحمه الله: ". . . قام عليه جماعة من الفقهاء، وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد مسألة عنها أهل حماة، المسماة بـ "الحموية" فانتصر له الأمير سيف الدين جاغان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة، فسكت الباقون، فلما كان يوم الجمعة عمل الشَّيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2)، ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت، واجتمع عنده جماعة من الفضلاء، وبحثوا في الحموية وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشَّيخ تقي الدين، وقد تمهدت الأمور، وسكنت الأحوال، وكان إمام الدين معتقده حسنًا، ومقصده صالحًا" (¬3). وبعد هذه الحادثة بسبع سنين (¬4) -أي في سنة 705 هـ - تحرك المناوئون والخصوم للشيخ، فجاء الأمر من مصر بأن يسأل عن معتقده، فجمع له القضاة، والعلماء بمجلس نائب دمشق الأفرم. ¬
فقال: "أنا كنت قد سئلت عن معتقد أهل السنة، فأجبت عنه في جزء من سنين" (¬1). وطلبه من داره، فأحضر وقرأه. فنازعوه في موضعين، أو ثلاثة منه، وطال المجلس، فقاموا، واجتمعوا مرتين -أيضًا- لتتمة الجزء، وحاققوه (¬2). ثم رفع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد، وبعضهم قال ذلك كرهًا، وكان المصريون (¬3) قد سعوا في أمر الشَّيخ، وملؤوا ركن الدين الجاشنكيز (¬4) -الذي تسلطن بمصر- فطلب إلى مصر على البريد. وفي ثاني يوم من دخوله اجتمع القضاة والفقهاء بقلعة مصر، وانتصب له خصمًا شمس الدين بن عدلان، وادعى عليه عند ابن مخلوف القاضي المالكي أنَّه يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه تعالى على العرش بذاته، وأن الله يشار إليه بالإشارة الحسية (¬5). وقال: أطلب عقوبته على ذلك. فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه. فقيل له: أسرع، ما أحضرناك لتخطب. فقال: أومنع الثّناء على الله؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله. ¬
فقال: ومن الحاكم فيّ؟ قيل له: القاضي المالكي. قال: كيف يحكم فيّ وهو خصمي؟ وغضب غضبًا شديدًا، وانزعج. فأقيم مرسّمًا عليه، وحبس في برج أيامًا. ثم نقل منه ليلة عيد الفطر إلى السجن المعروف بـ "الجب" بقلعة الجبل، هو وأخواه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن (¬1). وبعد أكثر من سنة (¬2)، أحضر نائب السلطنة سيف الدين سلار القضاة الثلاثة: الشَّافعي، والمالكي، والحنفي، ومن الفقهاء الباجي، والجزري، والنمراوي، وتكلم في إخراج الشَّيخ من الحبس. فاتفقوا على أن يشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك، فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك مرارًا، وصمم على عدم الحضور (¬3)، فطال عليهم المجلس، وانصرفوا عن غير شيء. وفي شهر ذي الحجة (¬4) من هذه السنة طلب أخوا الشَّيخ: شرف الدين، وزين الدين، من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار، وحضر ابن مخلوف المالكي، وطال بينهم كلام كثير، فظهر شرف الدين بالحجة على ابن مخلوف بالنقل والدليل والمعرفة، وخطّأه في مواضع ادعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش، ومسألة الكلام، ومسألة النزول. وفي ثاني يوم (¬5) أحضر الشَّيخ شرف الدين وحده إلى مجلس نائب ¬
السلطان، وحضر ابن عدلان، وتكلم معه الشَّيخ شرف الدين، وناظره وبحث معه، وظهر عليه (¬1). وفي شهر صفر (¬2) من سنة سبع وسبعمائة، اجتمع القاضي بدر الدين بن جماعة بالشَّيخ تقي الدين في دار الأوحدي بالقلعة بكرة الجمعة، وتفرقا قبل الصَّلاة، وطال بينهما الكلام. وفي شهر ربيع الأول (¬3) من هذه السنة دخل الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى -ملك العرب- إلى مصر، وحضر بنفسه إلى الجب، فأخرج الشَّيخ تقي الدين -بعد أن استأذن في ذلك- إلى دار نائب السلطنة بالقلعة، وحضر بعض الفقهاء، وحصل بينهم بحث كبير، وفرقت بينهم صلاة الجمعة. ثم اجتمعوا إلى المغرب، ولم ينفصل الأمر (¬4). ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان، وحضر جماعة من الفقهاء ولم يحضر القضاة، وطلبوا، فاعتذر بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره (¬5)، وانفصل المجلس على خير، وبات الشَّيخ عند نائب السلطنة. وكتب -رحمه الله- بكرة الإثنين كتابًا إلى دمشق يتضمن خروجه، وإقامته بدار شقير بالقاهرة، وأن نائب السلطان طلب تأخره عن الأمير مهنا أيامًا ليرى النَّاس فضله، ويحصل لهم الاجتماع به. وكانت مدة إقامته -رحمه الله- بالسجن ثمانية عشر شهرًا (¬6). بقي الشَّيخ نحو ستة أشهر أو تزيد يدعو النَّاس ويرشدهم، وانتفع به ¬
خلق كثير، إلى أن تكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، وهم: ابن عربي، وابن سبعين، والقونوي، وغيرهم (¬1)، فتحزب عليه الصوفية، وذهبوا إلى القلعة في جموع كثيرة يشكون ابن تيمية للسلطان، وادعوا أنَّه يسب مشايخهم، ويضع من قدرهم عند النَّاس. فأمر السلطان أن يعقد له مجلس بدار العدل. وفي يوم الثلاثاء العاشر من شهر شوال سنة سبع وسبعمائة، عقد له المجلس، فأظهر فيه -رحمه الله- من العلم، والشجاعة، وقوة القلب، وصدق التوكل، ما يتجاوز الوصف. ولكن كثرت الضجات، وزادت المجادلات، التي لم تجد الدولة سبيلًا لإخمادها إلّا بتخيير الشَّيخ بين ثلاثة أمور: - أن يسير إلى دمشق. - أو أن يذهب إلى الإسكندرية. وهو مقيد في دمشق والإسكندرية بشروط. - أو الحبس. فاختار -رحمه الله- الحبس (¬2)، لكن تلاميذه ومحبيه طلبوا منه السَّفر إلى دمشق على ما شرطوا، فأجابهم إلى ما طلبوا تطييبًا لخاطرهم وركب البريد في الثامن عشر من شهر شوال من هذه السنة، ثم أرسل من الغد بريد آخر خلفه فرده إلى مصر، وحضر عند القاضي بدر الدين بن جماعة وجماعة من الفقهاء. فقال بعضهم له: ما ترضى الدولة إلّا بالحبس، فقال القاضي ابن جماعة: وفيه مصلحة له. فاستناب شمس الدين التونسي المالكي، وأذن له أن يحكم عليه ¬
بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيء. فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير. فلما رأى الشَّيخ -رحمه الله- توقفهم في حبسه، قال: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة. فقال نور الدين: يكون في موضع يصلح لمثله. فقيل له: الدولة ما ترضى إلَّا بمسمى الحبس. ثم أرسل بعد هذا إلى حبس القضاة، وأذن بأنَّ يكون عنده من يخدمه. وكان كل ذلك بإشارة نصر المنبجي، ووجاهته في الدولة (¬1). ومكث الشَّيخ في الحبس يستفتى، ويقصده النَّاس، ويزورونه، ويكتب لهم بما يحير العقول من المسائل التي عجز غيره عن الإفتاء بها، فالتف النَّاس حوله، وكثر اجتماعهم به وترددهم عليه. فأثار هذا حفيظة أعدائه، وحصرت صدورهم، ممَّا جعلهم ينقلونه إلى الإسكندرية (¬2) في آخر شهر صفر من سنة تسع وسبعمائة، وحبس ببرج منها ثمانية أشهر زاول خلالها -رحمه الله- ما عرف عنه من الوعظ وتوجيه النَّاس، فكان يقصده الأعيان والفقهاء يقرؤون عليه، ويستفيدون منه. وفي اليوم الثامن من شهر شوال من هذه السنة بادر الملك الناصر بعد دخوله إلى مصر واستعادة ملكها بإحضار الشَّيخ من الإسكندرية، فخرج منها الشَّيخ، ووصل إلى القاهرة في الثامن عشر من الشهر المذكور واجتمع بالسلطان يوم الجمعة الرابع والعشرين منه، فأكرمه وأحسن استقباله، وتلقاه في مجلس (¬3) حفل فيه قضاة وفقهاء مصر والشام، وأصلح بينه وبينهم. ¬
ثم أخذ الشَّيخ -رحمه الله- يبث العلم وينشره في القاهرة، والخلق يقرؤون عليه، ويستفتونه ويجيبهم بالكلام والكتابة، واستمر على ذلك إلى أن عاد إلى دمشق في اليوم الأول من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وكانت مدة غيبته عنها سبع سنين وسبع جمع (¬1). وبعد وصوله دمشق واستقراره بها زاول نشاطه العلمي، فصنف الكتب، وأفتى النَّاس بالكلام والكتابة المطولة، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والاجتهاد في الأحكام الشرعيّة، فصار -رحمه الله- يفتي بما قام الدليل عليه عنده (¬2). وفي منتصف شهر ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وسبعمائة، أشار القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي، على الشَّيخ بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبل الشَّيخ إشارته، وعرف نصيحته، وأجاب إلى ذلك. وفي مستهل شهر جمادى الأولى من هذه السنة ورد كتاب السلطان بمنع الشَّيخ من الإفتاء في هذه المسألة، فامتنع الشَّيخ فترة، لكنَّه عاد إلى الإفتاء بذلك، وقال: لا يسعني كتمان العلم. وفي شهر رمضان من السنة المذكورة، اجتمع القضاة والفقهاء عند نائب السلطان بدار السعادة، وأحضر الشَّيخ، وعوتب على فتياه بعد المنع، وأكد عليه المنع مرَّة أخرى. وفي شهر رجب من سنة عشرين وسبعمائة، اجتمع القضاة والفقهاء وجماعة من المفتين بدار السعادة، وحضر الشَّيخ، وعاودوه في الإفتاء بمسألة الطلاق، وعاتبوه على استمراره في الإفتاء بها، وحبسوه بالقلعة، وبقي بها خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا. ثم ورد مرسوم بإخراجه يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. ¬
وفاته
ثم لم يزل الشيخ -على عادته- يعلم الناس، ويلقي الدروس في أنواع العلوم (¬1). وفي سنة ست وعشرين وسبعمائة وقع كلام في مسألة شد الرحال (¬2)، وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، وكثر القيل والقال بسبب عثور أهل الأهواء على جواب للشيخ في هذه المسألة حرف فيه، ونقل عنه ما لم يقل به، وقد تحققت مآرب أعدائه عندما ورد مرسوم السلطان بسجنه في القلعة يوم الإثنين السادس من شهر شعبان من السنة المذكورة وقد ظهر صدق توكله -رحمه الله- واعتماده على ربه عندما أظهر السرور بذلك، وقال: أنا كنت منتظرًا ذلك، وفيه خير عظيم (¬3). وفاته: بقي الشيخ -رحمه الله- مقيمًا بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا ولم يزل في هذه المدة مكبًا على العبادة والتلاوة والتصنيف والرد على المخالفين إلى أن توفي ليلة الإثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة من الهجرة. رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل مثوبته، وأسكنه فسيح جناته. ¬
الباب الثاني كتابه التسعينية ودراسة بعض مسائله
الباب الثاني كتابه التسعينية ودراسة بعض مسائله
الفصل الأول التعريف بالكتاب
الفصل الأول التعريف بالكتاب سبب تأليفه: شيخ الإسلام -رحمه الله- بين السبب الداعي لتأليف هذا الكتاب في مقدمة الكتاب، وأنه رَدٌّ حَمَّله الرسولين اللذين تكرر مجيئهما من عند الأمراء والقضاة والفقهاء المجتمعين لبحث موضوع خروج الشيخ من السجن. وأن المطلوب حضوره لمخاطبة القضاة، وكان ذلك في شهر رمضان سنة ست وسبعمائة، وامتنع الشيخ من الحضور، وصمم على ذلك -كما سيرد (¬1) وقد أعطى الرسولين نسخة من العقيدة الواسطية، وحملهما بيان أن هذه اعتقاده فمن أنكر شيئًا فليكتب ما ينكره وحجته ليكتب جوابه، فأخذ الرسولان العقيدة وذهبا، ثم عادا ومعهما ورقة (¬2)، لم يذكر فيها شيء من الاعتراض على عقيدته، بل أنشؤوا فيها كلامًا لفظه: "الذي يطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز، وأن لا يقول: إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، وأنه -سبحانه- لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية. ويطلب منه أن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها، فلما أراني الورقة كتبت جوابها فيها مرتجلًا مع استعجال الرسول" (¬3). ¬
تسميته
ثم ذكر -رحمه الله- إجابته المختصرة التي تتناسب مع استعجال الرسول له بسرعة الرد (¬1). ثم فصل الجواب من وجوه عديدة تألف منها هذا الكتاب الذي بين أيدينا (¬2). تسميته: نحن هنا أمام ظاهرة برزت في مؤلفات شيخ الإسلام -رحمه الله- وهي وجود أكثر من اسم للمؤلف الواحد، وأن الشيخ يستعمل -كذلك- أكثر من اسم لمؤلف من مؤلفاته، وهذا يجعلنا أمام احتمالين: الأول: أن الشيخ -رحمه الله- كان يطلق أكثر من اسم على المؤلف الواحد، لتعدد الموضوعات التي يطرقها، والأساليب التي يواجه بها الآخرين، فإذا ما جاء ذكر معنى من المعاني أثناء مناقشته يتعلق بكتاب من كتبه، فقد يذكر اسم الكتاب مغلبًا ما يتصل بالمعنى الذي يناقشه، وهذا كما جاء في حديثه عن كتاب "نقض التأسيس" فقال (¬3): ". . . بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، ويسمى -أيضًا- تخليص التلبيس من كتاب التأسيس". الثاني: أن تلامذته قد عرفوا عنه هذا التوسع في إطلاق عناوين كتبه ورسائله فتعددت أسماء الكتب من قبلهم، وقد رجح هذا الاحتمال كثير ممن عني بكتب شيخ الإسلام -رحمه الله (¬4). والكتاب الذي بين أيدينا له أكثر من اسم. ففي الأصل (¬5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
عنوانه "التسعينية في الرد على من قال بالنفسي" لشيخ الإسلام العلامة ابن تيمية -رحمه الله-. وجاء في (س) (¬1): "هذه الرسالة المسماة بالتسعينية" من كلام شيخ الإسلام، بحر العلوم العقلية والنقلية، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية -قدس الله روحه-. وفي (ط) (¬2): "كتابه المنعوت بالتسعينية في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة، وغيرهم ممن نحا نحوهم من تسعين وجهًا". أما ابن عبد الهادي (ت 744 هـ) فإنه قال (¬3) عندما ذكر مصنفات الشيح: "وله كتاب في محنته بمصر، مجلدان رد فيه على القائلين بالكلام النفسي من نحو ثمانين وجهًا. وتابع ابن القيم (ت 751 هـ) في كتابه "أسماء مؤلفات ابن تيمية" (¬4) ابن عبد الهادي في هذه التسمية. لكن نجده -رحمه الله- في القصيدة النونية (¬5) ينص على تسمية الكتاب بالتسعينية، وأن سبب التسمية -كما سيأتي- الرد على القائلين بالكلام النفساني من تسعين وجهًا، فقال: وكذاك تسعينية فيها له ... رد على من قال بالنفساني تسعون وجهًا بينت بطلانه ... أعني كلام النفس ذا الوحدان وقال -رحمه الله- في كتابه "بدائع الفوائد" - (¬6) بعد أن ذكر أن الكلابية انفردت عن جميع الطوائف بالقول: إن معاني التوراة والإنجيل والزبور ¬
سبب التسمية
والقرآن وسائر الكتب المنزلة واحد-: ". . . وهذا قول يقوم على بطلانه تسعون برهانًا لا تندفع، ذكرها شيخ الإسلام في الأجوبة المصرية. . . ". أما ابن شاكر الكتبي (¬1) - (ت 764 هـ)، وصلاح الدين الصفدي (¬2) (ت 764 هـ) فكلاهما ذكر أن من مصنفات الشيخ في الأصول: "إبطال الكلام النفساني" أبطله من نحو ثمانين وجهًا. كما ذكر ابن رجب (¬3) (ت 795 هـ) أن من أعيان المصنفات الكبار التي ألفها بمصر "المحنة المصرية" مجلدان. هكذا نجد الكتاب سمي بأكثر من اسم، وعنون له بأكثر من عنوان، لكن مما تقدم نستطيع القول بأن الاسم الذي ورد في الأصل هو المناسب لأن يكون عنوانًا لهذا الكتاب، لأنه يجمع أكثر العناوين الواردة في المصادر الآنفة الذكر، لكن نضيف إليه كلمة "بالكلام" الواردة عند ابن عبد الهادي، وابن القيم، وابن شاكر، والصفدي، ويكون اسمه: (التسعينية في الرد على من قال بالكلام النفسي) سبب التسمية: يعود سبب تسميته بـ "التسعينية" إلى الوجوه التي أبطل بها الشيخ -رحمه الله- دعوى القول: إن كلام الله معنى قائم بالنفس بنحو من تسعين وجهًا، فسمي الكتاب نسبة إلى هذه الوجوه الخاصة بهذه المسألة على جهة التغليب، وإلا فالكتاب تضمن وجوهًا أخرى رد بها الشيخ على مسائل أخرى، كمسألة الجهة والتحيز وعدم التعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام. وقد تقدم ما ورد في صفحة العنوان في (ط): ". . . ومن نحا نحوهم من تسعين وجهًا". كما نص على هذه الأوجه ابن القيم -كما تقدم- بقوله: ¬
نسبته إلى المؤلف
تسعون وجهًا بينت بطلانه ... أعني كلام النفس ذا الوحدان وبقوله: "وهذا يقوم على بطلانه تسعون برهانًا لا تندفع ذكرها الشيخ في الأجوبة المصرية". فدل هذا على أن التسمية بـ "التسعينية" نسبة إلى هذه الوجوه. وأما ما أشار إليه ابن عبد الهادي وابن القيم وابن شاكر والصفدي، من أنها نحو ثمانين وجهًا، فربما يعود إلى تركهم بعض التفريعات من بعض الوجوه، وقد تكون الوجوه المقصودة بضعًا وثمانين، كما أشار إليه هؤلاء، لكن من عدها تسعين فذلك لاعتباره أن ما زاد على الثمانين يكون قد دخل في عقد التسعين- والله أعلم. نسبته إلى المؤلف: من الثابت أن الكتاب الذي بين أيدينا أحد مؤلفات شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية -رحمه الله- للأسباب التالية: 1 - نسبة الكتاب إلى المؤلف في جميع النسخ التي اعتمدتها في التحقيق. 2 - المصادر (¬1) التي ترجمت للشيخ واهتمت بتدوين مصنفاته تذكر هذا الكتاب وتنسبه لمؤلفه، ولو لم يكن فيها إلّا ما قاله ابن القيم في النونية: "وكذلك تسعينية فيها له" لكفى. 3 - أسلوب الشيخ -رحمه الله- المتميز الذي يدركه كل من قرأ كتبه بتمعن. 4 - ذكر الشيخ لبعض مصنفاته فيه (¬2). تاريخ تأليفه: ذكرت فيما تقدم أن سبب تأليف هذا الكتاب هو ما ورد في ورقة بعث بها ¬
الأمراء والقضاة والفقهاء المجتمعون للنظر في إخراج الشيخ من السجن، مع الرسولين، وطلبهم من الشيخ موافقتهم على ما تتضمنه الورقة (¬1)، وكان ذلك بعد أكثر من سنة من وصول الشيخ إلى مصر، فإذا علم أن وصوله -رحمه الله- لمصر سنة 705 هـ، دل على أن تأليف هذا الكتاب -وهو الإجابة على ما ورد من الأمراء والقضاة- كان سنة 706 هـ، وهذا أمر لا يخالجني معه شك، لا سيما وأنه نص على هذه السنة في (س) -إحدى النسخ الخطية التي اعتمدتها في التحقيق- لكن ما ورد في الأصل و (ط) من أن تكرار الرسل على الشيخ من عند الأمراء والقضاة المجتمعين كان سنة 726 هـ، وهي السنة التي كان -رحمه الله بها في دمشق- يجعلني أورد بعض الأسباب -إضافة إلى ما تقدم- التي تدل على أن تأليف الكتاب كان سنة 706 هـ: 1 - قول الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب الذي بين أيدينا ص: 111: ". . . فقلت: أنا لا أحضر إلى من يحكم فِيَّ بحكم الجاهلية وبغير ما أنزل الله، ويفعل بي ما لا تستحله اليهود ولا النصارى، كما فعلتم في المجلس الأول، وقلت للرسول: قد كان ذلك بحضوركم أتريدون أن يمكروا كما مكروا بي في العام الماضي؟ هذا لا أجيب إليه، ولكن من زعم أني قلت قولًا باطلًا، فليكتب خطه بما أنكره من كلامي، ويذكر حجته، وأنا أكتب جوابي مع كلامه، ويعرض كلامي وكلامه على علماء الشرق والغرب، فقد قلت هذا بالشام، وأنا قائله هنا، وهذه عقيدتي التي بحثت بالشام بحضرة قضاتها ومشايخها وعلمائها، وقد أرسل إليكم نائبكم النسخة التي قرئت، وأخبركم بصورة أخرى". فخطاب الشيخ -رحمه الله- لهم بهذا الكلام وهو في السجن وبعد أن بقي فيه أكثر من سنة من تاريخ وصوله إلى مصر. وتصريحه بما حصل له بالشام، وما عقد له من مجالس بسبب عقيدته السلفية، وأن ما قاله بدمشق هو قائله بمصر، يدل على أن الكتاب ألف بمصر بعد سنة من وصوله إليها. ¬
2 - ما جاء في مجموع الفتاوى 5/ 264: "حكاية مناظرة في الجهة والتحيز" صورة ما طلب من تقي الدين بن تيمية -رحمه الله ورضي عنه- حين جيء به من دمشق على البريد، واعتقل بالجب بقلعة الجبل، بعد عقد المجلس بدار النيابة، وكان وصوله يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان، وعقد المجلس يوم الجمعة السابع والعشرين منه بعد صلاة الجمعة، وفيه اعتقل -رحمه الله. وصورة ما طلب منه أن يعتقد نفي الجهة عن الله والتحيز، وأن لا يقول: إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، وأنه سبحانه -لا يشار إليه إشارة حسية، ويطلب منه ألا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها. وهذا الكلام يؤكد أن تأليف الكتاب كان بمصر، وليس بالشام كما يدل عليه التاريخ المدون في الأصل، و (ط). 3 - أن الموضوعات التي عالجها هذا الكتاب هي رد على الاعتراضات التي وجهها القضاة والفقهاء عبر تلك الورقة انتقادًا على الشيخ في عقيدته. 4 - أن ابن عبد الهادي، وابن القيم -وهما من تلامذة الشيخ- قالا عند ذكرهما لمصنفات الشيخ في الأصول "كتاب محنته بمصر. . . ". كما أن ابن القيم قال في "بدائع الفوائد" -كما تقدم- مشيرًا إلى هذا الكتاب: ". . . تسعون برهانًا لا تندفع ذكرها شيخ الإسلام في الأجوبة المصرية". وقد نص ابن رجب الحنبلي -كما تقدم أيضًا- على أن من أعيان المصنفات الكبار التي ألفها بمصر "المحنة المصرية". ومعروف أن الشيخ -رحمه الله- كان بمصر من سنة 705 هـ إلى سنة 712 هـ، وهذا يؤيد أن تأليفه لهذا الكتاب كان في هذه الفترة، وبالتحديد سنة 706 هـ بمصر. 5 - أنه ورد في هذا الكتاب (¬1) أن المحكم من القضاة: أبا الحسن ¬
منهج المؤلف في الكتاب
علي بن مخلوف المالكي، قد كتب ورقة من الورقات التي جاء بها الرسولان إلى الشيخ في إحدى المرات من عند الأمراء والقضاة المجتمعين، فإذا عرفنا أن ابن مخلوف المالكي توفي سنة 718 هـ ثبت أن تأليف هذا الكتاب كان قبل هذا التاريخ. 6 - مما تقدم يتضح أن ما ورد بالأصل تصحيف من الناسخ، لما بين التاريخين من التشابه. وأما ما جاء في (ط) (¬1)، فإن الناشر أثبت ذلك متابعة للأصل من غير تثبت بدليل أنه عندما وضع فهرسًا للكتاب قال في أوله: (خطبة التسعينية المشتملة على بيان المحنة التي وقعت لابن تيمية بعد مضي ربع القرن الثامن من الأمراء والقضاة، وما افتروه عليه في الوريقات التي أرسلوها إليه، وجوابه عن الورقة الأخيرة التي طلبوا منه فيها أن يعتقد نفي الجهة والتحيز. . .). ثم ذكر مضمون الورقة -الذي تقدمت الإشارة إليه. وكما تقدم، هذه الورقة وصلت الشيخ -رحمه الله- وأجاب عنها إجابة مجملة لاستعجال الرسول له في الجواب، ثم أجاب إجابة مفصلة من وجوه عديدة حواها هذا الكتاب الذي بين أيدينا وكان ذلك بمصر سنة 706 هـ. والله أعلم. منهج المؤلف في الكتاب: 1 - اعتمد الشيخ -رحمه الله- في أدلته على الكتاب والسنة، وما ثبت عن أئمة السلف. 2 - يعرض رأي المخالف أولًا، وذلك من باب الأمانة العلمية، ويحدد النقاط التي ستكون محلًا للمناقشة. 3 - جعل رده متلائمًا مع مقولة المخالف، فإن صاغ الفكرة المخالفة صياغة فلسفية رأيناه يرد عليه بالمقولات الفلسفية التي تبين ثغرات المخالف ¬
وتنقض رأيه، ثم يدعم ما يراه هو بعد ذلك بالنص من القرآن الكريم أو السنة المطهرة، أو أقوال السلف. 4 - وإذا كان الرأي المخالف يمثل سوء فهم، أو تأويلًا باطلًا، فإنه يسلك معه مسلك التفريع الذي يتدرج مع المخالف من فهمه إلى الصواب عن طريق ما يمكن أن نسميه بأسلوب الإلزام، يعني أن يقول له: يلزم من قولك كذا أن يكون المعنى كذا، أو يلزم من فهمك كذا أن تقع في المحظور كذا، وبعد أن يفند ما ساء من فهم المخالف يصل إلى الرأي الذي يراه ولا يحدث معه إلزامًا فاسدًا. 5 - قد يستدعي النقاش والرد على المخالف أن يذكر -رحمه الله- أقوال جماعة من أصحاب من هو بصدد مناقشته ليصل بعرضها ومناقشتها إلى تناقض أقوالهم، وبيان أنها لا تثبت أمام التمحيص. 6 - أن الشيخ -رحمه الله- يسلك في رده على المخالف مسلك البسط الذي لا يُؤلَف عند غيره، وقد يكون مملًا لدى غيره، ولكن الموضوعية التي يتسم بها أسلوبه -رحمه الله- والأفكار الجديدة التي يعرضها في ردوده تكسر حدة البسط والإطناب. 7 - أن تفريع الشيخ -رحمه الله- في ردوده يأخذ صورة منتظمة يسلكها في هذا الكتاب فيما يسمى بالوجوه، والتي سمي الكتاب باسمها -كما سبق-. 8 - أن الشيخ -رحمه الله- يفصل قول المخالف بحيث يشمل رده المسائل التي يمكن أن تستنتج من قوله، ولو لم يصرح بها، فالكتاب كله على طوله رد على رسالة صغيرة في موضوعات محددة، وهذا المنهج مطرد في كثير من كتبه. 9 - الشيخ -رحمه الله- في تناوله لموضوعات الكتاب لا ينسى مهمته في الأستاذية الموجهة لتلاميذه وطلابه في إرشادهم إلى مواضع الإفادة في الموضوع المدروس في مثل قوله: وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع. 10 - طريقة الشيخ في الرد على الخصوم تسلك مسلك التوثيق لما يقدمه
نسخ الكتاب
من نصوص، فإن كانت أحاديث ذكر درجتها، وإن كانت أقوالًا عزاها إلى أصحابها، وذكر مواطن وجودها في كتبهم. 11 - يمثل منهج الشيخ في كتابه منهج المفكر المسلم الموسوعي الذي استوعب نصوص الكتاب والسنة، وأعمل عقله فيهما، وناقش من خلالهما ما يعرض عليه من فكر، فهو يجمع بين الرواية والدراية بين النص والوعي الدقيق بمعنى النص، وما يجري في عالم الفكر من أفكار قد تكون موافقة وقد تكون مخالفة، وقلّ أن تجتمع هذه الملامح في المنهج لدى مفكر واحد. 12 - وفي ضوء ملامح المنهج السابق بدأ -رحمه الله- كتابه بذكر الرسالة التي أرسلت إليه، وتضمنت موضوع الكلام في الصفات عند العوام، وموضوع الجهة والتحيز، وموضوع كلام الله تعالى، وقد رد -رحمه الله- على الموضوع الأول بسبعة عشر وجهًا، وعلى الثاني بأربعة عشر وجهًا، وقد خصص -رحمه الله- الوجه الرابع عشر من هذه الوجوه ليقرر أن الله يتكلم بكلام قائم بمشيئته وقدرته وأنه اسم للحروف والمعاني جميعًا، وقد اقتضاه هذا التقرير مناقشة القائلين بأن القرآن مخلوق، وأنه اسم لمجرد الحروف والأصوات. وأما القائلون بأنه معنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت، وأن القرآن الذي بأيدي المسلمين إنما هو حكاية أو عبارة، فقد خصص -رحمه الله- معظم هذا الكتاب لمناقشتهم، إذ رد قولهم هذا بثمانية وسبعين وجهًا، تفرع عنها بعض الوجوه في مسائل جزئية، ذكرها الشيخ رحمه الله. نسخ الكتاب: لقد حرصت كل الحرص، وبذلت ما في وسعي في سبيل الحصول على أكبر عدد ممكن من نسخ الكتاب الخطية، وما استطعت الحصول عليه هو: النسخة الأولى: وحصلت عليها في دار الكتاب الوطنية بمصر تحت رقم 289 - عقائد تيمور، وتقع في 364 صفحة من القطع المتوسط، وبكل صفحة 26 سطرًا،
النسخة الثانية
وكتبت بخط جيد، لكنها لا تخلو من البياض (¬1)، وتاريخ نسخها سنة 1223 هـ، ولم يذكر اسم الناسح وقد كتب على صفحة العنوان ما يلي: "قد تملك هذا الكتاب الفقير إلى الله تعالى أحمد بن المرحوم -إن شاء الله تعالى- عثمان الجامع عفى الله عنه، اللهم صلي على محمد سيدنا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه ومن تبعهم إلى يوم الدين آمين يا رب العالمين". وعلى يسار هذا كرر التملك على هذا النحو: "قد تملك هذا الكتاب الفقير إلى الله تعالى أحمد ابن المرحوم -إن شاء الله تعالى- عثمان بن جامع". وكتب أسفل التملك الأول بخط يختلف اختلافًا يسيرًا عن سابقه ما يلي: "قد تملك هذا الكتاب الفقير إلى الله أحمد بن المرحوم -إن شاء الله- عثمان بن محمد بن أحمد الجامع عفى الله عنهم". ثم كتب أسفل هذا التملك: "آمين آمين آمين، بعد هذا ورد هذا إلى الفقير جناب الأمجد الأكرم الحاج حسين بن المرحوم الحاج". وعلى يسار هذا ختم بيضوي لم أستطع قراءة ما بداخله. وقد رمزت لهذه النسخة بـ (الأصل). النسخة الثانية: وحصلت عليها في المكتبة السعودية التابعة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وعلى صفحة العنوان -في أعلاها- ختم مستطيل كتب بداخله: "مكتبة الرياض العامة السعودية"، وأسفل ذلك رقم التسجيل العام 603، وأسفل منه رقم التسجيل الخاص 86، وأسفل منه التاريخ ¬
النسخة الثالثة
20/ 3 / 1393 هـ، وأسفل هذا الختم عنوان الكتاب -المتقدم- وعن يسار العنوان ختم بيضوي كتب داخله: "وقف الشيخ محمد بن عبد اللطيف 1381 هـ ". وأسفل الختم كتب التملك الآتي: "دخلت هذه النسخة في ملك الفقير إلى الله عز شأنه محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بالشراء الشرعي عفى الله عنه بمنه آمين سنة 1335 هـ "، ثم ختمان صغيران بيضويّان لم يتضح لي ما بداخلهما. وهذه النسخة كتبت بخط معتاد يقرأ بيسر، وتقع في 385 صفحة من القطع المتوسط، وبكل صفحة 21 سطرًا، وكتب أسفل كل صفحة كلمة أو كلمتين للدلالة على بداية الصفحة التالية، وانتهت هذه النسخة بقوله: ". . . وقد رأيت كلام قال من ذكرته من هؤلاء يثبت هذه الصفات، ومن لم أذكره -أيضًا- وكتبهم وكتب من نقل عنهم مملوءة بذلك، وبالرد على من يتأول هذه الصفات والأخبار بأن تأويلها طريق الجهمية والمعتزلة وذلك". فقد سقط ما يقارب أربعة أسطر كما في الأصل، وأيضًا سقط منها ما يقارب الصفحة والنصف، وقد جاء الكلام فيها متصلًا كتابة منفصلًا معنى (¬1) -وهذا من الأسباب التي جعلتني لا أعتمدها أصلًا في التحقيق، إضافة إلى عدم ذكر تاريخ نسخها، واسم ناسخها. النسخة الثالثة: الكتاب المطبوع، وقد طبع لأول مرة -فيما أعلم- ضمن فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية- المجلد الخامس، المشتمل على التسعينية، والسبعينية (¬2)، وشرح الأصبهانية (¬3)، بمطبعة كردستان العلمية لصاحبها فرج الله الكردي ¬
بمصر سنة 1329 هـ، ويقع في 288 صفحة من القطع الكبير، وبكل صفحة 24 سطرًا، وهي طبعة مليئة بالأخطاء، والتصحيفات، نبهت عليها في أماكنها أثناء التحقيق، وسيأتي ذكر طرف منها، وينتهي الكلام فيه حيث انتهت (س)، لكن الناشر تصرف في آخر كلمة وهي "وذلك" وقال: "ونحو ذلك" حتى لا يشعر القارئ بانقطاع الكلام فجأة. ثم طبع الكتاب مرة أخرى بتقديم حسنين محمد مخلوف، بمطبعة دار الكتب الحديثة بالقاهرة، وهذه الطبعة لا تختلف عن سابقتها سوى أن الكتاب اشتمل على المجلد الخامس بكامله. لذا استبعدتها واعتمدت على الطبعة الأولى في التحقيق، ورمزت لها بحرف (ط). ومما تقدم من وصف النسخ التي اعتمدت عليها في التحقيق أستطيع أن ألخص الأسباب التي جعلتني أعتمد النسخة الأولى أصلًا فيما يلي: 1 - ذكر تاريخ نسخها. 2 - انقطاع (س) و (ط) دون أن ينتهي الكتاب، حيث سقط من آخرهما أربعة أسطر ونصف، وهي التي يتم بها الكتاب، كما في الأصل، وجاء بعدها فيه ما يقارب أربعة أخرى صرح الناسخ فيها بأن هذا آخر ما وجده من هذا التأليف لتقي الدين بن تيمية، وذكر سنة نسخه بعد ابتهال ودعاء للشيخ بالغفران والرحمة. 3 - ما أشرنا إليه من سقوط صفحة ونصف من (س). 4 - ما تقدم من أن الكتاب المطبوع مليء بالأخطاء والتصحيفات. وهناك عيب تشترك فيه جميع النسخ -الآنفة الذكر- وهي: كثرة السقط والتكرار الذي يتراوح ما بين السطرين والكلمة، لكنها لا تتفق على ذلك غالبًا، مما سهل لي مهمة اكتشاف السقط وإكماله وتلافي التكرار بحمد الله ومنته. أما الكتاب المطبوع، فبالرغم من أنه لم يخدم خدمة علمية، فقد جاء إخراجه بصورة لا تشجع على قراءته، ويصعب معها فهم بعض عباراته.
إضافة إلى كثرة التحريفات والأخطاء التي حصرتها في بيان مستقل أذكر هنا بعض ما ورد فيه مما يغير المعنى: ففي ص: 25: "الثقات" والصحيح "النفاة". وفرق بينهما. وفي ص: 27؛ "نقض الإيمان" والصحيح "نقص الإيمان". وفي ص: 33: "قال أهل الصلاح" والصحيح "قال أهل الضلال". وفي نفس الصفحة: "أحق" والصحيح "أحمق". وفي ص: 54: "فإن الله لا يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم" والصحيح "فإن الله يغفر لأهل الإخلاص. . . ". وفي ص: 144: "لأنها مخلوقة" والصحيح "لا أنها مخلوقة". وفي ص: 227: "الثلاثة منهم من يقول" والصحيح "الثلاثة من يقول". وفي ص: 240: "هذا عند فتواه" والصحيح "هذا عنه فتواه". وفي ص: 243: "لكثرة مطالعته" والصحيح "كثير المطالعة". في ص: 259: "وأضل البشر من" والصحيح "وأصل الشر من". وأما الزيادة على النسختين المخطوطتين، والنقص عنهما، والتصرف ببعض الكلمات حذفًا وتغييرًا وتحريفًا فكثير، مما يوحي أنه طبع على نسخ خطية لم تقع في يدي، لكني أستبعد هذا لسبب واحد فقط وهو أن التصرف من قبل الناشر يظهر في أماكن يشكل فيها فهم المعنى، كالتصرف الذي أشرنا إليه عندما انتهى الكتاب بقوله: ". . . والمعتزلة وذلك" حيث حرف العبارة لتصبح "والمعتزلة ونحو ذلك". كما جاء في ص: 67: الوجه السادس عشر حيث ابتدأه بقوله: "إنهم لو بينوا صواب ما ذكروه من القول لم يكن ذلك موجبًا. . . ". والوارد في النسختين الخطيتين: "أنهم إن لم يبينوا صواب ما ذكروه من القول لم يكن موجبًا. . . ". وكما في ص: 139، حيث حذف لفظة "أو بالدلالة" الواردة في
عملي في الكتاب، وبيان المنهج الذي سلكته في تحقيقه
النسختين الخطيتين لأن الكلام جاء فيهما نقلًا من نهاية العقول للرازي على هذا النحو: "لا يعلمون كونه فاعلًا لذلك الكلام بالدلالة، ولو كان المتكلم هو الفاعل. . . ". حيث سقطت منهما لفظة "اللهم إلّا" بين كلمة "الكلام" و"بالدلالة"، فحذف هذه اللفظة ليستمر الكلام على هذا النحو: "لذلك الكلام، ولو كان المتكلم. . . ". وكما جاء في ص: 213: حيث حذف العبارة: "ومعناه فلفظ معنى، ولفظ يقوم به"، الواردة في النسختين الخطيتين على هذا النحو: "نعم يشتركان في كون كل منهما كلامًا للمتكلم ومعناه، فلفظ معنى ولفظ يقوم به، وهذا كاشتراك الحياتين. . . ". وهكذا فما مر من هذا القبيل نبهت عليه أثناء التحقيق. عملي في الكتاب، وبيان المنهج الذي سلكته في تحقيقه: أما المنهج الذي سلكته في التحقيق فيتمثل في النقاط التالية: 1 - قارنت بين النسخ الثلاث، واعتمدت نسخة الخزانة التيمورية أصلًا لأسباب أفصحت عنها فيما تقدم. 2 - أثبت ما جاء في الأصل، وحرصت على إبقائه ما أمكن ما لم يظهر لي -بعد التأمل في النص- أن الصواب أو المناسب لسياق الكلام ما ورد في إحدى النسختين (س) و (ط) أو فيهما، أو في المصدر الذي ينقل منه الشيخ -رحمه الله- فإني أثبته في أصل المتن وأشير في الهامش إلى الفروق بعبارة "في الأصل: كذا. والمثبت من. . . "، لكي يخرج النص سليمًا يستطيع القارئ قراءته بيسر وسهولة دون أن ينشغل في البحث عن الصواب في الهامش. 3 - إذا كان هناك زيادة في الأصل، إما لسقوطها منه، أو لأن الكلام يستقيم بها، سواء كانت هذه الزيادة من إحدى النسختين أو منهما، أو من مصدر نقل منه الشيخ، أو أني رأيت الكلام يحتاج إليها، إما لبياض في
النسخ، أو لخلل في المعنى، فإني أثبتها في أصل المتن، وأضعها بين معقوفتين، وأشير إلى ذلك في الهامش بعبارة "ما بين المعقوفتين زيادة من. . . "، وأشير إلى النسخة أو المصدر الذي وردت فيه هذه الزيادة. أما إذا كانت الزيادة من عندي فإني أقول بعد العبارة السابقة "ولعل الصواب ما أثبته" أو "لعل الكلام يستقيم بها" أو "لعل ما أثبته يناسب السياق". 4 - إذا سقط من إحدى النسختين أو منهما معًا، فإني أضع ذلك بين معقوفتين في أصل المتن، وأشير في الهامش إلى ذلك بعبارة "ما بين المعقوفتين ساقط من. . . ". 5 - لم أثبت الفروق اليسيرة بين النسخ التي لا يترتب عليها إخلال بالمعنى، مثل: سبحانه وتعالى، وعزَّ وجلَّ، وجل ذكره، ونحو هذا مما اختلفت فيه النسخ. وكذا ما يرد في النسخ الخطية -عادة- من عدم استعمال الرسم الإملائي، كإهمال الهمزة المتوسطة التي تكون في وسط الكلمة، نحو: مسايل، وقريت، أو كتابتها على كرسي، مع أن الواجب كتابتها على ألف، نحو: يسئل، مسئلة، وكإهمال الهمزة التي تكون في آخر الكلمة، نحو: العلما، والخلفا، وكإهمال ألف التفريق، نحو: جعلو، نفو، وهكذا كل ما ورد من هذا القبيل لم أثبته فرقًا. 6 - توثيق النقول والأقوال التي أوردها الشيخ في هذا الكتاب، وذلك بعزوها إلى مصادرها المطبوعة والمخطوطة التي تمكنت من الوقوف عليها، وذلك بمقابلة النقل أو القول الوارد في الأصل على ما جاء في ذلك المصدر، وإثبات أوجه الاختلاف في الهامش. وإذا كان التوثيق من كتاب محقق اعتمد محققه على أكثر من نسخة، وجاء في إحدى النسخ ما يوافق النص الذي أنا بصدد توثيقه، وفي الأخرى ما يخالف، فلا أشير إلى المخالفة لوجود الموافقة، إذ من المحتمل أنها التي وقعت في يد الشيخ.
أما ما لم أقف عليه -وهو قليل- بحمد الله- فإني أحاول توثيقه من المصادر الأخرى -ما أمكن- وإذا لم أقف عليه في أي مصدر ووجدت الشيخ -رحمه الله- قد أثبته في إحدى مؤلفاته، فإني أقابله على ما جاء في هذا المؤلف حرصًا على إخراج النص بصورة سليمة. 7 - عزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى مواضعها، وذلك بذكر اسم السورة ورقم الآية فيها. 8 - خرجت الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب، وبينت درجة الحديث إذا لم يرد في أحد الصحيحين، وذلك بالإشارة إلى ما قاله العلماء فيه. 9 - الأعلام الوارد ذكرهم في هذا الكتاب كثيرون، ولذا اكتفيت بالترجمة للأعلام الذين يقع في أسمائهم خطأ، أو اختلاف بين النسخ، وكذا ترجمت لمن نقل عنه الشيخ نقلًا، أو نسب له قولًا، أو تكلم فيه مدحًا أو ذمًّا. 10 - حرصت على التعريف بأي مصدر يشير إليه الشيخ -رحمه الله- قدر الإمكان، وبيان ما إذا كان مخطوطًا أو مطبوعًا موجودًا أو مفقودًا، وإن كنت في الغالب لا أشير إلى الكتاب الذي وقع تحت يدي ونقلت منه اكتفاء بما سأذكره عنه في الفهرس. 11 - علقت على بعض المسائل التي تحتاج إلى تعليق، وراعيت الاختصار لئلا أثقل الكتاب بالحواشي. 12 - شرحت بعض الكلمات الغريبة والمصطلحات، وعرفت بالفرق والأماكن والبلدان تعريفًا موجزًا. 13 - اعتمدت التاريخ الهجري في التراجم ونحوها، ودونت ذلك رقمًا لا كتابة اختصارًا، أما إذا ذكرت تاريخًا كان قبل الهجرة فإني أرمز بعد التاريخ بـ (ق هـ)، وإذا كان قبل الميلاد فإني أرمز بعده بـ (ق م). 14 - قد اكتفيت بذكر كلمة الشيخ -رحمه الله- عن ذكر اسم شيخ الإسلام ابن تيمية اختصارًا، وهذا كثير.
15 - ختمت الكتاب بفهارس تعين القارئ في الحصول على طلبته ومبتغاه منه دون عناء، وذلك على النحو التالي: أ - فهرس الأحاديث والآثار. ب- فهرس الأعلام. ج- فهرس الكلمات الغريبة والمصطلحات والبلدان والفرق. د- فهرس المراجع. هـ - فهرس الموضوعات.
الفصل الثاني دراسة بعض مسائله
الفصل الثاني دراسة بعض مسائله فتنة القول بخلق القرآن: لا بد -وقبل الكلام على مسألة خلق القرآن واختلاف الناس فيها، وبيان القول السديد المعتمد على الأدلة النقلية والعقلية- من الكلام على بدعة القول بخلق القرآن، وبيان وقت ظهورها، ومن تزعمها، وما لاقاه الأئمة في سبيل إخمادها، وتجليتها على ضوء نصوص الكتاب والسنة، لا سيما وهذه أمور كثيرًا ما يتطرق إليها الشيخ -رحمه الله- في ثنايا هذا الكتاب، وأثناء مناقشته الخصوم. لذا رأيت أن أتكلم عنها، ولو بشيء من الاختصار فأقول: بدعة القول بخلق القرآن أولى من أظهرها في الإسلام -كما أوضحه الشيخ (¬1) وغيره: الجعد بن درهم (¬2) (ت 124 هـ). فقد نقل أبو القاسم اللالكائي (¬3) عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: "سمعت أبي يقول: أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم، وقاله سنة نيف وعشرين ومائة". ولما اشتهر أمره في المسلمين طلبه خالد بن عبد الله القسري (¬4) -وكان أميرًا على العراق- حتى ظفر به، فخطب الناس يوم الأضحى وقال في خطبته: "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن ¬
درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا" ثم نزل فذبحه (¬1). فسكن الأمر، وانطفأت هذه البدعة. ثم حمل لواءها الجهم بن صفوان (¬2) (ت 128 هـ). يقول الشيخ (¬3) -رحمه الله-: "وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان، فأنكر أن الله يتكلم، ثم نافق المسلمين، فأقر بلفظ الكلام، وقال: "كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر". وقد سلط الله على الجهم مسلم بن أحوز فقتله. لكن أظهر هذه البدعة من بعدهما بشر بن غياث المريسي (¬4) (ت 219 هـ) فجدد القول بخلق القرآن، وكان صباغًا يهوديًّا (¬5). يقول عثمان بن سعيد الدارمي (¬6): "لم يزل الأمر طامسًا دارسًا حتى درج العلماء، وقَلَّت الفقهاء، ونشأ نشءٌ من أبناء اليهود والنصارى مثل بشر بن غياث المريسي، ونظرائه، فخاضوا في شيء منه، وأظهروا طرفًا منه، وجانبهم أهل الدين والورع، وشهدوا عليهم بالكفر حتى هم بهم وبعقوبتهم قاضي القضاة يومئذ أبو يوسف، حتى فر منه المريسي (¬7). . . ¬
ولحق بالبصرة، فلم يزالوا أذلة مقموعين، لا يقبل لهم قول، ولا يلتفت لهم إلى رأي، حتى ركنوا إلى بعض السلاطين الذين لم يجالسوا العلماء ولم يزاحموا الفقهاء. . . ". فاستغل المعتزلة (المأمون) الخليفة العباسي أبا جعفر عبد الله بن هارون الرشيد (¬1)، واتخذوه أداة لنشر ضلالتهم، وترويج بدعتهم، فزينوا له القول بخلق القرآن، فصار إلى مقالتهم، وحمل الناس عليها، وأكرههم على اعتناقها، وكان قبل ذلك مترددًا في الدعوة إلى إظهار هذه البدعة، وحمل الناس عليها، ربما كان ذلك لأنه يراقب بقايا الشيوخ الذين لهم مكانة في نفوس الناس (¬2)، لكنه في آخر أيامه عزم على إظهار هذا القول وإكراه الناس عليه. فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم (¬3) كتابًا (¬4) يأمره فيه بامتحان القضاة والعلماء بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم عينهم بكتابه (¬5). ¬
فبعث بهم إسحاق إلى المأمون بالرقة (¬1)، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه إلى ذلك، وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد، وأمر بإشهار ذلك بين الفقهاء، وقد فعل نائبه ونفذ أمره (¬2). ثم كتب المأمون إلى إسحاق -أيضًا- بكتاب ثان (¬3) يستدل به -كما يقول ابن كثير- على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من المتشابه، وأورد من القرآن آيات هي حجّة عليه، وأمر نائبه أن يقرأ الكتاب على الناس، ويدعوهم إليه، وإلى القول بخلق القرآن. فأحضر إسحاق جماعة من الأئمة منهم الإمام أحمد بن حنبل (¬4) -رحمه الله- وقرأ عليهم الكتاب، ثم بدأ يمتحنهم رجلًا رجلًا، إلى أن وصلت النوبة إلى الإمام أحمد: فقال له: أتقول أن القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا. فقال له: ما تقول في هذه الرقعة (¬5)؟ فقال: أقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬6). فقال رجل من المعتزلة (¬7): إنه يقول: سميع بأذن، بصير بعين. ¬
فقال له إسحاق: ما أردت بقولك: سميع بصير؟ فقال: أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه، ولا أزيد على ذلك. فكتب أجوبة القوم، وبعث بها إلى المأمون، وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرهًا (¬1). ثم ورد كتاب (¬2) المأمون إلى نائبه أن يمتحنهم -أيضًا- فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم يجب منهم يبعث إليه مقيدًا محتفظًا به. فأحضرهم إسحاق، وأخبرهم بما أمر به الخليفة، فأجاب القوم كلهم إلّا أربعة هم: أحمد بن حنبل، وسجادة (¬3)، والقواريري (¬4) ومحمد بن نوح (¬5)، فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد. ¬
فلما كان من الغد دعاهم وهم مقيدون، فامتحنهم، فأجاب سجادة والقواريري، فأطلقهما، وأصر الإمام أحمد، ومحمد بن نوح على قولهما، فشدا بالحديد ووجها إلى طرسوس (¬1)، وكتب كتابًا بإرسالهما إليه (¬2). يقول الإمام أحمد -رحمه الله: "وكنت أدعو الله ألّا يريني وجهه -يعني المأمون- وذلك أنه بلغني أنه كان يقول: لئن وقعت عيني على أحمد لأقطعنه إربًا إربًا" (¬3). فاستجاب الله دعاءه ومات المأمون وهما في طريقهما إليه سنة 218 هـ فأما محمد بن نوح فمات في الطريق، وصلى عليه الإمام أحمد ودفنه (¬4). وأما الإمام أحمد فرد مقيدًا إلى بغداد -بعد خبر وفاة المأمون وتولي المعتصم- (¬5) في سفينة مع بعض الأسرى، وكان في أمر عظيم من الأذى، ثم أودع السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نيفًا وثلاثين شهرًا، ثم أخرج للضرب بين يدي المعتصم، وكان ذلك بعد مناظرات مع المعتزلة (¬6) ¬
: ابن أبي دؤاد (¬1) وجمع من أصحابه، بحضور الخليفة، وقد أثبت خلالها -رحمه الله- تغلبه عليهم، ودمغهم بالحجج المدعمة بنصوص الكتاب والسنة، التي تهاوت أمامها جميع إلزاماتهم، فلم تقم لهم معه حجة، مما جعلهم -ومن خلال هذه المناظرات- يلجؤون إلى أسلوب آخر، أسلوب العجز، الذي ينتهجه عادة أعداء الإسلام عندما تتساقط أدلتهم أثناء النقاش فلجؤوا إلى تحريف قوله، وتحريض الخليفة عليه، ونسبته إلى الضلال والابتداع، وأنه حلال الدم. ويظهر ذلك من قولهم فيما بينهم- أثناء المناظرة: "يا أمير المؤمنين: أكفرنا وأكفرك". وقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "يا أمير المؤمنين ما أعطوني شيئًا من كتاب الله ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقول به". وقول ابن أبي دؤاد: "هو -والله- يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع". وبعد ما لاقاه أبو عبد الله من صنوف الأذى وأنواع التعذيب، وخيبة أمل بطانة الخليفة، أعيد -رحمه الله- إلى منزله. يقول حنبل بن إسحاق: "فلم يزل أبو عبد الله أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- بعد أن أطلقه المعتصم، وانقضاء أمر المحنة، وبرأ من ضربه، يحضر الجمعة والجماعة، ويفتي ويحدث أصحابه، حتى مات أبو إسحاق، وولي هارون ابنه (¬2)، وهو الذي يدعى الواثق. . . " (¬3). فحسَّن له ابن أبي دؤاد امتحان الناس بخلق القرآن، ففعل ذلك (¬4) ولم ¬
يتعرض للإمام أحمد (¬1)، لكنه أرسل له بأن لا يساكنه بأرض، ولا يأتيه ولا يجتمع به أحد، فاختفى -رحمه الله- بقية حياة الواثق (¬2). ورغم ما ناله -رحمه الله- كما مر في أيام المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، وما أصابه من الحبس الطويل، والضرب الشديد، والتهديد والوعيد بالقتل، إلا أنه قابل ذلك كله بالصبر ورجاء الثواب من عند الله والتمسك بالكتاب والسنة وما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. إلى أن تولى المتوكل (¬3)، فأظهر الله به السنة وأعز أهلها، وقمع البدعة وأذل أهلها، فكتب إلى الآفاق بالمنع من الكلام في القول بخلق القرآن ووجه الفقهاء والمحدثين بالجلوس للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأرسل إلى نائبه ببغداد أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعاه وأكرمه وأجله لما يعلمه من مكانته عند الخليفة المتوكل، ¬
وأخبره بطلب الخليفة، فاعتل الإمام أحمد بضعفه وكبره، ولكن المتوكل أكد على حضوره إليه، وبعث إليه بكتاب مفاده أنه يريد الإنس به وبقربه. فخرج الإمام أحمد من بغداد إلى الخليفة المتوكل (¬1)، وعند وصوله أكرمه إكرامًا عظيمًا -يستحقه- يرحمه الله- لكنه اعتبر ذلك ابتلاء وامتحانًا له -أيضًا- فكان لا يقبل ما يغدق به الخليفة عليه، ويقول: "سلمت منهم طول عمري، ثم ابتليت بهم في آخره". فلما رأوا منه عدم قبول الترف وملاذ الدنيا، أذنوا له بالرجوع إلى بغداد، وكان الخليفة يوفد إليه في أمور تقع له يشاوره فيها، ويسأل عنه ويطمئن عليه، إلى أن توفي (¬2) -رحمه الله رحمة واسعة. وقد كتب المتوكل إلى الإمام أحمد يسأله عن القول بالقرآن، سؤال المسترشد المستفيد، لا سؤال المتعنت الممتحن، فكتب -إليه الإمام أحمد- رسالة حسنة (¬3)، أبان فيها ما يجب اعتقاده في هذه المسألة، وضمنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان (¬4). وبعد هذا العرض لقضية الفتنة المتعلقة ببدعة القول بخلق القرآن نتعرف على موقف شيخ الإسلام في هذا الكتاب من هذه القضية، ويتمثل ذلك فيما يلي: 1 - نظر شيخ الإسلام إلى موقف الخلفاء ومن تبعهم الذين أرادوا أن يلزموا الناس بأمر لم يرد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحكم على موقفهم بأنه لا يجوز منهم هذا الإلزام للناس، واستدل على ذلك بمواقف لسلف هذه الأمة من أمور لها الصفة نفسها في عدم وجودها في كتاب الله أو سنة رسوله، وكان فعلهم منسجمًا مع هذا الحكم، فقال رحمه الله في ذلك: "ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس ويوجب عليهم إلّا ما أوجبه الله ¬
ورسوله، ولا يحظر عليهم إلّا ما حظره الله ورسوله، فمن أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله، وحرم ما لم يحرمه الله ورسوله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وهو مضاء لما ذمه الله في كتابه من حال المشركين وأهل الكتاب الذين اتخذوا دينًا لم يأمرهم الله به، وحرموا ما لم يحرمه الله عليهم، وقد بين ذلك في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور، ولهذا كان من شعار أهل البدع إحداث قول أو فعل، وإلزام الناس به وإكراههم عليه أو الموالاة عليه والمعاداة على تركه، كما ابتدعت الخوارج رأيها وألزمت الناس به، ووالت وعادت عليه، وابتدعت الرافضة رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، لما كانت لهم قوة في دولة الخلفاء الثلاثة الذين امتحن في زمانهم الأئمة ليوافقهم على رأي جهم الذي مبدؤه أن القرآن مخلوق، وعاقبوا من لم يوافقهم على ذلك. ومن المعلوم أن هذا من المنكرات المحرمة بالعمل الضروري من دين المسلمين، فإن العقاب لا يجوز أن يكون إلا على ترك الواجب أو فعل محرم، ولا يجوز إكراه أحد إلا على ذلك والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله، فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله وشرع ذلك دينًا فقد جعل لله ندًّا ولرسوله نظيرًا بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أندادًا، وبمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب، وهو ممن قيل فيه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬1)، ولهذا كان أئمة السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحدًا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي، أو كما قال، وقال مالك -أيضًا-: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة. ¬
وقال أبو حنيفة: هذا رأي فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه، وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وقال: إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها. وقال المزني في أول مختصره: هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. وقال الإمام أحمد: ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم. وقال: ولا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا. فإذا كان هذا قولهم في الأمور العملية وفروع الدين، لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين؟ ولهذا قال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد الجهمي، الذي كان قاضي القضاة في عهد المعتصم لما دعا الناس إلى التجهم، وأن يقولوا القرآن مخلوق، وإكراههم عليه بالعقوبة، وأمر بعزل من لم يجبه وقطع رزقه، إلى غير ذلك مما فعله في محنته المشهورة، فقال له في مناظرته لما طلب منه الخليفة أن يوافقه على أن القرآن مخلوق: ائتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أجيبكم به، فقال له ابن أبي داؤد: وأنت لا تقول إلا بما في كتاب الله أو سنة رسوله، فقال له: هب أنك تأولت تأويلًا فأنت أعلم وما تأولت، فكيف تستجيز أن تكره الناس عليه بالحبس والضرب؟ فبين أن العقوبة لا تجوز إلا على ترك ما أوجبه الله أو فعل ما حرمه الله، فإن كان القول ليس في كتاب الله وسنة رسوله لم يجب على الناس أن يقولوه، لأن الإيجاب إنما يتلقى من الشارع، وإن كان القول في نفسه حقًّا، أو اعتقد قائله أنه حق، فليس له أن يلزم الناس أن يقولوا ما لم يلزمهم الرسول أن يقولوه -لا نصًّا ولا استنباطًا - وإذا كان كذلك فقول القائل: المطلوب من
فلان أن يعتقد كذا وكذا، وأن لا يتعرض لكذا وكذا، إيجاب عليه لهذا الاعتقاد وتحريم عليه لهذا الفعل؟، وإذا كانوا لا يرون خروجه من السجن إلّا بالموافقة على ذلك فقد استحلوا عقوبته وحبسه حتى يطيعهم في ذلك، فإذا لم يكن ما أمروا به قد أمر الله به ورسوله، وما نهوا عنه قد نهى الله عنه ورسوله، كانوا بمنزلة من ذكر من الخوارج والروافض والجهمية المشابهين للمشركين والمرتدين ومعلوم أن هذا الذي قالوه لا يوجد في كلام الله ورسوله بحال، وهم -أيضًا- لم يبينوا أنه يوجد في كلام الله ورسوله، فلو كان هذا موجودًا في كلام الله ورسوله لكان عليهم بيان ذلك، لأن العقوبات لا تجوز إلّا بعد إقامة الحجة، كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬1)، فإذا لم يقيموا حجة الله التي يعاقب من خالفها، بل لا يوجد ما ذكروه في حجة الله، وقد نهوا عن تبليغ حجة الله ورسوله، كان هذا من أعظم الأمور مماثلة لما ذكر من حال الخوارج، المارقين المضاهين للمشركين والمرتدين والمنافقين" (¬2). 2 - أنه رحمه الله نظر إلى الفتنة على أنها أشد الفتن جرمًا، وأنه قد بذل في إذاعتها وإكراه الناس عليها ما لم يبذل في بدع أخرى، فقال -رحمه الله-: "فإن مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الإضراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع، إذ لم يكن على عهد السلف من يبوح بإنكار ذلك ونفيه، كما كان على عهدهم من باح بإظهار القول بخلق القرآن، ولا اجترأ الجهمية إذ ذاك على دعاء الناس إلى نفي علو الله على عرشه، بل ولا أظهرت ذلك، كما اجترؤوا على دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، وامتحانهم على ذلك، وعقوبة من لم يجبهم بالحبس، والضرب، والقتل، وقطع الرزق، والعزل عن الولايات، ومنع قبول الشهادة، وترك افتدائهم من أسر العدو، إلى غير ذلك من العقوبات التي إنما تصلح لمن خرج عن الإسلام، وبدلوا بذلك الدين نحو تبديل كثير من المرتدين، فأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في ¬
سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فجاهدوا في الله حق جهاده، متبعين سبيل الصدّيق وإخوانه الذين جاهدوا المرتدين، بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وسمه المسلمون بالإمامة، وبأنه الصديق الثاني، من كان أحق بهذا التحقيق عن فتور الواني. فإن أولئك الجهمية جعلوا المؤمنين كفارًا مرتدين، وجعلوا ما هو من الكفر والتكذيب للرسول إيمانًا وعلمًا، ولبسوا على الأئمة والأمة الحق بالباطل، وكانت فتنتهم في الدين أعظم ضررًا من فتنة الخوارج المارقين، فإن أولئك -وإن كفّروا المؤمنين واستحلوا دماءهم وأموالهم- فلم تكن فتنتهم الجحود بكلام ربّ العالمين، وأسمائه، وصفاته، وما هو عليه في حقيقة ذاته، بل كانت فيما دون ذلك من الخروج عن السنة المشروعة وإن كان أهل المقالات قد نقلوا أن قول الخوارج في التوحيد هو قول الجهمية والمعتزلة، فهذا شر للجهمية، لكن يشبه -والله أعلم- أن يكون ذلك قد قاله من بقايا الخوارج من كان موجودًا حين حدوث مقالات جهم في أوائل المائة الثانية، فأما قبل ذلك فلم يكن قد حدث في الإسلام قول جهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وإنكار أن يكون الله على عرشه، ونحو ذلك، فلا يصح إضافة هذا القول إلى أحد من المسلمين قبل المائة الثانية، لا من الخوارج، ولا من غيرهم، فإن لم يكن في الإسلام إذ ذاك من يتكلم بشيء من هذه السلوب الجهمية، ولا نقل أحد عن الخوارج المعروفين -إذ ذاك- ولا عن غيرهم شيئًا من هذه المقالات الجهمية" (¬1). 3 - كشف الشيخ -رحمه الله- موقف الذين خاضوا في فتنة القائلين بخلق القرآن عن تخبطهم وضلالهم في زعمهم الإيمان بما جاءت به الرسل، وهم ينكرون في الوقت نفسه مضمون ما جاءت به الرسل، فحقيقة قولهم إنكار صفات الله -تعالى-، ومنها كونه -سبحانه- متكلمًا بكلام قائم به، فقال: "إن الجهمية لما أحدثت القول بأن القرآن مخلوق، ومعناه أن الله لم ¬
يصف نفسه بالكلام أصلًا، بل حقيقته أن الله لم يتكلم ولا يتكلم كما أفصح به رأسهم الأول الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئًا في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة، فلا يتخذ شيئًا خليلًا، وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب تعالى. وكذلك نفت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة أن المتكلم يكون متكلمًا بكلام يكون في غيره، وقالوا: -أيضًا- يكون مريدًا بإرادة ليست فيه ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير الإرادات المخلوقة، وغير الأمر وهو الصوت المخلوق في غيره. فكان حقيقة قولهم: التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقتها الرسل، وهذا حال الزنادقة المنافقين، من الصابئين والمشركين، من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم، فيما أخبرت به الرسل في باب الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، بل وفيما أمرت به -أيضًا- وهم مع ذلك يقرون بكثير مما أخبرت به الرسل وتعظيم أقدارهم، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض" (¬1). 4 - أنه -رحمه الله- أدلى بدلوه في الرد على من تولى كبر فتنة القول بخلق القرآن، فرد عليهم ردًّا منطقيًّا بإيراده لمجموعة من الأمثلة التي يستحيل معها أن المتكلم بكلام يكون قائمًا بغيره ولا يقوم به، فقال -رحمه الله-: "فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثانية أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب ما أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور، وجرت المحنة المشهودة، وكانت أئمة الهدى على ما جاءت به الرسل عن الله من أن القرآن كلام الله تكلم به هو سبحانه، وهو منه قائم به، وما كان كذلك لم يكن مخلوقًا، إنما ¬
المخلوق ما يخلقه من الأعيان المحدثة وصفاتها، وكثير منهم يرد قول الجهمية بإطلاق القول: بأن القرآن كلام الله، لأن حقيقة قولهم: إنه ليس كلامه ولا تكلم به ولا بغيره، فإن المستقر في فطر الناس وعقولهم ولغاتهم، أن المتكلم بالكلام لا بد أن يكون به الكلام، فلا يكون متكلمًا بشيء لم يقم به بل هو قائم بغيره، كما لا يكون عالمًا بعلم قائمًا بغيره، ولا حيًّا بحياة قائمة بغيره، ولا مريدًا بإرادة قائمة بغيره، ولا محبًا ومبغضًا ولا راضيًا وساخطًا بحب وبغض ورضى وسخط قائم بغيره، ولا متألمًا ولا متنعمًا وفرحًا وضاحكًا بتألم وتنعم وفرح وضحك قائم بغيره، فكل ذلك عند الناس من العلوم الضرورية البدهية الفطرية التي لا ينازعهم فيها إلّا من أحيلت فطرته، وكذلك عندهم لا يكون آمرًا وناهيًا بأمر ونهي لا يقوم به بل يقوم بغيره، ولا يكون مخبرًا ومحدثًا ومنبئًا بخبر وحديث ونبأ لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون حامدًا وذامًا ومادحًا ومثنيًا بحمد وذم ومدح وثناء لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون مناجيًا ومناديًا وداعيًا بنجاء ودعاء ونداء لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون واعدًا وموعدًا بوعد ووعيد لا يقوم به بل لا يقوم إلّا بغيره، ولا يكون مصدقًا ومكذبًا بتصديق وتكذيب لا يقوم به بل لا يقوم إلّا بغيره، ولا يكون حالفًا ومقسمًا وموليًا بحلف وقسم ويمين لا يقوم به إلا بغيره، بل من أظهر العلوم الفطرية الضرورية التي علمها بنو آدم وجوب قيام هذه الأمور بالموصوف بها وامتناع أنها لا تقوم به بل لا تقوم إلا بغيره، فمن قال: إن الحمد والثناء والأمر والنهي والنبأ والخبر والوعد والوعيد والحلف واليمين والمناداة والمناجاة وسائر ما يسمى ويوصف به أنواع الكلام يمتنع أن تكون قائمة بالآمر الناهي المناجي المنادي المنبيء المخبر الواعد المتواعد الحامد المثني الذي هو الله تعالى، ويجب أن تكون قائمة بغيره، فقد خالف الفطرة الضرورية المتفق عليها بين الآدميين، وبدّل لغات الخلق أجمعين ثم مع مخالفته للمعقولات واللغات فقد كذب المرسلين أجمعين، ونسبهم إلى غاية التدليس والتلبيس على المخاطبين، لأن الرسل أجمعين أخبروا أن الله أمر ونهى وقال ويقول، وقد علم بالاضطرار أن مقصودهم أن الله هو نفسه الذي
مسألة كلام الله تعالى
أمر ونهى وقال، لا أن ذلك شيء لم يقم به بل خلقه في غيره، ثم لو كان مقصودهم ذلك فمعلوم أن هذا ليس هو المعروف من الخطاب ولا المفهوم منه، لا عند الخاصة ولا عند العامة، بل المعروف المعلوم أن يكون الكلام قائمًا بالمتكلم، فلو أرادوا بكلامه وقوله أنه خلق في بعض المخلوقات كلامًا لكانوا قد أضلوا الخلق -على زعم الجهمية- ولبسوا عليهم غاية التلبيس، وأرادوا باللفظ ما لم يدلوا الخلق عليه، والله تعالى قد أخبر أن الرسل قد بلغت البلاغ المبين، فمن نسبهم إلى هذا فقد كفر بالله ورسله، وهذا قول الزنادقة المنافقين الذي هم أصل الجهمية الذي يصفون الرسل بذلك من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم، بل كون المتكلم الآمر الناهي لا يوصف بذلك إلا لقيام الكلام بغيره مع امتناع قيامه به، أمر لا يعرف في اللغة، لا حقيقة ولا مجازًا" (¬1). مسألة كلام الله تعالى: وصف الشيخ -رحمه الله- هذه المسألة بأنها مسألة هامة، وأنها مما حيرت عقول الأنام لكثرة اختلاف الناس فيها. فقال -رحمه الله-: "إن الناس كثير نزاعهم فيها، حتى قيل: مسألة الكلام حيرت عقول الأنام" (¬2). وقال: "ومسألة القرآن كثير فيها اضطراب الناس، حتى قال بعضهم: مسألة الكلام حيرت عقول الأنام" (¬3). وقال: ". . . وإنما المقصود هنا ذكر قول مختصر جامع بين الأقوال السديدة التي دل عليها الكتاب والسنة، وكان عليها سلف الأمة في مسألة الكلام، التي حيرت عقول الأنام" (¬4). ¬
ونعتها -رحمه الله- بأنها مسألة عظيمة، فقال: "وكثير من الكتب المصنفة في أصول علوم الدين وغيرها، تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة، كمسألة القرآن. . . " (¬1). وبين -رحمه الله- أنها تشتمل على مسائل معضلة يصعب على من ضل عن منهج السلف فهمها، فقال -بعد أن بين سبب نزاع المتأخرين في الحروف التي في الكلام-: ". . . فمن فهم قول السلف، وفرق بين هذه الأقوال، زالت عنه الشبهات في هذه المسألة المعضلة التي اضطرب بها أهل الأرض" (¬2). وإذا كانت هذه المسألة بهذه المثابة من الأهمية وصعوبة فهمها، مما جعلها محيرة للعقول، فليعذرني القارئ عما أقصر فيه من بيان وإيضاح لهذه المسألة، ولا يعني هذا أنني ألتمس العذر لنفسي، فيعلم الله وحده ما بذلته من جهد ووقت في سبيل جمع شتات هذه المسألة الدقيقة، ولا يظن أني سوف أضيف جديدًا على ما ذكره الشيخ -رحمه الله- فلقد وفى هذه المسألة حقها من العرض والمناقشة، وإلجام المخالفين بالبراهين والأدلة العقلية والنقلية التي تؤيد رأي السلف -رحمهم الله تعالى. ... ¬
الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في مسألة الكلام
الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في مسألة الكلام الشيخ -رحمه الله- بين في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفاته أن الأصل الذي تفرع منه نزاع الناس في هذه المسألة "هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام في المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع. وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع، استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف أهل الكلام على ذلك بأن ما يخلو عن الحوادث فهو حادث. ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام، قالوا: إن الأجسام لا تخلوا عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. ثم تنوعت طرقهم في المقدمة الأولى: فتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون، وهما حادثان. وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق، وهما حادثان. وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، وهي حادثة. وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام لا تخلو عن بعض الأعراض.
وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون: القابل للشيء لا يخلو منه وعن ضده. ويقولون: إن الأعراض يمتنع بقاؤها، لأن العرض لا يبقى زمانين، وهذه الطريقة هي التي اختارها الآمدي (¬1)، وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها (¬2). وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة، كالقاضي أبي يعلى (¬3)، وأبي المعالي الجويني (¬4)، وأبي الوليد الباجي (¬5)، وأمثالهم (¬6). وقد تكلم أبو المعالي الجويني على هذا الأصل في موضعين من كتابه الإرشاد: الموضع الأول (¬7): في مسألة حدوث العالم، حيث استدل بدليل الأعراض المشهور، وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض، وما لا يخلو عنها فهو حادث، وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله، وذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر (¬8)، وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم. وهذ الدليل الذي استدل به الجويني مبني على إثبات أربع مقدمات: ¬
- إثبات الأعراض. - إثبات حدوثها. - إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض. - إثبات استحالة حوادث لا أول لها. والشيخ -رحمه الله- كثيرًا ما يتعرض لهذه المقدمات بالنقد والمناقشة في هذا الكتاب (¬1). الموضع الثاني (¬2): فقد قرر فيه أن مما يخالف الجوهر فيه حكم الإله: قبول الأعراض، وصحة الاتصاف بالحوادث، والرب يتقدس عن قبول الحوادث. وقد بين الشيخ -رحمه الله- ما في كلام الجويني هذا من مجانبة للصواب (¬3). أما "الهشامية" و"الكرامية" وغيرهم من الطوائف الذين يقولون بحدوث كل جسم، ويقولون: إن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل، فإنهم يقولون: إن الجسم القديم لا يخلو عن الحوادث، بخلاف الأجسام المحدثة، فإنها لا تخلو عن الحوادث. والناس متنازعون في السكون، هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ فمن قال: إنه وجودي، قال: إن الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون إذا انتفت عنه الحركة قام به السكون الوجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك. ¬
ومن قال: إنه عدمي: لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت سكون وجودي. فمن قال: إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن، مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم، يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بل ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم إنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلًا ولا يقولون: إن عدم الفعل أمر وجودي، كذلك الحركة عند هؤلاء. وكان كثير من أهل الكلام يقولون: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، بناء على أن هذه مقدمة ظاهرة، فإن ما لا يسبق الحادث فلا بد أن يقارنه أو يكون بعده وما قارن الحادث فهو حادث، وما كان بعده فهو حادث (¬1). وهذا الكلام كما يقول الشيخ -رحمه الله- مجمل. فإن أريد به ما لا يخلو عن الحادث المعين، أو ما لا يسبق الحادث المعين، فهو حق بلا ريب، ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث جملة ما له أول، أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك. وأما إذا أريد بالحوادث الأمور التي تكون شيئًا بعد شيء لا إلى أول وقيل: إنه ما لا يخلو عنها، وما لم يخل عنها فهو حادث، لم يكن ذلك ظاهرًا ولا بينًا، بل هذا المقام حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام، ولهذا صار المستدلون بقولهم: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها. وهذا الدليل الذي اعتمد عليه كثير من أهل الجدل في إثبات حدوث العالم، وبنوا عليه نفي الصفات عن الله (¬2)، واعتقدوا أن لا دليل سواه، بل ¬
ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به، بطلانه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام (¬1). والشيخ -رحمه الله- تصدى لهذا الدليل الباطل، وبين وجه تناقضه، وأن الاستدلال على حدوث العالم لا يحتاج إلى الطريقة التي سلكها أولئك المتكلمون، بل يمكن إثبات حدوثه بطرق أخرى عقلية صحيحة، لا يعارضها عقل صريح ولا نقل صحيح. في مواضع من هذا الكتاب أحيل عليها (¬2) اكتفاء بذكرها هنا. وإذا عرف الأصل الذي تفرع منه النزاع في مسألة الكلام، فلا بد أن نعرف النزاع الحاصل في المسألة نفسها، وذلك على ضوء ما عرضه الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب. إلزامات: ألزم السلف المعطلة النفاة لصفة الكلام بإلزامات أذكر منها: 1 - مشابهة قولهم لقول النصارى قالوا: إن عيسى نفس كلمة الله فجعلوا الكلام الذي هو من قبيل الأعراض جوهرًا قائمًا بنفسه، ولذا اتخذوه إلهًا، فقالوا: إن اللاهوت -ويعنون الكلمة- اتحدت بالناسوت -ويعنون جسد عيسى-. فعندهم أن عيسى مركب من جزئين: جزء إلهي قديم، وهو الكلمة. وجزء حادث مخلوق، وهو الجسد، لكنهما اتحدا وصارا شيئًا واحدًا هو المسيح. وهذا القول من جنس قول الكلابية والأشعرية الذين جعلوا القرآن نصفين: قديم: وهو المعنى القائم بالنفس. ¬
ومحدث: وهو المصحف. يقول الشيخ -رحمه الله-: "والجهمية الغلاط يضاهئونهم مضاهاة عظيمة، لكن المقصود هنا ذكر مضاهاة هؤلاء الذين يقولون الكلام معنى واحد قائم بذات الرب، فيقال: أنتم قلتم: الكلام معنى واحد لا ينقسم ولا يختلف، وهذا المعنى الواحد هو بعينه أمر ونهي وخبر، فجعلتم الواحد ثلاثة، وجعلتم الواحد الذي لا اختلاف فيه ثلاث حقائق مختلفة، وهذا مضاهاة قوية لقول النصارى: الرب إله واحد جوهر واحد، وهو مع ذلك ثلاثة جواهر، فجعلوه واحدًا، وجعلوه ثلاثة، ثم قلتم: هذا الكلام الذي هو واحد، وهو أمر ونهي وخبر، ينزل تارة فيكون أمرًا، وتارة فيكون خبرًا، وتارة فيكون نهيًا، وإذا نزل فكان أمرًا لم يكن خبرًا، وإذا نزل فكان خبرًا لم يكن أمرًا، فإنه إذا أنزله الله فكان آية الكرسي، وهي خبر، لم يكن آية الدين التي هي أمر، وهذا لعله من أعظم المضاهاة لقول النصارى أن الجوهر الواحد الذي هو ثلاثة جواهر ثلاثة أقانيم، إذا اتحد فإنما يكون كلمة وابنًا، لا يكون أبًا ولا روح قدس، فإن هؤلاء، كما جعلوا الشيء الذي هو واحد يتحد ولا يتحد، يتحد من كونه كلمة، ولا يتحد من كونه وجودًا، جعل أولئك الذي هو كلام واحد، ينزل لا ينزل، ينزل من جهة كونه أمرًا، لا ينزل من جهة كونه خبرًا. وأيضًا -فإنهم ضاهوا النصارى في تحريف مسمى الكلمة والكلام، فإن المسيح سمي كلمة الله، لأن الله خلقه بكلمته. . . لكن هذه الكلمة تارة يجعلونها صفة لله، ويقولون: هي العلم، وتارة يجعلونها جوهرًا قائمًا بنفسه، وهي المتحد بالمسيح، وهؤلاء حرفوا مسمى الكلام، فزعموا أنه ليس إلا مجرد المعنى، وأن ذلك المعنى ليس هو العلم، ولا الإرادة، ولا ما هو من جنس ذلك، ولكن هو شيء واحد، وهو حقائق مختلفة. . . ". وأيضًا -فهم في لفظ القرآن الذي هو حروف واشتماله على المعنى، لهم مضاهاة قوية بالنصارى في جسد المسيح الذي هو متدرع للاهوت، فإن هؤلاء متفقون على أن حروف القرآن ليست من كلام الله، بل هي مخلوقة،
كما أن النصارى متفقون على أن جسد المسيح لم يكن من اللاهوت، بل هو مخلوق، ثم يقولون: المعنى القديم لما أنزل بهذه الحروف المخلوقة، فمنهم من يسمي الحروف كلام الله حقيقة، كما يسمي المعنى كلام الله حقيقة، ومنهم من يقول: بل هي كلام الله مجازًا، كما أن النصارى منهم من يجعل لاهوتًا حقيقة لاتحاده باللاهوت واختلاطه به، ومنهم من يقول: هو محل اللاهوت ودعاؤه، ثم النصارى تقول: هذا الجسد إنما عبد لكونه مظهر اللاهوت وإن لم يكن هو إياه، ولكن صار هو إياه بطريق الاتحاد، وهو محله بطريق الحلول، فعظم ذلك، وهم لا يقولون: هذه الحروف ليست من كلام الله ولا يجوز أن يتكلم الله بها، ولا يكلم بها، بل لا يدخل في ذرته أن يتكلم بها، ولكن خلقها فأظهر بها المعنى القديم ودل بها عليه، فاستحقت الإكرام والتحريم لذلك. . . (¬1). وإلى هذا الإلزام أشار ابن القيم -رحمه الله- بقوله: يا قوم قد غلط النصارى قبل في ... معنى الكلام وما اهتدوا لبيان ولأجل ذا جعلوا المسيح إلههم ... إذ قيل كلمة خالق رحمن ولأجل ذا جعلوه ناسوتًا ولا ... هوتًا قديمًا بعد متحدان ونظير هذا من يقول كلامه ... معنى قديم غير ذي حدثان والشطر مخلوق وتلك حروفه ... ناسوته لكن هما غيران فانظر إلى ذي الاتفاق فإنه ... عجب وطالع سنة الرحمن (¬2) 2 - يلزم من قول المخالف أن يكون هناك قرآنان. هذا المصحف الذي بأيدي المسلمين، المقروء بالألسنة المحفوظ بالصدور، وهو -بزعمهم- ليس بكلام الله، وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، وتسميته قرآنًا أو كلامًا مجازٌ، وهذا مخلوق عندهم. والمعنى القديم القائم بالنفس، وهذا هو الكلام الحقيقي عندهم ولا يكون بحروف وأصوات مسموعة، وهو معنى واحد في الأزل لا انقسام ¬
فيه ولا تبعض، فالتوراة عين الإنجيل، والإنجيل عين القرآن، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة. وقد ذكر الشيخ -رحمه الله- أنه يحكى عن الكلابية والأشاعرة "أنه ليس لله في الأرض كلام، وأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله، وأنه ليس لله في الأرض كلام، وإنما هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله" (¬1). وقالت هذه الطائفة: "كلام الله ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس، وحروف القرآن ليس من كلام الله، ولا تكلم الله بها، ولا يتكلم الله بحرف ولا صوت. . . " (¬2). وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "-وأيضًا- فجعلت هذه الطائفة معنى واحدًا قائمًا بذات الرب هو أمر ونهي وخبر واستخبار، وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن. . . " (¬3). وإلى هذا الإلزام أشار ابن القيم بقوله: زعموا القرآن عبارة وحكاية ... قلنا كما زعموه قرآنان هذا الذي نتلوه مخلوق كما ... قال الوليد وبعده الفئتان والآخر المعنى القديم فقائم ... بالنفس لم يسمع من الديان والأمر عين النهي واستفهامه ... هو عين إخبار وذو وحدان وهو الزبور وعين توراة وإنـ ... جيل وعين الذكر والفرقان الكل شيء واحد في نفسه ... لا يقبل التبعيض في الأذهان (¬4) 3 - إذا لم يكن الله تعالى متكلمًا كما يزعمه المعطلة والنفاة ولا موصوفًا بالكلام -الذي هو صفة مدح- لزم من ذلك مشابهته -سبحانه- للجمادات التي لا تتكلم، بل يكون الحيوان الذي يتكلم أكمل منه- تعالى الله عما يقوله هؤلاء علوًا كبيرًا. ¬
يقول الشيخ -رحمه الله-: "وهؤلاء (¬1) عندهم أن الملائكة تعبر عن المعنى القائم بذات الله وأن الله نفسه لا يعبر بنفسه عن نفسه، وذلك يشبه من بعض الوجوه الأخرس الذي يقوم بنفسه معان، فيعبر غيره عنه بعبارته، وهم في ذلك مشاركون للجهمية الذين جعلوا غير الله يعبر عنه من غير أن يكون الله يتكلم، لكن هؤلاء يقولون: قام بنفسه معنى، فتجعله كالأخرس، والجهمية تجعله بمنزلة الصنم الذي لا يقوم به معنى ولا لفظ" (¬2). وإلى هذا أشار ابن القيم بقوله: وإذا انتفت صفة الكلام فضدها ... خرس وذلك غاية النقصان فلئن زعمتم أن ذلك في الذي ... هو قابل من أمة الحيوان الرب ليس بقابل صفة الكـ ... ـلام فنفيها ما فيه من نقصان فيقال سلب كلامه وقبوله ... صفة الكلام أتم للنقصان إذ أخرس الإنسان أكمل حالة ... من ذا الجماد بأوضح البرهان فجحدت أوصاف الكمال مخافة التشـ ... ـبيه والتجسيم بالإنسان ووقعت في تشبيهه بالناقصات ... الجامدات وذا من الخذلان (¬3) 4 - يلزم هؤلاء النفاة الذين نفوا صفة الكلام عن الله، وقالوا: إن كلامه هو ما يخلقه في غيره منفصلًا عنه، وإن إضافته إلى الله إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وناقة الله، أن يكون جميع كلام الخلق حقه وباطله، جده وهزله عين كلام الله -سبحانه- وهذا ما صرح به الاتحادية. يقول الشيخ -رحمه الله-: "ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلامًا له، فيكون إنطاقه للجلود كلامًا له، بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلامًا له، وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون: إن ¬
وجوده عين الموجودات، فيقول قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه (¬1) يقول ابن القيم مشيرًا إلى هذا الإلزام: أو ليس قد قام الدليل بأن أفعـ ... ـال العباد خليقة الرحمن من ألف وجه أو قريب الألف يحصيـ ... ـها الذي يعنى بهذا الشان فيكون كل كلام هذا الخلق ... عين كلامه سبحانه ذي السلطان إذ كان منسوبًا إليه كلامه ... خلقًا كبيت الله ذي الأركان هذا ولازم قولكم قد قاله ... ذو الاتحاد مصرحًا ببيان حذر التناقض إذا تناقضتهم ولكـ ... ـن طرده في غاية الكفران (¬2) هذه بعض الإلزامات التي لا محيد للمعطل النافي لهذه الصفة عنها، وهي -بحق- تبرز رأي السلف في هذه المسألة المستمد من كتاب الله، وسنة رسوله - عليه السلام - وأقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان، والمدعم بصريح المعقول الموافق لصحيح المنقول، وأنه الرأي الذي يجب على المسلم أن يعتقده، ويدين ربه -عزَّ وجلَّ- به. ... ¬
نماذج مصورة من النسخ المخطوطة
نماذج مصورة من النسخ المخطوطة
صورة الورقة الأولى من المخطوطة (س)
صورة الورقة الأخيرة من المخطوطة (س)
صورة الورقة الأولى من الأصل
صورة الورقة الأخيرة من الأصل
قسم التحقيق
خطبة الحاجة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (¬1) قال (¬2) شيخنا الإِمام العلامة شيخ الإِسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رضي الله عنه - (¬3): [الحمد لله] (¬4) نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده (¬5) الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، [وأشهد] (¬6) أن لا إله إلّا الله (¬7)، [وأشهد] (¬8) أن محمدًا عبده ورسوله- صلى الله عليه وسلم - (¬9). [أما بعد] (¬10) فإنه في آخر شهر رمضان سنة ست وسبعمائة (¬11)، ¬
السبب الداعي لتأليف الكتاب
جاء أميران رسولين (¬1) من عند الملأ المجتمعين من الأمراء والقضاة ومن معهم، وذكرا رسالة من عند الأمراء، مضمونها طلب الحضور، ومخاطبة القضاة لتخرج وتنفصل القضية، وأن المطلوب خروجك، وأن يكون الكلام مختصرًا (¬2)، ونحو ذلك. فقلت: سلم على الأمراء، وقيل لهم: لكم سنة، وقبل السنة مدة أخرى تسمعون كلام الخصوم الليل والنهار، وإلى (¬3) الساعة لم تسمعوا مني كلمة واحدة، وهذا عن أعظم الظلم، فلو كان الخصم يهوديًّا أو نصرانيًّا أو عدوًا آخر للإسلام ولدولتكم، لما جاز أن تحكموا عليه حتى تسمعوا كلامه، وأنتم قد سمعتم كلام الخصوم وحدهم (¬4) في مجالس كثيرة، فاسمعوا كلامي وحدي في مجلس واحد، وبعد ذلك نجتمع ونتخاطب بحضوركم (¬5)، فإن هذا من أقل العدل الذي أمر الله به في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬6). فطلب الرسولان أن أكتب ذلك في ورقة، فكتبته، فذهبا ثم عادا وقالا: المطلوب حضورك لتخاطبك القضاة بكلمتين وتنفصلوا (¬7)، ¬
وكان في أوائل النصف [من الشهر المذكور] (¬1) جاءنا هذان الرسولان بورقة كتبها لهم المحكم من القضاة (¬2) [أبو الحسن علي بن مخلوف المالكي] (¬3) وهي طويلة، طلبت منهم نسخها فلم [يوافقوا وتأملتها فوجدتها مكذوبة على إلا كلمة واحدة] (¬4) من أنه على العرش حقيقة وأن كلامه حرف وصوت قائم به [بلا تكييف ولا تشبيه] (¬5). قلت: [ليس هذا في كلامي ولا] (¬6) في خطي، وخاطبني بخطاب فيه طول قد ذكر في غير هذا الموضع، فندموا على كتابة تلك الورقة وكتبوا هذه، فقلت: أنا لا أحضر إلى من يحكم فيّ بحكم الجاهلية، وبغير ما أنزل الله، ويفعل بي ما لا تستحله اليهود ولا النصارى، ¬
كما فعلتم في المجلس الأول (¬1)، وقلت للرسول: قد كان ذلك بحضوركم، أتريدون أن يمكروا (¬2) كما مكروا [بي] (¬3) في العام الماضي؟ هذا لا أجيب إليه، ولكن من زعم أني قلت قولًا باطلًا، فليكتب خطه بما أنكره من كلامي، ويذكر حجته، وأنا أكتب جوابي مع كلامه، ويعرض كلامي وكلامه على علماء الشرق والغرب، فقد قلت هذا بالشام، وأنا قائله هنا (¬4)، وهذي عقيدتي (¬5) التي بُحثت بالشام بحضرة قضاتها ومشايخها وعلمائها، وقد أرسل إليكم نائبكم النسخة التي قرئت، وأخبركم بصورة ما جرى، وإن كان قد وقع من التقصير في حقي والعدوان والإغضاء عن الخصوم ما قد علمه الله والمسلمون، ¬
لفظ ما في الورقة التي جاء بها الرسولان من عند الأمراء والقضاة وإجابة الشيخ المختصرة عليها
فانظروا النسخة التي عندكم، وكان قد حضر عندي نسخة أخرى منها، فقلت: خذ هذه النسخة فهي (¬1) اعتقادي، فمن أنكر منها (¬2) شيئًا فليكتب ما ينكره وحجته لأكتب جوابي، فأخذا العقيدة وذهبا، ثم عادا ومعهما ورقة لم يذكر فيها شيء من الاعتراض على كلامي، بل قد أنشؤوا فيها كلامًا طلبوه، وذكر الرسول أنهم كتبوا ورقة ثم أخرى (¬3)، ثم قطعوها، ثم كتبوا هذه، ولفظها (¬4): الذي يطلب (¬5) منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز، وأن لا يقول إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، وأنه -سبحانه- لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية، ويطلب منه أنه (¬6) لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها. فلما أراني الورقة (¬7) كتبت جوابها فيها مرتجلًا مع استعجال الرسول: أما قول القائل: الذي يطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز، فليس في كلامي إثبات هذا (¬8) اللفظ؛ لأن إطلاق هذا اللفظ ¬
نفيًا وإثباتًا بدعة (¬1)، وأنا لا أقول (¬2) إلّا ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة. فإن أراد قائل هذا القول أنه ليس فوق السموات رب، ولا فوق العرش إله (¬3)، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يعرج (¬4) به إلى ربه وما فوق العالم ¬
إلا العلم المحض، فإذا باطل مخالف لإجماع الأمة وأئمتها. وإن أراد بذلك أن الله لا تحيط به مخلوقاته، ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا مذكور مصرح به في كلامي (¬1)، فأي فائدة في تجديده؟ وأما قول القائل: لا يقول إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته [فليس في كلامي (¬2) هذا -أيضًا- ولا قلته قط، بل ¬
إجابة الشيخ المفصلة من وجوه كثيرة
قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم بذاته] (¬1) بدعة لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا، وأنا (¬2) ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق (¬3). وأما قول القائل: إنه لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية، فليس هذا اللفظ في كلامي [بل في كلامي] (¬4) إنكار ما ابتدعه المبتدعون من الألفاظ النافية، مثل قولهم: إنه لا يشار إليه، فإن هذا النفي -أيضًا- بدعة. فإن أراد القائل أنه لا يشار إليه أنه ليس محصورًا في المخلوقات، أو غير ذلك من المعاني الصحيحة , فإذا حق، وإن أراد أن من دعا الله لا يرفع إليه يديه، فهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فطر الله عليه عباده من رفع الأيدي إلى الله في الدعاء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما إليه صفرًا" (¬5)، وإذا سمى المسمي ذلك إشارة حسية، وقال: إنه ¬
إجابته عن قولهم الذي يطلب منه ألا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها من وجوه
لا يجوز، لم يقبل منه (¬1). وأما قول القائل: لا (¬2) يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العامة، فما فاتحت عاميًا في شيء من ذلك قط. وأما الجواب بما بعث الله به رسوله للمسترشد المستهدي فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (¬3). وقال (¬4) تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (¬5). . . الآية، فلا يؤمر العالم (¬6) بما يوجب لعنة الله عليه. ¬
فأخذا الجواب (¬1) وذهبا فأطالا الغيبة ثم رجعا, ولم يأتيا بكلام محصل إلا طلب الحضور، فأغلظت لهم في الجواب، وقلت لهم بصوت رفيع (¬2): يا مبدلين (¬3) يا مرتدين (¬4) عن الشريعة يا زنادقة (¬5) ¬
الوجه الأول: أنه نبذ لكتاب الله وترك لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله
وكلامًا (¬1) آخر كثيرًا، ثم قمت وطلبت فتح الباب والعود إلى مكاني. وقد كتبت هنا بعض ما يتعلق بهذه المحنة، التي طلبوها مني في هذا اليوم وبينت بعض ما فيها من تبديل الدين واتباع غير سبيل المؤمنين لما في ذلك من المنفعة للمسلمين، وذلك من وجوه كثيرة، نكتب منها ما يسر (¬2) الله تعالى: الوجه الأول: إن هذا الكلام أمر فيه بهذا الكلام المبتدع الذي لم يؤثر عن الله ولا عن أحد من رسله، ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو من ابتداع بعض المتكلمين الجهمية (¬3) الذي وصف ربه فيه بما وصفه، ونهى فيه عن كلام الله، وكلام رسوله الذي وصف به نفسه ووصفه (¬4) به رسوله ¬
أن يفتي به (¬1)، أو يكتب به، أو يبلغ لعموم الأمة، وهذا نهى عنه القرآن والشريعة والسنة والمعروف والهدى والإرشاد (¬2) وطاعة الله ورسوله، وعن ما تنزلت به (¬3) الملائكة من عند الله على أنبيائه، وأمر بالنفاق والحديث المفترى من دون الله، والبدعة (¬4) والمنكر والضلال (¬5) وطاعة أولياء من دون الله واتباع لما تنزلت به الشياطين، وهذا من أعظم تبديل دين الرحمن بدين الشيطان، واتخاذ أنداد (¬6) من دون الله، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬7) وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (¬8) الآية. وهذا الكلام نهى فيه عن سبيل المؤمنين، وأمر بسبيل (¬9) المنافقين وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (¬10) فذم سبحانه من كان من أهل الكتاب نبذ (¬11) كتاب الله وراء ظهره، واتبع ما تقول (¬12) الشياطين، ومن ¬
الوجه الثاني: أن قولهم هذا يتضمن إبطال أعظم أصول الدين
أمر بهذا الكلام فقد أمر بنبذ كتاب الله وراء الظهر، حيث أمر بترك التعرض لما وصف الله به نفسه ووصفه (¬1) به رسوله وذلك آيات الصفات وأحاديث الصفات، فأمر بأن لا يفتى بها ولا يكتب بها ولا تبلغ لعموم الأمة (¬2)، وهذا من أعظم الإعراض عنها والنبذ لها وراء الظهر، وأمر من ذلك باعتقاد هذه الكلمات المتضمنة لمخالفة ما جاءت به الرسل -كما سنبينه إن شاء الله تعالى- وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}. . . الآية، إلى قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (¬3). . . الآية. فبين -سبحانه- أن للأنبياء عدوًا من شياطين الإنس والجن يعلم بعضهم بعضًا بالقول المزخرف غرورًا، وأخبر أن الشياطين توحي إلى أوليائها بمجادلة المؤمنين، فالكلام الذي يخالف ما جاءت به الرسل هو من وحي الشياطين وتلاوتهم، فمن أعرض عن كتاب الله واتباعه، فقد نبذ كتاب الله وراء ظهره واتبع ما تتلوه شياطين الإنس والجن. الوجه الثاني: إن قول القائل: نطلب منه أن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها: يتضمن إبطال أعظم أصول الدين ودعائم التوحيد، فإن من أعظم آيات الصفات آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح (¬4) وقل هو الله أحد، التي تعدل ثلث القرآن، كما ¬
استفاضت لذلك الأحاديث (¬1) عن (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك فاتحة الكتاب التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، كما ثبت ذلك في الصحيح (¬3) -أيضًا- وهي أم القرآن التي لا تجزئ ¬
الصلاة إلّا بها (¬1)، فإن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬2) كل ذلك من آيات الصفات باتفاق المسلمين (¬3)، وقيل هو الله أحد، قد ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه فيختم بـ: ¬
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ " فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخبروه أن الله يحبه" (¬2). وهذا يقتضي أن ما كان صفة لله من الآيات فإنه يستحب قراءته، والله يحب ذلك، ويحب من يحب ذلك، ولا خلاف بين المسلمين في استحباب قراءة آيات الصفات في الصلاة الجهرية التي يسمعها العامي وغيره، بل بسم الله الرحمن الرحيم من آيات الصفات، وكذلك أول سورة الحديد (¬3)، إلى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬4) هي من آيات الصفات، وكذلك آخر سورة الحشر، هي من أعظم (¬5) آيات الصفات، بل جميع أسماء الله الحسنى هي مما وصف الله بها (¬6) نفسه، كقوله: الغفور، الرحيم، العزيز، الحكيم، العليم، القدير، العلي، العظيم، الكبير، المتعال، القوي، العزيز، الرزاق (¬7)، ذو القوة المتين، الغفور، الودود، ذو العرش المجيد، فعّال لما يريد، ¬
وما أخبر الله بعلمه، وقدرته، ومشيئته، ورحمته، وعفوه، ومغفرته، ورضاه، وسخطه، ومحبته، وبغضه، وسمعه، وبصره، وعلوه (¬1)، وكبريائه، وعظمته، وغير ذلك، كل ذلك من آيات الصفات، فهل يؤمر من آمن بالله ورسوله بأن يعرض عن هذا كله، وأن لا يبلغ المؤمنين من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات ونحوها من (¬2) الأحاديث وأن لا يكتب بكلام الله وكلام رسوله الذي هو آيات الصفات وأحاديثها إلى البلاد ولا يفتى من ذلك ولا به، وقد قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬3) وأسوأ أحوال العامة أن يكونوا أميين، فهل يجوز أن ينهى عن (¬4) أن يتلى على الأميين آيات الله أو عن [أن] (¬5) يعلموا الكتاب والحكمة. ومعلوم أن جميع من أرسل إليه الرسول من العرب كانوا قبل معرفة الرسالة أجهل من عامة المؤمنين اليوم، فهل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ممنوعًا من تلاوة ذلك عليهم وتعليمهم إياه أو مأمورًا به؟ أوليس هذا من أعظم الصد عن سبيل الله؟ وقد قال (¬6) تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} (¬7). . . . الآية، وقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (¬8) أوليس هذا نوعًا من الأمر بهجر القرآن والحديث وترك استماعه، وقد قال تعالى: ¬
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (¬1). . . . الآية، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (¬3)، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬4)، فهل (¬5) قال: فاستمعوا له إلا لأعظم ما فيه وهو ما وصفت به نفسي فلا تستمعوه (¬6)، أو لا تسمعوه لعامتكم، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬7)، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬8)، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (¬9). . . . الآية، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬10). . . الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (¬11)، وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ ¬
الوجه الثالث: ما يحذره المنازعون من آيات الصفات ما يزعم أن ظاهرها كفر وتجسيم
عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} , إلى قوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬1). الوجه الثالث: إن أعظم ما يحذره المنازعون (¬2) من آيات الصفات ما يزعم (¬3) أن ظاهرها كفر وتجسيم، كقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬5)، وقوله (¬6): {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (¬7)، وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬8)، وقال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (¬9)، وقوله (¬10) تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ¬
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (¬1)، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} (¬2). . . الآية، فهل سمع أن أحدًا ممن يؤمن بالله ورسوله منع أن يقرأ هذه وتتلى على العامة؟ وهل ذلك إلَّا بمنزلة من منع من سائر الآيات التي يزعم أن ظاهرها كفر وتجسيم وخبر يخالف رأيه؟ كقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬3) وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (¬4)، وقوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬5)، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} (¬6)، وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬7)، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (¬8)، وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬9)، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (¬10)، وكذلك آيات الوعد والوعيد، وأحاديث الوعد والوعيد، هل يترك تبليغها لمخالفتها لرأي الوعيدية (¬11)، ¬
والمرجئة (¬1)، أو آيات التنزيه والتقديس كقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬2)، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬3)، وقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} إلى قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4)، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬5)، وقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (¬6)، ونحو ذلك، هل يترك تلاوتها وتبليغها لمخالفتها لرأي أهل التشبيه والتمثيل (¬7)؟! ¬
الوجه الرابع: أن كتب الصحاح والسنن والمساند مشتملة على أحاديث الصفات، ولا يزال يحضر قراءتها ألوف مؤلفة قديما وحديثا من عوام المؤمنين
الوجه الرابع: إن كتب الصحاح والسنن والمسانيد هي المشتملة على أحاديث الصفات، بل قد بوب فيها أبواب، مثل كتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية، الذي هو آخر كتاب صحيح البخاري (¬1)، ومثل كتاب الرد على الجهمية في سنن أبي داود (¬2)، وكتاب النعوت في سنن ¬
النسائي (¬1)، فإن هذه مفردة لجميع (¬2) أحاديث الصفات، وكذلك قد تضمن (¬3) كتاب السنة من سنن ابن ماجه (¬4) ما تضمنه، وكذلك تضمن ¬
صحيح مسلم (¬1)، وجامع الترمذي (¬2)، وموطأ ¬
مالك (¬1)، ومسند الشافعي (¬2)، ومسند أحمد بن. . . . . . . . . . . ¬
حنبل (¬1)، ومسند موسى أبي قرة الزبيدي (¬2)، ومسند أبي داود ¬
الطيالسي (¬1)، ومسند ابن وهب (¬2)، ومسند أحمد بن ¬
منيع (¬1)، ومسند مسدد (¬2)، ومسند إسحاق بن ¬
راهوية (¬1)، ومسند محمَّد بن أبي عمر ¬
العدني (¬1)، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة (¬2)، ومسند بقي (¬3) بن ¬
مخلد (¬1)، ومسند الحميدي (¬2)، ومسند الدارمي (¬3)، ومسند ¬
عبد بن حميد (¬1)، ومسند أبي يعلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الموصلي (¬1)، ومسند الحسن بن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
سفيان (¬1)، ومسند أبي بكر البزار (¬2)، ومعجم ¬
البغوي (¬1)، والطبراني (¬2)، وصحيح أبي حاتم بن ¬
حبان (¬1)، وصحيح. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الحاكم (¬1)، وصحيح الإسماعيلي (¬2)، ¬
والبرقاني (¬1)، وأبي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
نعيم (¬1)، والجوزقي (¬2)، وغير ذلك من المصنفات الأمهات التي لا يحصيها إلا الله، دع ما قبل ذلك من مصنفات حماد بن سلمة (¬3)، ¬
وعبد الله بن المبارك (¬1)، وجامع الثوري (¬2)، وجامع ابن عيينة (¬3)، ومصنفات. . . . . . . . . . . . . . . ¬
وكيع (¬1)، وهشيم (¬2)، وعبد الرزاق (¬3)، وما لا يحصيه إلا الله، فهل امتنع الأئمة من قراءة هذه الأحاديث على عامة المؤمنين، أو منعوا من ذلك؟ أم ما زالت هذه الكتب يحضر (¬4) قراءتها ألوف مؤلفة من عوام المؤمنين قديمًا وحديثًا؟ وأيضًا فهذه الأحاديث، لما حدث بها الصحابة والتابعون ومن اتبعهم من المخالفين، هل كانوا يخفونها عن عموم المؤمنين ويتكاتمونها ويوصون بكتمانها؟ أم كانوا يحدثون بها كما كانوا يحدثون بسائر سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإن نقل عن بعضهم أنه امتنع من ¬
رواية بعضها في بعض الأوقات (¬1)، فإذا كما قد كان هذا يمتنع عن رواية بعض أحاديث الفقه (¬2) والأحكام، وبعض أحاديث القدر والأسماء والأحكام والوعيد، وغير ذلك في بعض الأوقات، ليس ذلك مخصوصًا عنده بهذا الباب، وهذا كان يفعله بعضهم ويخالفه فيه غيره، وذلك لأنه قد يرى أن روايتها تضر ببعض (¬3) الناس في بعض الأوقات، ويرى الآخر أن ذلك لا يضر بل ينفع، فكان هذا مما قد يتنازعون فيه في بعض الأوقات. فأما المنع من تبليغ عموم أحاديث الصفات لعموم الأمة، فإذا ليس (¬4) مما ذهب إليه من يؤمن باللهِ واليوم الآخر، وإنما هذا ونحوه رأي الخارجين المارقين من شريعة الإِسلام كالرافضة (¬5) والجهمية ¬
الوجه الخامس: إذا قدر في ذلك نزاع، فالرد فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله
والحرورية (¬1)، ونحوهم، وهو عادة أهل الأهواء، ثم الأحاديث التي يتنازع العلماء في روايتها أو العمل بها، ليس لأحد المتنازعين أن يكره الآخر على قوله بغير حجة من الكتاب والسنة باتفاق المسلمين، لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2). الوجه الخامس: أنه إذا قدر في ذلك نزاع، فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ¬
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2)، فأمر الله الأمة عند النزاع (¬1) بالرد إليه وإلى رسوله، وقد وصف (¬2) المعرضين عن ذلك بالنفاق والكفر، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}، إلى قوله: {بَلِيغًا} (¬3). فوصف سبحانه من دعي إلى الكتاب والسنة فأعرض عن ذلك بالنفاق وإن (¬4) زعم أنه يريد التوفيق بذلك بين الدلائل النقلية والعقلية (¬5)، أو نحو ذلك، وأنه يريد إحسان العلم أو العمل، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (¬6) الآية، وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} (¬7) إلى قولهم (¬8): {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (¬9). ¬
الوجه السادس: أن من أمر بكتم ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، فقد كتم ما أنزل الله من البينات والهدى
الوجه السادس: أن الله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (¬1) الآية (¬2) ويقول في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3)، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} (¬4) الآية، فمن أمر بكتم ما وصف الله به نفسه ووصفه به (¬5) رسوله فقد كتم ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه (¬6) للناس في الكتاب، وهذا مما ذم الله به علماء اليهود، وهو من صفات الزائغين (¬7) من المنتسبين إلى العلم من هذه الأمة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (¬8)، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} (¬9). الوجه السابع: إن من أمر بكتمان ما بعث الله به رسوله من القرآن والحديث، كالآيات والأحاديث التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله، وأمر مع ¬
الوجه الثامن: أن هذا خلاف إجماع سلف الأمة وأئمتها
ذلك بوصف الله بصفات أحدثها المبتدعون تحتمل الحق والباطل، أو تجمع حقًّا وباطلًا، وزعم أن ذلك هو الحق الذي يجب اعتقاده، وهو أصل الدين، وهو الإيمان الذي أمر الله به رسوله، فهذا مضاهاة لما ذم الله به من حال أهل الكتاب، حيث قال: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (¬1) وقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {مِمَّا يَكْسِبُونَ} (¬2)، فإن هؤلاء كتبوا هذه المقالات التي ابتدعوها، وقالوا للعامة: هذا دين الله الذي أمركم به، وهذا كذب وافتراء على الله، فإذا جمعوا إلى ذلك كتمان ما أنزل الله من الكتاب والحكمة فقد ضاهوا (¬3) أهل الكتاب في لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، قال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، إلى قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬4). وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬5). الوجه الثامن: إن هذا خلاف إجماع سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أجمعوا في هذا الباب وفي غيره على وجوب اتباع الكتاب والسنة، وذم ما أحدثه أهل ¬
الكلام من الجهمية ونحوهم، مثل ما رواه أبو القاسم اللالكائي (¬1) في أصول السنة عن محمد بن الحسن (¬2) صاحب أبي حنيفة (¬3)، قال (¬4): "اتفق الفقهاء -كلهم- من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت (¬5) بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب -عزَّ وجلَّ- من غير تفسير (¬6) ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئًا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7) وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة، لأنه قد وصفه بصفة لا شيء". ¬
الوجه التاسع: ذكر محمد بن الحسن الإجماع على وجوب الإفتاء في باب الصفات بما في الكتاب والسنة
الوجه التاسع: فقد ذكر محمد بن الحسن الإجماع [على] (¬1) وجوب الإفتاء في باب الصفات بما في الكتاب أو السنة دون قول جهم المتضمن للنفي، فمن قال: لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها، بل يعتقد ما ذكره من النفي فقد خالف هذا الإجماع، ومن أقل ما قيل فيهم قول الشافعي -رضي الله عنه-: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" (¬2). الوجه العاشر: إن قول القائل: لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها؛ إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين، بل هذا القول إذا (¬3) أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح، فإن الأمة مجمعة على ما علموه (¬4) بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها، واستماع جميع المؤمنين لذلك، وكذلك تلاوتها وإقرائها (¬5) واستماعها خارج الصلاة هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين، وكذلك تبليغ الأحاديث في ¬
الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلّا ولا بد أن تروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من صفات الإثبات أو النفي، فإن الله يوصف بالإثبات وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده، ويوصف بالنفي، وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا. وإما أن يريد أنه لا يقال (¬1): حكمها كذا وكذا إما إقرار أو تأويل أو غير ذلك، فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك أن يلتزم ما ألزم به غيره فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء، ولا يقول: الظاهر مراد أو غير مراد، ولا التأويل سائغ، ولا هذه النصوص لها معان أخر [و] (¬2) نحو ذلك، إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير، وإذا التزم هو ذلك وقال لغيره: التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها، فإن هذا عدل (¬3)، بخلاف ما إذا نهى غيره [(¬4) عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع. وكذلك قوله: لا (¬5) يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة [بها] (¬6) إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام -كما تقدم، وإن أراد لا يكتب بحكمها، ولا يفتى المستفتي عن حكمها، فيقال له: فعليك -أيضًا- أن تلتزم ¬
الوجه الحادي عشر: أن السلف ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات
ذلك، ولا تفتي (¬1) أحدًا فيها بشيء من الأمور النافية، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلًا، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلًا، ويقول لأهل العلم والإيمان: أنتم لا تعارضوني (¬2) ولا تتكلموا (¬3) فيها، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته. الوجه الحادي عشر: إن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلّا الله، حتى إنه لما جمع الناس [العلم] (¬4) وبوبوه في الكتب، فصنف ابن جريج (¬5) التفسير والسنن، ¬
وصنف معمر (¬1) -أيضًا- وصنف مالك بن أنس (¬2)، وصنف حماد بن سلمة، وهؤلاء من أقدم من صنف [في] (¬3) العلم، فصنف حماد بن سلمة كتابه في الصفات (¬4)، كما صنف كتبه في سائر أبواب العلم، وقد قيل: إن مالكًا إنما صنف الموطأ تبعًا له، وقال: جمعت هذا خوفًا من الجهمية أن يضلوا الناس لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل، [وكذلك كان يجمعها ويحدث بها غير واحد من أئمة السلف لما ابتدعت الجهمية ¬
النفي والتعطيل] (¬1) حتى إنه لما صنفت الكتب الجامعة صنف العلماء فيها، كما صنف نعيم بن حماد الخزاعي (¬2) شيخ البخاري كتابه في الصفات (¬3) والرد على الجهمية، وصنف عبد الله بن محمد الجعفي (¬4)، شيخ البخاري كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وصنف عثمان بن سعيد الدارمي (¬5) كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وكتابه في ¬
النقض على المريسي (¬1)، وصنف الإمام أحمد (¬2) رسالته في إثبات الصفات والرد على الجهمية (¬3)، وأملى في أبواب ذلك حتى جمع كلامه ¬
أبو بكر الخلال (¬1) في كتاب السنة (¬2)، وصنف عبد العزيز الكناني (¬3) ¬
صاحب الشافعي كتابه في الرد على الجهمية (¬1)، وصنف كتب السنة في الصفات طوائف مثل: عبد الله بن أحمد (¬2)، وحنبل (¬3) بن إسحاق (¬4)، ¬
وأبي بكر الأثرم (¬1)، وخشيش بن أصرم (¬2)، شيخ أبي داود (¬3)، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (¬4)، وأبي بكر بن أبي ¬
عاصم (¬1)، والحكم بن معبد الخزاعي (¬2)، وأبي بكر الخلال (¬3)، وأبي القاسم الطبراني (¬4)، وأبي الشيخ الأصبهاني (¬5)، وأبي أحمد ¬
العسال (¬1)، وأبي بكر الآجري (¬2)، وأبي الحسن الدارقطني (¬3)، كتاب الصفات، وكتاب الرؤية، وأبي عبد الله بن منده (¬4)، وأبي عبد الله بن ¬
بطة (¬1)، وأبي القاسم اللالكائي (¬2)، وأبي عمر الطلمنكي (¬3)، وغيرهم، وأيضًا فقد جمع العلماء من أهل الحديث والفقه والكلام والتصوف هذه الآيات والأحاديث، وتكلموا في إثبات معانيها، وتقرير صفات الله التي دلت عليها هذه النصوص، لما ابتدع (¬4) الجهمية جحد ذلك والتكذيب ¬
له، كما فعل عبد العزيز الكناني (¬1)، وأحمد بن حنبل (¬2)، وإسحاق بن راهوية (¬3)، وكما فعل عثمان بن سعيد الدارمي (¬4)، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (¬5)، وأبو عبد الله بن حامد (¬6)، والقاضي أبو يعلى (¬7)، وكما فعل أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب (¬8)، وأبو ¬
الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (¬1)، وأبو الحسن علي بن مهدي الطبري (¬2)، والقاضي أبو بكر الباقلاني (¬3). ¬
الوجه الثاني عشر: أن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق وأكمل له ولأمته الدين، وبين جميع ما تحتاج إليه أمته
الوجه الثاني عشر: إن الله تعالى بعث رسوله بالهدى ودين الحق، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم (¬1) النعمة وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها (¬2)، وبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وكان أعظم ما يحتاجون إليه تعريفهم ربهم بما يستحقه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى (¬3) و [ما] (¬4) يجوز ¬
الجهم بن صفوان وأتباعه عطلوا حقيقة أسمائه الحسنى وصفاته العلى
عليه ويثبت له، ويحمد ويثنى به عليه ويمجد به، وما يمتنع عليه فينزه عنه ويقدس] (¬1). ثم حدث بعد المائة الأولى الجهم بن صفوان (¬2) وأتباعه، الذين عطلوا حقيقة أسمائه الحسنى وصفاته العلى (¬3)، وسلكوا مسلك إخوانهم المعطلة الجاحدين للصانع، وصار أغلب ما يصفون به الرب هو الصفات السلبية العدمية، ولا يقرون إلّا بوجود مجمل، ثم يقرنونه بسلب ينفي الوجود. ومن أبلغ العلوم الضرورية أن الطريقة التي بعث الله بها أنبياءه ورسله، وأنزل بها كتابه مشتملة على الإثبات المفصل والنفي المجمل، كما يقرر ذلك (¬4) في كتابه: علمه وقدرته وسمعه وبصره ومشيئته ورحمته وغير ذلك، ويقول في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬5)، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ ¬
الجهمية ومن وافقهم جمعوا بين القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات
سَمِيًّا} (¬1)، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬2) وعلى هذا أهل العلم والإيمان أتباع المرسلين من الأولين والآخرين. وأما طريقة هؤلاء فهي نفي مفصل ليس بكذا ولا كذا (¬3)، وإثبات مجمل، يقولون: هو الوجود المطلق لا يوصف إلّا بسلب أو إضافة أو مركب منها ونحو ذلك، وكل من علم ما جاءت به الرسل، وما يقوله هؤلاء، علم أن هؤلاء في غاية المشاقة والمحادة والمحاربة لله ورسوله (¬4)، وانتدب هؤلاء في تقرير شبه (¬5) عقلية ينفون بها الحق، وتأولوا كتاب الله على غير تأويله، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وألحدوا في أسماء الله وآياته بحيث حملوها على ما يعلم بالاضطرار أنه خلاف مراد الله ورسوله؛ كما فعل إخوانهم القرامطة (¬6). . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والباطنية (¬1) وجحدوا الحقائق العقلية، كما فعل إخوانهم السوفسطائية (¬2) فجمعوا بين السفسطة في العقليات، والقرمطة في ¬
السمعيات (¬1)، فلهذا انتدب سلف الأمة وأئمتها وغيرهم للرد عليهم وتقرير ما أثبته الله ورسوله ورد تكذيبهم وتعطيلهم، وذكروا دلائل الكتاب والسنة على بيان الحق ورد باطلهم، ولما احتج أولئك بشبه عقلية بينوا لهم -أيضًا- (¬2) أن العقل يدل على فساد قولهم، وصحة ما جاءت به الرسل كما قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (¬3)، وإذا (¬4) كان الأمر كذلك، فمن نهى عن بيان ما بعث الله به رسوله من الإثبات، وأمر بما أحدث من النفي الذي لا يؤثر عن الرسل، كان قد أخذ من مشاقة الله ورسوله ومحادة الله ورسوله، ومحاربة الله ورسوله، بحسب ما سعى فيه من ذلك، حيث أمر بترك ما بعث به الرسول، وبإظهار ما يشتمل على مخالفته. ¬
الوجه الثالث عشر: على الناس أن يجعلوا كلام الله ورسوله هو الأصل المتبع، سواء علموا معناه أو لم يعلموه
الوجه الثالث عشر (¬1): إن الناس عليهم أن يجعلوا كلام الله ورسوله، هو الأصل المتبع، والإمام المقتدى به، سواء علموا معناه أو لم (¬2) يعلموه، فيؤمنون بلفظ النصوص ولو لم (¬3) يعرفوا حقيقة معناها، وأما ما سوى كلام الله ورسوله، فلا يجوز أن يجعل أصلًا بحال، ولا يجب التصديق بلفظ له حتى يفهم معناه، فإن كان معناه موافقًا له، جاء به الرسول كان مقبولًا، وإن كان مخالفًا كان مردودًا، وإن كان مجملًا مشتملًا على حق وباطل لم يجز إثباته -أيضًا- ولا يجوز نفي جميع معانيه، بل يجب المنع من إطلاق نفيه وإثباته أو (¬4) التفصيل والاستفسار. وهؤلاء جعلوا هذه الألفاظ المبتدعة المجملة أصلًا أمروا بها، وجعلوا ما جاء به الرسول من الآيات والأحاديث فرعًا يعرض عنها ولا يتكلم بها ولا فيها، فكيف يكون تبديل الدين إلّا هكذا؟ الوجه الرابع عشر: ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس ويوجب عليهم إلّا ما أوجبه الله ورسوله، ولا يحظر عليهم إلّا ما حظره الله ورسوله، فمن أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله، وحرم ما لم يحرمه الله ورسوله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وهو مضاه لمن ذمه الله في كتابه من حال المشركين وأهل الكتاب الذين اتخذوا دينًا لم يأمرهم الله به، وحرموا ما لم ¬
يحرمه (¬1) الله عليهم، وقد بين ذلك في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور، ولهذا كان من شعار (¬2) أهل البدع إحداث (¬3) قول أو فعل، وإلزام الناس به وإكراههم عليه أو (¬4) الموالاة عليه والمعاداة على تركه، كما ابتدعت الخوارج (¬5) رأيها وألزمت الناس به، ووالت وعادت عليه، وابتدعت الرافضة رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، لما كانت (¬6) لهم قوة في دولة الخلفاء الثلاثة الذين امتحن في زمانهم الأئمة ¬
أئمة السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحدا عليه
ليوافقهم (¬1) على رأي جهم (¬2) الذي مبدؤه أن القرآن مخلوق، وعاقبوا من لم يوافقهم على ذلك. ومن المعلوم أن هذا من المنكرات المحرمة بالعلم الضروري من دين المسلمين، فإن العقاب لا يجوز أن يكون على ترك واجب أو فعل محرم، ولا يجوز إكراه أحد على ذلك والإيجاب والتحريم ليس إلّا لله ولرسوله، فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله، وشرع ذلك دينًا فقد جعل لله ندًّا، ولرسوله نظيرًا، بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أندادًا (¬3)، وبمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب (¬4)، وهو ممن قيل فيه (¬5): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬6)، ولهذا كان أئمة (¬7) السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يكرهون أحدًا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد (¬8) مالك بن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أنس (¬1) في حمل الناس على موطئه، قال له: (لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم وإنما جمعت علم أهل بلدي)، أو كما قال (¬2)، وقال ¬
مالك أيضًا: (إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة). وقال أبو حنيفة (¬1): (هذا رأي فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلنا). وقال الشافعي (¬2): (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط)، وقال: (إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها). وقال المزني (¬3) في أول. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مختصره (¬1): (هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي (¬2) لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامه نهيه (¬3) عن تقليده وتقليد غيره من العلماء). وقال الإمام أحمد (¬4): (ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم). [قال] (¬5): (ولا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا). فإذا كان هذا قولهم في الأمور العملية (¬6) وفروع الدين، لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم (¬7)، مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية، فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين؟ ولهذا قال الإمام أحمد (¬8) [لابن] (¬9) أبي دؤاد (¬10) الجهمي، الذي كان قاضي القضاة في عهد ¬
المعتصم (¬1) لما دعا الناس إلى التجهم، وأن يقولوا القرآن مخلوق، وإكراههم (¬2) عليه بالعقوبة وأمر بعزل من لم يجبه، وقطع رزقه إلى غير ذلك مما فعله في محنته المشهورة (¬3)، فقال له في مناظرته لما طلب منه الخليفة أن يوافقه على أن القرآن مخلوق: "ائتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله [حتى أجيبكم به، فقال له ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلّا بما في كتاب الله أو سنة رسوله] (¬4)، فقال له: هب أنك تأولت تأويلًا فأنت أعلم وما تأولت، فكيف تستجيز أن تكره الناس عليه بالحبس والضرب (¬5)؟ ". فبين أن العقوبة لا تجوز إلّا على ترك ما أوجبه الله أو فعل ما حرمه ¬
الله، فإذا كان القول ليس في كتاب الله وسنة رسوله لم يجب على الناس أن يقولوه، لأن الإيجاب إنما يتلقى من الشارع، وإن كان القول في نفسه حقًّا، أو اعتقد قائله أنه حق، فليس له أن يلزم الناس أن يقولوا ما لم يلزمهم الرسول أن يقولوه -لا نصًّا ولا استنباطًا. وإذا (¬1) كان كذلك فقول القائل: المطلوب من فلان أن يعتقد كذا وكذا، وأن لا يتعرض لكذا وكذا إيجاب عليه لهذا الاعتقاد وتحريم عليه لهذا الفعل، وإذا كانوا لا يرون خروجه من السجن إلّا بالموافقة على ذلك فقد استحلوا عقوبته وحبسه حتى يطيعهم في ذلك، فإذا لم يكن ما أمروا به قد أمر الله به ورسوله، وما نهوا عنه قد نهى الله عنه ورسوله، كانوا بمنزلة من ذكر من الخوارج (¬2) والروافض (¬3) والجهمية (¬4) المشابهين للمشركين والمرتدين، ومعلوم أن هذا الذي قالوه لا يوجد في كلام الله ورسوله بحال، وهم -أيضًا- لم يبينوا أنه يوجد في كلام الله ورسوله، فلو كان هذا موجودًا في كلام الله ورسوله لكان عليهم بيان ذلك، لأن العقوبات لا تجوز إلّا بعد إقامة الحجة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬5)، فإذا لم يقيموا حجة الله (¬6) التي يعاقب من خالفها، بل لا يوجد ما ذكروه في حجة الله، وقد نهوا عن تبليغ حجة الله ورسوله، كان هذا من أعظم الأمور مماثلة لما ذكر من حال الخوارج (¬7) المارقين المضاهين للمشركين والمرتدين والمنافقين. ¬
الوجه الخامس عشر: أن القول الذي قالوه إن لم يكن حقا يجب اعتقاده لم يجز الإلزام به
الوجه الخامس عشر: إن القول الذي قالوه إن لم يكن حقًّا يجب اعتقاده لم يجز الإلزام به، وإن كان حقًّا (¬1) يجب اعتقاده، فلا بد من بيان دلالته، فإن العقوبة لا تجوز قبل إقامة الحجة باتفاق المسلمين، فإن [كان] (¬2) القول مما أظهره الرسول وبينه، فقد قامت الحجة ببيان رسوله، وإن لم يكن ذلك فلا بد من بيان حجته وإظهارها، التي يجب موافقتها ويحرم مخالفتها. ولهذا قال الفقهاء (¬3) في أهل البغي المتأولين: إن (¬4) ذكروا مظلمة أزالها الإمام، وإن ذكروا شبهة بينها (¬5) لهم، فإذا لم يبينوا صواب القول أصلًا، بل ادعوه دعوى مجردة فكيف يجب التزام (¬6) مثل ذلك القول من غير الرسول؟ وهل يفعل هذا (¬7) من له عقل أو دين؟. الوجه السادس عشر: إنهم لو بينوا صواب ما ذكروه من القول لم يكن ذلك موجبًا لعقوبة تاركه (¬8)، فليس كل مسألة فيها نزاع إذا أقام أحد الفريقين الحجة على صواب قوله مما يسيغ له عقوبة مخالفه، بل عامة المسائل التي تنازعت ¬
الوجه السابع عشر: على فرض صحة قولهم، ووجوب عقوبة تاركه، لم يذكروه إلا في هذا الوقت بعد الطلب والحبس؟
فيها الأمة لا يجوز لأحد الفريقين المتنازعين أن يعاقب الآخر على ترك اتباع قوله، فكيف إذا لم يذكروا حجة أصلًا ولم يظهروا صواب قولهم؟ الوجه السابع عشر: إنه لو فرض أن هذا القول الذي ألزموا به حق وصواب، قد ظهرت حجته ووجبت عقوبة تارك التزامه، فهذا لم يذكروه إلّا في هذا الوقت، بعد هذا الطلب والحبس والنداء على الشخص المعين بالمنع من موافقته، ونسبته إلى البدعة والضلالة ومخالفة جميع العلماء والحكام، وخروجه عما كان عليه الصحابة والتابعون إلى أنواع أخر مما قالوه وفعلوه في حقه من الإيذاء، والعقوبة والضرر، زاعمين أن ما صدر عنه من الفتاوى والكتب يتضمن ذلك، فإذا أعرضوا عن ذلك بالكلية، ولم يبينوا في كلامه المتقدم شيئًا من الخطأ والضلال الموجب للعقوبة، لم يكن ابتداؤهم بالدعاء (¬1) إلى مقالة أنشؤوها مبيحًا لما فعلوه قبل ذلك من الظلم والعدوان (¬2) والكذب والبهتان والصد عن سبيل الله والتبديل لدين الله، إنما هذا انتقال من ظلم إلى ظلم ليقروا (¬3) بالظلم المتأخر حسن الظلم المتقدم، كمن يستجير من الرمضاء بالنار (¬4)، وهذا يزيدهم ظلمًا (¬5) وعذابًا، فهب أن هذا الشخص وافقهم الآن على [ما] (¬6) أنشؤوه من ¬
القول، أي شيء في ذلك مما يدل على خطئه وضلاله في أقواله المتقدمة، إذا لم تناف هذا القول، دع استحقاق العقوبة والكذب والبهتان، فما لم يبينوا أن فيما (¬1) صدر عنه [قبل طلبه وحبسه وإعلام ما ذكروه من أمره ما يوجب ذلك، لم ينفعهم هذا، وهم قد عجزوا عن إبداء خطأ أو ضلال فيما صدر عنه] (¬2) من المقال، وهم دائمًا يمتنعون من المحاجة (¬3) والمناظرة بلفظ أو خط، وقد قيل لهم مرات متعددة (¬4): من أنكر شيئًا فليكتب ما ينكره بخط يده، ويذكر حجته ويكتب جوابه، ويعرض الأمران على علماء المشرق والمغرب، فأبلسوا وبهتوا وطلب منهم غير مرة (¬5) المخاطبة في المحاضرة والمحاجة (¬6) والمناظرة، فظهر (¬7) منهم من العي في الخطاب والنكوص على الأعقاب والعجز عن الجواب ما قد اشتهر واستفاض بين أهل المدائن والأعراب، ومن قضاتهم الفضلاء من كتب اعتراضًا على الفتيا الحموية (¬8) وضمنه أنواعًا ¬
من الكذب وأمورًا لا تتعلق بكلام المعترض عليه، وقد كتبت جوابه في مجلدات، ومنهم من كتب شيئًا ثم خبأه وطواه عن الأبصار، وخاف من نشره ظهور العار وخزي أهل الجهل والصغار، إذ مدار القوم على أحد أمرين: (إما) (¬1) الكذب الصريح، وإما الاعتقاد القبيح، فهم لن يخلوا من كذب كذبه بعضهم وافتراه، وظن باطل خاب من تقلده وتلقاه، وهذه حال سائر المبطلين من المشركين، وأهل الكتاب الكفار والمنافقين. * * * ¬
إجابة الشيخ على قولهم: الذي يطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتجيز من وجوه
فصل وأما قولهم: الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز (¬1). فالجواب من وجوه: أحدها: أن هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه، ليس هو في شيء من كتب الله المنزلة من عنده، ولا هو مأثورًا عن أحد من أنبياء الله ورسله، لا خاتم المرسلين، ولا غيره، ولا هو -أيضًا- محفوظًا عن سلف (¬2) الأمة وأئمتها أصلًا، وإذا كان بهذه المثابة، وقد [علم أن الله] (¬3) أكمل لهذه الأمة دينها، وأن الله بين لهذه الأمة (¬4) ما تتقيه (¬5)، كما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬6). . . الآية، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬7)، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين للأمة الإيمان الذي أمرهم الله به، وكذلك سلف الأمة وأئمتها، علم بمجموع (¬8) هذين الأمرين، أن هذا الكلام ليس من دين الله، ولا من ¬
الوجه الثاني: أن الله نزه نفسه في كتابه عن النقائص تارة بنفيها وتارة بإثبات أضدادها
الإيمان، ولا من سبيل المؤمنين، ولا من طاعة الله ورسوله. وإذا كان كذلك، فمن ألزم (¬1) اعتقاده فقد جعله من الإيمان والدين وذلك تبديل (¬2) للدين، كما بدل من بدل من مبتدعة اليهود والنصارى ومبتدعة هذه الأمة دين المرسلين. يوضح ذلك: الوجه الثاني: أن الله نزه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها، كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} (¬4) وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (¬5). . . الآية، وقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬6)، وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} (¬7) إلى قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬8) وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} إلى قوله: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬9) وقوله: ¬
{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) إلى قوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2) وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (¬3). . . الآية، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (¬4). . . الآية، وما في القرآن من خبره عن نفسه أنه بكل شيء عليم، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة من الأرض ولا في السماء، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء الله (¬5) لا قوة إلّا بالله، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه العلي العظيم الأعلى المتعال العظيم الكبير، وكذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موافقة لكتاب الله، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط (¬6) ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار (¬7)، وعمل النهار قبل عمل الليل (¬8)، حجابه النور أو النار (¬9)، لو (¬10) كشفه لأحرقت سبحات وجهه (¬11) ما انتهى إليه ¬
بصره (¬1) من خلقه" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا- فيما يروي عن ربه "شتمني (¬3) ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: إنّي اتخذت ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته" (¬4)، وقوله في حديث السنن للأعرابي: "ويحك إن الله لا يستشفع له على أحد مر، خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته و (¬5) قال بيده: مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط (¬6) الرحل الجديد. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
براكبه" (¬1) وقوله في الحديث الصحيح: "أنت الأول فليس (¬2) قبلك شيء، وأنت الآخر فليس (¬3) بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (¬4). إلى أمثال ذلك. ¬
الوجه الثالث: أن قولهم: مجمل فيه حق وباطل والذي يعنيه جمهور الجهمية المعنى الباطل
[وليس في شيء] (¬1) من ذلك نفي الجهة والتحيز (¬2) عن الله، ولا وصفه بما يستلزم لزومًا بينًا نفي (¬3) ذلك، فكيف يصح مع كمال الدين وتمامه، ومع كون الرسول قد بلغ البلاغ المبين أن يكون هذا من الدين والإيمان ثم لا يذكره الله ورسوله قط؟ وكيف يجوز أن يدعى الناس ويؤمرون باعتقاد في أصول الدين ليس له أصل عن من (¬4) جاء بالدين؟ هل هذا إلّا صريح تبديل الدين؟ الوجه الثالث (¬5): أني (¬6) قد قلت لهم: قائل هذا القول: إن أراد به أن ليس في السموات رب، ولا فوق العرش إله، وأن محمدًا لم يعرج به إلى ربه، وما فوق العالم إلّا العدم المحض، فهذا باطل مخالف لإجماع سلف الأمة وأئمتها، وهذا المعنى هو الذي يعنيه جمهور الجهمية (¬7) من مشايخ الممتحنين ونحوهم، يصرحون به في كلامهم وكتابهم. وإن أراد به أن الله لا يحيط به مخلوقاته، ولا يكون في جوف الموجودات فهذا مذكور مصرح به في كلامي، وإثبات هذا المعنى، وهو ¬
أنه بذاته في الموجودات ليس خارجًا عنها، هو قول كثير من الجهمية -أيضًا- الذين ينفون أنه على العرش أيضًا، سواء قالوا (¬1): إنه بذاته في كل مكان، أو قالوا: إنه هو في (¬2) الموجودات، كما يقوله الاتحادية (¬3) منهم، وذلك أن الجهمية الذين ينفون أن يكون الله فوق عرشه، بائنًا من خلقه، منهم من يقول: [إنه] (¬4) لا داخل العالم ولا خارجه، ومنهم من يقول: إنه داخل العالم، ومنهم من يقول: إنه داخله وخارجه، ¬
الوجه الرابع: الأمر باعتقاد قول من الأقوال لا يخلو من تقديرين
متناهيًا أو غير متناه، جسمًا أو غير جسم، كما بينا مقالاتهم في غير هذا الموضع (¬1). فصارت الجهمية (¬2) الذين ينفون عن الله الجهة والحيز، مقصودهم أنه ليس فوق العرش رب، ولا فوق السموات إله، والجهمية الذين يقولون: إنه في الموجودات يثبتون له الجهة والحيز، فبينت في الجواب بطلان قول فريقي الجهمية النفاة والمثبتة، فإن نفاة الجهمية لا يعبدون شيئًا ومثبتتهم يعبدون كل شيء، وذكرت هذين القسمين (¬3)، لأنها هي التي جرت عادة المتكلمين بنفي الجهة والحيز عن الله أنهم يعنونها، فإن كانوا عنوا معنى آخر كان عليهم بيانه، إذ اللفظ لا يدل عليه؛ وليس لأحد أن يمتحن الناس بلفظ مجمل، ابتدعه هو من غير بيان لمعناه. الوجه الرابع: أنهم طلبوا اعتقاد نفي الجهة والحيز عن الله، ومعلوم أن الأمر بالاعتقاد لقول من الأقوال إما أن يكون تقليدًا (¬4) للآمر، أو لأجل الحجة ¬
الوجه الخامس: أن الناس تنازعوا في جواز التقليد في مسائل أصول الدين وأما ما يقال عنها أنها عقليات فلم يجوز أحد التقليد فيها
والدليل، فإن كانوا أمروا بأن يعتقد هذا تقليدًا لهم، ولمن قال ذلك، فهذا باطل بإجماع المسلمين منهم ومن غيرهم، وهم يسلمون أنه لا يجب التقليد في مثل ذلك لغير الرسول، لا سيما وعندهم هذا القول لم يعلم بأدلة الكتاب والسنة والإجماع، وإنما علم بالأدلة العقلية، والعقليات لا يجب التقليد فيها بالإجماع (¬1)، وإن كان الأمر بهذا الاعتقاد لقيام الحجة عليه، فهم لم يذكروا حجة لا مجملة ولا مفصلة، ولا أحالوا عليها، بل هم يفرون من المناظرة والمحاجة بخطاب أو كتاب، فقد ثبت أن أمرهم لهذا الاعتقاد حرام باطل على التقديرين بإجماع المسلمين، وأن فعل ذلك من أفعال الأمة المضلين، وأنه أمر للناس (¬2) أن يقولوا على الله ما لا يعلمون. الوجه الخامس: أن الناس تنازعوا في جواز التقليد في مسائل أصول الدين، لمن يجوز تقليده في الدين من أئمة المسلمين المتبعين فيما يقولونه لما ثبت عن المرسلين، كما يقلد مثل هؤلاء في فروع الدين. فأما التقليد في الأمور التي يقولون: إنها عقليات وإنها معلومة بالعقل يحتاج فيها إلى تأويل السمع، وإنها من أصول الدين، فما نعلم أحدًا جوز التقليد في مثل ذلك، بل الناس فيها قسمان: منهم من ينكرها على أصحابها ويبين أنها جهليات لا عقليات، ومنهم من يقول بل ¬
الوجه السادس: أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا لكان لمن يسوغ تقليده في الدين كالأئمة المشهورين
[من] (¬1) نظر في أدلتها العقلية علم صحتها. فأما أن يقول قائل: إن هذه الأمور التي تنازعت فيها الأمة، وادعى كل فريق أن الحق معهم، إني أقلد من يدعي أن قوله معلوم بالعقل قبل أن أعلم صحة ما يقوله بالعقل، فهذا لا يقوله عاقل، فإن العقل لا يرجح في موارد النزاع قولًا على قول، وقائلًا على قائل إلّا بموجب. أما مجرد التقليد لأحد القائلين بغير حجة، فلا يسوغ في عقل ولا دين، وإذا كان كذلك لم يكن لهم أن يسوغوا لأحد أن يقول هذا القول حتى يعلمه بأدلته العقلية، فكيف وقد أوجبوا اعتقاده إيجابًا مجردًا لم يذكروا عليه دليلًا أصلًا؟ وهل هذا إلّا في غاية المناقضة والتبديل للعقل والدين؟ فإن من أباح المحرمات من الأفعال كان خارجًا عن الشريعة، فكيف بمن أوجبها وعاقب عليها؟ وكيف (¬2) إذا كان ذلك من الاعتقادات التي هي أعظم من الأفعال؟ الوجه السادس: أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا، لكان لمن يسوغ تقليده في الدين كالأئمة المشهورين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا القول لم يقله أحد ممن يسوغ للمسلمين تقليده في فروع دينهم، فكيف يقلدونه [في] (¬3) أصول دينهم التي هي أعظم من فروع الدين، فإن هذا القول (¬4) وإن قاله طائفة من المنتسبين إلى مذاهب الأئمة الأربعة، فليس من قائليه من هو من أئمة ذلك المذهب الذين لهم قول متبوع بين أئمة ذلك المذهب، فإن أصحاب الوجوه من أصحاب ¬
الشافعي (¬1)، كأبي العباس بن سريج (¬2)، وأبي علي بن أبي هريرة (¬3)، وأبي سعيد الإصطخري (¬4)، وأبي علي بن خيران (¬5)، والشيخ أبي حامد الإسفراييني (¬6) ونحو هؤلاء ليس فيهم من يقول هذا القول، بل المحفوظ ¬
أبو المعالي الجويني لا يجوز تقليده في شيء من فروع الدين عند أصحاب الشافعي
عمن حفظ عنه كلام في هذا ضد هذا القول، وغايته (¬1) أن يحكي عن مثل أبي المعالي الجويني (¬2)، وهو أجل من يحكي عنه ذلك من المتأخرين، وأبو المعالي ليس له وجه في المذهب، ولا يجوز تقليده في شيء من فروع الدين عند أصحاب الشافعي (¬3)، فكيف يجوز أو يجب تقليده في أصول الدين؟ وهذا هو الذكي اللوذعي (¬4)، وكتابه (¬5) في المذهب هو ¬
الذي رفع قدره، وفخم أمره، فإذا لم يجز تقليده فيما ارتفع به قدره، وعظم به أمره عند الأصحاب، فكيف يقلد في الأمر الذي كثر فيه الاضطراب، وأقر عند موته بالرجوع عنه وتاب (¬1)؟ وهجره على بعض مسائله (¬2)، مثل أبي القاسم. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أبو المعالي قليل المعرفة بالكتاب والسنة
القشيري (¬1)، وغيره من الأصحاب، وإذا كان هذا حال من يقلد إمام الحرمين الأستاذ (¬2) المطاع، فكيف بمن يقلد من هو دونه بلا نزاع، وذلك لأن التقليد في الفروع، دع (¬3) الأصول، إنما يكون لمن كان عالمًا بمدارك الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، وأبو المعالي (¬4) لم يكن من هذا الصنف، فإنه كان قليل (¬5) المعرفة بالكتاب والسنة، وعامة ما يعتمد عليه في الشريعة الإجماع في المسائل القطعية والقياس، والتقليد (¬6) في المسائل الظنية، وكذلك هو في مسائل أصول الدين، ¬
غالب أمره، الدوران بين الإجماع السمعي القطعي والقياس العقلي الذي يعتمد (¬1) أنه قطعي. [فإنه في الفروع على] (¬2) مذهب الشافعي (¬3)، وبالخلاف المنصوب مع أبي حنيفة (¬4)، وأما بالأصول فبالدلائل والمسائل المذكورة في كتب المعتزلة (¬5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والأشعرية (¬1). هذا وهو أجل من يقرن به من المناظرين، وعمدة من يسلك سبيله من المستأخرين (¬2)، فكيف بمن لم يبلغ شأوه (¬3) في العلم والذكاء ومقاومة الخصوم الفضلاء. وأما من تكلم في ذلك من فقهاء المالكية المتأخرين كالباجي (¬4)، ¬
وأبي بكر بن العربي (¬1)، ونحوهما، فإنهم في ذلك يقلدون لمن أخذوا ذلك عنه من أهل المشرق المتكلمين معترفين (¬2) بأنهم لهم من التلامذة المتبعين، ليس في كلام أحد من هؤلاء استيفاء الحجة في هذا الباب من الطرفين، ولا النهوض بأعباء هذا العمل الذي يحتاج إلى فصل الخطاب في القولين المتعارضين (¬3). وأما أئمة المالكية الذين إليهم المرجع في الدين، كابن القاسم (¬4)، وابن وهب (¬5)، وأشهب (¬6)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسحنون (¬1)، وابنه (¬2)، وعبد الملك بن حبيب (¬3)، وابن وضاح (¬4)، ¬
الوجه السابع: أن هذا القول لو فرض أنه حق معلوم بالعقل لم يجب اعتقاده بمجرد ذلك
وغيرهم، فهم براء من هذا النفي والتكذيب، ولهم في الإثبات من الأقوال ما يعرفها العالم اللبيب. الوجه السابع: أن هذا القول لو فرض أنه حق معلوم بالعقل لم يجب اعتقاده بمجرد ذلك، إذ وجوب اعتقاد شيء معين لا يثبت إلّا بالشرع بلا نزاع. وأما (¬1) المنازعون فهم يسلمون أن الوجوب كله لا يثبت إلا بالشرع، وأن العقل لا يوجب شيئًا، وإن عرفه. وأما من يقول: إن الوجوب قد (¬2) يعلم بالعقل، فهو يقول ذلك فيما يعلم وجوبه بضرورة العقل أو نظره، واعتقاد كلام معين من تفاصيل مسائل الصفات لا يعلم وجوبه (¬3) بضرورة العقل ولا بنظره، ولهذا اتفق عامة أئمة الإِسلام على أن من مات مؤمنًا بما جاء به الرسول، [و] (¬4) لم يخطر على قلبه (¬5) هذا النفي المعين، لم يكن مستحق للعذاب، ولو كان واجبًا لكان تركه سببًا لاستحقاق العذاب، وإن فرض أن بعض غالية الجهمية من المعتزلة ونحوهم، يزعم أن معرفة هذا النفي من الواجبات أو من أجلها، وأن من لم يعتقده من الخاصة والعامة كان مستحقًا للعذاب، أو فرض أن بعض الناس يقول: إن هذا الاعتقاد يجب على الخاصة دون العامة، فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإِسلام فساد القول بإيجاب هذا؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة والتابعين، وسائر ¬
أئمة المسلمين، لم يوجبوا اعتقاد هذا النفي لا على الخاصة، ولا على العامة، وليس وجوب هذا من الحوادث التي تجددت، فإن وجوب هذا الاعتقاد على الأولين والآخرين سواء [لوجوب] (¬1) اعتقاد أنه (¬2) لا إله إلّا الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور (¬3). وإذا كان معلومًا (¬4) بالاضطرار عدم إيجاب الشارع لهذا الاعتقاد، كان دعوى وجوبه بالعقل مردودًا، فإن الشارع أقر الواجبات العقلية، وأوجبها، كما أوجب الصدق والعدل، وحرم الكذب والظلم، وإذا كان وجوب هذا القول منتفيًا، لم يكن لأحد أن يوجبه على الناس، فضلًا عن أن يعاقب تاركه، ويجعل (¬5) محنة، من وافقه عليه والاه، و [من] (¬6) خالفه فيه عاداه (¬7)، وهذا المسلك هو أحد ما سلكه العلماء (¬8) في الرد ¬
على الجهمية الممتحنين للناس، كابن أبي دؤاد (¬1) وأمثاله، لما (¬2) ناظرهم من ناظرهم قدام الخلفاء، كالمعتصم (¬3)، والواثق (¬4)، فإنهم بينوا لهم أن القول الذي أوجبوه على الناس، وعاقبوا تاركه، وهو القول بخلق القرآن لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من خلفائه، وأصحابه، ولا أئمة المسلمين وعامتهم، ولا أمروا به، ولا عاقبوا عليه، ولو كان من الدين الذي يجب دعاء الخلق إليه وعقوبة تاركيه، لم يجز إهمالهم لذلك، وإن القائل (¬5) لهذا القول، لو فرض أنه مصيب، لم يكن له أن يوجب على ¬
الوجه الثامن: الاعتقاد الذي يجب على المؤمنين خاصتهم وعامتهم ويعاقب تاركوه هو ما بينه الرسول -عليه السلام-
الناس ويعاقبهم على ترك كل قول يعتقد أنه صواب، وهذا ما اتفق عليه المسلمون، وذلك يتضح بـ: الوجه الثامن: وهو أن الاعتقاد الذي يجب على المؤمنين خاصتهم وعامتهم ويعاقب تاركوه، هو ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبر به وأمر بالإيمان به، إذ أصول الإيمان التي يجب اعتقادها على المكلفين، وتكون فارقة بين أهل الجنة والنار، والسعداء والأشقياء، هي من أعظم ما يجب على الرسول بيانه وتبليغه، ليس حكم هذه كحكم الآحاد (¬1) الحوادث التي لم تحدث في زمانه، حتى شاع الكلام فيها باجتهاد الرأي، إذ الاعتقاد في أصول الدين للأمور الخبرية الثابتة التي (لا تتجدد) (¬2) أحكامها مثل أسماء الله وصفاته نفيًا وإثباتًا ليست مما يحدث سبب العلم به، أو سبب وجوبه، بل (¬3) العلم بها ووجوب ذلك مما يشترك فيه الأولون والآخرون، والأولون أحق بذلك من الآخرين، لقربهم من ينبوع الهدى ومشكاة النور الإلهي، فإن أحق الناس بالهدى هم الذين باشرهم الرسول بالخطاب من خواص أصحابه وعامتهم، وهذه العقائد الأصولية من أعظم الهدى، فهم بها أحق. فإذا كان وجوب ذلك منتفيًا فيما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وفيما اتفق عليه سلف الأمة، كان عدم وجوبه معلومًا (¬4) علمًا يقينًا (¬5)، وكان غايته أن يكون مما يقال باجتهاد الرأي، وحينئذ فنقول: إن هذه ¬
القول باجتهاد الرأي وإن اعتقد صاحبه أنه عقلي مقطوع به لا يحتمل النقيض، فإنه قد يكون غير مقطوع به
الأقوال التي تسمى العقليات غايتها أن (يجهد) (¬1) فيها (¬2) أصحابها عقولهم وآراءهم (¬3). والقول باجتهاد الرأي، وإن اعتقد صاحبه أنه عقلي، مقطوع به لا يحتمل النقيض، فإنه قد يكون غير مقطوع به، وإن اعتقد هو أنه مقطوع به، فإن هذا من أكثر ما يوجد بينهم من أقوال يقول أصحابها: إنه مقطوع بها في العقل، وتكون بخلاف ذلك، حتى إن الواحد منهم هو الذي يقول في القول: إنه مقطوع به، ويقول فيه تارة أخرى: إنه باطل. وإذا لم يكن مقطوعًا به، فقد يكون مظنونًا غير معلوم الصحة والفساد، وقد يكون خطأ معلوم الفساد أو مظنونه، وقد يكون مشكوكًا فيه. فعامة هذه الأقوال المتنازع فيها التي يقول قائلها: إنها مقطوع بها تعتورها (¬4) هذه الاحتمالات: عدم (¬5) القطع بها، بل ظنها والشك فيها وظن نقيضها، والقطع بنقيضها، ثم غاية ما يقدر أن يكون (¬6) صوابًا معلومًا أنها صواب عند صاحبها، فليس كل ما كان كذلك يجب على جميع المسلمين (¬7) اعتقاده، إذ (¬8) طرق العلم بذلك قد تكون خفية مشتبهة، فلا يجب التكليف بموجبها لجميع المؤمنين، ولو كانت عقلية (¬9) ظاهرة معلومة بأدنى نظر، لم يجب في كل ما كان كذلك أن ¬
الوجه التاسع: أنه إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول -عليه السلام- دون الآخر فالسكوت عنه وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى
يكون اعتقاده واجبًا على كل المؤمنين، مثل كثير من مسائل الطب (¬1) والهيئة وغير ذلك، فهذه ثلاث مقدمات عظيمة: أحدها: أنه ليس ما اعتقد قائله: أنه حق مقطوع به معلوم بالعقل أو بالشرع يكون كذلك. والثانية: أنه ليس ما علم الواحد أنه حق مقطوع به عنده، يجب اعتقاده على جميع الناس. الثالثة (¬2): أنه ليس ما كان معلومًا مقطوعًا به بأدنى نظر يجب اعتقاده، وإذا كان كذلك فغاية ما يبين من يوجب هذه المقالات أنها حق مقطوع به عقلي معلوم بأدنى نظر، وإذا كان مع هذا لا يجب اعتقاد ذلك على المكلفين حتى يعلم وجوب ذلك بالأدلة الشرعية التي يعلم بها الوجوب، لم يكن له أن يوجب على الناس هذا الاعتقاد، ويعاقب تاركيه حتى يبين أن الشارع أوجب ذلك على الناس على هذا الوجه، وهذا مما لم يذكروه ولا سبيل إليه، فكيف والأمر بالعكس عند من يبين أن ما قالوه خطأ، مخالف للعقل الصريح وللنقل الصحيح معلوم الفساد بضرورة العقل، ونظره مخالف للكتاب وللسنة (¬3) وإجماع سلف الأمة، وإن الشارع أخبر بنقيضه وأوجب اعتقاد ضده. الوجه التاسع: أنه لا ريب أن من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملًا مقرًا بما بلغه من تفصيل الجملة، غير جاحد لشيء من تفاصيلها، أنه يكون بذلك من المؤمنين، إذ الإيمان بكل فرد من تفصيل ما أخبر به الرسول وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلّا وقد خفي عليه ¬
بعض ما قاله الرسول، ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة ألّا (¬1) يقر فيها بأحد النقيضين، لا (¬2) ينفيها ولا يثبتها إذا لم يبلغه أن الرسول نفاها، أو أثبتها، ويسع الإنسان (¬3) السكوت عن النقيضين في أقوال كثيرة، إذا لم يقم دليل شرعي بوجوب قول أحدهما. أما إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول دون الآخر، فهنا يكون السكوت عن هذا (¬4) وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، ومن باب كتمان شهادة عند (¬5) العبد من الله، وفي كتمان العلم النبوي من الذم واللعنة لكاتمه ما يضيق عنه هذا الموضع (¬6). وكذلك إذا كان أحد القولين متضمنًا لنقيض ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والآخر لا يتضمن مناقضة الرسول، لم يجز السكوت عنهما جميعًا، بل يجب نفي القول المتضمن لمناقضة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا أنكر الأئمة على الواقفة (¬7) في مواضع كثيرة حين تنازع الناس، فقال قوم بموجب السنة، ¬
الواقفة قالوا: لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق
وقال قوم بخلاف السنة، وتوقف قوم فأنكروا على الواقفة، كالواقفة الذين قالوا: لا نقول القرآن مخلوق، ولا نقول: إنه غير مخلوق، هذا مع أن كثيرًا من الواقفة يكون في الباطن مضمرًا للقول المخالف للسنة، ولكن يظهر الوقف نفاقًا ومصانعة، فمثل هذا موجود. أما القول الذي لا يوجد في كلام الله ورسوله، لا منصوصًا ولا مستنبطًا، بل يوجد في الكتاب والسنة مما يناقضه ما لا يحصيه إلّا الله، فكيف يجب على المؤمنين -عامة أو خاصة- اعتقاده، ويجعل ذلك محنة لهم؟ ومن المعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في كلام أحد من سلف الأمة ما يدل -نصًّا ولا استنباطًا- على أن الله ليس فوق العرش، وأنه ليس فوق (¬1) المخلوقات، وأنه ما فوق العالم رب يعبد، ولا على العرش إله يدعى ويقصد، وما هناك إلّا العلم المحض، وسواء سمى ثبوت هذا المعنى قولًا بالجهة والتحيز (¬2) أو لم يسم، فتنوع العبارات لا يضر إذا عرف المعنى المقصود، وإذا كان هذا المعنى ليس مما جاء به ¬
الرسول، كان الإعراض عنه -ولو كان حقًّا- جائزًا، بحيث لو لم يعتقد الرجل فيه نفيًا ولا إثباتًا، لم يؤمر بأحدهما. وقد بسطنا الكلام فيما يذكر لهذا القول من الدلائل السمعية والعقلية في مواضع منها الكلام على ما ذكره أبو عبد الله الرازي (¬1)، في كتابه الذي سماه: "تأسيس التقديس" (¬2)، وكتابه "نهاية العقول في دراية الأصول" (¬3)، وغير ذلك، إذا كان قد جمع في ذلك غاية ما يقوله ¬
الوجه العاشر: أن قولهم لا يخلو من أمرين
الأولون والآخرون من حجج النفاة، (¬1) الذين يقولون: إن الله ليس في جهة ولا حيز، فليس هو (¬2) على العرش ولا فوق العالم. الوجه العاشر: أن قولهم: الذي نطلب (¬3) منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز، لا يخلو: إما أن يتضمن هذا نفي كون الله على العرش، وكونه فوق العالم، بحيث يقال: إنه ما فوق العالم رب ولا إله، أو ما هناك (¬4) شيء موجود، وما هناك (¬5) إلّا العدم الذي ليس بشيء، أو لا يتضمن هذا الكلام نفي ذلك، فإن كان هذا الكلام لم يتضمن نفي ذلك كان النزاع لفظيًّا، وأنا ليس في شيء من كلامي -قط- إثبات الجهة والتحيز لله مطلقا حتى يقال: نطلب منه نفي ما قاله أو أطلقه من اللفظ، بل كلامي فيه ألفاظ القرآن والحديث وألفاظ سلف الأمة، ومن نقل مذاهبهم، أو التعبير عن ذلك تارة بالمعنى المطابق الذي يعلم المستمع أنه موافق لمعناهم ¬
كلام الإمام أحمد في أهل الأهواء والبدع
وما يذكرون (¬1) من الألفاظ المجملة، فإني أبينه وأفصله؛ لأن أهل الأهواء، كما قال الإِمام أحمد (¬2) فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية (¬3) فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولت غير تأويله، قال: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح (¬4) أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان (¬5) الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب (¬6)، مجتمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من (¬7) الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين (¬8). فقد أخبر أن أهل البدع والأهواء يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ¬
ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، وذلك مثل قولهم: ليس بمتحيز ولا في جهة، ولا كذا ولا كذا، فإن هذه ألفاظ مجملة متشابهة يمكن تفسيرها بوجه حق، ويمكن تفسيرها بوجه باطل، فالمطلقون لها يوهمون عامة المسلمين أن مقصودهم تنزيه الله عن أن يكون محصورًا في بعض المخلوقات، ويفترون الكذب على أهل الإثبات، إنهم يقولون ذلك يقول بعض قضاتهم (¬1) لبعض الأمراء: إنهم يقولون: إن الله في هذه الزاوية. وقول آخر من طواغيتهم: إنهم يقولون: إن الله في حشو السموات، ولهذا سموا حشوية (¬2)، إلى أمثال هذه الأكاذيب التي ¬
إذا لم يرد قائل هذا القول نفي علو الله لم ينازع في المعنى الذي أراده، وعليه التصريح بذلك
يفترونها على أهل الإثبات، ثم يأتون بلفظ مجمل متشابه يصلح لنفي هذا المعنى الباطل، ولنفي ما هو حق، فيطلقونه فيخدعون بذلك جهال الناس، فإذا وقع الاستفصال والاستفسار، انكشفت الأسرار، وتبين الليل من النهار، وتميز أهل الإيمان واليقين من أهل النفاق المدلسين، الذين لبسوا الحق بالباطل، وكتموا الحق وهم يعلمون. فالمقصود أن قائل هذا القول إن لم يرد به نفي علو الله على عرشه وأنه فوق خلقه (¬1)، لم ينازع من المعنى الذي أراده، ولكن لفظه ليس بدال على ذلك، بل هو مفهم أو موهم لنفي ذلك، فعليه أن يقول: لست أقصد بنفي الجهة والتحيز نفي (¬2) أن يكون الله فوق عرشه، وفوق خلقه، وحينئذ فيوافقه أهل الإثبات على نفي الجهة والتحيز بهذا التفسير بعد استفصاله وتقييد كلامه بما يزيل الالتباس. أما إن تضمن هذا الكلام أن الله ليس على العرش ولا فوق العالم، فليصرح بذلك تصريحًا بينًا حتى يفهم المؤمنون قوله وكلامه، ويعلموا مقصوده ومرامه، فإذا كشف للمسلمين حقيقة هذا القول، وأن مضمونه: أنه ليس فوق السماوات (¬3) رب، ولا على العرش إله، وأن ¬
الملائكة لا تعرج إلى الله، ولا تصعد إليه، ولا تنزل من عنده، وأن عيسى لم يرفع إليه ومحمد لم يعرج (¬1) به إليه، وأن العباد لا يتوجهون بقلوبهم إلى إله هناك يدعونه ويقصدونه، ولا يرفعون أيديهم من دعائهم إليه، فحينئذ ينكشف للناس حقيقة هذا الكلام، ويظهر الضوء من الظلام. ومن المعلوم أن قائل ذلك لا يجترئ أن يقوله في ملأ من المؤمنين، وإنما يقوله بين إخوانه من المنافقين (¬2)، الذين إذا اجتمعوا يتناجون، وإذا افترقوا يتهاجون، وهم وإن زعموا أنهم أهل المعرفة المحققين، فقد شابهوا من سبق من إخوانهم المنافقين، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (¬3) إلى قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬4)، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} (¬5) إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}. ¬
ولا ريب أن كثيرًا من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان, لكن يلتبس عليه أمر المنافقين، حتى يصير لهم من السماعين، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (¬1)، وكان المعلوم أن كلام أهل الإفك (¬2) في عائشة (¬3)، كان مبدؤه من المنافقين، وتلطخ به طائفة ¬
الوجه الحادي العشر: أنهم إذا بينوا مقصودهم فيقال لهم: هذا معلوم الفساد بالضرورة، بالفطرة العقلية والأدلة النقلية والعقلية
من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع، كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين، لكن كان فيهم من نقص (¬1) الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان (¬2). الوجه الحادي عشر: أنهم (¬3) إذا بينوا مقصودهم -كما يصرح به أئمتهم وطواغيتهم- من أنه ليس فوق العرش رب، ولا فوق العالم موجود، فضلًا عن أن يكون فوقه واجب الوجود. فيقال لهم: هذا معلوم الفساد بالضرورة، بالفطرة (¬4) العقلية، وبالأدلة النظرية العقلية، وبالضرورة الإيمانية السمعية الشرعية، وبالنقول المتواترة المعنوية عن خير البرية، وبدلالة القرآن على ذلك من آيات تبلغ "مئين" (¬5)، وبالأحاديث المتلقاة بالقبول من علماء الأئمة في جميع القرون وبما اتفق عليه سلف الأمة، وأهل الهدى من أئمتها، وبما اتفق عليه الأمم بجبلتها وفطرتها، وما يذكر في خلاف ذلك من الشبه، ¬
الوجه الثاني عشر: أن لفظ الجهة عند من قاله إما أن يكون معناه وجوديا أو عدميا
التي يقال: إنها براهين عقلية، أو دلائل سمعية، فقد تكلمنا عليها بالاستقصاء حتى تبين أنها من القول الهراء (¬1)، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. ولولا أن المقصود هنا التنبيه على مجامع الضلال فيما أوجبوا اعتقاده، لبسطنا القول هنا وبينا سداده، لكن قد أحلنا على ما هو موجود مكتوب -أيضًا- قد كتبناه في هذا الزمان (¬2)، والحمد لله ولي الإحسان. الوجه الثاني عشر: أن لفظ الجهة عند من قاله، إما أن يكون معناه وجوديًّا أو عدميًّا، فإن كان معناه وجوديًّا، فنفي (¬3) الجهة عن الله نفي عن أن يكون الله في شيء موجود، وليس [شيء] (¬4) موجودًا سوى الله إلا العالم، فإذا أحد القسمين الذين ذكرناهما من جوابهم، وهو أن يراد أنه [ليس] (¬5) محصورًا في المخلوقات، داخلًا في المصنوعات، هذا أحد أقوال الجهمية الذين يقولون: إنه ليس على العرش، ونفيه مصرح به في كلامنا. وإن كان معناه عدميًّا، كان المعنى أن الله لا يكون حيث لا موجود غيره، وهو ما فوق العالم، فإن كون الموجود في العلم ليس معناه أن ¬
العلم يحويه أو يحيط به، إذ (¬1) العلم ليس بشيء أصلًا حتى يوصف بأنه يحيط أو يحاط به، بل المعنى (¬2) بذلك أن يكون الموجود بحيث لا موجود غيره، أو أن (¬3) يكون القائم بنفسه بحيث لا قائم بنفسه غيره، فإن الموجود نوعان: قائم بنفسه، وقائم بغيره. فالقائم بغيره من الصفات والأعراض يكون بحيث يكون غيره، فإن الصفات والأعراض تقوم بالمحل الواحد. وأما القائم بنفسه، فلا يكون حيث يكون آخر قائم بنفسه، [بل يجب أن يكون مباينًا لغيره، فيكون حيث لا موجود غيره] (¬4)، أو حيث لا قائم بنفسه غيره، وهو المعنيّ بكون الله على العرش، وفوق العالم، وإذا كان هذا المعقول من الجهة العدمية، فأكثر عقلاء بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين والمجوس (¬5) والصابئين (¬6)، ¬
من الناس من يعني بالجهة ما ليس مغايرا لذي الجهة
على أن نفيه هذا عن الموجود، واجبه وممكنه (¬1) معلوم الفساد بالضرورة العقلية، وهو أن يعلم بالضرورة العقلية أنه يمتنع وجود قائم بنفسه، حيث يكون موجود آخر قائم بنفسه، أو لا يكون إلّا حيث يكون موجودا (¬2) آخر قائم النهيه (¬3)، وأن كل موجود إما أن يكون مباينا لغيره منفصلًا عنه فيكون في الجهة العدمية، وإما أن يكون محايثًا له داخلا فيه، فيكون في الجهة الوجودية، ووجود موجود لا في جهة وجودية ولا جهة عدمية ممتنع عندهم في صريح العقل، ثم إن قول هؤلاء موافق لما عليه بنو آدم من الفطرة، موافق لما جاء به (¬4) الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. وبالجملة فالنزاع في ذلك ظاهر مشهور، وإذا كان كذلك لم يكن نفي ذلك بالهين حتى يدعي دعوى مجردة (¬5)، بلا دليل سمعي ولا عقلي، ثم يوجب اعتقاد ذلك ويعاقب تاركه. ومن الناس من قد يعني بالجهة [ما ليس مغايرًا لذي الجهة] (¬6) ¬
فيكون كونه في جهة بحيث يتوجه إليه أو يشار إليه، ولا يعني بالجهة موجودًا منفصلًا عنه، ولا يعني عدميًّا، وهؤلاء قد يقولون: الجهة من الأمور الإضافية، فكون الشيء من الجهة معناه أنه مباين (¬1) لغيره، وكل موجود قائم بنفسه فإنه مباين لغيره. وقد يقولون كونه في الجهة معناه: أنه متميز بذاته محقق الوجود، وإن لم يقدر موجود سواه، وهؤلاء يقولون: هو في الجهة قبل وجود العالم، والأولون يقولون: لا نعقل الجهة إلا بعد وجود العالم. وأصل ذلك (¬2) أن هؤلاء يقولون: إن مسمى الجهة نوعان: إضافي متنقل، وثابت لازم. فأما الأول فهي الجهات الست للحيوان -أمامه وهو ما يؤمه، وخلفه وهو ما يخلفه، ويمينه، ويساره، وفوقه، وتحته، وهو ما يحاذي ذلك، وهذه الجهات ليست جهات لمعنى يقوم بها (¬3)، ولا ذلك صفة لازمة لها، بل تفسير (¬4) اليمين يسارًا، واليسار يمينًا، والعلو سفلًا، والسفل علوًا بتحرك (¬5) الحيوان من غير تغير في الجهات. وأما الثاني: فهو جهتا (¬6) [العالم وهي] (¬7). . . . . . . . . . ¬
العلو والسفل، فليس للعالم إلّا جهتان: أحدهما: العلو، وهو جهة السموات وما فوقها. و [الأخرى] (¬1): السفل، وهو جهة الأرض وما تحتها وفي جوفها، وعلى هذا المعنى فكل ما كان خارج العالم مباينًا للعالم فهو فوقه، وهو في الجهة العليا، فالباري -تعالى- إما أن يكون مباينًا للعالم منفصلًا عنه، أو لا يكون مباينًا له منفصلًا عنه، فإن كان الأول (¬2) كان خارجًا عنه عاليًا عليه بالجهة العليا، وإن كان الثاني كان حالًا في العالم قائمًا به محمولًا فيه. قال هؤلاء: وهذا كله معلوم بالفطرة العقلية، فالباري قبل أن يخلق العالم كان هو وحده سبحانه لا شريك له، ولما خلق الخلق فإنه لم يخلقه في ذاته، فيكون هو محلًا للمخلوقات، ولا جعل ذاته فيه فيكون مفتقرًا محمولًا قائمًا بالمصنوعات، بل خلقه بائنًا عنه فيكون فوقه وهو بجهة (¬3) العلو. وقد بسطنا كلام هؤلاء وخصومهم في الحكومة العادلة، فيما ذكره الرازي في تأسيسه من المجادلة (¬4). وإذا كان كذلك، فالداعي للناس إلى اعتقاد نفي الجهة، إما أن يدخل معهم في هذه الدقائق ويكشف هذه الحقائق، وإما أن يعرض عن هذه ويقف عند الجمل التي وقف عليها (¬5) المؤمنون، فأما أن يدعو (¬6) إلى قول لا يبين حقيقته وأقسامه، ولا يبين حجته التي تصحح مرامه ¬
الوجه الثالث عشر: قولهم بنفي التحيز بلفظ مجمل
و [لا] (¬1) يكون القول موجودًا في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أئمة الإِسلام، فإذا غاية ما يكون من الجهل والضلال والظلم في الكلام. الوجه الثالث عشر: أن قولهم بنفي (¬2) التحيز لفظ مجمل، فإن التحيز المعروف في اللغة (¬3): هو أن يكون الشيء بحيث يحوزه ويحيط به موجود غيره، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬4). فإن التحيز مأخوذ من حازه يحوزه، فإذا المعنى هو أحد المعنيين الذين ذكرناهما بقولنا: إن أراد أنه لا يحيط (¬5) به المخلوقات، ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا مذكور مصرح به في كلامي، فأي فائدة في تجديده (¬6)؟ وأما التحيز الذي يعنيه المتكلمون فأعم من هذا، فإنهم (¬7) ¬
يقولون: العالم كله متحيز، وإن لم يكن في شيء آخر موجود، إذ كل موجود سوى الله فإنه من العالم. وقد يفرقون بين الحيز والمكان، فيقولون: الحيز تقدير المكان، وكل قائم بنفسه مباين لغيره بالجهة فإنه متحيز عندهم، وإن لم يكن في شيء موجود، ولهذا يقول بعضهم: الحيز (¬1) من لوازم الجسم، ويقول بعضهم: هو من لوازم القياس بالنفس كالتميز والمباينة. وعلى هذا التفسير، فالحيز إما وجودي، وإما عدمي، فإن كان عدميًّا فالقول فيه كالقول في معنى الجهة العدمية، وإن كان وجوديًّا، فإما أن يراد به ما ليس خارجًا، أو ما هو خارج (¬2) عنه (¬3)، [فالأول مثل حدود المتحيز وجوانبه، فلا يكون الحيز شيئًا خارجًا على المتحيز] (¬4) على هذا التفسير، وإما أن يعني به شيء موجود منفصل (¬5) عن المتحيز خارج (¬6) عنه، فإذا هو التفسير الأول، وليس غير الله إلا العالم، فمن قال: إنه في حيز موجود منفصل فقد قال: إنه في العالم أو بعضه، وهذا مما قد صرحنا بنفيه (¬7)، وإذا كان كذلك، فلا بد من تفصيل المقال ليزول هذا الإبهام (¬8) والإجمال. ¬
الوجه الرابع عشر: مناقشة قولهم: ولا يقول أن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته
الوجه الرابع عشر: وأما قولهم: ولا يقول: إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته. فقد قلت في الجواب المختصر البديهي (¬1): ليس في كلامي هذا -أيضًا- ولا قلته قط، بل قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة، ثم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف أن القرآن كلام الله مخلوق. وذلك أني قد أجبت (¬2) في مسألة القرآن والحرف والصوت، وما وقع في ذلك من النزاع والاضطراب في جواب الفتيا الدمشقية (¬3)، ¬
وفصلت القول فيها وفي مسألة العرش وبينته، وكذلك في جواب الفتيا المصرية (¬1) قد بينته وفصلته في هذا وفي هذا، وأزلت ما وقع فيه أكثر الناس من الاختلاف والشقاق الذي خرجوا به عن السنة والجماعة، إلى البدعة والافتراق، وبسطت ذلك بسطًا متوسطًا في جواب (¬2) الاستفتاء (¬3) الذي ورد به (¬4) قاضي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الاضطراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع
جيلان (¬1) لما وقع بينهم من الفتنة في كلام الآدميين، وأظهروا من البدعة والغلو في الإثبات ونفي الخلق عن كثير من المخلوقات ما هو من أعظم الجهالات والضلالات، وقد كتبت جملًا من الكلام [في ذلك] (¬2) في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية (¬3)، وفي فتاوى أخر، ومواضع أخر. فإن مسألة القرآن وقع فيها بين السلف والخلف من الاضطراب والنزاع ما لم يقع نظيره في مسألة العلو والارتفاع، إذ لم يكن على عهد السلف من يبوح بإنكار ذلك ونفيه، كما كان على عهدهم من باح (¬4) بإظهار القول بخلق القرآن، ولا اجترأ الجهمية إذ ذاك على دعاء الناس إلى نفي علو الله على عرشه، بل ولا أظهرت ذلك، كما اجترؤوا على دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، وامتحانهم على ذلك، وعقوبة من لم يجبهم بالحبس، والضرب، والقتل، وقطع الرزق، والعزل عن ¬
الولايات ومنع قبول الشهادة، وترك افتدائهم من أسر العدو، إلى غير ذلك من العقوبات التي إنما تصلح لمن خرج عن الإِسلام، وبدّلوا بذلك الدين نحو تبديل كثير من المرتدين، فأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون (¬1) لومة لائم، فجاهدوا في الله حق جهاده، متبعين سبيل الصديق وإخوانه الذين جاهدوا المرتدين (¬2)، بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وسم المسلمون بالإمامة، وبأنه الصديق الثاني، من كان أحق بهذا التحقيق عند فتور الواني. فإن أولئك الجهمية جعلوا المؤمنين كفارًا مرتدين، وجعلوا ما هو من الكفر والتكذيب للرسول إيمانًا وعلمًا، ولبسوا على الأئمة والأمة الحق بالباطل، وكانت فتنتهم في الدين أعظم ضررًا من فتنة الخوارج المارقين (¬3)، فإن أولئك -وإن كفروا المؤمنين واستحلوا دماءهم ¬
حدوث مقالات جهم في نفي الصفات كان في أوائل المائة الثانية
وأموالهم- فلم تكن فتنتهم الجحود لكلام رب العالمين، وأسمائه، وصفاته، وما هو عليه في حقيقة ذاته، بل كانت فيما دون ذلك من الخروج عن السنة المشروعة. وإن كان أهل المقالات قد نقلوا (¬1) أن قول الخوارج في التوحيد، هو قول الجهمية المعتزلة، فهذا (¬2) شر (¬3) للجهمية، لكن يشبه -والله أعلم- أن يكون ذلك قد قاله من بقايا الخوارج من كان موجودًا حين حدوث مقالات (¬4) جهم في أوائل المائة الثانية، فأما قبل (¬5) ذلك فلم يكن حدث في الإِسلام قول جيهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وإنكار أن يكون الله على عرشه (¬6)، ونحو ذلك، فلا يصح إضافة هذا القول إلى أحد من المسلمين قبل المائة الثانية، لا من الخوارج، ولا من غيرهم، فإنه لم يكن في الإِسلام إذ ذاك من يتكلم بشيء من هذه السلوب الجهمية، ولا نقل أحد عن الخوارج المعروفين -إذ ذاك- ولا عن غيرهم شيئًا من هذه المقالات الجهمية. ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم، قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين، فإنهم يناظرونهم، ويحاجونهم، بغير الحق والعدل لينصروا الإِسلام، زعموا بذلك، فيستطيل (¬7) عليهم أولئك، ¬
لما فيهم من الجهل والظلم، ويحاجونهم بممانعات ومعارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول، والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر (¬1) عليهم أولئك المشركون، فصار قولهم مشتملًا على إيمان وكفر، وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع بين النقيضين، وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين، كالذين يقاتلون الكفار والمؤمنين، ومثلهم في ذلك مثل من فرط في طاعة الله وطاعة رسوله من ملوك النواحي والأطراف، حتى تسلط عليهم العدو، تحقيقًا لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (¬2) يقاتلون العدو قتالًا مشتملًا على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين، والاستيلاء على نفوسهم، وأموالهم، وبلادهم، وصاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين، وربما رأوا قتال المسلمين أوكد (¬3)، وبهذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لخوارج حيث قال: "يقتلون أهل الإِسلام ويدعون أهل الأوثان" (¬4). ¬
ذكر الإمام أحمد لحال جهم وشيعته
وهذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم وغيرهم، وكثير من أهل البدع، وأهل الفجور، فحال أهل الأيدي والقتال، يشبه حال أهل الألسنة والجدال. وهكذا ذكر العلماء مبدأ حال يهم، فقال الإِمام أحمد -فيما أخرجه- في الرد على الزنادقة والجهمية (¬1): قال (¬2) أحمد: "وكذلك الجهم وشيعته، دعوا (¬3) الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرًا كثيرًا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم -عدو الله- أنه كان من أهل خراسان، من أهل ترمذ (¬4)، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله ¬
تبارك وتعالى، فلقي ناسًا (¬1) من المشركين يقال لهم: السمنية (¬2) فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. فقالوا له: هل (¬3) سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسًا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة من جنس [حجة] (¬4) الزنادقة من النصارى، وذلك أن زنادقة (¬5) النصارى يزعمون أن الروح الذي (¬6) في عيسى هي من روح (¬7) الله من ذات الله، وإذا أراد [الله] (¬8) أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان ¬
خلقه (¬1)، فيأمر بما شاء، وينهى عن ما شاء (¬2)، وهو روح غائب (¬3) عن الأبصار. فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحًا؟ فقال (¬4): نعم. قال (¬5): فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فتسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فهل (¬6) وجدت له حسًّا؟ قال: لا. قال: فكذلك (¬7) الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان قال (¬8): ووجد ثلاث آيات (¬9) من القرآن (¬10) من المتشابه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬11) {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (¬12) و {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (¬13). فبنى أصل كلامه كله (¬14) على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على ¬
وصف العلماء حال جهم
غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم أن من وصف من الله شيئًا (¬1) مما وصف الله به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) كان كافرًا، وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرًا كثيرا (¬3)، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد (¬4) بالبصرة، ووضع دين الجهمية (¬5). وهكذا وصف العلماء حال يهم (¬6) كما قال أبو عبد الله محمَّد بن ¬
سلام البيكندي (¬1)، شيخ البخاري في كتاب السنة والجماعة (¬2)، من تأليفه: ما جاء في بدو الجهمية والسمنيّة، وكيف كان شأنهم وكفرهم بآيات الله. [عن] (¬3) حفص بن عبد الرحمن البلخي (¬4) قال: حدثنا سعيد بن ¬
أبي عروبة (¬1)، عن أيوب بن أبي تميمة (¬2)، قال: ما أعلم أحدًا من أهل الضلال (¬3) أكذب على كتاب الله من السمنية، قال: وهو عندنا كما قال، لا أعلم أحدًا (¬4) أجهل ولا أحمق قولًا منهم، لا يتعلقون من كتاب الله بشيء، ولا يحتجون، إنما هو حب وبغض من أحب دخل الجنة، ومن أبغض دخل النار، فصارت (¬5) طائفة جهمية لم تكن على عهد رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم - ولا على عهد الصحابة، وإنما هو رأي محدث، ويرون أن أول من تكلم فيه (¬1) جهم بن صفوان، وكان جيهم -فيما بلغنا- لا يعرف بفقه ولا ورع ولا صلاح، أعطي لسانًا منكرًا فكان يجادل ويقول برأيه، يجادل السمنية، وهم شبه المجوس، يعتقدون الأصنام، فكلمهم فأحرجوه (¬2) حتى ترك الصلاة أربعين يومًا، لا يعرف ربه، وكلامهم يدعو إلى الزندقة، وكلامهم وصفناه (¬3) لغير واحد من أهل الفقه (¬4) والبصر، فمالوا (¬5) آخر أمرهم إلى الزندقة، والرجل إذا رسخ في كلامهم ترك الصلاة، واتبع الشهوات. وكان أبو الجوزاء (¬6) صاحب جهم، وكان أقوى في أمرهم من جهم -فيما بلغنا- وكان يسكن الفارياب (¬7)، وأخبرنا أناس من أهلها من صالحيهم، أنه ترك الصلاة، وشرب الخمر، واتبع الشهوات، وأفسد عالمًا من الناس، فنعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، ما أعلم من تكلم في الإِسلام قوم أخبث من كلامهم، القرآن كله نقض على كلامهم. وبلغنا أن منهم من يقول: إن ما يفسد علينا كلامنا (¬8) القرآن ¬
ويكسره ولا يرون أن في السماء ساكنًا، وذكر طرفًا من كلامهم ثم قال (¬1): قال: علي (¬2) سمعت عبد الله (¬3) يقول (¬4): إنّا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وقال في شعر له (¬5): ولا أقول يقول الجهم إن له ... قولًا يضارع قول الشرك أحيانًا ثم قال: حدثنا عبيد الله، يعني ابن واصل، ثنا عبد الله بن محمَّد، شيخ من أهل بغداد، ثنا ابن صالح، قال: لقيت جهمًا فقلت: نطق الله؟ قال: لا، قلت: فهو ينطق؟ قال: لا، قلت: فمن يقول يوم القيامة: لمن الملك اليوم؟ ومن يرد عليه: لله الواحد القهار؟ قلت: إنهم زادوا في القرآن ونقصوا منه. ¬
وروى (¬1) أبو داود [و] (¬2) الخلال وغيرهما عن أبي شوذب (¬3)، قال: ترك جهم الصلاة أربعين يومًا، وكان فيمن خرج مع الحارث بن سريج (¬4). وعن مروان بن معاوية الفزازي (¬5)، وذكر جهمًا فقال: قبح الله جهمًا، حدثني ابن عم لي أنه شك في الله أربعين صباحًا. ¬
ما ذكره البخاري
وذكر البخاري (¬1) في كتاب "خلق الأفعال" (¬2) عن يحيى بن أيوب (¬3)، قال: كنا يومًا (¬4) عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية، فلم يحدثه به، قال (¬5): إن لم تحدثني به فأنت جهمي. فقال مروان: أتقول لي: جهمي، وجهم مكث أربعين ليلة (¬6) لا يعرف ربه؟! قال البخاري: وقال ضمرة (¬7)، [عن] (¬8) ابن شوذب: ¬
ترك جهم الصلاة أربعين يومًا (¬1) على وجه الشك، فخاصمه بعض السمنية، فشك فأقام أربعين يومًا لا يصلي، قال ضمرة: وقد رآه ابن شوذب. قال البخاري (¬2): وقال عبد العزيز بن أبي سلمة (¬3): كلام جهم صفة (¬4) بلا معنى، وبناء بلا أساس، ولم يعد قط من أهل العلم. وروى (¬5) أبو داود [و] (¬6) الخلال عن إبراهيم بن طهمان (¬7)، قال: "ما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه، ما أعظم ما أورث (¬8) أهل القبلة من منطقه هذا العظيم" يعني جهمًا. ¬
وعن (¬1) يحيى بن شبل (¬2) قال: "كنت جالسًا مع مقاتل بن سليمان (¬3)، وعباد بن كثير (¬4)، إذ جاء شاب فقال: ما تقولون (¬5) في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ} (¬6) فقال مقاتل: هذا جهمي، ثم قال: ويحك إن جهمًا -والله- ما حج هذا البيت قط (¬7)، ولا جالس العلماء، إنما كان رجلًا أعطي لسانًا هذاء (¬8). وقد ذكر البخاري (¬9) قال: "وقال ابن مقاتل (¬10): سمعت ابن ¬
المبارك يقول: من قال: "إني أنا الله لا إله إلّا أنا" مخلوق فهو كافر، ولا (¬1) ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال: وقال أيضًا: ولا (¬2) أقول بقول الجهم إن له ... قولًا يضارع قول الشرك أحيانًا ولا أقول تخلى من بريته ... ربّ العباد وولي الأمر شيطانًا ما قال فرعون هذا في تجبره ... فرعون موسى ولا فرعون هامانا قال البخاري: وقال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض ها هنا، بل على العرش استوى، وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: فوق سماواته على عرشه، وقال لرجل (¬3) منهم: أبطنك خال منه (¬4)؟ فبهت الآخر، وقال: من قال لا إله إلَّا هو، مخلوق، فهو (¬5) كافر، وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال البخاري (¬6): وقال سعيد بن عامر (¬7): الجهمية ¬
أشر (¬1) قولًا من اليهود والنصارى، قد اجتمعت (¬2) اليهود والنصارى وأهل الأديان (على) (¬3) أن الله تعالى على العرش، وقالوا: هم ليس على العرش (¬4). وروى البخاري (¬5) عن وكيع بن الجراح، أنه قال: لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم، إنما يذهبون إلى التعطيل. فهذا الذي ذكره الإِمام أحمد من مبدأ حال جهم إمام هؤلاء المتكلمين النفاة يبين ما ذكرته، فإنه لما ناظر (¬6) من ناظره من المشركين السمنية من الهند، وجحدوا الإله، لكون الجهم لم يدركه شيء من حواسه، لا ببصره، ولا بسمعه، ولا بشمه، ولا بذوقه، ولا بحسه، كان مضمون هذا الكلام أن كل ما لا يحسه الإنسان بحواسه الخمس، فإنه ينكره ولا (¬7) يقربه، فأجابهم الجهم: أنه قد يكون في الموجود ما لا يمكن إحساسه (¬8) بشيء من هذه الحواس وهي الروح التي في العبد، وزعم أنها لا تختص بشيء من الأمكنة، وهذا الذي قاله هو قول الصابئية (¬9) الفلاسفة المشائين (¬10). ¬
وقد قال البخاري (¬1): قال قتيبة، يعني ابن سعيد (¬2)، بلغني أن جهمًا كان يأخذ هذا (¬3) الكلام من الجعد بن درهم (¬4). وقال البخاري (¬5): ثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمَّد (¬6)، حدثنا عبد الرحمن بن محمَّد بن حبيب (¬7) بن أبي حبيب، عن أبيه عن جده (¬8) ¬
قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري (¬1). . . . بواسط (¬2) يوم أضحى، وقال (¬3): ارجعوا فضحوا تقبل الله (¬4) منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم (¬5) خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه. وهذا الجعد قد ذكروا (¬6) أنه من (¬7) أهل. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
حران (¬1) وهو معلم مروان بن محمَّد (¬2)، ولهذا يقال له: الجعدي (¬3)، وكانت حران إذ ذاك دار الصابئية (¬4) الفلاسفة الباقين على ملة سلفهم أعداء إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم (¬5) كان منهم ودعاهم إلى الحنيفية، وكان من قصته ما ذكره الله في كتابه، والحجة التي ذكرها مشركوا الهند الباطلة، والجواب الذي أجاب به مبتدعة الصابئين، ومن اتبعهم من مبتدعة هذه الأمة باطل، وذلك أن قول القائل: ما لا يحس به (¬6) العبد لا يُقِرُّ به أو ينكره. إما أن يريد (¬7) به أن كل أحد من العباد لا يقر إلّا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس. أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما أحس به العباد في الجملة أو بما يمكن الإحساس به في الجملة. ¬
السمنية ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات
فإن كان أرادوا الأول، وهو الذي حكاه عنهم طائفة (¬1) من أهل المقالات، حيث ذكروا عن السمنية أنهم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات، فينكرون المتواترات (¬2) والمجربات والضروريات العقلية، وغير ذلك، إلَّا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها من جميع العقلاء (¬3) في مدينة أو قرية، وما ذكر (¬4) من مناظرة الجهم لهم يدل على إقرارهم بغير ذلك، وذلك أن حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلّا (¬5) بمعاونة (¬6) بعضهم لبعض في الأقوال، أخبارها وغير أخبارها، ودي الأعمال -أيضًا- فالرجل منهم لا بد أن يقرّ أنَّه مولود، وأن له أبًا وطئ أمه، وأمًّا ولدته وهو لم يبيح بشيء من ذلك من حواسه الخمس، بل أخبر بذلك، ووجد في قلبه ميلًا إلى ما أخبر به، وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام والأخوال والأجداد، وغير ذلك، وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا، وكذلك لا ينكر أحد من بني آدم أنَّه ولد صغيرًا، وأنه ربي بالتغذية والحضانة، ونحو ذلك حتَّى كبر، وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تميزه، بل لا ينكر طائفة من بني آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم، وشبعه (¬7)، ولذته، وألمه، ورضاه، وغضبه، وحبه وبغضه، وغير ذلك ممَّا لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة، بل يعلمون أن غير [هم من] (¬8) بني آدم يصيبهم ذلك، ¬
قول من يقول إن السوفسطائية قوم ينكرون حقائق الأمور
وذلك (¬1) لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة، وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما كان في غير مدينتهم من المدائن والسير والمتاجر وغير ذلك، ممَّا هم متفقون على الإقرار به، وهم مضطرون إلى ذلك، وكذلك لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناؤون، والطبيخ الذي يأكلونه طبخه الطباخون، والثياب المنسوجة التي يلبسونها نسجها النساجون، وإن كان ما يقر (¬2) به من ذلك لم يحسه أحدهم بشيء من حواسه الخمس، وهذا باب واسع، فمن قال: إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور فقد قال الباطل. وقول من يقول من المتكلمين: إن السوفسطائية (¬3) قوم ينكرون حقائق الأمور وإنهم منتسبون إلى رئيس لهم يقال له: "سوفسطا" (¬4)، وإن منهم من ينكر العلم بشيء من الحقائق، ومنهم من ينكر الحقائق الموجودة -أيضًا- مع العلوم، ومنهم اللاأدرية (¬5): الذين يشكون، فلا ¬
لفظ السوفسطائيه، ومعناها
يجزمون بنفي ولا إثبات، ومنهم من لا يقر إلَّا بما أحسه، قد ردّ هذا النقل والحكاية من عرف حقيقة الأمر وقال: إن لفظ السوفسطائية (¬1) في الأصل كلمة يونانية معربة، أصلها سوفسطيا؛ أي: الحكمة المموهة، فإن لفظ "سو" معناه في لغة اليونان الحكمة، ولهذا يقولون (¬2): فيلاسوفا؛ أي: محب (¬3) الحكمة، ولفظ فسطيا، معناها: المموهة، ومعلم المستأخرين المبتدعين منهم أرسطو (¬4)، لما قسم حكمتهم التي هي علمهم إلى برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة (¬5)، وهي المغاليط سموها "سوفسطيا" (¬6) فعربت وقيل: "سوفسطا" ثم ظن بعض المتكلمين أن ذلك اسم رجل، وإنما أصلها ما ذكر، وإن كان لفظ ¬
السفسطة (¬1) قد صار في عرف المتكلمين عبارة عن جحد (¬2) الحقائق، فلا ريب أن هذا يكون في كثير من الأمور، فمن الأمم من ينكر كثيرًا من الحقائق بعد معرفتها، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬3)، وقد يشتبه كثير من الحقائق على كثير من النَّاس، كما قد يقع الغلط للحس أو العقل في أمور كثيرة، فهذا كله موجود كوجود الكذب عمدًا أو خطأ، أما اتفاق أمة على [إنكار] (¬4) جميع العلوم والحقائق، أو على إنكار كل منهم لما لم يحسه، فهو كاتفاق أمة على الكذب في كل خبر أو التكذيب بكلِّ خبر، ومعلوم أن هذا لم يوجد في العلم (¬5)، والعلم بعدم وجود أمة على هذا الوصف، كالعلم بعدم وجود أمة بلا ولادة ولا اغتذاء، وأمة لا يتكلمون ولا يتحركون، ونحو ذلك ممَّا يعلم أن البشر لا يوجدون (¬6) على هذا الوصف، فكيف والإنسان هو حي ناطق، ونطقه هو أظهر صفاته (¬7) اللازمة له، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (¬8) والنطق إما إخبار، وإما إنشاء، والإخبار أصل، فالقول بوجود أمة لا تقر بشيء من المخبرات إلَّا أن تحس المخبر بعينه ينافي ذلك، وإذا كان كذلك، فأولئك المتكلمون من المشركين والسمنية الذين ناظروا الجهم، قد غالطوا الجهم، ولبسوا (¬9) ¬
عليه في الجدال، حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقربه، وكأن الأصل أن ما لا يتصور الإحساس به لا يقرّ به، فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم ما لا يحسه الإنسان لا يقرّ به، هل المراد به هذا (¬1) أو هذا؟. فإن أراد أولئك المعنى الأول أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة، وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك. وإن أرادوا المعنى الثَّاني، وهو أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به، فهذا لا يضر تسليمه لهم، بل يسلم لهم، يقال لهم (¬2): فإن الله تعالى يمكن (¬3) رؤيته ويسمع كلامه، بل قد سمع بعض البشر كلامه، وهو ¬
الأصل الذي ضل به جهم وشيعته
موسى - عليه السلام -، وسوف يراه عباده في الآخرة، وليس من شرط كون الشيء موجودًا أن يحس به كل أحد في كل وقت، أو أن يمكن إحساس كل أحد به في كل وقت، فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك، بل متى كان الإحساس به ممكنًا، ولو لبعض النَّاس في بعض الأوقات صح القول بأنه يمكن الإحساس به، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬1) وهذا هو الأصل الذي ضل به جهم وشيعته، حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يرى، ولا يحس به شيء من الحواس، كما أجاب إمامهم الأول للسمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه، ولهذا كان أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم (¬2) على نقض هذا الأصل الذي بناه الجهمية، وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة من أن الله يرى ويسمع كلامه وغير ذلك، وأثبتوا -أيضًا- بالمقاييس العقلية (¬3) أن ¬
الرؤية يجوز تعلقها بكلِّ (¬1) موجود، فيصح إحساس كل موجود، فما لا يمكن إحساسه يكون معدومًا، ومنهم من طرَّد ذلك في اللمس، ومنهم من طرده في سائر الحواس، كما فعله طائفة من متكلمة الصفاتية (¬2) الأشعرية وغيرهم. والمقصود هنا أن أولئك المشركين المناظرين قالوا كلامًا مجملًا، فجعلوا الخاص عامًّا، والمعين مطلقًا، حيث قالوا: أنت لم تحسه وما لم تحسه أنت لا يكون موجودًا، والمقدمة الثَّانية باطلة لكن موهوها بالمعنى الصَّحيح، وهو أن ما لا يمكن (¬3) إحساسه بحال لا يكون موجودًا، فناظرهم المناظرون من الصابئية (¬4)، والمقتدى بهم جهم وأصحابه في هذه المقدمة، حتَّى أنكروا الحق الذي عليه أولئك الذين موهوه بالباطل، وزعم هؤلاء أنَّه قد يكون موجودًا ما لا يمكن إحساسه بحال في وقت من الأوقات لشيء من الموجودات، وزعموا أن الروح كذلك، ثم أخذوا هذه المقدمة الباطلة التي نازعوا فيها أولئك المشركين، فنازعوا فيها إخوانهم المؤمنين، فصاروا مجادلين للمؤمنين بمثل ما جادلوا به المشركين، كمن (¬5) قاتل المؤمنين كما قاتل المشركين زعمًا منه أنَّه إن لم يقاتل ذلك القتال استولى عليه المشركون، كما زعم هؤلاء أنهم إن لم يناظروا المشركين هذه المناظرة استعلى عليهم المشركون، وانقطعت حجة المؤمنين في المناظرة، وصاروا عاجزين في النظر والمناظرة، إذ لم يجدوا بزعمهم طريقًا إلَّا هذه الطريق المبتدعة ¬
لفظ الإحساس عام يستعمل في الرؤية والمشاهدة الظاهرة والباطنة
التي أحدثوها، المشتملة على حق وباطل، المتضمنة لجدال المشركين والمؤمنين، كما أن أولئك المقاتلين لم يجدوا -بزعمهم- قتالًا إلّا هذا القتال المبتدع، المشتمل على قتال المشركين والمؤمنين. ولفظ الإحساس عام (¬1) يستعمل في الرؤية والمشاهدة الظاهرة، أو الباطنة، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (¬2)، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬3). ومعلوم أن الخلق كلهم ولدوا على الفطرة (¬4)، ومن المعلوم بالفطرة أن ما لا يمكن إحساسه -لا باطنًا ولا ظاهرًا- لا وجود له، ¬
التجهم والرفض من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام
والعقل هو [الذي] (¬1) ضبط القدر المشترك الكلي الذي بين أفراد الموجودات التي أحسها، والكلي لا (¬2) وجود له كليًّا، إلَّا في الأذهان لا في الأعيان، فهذه المقدمة الفطرية هي التي عليها أهل الإيمان، ومن كان باقيًا على الفطرة فيها من المشرفين واليهود والنصارى والصابئين وغيرهم. كما أن أهل الفطر كلها متفقون على الإقرار بالصانع، وأنه فوق العالم، وأنهم حين دعائه يتوجهون إلى فوق بقلوبهم وعيونهم وأيديهم. ولما كان أصل قول جهم هو قول المبدلين من الصابئية (¬3)، وهؤلاء شر من اليهود والنصارى، وإن كانوا خيرًا من المشركين، كالذين ناظرهم جهم ونحوهم ممن يعطل وجود الصانع، أو يوجب عبادة إله معه، فإن هؤلاء الصابئية (3) ليسوا كذلك، لكنهم وإن لم يوجبوا الشرك فقد لا يحرمونه، بل يسوغون التوحيد والإشراك جميعًا، ولا ينكرون هذا ولا هذا، كما هو موجود في كلامهم ومصنفاتهم، لكن ليس النَّاس في التجهم على مرتبة واحدة، بل انقسامهم في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع (¬4)، فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع، أو من أعظم البدع ¬
التي أحدثت في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة (¬1) المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم، إنَّما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع. قال (¬2) الإمام أبو عبد الله البُخاريّ في كتاب خلق الأفعال: عن أبي عبيد (¬3) "قال: ما أبالي أصليت (¬4) خلف الجهمي أو الرافضي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني (¬5)، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم. قال (¬6): وقال عبد الرحمن بن مهدي (¬7). . . . . . . . . . . . . . ¬
هما ملتان: الجهمية والرافضة. هذا وقد (¬1) كان أمرهم إذ ذاك لم ينتشر ويتفرع ويظهر فساده، كما ظهر فيما بعد ذلك، فإن الرافضة القدماء لم يكونوا جهمية، بل كانوا مثبتة للصفات، وغالبهم يصرح بلفظ الجسم، وغير ذلك. كما (¬2) قد ذكر النَّاس مقالاتهم، كما ذكره (¬3) أبو الحسن الأشعري وغيره في كتاب المقالات (¬4). والجهمية لم يكونوا رافضة، بل كان الاعتزال فاشيًا فيهم، والمعتزلة كانوا ضد الرافضة، وهم إلى النصب أقرب، فإن الاعتزال ¬
حدث من البصرة، والرفض حدث من الكوفيين، والتشيع أكثر في الكوفة وأهل البصرة كانوا بالضد، فلما كان بعد زمن (¬1) البُخاريّ من عهد بني بويه (¬2) الديلمي (¬3)، فنشأ في الرافضة التجهم، وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورًا كثيرًا، وجرى (¬4) حوادث عظيمة، والقرامطة بنوا أمرهم على شيء من دين المجوس، وشيء من دين الصابئية (¬5)، فأخذوا عن هؤلاء الأصليين النور والظلمة (¬6)، وعن هؤلاء العقل والنفس، ورتبوا لهم دينًا آخر ليس هو هذا ولا هذا، وجعلوا على ظاهره من سيما الرافضة ما يظن الجهال به أنهم رافضة، وإنَّما هم زنادقة منافقون، اختاروا ذلك لأنَّ الجهل والهوى في الرافضة أكثر منه في سائر أهل الأهواء (¬7). ¬
الشيعة ثلاث درجات
والشيعة (¬1) هم ثلاث درجات: شرها الغالية (¬2): الذين جعلوا (¬3) لعلي شيئًا من الإلهية، أو يصفونه بالنبوة، وكفر هؤلاء بين لكل مسلم يعرف الإسلام، وكفرهم من جنس كفر النصارى من هذا الوجه، وهم يشبهون اليهود من وجوه أخر (¬4). ¬
والدرجة الثَّانية، وهم الرافضة، المعروفون كالإمامية (¬1) وغيرهم: الذين يعتقدون أن عليًّا هو الإمام الحق بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنص جلي أو خفي، وأنه ظلم (ومنع) (¬2) حقه، ويبغضون أبا بكر وعمر، ويشتمونهما، وهذا عند (¬3) الأئمة فيما الرافضة، وهو بغض أبي بكر وعمر وسبهما. والدرجة الثالثة: المفضِّلة من الزيدية (¬4) وغيرهم: الذين يفضلون عليًّا على (أبي) (¬5) بكر وعمر، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهما، فهذه الدرجة -وإن كانت باطلة- فقد نسب إليها طوائف من أهل الفقه والعبادة، وليس أهلها قريبًا ممن قبلهم، بل هم إلى أهل السنة أقرب منهم إلى الرافضة، لأنهم ينازعون الرافضة في إمامة الشيخين وعدلهما وموالاتهما، وينازعون أهل السنة في فضلهما على علي، والنزاع الأول أعظم، ولكنهم (¬6) هم المرقاة (¬7) التي تصعد منه الرافضة فهم لهم باب. ¬
الجهمة ثلاث درجات، شرها الغالية
وكذلك (¬1) الجهمية على ثلاث درجات: فشرها الغالية (¬2): الذين ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى، قالوا: هو مجاز فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا تكلم (¬3) ولا يتكلم، وكذلك وصف العلماء حقيقة قولهم كما ذكره الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية (¬4): قال (¬5): فعند ذلك تبيّن للناس أنهم لا يثبتون شيئًا، ولكنهم (¬6) يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في (¬7) العلانية، فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق، هو مجهول لا يعرف بصفة؟ ¬
ذكر أبو الحسن الأشعري لحقيقة قول الجهمية
قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا، إنَّما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون (¬1). فقلنا لهم: هذا الذي [يدبر] (¬2) هو الذي كلم موسى. قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم، لأنَّ الكلام لا يكون إلّا بجارحة والجوارح عن الله (¬3) منتفية (¬4)، وإذا (¬5) سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد النَّاس تعظيمًا لله، ولا يعلم أنهم إنَّما يعود (¬6) قولهم إلى ضلالة (¬7) وكفر. وقال (¬8) أبو الحسن الأشعري في كتاب "الإبانة" (¬9) باب الرد على الزنادقة (¬10) الجهمية، في نفيهم علم الله وقدرته (¬11)، قال الله عزَّ وجلَّ: ¬
{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬1)، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ} (¬2) وقال سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (¬3) وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه، وقال سبحانه: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} (¬4) وذكر تعالى القوة، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬5) وقال: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬6) وقال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (¬7). وزعمت الجهمية والقدرية (¬8) أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ¬
ولا سمع ولا بصر (¬1)، وأرادوا أن [ينفو] (¬2) أن الله عالم قادر [حي] (¬3) سميع بصير، فمنعهم خوف (¬4) السيف من إظهار نفي ذلك، فأتوا بمعناه لأنهم [إذا] (¬5) قالوا: لا علم ولا قدرة لله (¬6)، فقد قالوا: إنه ليس بعالم ولا قادر، ووجب ذلك عليهم. قال (¬7): وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأنَّ الزنادقة قال كثير منهم: ليس (¬8) بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك، فاتت بمعناه، وقالت: إن الله عز وجل عالم قادر حي سميع بصير من طريق التّسمية، من غير أن تثبت (¬9) له علمًا أو قدرة أو سمعًا أو بصرًا (¬10). وكذلك [قال] (¬11) في كتاب "المقالات" (¬12): الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين، الذين نفوا ¬
صفات رب العالمين، وقالوا (¬1): إن الله -جل ثناؤه وتقدست أسماؤه- لا صفات له، وإنه (¬2) لا علم له، ولا قدرة [له] (¬3)، ولا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا عزة (¬4) له، ولا جلال له، ولا عظمة له، ولا كبرياء له، وكذلك قالوا في [سائر] (¬5) صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه (¬6). "قال" (¬7): وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة، الذين يزعمون أن للعالم صانعًا لم يزل، ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قدير (¬8)، وعبروا عنه بأنَّ قالوا نقول: عين (¬9) لم يزل، ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات، لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه فنفوا (¬10) أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر، ولولا الخوف لأظهروا ما كانت (¬11) الفلاسفة تظهره [من ذلك] (¬12) ¬
الدرجة الثانية من التجهم، تجهم المعتزلة ونحوهم
ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك. "قال" (¬1): وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الإيادي (¬2)، كان ينتحل قولهم، فزعم أن الباري عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة. وهذا القول الذي هو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئية الفلاسفة. والدرجة الثَّانية من التجهم: هو تجهم المعتزلة ونحوهم الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، لكن ينفون صفاته، وهم -أيضًا- لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيرًا منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون. وأمَّا الدرجة الثالثة: فهم (¬3) الصفاتية المثبتون (¬4) المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية، أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث، كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار -أيضًا- في الجملة، لكن مع نفي لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث ¬
النزاع في مسألة الحرف والصوت
والتصوف، وهؤلاء (¬1) إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعًا عظيمًا فيما يثبتونه من الصفات وأعظم من منازعتهم سائر أهل الإثبات فيما ينفون. وأمَّا "المتأخرون" (¬2) فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر، وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوليهم، ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته، وأكثر النَّاس يقولون: إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات. وفي (¬3) هذه الدرجة حصل النزاع في مسألة الحرف والصوت، والمعنى القائم بالنفس، وذلك [أن الجهمية] (¬4) لما أحدث (¬5) القول بأنَّ القرآن مخلوق، ومعناه أن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلًا، بل حقيقته أن الله لم يتكلم ولا يتكلم (¬6)، كما أفصح به رأسهم الأول الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، لأنَّ الخلة إنَّما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئًا في الحقيقة ولا يحبه [شيء] (¬7) في الحقيقة، فلا يتخذ شيئًا خليلًا، وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرَّبُّ تعالى. ¬
الجهمية من المعتزلة وغيرهم نفوا أن يكون لله كلام قائم به أو إرادة قائمة به
وكذلك نفت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام (¬1) قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة أن المتكلم يكون متكلمًا بكلام يكون (¬2) في غيره، وقالوا -أيضًا- يكون مريدًا بإرادة ليست فيه ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير المرادات (¬3) المخلوقة، وغير الأمر هو الصوت المخلوق في غيره. فكان حقيقة قولهم: التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقتها الرسل، وهذا حال الزنادقة، المنافقين، من الصابئين والمشركين، من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم فيما أخبرت به الرسل في باب الإيمان بالله [واليوم الآخر] (¬4) والملائكة والكتاب والنبيين، بل وفيما أمرت (¬5) به -أيضًا- وهم مع ذلك يقرون بكثير ممَّا (¬6) أخبرت به الرسل وتعظيم أقدارهم، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. لكن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن كلام الله هو ما يفيض على نفوس الأنبياء الصافية القدسية من العقل الفعال (¬7). . . . . . . . . . . . . . ¬
الذي (¬1) يزعمون أنَّه الروح المفارق للأجسام، الذي هو العقل العاشر كفلك القمر، ويزعمون (¬2) أنَّه الذي يفيض منه ما في هذا العالم من الصور والأعراض، ويزعم من يزعم من منافقيهم الذين يحاولون (¬3) الجمع بين النبوة وبين قولهم بأنَّ ذلك هو جبرائيل (¬4). ويقولون: إن تلك المعاني التي تفيض على نفس النَّبيِّ والحروف التي تتشكل في نفسه هي كلام الله، كما يزعمون أن ما يتصور في نفسه من ¬
حقيقة قولهم إن الكلام إنشاء الرسول وكلامه
الصور النورانية هي ملائكة الله، فلا وجود لكلام الله عندهم خارجًا عن نفس النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وكذلك الملائكة غير العقول العشرة والنفوس التسعة التي هم (¬2) متنازعون (¬3) فيها، هل هي جواهر أو أعراض؟ إنَّما الملائكة ما يوجد في [النفوس و] (¬4) الأبدان من القوى الصالحة، والمعارف والإرادات الصالحة ونحو ذلك. وحقيقة ذلك أن القرآن إنشاء الرسول وكلامه، كما قال ذلك فيلسوف (¬5) قريش وطاغوتها الوحيد: الوليد بن المغيرة (¬6)، الذي قال الله فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ ¬
قول المعتزلة تبديل للحقيقة التي فطر الله عليها عباده واللغة التي اتفق عليها بنو آدم والكتب التي أنزلها الله
صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)} (¬1) إلى قوله: {إِنْ هَذَا إلا قَوْلُ الْبَشَرِ} (¬2). وهذا قول وقع فيه طوائف من متأخري غالية المتكلمة والمتصوفة، الذين ضلوا بكلام المتفلسفة، فوقعوا فيما ينافي أصلي الإسلام: شهادة أن لا إله إلّا الله، وأن محمدًا رسول الله، بما وقعوا فيه من الإشراك، وجحود حقيقة الرسالة، فهذا قول من قاله (¬3) من غالية الجهمية. وأمَّا (¬4) الجهمية المشهورون من المعتزلة ونحوهم فقالوا: إنه يخلق كلامًا في غيره، إما في الهواء، وإما بين ورق الشجرة التي كم منها موسى، وإما غير ذلك، فذلك هو كلام الله عندهم، وإذا قالوا: إن الله متكلم حقيقة، وأن له كلامًا حقيقة، فهذا معناه عندهم. وهذا (¬5) تبديل للحقيقة التي فطر الله عليها عباده، واللغة التي اتفق (¬6) عليها بنو آدم، والكتب التي أنزلها الله من السماء، ولما كان من المعلوم بالفطرة الضرورية التي اتفق عليها بنو آدم إلّا من اجتالت (¬7) ¬
رد الأئمة على من قال: إن القرآن مخلوق
الشياطين فطرته أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام، ويتصف به، كذلك المحب والمريد ومن تقوم به المحبة والإرادة، كما أن العليم (¬1) [والقدير] (¬2) من يقوم به العلم والقدرة، وقد قالوا: إنه (¬3) ليس لله كلام إلّا ما يكون قائمًا بغيره كالشجرة، لزم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بالكلام الذي خاطب الله به موسى، ولهذا قال (¬4) عبد الله بن المبارك: "من قال: إنني أنا الله لا إله إلّا أنا: مخلوق، فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك". لأنَّ حقيقة قولهم: إن المخلوق هو القائل لذلك. وكذلك قال (¬5) يحيى بن سعيد القطان (¬6)، وذكر له أن قومًا يقولون: "القرآن مخلوق، فقال: كيف يصنعون (¬7) بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ ¬
أَحَدٌ} (¬1)؟ كيف يصنعون (¬2) يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا} (¬3)؟ ". وقال (¬4) سليمان بن داود الهاشمي (¬5): "من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقًا -كما زعموا- فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النَّار، إذ قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (¬6) [وزعموا أن هذا مخلوق، والذي قال:] (¬7) {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬8) هذا (¬9) -أيضًا- قد (¬10) ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى بأنَّ يخلد في النَّار من هذا؟ وكلاهما (¬11) عنده مخلوق". فأخبر بذلك أبو عبيد (¬12) فاستحسنه (¬13). ¬
قال البُخاريّ (¬1): وقال علي بن عاصم (¬2): الذين قالوا: إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا: إن الله لا يتكلم. وقال (¬3): احذر من (¬4) المريسي وأصحابه، فإن كلامهم يستجلب (¬5) الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم جهمًا (¬6) فلم يثبت أن في السماء إلهًا. قال البُخاريّ (¬7): وقال عبد الرحمن بن عفَّان (¬8): سمعت سفيان بن عيينة يقول: في السنة التي ضرب فيها المريسي، فقام ابن عيينة من مجلسه مغضبًا فقال: ويحكم القرآن كلام الله، وقد صحبت ¬
النَّاس وأدركتهم، هذا عمرو بن دينار (¬1)، وهذا ابن المنكدر (¬2) [حتَّى] (¬3) ذكر منصورًا (¬4)، والأعمش (¬5)، ومسعر بن كدام (¬6)، فقال ¬
كلام الذراع للنبي، وتسليم الحجر عليه
ابن عيينة: قد تكلموا في الاعتزال والرفض والقدر، وأمرونا (¬1) باجتناب القوم، فما نعرف القرآن إلّا كلام الله فمن (¬2) قال غير هذا فعليه لعنة الله، ما أشبه هذا القول بقول النصارى، لا (¬3) تجالسوهم ولا تسمعوا كلامهم. قال البُخاريّ (¬4): حدثني الحكم بن محمد الطبري (¬5)، حدَّثنا سفيان بن عيينة قال: أدركت مشائخنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون (¬6): القرآن كلام الله وليس بمخلوق. وكذلك -أيضًا- فالله تعالى قد خلق كلامًا في غيره، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬7) ومن ذلك كلام الذراع (¬8) للنبي - صَلَّى الله عليه وسلم - وتسليم. . . . . . . . . . . ¬
العصر (¬1) عليه، وغير ذلك ممَّا (¬2) يطول، ومعلوم أن ذلك ليس كلام الله، لا سيما من علم أن الله خالق كل شيء، وهو خالق أفعال العباد من كلامهم وحركاتهم وغير ذلك، فكل ذلك يجب أن يكون كلامًا لله، إن ¬
كان ما خلقه من الكلام في غيره يكون كلامًا له، وهذا ممَّا يعلم فساده بالضرورة ويوجب أن يكون الكفر والكذب، وقول الشَّاةِ: إنِّي مسمومة فلا تأكلني (¬1)، وقول البقرة: إنا لم نخلق لهذا، إنَّما خلقنا للحرث (¬2)، وشهادة الجلود والأيدي والأرجل كلام الله، ولا (¬3) يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره. وأيضًا فقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (¬4) فأخبر أنَّه (¬5) ليس لأحد من البشر أن يكلمه الله إلَّا على هذه الوجوه الثلاثة، فلو (¬6) كان تكليمه ليس هو نفسه المتكلم به، ولا هو قائم به، بل هو بأن يخلق كلامًا في شجرة، أو نحوها من المخلوقات، لم يكن لاشتراط هذه الوجوه ¬
معنى، لأنَّ (¬1) ما يقوم بالمخلوقات يسمعه كل أحد كما يسمعون ما يحدثه في الجمادات من الإنطاق، كما سمعوا ما يحدثه في الأحياء من الإنطاق، ولأنه فرق بين الوحي وبين التكليم من وراء حجاب، فلو كان كلامه هو ما يخلق في غيره من غير أن يقوم به كلام لم يحصل الفرق، ولأنه فرق بين ذلك وبين أن يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء، فلو كان ذلك الرسول لم يسمع إلَّا ما خلق في بعض المخلوقات لكان هذا من جنس ما يخلق فيسمعه البشر، وحينئذ فيكون كلاهما من وراء حجاب، فلا يكون الله مكلمًا للملائكة -قط- إلَّا من وراء حجاب. وقوله: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} هو دليل على أنَّه قد يكلم من شاء بلا حجاب، كما استفاضت بذلك السنن (¬2) عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها من بقايا التّابعين وأتباعهم، وصاروا يظهرون أعظم المقالات شبهة كقولهم: القرآن ¬
مخلوق، لأنهم يشبهون بهذا على العامة ما لا يشبهونه بغيرهم، إذ يقول القائل: كل ما سوى الله مخلوق، ولأن نقيض هذا اللفظ ليس مشهورًا كشهرة أحاديث الرؤية والعرش وغير ذلك، ومع هذا فكان إنكار السلف والأئمة لذلك من أعظم الإنكار، دع ما هو أظهر فسادًا. قال الإمام الحافظ أبو القاسم الطبري (¬1) اللالكائي- وقد ذكر أقوال السلف والأئمة بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وما ورد عنهم من تكفير من يقول ذلك، ثم قال (¬2): (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسًا (¬3) وأكثر من التّابعين وأتباع التّابعين والأئمة المرضيين سوى الصّحابة الخيرين (¬4) على اختلاف الأمصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا (¬5) بمذهبهم). قال: (ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفًا كثيرة، لكني (¬6) اختصرت فنقلت (¬7) عن هؤلاء عصرًا بعد عصر لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه (أو) (¬8) أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه). قال: (ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق ¬
الجعد (¬1) بن درهم في سني نيف وعشرين (¬2)، ثم الجهم (¬3) بن صفوان. فأمَّا جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري (¬4)، وأما جهم فقتل بمرو في خلافة هشام بن عبد الملك (¬5)، وسأذكر قصتهما (¬6) إن شاء الله تعالى. * * * ¬
(فصل) ما حفظ عن أئمة الصحابة حجة على من يزعم أن أقوال الأئمة بدون الصحابة ليس بحجة
فصل ومع هذا فقد حفظ عن أئمة الصّحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس هذا القول، وفي ذلك حجة على من يزعم أن أقوال هؤلاء الأئمة بدون الصّحابة ليس بحجة. فروى اللالكائي (¬1) من طريقين: من طريق محمد بن المصفى (¬2)، ومن طريق الفضل بن عبد الله الفارسي (¬3) كلاهما عن عمرو بن جميع أبي المنذر (¬4) عن ميمون بن مهران (¬5) عن ابن عباس قال: لما حكَّم علي الحكمين قالت له الخوارج: حكَّمت رجلين، قال: ما حكَّمت مخلوقًا إنَّما حكَّمت القرآن. ¬
ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم (¬1) بإسناد آخر إلى علي، وقال: ثنا محمد بن حجاج الحضرمي المصري (¬2)، ثنا [معلى (¬3) بن عبد العزيز، ثنا عتبة بن السكن الفزازي (¬4)، ثنا] (¬5) الفرج بن يزيد ¬
الكلاعي (¬1)، قال: قالوا لعلي يوم صفين: حكمت كافرًا ومنافقًا؟ قال: ما حكمت مخلوقًا، ما حكمت إلَّا القرآن. وهذا السياق يبطل تأويل من يفسر كلام السلف بأنَّ المخلوق هو المفترى المكذوب، والقرآن غير مفترى ولا مكذوب، فإنهم لما قالوا: حكمت مخلوقًا، إنَّما أرادوا مربوبًا مصنوعًا خلقه الله، لم يريدوا مكذوبًا فقوله: "ما حكمت مخلوقًا" نفي ما (¬2) ادعوه، وقوله: "ما حكمت إلَّا القرآن" نفي لهذا الخلق عنه. وقد روي ذلك عن علي من طريق ثالث (¬3). وأمَّا قول (¬4) ابن مسعود، فمن المحفوظ الثابت عنه (¬5) الذي رواه ¬
النَّاس من وجوه كثيرة صحيحة من حديث يَحْيَى بن سعيد القطان وغيره عن سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن مرَّة (¬1) [عن أبي كنف] (¬2) قال: قال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكلِّ آية يمين، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم (¬3)، فقال: قال (¬4) عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكلِّ آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع (¬5). ¬
وروى (¬1) محمد بن هارون الروياني (¬2) ثنا أبو الرَّبيع (¬3)، ثنا أبو عوانة (¬4) عن أبي سنان (¬5) عن عبد الله بن أبي الهذيل (¬6) عن حنظلة بن ¬
لا نزاع بين الأمة أن المخلوقات لا يجب في الحلف بها يمين إلا ما نازع فيه بعض من الحلف برسول الله -عليه السلام-
خويلد العنزي (¬1) قال: أخذ عبد الله بيدي، فلما أشرفنا على السد (¬2) إذ نظر إلى السوق فقال (¬3): اللَّهم إنِّي أسألك خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن أو (¬4) آية، قال: فغمزني (¬5) عبد الله بيدي ثم قال: أتراه مكفرًا؟ أم أن كل آية فيها يمين (¬6). ولا نزاع (¬7) بين الأمة أن المخلوقات لا يجب في الحلف بها بيمين كالكعبة وغيرها، إلّا ما نازع فيه بعضهم من الحلف برسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لكون الإيمان به أحد ركني الإيمان (¬8). ¬
هل تتداخل الأيمان إذا كان المحلوف عليه واحدا؟ فيه قولان للعلماء
وقوله: عليه بكلِّ آية يمين، قد اتبعه (¬1) الأمة وعملوا به، كالإمام أحمد وإسحاق وغيرهما، لكن هل تتداخل (¬2) الأيمان إذا كان ¬
المحلوف (¬1) عليه واحدًا؟ كما لو حلف بالله لا يفعل، ثم حلف بالله لا يفعل، هذا فيه قولان للعلماء: هما روايتان عن أحمد (¬2)، وأمَّا قول ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬3): فقال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثني أبي ثنا ابن صالح بن جابر الأنماطي (¬4)، ثنا علي بن عاصم [قال أبي: ¬
وحدثني الصهيبي علي بن عمر بن عاصم (¬1) عن علي بن عاصم] (¬2) عن عمران بن حدير (¬3) عن عكرمة (¬4) قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللَّهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه (¬5) القرآن منه. زاد الصهيبي في حديثه فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود. فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثَّانية أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب ما أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور، وجرت المحنة (¬6) ¬
المشهورة: وكان أئمة الهدى على ما جاءت به الرسل عن الله من أن ¬
المستقر في فطر الناس وعقولهم ولغاتهم أن المتكلم بالكلام لابد أن يقوم به الكلام
القرآن كلام الله تكلم به هو سبحانه، وهو منه قائم (¬1) به، وما كان كذلك لم يكن مخلوقًا، إنَّما المخلوق ما (¬2) يخلقه من الأعيان المحدثة وصفاتها، وكثير منهم يرد قول الجهمية بإطلاق القول: بأنَّ القرآن كلام الله، لأنَّ حقيقة قولهم: إنه ليس كلامه، ولا تكلم، ولا يتكلم به ولا بغيره، فإن المستقر في فطر النَّاس وعقولهم ولغاتهم، أن المتكلم بالكلام لا بد أن يقوم به الكلام، فلا يكون متكلمًا بشيء لم يقم (¬3) به، بل هو قائم بغيره (¬4)، كما لا يكون عالمًا بعلم قائمًا بغيره ولا حيًّا (¬5) بحياة قائمة بغيره، ولا مريدًا (¬6) بإرادة قائمة بغيره، ولا محبًا ومبغضًا (¬7) ولا راضيًا وساخطًا بحب وبغض ورضى وسخط قائم بغيره، ولا متألمًا ولا متنعمًا وفرحًا وضاحكًا بتألم وتنعم وفرح وضحك قائم بغيره، فكل ذلك عند النَّاس من العلوم الضرورية البدهية (¬8) الفطرية التي لا ينازعهم فيها إلّا من أحيلت فطرته، وكذلك عندهم لا يكون آمرًا (¬9) وناهيًا بأمر ونهي لا يقوم به بل يقوم بغيره، ولا يكون مخبرًا ومحدثًا ومنبئًا (¬10) بخبر ¬
وحديث ونبأ لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون حامدًا وذامًا ومادحًا ومثنيًا بحمد وذم ومدح وثناء لا يقوم به بل بغيره، [ولا يكون مناجيًا ومناديًا وداعيًا بنجاء ودعاء ونداء لا يقوم به بل لا يقوم إلّا بغيره] (¬1)، ولا يكون واعدًا وموعدًا بوعد ووعيد لا يقوم به بل (¬2) لا يقوم إلّا بغيره، ولا يكون مصدقًا ومكذبًا بتصديق وتكذيب لا يقوم به بل لا يقوم إلّا بغيره، ولا يكون حالفًا ومقسمًا وموليًا بحلف وقسم ويمين لا يقوم به ولا يقوم إلّا بغيره، بل من أظهر العلوم الفطرية الضرورية التي علمها (¬3) بنو آدم وجوب قيام هذه الأمور بالموصوف (¬4) بها وامتناع أنَّها لا تقوم به، بل لا تقوم (¬5) إلّا بغيره، فمن قال: إن الحمد والثناء [والأمر] (¬6) والنهي والنبأ والخبر والوعد والوعيد والحلف واليمين والمناداة والمناجاة وسائر ما يسمى ويوصف به أنواع الكلام، يمتنع أن تكون (¬7) قائمة بالآمر الناهي والمناجي المنادي المنبيء المخبر الواعد (¬8) المتواعد الحامد المثني الذي هو الله تعالى، ويجب أن تكون قائمة بغيره، فقد خالف الفطرة الضرورية المتفق عليها بين الآدميين، وبدل لغات الخلق أجمعين، ثم مع مخالفته للمعقولات واللغات فقد كذب المرسلين أجمعين، ونسبهم إلى غاية التدليس والتلبيس على المخاطبين، لأنَّ الرسل أجمعين أخبروا أن الله أمر ونهى وقال ويقول، وقد علم بالاضطرار أن مقصودهم أن الله هو نفسه ¬
زعمت الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن المتكلم في اللغة من فعل الكلام وإن كان قائما بغيره
الذي أمر ونهى وقال، لا أن (¬1) ذلك شيء لم يقم به بل خلقه في غيره، ثم لو كان مقصودهم ذلك فمعلوم أن هذا ليس هو المعروف من الخطاب ولا المفهوم منه، لا عند الخاصة ولا عند العامة، بل المعروف المعلوم أن يكون الكلام قائمًا بالمتكلم، فلو أرادوا بكلامه وقوله: إنه (¬2) خلق في بعض المخلوقات كلامًا لكانوا قد أضلوا الخلق -على زعم الجهمية- ولبسوا عليهم غاية التلبيس، وأرادوا باللفظ ما لم يدلوا الخلق عليه، والله تعالى قد أخبر أن الرسل قد (¬3) بلغت البلاغ المبين، فمن نسبهم إلى هذا فقد كفر بالله ورسله، وهذا قول (¬4) الزنادقة المنافقين الذين هم (¬5) أصل الجهمية، الذين يصفون الرسل بذلك من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم، بل كون المتكلم الآمر الناهي لا يوصف بذلك إلّا لقيام الكلام بغيره (¬6) مع امتناع قيامه به، أمر لا يعرف في اللغة، لا حقيقة ولا مجازًا. وزعمت الجهمية الملحدة في أسماء الله وآياته، المحرفة للكلم عن مواضعه، المبدلة لدين الله من المعتزلة ونحوهم، أن المتكلم في اللغة من فعل الكلام، وإن كان قائمًا بغيره كالجني المتكلم على لسان الإنسي المصروع، فإنَّه هو المتكلم بما يسمع من المصروع، لأنَّه فعل ذلك وإن كان الكلام لم يقم إلّا بالإنسي دون الجني وهذا من التمويه (¬7) والتدليس. ¬
فأمَّا قولهم: المتكلّم مَنْ فعل الكلام، فقد نازعهم فيه طائفة من الصفاتية (¬1) وقالوا: بل المتكلم من قام به الكلام وإن لم يفعله كما يقوله الكلابية (¬2) والأشعرية (¬3)، وبين الفريقين في ذلك نزاع طويل (¬4). وأمَّا السلف والأئمة وأكثر النَّاس فلم ينازعوهم هذا النزاع، بل قالوا: الكلام وإن قيل: إنه فعل للمتكلم، فلا بد أن يكون قائمًا به، فلا يكون الكلام كلامًا لمتكلم يمتنع أن يقوم به الكلام، وجميع المسموع من اللغات والمعلوم في فطرة البريات يوافق ذلك. وأمَّا تكلم الجني على لسان الإنسي فلا بد أن يقوم بالجني كلام، ولكن تحريكه مع ذلك لجوارح الإنسي يشبه تحريك روح الإنسي لجوارحه بكلامه، ويشبه تحريك الإنسان بكلامه وحركته وتصويته كما يصوت بقصبة (¬5) ونحوها، مع أنَّه في ذلك كله قد قام به من الفعل ما يصح به نسبته (¬6) ذلك إليه. وقولهم: المتكلم من فعل الكلام وإن كان قائمًا بغيره: كلام ¬
من بدع الجهمية قول من يقول: الخلق لا يكون إلا بمعنى المخلوق
متناقض، فإن الفعل -أيضًا- لا يقوم بغير الفاعل، وإنَّما الذي يقوم بغيره هو المفعول. وإما قول من يقول: إن الخلق لا يكون إلّا بمعنى المخلوق، فهو من بدع الجهمية، وعامة أهل الإسلام على خلاف هذا، وكذلك قال الأئمة مثل ما ذكره الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال (¬1): ففيما (¬2) يسأل عنه الجهمي (¬3) يقال له: تجد في كتاب الله أنَّه يخبر عن القرآن أنَّه مخلوق؟ فلم (¬4) يجد فيقال له: فلم (¬5) قلت؟ فيقول (¬6) من قول الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬7). وزعم أن كل مجعول مخلوق (¬8)، فادعى كلمة من الكلام المتشابه، يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها ويبتغي الفتنة في ¬
تأويلها (¬1)، وذلك أن جعل في القرآن من المخلوقين على وجهين على معنى التسمية (¬2)، وعلى معنى فعل من أفعالهم [و] (¬3) قوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (¬4) قالوا: هو شعر وأنباء (¬5) الأولين وأضغاث أحلام، فهذا على معنى تسميته (¬6) وقال (¬7): {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (¬8) [يعني: أنهم سموهم إناثًا] (¬9). ثم ذكر جعل على غير معنى التسمية (¬10)، فقال: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (¬11) فهذا على معنى (¬12) فعل من أفعالهم، وقال: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} (¬13) هذا على معنى فعل، هذا جعل المخلوقين. (¬14) ثم ذكر جعل من الله على معنى (خلق) وجعل على غير معنى ¬
(خلق)، والذي قال الله جل جلاله (جعل) على معنى (خلق) لا يكون إلّا خلقًا ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عنه (¬1) المعنى. فممّا (¬2) قال الله (جعل) على معنى (خلق)، قوله (¬3) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬4) [يعني: خلق الظلمات والنور] (¬5)، [وقال] (¬6): {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} (¬7) يقول: خلقنا الليل والنهار آيتين، وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (¬8) وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (¬9) يقول: خلق منها زوجها، خلق من آدم حوى، وقال: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} (¬10) ومثله في القرآن كثير، فهذا وما كان أمثاله (¬11) لا يكون (¬12) إلّا على معنى خلق. وقوله {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} (¬13) لا يعني ما خلق الله من بحيرة، وقال الله لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (¬14) لا يعني إني خالقك ¬
للناس إمامًا، لأن خلق إبراهيم كان متقدمًا، قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (¬1)، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} (¬2) لا يعني أخلقني (¬3) مقيم الصلاة، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} (¬4) لا يعني يريد الله ألا يخلق لهم حظًّا في الآخرة، وقال لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬5) لا يعني وخالقوه من المرسلين، لأن الله تعالى وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعد ذلك مرسلًا، وقال: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} (¬6) لا يعني فيخلقه في جهنم، وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬7). وقال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (¬8) لا يعني خلقه دكًّا ومثله في القرآن كثير. فهذا (¬9) وما كان على مثاله لا يكون على معنى خلق، فإذا قال تعالى (جعل) على معنى (خلق)، وقال (جعل) على معنى غير (¬10) (خلق) فبأي حجة قال الجهمي: (جعل) على معنى الخلق؟، فإن رد ¬
ما قاله البخاري
[الجهمي] (¬1) الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه، وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون، فلما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬2) يقول: جعله جعلًا على معنى فعل من أفعال (¬3) الله غير معنى (¬4) خلق، وقال في سورة يوسف: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬5) وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬6) وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} (¬7) فلما جعل الله القرآن عربيًّا ويسره بلسان نبيه، كان ذلك فعلًا (¬8) من أفعال الله جعل به القرآن (¬9) عربيًّا، ففي (¬10) هذا بيان لمن أراد الله هداه. وقال البخاري في صحيحه (¬11): باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه (¬12) هو الخالق المكون (¬13) غير مخلوق، وما كان ¬
ما قاله الإمام أحمد في الرد على الجهمية - أيضا
بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون (¬1). وقال (¬2) الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الجهمية بيان ما أنكرت الجهمية أن (¬3) يكون الله كلم موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء: (قلنا لم (¬4) أنكرتم ذلك؟ قالوا: لأن (¬5) الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كوّن شيئًا فعبر عن الله، وخلق صوتًا فسمع، فزعموا (¬6) أن الكلام لا يكون إلّا من جوف وفم وشفتين ولسان (¬7)، فقلنا: فهل [يجوز] (¬8) لمكون أو لغير (¬9) الله أن يقول لموسى: {لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬10) و {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (¬11) فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان (¬12) كما زعم الجهمية أن الله كون شيئًا كان يقول ذلك المكون: {يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬13) لا (¬14) يجوز أن ¬
يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وقد قال الله جل ثناؤه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2) وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬3) وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬4) فهذا منصوص القرآن. قال (¬5): وأما (¬6) ما قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم (¬7) فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة (¬8) عن عدي بن حاتم الطائي (¬9). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس (¬1) بينه وبينه ترجمان" (¬2). قال: وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلّا من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله عزَّ وجلَّ قال للسموات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬3)، أترى (¬4) أنها قالت: بجوف وشفتين ولسان (¬5)؟، وقال الله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (¬6)، أتراها أنها سبحت بجوف وفم (¬7) ولسان وشفتين؟ والجوارح إذا شهدت على الكافر فقال (¬8): {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬9) أتراها ¬
نطقت (¬1) بجوف وشفتين (¬2) وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء [وكذلك الله تكلم كيف شاء] (¬3) من غير أن يقول [بـ] (¬4) فم ولسان وشفتين (¬5). قال: فلما خنقته الحجج قال (¬6): إن الله كلم موسى، إلا أن كلامه غيره، فقلنا: وغيره مخلوق؟ قال: نعم. قلنا (¬7): هذا مثل قولكم الأول، إلّا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم (¬8) بما تظهرون. وحديث الزهري (¬9) قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الكلام (¬10) الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، [وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك] (¬11)، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر ¬
من ذلك مت (¬1)، قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك، فقال (¬2): سبحان الله!! وهل أستطيع أن أصفه لكم. قالوا: فشبهه (¬3)، قال: أسمعتم (¬4) أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله (¬5). قال: وقلنا (¬6) للجهمية: من القائل لعيسى يوم القيامة {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬7) أليس الله هو القائل؟ قالوا: يُكَوِّن (¬8) الله شيئًا يعبر عن الله، كما كَوَّن [شيئًا فعبر] (¬9) لموسى. فقلنا (¬10): فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ¬
الْمُرْسَلِينَ} (¬1) أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما (¬2) يُكَون الله (¬3) شيئًا فيعبر عن الله، قلنا: قد أعظمتم على الله (¬4) الفرية حين (¬5) زعمتم أن الله لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول (¬6) من (¬7) مكان إلى مكان. فلما ظهرت عليه الحجة قال: أقول: إن الله قد (¬8) يتكلم ولكن كلامه مخلوق. قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق [فقد شبهتم الله -تبارك وتعالى- بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق] (¬9)، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم (¬10) كلامًا، فقد (¬11) جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى (¬12) الله عن هذه الصفة، بل نقول (¬13): إن الله -جل ثناؤه- لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلامًا (¬14)، ولا نقول: إنه قد ¬
كان لا يعلم حتى خلق علمًا فعلم، ولا نقول: إنه [قد] (¬1) كان ولا قدرة (¬2) حتى خلق لنفسه قدرة (¬3)، ولا نقول: إنه [قد] (¬4) كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة (¬5) حتى خلق لنفسه عظمة. فقالت الجهمية لنا (¬6): لما وصفنا من الله هذه الصفات (¬7): إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم (¬8) أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته. فقلنا (¬9): لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر (¬10) ولا كيف قدر؟. فقالوا (¬11): لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا: كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول: كان (¬12) الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته؟ وضربنا ¬
لهم مثلًا في (¬1) ذلك فقلنا لهم (¬2): أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع (¬3) وكرب وليف وسعف وخوص وجمار؟ واسمها اسم واحد، سميت (¬4) نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله -جل ثناؤه- وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة (¬5)، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول: إنه (¬6) قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق فعلم (¬7)، والذي لا يعلم فهو (¬8) جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله قادرًا عالمًا مالكًا (¬9) لا متى ولا كيف؟ وقد سمى الله رجلًا كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (¬10) وقد كان لهذا (¬11) الذي سماه الله (وحيدًا) عينان (¬12) وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان، وجوارح كثيرة، فقد سماه الله (وحيدًا) بجميع صفاته، فكذلك الله وله المثل الأعلى، هو بجميع صفاته إله واحد (¬13). ¬
ذكر الأشعري لاختلاف المعتزلة في أن الباري متكلم
وكذلك ذكر الأشعري في المقالات (¬1) اختلاف المعتزلة في أن الباري متكلم فقال: (اختلفت المعتزلة في ذلك، فمنهم من أثبت الباري متكلمًا، ومنهم من امتنع أن يثبت الباري متكلمًا، وقال: لو أثبته (¬2) متكلمًا لثبته (¬3) منفعلًا (¬4)، والقائل لهذا (¬5) الإسكافي (¬6) وعباد بن سليمان (¬7)). قلت: وأما نقل أبي الحسين البصري (¬8) اتفاق المسلمين على أن ¬
الباري متكلم، ونقل من أخذوا ذلك عنه كالرازي (¬1) وغيره فليس بمستقيم، فإن أبا الحسين كان يأخذ ما يذكره مشايخه البصريون وما نقلوه، وهؤلاء يوافقون [المسلمين على إطلاق القول بأن الله متكلم فيوافقون] (¬2) أهل الإيمان في اللفظ، وهم في المعنى قائلون بقول من نفى ذلك، فإذا ذكر الإجماع على هذا الإطلاق (¬3)، ظن المستمع ¬
ما ذكره أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة
لذلك (¬1) أن التنازع (¬2) في تفسير (¬3) اللفظ كالنزاع في تفسير (¬4) بعض آيات القرآن وليس كذلك، بل النفاة حقيقة قولهم نفي أن يكون الله متكلمًا كما يصرح بذلك من يصرح منهم، ولكن وافقوا المسلمين على إطلاق اللفظ، نفاقًا من زنادقتهم، وجهلًا من سائرهم. وهذا الذي بينه الإمام أحمد هو محض السنة وصريحها الذي كان عليه أئمتها، وقد خلصه تخليصًا لا يعرف قدره إلا خواص الأمة الذين يعرفون مزال أقدام الأذكياء الفضلاء في هذه المهمة الغبراء، حتى كثر بين الفرق من الخصومات والأهواء، وسائر الناس يقولون بذلك من وجه دون وجه. قال الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني (¬5): في كتاب السنة (¬6) قرأت كتاب شاكر عن أبي زرعة (¬7) قال: إن الذي عندنا أن القوم لم يزالوا ¬
تعليق الشيخ عليه
يعبدون خالقًا كاملًا بصفاته (¬1)، ومن زعم أن الله كان ولا علم ثم خلق علمًا فعلم بخلقه، أولم يكن متكلمًا فخلق كلامًا ثم تكلم به، أو لم يكن سميعًا بصيرًا ثم خلق سمعًا وبصرًا فقد نسبه إلى النقص، وقائل هذا كافر، ولم يزل الله كاملًا بصفاته لم يحدث فيه صفة ولا تزول عنه صفة قبل أن يخلق الخلق، وبعدما خلق الخلق كاملًا بصفاته، فمن وجه أن الرب -تبارك وتعالى- يتكلم كيف يتكلم بشفتين ولسان، وتبدو (¬2) لهواته (¬3) فهذه (¬4) السماوات والأرض قال لها (¬5): {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬6) أفهاهنا شفتان ولسان ولهوات؟ قلت: أبو زرعة الرازي كان يشبّه بأحمد بن حنبل، في حفظه وفقهه ودينه ومعرفته، وأحمد كان عظيم الثناء عليه وداعيًا له، وهذا المعنى الذي ذكره هو في كلام الإمام أحمد في مواضع، كما ذكره الخلال في كتاب السنة عن حنبل، وقد ذكره حنبل في كتبه مثل: كتاب السنة والمحنة (¬7) لحنبل. ¬
قول حنبل بن إسحاق
قال حنبل: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروي أن الله -تبارك وتعالى- ينزل إلى سماء الدنيا، وأن الله يرى، وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف؟ ولا معنى ولا نرد منها شيئًا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا (¬1) كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف (¬2) الله -تبارك وتعالى- بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء. وقال حنبل في موضع آخر، قال: ليس كمثله شيء في ذاته، كما (¬3) وصف به نفسه، وقد (¬4) أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة: ليس يشبهه شيء، فنعبد الله بصفاته، غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال الله -تبارك وتعالى-: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬5). ¬
قال حنبل في موضع آخر: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1) بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغه (¬2) الواصفون. وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين (¬3)، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته -بشناعة شنعت- (¬4) ووصفًا وصف به نفسه من كلام ونزول (¬5) وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضعه كنفه (¬6) عليه، هذا كله يدل على أن الله -تبارك وتعالى- يرى في الآخرة (¬7)، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد، إلّا بما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا عليمًا (¬8) غفورًا عالم الغيب والشهادة علام ¬
الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه لا ترد ولا تدفع (¬1)، وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬2) كيف شاء، المشيئة إليه -عزَّ وجلَّ- والاستطاعة له، ليس كمثله شيء، وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير، [وقال تعالى حكاية عنه] (¬3) قول إبراهيم لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} (¬4) فثبت أن الله سميع بصير، فصفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر بضحك الله (¬5)، ولا نعلم كيف ذلك إلّا بتصديق الرسول ¬
وتثبيت (¬1) القرآن، لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد، تعالى الله عما يقوله (¬2) الجهمية والمشبهة. قلت له: والمشبهة ما يقولون؟ قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي -وقال حنبل في موضع آخر: وقدم كقدمي- فقد شبه الله بخلقه، وهذا يحده، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، الكلام في هذا لا أحبه. قال عبد الله: جردوا القرآن (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يضع قدمه" (¬4) نؤمن به ولا نحده ولا نرده على ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل نؤمن به، قال الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1)، فقد أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- بالأخذ بما جاء، والنهي عما نهى، وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة، ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك، إنه على كل شيء قدير. قال الخلال: وزادني (¬2) أبو القاسم ابن (¬3) الجبلي (¬4) عن (¬5) حنبل في هذا الكلام، وقال تبارك وتعالى: {لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬6) {لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (¬7) هذه صفات الله عزَّ وجلَّ وأسماؤه تبارك وتعالى. وقد روى البخاري في صحيحه (¬8) عن سعيد بن جبير (¬9) عن ابن ¬
عباس قال: قال رجل (¬1) لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (¬2) {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬3)، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬4)، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬5) فقد كتموا في هذه الآية، وقال: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إلى قوله: {دَحَاهَا} (¬6)، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} إلى {طَائِعِينَ} (¬7)، فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء، وقال: وكان الله غفورًا رحيمًا، وكان الله (¬8) عزيزًا حكيمًا، وكان الله (4) سميعًا بصيرًا، فكأنه كان، ثم مضى. فقال: لا أنساب (¬9) في النفخة الأولى: ثم نفخ (¬10) في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم (¬11) عند ذلك ولا يتساءلون. ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. ¬
وأما قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬1) {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬2) فإن الله يغفر (¬3) لأهل الإخلاص ذنوبهم [و] (¬4) قال المشركون تعالوا نقول (¬5): لم نكن (¬6) مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف (¬7) أن الله لا يكتم حديثًا وعنده {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬8) الآية، وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحيها (¬9) أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال (¬10) والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فخلقت (¬11) الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السموات في يومين، وكان الله غفورًا رحيمًا، سمى نفسه بذلك (¬12)، وذلك قوله: إني (¬13) لم أزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئًا إلّا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلًّا من عند الله. هكذا رواه البخاري مختصرًا. ¬
ورواه البرقاني في صحيحه (¬1) من الطريق التي (¬2) أخرجها البخاري بعينها من طريق شيخ البخاري (¬3) بعينه بألفاظه التامة (¬4) أن ابن عباس جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، فقد وقع ذلك (¬5) في صدري، فقال ابن عباس: أتكذيب (¬6)؟ فقال الرجل: ¬
ما هو بتكذيب ولكن اختلاف، قال (¬1): فهلم ما وقع في نفسك، فقال له الرجل: أسمع الله يقول: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (¬2)، وقال في آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬3)، وقال في آية أخرى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬4)، وقال في آية أخرى {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬5)، فقد كتموا في هذه الآية، وفي قوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (¬6)، فذكر في هذه الآية خلق السماء قبل الأرض، وقال في الآية الأخرى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬7) وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬8) {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬9) {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬10) وكأنه كان ثم انقضى، فقال ابن عباس: هات ما في نفسك من هذا، فقال السائل: إذا أنبأتني بهذا ¬
فحسبي، قال ابن عباس: قوله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [فهذا في النفخة الأولى ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلّا من شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون] (¬1) ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬2) وقوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬3) فإن الله تعالى يغفر يوم القيامة (¬4) لأهل الإخلاص ذنوبهم لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركًا، فلما رأى (¬5) المشركون، قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك، تعالوا نقول: إنا كنا أهل ذنوب ولم نك (¬6) مشركين، فقال الله تعالى: أما إذا كتموا الشرك فأختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يكتم حديثًا فذلك قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬7). وأما قوله: {أمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬8) فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين يعني: ثم دحى الأرض، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشق فيها الأنهار وجعل ¬
فيها السبل، وخلق الجبال والرمال والآكام وما فيها، في يومين آخرين، فذلك قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬1)، وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (¬2) وجعلت السماوات (¬3) في يومين آخرين. وأما قوله {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬4) {غَفُورًا رَحِيمًا} (¬5) {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬6) فإن الله جعل نفسه ذلك، وسمى نفسه ذلك، ولم ينحله أحدًا (¬7) غيره، وكان الله، أي: لم يزل كذلك، ثم قال ابن عباس: احفظ عني ما حدثتك واعلم أن ما اختلف عليك من القرآن أشباه ما حدثتك، فإن الله لم ينزل شيئًا إلّا أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلًّا من عند الله. وهكذا رواه يعقوب بن سفيان (¬8) في. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ما ذكره أئمة السنة والحديث من أن الله لم يزل كاملا بصفاته لم تحدث له صفة
تاريخه (¬1) عن شيخ البخاري، كما رواه البرقاني، وإنما يختلفان في يسير من الأحرف (¬2). وما ذكره أئمة السنة والحديث متعين (¬3) لما جاء من الأثار من أنه سبحانه لم يزل كاملًا بصفاته، لم تحدث له صفة ولا تزول عنه صفة ليس هو بمخالف لقولهم: إنه ينزل كما يشاء (¬4)، ويجيء يوم القيامة كما يشاء (¬5)، وإنه استوى على العرش بعد أن خلق السموات، وأنه يتكلم إذا ¬
شاء، وأنه خلق آدم بيديه (¬1)، ونحو ذلك من الأفعال القائمة ¬
الكلامية يقولون: لم يزل الله متكلما بمشيئته القديمة
بذاته (¬1)، فإن الفعل الواحد من هذه الأفعال ليس مما يدخل في مطلق صفاته، ولكن كونه بحيث يفعل إذا شاء هو صفته، والفرق بين الصفة والفعل ظاهر، فإن تجدد الصفة أو زوالها يقتضي تغير الموصوف واستحالته، ويقتضي تجدد كمال له بعد نقص، أو تجدد نقص له بعد كمال، كما في صفات (¬2) الموجودات كلها إذا حدث للموصوف ما لم يكن عليه من الصفات، مثل ما تجدد العلم بما لم يكن يعلمه، والقدرة على ما لم يكن يقدر عليه، ونحو ذلك، أو زال (¬3) عنه ذلك بخلاف الفعل، وهكذا يقوله طوائف من أهل الكلام المخالفين للمعتزلة والذين هم أقرب إلى السنة منهم من المرجئة والكرامية وطوائف من الشيعة، كما نقلوه (¬4) عن الكرامية، الذين يقولون: إنه تحله الحوادث من القول والإرادة والاستماع (¬5) والنظر، ويقولون مع ذلك: لم يزل الله متكلمًا، ¬
ولم يزل بمشيئته القديمة، ولم يزل سميعًا بصيرًا، أجمعوا على أن هذه الحوادث لا توجب لله سبحانه وصفًا، ولا هي صفات له سبحانه، والذين ينازعون في هذا من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم، فيقولون: لو قام فعل حادث بذات (¬1) القديم لا تصف به وصار الحادث صفة له، إذ لا معنى لقيام المعاني واختصاصها بالذوات إلا (¬2) كونها صفات لها (¬3)، فلو قامت الحوادث من الأفعال والأقوال والإرادات بذات القديم لا تصف بها كما اتصف بالحياة والقدرة والعلم والمشيئة، ولو اتصف بها لتغير (¬4)، والتغير عليه ممتنع، وهذا نزاع لفظي، فإن تسميته هذا صفة وتغيرًا لا يوافقهم الأولون عليه، وليست اللغة -أيضًا- موافقة عليه، فإنها لا تسمي قيام الإنسان وقعوده تغيرًا له، ولا يطلق القول بأنه صفة له، وإن أطلق ذلك فالنزاع اللفظي لا يضر إلّا إذا خولفت ألفاظ الشريعة، وليس في الشريعة ما يخالف ذلك، ولكن هؤلاء كثيرًا ما يتنازعون في الألفاظ المجملة المتشابهة، قد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء. قال الإمام أحمد (¬5) في وصف أهل البدع: "فهم مخالفون للكتاب (¬6) مختلفون في الكتاب، مجتمعون (¬7) على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، ويتكلمون ¬
بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم". والذي يبين أن مجرد الحركة في الجهات ليس تغيرًا ما ثبت في صحيح مسلم (¬1) عن أبي سعيد (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". فأمر بتغيير المنكر باليد أو اللسان، ومعلوم أن تغير المنكر هو: ما يخرجه عن أن يكون منكرًا، وذلك لا يحصل إلّا بإزالة صورته وصفته لا بتحريكه من حيز إلى حيز، فتغيير (¬3) الخمر لا يحصل بمجرد نقلها من حيز إلى حيز، بل بإراقتها أو إفسادها مما فيه استحالة صورتها (¬4)، وكذلك من رأى من يقتل غيره، لم يكن تغيير ذلك بمجرد النقل الذي ليس فيه زوال صورة القتل، بل لا بد من زوال صورة القتال، وكذلك الزانيان (¬5) وكذلك المتكلم بالبدعة، والداعي ليس تغيير هذا المنكر بمجرد التحويل من حيز إلى حيز، وأمثال ذلك كثيرة، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
خلاف أصحاب الإمام أحمد في معنى القرآن غير مخلوق
قد أمر بتغيير المنكر، وذلك لا يحصل -قط- بمجرد النقل في الأحياز والجهات، إذ الأحياز والجهات متساوية، فهو منكر هنا (¬1)، كما أنه منكر هناك (¬2)، علم أن هذا لا (¬3) يدخل في مسمى التغيير، بل لا بد في التغيير من إزالة صورة موجودة، وأن ذلك قد يحصل بالنقل، لكن الغرض أن مجرد الحركة كحركة الشمس والقمر والكواكب لا يسمى تغييرًا، بخلاف ما يعرض للجسد من الخوف والمرض والجوع، ونحو ذلك، مما يغير صفته. قلت: وفي هذا الكلام الذي ذكره الإمام أحمد رد على الطائفتين المختلفتين في معنى قول أحمد وسائر السلف في معنى: أن القرآن غير مخلوق، هل المراد أنه قديم لازم لذاته، لا يتعلق بالمشيئة والقدر كالعلم أو المراد أنه لم يزل متكلمًا؟. كما يقال: لم يزل خالقًا، وقد ذكر الخلاف في ذلك عن أصحاب الإمام أحمد أبو بكر عبد العزيز (¬4) في ¬
كتاب المقنع (¬1)، وذكره عنه (¬2) القاضي أبو يعلى في كتاب "البيان في القرآن" (¬3)، مع أن القاضي وأتباعه يقولون بالقول الأول، ويتأولون كلام أحمد المخالف لذلك على الأسماع ونحوه، وليس الأمر كذلك. ¬
هذه المسألة هي التي وقعت الفتنة بها بين ابن خزيمة وبعض أصحابه
وهذه المسألة هي التي وقعت الفتنة بها بين الإمام أبي بكر بن خزيمة (¬1) وبعض أصحابه (¬2). ¬
كلام الإمام أحمد والأئمة ليس هو قول هؤلاء ولا هو قول هؤلاء
وكلام أحمد، والأئمة، ليس هو قول هؤلاء، ولا قول هؤلاء، بل فيه ما أثبته هؤلاء من الحق، وما أثبته هؤلاء من الحق، وكل من الطائفتين أثبت من الحق ما أثبته، فإن الإمام أحمد قد بين أنه لم يزل (¬1) متكلمًا إذا شاء [وإذا] (¬2) نظر ذلك بالعلم والقدرة والنور فليس كالمخلوقات البائنة عنه، لأن الكلام من صفاته، وليس كالصفة القائمة به التي لا تتعلق بمشيئته [لأن الكلام متعلق بمشيئته] (¬3) ولهذا قال أحمد في رواية حنبل (¬4): لم يزل الله متكلمًا عالمًا غفورًا، وقد ذكرنا كلام ابن عباس في دلالة القرآن على ذلك، فذكر أحمد ثلاث صفات: متكلمًا عالمًا غفورًا، فالمتكلم يشبه العلم من وجه، ويشبه المغفرة من وجه، فلا يشبه بأحدهما دون الآخر (¬5)، فالطائفة التي جعلته كالعلم من كل وجه، والطائفة التي جعلته كالمغفرة من كل وجه، قصرت في معرفته، ¬
إنكار الإمام أحمد على من قال: القرآن محدث إذا كان معناه عندهم معنى الخلق المخلوق
وليس هذا وصفًا له بالقدرة على الكلام، بل هو وصف له بوجود الكلام، إذا شاء، وسيجيء كلام أحمد في رواية المروذي (¬1). وقوله: إن الله لم يخل من العلم والكلام، وليسا من الخلق، لأنه لم يخل منهما، ولم يزل الله متكلمًا عالمًا، فقد نفى عنهما الخلق في ذاته، أو غير ذاته، وبين أنه لم يخل منهما، وهذا (¬2) يبين أنه لم يخلق القرآن لا في ذاته، ولا خارجًا عنه، وفي كلامه دليل على أن قول القائل: تحله الحوادث أو لا تحله الحوادث، كلاهما منكر عنده، وهو مقتضى (¬3) أصوله، لأن في ذلك بدعة، وفي إثباته -أيضًا- بدعة، ولهذا أنكر أحمد على من قال: القرآن محدث إذا كان معناه عندهم معنى الخلق المخلوق، كما روى الخلال عن الميموني (¬4) أنه قال لأبي عبد الله: ¬
ما تقول فيمن قال: إن أسماء الله محدثة؟ فقال: كافر. ثم قال لي: الله من أسمائه، فمن قال: إنها (¬1) محدثة فقد زعم أن (¬2) الله مخلوق وأعظم أمرهم عنده (¬3)، وجعل يكفرهم وقرأ عليّ {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (¬4) وذكر آية أخرى. وقال الخلال (¬5): سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل، يحكي عن أبيه كلامه في داود الأصبهاني (¬6)، وكتاب محمد بن يحيى النيسابوري (¬7)، قال: جاءني داود، فقال: تدخل على أبي عبد الله وتعلمه قصتي، وأنه ¬
لم يكن مني -يعني ما حكوا عنه- قال: فدخلت على أبي فذكرت له ذلك، قال: ولم أعلم أنه على الباب، فقال لي: كذب. قد جاءني كتاب محمد بن يحيى، هات تلك الضبارة (¬1). قال الخلال: وذكر الكلام فلم أحفظه جيدًا، فأخبرني (¬2) أبو يحيى زكريا (¬3) بن (¬4) الفرج البزاز، قال: جئت يومًا إلى أبي بكر المروذي (¬5)، وإذا عنده عبد الله بن أحمد، فقال له أبو بكر: أحب أن تخبر أبا يحيى (¬6) ما (¬7) سمعت من أبيك في داود الأصبهاني، فقال عبد الله: لما قدم داود ¬
من خراسان جاءني فسلم علي فسلمت عليه، فقال لي: قد علمت شدة محبتي لكم وللشيخ، وقد بلغه عني كلام، فأحب أن تعذرني عنده وتقول له: أن ليس هذا مقالتي، أو ليس كما قيل لك، فقلت: لا يريد، فأبى، فدخلت (¬1) إلى أبي فأخبرته أن داود جاء، فقال: إنه لا يقول بهذه المقالة وأنكر، قال: جئني بإضبارة (¬2) الكتب تلك، فأخرج منها كتابًا فقال: هذا كتاب محمد بن يحيى النيسابوري وفيه: أنه يعني داود الأصبهاني (¬3)، أحل في بلدنا الحال والمحل، وذكر في كتابه أنه قال القرآن محدث. فقلت له: إنه ينكر ذلك، فقال: محمد بن يحيى أصدق منه لا يقبل قوله العدو لله (¬4)، أو نحو ما قال أبو يحيى. وأخبرني أبو بكر المروذي (¬5) بنحو ذلك. قال (¬6) الخلال: وأخبرني الحسين بن عبد الله -يعني الخرقي- (¬7) ¬
والد أبي القاسم (¬1) صاحب المختصر - (¬2) قال: سألت أبا بكر المروذي (¬3) عن قصة داود الأصبهاني وما أنكر عليه أبو عبد الله، فقال: كان داود خرج إلى خراسان إلى إسحاق (¬4) بن راهوية، فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وشيخ (¬5) من أصحاب الحديث من قطيعة الربيع (¬6) شهدوا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
عليه (¬1) أنه قال: القرآن محدث، فقال لي أبو عبد الله: من داود بن علي (¬2)، لا فرج الله عنه؟ فقلت (¬3): هذا من غلمان أبي ثور (¬4)، قال: جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدث [ثم إن داود قدم إلى ها هنا فذكر نحو قصة عبد الله] (¬5). قال المروذي (¬6): وحدثثي محمد بن إبراهيم النيسابوري، أن إسحاق بن إبراهيم (¬7) بن راهوية لما سمع كلام داود في بيته وثب عليه إسحاق فضربه (¬8) وأنكر عليه. هذه قصته. قال الخلال (¬9): أخبرني محمد بن جعفر الراشدي (¬10)، قال: ¬
إنكار الأئمة على داود الأصبهاني في قوله: إن القرآن محدث لوجهين
لقيت محمد بن يحيى (¬1) بالبصرة، عند بندار (¬2)، فسألته عن داود، فأخبرني بمثل ما كتب به محمد بن يحيى إلى أحمد بن حنبل، وقال: خرج من عندنا من خراسان بأسوأ حال، وكتب لي (¬3) بخطه، وقال. شهد عليه بهذا القول بخراسان علماء نيسابور. [قلت] (¬4) أما الذي تكلم به عند إسحاق، فأظنه كلامه في مسألة اللفظ، فإنه قال الأمرين كما قال (¬5) الخلال: (سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة (¬6)، سمعت أبا عبد الله محمد بن الحسن بن ¬
ما ذكره الأشعري من الأقوال فى القرآن
صبيح قال: سمعت داود الأصبهاني يقول: القرآن محدث، ولفظي بالقرآن مخلوق). [قلت] (¬1) فأنكر الأئمة على داود قوله: إن القرآن محدث لوجهين (¬2): أحدهما: أن معنى هذا عند الناس كان معنى قول من يقول: القرآن مخلوق، وكانت الواقفة: الذين يعتقدون أن الخلق مخلوق، ويظهرون الوقف، فلا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، يقولون: إنه محدث، ومقصودهم مقصود الذين قالوا: هو مخلوق، فيوافقونهم في المعنى ويستترون بهذا اللفظ، ويمتنعون عن (¬3) نفي الخلق عنه، وكان إمام الواقفة في زمن أحمد، محمد بن شجاع الثلجي (¬4) يفعل ذلك، وهو تلميذ بشر المريسي، وكانوا يسمونه ترس (¬5). . . . . . . . . . ¬
الجهمية، ولهذا ذكر (¬1) أهل المقالات عنه ذلك. قال الأشعري في كتاب المقالات (¬2): "القول في القرآن، قالت المعتزلة والخوارج وأكثر الزيدية والمرجئة وكثير من الرافضة: إن القرآن كلام الله وإنه مخلوق لله، لم يكن ثم كان". وقال (¬3) هشام بن الحكم (¬4) ومن ذهب مذهبه: إن القرآن صفة لله لا يقال (¬5): إنه مخلوق ولا إنه خالق، هكذا (¬6) الحكاية عنه. وزاد البلخي (¬7) في الحكاية عنه (¬8) أنه قال: لا يقال غير مخلوق ¬
-أيضًا- كما لا يقال: مخلوق، لأن الصفات لا توصف. وحكى زرقان (¬1) عنه (¬2) أن القرآن على ضربين: إن كنت تريد المسموع، فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن، وأما القرآن ففعل الله مثل العلم والحركة منه، لا هو هو، ولا هو غيره. قال محمد بن شجاع الثلجي ومن وافقه من الواقفة (¬3): إن القرآن كلام الله، وإنه محدث، كان بعد أن لم يكن، وبالله كان، وهو الذي أحدثه، وامتنعوا من إطلاق القول: بأنه مخلوق أو غير مخلوق. وقال زهير الأثري (¬4): إن القرآن كلام (¬5) الله محدث غير مخلوق، وإنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد. وبلغني عن بعض المتفقهة (¬6) [أنه] (¬7) كان يقول: إن الله لم يزل ¬
متكلمًا بمعنى أنه لم يزل قادرًا على الكلام، ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق. قال (¬1): وهذا قول داود الأصبهاني. وقال أبو معاذ التومني (¬2): القرآن كلام الله، [وهو] (¬3) حدث وليس بمحدث، وفعل وليس بمفعول، وامتنع أن يزعم أنه خلق، و [يقول] (¬4) ليس بخلق ولا مخلوق، وأنه قائم بالله، ومحال أن يتكلم الله بكلام قائم بغيره، كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره. وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه: إن ذلك أجمع قائم بالله. وكان يقول: [إن] (¬5) بعض القرآن أمر، وهو الإرادة من الله للإيمان (¬6)، لآ (¬7) معنى أن الله أراد الإيمان هو أنه أمر به. وحكى زرقان عن معمر (¬8) أنه قال: إن الله تعالى خلق الجوهر، ¬
قول عبد الله بن كلاب
والأعراض التي هي فيه [هي] (¬1) فعل الجوهر، وإنما (¬2) هي فعل الطبيعة فالقرآن فعل الجوهر الذي هو فيه بطبعه، فهو لا خالق ولا مخلوق، وهو محدث للشيء (¬3) الذي هو حال فيه بطبعه. وحكى عن ثمامة بن أشرس النميري (¬4) أنه قال: يجوز أن يكون من الطبيعة (¬5)، ويجوز أن يكون الله -تعالى- يبتدئه (¬6)، فإن كان الله ابتدأه فهو مخلوق، وإن كان فعل الطبيعة فهو لا خالق ولا مخلوق. قال (¬7): وهذا قول عبد الله بن كلاب. ¬
قال عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلمًا، وإن كلام الله صفة له قائمة به، وإنه قديم بكلامه، وإن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحرف (¬1) ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتجزأ، ولا يتبعض، ولا يتغاير وإنه معنى واحد بالله تعالى، وإن الرسم هو الحروف المتغايرة وهو قراءة القرآن (¬2)، وإنه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره وإن العبارات عن كلام الله تعالى تختلف وتتغاير، وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير، وإنما سمي كلام الله عربيًّا، لأن الرسم الذي هو العبارة (¬3) عنه وهو قراءته عربي، فسمي عربيًّا لعلة، وكذلك يسمى عبرانيًّا لعلة، وهي أن الرسم الذي هو عبارة عنه عبراني، وكذلك سمي أمرًا لعلة، ونهيًا (¬4) لعلة، [وخبرًا لعلة] (¬5) ولم يزل الله متكلمًا قبل أن يسمي كلامه أمرًا، و (¬6) قبل وجود العلة التي بها سمى (¬7) كلامه أمرًا، ¬
وكذلك القول في تسمية كلامه نهيا وخبرًا، وأنكر أن يكون الباري [لم يزل] (¬1) مخبرًا، ولم (¬2) يزل ناهيًا، وقال: إن الله لا يخلق شيئًا إلا قال له (كن) ويستحيل (¬3) أن يكون قوله (كن) مخلوقًا. قال (¬4): وزعم عبد الله بن كلاب أن ما يسمع الناس (¬5) يتلونه هو عبارة عن كلام الله، وأن موسى سمع الله متكلمًا بكلامه، وأن معنى قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬6) معناه حتى يفهم كلام الله. قال (¬7): ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه: حتى يسمع التالين يتلونه. قال (¬8): وقال بعض من أنكر خلق القرآن: إن القرآن قد يكتب ويسمع (¬9)، وإنه متغاير غير مخلوق، وكذلك العلم غير القدرة، والقدرة غير العلم، وإن الله تعالى لا يجوز أن يكون غير صفاته، وصفاته متغايرة، وهو غير متغاير. قال (¬10): وقد حكي عن صاحب هذه المقالة أنه قال: بعض القرآن مخلوق وبعضه غير مخلوق، فما كان منه مخلوقًا فمثل صفات المخلوقين ¬
وغير ذلك من أسمائهم والإخبار عن أفعالهم (¬1). قال (¬2): وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث، وأن الله تعالى لم يزل به متكلمًا، وأنه مع ذلك حروف وأصوات، وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله بها متكلمًا (¬3). وحكي عن ابن الماجشون أن نصف القرآن مخلوق، ونصفه غير مخلوق. وحكى بعض من يخبر عن المقالات أن قائلًا من أصحاب الحديث قال: ما كان علمًا من علم الله في القرآن، فلا نقول مخلوق، ولا نقول غير الله [وما كان منه] (¬4) أمرًا ونهيًا فهو مخلوق. وحكاه (¬5) هذا الحاكي عن سليمان بن جرير (¬6). قال (¬7): وهو غلط (¬8) عندي. ¬
نقل محمد بن شجاع الثلجي وزرقان ونحوهما عن أهل السنة فيه تحريف
قال (¬1): وحكى محمد بن شجاع، أن فرقة قالت: إن القرآن هو الخالق، وإن فرقة قالت: هو بعضه، وحكى زرقان أن القائل بهذا وكيع بن الجراح (¬2)، وأن فرقة قالت: إن الله هو (¬3) بعض القرآن، وذهب إلى أنَّه مسمى فيه، فلما كان اسم الله في القرآن، والاسم هو المسمى كان الله في القرآن، وإن فرقة قالت: هو أزلي قائم بالله لم يسبقه. قال الأشعري (¬4): وكل القائلين إن (¬5) القرآن ليس بمخلوق -كنحو عبد الله بن كلاب- ومن قال: إنه محدث -كنحو زهير- ومن قال: إنه حدث -كنحو أبي معاذ التومني (¬6) - يقولون: إن القرآن ليس بجسم ولا عرض. [قلت] (¬7) محمد بن شجاع وزرقان ونحوهما هم من الجهمية، ونقلهم عن أهل السنة فيه تحريف في النقل، وقد ذكر الأشعري في أول كتابه في المقالات (¬8) أنَّه وجد ذلك في نقل المقالات، فإنه قال: ¬
تعليق الشيخ على كلام أبي الحسن الأشعري وأنه نقل عن مثل هؤلاء فيما لم يقف عليه من كتبهم وكلامهم
(أما بعد، فإنه لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات، ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنفون في النحل والديانات، من بين مقصر (¬1) فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه [وبين متعمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من خالفه] (¬2) ومن بين تارك للتقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به. قال (¬3): وليس هذا سبيل الربانيين، ولا سبيل الفطناء (¬4) المتميزين فحداني ما رأيت من ذلك، على شرح ما التمست شرحه من أمر المقالات واختصار ذلك. [قلت] (¬5): وهو نفسه وإن تحرى (¬6) فيما ينقله ضبطًا وصدقًا، لكنه أكثر ما (¬7) ينقله من مذاهب الذين لم يقف على كتبهم، وكلامهم هو من نقل هؤلاء المصنفين في المقالات كالزرقان وهو معتزلي -وابن الراوندي (¬8). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
معنى كلام الأئمة: القرآن من الله
وهو شيعي، وكتب أبي [علي] (¬1) الجبائي ونحوهم، فيقع في النقل ما فيه من جهة هؤلاء مثل هذا الموضع، فإن ما ذكره محمد بن شجاع (¬2) عن فرقة أنها قالت: إن القرآن هو الخالق، وفرقة قالت: هو بعضه، وحكاية زرقان أن القائل بهذا هو وكيع بن الجراح، هو من باب النقل بتأويلهم الفاسد، وكذلك قوله: إن فرقة قالت: إن الله بعض القرآن، وذهب إلى أن مسمى فيه، فلما كان اسم الله في القرآن، والاسم هو المسمى، كان الله في القرآن، وذلك أن الَّذي قاله وكيع وسائر الأئمة: إن القرآن من الله يعنون: أن القرآن صفة لله (¬3)، وأنه -تعالى- هو المتكلم به، وأن الصفة هي مما تدخل في مسمى الموصوف. كما روى الخلال (¬4): حدثني أبو بكر السالمي، حدثني [ابن] (¬5) ¬
أبي أويس (¬1) سمعت مالك بن أنس (¬2) يقول: القرآن كلام الله من الله، وليس شيء من الله مخلوق. ورواه اللالكائي (¬3) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني محمد (¬4) بن يزيد الواسطي (¬5)، سمعت أبا بكر أحمد بن محمد العمري (¬6) سمعت ابن أبي أويس يقول: سمعت خالي مالك بن أنس، ¬
ما قاله الأئمة في ذلك
وجماعة العلماء بالمدينة فذكروا (¬1) القرآن فقالوا: كلام الله، وهو منه، وليس (¬2) من الله شيء مخلوق. وقال الخلال (¬3): أخبرني علي بن عيسى أن حنبلًا حدثهم، سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: أدركت الناس ما يتكلمون في هذا، ولا عرفنا هذا إلا بعد منذ سنين القرآن كلام الله منزل من عند الله، لا يؤول إلى خالق ولا مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذا الَّذي [لم] (¬4) نزل عليه ولا نعرف غيره. قال الخلال (¬5): أنبأنا (¬6) المروذي (¬7) أخبرني (¬8) أبو سعيد بن أخي (¬9) حجاج الأنماطي، أنَّه سمع عمه يقول (¬10): القرآن كلام الله، وليس من الله شيء مخلوق وهو منه (¬11). ¬
وروى اللالكائي (¬1) من حديث أحمد بن الحسن الصوفي (¬2): حدثنا عبد الصمد -مردوية- قال: اجتمعنا إلى إسماعيل بن علية بعدما رجع من كلامه (¬3)، فكنت أنا وعلي فتى هشيم، وأبو الوليد خلف الجوهري، وأبو كنانة الأعور، وأبو محمد مسرور مولى المعلى صاحب هشيم، فقال له علي فتى هشيم: نحب أن نسمع منك ما نؤديه إلى الناس في أمر القرآن، فقال: القرآن كلام الله، وليس من الله شيء مخلوق، ومن قال: إن شيئًا من الله مخلوق (¬4) فقد كفر، وأنا أستغفر الله مما كان مني في المجلس. وروى (¬5) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل (قال: أخبرت عن ¬
محرز بن عون قال: قال محمد بن يزيد الواسطي: علمه (¬1) وكلامه منه وهو غير مخلوق). وقال عبد الله (¬2) أنبأنا (¬3) إسحاق بن بهلول (¬4)، سمعت ابن أبي أويس يقول: القرآن كلام الله ومن الله، وما كان من الله فليس بمخلوق. وقال الخلال في كتاب السنة (¬5): (أخبرني محمد بن سليمان قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول (¬6) في القرآن؟ [قال] (¬7): عن أبي (¬8) قالة تسأل؟ قلت: كلام الله، قال: كلام الله وليس بمخلوق ولا تجزع أن تقول ليس بمخلوق، فإن كلام الله من الله، ومن ذات الله وتكلم الله به، وليس من الله شيء مخلوق). ¬
وروي عن جماعة (¬1) عن أحمد بن الحسن الترمذي (¬2) قال: سألت أحمد فقلت: يا أبا عبد الله قد وقع في أمر القرآن ما قد وقع (¬3) فإن سئلت عنه ماذا أقول؟ فقال لي: ألست أنت مخلوقًا (¬4)؟ قلت: نعم، فقال: أليس كل شيء منك مخلوقًا (¬5)؟ قلت: نعم، قال: [فكلامك أليس هو منك وهو مخلوق، قلت: نعم، قال] (¬6) فكلام الله أليس هو منه؟ قلت: نعم، قال: فيكون شيء من الله عزَّ وجلَّ مخلوقًا (¬7)؟!. قال الخلال (¬8): (وأخبرني عبد الله بن حنبل، حدثني حنبل (¬9) سمعت أبا عبد الله يقول: قال الله في كتابه {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬10)، فجبرائيل سمعه من الله تعالى، وسمعه النبي من جبرائيل صلى الله عليهما (¬11) وسلم، وسمعه (¬12) ¬
أصحاب النبي من النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقرآن كلام الله غير مخلوق، ولا نشك ولا نرتاب فيه (¬1)، وأسماء الله تعالى في القرآن وصفاته في القرآن. القرآن (¬2) من علم الله وصفاته منه، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، فقد (¬3) كنا نهاب الكلام في هذا حتَّى أحدث هؤلاء ما أحدثوا، وقالوا [ما قالوا] (¬4) ودعوا الناس إلى ما دعوهم إليه، فبان لنا أمرهم، وهو الكفر بالله العظيم). ثم قال أبو عبد الله: لم يزل الله عالمًا متكلمًا، نعبد الله بصفات (¬5) غير محدودة ولا معلومة إلَّا بما وصف بها نفسه، سميع عليم غفور رحيم عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات الله - تبارك وتعالى - وصف بها نفسه لا تدفع (¬6) ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬7)، كيف شاء، المشيئة إليه، والاستطاعة له {ليَسَ كَمِثلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْسَّمِيْعُ الْبَصَيْرُ} (¬8) لا يبلغ وصفه الواصفون (¬9)، وهو كما وصف نفسه، نؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه، كل من عند ربنا، قال الله - تعالى - {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ ¬
عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬1) نترك الجدال في القرآن والمراء فيه (¬2)، لا نجادل ولا نماري، ونؤمن به كله، ونرده إلى عالمه - تبارك وتعالى - فهو أعلم به، منه بدأ، وإليه يعود. قال أبو عبد الله: وقال لي عبد الرحمن بن إسحاق: كان الله ولا قرآن، فقلت مجيبًا له: كان الله، ولا علم، فالعلم من الله وله، وعلم الله منه، والعلم غير مخلوق، فمن قال: إنه مخلوق، فقد كفر بالله وزعم أن الله مخلوق، فهذا الكفر الصريح البين (¬3). قال (¬4): (وسمعت عبد الله بن أحمد قال: ذكر أبو بكر الأعين قال: سئل أحمد بن حنبل عن تفسير قوله: القرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود. فقال أحمد: منه خرج: هو المتكلم [به] (¬5) وإليه يعود). قال الخلال (¬6): (أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني، حدثنا (¬7) أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم، يعني ابن راهوية، عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة، أدركت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن دونهم يقولون: الله خالق وما سواه مخلوق، إلَّا القرآن، فإنه كلام الله، منه خرج، وإليه يعود. قال الخلال (¬8): حدثني عبد الله بن أحمد، حدثني محمد بن ¬
إسحاق الصاغاني (¬1)، حدثني أبو حاتم الطويل قال: قال وكيع: من قال: إن كلام الله ليس منه فقد كفر، ومن قال: إن شيئًا منه مخلوق (¬2) فقد كفر). وروى أبو القاسم اللالكائي (¬3) قال: (ذكر أحمد بن فرح (¬4) الضرير، (قال) حدثنا (¬5) علي بن الحسن (¬6) الهاشمي [قال] (¬7) ¬
قول الأئمة كلام الله من الله يراد به شيئين
حدثنا (¬1) عمي قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئًا من الله مخلوق، فقلت: يا أبا سفيان من أين قلت هذا؟ قال: لأن (¬2) الله يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (¬3) ولا يكون شيء من الله مخلوقًا (¬4)). قال اللالكائي (¬5): (وكذلك فسره أحمد بن حنبل، ونعيم بن حماد والحسن بن الصبّاح البزار، وعبد العزيز بن يحيى الكناني) (¬6). فهذا لفظ وكيع بن الجراح -الَّذي سماه زرقان - (¬7) وهو لفظ سائر الأئمة الذين (¬8) حرف محمد بن شجاع قولهم، فإن قولهم: كلام الله من الله: يريدون به شيئين: أحدهما: أنَّه صفة من صفاته، والصفة مما تدخل (¬9) في مسمى اسمه وهذا كما قال الإمام أحمد (¬10): فالعلم من الله وله، وعلم الله ¬
منه، وكقوله: صفاته منه، وقوله وقول غيره من الأئمة: ما وصف الله من نفسه وسمى من نفسه، ولاريب أن هذا يقال في سائر الصفات كالقدرة والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، فإن هذه الصفات كلها من الله، أي: مما تدخل في مسمى اسمه. والثاني: يريدون بقولهم: كلام الله منه: أي خرج منه وتكلم به كقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلا كَذِبًا} (¬1) وذلك كقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (¬2) وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬3). وهذا اللفظ والمعنى مما (¬4) استفاضت به الآثار، كما قد تقدم روايته (¬5) عن ابن عباس (¬6) أنَّه كان في جنازة، فلما وضع الميت في لحده ¬
قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه القرآن منه، وفي الرواية الأخرى، فقال ابن عباس: القرآن كلام الله، وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود. وقد رواه الطبراني في كتاب السنة (¬1) -أيضًا- ثنا أحمد بن القاسم بن مساور الجوهري، ثنا عاصم بن علي، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير عن عكرمة، قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم ربّ القرآن أوسع عليه مدخله، اللهم ربّ القرآن اغفر له، فالتفت إليه ابن عباس فقال: مه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود. وقال الخلال (¬2): حدثني المروذي في الكتاب (¬3) الَّذي عرضه على ¬
أحمد بن حنبل قال (¬1): قد أخبرني شيخ أنَّه سمع ابن عيينة يقول: القرآن خرج من الله. قال (¬2): وحدثنا أبو عبد الله، يعني: أحمد بن حنبل (¬3)، حدثنا ابن مهدي عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطأة، عن جبير بن نفير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه" يعني القرآن (¬4). قال (¬5): وحدثنا عباس الوراق وغيره عن أبي النضر هاشم بن القاسم ثنا (¬6) بكر بن خنيس (¬7) عن ليث بن أبي سليم، عن زيد بن ¬
أرطأة، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ". . . ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" (¬1) يعني القرآن (¬2)، الحديث. قلت: والأول المرسل (¬3) أثبت من هذا، وقد رواهما [الترمذي] (¬4) فقال: حدثنا أحمد بن منيع، ثنا أبو النضر، ثنا بكر بن خنيس (¬5)، عن ليث بن أبي سليم، عن زيد بن أرطأة، عن أبي أمامة ¬
قال: قال رسول الله (¬1) - صلى الله عليه وسلم -: "ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه". قال أبو النضر يعني القرآن. قال الترمذي (¬2): هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس (¬3)، قد تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر أمره. وقد روى هذا الحديث عن زيد بن أرطأة عن جبير بن نفير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (¬4)، حدثنا بذلك إسحاق بن منصور ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية عن العلا بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه" يعني القرآن (¬5). وروى أبو القاسم اللالكائي (¬6) حديث عمرو بن دينار المتقدم، وذكره من طريق محمد بن جرير الطبري، ثنا (¬7) محمد بن أبي منصور الأملي (¬8)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ثنا (¬1) الحكم بن محمد أبو (¬2) مروان الأبلي (¬3) ثنا (¬4) ابن (¬5) عيينة، سمعت (¬6) عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. قال اللالكائي (¬7): وروى عبد العزيز بن منيب المروزي (¬8)، عن ابن عيينة بهذا اللفظ. قال (¬9): ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن محمد بن عمار بن ¬
الحارث (¬1) ثنا (¬2) أبو مروان الطبري بمكة، وكان فاضلًا، ثنا (¬3) سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، سمعت (¬4) مشيختنا (¬5) منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. قال محمد بن عمار: ومن مشيخته (¬6) أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس، وجابر، وذكر جماعة. قال (¬7): ورواه محمد بن مقاتل المروزي (¬8)، سمعت (¬9) أبا وهب -وكان من ساكني مكة، وكان رجل صدق- عن ابن عيينة: بهذا اللفظ. ¬
وكذلك رواه يزيد بن وهب (¬1)، عن سفيان ومحمد بن عبد الله بن ميسرة (¬2)، عن سفيان، بهذا اللفظ. قلت: وكذلك رواه البخاري (¬3) عن الحكم بهذا اللفظ، لكنه اقتصر به على سفيان فقال: (حدثني الحكم بن محمد الطبري -كتبت عنه بمكة- ثنا (¬4) سفيان ابن عيينة قال: أدركت مشيختنا (¬5) منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار يقولون: القرآن كلام الله، وليس بمخلوق). ولم يروه اللالكائي هكذا عن غير البخاري. وإسحاق بن راهوية، قد أثبت اللفظين (¬6) جميعًا عن ابن عيينة، عن عمرو، مكتمل الإسناد والمتن، وإنما سمى - والله أعلم - زرقان وكيعًا، لأنه كان من أعلم الأئمة بكفر الجهمية وباطن قولهم، وكان من أعظمهم ذمًّا لهم وتنفيرًا عنهم (¬7)، فبلغ الجهمية من ذمه لهم ما لم يبلغهم من ذم غيره، إذ هم من أجهل الناس بالآثار النبوية وكلام السلف والأئمة، كما يشهد بذلك كتبهم، ومحمد بن شجاع هو (¬8) مجروح متهم ¬
وكيع بن الجراح من أعلم الأئمة بكفر الجهمية وباطن قولهم
في روايته، وترجمته في كتب الجرح والتعديل ترجمة معروفة، وتجريح حكام الجرح والتعديل له مشهور (¬1). قال البخاري في كتاب خلق الأفعال (¬2): (حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الله، حدثني محمد بن قدامة اللؤلؤي (¬3) الأنصاري قال: سمعت وكيعًا يقول: لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم إنما (¬4) يذهبون إلى التعطيل. قال البخاري (¬5): (وقال وكيع: الرافضة (¬6) شر من القدرية، والحرورية شر منهما، والجهمية شر هذه الأصناف، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬7). . . . . . . ¬
ويقولون: لم يكلم، ويقولون: الإيمان بالقلب (¬1). قال البخاري (¬2): (وقال وكيع: احذروا هؤلاء المرجئة، وهؤلاء الجهمية (¬3)، والجهمية كفار، والمريسي (¬4) جهيمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا: تكفيك (¬5) المعرفة، وهذا كفر، والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة، فمن قال: القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - يستتاب، فإن تاب وإلّا ضربت عنقه. قال (¬6): وقال وكيع: على المريسي (¬7) لعنة الله، يهودي هو (¬8) أو نصراني. فقال (¬9) له رجل: كان أبوه أو جده يهوديًّا أو نصرانيًّا؟ قال وكيع: وعلى أصحابه (¬10) لعنة الله، القرآن كلام الله، وضرب وكيع إحدى يديه على الأخرى وقال (¬11): سيئ ببغداد يقال له المريسي يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ¬
قال البخاري (¬1): (وسئل عبد الله بن إدريس (¬2) عن الصلاة خلف أهل البدع فقال: لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضي (¬3) أو عدل فصلّ خلفه، قلت: فالجهمية؟ قال: لا هذه من المقاتل، هؤلاء لا يصلى خلفهم، ولا يناكحون، وعليهم التوبة. وسئل حفص بن غياث (¬4)، فقال فيهم ما قال ابن إدريس، قيل: فالجهمية؟ قال: لا (¬5) أعرفهم (¬6)، قيل له: قوم يقولون القرآن مخلوق، قال: لا جزاك الله خيرًا (¬7)، أوردت على قلبي شيئًا لم يسمع به قط. قلت: فإنهم (¬8) يقولونه، قال: هؤلاء لا يناكحون ولا تجُوز شهادتهم. ¬
حماد بن سلمة كان معتنيا بجمع أحاديث الصفات وإظهارها ومعاذ بن معاذ قاضي البصرة رد شهادة الجهمية والقدرية
وسئل ابن عيينة فقال: نحو ذلك، قال (¬1): فأتيت وكيعًا فوجدته من أعلمهم بهم، فقال: يكفرون من وجه كذا، ويكفرون من وجه كذا، حتَّى أكفرهم من كذا وكذا وجهًا. قلت: وهكذا رأيت الجاحظ (¬2)، قد شنع على حماد بن سلمة (¬3) ومعاذ بن معاذ (¬4) قاضي البصرة بما لم يشنع به [على] (¬5) غيرهما، لأن حمادًا كان معتنيًا بجمع أحاديث الصفات وإظهارها، ومعاذًا لمّا تولى القضاء رد شهادة الجهمية والقدرية، فلم يقبل شهادة المعتزلة، ورفعوا عليه إلى الرشيد، فلما اجتمع به حمده على ذلك وعظمه، فلأجل معاداتهم لمثل هؤلاء، الذين هم أئمة في السنة، يشنعون عليهم. بما إذا (¬6) حقق لم يوجد مقتضيًا لذم. وأما ما حكاه الأشعري عن محمد بن شجاع أن فرقة قالت: إن ¬
ابن الثلاج من أصحاب بشر المريسي، فأظهر التوبة والوقف في لفظ المخلوق، دون لفظ المحدث
القرآن هو الخالق، وفرقة قالت: هو بعضه، فقد ذكر الخلال في كتاب السنة ترجمة محمد بن شجاع، وسبب أمر أحمد أهل السنة بهجره. فروى الخلال (¬1) من مسائل أبي الحارث قال: قلت لأبي عبد الله: قال لي ابن الثلاج: سمعت رجلًا يقول: القرآن هو الله، فقال له (¬2) عمه: إنا بتنا عند أحمد بن نصر وكان ابن الثلاج معنا، وكان عباس الأعور، فتلى عباس (¬3) هذه الآية: {فَإِنَّ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ} (¬4) قال: إلى كتاب الله، فهو يتأول عليه هذا، قلت له: إنا قلنا (¬5) لابن الثلاج: تقول (¬6) إن لله علمًا؟ قال: أنا لا أقول إن لله علمًا، فقال أبو عبد الله: استغفر الله (¬7). وقلت له: إني سمعته يقول: كلام الله غير الله، فقال: دعه يقول ما شاءكم يقول لي، قال: ابن الثلاج وشكاني. قلت: فقد تبين بهذا أصل حكايته، وهو أَنْ ذكر أنّ الرد إلى الله هو الرد إلى القرآن، فنقل عنه أن القرآن هو الله، ولعله كان من مقصود ذاك أن يستدل على أن القرآن صفة الله، وأن الرد إليه هو الرد إلى الله نفسه، لأنه هو كلامه القائم به، كما أن الرد إلى الرسول هو الرد إلى كلامه الَّذي قام به، وأنه لو كان القرآن إنما هو قائم ببعض الأجسام المخلوقة، لكان الرد إليه ردًّا إلى ذلك الجسم المخلوق، لا إلى الله تعالى، فنقل عنه أنَّه جعل القرآن هو الخالق، وهذا ابن الثلاج كان من ¬
أصحاب بشر المريسي فأظهر التوبة من ذلك، وأظهر الوقف في لفظ المخلوق، دون لفظ المحدث، كما حكاه الأشعري عنه (¬1)، ومقصوده مقصود من يقول: هو مخلوق، وعرف الأئمة حقيقة حاله، فلم يقبل الإمام أحمد وسائر أهل السنة هذه التوبة، لأنها توبة غير صحيحة، حتَّى كان يعادي أهل السنة ويكذب عليهم، حتَّى كذب على الإمام أحمد غير مرة (¬2)، وقد ذكر قصته أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الخرقي - خليفة المروذي (¬3)، والد أبي القاسم صاحب المختصر في الفقه (¬4) - في قصص الذين أمر أحمد بهجرانهم، ومسألته للمروذي عنهم واحدًا واحدًا (¬5)، وأخبار المروذي (¬6) له بما كان عنده في ذلك. ونقل الخلال من (¬7) أخباره في كتاب السنة ما يوضح الأمر، فقال: ¬
أخبرني الحسين بن عبد الله قال: سألت أبا بكر المروذي (¬1) عن قصة ابن الثلاج، فقال، قال لي: أبو عبد الله جاءني هارون الحمال (¬2) فقال: إن ابن الثلاج تاب من صحبة المريسي، فأجيء به إليك؟ قال قلت: لا ما (¬3) أريد أن يراه أحد على بابي، قال: أحب أن أجيء به بين المغرب والعشاء، فلم يزل يطلب إلي، قال قلت: هو ذا يقول أجب (¬4)، فأي شيء أقول لك، قال: فجاء به، فقلت له: اذهب حتَّى تصح توبتك (¬5) وأظهرها، ثم رجع فبلغنا أنَّه أظهر الوقف، قال أبو بكر المروذي (¬6): فمضيت ومعي نفسان من أصحابنا فقلت له: قد بلغني عنك شيء (¬7)، ولم أصدق به، قال: وما هو؟ قلت: تقف (¬8) في القرآن، فقال: أنا أقول كلام الله، فجعل يحتج بيحيى بن آدم وغيره أنهم وقفوا، فقلمت له: هذا من الكتاب الَّذي أوصى لكم به عبيد بن نعيم، فقال: لا تذكر الناس فقلت له: أليس أجمع المسلمون جميعًا أنَّه من حلف بمخلوق أنَّه لا كفارة عليه؟ قال: نعم، قلت: فمن حلف بالقرآن أليس قد أوجبوا عليه كفارة لأنه حلف بغير مخلوق؟ فقال: هذا متاع أصحاب الكلام، ¬
ثم قال: إنما أقول كلام الله كما أقول سماء (¬1) الله وأرض الله (¬2)، ثم قال: وأي شيء (¬3) قام به أحمد بن حنبل؟ ثم قال: قد (¬4) علموكم الكلام، وأومأ إلى ناحية الكرخ (¬5) يريد أبا ثور وغيره، فقمنا من عنده فما كلمناه حتَّى مات. وروى الخلال من وجهين عن زياد بن أيوب (¬6) قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله علماء الواقفة جهمية؟ قال: نعم مثل ابن الثلجي وأصحابه الذين يجادلون. قلت: ولو فرض أن بعض أهل الإثبات أطلق القول بأن القرآن أو غيره من الصفات بعضه (¬7)، فهذا إما أن ينكر لأنه يقال: الصفة القائمة بالموصوف كالعلم والكلام لا يقال: هي بعضه، أو لأن الرب تبارك ¬
ما ذكره الأشعري عن ضرار بن عمرو أنه قال: الألوان والطعوم أبعاض الأجسام
وتعالى لا يقال: إن له بعضًا كما للأجسام بعض، فإن كان الإنكار (¬1) لأجل الأول فأهل الكلام متنازعون في صفات الجسم، هل يقال: إنها بعض الجسم؟ أو يقال: هي غيره؟ أو لا يقال: هي غيره؟. فذكر الأشعري (¬2): عن ضرار بن عمرو (¬3) أنَّه قال: (الألوان والطعوم والأراييح (¬4) والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والرقة (¬5) أبعاض الأجسام وأنها متجاورة، قال: وحكى عنه مثل ذلك في الاستطاعة والحياة. وزعم أن الحركات والسكون وسائر الأفعال التي تكون من الأجسام أعراض لا أجسام. وحكى عنه في التأليف (¬6) أنَّه كان يثبته بعض الجسم. ¬
فأما غيره ممن كان يذهب إلى (¬1) قوله في الأجسام، فإنه كان (¬2) يثبت التأليف والاجتماع والافتراق والاستطاعة غير الأجسام. وقطع عنه الأشعري في موضع (¬3) أنَّه: "كان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل، وأنها بعض المستطيع، وأن الإنسان أعراض مجتمعة وكذلك الجسم أعراض مجتمعة من لون، وطعم، ورائحة، وحرارة، وبرودة، ومجسة (¬4)، وغير ذلك. وأن الأعراض قد يجوز (¬5) أن تنقلب (¬6) أجسامًا، ووافقه على ذلك حفص الفرد (¬7)، وغيره (¬8)، ¬
وإن الإنسان (¬1) قد يفعل الطول والعرض والعمق وإن [كان] (¬2) ذلك أبعاض الجسم). قال (¬3): (وقال الأصم: وهو عبد الرحمن بن كيسان الأصم، أستاذ إبراهيم بن إسماعيل بن علية (¬4) الَّذي كان يناظر: لا (¬5) أثبت إلا الجسم الطويل العريض العميق، ولم يثبت حركة غير الجسم، ولا يثبت سكونًا غيره، ولا قيامًا غيره (¬6)، ولا قعودًا غيره، ولا اجتماعًا غيره (¬7)، ولا حركة ولا سكونًا ولا لونًا ولا صوتًا ولا طعمًا غيره، ولا رائحة. قال الأشعري: فأما بعض أهل النظر ممن يزعم أن الأصم قد علم الحركات والسكون والألوان ضرورة، وإن لم يعلم أنها غير الجسم -فإنه يحكي عنه أنَّه كان لا يثبت الحركة والسكون وسائر الأفعال غير (¬8) الجسم. . . ولا يحكي عنه أنَّه كان لا يثبت حركة ولا سكونًا ولا قيامًا ولا قعودًا ولا اجتماعًا ولا افتراقًا على وجه من الوجوه، وكذلك يقول في سائر الأعراض). قلت: هذا القول الثاني إنها ثابتة لكن ليست غير الجسم هو الَّذي ¬
هشام بن الحكم يقول: إن صفات الله إنها ليست هو ولا غيره
قد يقوله بعض العقلاء، فأما نفي وجودها فهو سفسطة (¬1) من جنس نفي الجسم، وهذا القول هو قول غير هذا مثل هشام بن الحكم وغيره. قال الأشعري (¬2): (وقال هشام بن الحكم: الحركات وسائر الأفعال من القيام والقعود والإرادة والكراهة والطاعة والمعصية وسائر ما يثبت المثبتون أعراضًا، إنها صفات الأجسام (¬3) لا هي الأجسام ولا غيرها، إنها ليست بأجسام فيقع عليها التغاير. قال: وقد حكي هذا عن بعض المتقدمين، وأنه كان يقول كما حكينا عن هشام، وأنه لم يكن يثبت أعراضًا غير الأجسام. وحكي (¬4) عن هشام أنَّه كان لا يزعم أن صفات الإنسان أشياء، لأن الأشياء هي الأجسام عنده، وكان يزعم أنها معان وليست بأشياء). قلت: وهشام يقول ذلك -أيضًا- في صفات الله: إنها ليست هو ولا غيره، وطرد القول في جميع الصفات (¬5)، ودفع (¬6) بذلك ما كانت المعتزلة تورده على الصفاتية من التناقض (¬7)، قال (¬8): (وقال قائلون منهم أبو الهذيل، وهشام وبشر بن المعتمر، وجعفر (¬9) بن حرب، ¬
والإسكافي وغيرهم: الحركات والسكون، والقيام والقعود، والاجتماع والافتراق، والطول والعرض، والألوان والطعوم والأراييح (¬1) والأصوات والكلام والسكوت والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان، وسائر أفعال الإنسان، والحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، واللين والخشونة، أعراض غير الأجسام). قال (¬2): (وحكى زرقان عن جهم بن صفوان أنَّه كان يزعم أن الحركة جسم، ومحال أن تكون غير الجسم، لأن غير الجسم هو الله تعالى ولا يكون (¬3) شيء يشبهه). قال (¬4): وكان إبراهيم النظام -فيما حكي عنه- يزعم أن الطول هو الطويل، وأن العرض هو العريض، وكان يثبت الألوان والطعوم والأرانيج (¬5) والأصوات والآلام والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أجسامًا لطافًا، ويزعم أن حيز اللون هو حيز الطعم والرائحة، وأن الأجسام اللطاف قد تحل في حيز (¬6) واحد، وكان لا يثبت عرضًا إلَّا الحركة فقط). قال (¬7): (وكان عباد بن سليمان يثبت الأعراض غير الأجسام، ¬
فإذا قيل له: تقول الحركة غير المتحرك، والأسود غير السواد؟ امتنع من ذلك، وقال: قولي في الجسم متحرك إخبار عن جسم وحركة، فلا يجوز أن أقول: الحركة غير المتحرك). قال (¬1): وقال قائلون من أصحاب الطبائع: إن الأجسام كلها من أربع طبائع: حرارة، وبرودة، ورطوبة ويبوسة، وإن الطبائع الأربع (¬2) أجسام، ولم يثبتوا أشياء إلَّا هذه الطبائع الأربع (¬3)، وأنكروا الحركات، وزعموا أن الألوان والطعوم والأراييج (¬4) هي الطبائع الأربع. وقال قائلون منهم: إن الأجسام من أربع طبائع، وأثبتوا الحركات ولم يثبتوا عرضًا غيرها، وأثبتوا (¬5) الألوان والأرايح (¬6) من هذه الطبائع. وقال قائلون: الأجسام من أربع طبائع، وروح سابحة (¬7) فيها، وإنهم لا يعقلون جسمًا إلَّا هذه الخمسة الأشياء، وأثبتوا الحركات أعراضًا. قال (¬8): وقال قائلون: بإبطال الأعراض والحركات والسكون، وأثبتوا السواد وهو [عين] (¬9) الشيء الأسود لا غيره، وكذلك البياض وسائر الألوان وكذلك الحلاوة والحموضة وسائر الطعوم، وكذلك قولهم في الأرايح (¬10). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ما ذكره الأشعري عن أبي الهذيل العلاف أن علم الله هو هو، وكذلك قدرته وسمعه وبصره
وفي (¬1) الحرارة: إنها [عين] (¬2) الشيء الحار (¬3)، وكذلك قولهم في الرطوبة والبرودة واليبوسة، وكذلك قولهم في الحياة: إنها هي الحي، وهؤلاء منهم من يثبت حركة الجسم وفعله غيره، ومنهم من لا يثبت عرضًا غير الجسم على وجه من الوجوه. قلت: هذا القول في صفات المخلوقين يضاهي قول شيخ المعتزلة أبي الهذيل في صفات الله. قال الأشعري (¬4): (قال شيخهم أبو الهذيل العلّاف: إن علم الباري تعالى هو هو، وكذلك قدرته وسمعه وبصره وحكمته وكذلك كان [قوله] (¬5) في سائر صفات ذاته. وكان يزعم [أنَّه] (¬6) إذا زعم أن الباري عالم فقد ثبت (¬7) علمًا هو الله، ونفى عن الله جهلًا، ودل على معلوم كان أو يكون. وإذا قال: إن الباري قادر فقد ثبت (¬8) قدرة هي الله تعالى، ونفى عن الله عجزًا (¬9)، ودل على مقدور كان أو يكون (¬10)، وكذلك [كان] (¬11) قوله في سائر صفات الذات على هذا التثبيت (¬12). وكان إذا ¬
قول أرسطو طاليس وأصحابه أن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد
قيل له: حدثنا عن علم الله الَّذي هو الله، أتزعم أنَّه قدرته؟ أبى (¬1) ذلك، وإذا (¬2) قيل له: فهو غير قدرته؟ أنكر ذلك، وهذا نظير ما أنكره من قول مخالفيه: إن علم الله لا يقال: هو الله، ولا يقال غيره. وكان إذا قيل له: [إذا قلت: إن علم الله هو الله] (¬3)، فقل: إن الله علم، ناقض ولم يقل إنه علم مع قوله: إن علم الله هو الله. قال (¬4): (وكان يسأل من يزعم أن طول الشيء هو هو (¬5)، وكذلك عرضه: هل طوله هو عرضه؟ قال (¬6): وهذا راجع عليه في قوله: إن علم الله هو الله، وإن قدرته هي هو لأنه إذا كان علمه هو هو، وقدرته هو هو، فواجب أن يكون علمه هو قدرته وإلّا لزم التناقض. قال (¬7): وهذا أخذه أبو الهذيل عن أرسطاطاليس، وذلك أن أرسطاطاليس قال في بعض كتبه: إن الباري علم كله، قدرة كله، حياة كله، بصر كله، فحسن اللفظ عند نفسه، وقال: علمه هو هو) [وقدرته هي هو] (¬8). ¬
قلت: هو قول أرسطو وأصحابه: إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد (¬1)، وكذلك العلة (¬2). ¬
إطلاق طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانهم القول بأن الصفة بعض الموصوف أو أنها ليست غيره
قلت: فهذه نقول أهل الكلام بعضهم عن بعض، أنهم يجعلون الصفة هي الموصوف في الخالق والمخلوق، فأولاء يناسب قولهم: إن الكلام هو المتكلم. وأما أهل السنة والإثبات فقد ظهر كذب النقل عنهم. وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف، أو أنها ليست غيره فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانهم، وإذا حقق الأمر في كثير من هذه المنازعات، لم يجد (¬1) العاقل السليم العقل يخالف (¬2) ضرورة العقل لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظيًّا أو اعتباريًّا فمن قال: إن الأعراض بعض الجسم، أو إنها ليست غيره، ومن قال: إنها غيره، يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظ واعتبار (¬3)، واختلاف اصطلاح في مسمى بعض وغير. كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (¬4)، ويسمى -أيضًا- تخليص التلبيس من كتاب التأسيس، الَّذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية [وبنى نفي ذلك] (¬5) على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب - تعالى - إلى غيره، وتركيبه من الأبعاض، وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة، فهذا إن كان أحد أطلق لفظ البعض على الذات وغيره من الصفات، وقال: إنه بعض الله، وأنكر ذلك عليه، لأن الصفة ليست (¬6) ¬
لفظ "البعض" نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين
غير الموصوف مطلقًا، وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض، فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم، ذاكرين وآثرين. قال أبو القاسم الطبراني في كتابه السنة (¬1): حدثنا حفص بن عمرو حدثنا عمرو بن عثمان الكلابي، حدثنا موسى بن أعين، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (إذا أراد الله أن يخوف عباده أبدى عن بعضه للأرض، فعند ذلك تزلزلت، وإذا أراد الله أن يدمدم على قوم تجلى لها عزَّ وجلَّ). وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه - سبحانه - للجبل، ما رواه الترمذي في جامعه (¬2): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، يعني ¬
الدارمي (¬1)، أنبأنا (¬2) سليمان بن حرب، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (¬3) قال حماد: هكذا، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى قال: فساخ (¬4) الجبل {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} (3). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب (¬5)، لا نعرفه إلَّا من حديث حماد بن سلمة. وقال أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة (¬6): (ثنا حسين بن الأسود، ثنا عمرو بن محمد العنقزي (¬7)، ثنا أسباط، عن السدي، عن عكرمة عن ابن عباس {فَلَمَّا تَجَلى رَبَّهُ لِلْجَبَلِ} (¬8) قال: ما تجلى منه (¬9) إلَّا مثل الخنصر قال فجعله {دَكًّا} (8) قال: ترابًا (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} (8) ¬
غشي عليه {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} (¬1) من (¬2) أن أسألك الرؤية {وَأنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) قال: أول من آمن بك من بني إسرائيل). ورواه الطبراني (¬3) قال: ثنا محمد بن إدريس بن عاصم الحمال، ثنا إسحاق بن راهوية، ثنا عمرو بن محمد العنقزي (¬4)، فذكره عن ابن عباس {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (¬5) قال (¬6): ما تجلى منه إلَّا مثل الخنصر فـ {جَعَلَهُ دَكًّا} (5) قال: ترابًا. ورواه البيهقي في كتاب إثبات الرؤية (¬7) له: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق، يعني الصاغاني (¬8)، ثنا عمرو بن طلحة في التفسير، ثنا أسباط عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس أنَّه قال: تجلى منه مثل طرف الخنصر، فجعله دكًّا. ¬
والصاغاني (¬1) ومن فوقه إلى عكرمة روى لهم مسلم في صحيحه، وعكرمة روى له البخاري في صحيحه، وروى الثوري، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة (¬2) بعضهم عن ابن أبي نجيح، [وبعضهم عن منصور، (¬3) عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله في قصة داود {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ} (¬4) قال يدنيه حتَّى يمس بعضه، وهذا متواتر عن هؤلاء. وممن رواه الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن [أبي] (¬5) عاصم النبيل في كتابه السنة (¬6): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة [عن] (¬7) وكيع عن سفيان عن منصور (¬8)، عن مجاهد عن عبيد بن عمير {وَإِنَ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} (¬9) قال: ذلك (¬10) الدنو منه حتَّى إنه يمس بعضه (¬11). وقال (¬12): حدثنا أبو بكر ثنا ابن فضيل عن ليث، عن مجاهد ¬
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا} (¬1) قال: يقعده معه على العرش. وقال الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة (¬2): (ثنا فضيل بن سهل، ثنا عمرو بن طلحة القناد (¬3)، ثنا أسباط بن نصر، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنَّه (¬4) قال: {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (¬5) قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقال له رجل: أليس قد قال الله {لَا ¬
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (¬1)؛ فقال له عكرمة: أليس ترى السماء؟ قال: بلى. قال: أفكلها (¬2) ترى؟. ففي هذا (¬3) أن عكرمة أخبر قدام ابن عباس أن إدراك البصر هو (¬4): رؤية المدرك كله دون رؤية بعضه، فالذي يرى السماء ولا يراها كلها لا يكون (¬5) مدركًا لها (¬6)، وجعل هذا تفسيرًا لقوله {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (¬7) وأقره ابن عباس على ذلك، ومع هذا فهؤلاء (¬8) الذين نقل عنهم هذا اللفظ قد (¬9) نقل عنهم -أيضًا- إنكار تبعضه - سبحانه وتعالى - وبين الناقلون معنى ذلك. قال الحافظ أبو الشيخ (¬10) الأصبهاني، في كتاب السنة: حدثني عبد الرحمن بن محمد الآملي، عن موسى بن عيسى بن حماد بن زغبة، ثنا نعيم بن حماد، ثنا نوح بن أبي (¬11) مريم، عن إبراهيم بن ميمون، ¬
عن عكرمة قال: جاء (¬1) نجدة الحروري إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس نبئنا كيف معرفتك بربك تبارك تعالى -فإن من قبلنا اختلفوا علينا؟ فقال ابن عباس: من نصب دينه (¬2) على القياس لم يزل الدهر في التباس مائلًا عن المنهاج ظاعنًا (¬3) في الاعوجاج، ضالًا عن السبيل، قائلًا غير جميل، أعرفه بما عرف به نفسه - تبارك وتعالى - من غير رؤية. قال نعيم: يعني في الدنيا، وأصفه بما وصف به (¬4) نفسه، لا يدرك (¬5) بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير شبيه، ومتدان في بعده. قال نعيم: يقول: هو على العرش، ولا يخفى عليه خافية، لا نتوهم ديمومته (¬6)، ولا يمثل بخليقته، ولا يجور في قضية (¬7). الخلق إلى ما (¬8) علم ينقادون (¬9)، وعلى ما سطر في ¬
لفظ "البعض" و"الجزء" و"الغير" ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام
المكنون (¬1) من كتابه ماضون، لا يعلمون بخلاف، ما منهم علم، ولا غيره يريدون، فهو قريب غير ملتزق يعني: قريبًا بعلمه، وبعيد (¬2) غير منقض، يحقق ولا يمثل، ويوجد ولا يبعض، قال نعيم: لا يقال بعضه على العرش وبعضه على الأرض، يدرك بالآيات، ويثبت بالعلامات، هو الكبير المتعال (¬3) - تبارك وتعالى -. قلت: هذا الكلام في صحته عن ابن عباس نظر، والذي يغلب على الظن أنَّه ليس من كلام ابن عباس، ونوح بن أبي مريم له مفاريد من هذا النمط، ولكن لا ريب أن نعيم بن حماد ذكر ذلك في كتبه التي صنفها في الرد على الجهمية، وهو قد نفى تبعيضه بالمعنى الَّذي فسره، وهذا مما (¬4) لا يستريب فيه المسلمون، وهذا مما دل عليه قوله سبحانه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} (¬5) كما قد بسطنا الكلام فيه في موضعه (¬6) في الكلام على من تأول هذه السورة على غير تأويلها. ولا ريب أن لفظ البعض والجزء والغير ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام، فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضًا، وينفصل بعضه عن بعض، أو يمكن ¬
ذلك فيه (¬1)، كما يقال حد الغيرين (¬2): ما جاز مفارقة أحدهما للآخر، كصفات الأجسام المخلوقة من أجزائها وأعراضها، فإنه يجوز أن يتفرق وينفصل (¬3)، والله سبحانه منزه عن ذلك كله، مقدس عن النقائص والآفات. وقد يراد بذلك ما يعلم منه شيء دون شيء، فيكون المعلوم ليس هو غير المعلوم، وإن كان لازمًا له لا يفارقه، والتغاير بهذا المعنى ثابت لكل موجود، فإن العبد قد يعلم وجود الحق، ثم يعلم أنَّه قادر ثم أنَّه عالم، ثم أنَّه سميع بصير، وكذلك رؤيته تعالى كالعلم به، فمن نفى عنه وعن صفاته التغاير والتبعيض بهذا المعنى فهو معطل جاحد للرب، فإن هذا التغاير لا ينتفي إلا عن المعدوم، وهذا قد بسطناه في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (¬4) في الكلام على سورة الإخلاص وغير ذلك بسطًا بينًا، ومن علم ذلك زالت عنه الشبهات في هذا الباب، فقول (¬5) السلف والأئمة: ما وصف الله من الله وصفاته منه وعلم الله من الله وله، ونحو ذلك مما استعملوا فيه (¬6) لفظ من. وإن قال قائل معناه (¬7) التبعيض -فهو تبعيض بهذا الاعتبار، كما ¬
يقال: إنه تغاير بهذا الاعتبار، ثم كثير (¬1) من الناس يمتنع أو ينفي لفظ التغاير والتبعيض ونحو ذلك، وبعض الناس لا يمتنع من لفظ التغاير ويمتنع من لفظ التبعيض، وبعضهم لا يمتنع من اللفظين إذا فسر المعنى وأزيلت عنه الشبهة والإجمال الَّذي في اللفظ. ولا ريب أن الجهيمية تقول في هذا الباب ما هم متناقضون فيه تناقضًا معلومًا بالبديهة، ثم إن الَّذي ينفونه لا (¬2) يتصف به إلّا المعدوم فيتناقضون ويعطلون، فإنهم يقولون: إن كونه واحدًا يمتنع أن يكون له صفة بوجه من الوجوه، لأن ذلك يوجب الكثرة والعددية، قالوا: ويجب تنزيهه عن ثبوت عدد وكثرة في وصفه أو قدره (¬3)، ثم إنهم يضطرون إلى أن يقولوا: هو قديم حق، رب حي عليم قدير، ونحو ذلك من المعاني التي يمكن علمنا ببعضها دون بعض، والمعلوم ليس هو الَّذي ليس بمعلوم، وذلك يقتضي ما فروا منه مما سموه تعددًا وكثرة وتبعيضًا وتغايرًا، فهذا تناقضهم، ثم إن سلب ذلك لا يكون (¬4) إلّا عن المعدوم، وأما الموجود فإما قديم وإما محدث، وإما موجود (¬5) بنفسه وإما ممكن مفتقر إلى غيره، وإن (¬6) الموجود إما قائم بنفسه، وإما قائم بغيره إلى غير ذلك من المعاني التي تتميز (¬7) بها الموجودات بعضها عن بعض، إذ لكل موجود حقيقة خاصة يتميز بها، يعلم منها شيء دون شيء ¬
وذلك هو التبعيض والتغاير الَّذي يطلقون إنكاره، وهذا أصل نفاة (¬1) الجهيمية المعطلة، وهم كما قال الأئمة: لا يثبتون (¬2) شيئًا في الحقيقة. ولهذا قال الإمام أبو عمر بن عبد البر (¬3): (الَّذي أقول: إنه إذا نظر (¬4) إلى إسلام (¬5) أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبد الرحمن (¬6)، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجًا، علم أن الله عزَّ وجلَّ لم يعرفه واحد منهم إلّا بتصديق النبيين وبأعلام (¬7) النبوة، ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا سكون (¬8)، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبًا، وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازمًا [ما] (¬9) أضاعوه، ولو أضاعوا الواجبات لما نطق (¬10) القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في ¬
مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من علمهم (¬1) مشهورًا، ومن (¬2) أخلاقهم معروفًا لاستفاض عنهم، واشتهروا [به كما اشتهروا] (¬3) بالقرآن والروايات. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزل ربنا إلى سماء الدُّنيا" (¬4) عندهم، ¬
مثل قول الله {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} (¬1) ومثل قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬2) كلهم يقول: ينزل ويتجلى ويجيء بلا كيف، ولا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلى؟ وكيف ينزل؟ (¬3) وفي قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (1) دلالة واضحة أنَّه لم يكن قبل ذلك متجليًا للجبل، وفي ذلك ما يفسر لك (¬4) حديث النزول (¬5)، ومن أراد أن يقف على أقاويل (¬6) العلماء في قوله {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} (¬7) فلينظر في تفسير بقي بن مخلد وتفسير محمد بن جرير، وليقف على ما ذكرا من ذلك- والله أعلم) (¬8). وقد ذكر القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات (¬9): وما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني (¬10) أبي، ¬
ثنا (¬1) أبو المغيرة الخولاني، ثنا (¬2) الأوزاعي، حدثني (¬3) يَحْيَى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: إن الله إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض، فعند ذلك تزلزل (¬4)، وإذا أراد أن يدمر على قوم تجلى لها. قال (¬5): ورواه ابن فورك، عن يَحْيَى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن الله -تبارك وتعالى- إذا أراد أن يخوف أهل الأرض أبدى عن بعضه، وإذا أراد أن يدمر عليهم (¬6) تجلى لها. ثم قال (¬7): أما قوله: أبدى عن بعضه فهو على ظاهره، وأنه راجع إلى الذّات، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحق. فإن قيل: بل في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته، لأنَّه يستحيل وصفه بالكل والبعض والجزء، فوجب حمله على إبداء بعض (¬8) آياته وعلاماته، تحذيرًا وإنذارًا (¬9). قيل: لا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض، كما أطلقنا تسمية يد ووجه لا على وجه التجزئة والتبعيض (¬10)، وإن كُنَّا نعلم أن اليد في الشاهد بعض الجملة (¬11). ¬
قال (¬1): وجواب آخر: وهو أنه لو جاز أن يحمل قوله: أبدى عن بعضه على بعض آياته لوجب (¬2) أن يحمل قوله: وإذا أراد أن يدمر على قوم (¬3) تجلى لها على جميع آياته، ومعلوم أنه لم يدمر قرية بجميع آياته، لأنه قد أهلك بلادًا، كل بلد بغير ما أهلك به الآخر (¬4). وكذلك قال الإمام أحمد: فيما خرجه (¬5) في الرد على الجهمية (¬6) لما ذكر قول (¬7) جهم قال: (فتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعم أن من وصف من الله شيئًا (¬8) مما يصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله كان كافرًا). فبين أحمد -في كلامه- أن من الله ما يوصف، وأنه يوصف بذلك فذلك موصوف والرب موصوف به، وأنه يوصف بذلك (¬9)، وهذا كلام سديد فإن الله في كلامه وصف ما وصف من علمه وكلامه وخلقه بيده (¬10) وغير ذلك، وهو موصوف بهذه المعاني التي وصفها، ولذلك سميت صفات، فإن الصفة أصلها وصفه، مثل جهة أصلها وجهه، وعدة وزنة أصلها وعده ووزنه، وهذا المثال (¬11) وهو فعله قد يكون في الأصل مصدرًا كالعدة والوعد، فكذلك الصفة والوصف، وقد يكون بمعنى ¬
المفعول كقولهم: لحلية (¬1) ووجهة وشرعة وبدعة، فإن فعلًا يكون بمعنى المفعول، كقوله (¬2) {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (¬3) أي: بمذبوح، والشرعة المشروعة، والبدعة المبدعة (¬4)، والوجهة (¬5) هي: الجهة التي يتوجه إليها، فكذلك قد يقال في لفظ الصفة إذا (¬6) لم تنقل عن المصدر أنها الموصوفة (¬7)، وعلي هذا ينبغي نزاع النَّاس، هل الوصف والصفة في الأصل بمعنى واحد، بمعنى الأقوال؟ ثم استعملا في المعاني تسمية للمفعول باسم المصدر إذ الوصف (¬8) هو القول [الذي هو المصدر والصفة هي المفعول الذي يوصف بالقول] (¬9) وأكثر الصفاتية على هذا الثَّاني وقولهم -أيضًا- يصح على القول الأول، كما كُنَّا نقرره قبل ذلك، إذ أهل العرف قد يخصون أحد اللفظين بالنقل دون (¬10) الآخر، لكن تقرير قولهم على هذه الطريقة الثَّانية أكمل وأتم- كما ذكرناه هنا. فقول أحمد وغيره: "فمن وصف من الله شيئًا ممَّا يصف به نفسه" فالشيء الموصوف هو الصفة كعلمه ويديه، وهذه الصفة الموصوفة وصف الله بها نفسه، أي: أخبر بها عن نفسه وأثبتها لنفسه كقوله {أَنْزَلَهُ ¬
بِعِلْمِهِ} (¬1) وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2). ثم قال أحمد (¬3): (فإذا قيل لهم: من (¬4) تعبدون؟). قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. فقلنا: قد عرف المسلمون [أنكم] (¬5) لا تأتمون (¬6) بشيء، وإنَّما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون (¬7). إلى أن قال لهم (¬8): (فقد (¬9) جمعتم في مسألة الكلام -كما تقدم- ذكر لفظه (¬10) بين كفر وتشبيه فتعالى (¬11) عن هذه الصفة) إلى قوله: قال (¬12): (فقالوا: لا تكونون (¬13) موحدين أبدًا حتَّى تقولوا: قد كان الله ولا شيء). فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله ¬
لم يزل بصفاته كلها أليس إنَّما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته؟ وضربنا لهم في ذلك مثلًا. فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار؟ واسمها اسم شيء واحد (¬1)، وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله -وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات [ولا قدرة حتَّى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول: إنه (¬2) كان في وقت من الأوقات] (¬3) لا (¬4) يعلم حتَّى خلق فعلم (¬5)، والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول: لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا (¬6)، لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلًا كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (¬7) وقد سماه (¬8) وحيدًا وله (¬9) عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه وحيدًا بجميع صفاته، فكذلك الله -وله المثل الأعلى-[هو] (¬10) بجميع صفاته إله واحد). فقد بين أن ما لا يعرف بصفة فهو معدوم، وهذا حق، وبين أنَّه ¬
متعال عن الصفة التي وصفه (¬1) بها الجهمية، وذكر أنَّه إذا قلنا: لم يزل بصفاته كلها إنَّما نصف إلهًا واحدًا. وبين أن النبات والحيوان يسمى واحدًا، وإن كان له صفات هي: كالجذع والتقريب من النخلة، وكاليد والرجل من الإنسان، فالرب أولى أن يكون واحدًا وإن كان له صفات، إذ هو أحق بالوحدانية، واسم الواحد من المخلوقات التي قد تتفرق صفاتها، وتتبعض، وتكون مركبة منها، والرب تعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والمقصود أنَّه سمى هذه الأمور صفات أيضًا. ونظير ذلك ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (¬2) في شرح الموطأ (¬3) بعد أن قال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلّا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون (¬4) فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه، وهم عند من أقرّ بها (¬5) نافون (¬6) للمعبود. والحقُّ (¬7) فيما قاله القائلون بما ينطق (¬8) به كتاب الله وسنة رسوله، ¬
وهم أئمة الجماعة. والحمد لله. روى حرملة بن يَحْيَى [قال] (¬1)، سمعت عبد الله بن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: من وصف شيئًا من ذات الله، مثل قوله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (¬2)، فأشار (¬3) بيده (¬4) إلى عنقه، ومثل قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬5) فأشار إلى عينه (¬6) أو أذنه (¬7) أو شيئًا من بدنه (¬8)، قطع ذلك منه، لأنَّه شبه الله بنفسه. ثم قال مالك: أما سمعت قول البراء حين حدث أن النبي - صَلَّى الله عليه وسلم -[قال] (¬9): "لا يضحى بأربع من الضحايا" (¬10) وأشار البراء بيده، كما ¬
كلام عبد العزيز بن الماجشون في الصفات
أشار النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال البراء: ويدي أقصر من يد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -[فكره البراء أن يصف يد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -] (¬1) إجلالًا له وهو مخلوق، فكيف الخالق الذي ليس كمثله شيء؟. والمقصود (¬2) قوله: من وصف شيئًا من ذات الله، فجعل الموصوف من ذات الله، وغالب كلام السلف على هذا يقول (¬3) عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، نظير مالك (¬4) في كلامه المشهور في الصفات، وقد رواه بالإسناد أبو بكر الأثرم، وأبو عمر الطلمنكي، وأبو عبد الله بن بطة، في كتبهم (¬5) وغيرهم. ¬
قال: (أما بعد، فقد فهمت ما سألت [عنه] (¬1) فيما تتابعت (¬2) الجهمية، ومن خلفها (¬3)، في صفة الرَّبِّ العظيم، الذي فاقت (¬4) عظمته الوصف والتقدير، وكلّت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدره، ردت عظمته العقول (¬5)، فلم تجد مساغًا فرجعت خاسئة (¬6)، وإنما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير (¬7)، وإنَّما يقال: كيف؟ لمن لم يكن مرَّة ثم كان، فأمَّا الذي لا يحول (¬8) ولا يزول (¬9) ولم يزل وليس له مثل، فإنَّه لا يعلم كيف هو إلّا هو [وكيف يعرف قدر من لم يبدأ، ومن لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف، على أنَّه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه] (¬10) الدليل (¬11) على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه (¬12) لا تكاد تراه صغرًا (¬13) يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر [لما ¬
يتقلب به ويحتال (¬1) من عقله أعضل بك، وأخفى عليك ممَّا ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم، وسيد السادة، وربهم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2)] (¬3). اعرف -رحمك (¬4) الله تعالى- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الربّ من نفسه، بعجزك عن معرفة قدر (¬5) ما وصف منها إذا (¬6) لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم (¬7) ما لم يصف؟ هل يستدل بذلك على شيء من طاعته أو ينزجر (¬8) به عن معصيته؟. فأمَّا الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقًا وتكلف (¬9)، فقد (¬10) استهوته الشياطين في الأرض حيران [فصار يستدل -بزعمه- على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأنَّ قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البيِّن بالخفي بجحد (¬11) ما سمى الرَّبُّ من ¬
نفسه لصمت الرَّبُّ عما لم يسمّ منها] (¬1) فلم (¬2) يزل يملي له الشيطان حتَّى جحد قول الله عزَّ وجلَّ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (¬3) فقال: لا يراه أحد (¬4) يوم القيامة (¬5) [فجحد -والله- أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (¬6) فهم بالنظر إليه ينضرون إلى أن قال: وإنَّما جحد (¬7) رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة الضَّالة المضلة، لأنَّه قد عرف [أنَّه] (¬8) إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحدًا] (¬9). وقال المسلمون يا رسول الله: هل نرى ربنا؟ فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "هل تضارون (¬10) في رؤية الشَّمس ليس دونها سحاب" قالوا: لا، قال: "فهل تضارون (¬11) في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب" قالوا: لا، قال: "فإنكم ترون ربكم يومئذٍ كذلك" (¬12). ¬
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمتلئ النَّار حتَّى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط، قط، وينزوي بعضها إلى بعض" (¬1). وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله ممَّا فعلت بضيفك البارحة" (¬2). ¬
وقال- فيما بلغنا: "إن الله ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم" فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: "نعم" قال: لا نعدم من رب يضحك خيرًا (¬1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
إلى (¬1) أشباه لهذا ممَّا لم (¬2) نحصِهِ. وقال الله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬3) وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬4) وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (¬5) وقال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬6) وقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬7) فوالله ما دلهم على عظم ما وصف (¬8) من نفسه وما تحيط به قبضته إلّا صغر نظيرها (¬9) منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقى في روعهم، وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه فسماه (¬10) على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه [صفة] (¬11) ما سواه -لا هذا ولا هذا- لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. أعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين تنتهي حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارث (¬12) علمه الأمة، فلا تخافن في ذكره وصفته من ¬
تعليق الشيخ عليه
ربك ما وصف من نفسه عيبًا، ولا تتكلفن (¬1) بما وصف [لك] (¬2) من ذلك قدرًا. وما أنكرَتْه نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في الحديث (¬3) عن نبيك -من ذكر صفة ربك- فلا تتكلَّفن (¬4) علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرَّبُّ عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من (¬5) نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد (¬6) الجاحدون ممَّا وصف (¬7) من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون ممَّا لم يصف منها. فقد -والله- عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف (¬8)، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون (¬9) ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم (¬10) مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرَّبِّ (¬11) قلبُ مسلم (¬12)، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرَّبِّ مؤمن. ¬
وما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سماه من صفة ربه، فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب -تعالى- من نفسه. والراسخون (¬1) في العلم -الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما (¬2) وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها- لا ينكرون صفة ما سمَّى منها جحدًا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقًا، لأنَّ الحق ترك ما ترك، وتسمية (¬3) ما سمى فمن {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬4) أوهب (¬5) الله لنا ولكم حكمًا وألحقنا بالصالحين. فتدبر كلام هذا الإمام (¬6)، وما فيه من المعرفة والبيان. والمقصود هنا: تكلمه بلفظ (من) في مواضع (¬7) عديدة كقوله: كيف (¬8) يكون لصفة شيء منه [حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف، فذكر أن صفته شيء منه] (¬9) لا يعرف أحد حدها ولا قدرها. ثم قال: الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر مخلوقاته، فجعل الصفة هنا له لا لشيء منه، لأنَّه استدل بالعجز عن تحقيق صفة المخلوق، ثم أمر بمعرفة ما ظهر علمه ¬
بالكتاب والسنة، والسكوت عما لم يظهر علمه، وذم من نفى ما ذكر و (¬1) تكلف علم ما لم يذكر فقال: اعرف غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، فذكر أن [من] (¬2) نفسه ما لم يصفه، ونهى عن تكلف (¬3) صفته، لأنَّ الذي وصفه من نفسه يعجز عن معرفة قدره، فالعجز عن ما لم يذكر أولى، قال: إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك (¬4) علم ما لم يصف؟ ثم قال: فأمَّا الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقًا وتكلفًا، مضاه يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأنَّ قال: لا بد إلي كان له كذا من أن يكون له كذا، فجحد ما سمى الرَّبّ من نفسه بصمت الرَّبِّ عما لم يسم منها، فذكر (¬5) -أيضًا- في هذا الكلام أن الرَّبَّ وصف من نفسه وسمى من نفسه ما وصف وسمى، وصمت عن ما لم يسم من نفسه، وأن الجهمية يجحدون الموصوف المسمى من نفسه بأنَّ ذلك يستلزم كذا، وينفون اللازم الذي صمت الرَّبّ عنه فلم يذكره بنفي ولا إثبات. ثم بين أن الجهمي ينكر الرؤية (¬6)، لأنَّه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدًا، فذكر أن المؤمنين يرون منه يوم القيامة ما صدقوا به في الدُّنيا وجحدته الجهمية، وأن الجهمي علم أن رؤيته تستلزم ثبوت ما جحده، فلذلك أنكرها ¬
[هكذا هو فإن] (¬1) الرؤية تستلزم ثبوت ذلك لا ريب، ولهذا كان من أثبت الرؤية ووافق الجهمي على نفي لوازمها، مخالفًا للفطرة العقلية عند عامة العقلاء المثبتة والنافية. ثم قال: لما ذكر قوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬2) فوالله ما دلهم على عظم (¬3) ما وصف من نفسه، وما تحيط به قبضته [إلَّا صغر نظيرها منهم، فذكر أن ما دلت عليه الآية (¬4) هو ما وصفه] (¬5) من نفسه، وأن هذا الموصوف منه نظيره منهم صغير، فإذا كان هذا عظمة الذي هو صغير بالنسبة إلى ما لم يذكر، فكيف بعظمة ما لم يصف من نفسه سبحانه وتعالى؟!!. ثم قال: فما وصف من نفسه فسماه سميناه كما سماه، ولم نتكلف من صفة ما سواه، فذكر أنا نسمي ونصف ما سمى ووصف من نفسه، ولا نتكلف أن نصف منه ما سوى ذلك، لا نجحد الموصوف من نفسه ولا نتكلف معرفة (¬6) ما لم يصفه من نفسه. وسائر كلامه يوافق هذا، يبين أنَّه وصف من نفسه موصوفات وسكت عما لم يصفه من نفسه كقوله: فإن (¬7) تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون ¬
ممَّا وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف (¬1) ما وصف الواصفون ممَّا لم يصف منها فقد -والله- عز المسلمون الذي يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر يسمعون (¬2) ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرَّبّ قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسميته غيره من الرَّبّ قلب مؤمن. قوله: في هذا الموضع يسمعون (¬3) ما وصف الرب من نفسه من هذا في كتابه، فإنَّه قال هنا: ما وصف الرب به نفسه من هذا، وفي سائر المواضع يقول: ما وصف من نفسه، وذلك لأنَّه هنا قال: تسمعون (¬4) فلا بد أن يذكر الكلام الذي وصف الله به نفسه، والمسموع (¬5) يتضمن ما وصف من نفسه، فلهذا قال: تسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا، وفي غير هذا الموضوع كقوله: فما وصف من نفسه فسماه سميناه كما سماه، أراد ما دل عليه الكلام وبينه ووصفه، وهو الذي وصفه الله من نفسه وسماه، وذلك يعلم ويعرف ويذكر ولا يسمع، إلّا إذا وصف وذكر، وسيأتي بيان أن هذه (¬6) الموصوفات التي وصفها الله من نفسه يوصف بها -أيضًا- فهي موصوفة (¬7) باعتبار، والرب يوصف بها باعتبار. ¬
كلام أبي الشيخ الأصبهاني في الصفات
وذكر أبو الشَّيخ الأصبهاني في كتاب السنة له (¬1) قال: وفيما أجاز لي (¬2) جدي -رحمه الله- قال: قال إسحاق بن راهوية إن الله -تبارك وتعالى- وصف نفسه في (¬3) كتابه بصفات استغنى الخلق كلهم عن أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه، وأجمله في كتابه، فإنَّما فسر النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - معنى إرادة الله -تبارك وتعالى- قال الله في كتابه حيث ذكر عيسى بن مريم فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (¬4) وقال في محكم كتابه {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (¬5) {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬6)، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬7)، وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬8) وقال {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬9) وقال في آيات كثيرة {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬10) وقال {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (¬11) وكل ما وصف الله به نفسه من الصفات التي ذكرناها ممَّا هي موجودة في القرآن، وما لم تذكّر فهو كما ذكر، وإنَّما يلزم العباد الاستسلام لذلك والتعبد، لا نزيل صفة ممَّا وصف الله بها (¬12) ¬
نفسه، أو وصف الرسول عن جهته، لا بكلام ولا بإرادة، إنَّما يلزم (¬1) المسلم الأداء، ويوقن بقلبه أن ما وصف به نفسه في القرآن إنَّما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل ولا ملك مقرب تلك الصفات إلّا بالأسماء التي عرفهم الرَّبّ -تبارك وتعالى-، فأما أن يدرك أحد من بني آدم معنى تلك الصفات فلا يدركه أحد، وذلك أن الله تعالى إنَّما وصف من صفاته قدر ما تحتمله (¬2) عقول ذوي الألباب، ليكون إيمانهم بذلك. ومعرفتهم بأنه الموصوف بما وصف به نفسه، ولا يعقل أحد منتهاه ولا منتهى صفاته، وإنَّما يلزم المسلم أن يثبت معرفة صفات الله بالاتباع والاستسلام كما جاء، فمن جهل معرفة ذلك حتَّى يقول: إنما أصف ما قال الله ولا أدري (¬3) ما معاني ذلك، حتَّى يفضي إلى أن يقول بمعنى قول الجهمية: يده (¬4) نعمة، ويحتج بقوله: {أَيْدِينَا أَنْعَامًا} (¬5) ونحو ذلك فقد ضل سواء (¬6) السبيل، هذا محض كلام الجهمية حيث يؤمنون بجميع ما وصفناه (¬7) من صفات الله، ثم يحرفون معنى الصفات عن جهتها التي وصف الله بها نفسه، حتَّى يقولوا: معنى {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬8) معنى السميع هو: البصير، ومعنى البصير هو السميع، ويجعلون اليد يد ¬
محمد بن شجاع إمام الواقفة هو وأصحابه يطلقون على القرآن بأنه محدث
نعمة، وأشباه ذلك يحرفونها عن جهتها، لأنهم هم (¬1) المعطلة. [قلت] (¬2): فقد تبيّن مستند حكاية ابن شجاع الثلجي وزرقان وغيرهما لما ينقلونه عن أهل الإثبات من التحريف كقولهم: إن الله هو القرآن، أو إن القرآن بعضه، وظهر (¬3) أن محمد بن شجاع -إمام الواقفة (¬4) - هو وأصحابه الذين لا يقولون: القرآن مخلوق ولا غير مخلوق، يطلقون عليه أنَّه محدث بمعنى أنَّه أحدثه في غيره، وهو معنى قول (¬5) من قال: إنه مخلوق ليس بينهما فرق إلّا في اللفظ، وقد سلك هذا المسلك طوائف من أهل البدع من الرافضة وغيرهم يقولون: هو محدث مجعول، ولا يقولون: هو مخلوق، ويزعمون أن لفظ الخلق يحتمل المفترى، وهم في المعنى موافقون لأصحاب المخلوق، وقد وافقهم على الترادف طوائف الكلابية والأشعرية وخلائق من (¬6) أهل الفقه والحديث والتصوف يقولون: المحدث هو المخلوق في غيره، ¬
داود وأبو معاذ وغيرهما لم يزيدوا بقولهم: إنه محدث أنه بائن عن الله
لا يسمون محدثًا إلّا ما كان كذلك، فهؤلاء كلهم يقولون: من قال: إنه محدث كان معنى قوله: إنه مخلوق، ولزمه القوله بأنه مخلوق. فهذا (¬1) أحد الوجهين للإنكار على داود الأصبهاني وغيره ممن قال: إنه محدث (¬2) وأطلق القوله بذلك، وإن كان داود وأبو معاذ وغيرهما لم يريدوا بقولهم: إنه محدث أنَّه بائن عن الله، كما يريد الذين يقولون: إنه مخلوق، بل مذهب (¬3) داود وغيره ممن قال: إنه محدث وليس بمخلوق من أهل الإثبات: إنه هو الذي تكلم به، وإنه قائم به (¬4) ليس بمخلوق منفصل عنه، ولعل هذا كان (¬5) مستند داود في قوله لعبد الله: أحب أن تعذرني عنده، وتقوله له: ليس هذا مقالتي، أو ليس كما قيل لك، فإنَّه قد يكون قصد بذلك أني لا أقول: إنه محدث بالمعنى الذي فهموه وأفهموه -وهو أنَّه مخلوق- وليس هذا مذهبي، ولم يقبل أحمد قوله، لأنَّ هذا القول منكر، ولو فسره بهذا التفسير لما ذكرناه (¬6)، ولأنه أنكر مطلقًا، فلم يقر باللفظ الذي قاله، وقد قامت عليه البينة به، فلم يقبل إنكاره بعد الشهادة عليه، ولأنه أظهر مع هذه البدعة بدعة أخرى وهي: إباحة التحليل (¬7)، وهو مذهبه، وأهل الحديث لم يكونوا ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
لفظ "محدث" هل هو مرادف للفظ المخلوق، أم لا؟ على قولين
يتنازعون في تحريم ذلك، كما جاءت [به] (¬1) الأحاديث الصحيحة عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - والتابعين. وكان محمد بن يَحْيَى (¬2) من أئمة أهل الحديث، كما قال أبو نعيم الأصبهاني (¬3): أنبأنا محمد بن عبد الله -يعني الحاكم- سمعت يَحْيَى (¬4) بن منصور القاضي يقول: سمعت خالي عبد الله بن علي بن الجارود، يقول: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: كُنَّا عند أحمد بن حنبل، فدخل محمد بن يَحْيَى، فقام إليه أحمد، وتعجب منه النَّاس، ثم قال لبنيه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله فاكتبوا عنه. وقد تنازع النَّاس في لفظ (محدث) هل هو مرادف للفظ المخلوق أم ليس كذلك؟ على قولين: ¬
قال الأشعري في المقالات (¬1) -لما ذكر النزاع في الخلق والكسب والفعل، قال: (واتفق أهل الإثبات على أن معنى مخلوق معنى محدث ومعنى محدث [معنى] (¬2) مخلوق، وهذا هو الحق عندي، وإليه أذهب، وبه أقول. وقال زهير الأثري (¬3)، وأبو معاذ التومني: معنى مخلوق أنَّه وقع عن إرادة من الله وقول (¬4) له (كن). وقال كثير من المعتزلة بذلك، منهم أبو الهذيل. وقد قال قائلون: معنى المخلوق أن (¬5) له خلقًا، ولم يجعلوا الخلق قولًا على وجه من الوجوه، منهم أبو موسى (¬6)، وبشر من المعتمر. [و] (¬7) الفرق بين المخلوق والمحدث، هو اصطلاح أئمة أهل الحديث، وهو موافق للغة التي نزل بها القرآن، ومنهم من يفرق بين حدث ومحدث، كما حكى القولين الأشعري (¬8). ¬
قال البُخاريّ في صحيحه (¬1) في كتاب الرد على الجهمية -في أثناء أبواب القرآن- باب ما جاء به في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق: (وهو فعل الرَّبّ وأمره، فالرب (¬2) بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون (¬3) غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون). ثم قال (¬4) بعد ذلك باب (¬5) قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬6) (ولم يقل: ماذا خلق ربكم). وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ} (¬7). وقال مسروق، عن ابن مسعود (¬8): إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئًا، حتَّى إذا (¬9) فزع عن قلوبهم، وسكن الصوت عرفوا أنَّه الحق، ونادوا: ماذا قال ربكم: قالوا الحق. قال (¬10): ويذكر عن جابر بن عبد الله بن أنيس (¬11): سمعت (¬12) ¬
النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان". ثم روى (¬1) عن عكرمة، عن أبي هريرة: بلغ به (¬2) النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان (¬3) {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬4). ثم قال (¬5) بعد أبواب: باب قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (¬6)، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬7) وقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬8) وأن حديثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬9). ¬
الذي عليه السلف والأئمة وأهل السنة والجماعة أن القرآن الذي هو كلام الله له حروف ومعاني
وقال ابن مسعود عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن ممَّا أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة". وروى (¬1) عن (¬2) أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم؟ وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدًا بالله تقرؤونه محضًا لم يشب (¬3) ". وروى (¬4) الزُّهريّ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله (¬5) بن عباس قال: (يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء؟ وكتابكم الذي أنزل الله على (¬6) نبيكم أحدث الأخبار بالله محضًا لم يشب (¬7) وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا، فكتبوا بأيديهم الكتب (¬8)، وقالوا: هو من عند (¬9) الله ليشتروا بذلك ثمنًا قليلًا، أَوَلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ فلا والله ما رأينا رجلًا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم) (¬10). [قلت] (¬11) والذي كان عليه السلف الأئمة، ¬
وأهل" (¬1) السنة والجماعة، أن القرآن الذي هو كلام الله، هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنَّه القرآن، والقرآن وسائر الكلام (¬2) له حروف ومعاني، فليس الكلام ولا القرآن إذا أطلق اسمًا لمجرد الحروف، ولا اسمًا (¬3) لمجرد المعاني، بل الكلام اسم للحروف والمعاني جميعًا، فنشأ بعد السلف والأئمة ممن هو موافق للسلف -والأئمة على إطلاق القول بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق- طائفتان: طائفة (¬4) قالت: كلام الله ليس إلّا مجرد معنى قائم بالنفس، وحروف القرآن ليست من كلام الله، ولا تكلم بها (¬5)، ولا يتكلم الله بحرف ولا صوت، و {الم} و {طس} و {ن} وغير ذلك ليس من كلام الله الذي تكلم هو به، ولكن خلقها، ثم منهم من قال: خلقها في الهواء ومنهم من قال: خلقها مكتوبة في اللوح المحفوظ، ومنهم من قال: جبريل هو الذي أحدثها، وصنفها بإقدار الله له على ذلك، ومنهم من زعم أن محمدًا هو الذي أحدثها وصنفها بإقدار الله له على ذلك (¬6)، ¬
قول الكرامية والسالمية في القرآن
وهؤلاء وافقوا الجهمية في نفيهم عن الله من الكلام ما نفته الجهمية، وفي أنهم جعلوا هذا مخلوقًا كما جعلته الجهمية مخلوقًا، ولكن فارقوهم في أنهم أثبتوا معنى القرآن [غير] (¬1) مخلوق، وقالوا: إن كلام (¬2) الله اسم لما يقوم به ويتصف به، لا لما يخلقه في غيره، وأطلقوا القول بأنَّ القرآن غير مخلوق، وإن كانوا لا يريدون جميع المعنى الذي أراد (¬3) السلف والأئمة والعامة، بل بعضه، كما أن الجهمية تطلق القول بأنَّ القرآن كلام الله، ولا يعنون به المعنى الذي يعنيه السلف والأئمة والعامة، ولكن هؤلاء منعوا أن تكون هذه الحروف من كلام الله، والجهمية المحضة سموها كلام الله، لكن قالوا: هي مع ذلك مخلوقة، وأولئك لا يجعلون ما يسمونه كلام الله مخلوقًا، ومنهم من يسمي (¬4) كلام الله -أيضًا- على سبيل الاشتراك (¬5)، وأكثرهم يقولون: نسميها بذلك مجازًا (¬6). وأيضًا -فجعلت هذه الطائفة (¬7) معنى واحدًا قائمًا بذات الرَّبّ، هو ¬
النزاع بين الكلابية والأشاعرة والكرامية فيما أثبتوه من المعنى في شيئين
أمر ونهي وخبر واستخبار، وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وكل ما تكلم [الله] (¬1) به، هو معنى آية الكرسي، وآية الدين، وجمهور عقلاء بني آدم يقولون: إن فساد هذا معلوم بضرورة العقل وفطرة بني آدم، وهؤلاء عندهم: إن الملائكة تعبر (¬2) عن المعنى القائم بذات الله، وأن الله نفسه لا يعبر بنفسه عن نفسه، وذلك يشبه -من بعض الوجوه- الأخرس الذي يقوم بنفسه معان، فيعبر غيره عنه بعبارته، وهم في ذلك مشاركون للجهمية الذين جعلوا غير الله يعبر عنه من [غير] (¬3) أن يكون الله يتكلم، لكن هؤلاء يقولون: قام بنفسه معنى فتجعله كالأخرس، والجهمية تجعله بمنزلة الصنم الذي لا يقوم به معنى ولا لفظ. فعارض هؤلاء (¬4) طائفة (¬5) قالت: إن القرآن هو الحرف والصوت، أو الحروف والأصوات، وقالوا: إن حقيقة الكلام هو الحروف والأصوات، ولم يجعلوا المعاني داخلة في مسمى الكلام، وهؤلاء وافقوا المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الكلام ليس هو إلَّا الحروف والأصوات، لكن المعتزلة لا يقولون: إن الله تكلم بكلام قائم به (¬6)، ¬
هل الكلام اسم للفظ أو للمعنى أو لهما، في ذلك أربعة أقوال
وحقيقة قولهم: إن الله لم يتكلم بشيء، وهؤلاء يقولون: إن الله تكلم بذلك، وأن كلام الله قائم به، وأن كلام الله غير مخلوق، وهؤلاء أخرجوا المعاني أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله، كما أخرج الأولون (¬1) الحروف والأصوات أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله، لكن هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام ليس هو إلّا الحروف والأصوات، لا يمنعون أن يكون للكلام (¬2) معنى، بل النَّاس كلهم متفقون على أن الحروف والأصوات التي يتكلم بها المتكلمون (¬3) تدل على معان، وإنَّما النزاع بينهم في شيئين: أحدهما: أن تلك المعاني هل هي من جنس العلوم والإرادات؟، [أم هي حقيقة أخرى ليست هي العلوم والإرادات؟] (¬4). فالأولون يقولون: ذلك المعنى حقيقته (¬5) غير حقيقة العلم والإرادة (¬6). والآخرون يقولون: ليست حقيقته تخرج عن ذلك. والنزاع الثَّاني: أن مسمى الكلام هل هو المعنى أو هو اللفظ؟ ¬
إنكار الأئمة على من قال: إن أصوات العباد أو المداد الذي يكتب به القرآن قديم أزلي غير مخلوق
فالذين (¬1) يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويقولون: الكلام هو الحروف والأصوات. هم وإن وافقوا المعتزلة في مسمى الكلام -فإنهم يقولون: إن معنى الكلام سواء كان هو العلم والإرادة، أو أمرًا (¬2) آخر قائمًا بذات الله. والجهمية من المعتزلة ونحوهم، لا تثبت معنى قائمًا بذات الله، بل هؤلاء يقولون: إن الكلام الذي هو الحروف قائم بذات الله- أيضًا، فموافقة هؤلاء المعتزلة أقل من موافقة الأولين بكثير. والصّواب الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، أن [الكلام اسم للحروف والمعاني جميعًا (¬3)، فاللفظ والمعنى داخل في] (¬4) مسمى الكلام. والأقوال في ذلك أربعة: الأول: إن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز (¬5) في المعنى، كما تقوله الطائفة الثَّانية. والثاني: إنه حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، كما يقوله جمهور الأولين. والثالث: إنه مشترك بينهما، كما يقوله طائفة من الأولين. والرابع (¬6): إنه حقيقة في المجموع، وإذا أريد به أحدهما دون الآخر احتاج إلى قرينة، وهذا قول أهل الجماعة. وقد يحكي الأولون عن الآخرين: أنهم يقولون: إن القرآن قديم ¬
غير مخلوق، وإن القديم الذي ليس بمخلوق هو الحروف والأصوات القائمة بالمخلوقات، وهي أصوات العباد، ومداد المصاحف، فيحكون عنهم: أن نفس صوت العبد، ونفس المداد قديم أزلي غير مخلوق (¬1). وهذا ممَّا يعلم كل أحد فساده بالحس والاضطرار، وما وجدت أحدًا من العلماء المعروفين يقر بذلك، بل ينكرون ذلك، ولكن قد يوجد مثل هذا القول في بعض الجهال من [أهل] (¬2) البوادي والجبال ونحوهم. وإنكار ذلك مأثور عن الأئمة المتقدمين، كما ذكره البُخاريّ في كتاب خلق الأفعال (¬3) قال: (وقال إسحاق بن إبراهيم: فأمَّا الأوعية فمن شك (¬4) في خلقها؟ قال الله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} (¬5) وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (¬6). فذكر محمد بن نصر المروزي (¬7) في كتابه، عن أحمد بن عمر عن عبدان، عن ابن المبارك، قال: الورق والمداد مخلوق، فأمَّا القرآن فليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله. ¬
الأشعري موافق لابن كلاب على عامة أصوله
ولكن منهم طائفة يقولون: إن لفظهم بالقرآن أو (¬1) الصوت المسموع منهم غير مخلوق، أو أنَّه يسمع منهم الصوت المخلوق والصوت الذي ليس بمخلوق لكن هذا ممَّا أنكره عليهم أئمتهم وجماهيرهم (¬2). والآخرون يحكون عن الأولين: أنَّه ليس لله في الأرض كلام، وأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله، وأنه ليس لله في الأرض كلام، وإنَّما هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله، وهؤلاء صادقون (¬3) في هذا النقل، فإن هذا قول الأولين، وهم أول من ابتدع في الإسلام القول بالحكاية والعبارة، وهي البدعة التي أضافها المسلمون إلى ابن كلاب والأشعري. فإن ابن كلاب قال: الحروف حكاية عن كلام الله وليست من كلام الله، لأنَّ الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم، والله يمتنع أن يقوم به حروف وأصوات، فوافق الجهمية [و] (¬4) المعتزلة في هذا النفي، فجاء (¬5) الأشعري بعده -وهو موافق لابن كلاب- على عامة أصوله فقال: الحكاية تقتضي أن تكون مثل المحكي، وليست (¬6) الحروف مثل المعنى، بل هي عبارة عن المعنى ودلالة (¬7) عليه، وهم وأتباعهم يقولون: إن تسمية ذلك كلامًا لله مجازًا لا حقيقة، ويطلقون القول الحقيقي بأنَّ أحدًا من المسلمين لم يسمع كلام الله، وأمثال ذلك سواء ¬
قالوا: إن الحروف تسمى كلامًا مجازًا أو بطريق (¬1) الاشتراك [بينها وبين المعاني، لأنها وإن سميت كلامًا بطريق الاشتراك (¬2)] (¬3) فالكلام عندهم وعند الجماعة لا بد أن يقوم بالمتكلم، فيصح على حد قولهم (¬4) أن تكون الحروف والأصوات كلامًا للعباد حقيقة، لقيامها بهم، ولا يصح أن تكون (¬5) كلامًا لله حقيقة، لأنَّها لا تقوم به عندهم بحال، فلو قال أحد منهم: إن الحروف التي يخلقها الله في الهواء تسمى كلامًا له حقيقة، أو إن ما يسمع من العباد، أو يوجد في المصاحف يسمى كلام الله حقيقة لزمه (¬6) أن يجعل مسمى الكلام ما لا يقوم بالمتكلم، بل يكون دلالة على ما يقوم بالمتكلم وإن كان مخلوقًا له، وهذا ما وجدته لهم، وهو ممكن أن يقال، لكن متى قالوه انتقض (¬7) عليهم عامة الحجج التي أبطلوا بها مذهب المعتزلة وصار للمعتزلة عليهم حجة قوية. وقد يحكي الآخرون عن الأولين: أنهم يستهينون بالمصاحف، فيطؤونها، وينامون عليها (¬8) ويجعلونها مع نعالهم، وربما كتبوا القرآن بالعذرة، وغير ذلك ممَّا هو من أفعال المنافقين الملحدين، وهذا يوجد في أهل الجفاء والغلو منهم، لما ألقى عليهم (¬9) أئمتهم أن هذا ليس هو كلام الله، صاروا يفرعون على ذلك فروعًا من عندهم، لم يأمرهم بها ¬
الطائفة التي جعلت القرآن مجرد الحروف والأصوات وافقوا الجهمية من المعتزلة وغيرهم
أئمتهم وإنَّما هي من أفعال الزنادقة المنافقين، وإلا فلا خلاف بين من يعتقد الإسلام في وجوب احترام المصاحف، وإكرامها وإجلالها، وتنزيهها، وفي العمل بقول (¬1) النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" (¬2) وإن كان أهل البدعة يتناقضون في الجمع بين ما جاءت به الشريعة، وما اعتقدوه من البدعة، لكن التناقض جائز على العباد، وهو أيسر عليهم من التزام الزندقة والنفاق والإلحاد (¬3)، وإن كانت (¬4) تلك البدعة هي المرقاة إلى هذا الفساد (¬5). وأمَّا الطائفة الثَّانية: التي جعلت القرآن مجرد الحروف والأصوات فإنهم وافقوا الجهمية من المعتزلة وغيرهم على ذلك، فإن أولئك جعلوا ¬
القرآن وسائر الكلام هو مجرد الحروف والأصوات الدّالة على المعاني، لكنهم لم يجعلوا لله كلامًا تكلم هو به، وقام به، ولا جعلوا لهذه الحروف معاني تقوم بالله أصلًا، إذ عندهم لم يقم بالله لا علم، ولا إرادة ولا غير ذلك، بل جعلوا الحروف والأصوات مخلوقة خلقها الله في بعض الأجسام، كما يزعمون أنَّه خلق في نفس الشجرة صوتًا سمعه موسى، حروف ذلك الصوت: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1). ولا ريب أن هذا يوجب أن تكون الشجرة هي القائلة: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬2)، إذ المتكلم بالكلام هو الذي يقوم به، كما أن المتحرك بالحركة، والعالم بالعلم، وغير ذلك من الصفات والأفعال وغيرها هو من يقوم به الصفة، ولا يجوز أن يكون الشيء (¬3) متكلمًا بكلام يقوم بغيره ولا يقوم به أصلًا، كما لا يكون عالمًا قادرًا بعلم وقدرة لا تقوم إلَّا بغيره، ومتحركًا بحركة لا تقوم إلَّا بغيره، وطرد ذلك عند المحققين من الصفاتية أنَّه (¬4) لا يكون فاعلًا خالقًا ومكونًا بفعل وخلق وتكوين لا يقوم إلَّا بغيره، كما هو مذهب أهل الحديث والصوفية والفقهاء وطوائف من أهل الكلام (¬5). ومما ينبغي أن يعلم أن الجهمية لما كانت في نفس الأمر، قولها ¬
قول أهل الشرك والتعطيل، وليس (¬1) [هو] (¬2) قول أحد من أهل الكتب المنزلة، ولكن لم يكن لهم بد من موافقة (¬3) أهل الكتب في الظاهر وكانوا في ذلك منافقين عالمين بنفاق أنفسهم، كما عليه طواغيتهم الذين علموا بمخالفة أنفسهم للرسل، وأقدموا على ذلك، وهؤلاء منافقون زنادقة. وأمَّا الجهال (¬4) بنفاق أنفسهم، صاروا في الجمع بين تكذيبهم الباطن وتصديقهم الظاهر جامعين بين النقيضين، مضطرين إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، مفسدين للعقل والدين وقولهم بخلق القرآن، ونفي الصفات، من أصول نفاقهم، وذلك أنَّه من المعلوم ببدائه (¬5) العقول أن الحي لا يكون حيًّا إلّا بحياة تقوم به، ولا يكون (¬6) حيًّا بلا حياة أو بحياة تقوم بغيره، وكذلك العالم والقادر لا يكون عالمًا قادرًا إلّا بعلم وقدرة تقوم به، ولا يكون (¬7) عالمًا قادرًا بلا علم ولا قدرة، أو بعلم وقدرة تقوم بغيره، وكذلك الحكيم والرحيم والمتكلم والمريد، لا يكون (¬8) حكيمًا ولا رحيمًا أو متكلمًا أو مريدًا إلَّا بحكمة ورحمة أو كلام وإرادة تقوم به، ولا يكون (¬9) حكيمًا بلا حكمة ورحيمًا بلا رحمة أو بحكمة ورحمة تقوم بغيره، ولا يكون متكلمًا ولا مريدًا بلا كلام ولا إرادة أو بكلام وإرادة تقوم بغيره. ¬
معنى قول من قال من أهل الإثبات: إن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره
وكذلك من المعلوم ببدائه (¬1) العقول أن الكلام والإرادة والعلم والقدرة لا تقوم إلّا بمحل، إذ هذه الصفات (¬2) لا تقوم بأنفسها، ومن المعلوم ببدائه (¬3) العقول أن المحل الذي يقوم به (¬4) العلم يكون عالمًا، والذي تقوم به القدرة يكون قادرًا، والذي يقوم به الكلام يكون متكلمًا والذي تقوم به الرحمة يكون رحيمًا، والذي تقوم به الإرادة يكون مريدًا، فهذه الأمور مستقرة (¬5) في فطر النَّاس، تعلمها قلوبهم علمًا فطريًّا ضروريًّا، والألفاظ المعبرة عن هذه المعاني هي من اللغات التي اتفق عليها بنو آدم فلا يسمون عالمًا قادرًا إلَّا من قام به العلم والقدرة، ومن قام به العلم والقدرة سموه عالمًا قادرًا، وهذا معنى قول من قال من أهل الإثبات: إن الصفة إذا قامت (¬6) بمحل عاد حكمها على ذلك [المحل دون غيره، أي: إذا قام العلم والكلام بمحل] (¬7) كان ذلك المحل هو العالم المتكلم دون غيره، ومعنى قولهم: إن الصفة إذا قامت بمحل اشتق له منها اسم، كما يشتق لمحل (¬8) العلم عليم، ولمحل الكلام متكلم، ومعنى قولهم: إن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه؛ أي: أن لفظ العليم والمتكلم مشتق من لفظ العلم والكلام، فإذا صدق على (¬9) الموصوف أنَّه عليم [متكلم] (¬10). . . . . . . . . . . . ¬
اختلفت الجهمية في تسمية الله تعالى متكلما بالكلام المخلوق على ثلاثة أقوال
لزم أن يصدق حصول العلم والكلام له. ولهذا كان أئمة السلف الذين عرفوا حقيقة قول من قال: مخلوق وأن معنى ذلك أن الله لم يقم به كلام، بل الكلام قام بجسم من الأجسام غيره، وعلموا أن هذا يوجب بالفطرة الضرورية أن يكون ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام دون الله، وأن الله لا يكون متكلمًا أصلًا، صاروا (¬1) يذكرون قولهم بحسب ما هو عليه في نفسه، وهو أن الله لا يتكلم وإنَّما خلق شيئًا تكلم به (¬2)، وهكذا كانت الجهمية تقول أولًا، [ثمّ] (¬3) إنَّها زعمت أن المتكلم من فعل الكلام، ولو في غيره، واختلفوا هل يسمى متكلمًا حقيقة أو مجازًا؟ على قولين: فلهم في تسمية الله تعالى متكلمًا بالكلام المخلوق ثلاثة أقوال: أحدها: وهو حقيقة قولهم وهم فيه أصدق لإظهارهم كفرهم أن الله لا تكلم ولا يتكلم. والثاني: وهم فيه متوسطون في النفاق أنَّه يسمى متكلمًا بطريق المجاز. والثالث: وهم فيه منافقون نفاقًا محضًا أنَّه يسمى متكلمًا بطريق الحقيقة، وأساس النفاق الذي ينبغي (¬4) عليه الكذب، فلهذا كانوا من أكذب النَّاس في تسمية الله متكلمًا بكلام ليس قائمًا به، وإنَّما هو مخلوق في غيره، كما كانوا كاذبين مفترين في تسمية الله عالمًا قادرًا مريدًا متكلمًا، بلا علم يقوم به، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا كلام، فكانوا وإن نطقوا بأسمائه فهم (¬5) كاذبون بتسميته بها، وهم ملحدون في الحقيقة ¬
وصف الإمام أحمد للجهمية الذين يزعمون أن الله متكلم بكلام مخلوق في غيره
كإلحاد الذين نفوا عنه أن يسمى الرحمن {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا *} (¬1)، وبذلك وصفهم الأئمة وغيرهم ممن أخبر بمقالاتهم (¬2). كما قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية (¬3): "فإذا قيل لهم: من (¬4) تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا (¬5) الخلق [قلنا (¬6): فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق] (¬7) هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم، قلنا (¬8): قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا و (¬9) إنَّما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون (¬10). وقلنا (¬11) لهم: هذا الذي يدبر الأمر (¬12) هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم (¬13)، لأنَّ الكلام لا يكون إلّا بجارحة، والجوارح عن الله (¬14) منفية. ¬
فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد النَّاس تعظيمًا لله، ولا يعلم أنهم إنَّما يقودون بقولهم (¬1) إلى ضلالة وكفر. وقال (¬2) -بعد ذلك-: (بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كم موسى [صَلَّى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء] (¬3). قلنا: لم (¬4) أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنَّما كون شيئًا فعبر عن الله، وخلق صوتًا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلّا من جوف وفم ولسان وشفتين. فقلنا: هل يجوز لمكون أو لغيره (¬5) أن يقول: {يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (¬6)، أو {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬7)؛ فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله أدعى لربوبيته، ولو كان (¬8) كما زعم الجهمي (¬9) أن الله كون شيئًا كان يقول ذلك المكون: يا موسى إن الله (¬10) رب العالمين، لا يجوز أن يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬11) وقد قال الله جل ثناؤه: ¬
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬1)، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬2)، وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬3)، فهذا منصوص القرآن، وأمَّا (¬4) ما قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فكيف يصنعون بحديث سليمان (¬5) الأعمش، عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطَّائي، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلّا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان" (¬6). وأمَّا قولهم: إن الكلام لا يكون إلّا من جوف وفم وشفتين ولسان أليس الله قال للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬7)، أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان (¬8)؟ وقال الله -جل ثناؤه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (¬9)، أتراها أنها سبحت بجوف وفم وشفتين ولسان (¬10)؟ والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا (¬11): {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ¬
قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1)، أتراها نطقت (¬2) بجوف وفم (¬3) وشفتين (¬4) ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف (¬5) شاء، فكذلك تكلم الله (¬6) كيف شاء من غير أن نقول: جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان (¬7). فلما (¬8) خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى إلّا أن كلامه غيره. قلنا: غيره (¬9) مخلوق؟ قال: نعم. قلنا (¬10): هذا مثل قولكم الأول إلَّا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم (¬11) بما تظهرون. وحديث الزُّهريّ (¬12) قال: لما سمع موسى كلام ربه، قال يا رب: هذا الكلام (¬13) الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنَّما (¬14) كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك [وإنَّما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك (¬15)، ولو كلمتك بأكثر من ذلك] (¬16) لمت، قال: فلما رجع موسى إلى قومه ¬
قالوا [له] (¬1): صف لنا كلام ربك. قال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم؟!. قالوا: فشبهه لنا (¬2). قال: أسمعتم الصواعق (¬3) التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله. وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬4) أليس الله هو القائل؟ قالوا: يكون (¬5) الله شيئًا فيعبر عن الله كما كون (¬6) فعبر لموسى، قلنا: فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} (¬7) أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنَّما يكون شيئًا فيعبر عن الله. قلنا: قد أعظمتم على الله القرية، حين زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأنَّ الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك (¬8) ولا تزول من مكان إلى مكان. فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد (¬9) يتكلم، ولكن كلامه مخلوق. قلنا (¬10): وكذلك بنو آدم - عليه السلام - كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتَّى خلق التكلم، وكذلك بنو ¬
آدم كانوا لا يتكلمون حتَّى خلق لهم (¬1) كلامًا، فقد (¬2) جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى (¬3) الله -جل ثناؤه- عن هذه الصفة، بل نقول: إن الله -جل ثناؤه- لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه كان (¬4) [ولا يتكلم حتَّى خلق الكلام (¬5)، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتَّى خلق علمًا فعلم ولا نقول: إنه قد كان] (¬6) ولا قدرة له حتَّى خلق لنفسه قدرة (¬7)، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له حتَّى خلق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة (¬8) حتَّى خلق لنفسه عظمة. فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات (¬9): إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم (¬10) أن الله لم يزل ونوره لم يزل وقدرته. فقلنا (¬11): لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن [نقول] (¬12): لم يزل بنوره وبقدرته (¬13)، لا متى قدر؟ ولا كيف قدر؟. ¬
فقالوا: لا تكونون (¬1) موحدين أبدًا حتى تقولوا: كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول: كان (¬2) الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجيمع صفاته؟ وضربنا لهم مثلًا في ذلك فقلنا لهم (¬3): أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع (¬4) وكرب وليف وسعف وخوص وجمار؟ واسمها اسم واحد (¬5) سميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله -جل جلاله- وله المثل الأعلى -بجميع صفاته إله واحد لا نقول: إنه [قد] (¬6) كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات، ولا يعلم حتى خلق فعلم، والذي لا يعلم هو (¬7) جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله عالمًا قادرًا (¬8) مالكًا (¬9) لا متى ولا كيف؟ وقد سمى الله رجلًا كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي، فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (¬10) وقد كان ¬
وصف الأشعري للمعتزلة نفاة الصفات
[هذا] (¬1) الذي (¬2) سماه (¬3) وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه (¬4) وحيدًا بجميع صفاته [فكذلك الله -وله المثل الأعلى- هو بجميع صفاته] (¬5) إله واحد. وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات (¬6): وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات: الحمد لله الذي بصرنا (¬7) خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيّرين الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا: إن (¬8) الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له، وإنه لا علم له، ولا قدرة (¬9) ولا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا عز له، ولا جلال له، ولا عظمة له، ولا كبرياء له، وكذلك قالوا في سائر صفات الله التي يصف بها نفسه (¬10). قال (¬11): وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعًا [لم يزل] (¬12)، ليس بعالم ولا قادر ولا حي ¬
ولا سميع ولا بصير ولا قديم (¬1)، وعبروا عنه بأن قالوا: عين (¬2) لم يزل، ولم (¬3) يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره [فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر، ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره] (¬4) من ذلك، ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من ذلك (¬5). وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الإيادي كان ينتحل قولهم، فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة. ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أنه لا يقال (¬6): إن الباري عالم قادر سميع بصير حكيم جليل في حقيقة القياس (¬7). [قال: لأني [لو] (¬8) قلت: إنه عالم في حقيقة القياس] (¬9) لكان لا عالم إلّا هو. وكان يقول: القديم لم يزل في حقيقة القياس، لأن القياس ينعكس لأن القديم لم يزل، ومن لم يزل فقديم، فلو كان الباري عالمًا في حقيقة القياس لكان لا عالم إلّا هو. قال (¬10): وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافًا تشتت فيه ¬
المستقر في المعقول والمسموع أن الحي العالم القادر المتكلم المريد لابد أن تقوم به الحياة والعلم والقدرة والكلام والإرادة
أهواؤهم (¬1)، واضطربت فيه أقاويلهم، ثم ساق اختلافهم. وكذلك قال في الإبانة (¬2): فصل (¬3): (وزعمت الجهمية أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر له، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه، لأنهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له، فقد قالوا: إنه ليس بعالم ولا قادر، ووجب ذلك عليهم، وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأن الزنادقة قال كثير منهم: إن الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر (¬4) المعتزلة أن تفصح بذلك، فأتت بمعناه، وقالت: إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية، من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر). ومقصودنا التنبيه على أنه من المستقر في المعقول والمسموع ما تقدم ذكرنا له، من أن الحي العالم القادر المتكلم المريد، لا بد أن تقوم به الحياة [والعلم] (¬5) والقدرة والكلام والإرادة، وأن (¬6) ما قام به ذلك استحق أن يوصف بأنه حي عالم قادر متكلم مريد، فهذه أربعة أمور: ثبوت حكم الصفة لمحلها، وانتفاؤه عن غير محلها، وثبوت الاسم المشتق من اسمها لمحلها، وانتفاء الاسم (¬7) عن غير محلها. ¬
الجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه
[والجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه] (¬1): أحدها: زعمهم أن الله حي عليم قدير، من غير أن تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة، فأثبتوا الأسماء والأحكام مع نفي الصفات. الثاني: أبعد من ذلك من وجه أنهم قالوا: هو متكلم بكلام يقوم بغيره، وليس الجسم الذي قام به الكلام متكلمًا به، فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة، ونفوا الاسم والحكم عن موضع الصفة لكنهم لم يجعلوا متكلمًا إلّا من له كلام، وجعلوا هناك عالمًا قادرًا (¬2) من لا علم له ولا قدرة. الثالث: أبعد من ذلك من وجه آخر، وهو ما قالوه في الإرادة: تارة ينفونها، وتارة يقولون: هو مريد بإرادة لا في محل، فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة، وجعلوا الصفة تقوم بغير محل. وكل هذه الأمور الثلاثة مما يعلم ببدائه (¬3) العقل، وبما فطر الله عليه العباد بالعلوم الضرورية أن ذلك باطل، وهو من النفاق، لكنهم احتجوا في ذلك بحجة ألزمها لهم الكلابية والأشعرية ومن وافقهم، وهو الصفات الفعلية مثل كونه خالقًا رازقًا عادلًا محييًا مميتًا، وتسمى صفة التكوين، وتسمى الخلق، وتسمى صفة الفعل، وتسمى التأثير، فقالوا: هو خالق فاعل مكون عادل، من غير أن يقوم به خلق ولا تكوين ولا فعل ولا تأثير [ولا عدل] (¬4)، فكذلك المتكلم والمريد، وقالوا: إن الخلق هو نفس المخلوق واتبعهم على ذلك الكلابية والأشعرية فصار (¬5) للأولين عليهم حجة بذلك، وإنما قرن هؤلاء بين الأمرين لأنهم قالوا: إن قلنا إن ¬
الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام يقولون: لا يكون فاعلا إلا بفعل يقوم بذاته
التكوين قديم لزم قدم المكونات والمخلوقات كلها، وهذا معلوم الفساد بالحس، وإن قلنا: إنه محدث لزم قيام الحوادث به. وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة (¬1) ويقولون: لا يكون فاعلًا إلّا بفعل يقوم بذاته، وتكوين يقوم [بذاته] (¬2) والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق وهذا هو الذي ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد [ومالك] (¬3) في كتبهم، كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي (¬4)، وأبي منصور الماتريدي (¬5) وغيرهم، وكما ذكره البغوي في شرح السنة (¬6)، وكما ذكره أصحاب أحمد كأبي إسحاق (¬7) وأبي بكر عبد ¬
العزيز، والقاضي (¬1) وغيرهم، لكن القاضي ذكر (¬2) في الخلق هل هو المخلوق؟ أو غيره قولين، لكن استقر قوله على أن الخلق غير المخلوق، وإن خالفهم ابن عقيل، وكما ذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب اعتقاد الصوفية (¬3)، وكما ذكره أئمة الحديث والسنة. قال البخاري في آخر الصحيح (¬4) في كتاب الرد على الجهمية والزنادقة (باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها (¬5) من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه، ¬
هو الخالق المكون (¬1) غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون). ولا ريب أن هذا القول الذي عليه [أهل] (¬2) السنة والجماعة هو الحق، فإن ما ذكر من الحجة أن العالم القادر المتكلم المريد لا يكون إلّا بأن يقوم به العلم والقدرة والكلام والإرادة، وهو (¬3) بعينه يقال في الخالق والفاعل، فإنه من المعلوم ببدائه (¬4) العقول وضرورتها أن الصانع الفاعل لا يكون صانعًا فاعلًا إلّا أن يقوم به ما يكون به فاعلًا [صانعًا، ولا يسمى الفاعل فاعلًا] (¬5) كالضارب والقاتل والمحسن والمطعم، وغير ذلك إلّا إذا قام به الفعل الذي يستحق به الاسم، ولكن الجهمية نفت هذا كله، وفروخهم وافقتهم في البعض دون البعض. وأما أهل الإثبات فباقون على الفطرة، كما وردت به الشريعة، وكما جاء به الكتاب والسنة، فإن الله وصف نفسه في غير موضع بأفعاله، كما وصف نفسه بالعلم والقدرة والكلام، ومن ذلك المجيء والإتيان والنزول والاستواء، ونحو ذلك من أفعاله، لكن (¬6) هنا أخبر بأفعاله، وهناك ذكر أسماءه المتضمنة للأفعال. ولم يفرق السلف الأئمة بين أسماء الأفعال وأسماء الكلام، كما في صحيح البخاري (¬7)، عن سعيد بن جبير أن رجلًا سأل ابن عباس قال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، فذكر مسائله، ومنها ¬
الله -سبحانه- وصف نفسه بأفعاله، كما وصف نفسه بالعلم والقدرة والكلام
قال: وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1)، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬2)، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬3)، فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس: وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬4) سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم أزل (¬5) كذلك. . . هذا لفظ البخاري واختصر (¬6) الحديث. ورواه البرقاني (¬7) من طريق شيخ البخاري بتمامه، فقال ابن عباس: فأما قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬8)، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬9)، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬10)، فإن الله جعل نفسه ذلك، وسمى نفسه ذلك، ولم ينحله أحدًا غيره، {وَكَانَ اللَّهُ}، أي: لم يزل كذلك، هذا لفظ الحميدي صاحب الجمع (¬11). ¬
ورواه البيهقي (¬1) عن البرقاني من حديث محمد بن إبراهيم البوشنجي (¬2)، عن يوسف بن عدي شيخ البخاري قال: إن الله سمى نفسه ذلك، ولم ينحله غيره، فذلك قوله {وَكَانَ اللَّهُ} أي: لم يزل كذلك. ورواه البيهقي (¬3) من رواية يعقوب بن سفيان [عن يوسف] (¬4) ولفظ السائل فكأنه كان ثم مضى، ولفظ ابن عباس: فإن الله سمى نفسه ذلك، ولم يجعله [لأحد] (¬5) غيره، فذلك قوله {وَكَانَ اللَّهُ} أي: لم يزل (¬6). [قلت] يقال: جعلتَ زيدًا عالمًا، إذا جعلته في نفسك، وجعلتُه عالمًا إذا جعلتُه في نفسي (¬7)، أي: اعتقدته عالمًا، كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (¬8)، أي: ¬
اعتقدوهم {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (¬1)، أي: في نفوسكم بما عقدتموه من اليمين. فقوله: جعل نفسه ذلك، وسمى [نفسه ذلك، يخرج على الثاني أي: هو الذي حكم بذلك وأخبر بثبوته (¬2) له، وسمى] (¬3) به نفسه، لم ينحله (¬4) أحدًا غيره (¬5). وقوله: وكان [الله] (¬6) أي: لم يزل كذلك، والمعنى: أنه أخبر أن هذا أمر لم يزل عليه، وهو الذي حكم به لنفسه، وسمى به نفسه، لم يكن الخلق هم الذين حكموا بذلك له، وسموه بذلك، فأراد بذلك أنه لو كان ذلك مستفادًا من نحلة الخلق له لكان محدثًا له بحدوث الخلق، فأما إذا كان هو الذي سمى نفسه [وجعل نفسه] (¬7) كذلك، فهو سبحانه لم يزل ولا يزال كذلك، فلهذا أخبر بأنه كان كذلك. ولهذا اتبع أئمة السنة ذلك كقول (¬8) أحمد في رواية حنبل: لم يزل الله عالمًا متكلمًا غفورًا. ¬
احتجاج الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق
وقال في الرد على الجهمية (¬1): (لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا، لا متى، ولا كيف)؟. ولهذا احتج الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بكلمات الله التامات (¬2) في غير حديث فقال: أعوذ بكلمات الله التامة. ففي صحيح البخاري، عن ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين: "أعيذكما بكلمات الله التامة" (¬3) وذكر الحديث. وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن أحدكم إذا نزل منزلًا قال: أعوذ بكلمات الله التامات" (¬4)، [وذكر ¬
الحديث] (¬1). وفي صحيح مسلم -أيضًا- عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يمسي: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق" (¬2) وذكر الحديث، وذلك في أحاديث أخر. قال أحمد وغيره: ولا يجوز أن يقال: أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض، أو بشيء مما خلق الله، ولا يتعوذ إلّا بالله أو بكلماته. ¬
وقد ذكر الاحتجاج بهذا البيهقي في كتاب الأسماء والصفات (¬1)، لكن نقل احتجاج أحمد على غير وجهه، وعورض بمعارضة فلم يجب عنها. ثم قال البيهقي (¬2): (ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق من مخلوق (¬3)، فدل على (¬4) أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته، وهي غير مخلوقة، كما أمره الله أن يستعيذ بذاته، وذاته غير مخلوقة (¬5)). ثم قال (¬6): (وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق، قال: وذلك أنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص). قلت: احتجاج أحمد هو من الوجه الذي تقدم، كما حكينا لفظ المروذي (¬7) في كتابه الذي عرض على أحمد. والمقصود هنا (¬8) الكلام على قول الطائفة الثانية الذين قالوا: إن القرآن هو الحروف والأصوات دون المعاني، ثم إن قولهم هذا: متناقض في نفسه، فإن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية، والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية، فلو لم يكن الكلام إلّا مجرد الحروف والأصوات، لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى، والذي ¬
قول من يقول: إن القرآن هو الحروف والأصوات دون المعاني متناقض في نفسه
ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصلًا (¬1)، بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب، وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية، فإنما تكلموا بلغتهم، وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية، وكلام الله صدق، فلو كان قولهم: مجرد الحروف والأصوات، والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه، لم تكن الحكاية عنهم مطلقًا، بل كلامهم كان حروفًا (¬2)، ومعاني، فحكى الله ذلك عنهم (¬3) بلغة أخرى، والحروف تابعة للمعاني، والمعاني هي المقصود الأعظم، كما يترجم كلام سائر المخلوقين (¬4). وهؤلاء المثبتة (¬5) الذين وافقوا أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ووافقوا المعتزلة على أن الكلام ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات يقولون: إن كلام الله القائم به ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات، وهذا هو الذي بينته أيضًا في جواب المحنة (¬6)، وبينت أن هذا لم يقله أحد من السلف، ولا قالوا- أيضًا: إنه معنى قائم بذاته، بل كلاهما بدعة وأنا ليس في كلامي شيء من البدع. ثم منهم من (¬7) يقول: هو مع ذلك قديم غير حادث، لموافقتهم ¬
الطائفة الأولى على أن معنى قول السلف: إن (¬1) القرآن كلام الله غير مخلوق، أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره قط. ومنهم (¬2) من لا يقول ذلك، بل يقول: هو وإن كان مجرد الحروف والأصوات وهو قائم به، فإنه يتعلق بمشيئته واختياره، وأنه إذا شاء تكلم بذلك، وإذا شاء سكت، وإن كان لم يزل كذلك. وظن الموافقون (¬3) للسلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، من القائلين (¬4): بأن الكلام ليس إلّا معنى في النفس، وكثير من ¬
القائلين: بأنه ليس إلّا الحروف والأصوات أن (¬1) معنى قول السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره وإرادته وقدرته، وهذا اعتقدوه في جميع الأمور المضافة إلى الله أنها [إما] (¬2) أن تكون مخلوقة منفصلة عن الله، وإما أن تكون قديمة غير متعلقة بمشيئته وإرادته وقدرته (¬3). ومنعوا أن يقال: إنه يتكلم إذا شاء، أو يتكلم بما شاء (¬4)، أو إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، أو أنه قادر على الكلام أو التكلم، أو إنه يستطيع أن يتكلم بشيء دون شيء، أو إنه إن (¬5) شاء تكلم، وإن شاء سكت أو إنه يقدر على الكلام والسكوت. كما يمتنع أن يقال: إنه يحيى إذا شاء، أو إنه يقدر على أن يحيى وعلى أن لا يحيى (¬6)، إذ (¬7) الحياة صفة لازمة لذاته يمتنع أن يكون إلّا حيًّا قيومًا- سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. فاعتقد هؤلاء في الكلام والإرادة والمحبة والبغض والرضا والسخط والإتيان والمجيء والاستواء على العرش والفرح والضحك مثل الحياة. وأول من أظهر هذا القول من الموافقين لأهل السنة في الأصول الكبار (¬8) هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهذا مقتضى ما ذكره الأشعري ¬
ذكر الأشعري جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة
في المقالات (¬1)، فإنه لم يذكر ذلك عن أحد قبله، لكن (¬2) ذكر عن بعض المرجئة أنه يقول بقوله (¬3)، وذكر عن بعض الزيدية ما يحتمل أن يكون موافقًا لبعض قوله (¬4). وذكر (¬5) أبو الحسن في كتاب المقالات (¬6) قول أهل الحديث، وأهل السنة: فقال: (هذه حكاية قول جملة (¬7) أصحاب الحديث، وأهل السنة). جملة ما عليه أصحاب (¬8) الحديث وأهل (¬9) السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئًا، والله تعالى إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬10)، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬11)، ¬
وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬1)، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (¬2)، وأن له وجهًا، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬3). وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علمًا كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬4) وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ} (¬5). وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬6). وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر (¬7) إلّا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قالت: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬8)، وكما (¬9) قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لا (¬10) يشاء لا يكون. وقالوا: إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله، أو يكون ¬
أحد يقدر أن يخرج عن (¬1) علم الله، أو أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله. وأقروا أنه لا خالق إلّا الله (¬2)، وأن أعمال العباد يخلقها الله تعالى وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا. وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين (¬3) ونظر [لهم] (¬4) وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين (¬5)، ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين (¬6)، ويلطف بهم (¬7) حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم، ولم يصلحهم (¬8)، وطبع على قلوبهم. وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، كما قال، ويُلْجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال. ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، و (¬9) الكلام في الوقف ¬
واللفظ، من قال بالوقف أو باللفظ (¬1): فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. ويقولون: إن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬2)، وإن موسى -عليه السلام- سأل الله الرؤية في الدنيا، وإن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه (¬3) في الدنيا، بل يراه في الآخرة. ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذئب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر (¬4). ¬
والإيمان -عندهم- هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خير وشره وحلوه (¬1) ومره، وأن ما (¬2) أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن (¬3) ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، والإسلام أن يشهدوا أن لا إله إلّا الله على ما جاء (¬4) في الحديث (¬5)، والإسلام عندهم غير. . . . . . . . . . . . . . . ¬
الإيمان (¬1). ¬
ويقرون بأن الله مقلب القلوب. ويقرون بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنها لأهل الكبائر من أمته (¬1)، وبعذاب القبر، وأن الحوض (¬2) حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق. ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، ولا يقولون: أسماء الله هي الله، ولا غير الله، ولا يشهدون (¬3) على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون (¬4) بأن الله تعالى يخرج قومًا من الموحدين من النار، على ¬
ما جاءت به الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وينكرون الجدل والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم (¬2) للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقاة عدلًا عن عدلٍ حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يقولون: كيف؟ ولا لِمَ؟ لأن ذلك بدعة. ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر، وإن كان مريدًا له. ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه، ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليًّا (¬3) -رضي الله تعالى عنهم- ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، أفضل الناس كلهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر. . . " (¬4) كما جاء الحديث عن ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1)، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬2)، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال (¬3): {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬4). ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه (¬5) في الحضر والسفر. ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث [الله] (¬6) نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر عصابة تقاتل الدجال، وبعد ذلك. ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأن لا يخرجوا عليهم ¬
بالسيف، وأن لا يقاتلوهم في الفتنة. ويصدقون (¬1) بخروج الدجال، وأن عيسى بن مريم يقتله. ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم. ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر [كافر] (¬2)، كما قال الله (¬3) وأن السحر (¬4) كائن موجود في الدنيا (¬5). ¬
ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم (¬1) وفاجرهم ومواراتهم. ويقرون بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله. وأن الأرزاق من قبل الله -تعالى- يرزقها عباده، حلالًا كانت أو حرامًا. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه (¬2). وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم. وأن السنة لا تنسخ القرآن (¬3). وأن الأطفال أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد. [وأن الله] (¬4) عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى. ¬
ما ذكره أبو الحسن الأشعري عن أصحاب عبد الله بن كلاب وأنهم يقولون بأكثر قول أهل السنة
ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى عنه (¬1)، وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنا، وقول الزور، والعصبية (¬2)، والفخر، والكبر والإزراء (¬3) على الناس، والعجب. ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق، وبذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة، والسعاية، وتفقد (¬4) المأكل والمشرب. قال (¬5): فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلّا بالله، وهو حسبنا (¬6)، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير. قال (¬7): فأما أصحاب عبد الله بن سعيد فإنهم يقولون بأكثر ما (¬8) ذكرناه عن أهل السنة، ويثبتون أن الباري لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلًا كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا. ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال ¬
قول عبد الله بن كلاب في القرآن
والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى. وقال (¬1): ويقولون أسماء الله تعالى وصفاته، لا يقال: هي غيره، ولا يقال: إن علمه غيره، كما قالت الجهمية، ولا يقال: إن علمه هو هو، كما قال بعض المعتزلة، وكذلك قولهم في سائر الصفات. فذكر الأشعري أن أصحاب ابن كلاب يقولون بأكثر قول أهل الحديث، وأن لهم زيادة أخرى، وذلك دليل على أنهم ينقصون عن أقوالهم. فأما قول ابن كلاب في القرآن فلم يذكره الأشعري إلا عنه وحده، وجعل له ترجمة، فقال (¬2): وهذا قول عبد الله بن كلاب. قال (¬3) عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلمًا، وإن كلام الله صفة له قائمة به، وإنه قديم بكلامه (¬4)، وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحرف (¬5) ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وإنه معنى واحد بالله تعالى، وإن الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القارئ وأنه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير، وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير، وإنما سمي كلام الله عربيًّا، لأن الرسم (¬6) الذي هو العبارة ¬
عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيًّا لعلة، وكذلك سمي عبرانيًّا لعلة (¬1)، وكذلك سمي أمرًا لعلة، وسمي نهيًا لعلة، وخبرًا لعلة، ولم يزل الله متكلمًا قبل أن يسمى كلامه أمرًا، وقبل وجود العلة التي بها (¬2) سمي كلامه أمرًا، وكذلك القول في تسميته نهيًا وخبرًا، وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرًا، وكذلك (¬3) لم يزل ناهيًا). فهذه حكاية الأشعري عن ابن كلاب أنه يقول: إن الله لم يزل متكلمًا، وإن كلامه صفة قائمة (¬4) به كعلمه وقدرته، وكذلك سائر الصفات التي يثبتها لله تعالى هي عنده قديمة قائمة بالله غير متعلقة بمشيئته وقدرته. وأما الجهميّة المحضة من المعتزلة وغيرهم فعندهم لا يقوم (¬5) به شيء من هذه الصفات ولا غيرها، بل كل ما يضاف إليه فإنما يعود معناه إلى أمر مخلوق منفصل عنه، كما قالوه في الكلام، ولما قال أولئك لهؤلاء: إن الحروف لا تكون إلّا متعاقبة ولا بد لها من مخارج، وكلاهما يمنع قدمها، قال لهم هؤلاء: هذا بعينه وارد في المعنى، فإن المعاني مطابقة للحروف في الترتيب، وهي مفتقرة إلى محل كافتقار الحروف، فما قيل في أحدهما قيل في الآخر، ولما زعم أولئك أن الكلام كله هو معنى واحد، قال هؤلاء: إن جاز أن يعقل أن المعاني المتنوعة تعود إلى معنى (¬6) واحد، جاز أن يعقل أن الحروف المتنوعة ¬
تعود إلى حرف واحد، وقالوا لهم -أيضًا- الترتيب نوعان (¬1): ترتيب ذاتي، وترتيب وجودي (¬2)، فالأول: كترتيب العلم على الحياة والمعلول على العلة التامة، وهؤلاء الذين فسروا قولهم بأنه غير مخلوق: بأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته سواء قالوا: إنه معنى أو هو حروف أو هو حرف ومعنى (¬3)، يقولون: إن المخلوق هو المحدث وهو ما يحدثه الله تعالى منفصلًا عنه، وإنه ما ثم (¬4) إلا قديم أو مخلوق، وما كان قديمًا (¬5) فإنه لازم لذات الله -تعالى- ولا يتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يكون فعلًا له، وما كان محدثًا فهو المخلوق المنفصل عن الله -تعالى- وهو المتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يقوم (¬6) عندهم بذات الله فعل ولا كلام ولا إرادة، ولا غير ذلك مما يتعلق بمشيئته وقدرته، ويقولون: لا تحل الحوادث بذاته، ولا يجوز عليه الحركة، ولا فعل حادث، ولا غير ذلك، وهؤلاء يتأولون كل ما ورد في الكتاب والسنة مما يخالف ذلك، وهو كثير جدًّا، كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬7)، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (¬8)، وكما وصف به نفسه من المجيء، والإتيان، والنزول، وغضبه يوم القيامة، ورضاه على أهل الجنة، وتكليمه لموسى ولعباده يوم القيامة (¬9)، وتكلمه بالوحي إذا تكلم به فسمعته الملائكة. ¬
الأشعري وأصحابه والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم احتجوا على قدم القرآن بحجتهم المشهورة التي هي أصل المذهب
وهؤلاء جميعًا يحتجون على قدم القرآن، بحجتهم المشهورة التي هي أصل (¬1) المذهب، التي احتج بها الأشعري وأصحابه، والقاضي أبو يعلى (¬2)، وابن عقيل (¬3)، وأبو الحسن الزاغوني (¬4)، وغيرهم، وهي التي تقدم ذكرها (¬5) في بيان أصل الطائفة الأولى عن أبي المعالي، لأنه اعتقد أنه صاغها على وجه يدفع بها بعض الأسئلة، وقد ذكرنا ذلك، ونبين أنه بناها على امتناع حلول الحوادث به، ونحن نذكرها هنا كما ذكرها هؤلاء، فإن هذا مشهور في كلامهم كلهم، وقد اعترف أصحاب الأشعري أن هذه الطريقة هي عمدته، وعمدة غيره من أئمتهم كالقاضي أبي بكر (¬6)، وأبي إسحاق (¬7)، وابن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فورك (¬1)، وأبي منصور (¬2) على قدم الكلام (¬3). قال (¬4): لو كان كلام الباري حادثًا لم يخل من أن يقوم (¬5) بذات الباري تعالى (¬6) فيكون محلًا للحوادث بمثابة الجواهر، أو يحدث لا في محل وذلك محال، لأنه يؤدي إلى إبطال التفرقة بين ما يقوم بنفسه وبين ¬
ما لا يقوم بنفسه، على أن في نفي المحل نفي اختصاصه، [إذ أليس (¬1) اختصاصه به -سبحانه- أولى من اختصاصه] (¬2) بغيره، وإن حدث في محل آخر وقام به كان كلامًا لذلك المحل، وكان المحل به متكلمًا آمرًا ناهيًا، لأن كل قائم بمحل اختص به اختصاصًا يجب أن يضاف إليه عند العبارة بأخص أوصافه، يشتق له أو للجملة التي المحل منها وصف منه إما من أخص (¬3) وصفه أو أعم [أوصافه] (¬4) أو من معناه، أو يصح إضافته إليه بأخص وصفه فإذا لم يكن ذلك بطل أن يخلق كلامه في محل، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل كونه حادثًا. وقال طائفة: منهم القاضيان: أبو علي بن [أبي موسى] (¬5)، ¬
وأبو يعلى، وابن عقيل، وأبو الحسن الزاغوني -وهذا لفظه (¬1) -. قال: والطريق الثاني المعقول، وفيه أدلة نذكر منها الجلي من معتمداتها، فمن ذلك نقول (¬2): لو كان كلام الله مخلوقًا، لم يخل أن يكون مخلوقًا في محل أو لا في محل، فإن كان في محل، فلا يخلو أن يكون محله ذات الباري سبحانه، أو ذاتًا (¬3) غير ذاته مخلوقة، ومحال أن يكون خلقه الله في ذاته، لأن ذلك يوجب كون ذاته -تعالى- محلًا للحوادث، وهذا محال اتفقت الأئمة قاطبة على إحالته. ومحال أن يكون في محل هو ذات غير ذاته- تعالى، لأن ذلك ¬
يوجب أن يكون كلامًا لتلك الذات ولا يكون كلامًا لله -تعالى- ولأنه لو جاز أن يكون كلامًا لله -تعالى- يقال له كلامه وصفته، لجاز أن يقال مثل ذلك في سائر الصفات، مثل الكون واللون والحركة والسكون والإرادة، إلى غير ذلك من الصفات، وهذا مما اتفقنا (¬1) على بطلانه. ومحال أن يكون خلقه لا في محل من جهة أن الكلام صفة، والصفات لا بد لها من محل تقوم به، ولو جاز أن يقال: كلام الله لا في محل، لجاز أن يقال: إرادة وحركة وشهوة وفعل ولون لا في محل، وهذا مما يعلم إحالته قطعًا، وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنه غير مخلوق. ثم قال (¬2): قالوا: قد وصفنا (¬3) الباري بأشياء حدثت في غيره، ألا ترى أنا نصفه بأنه محسن بإحسان أحدثه في حق عباده، ونصفه بأنه كاتب لوجود كتابة أحدثها في اللوح المحفوظ، فما كان يمتنع بأن (¬4) يكون ها هنا مثله؟ قلنا: الإحسان صفة قائمة بنفس المحسن، وليس (¬5) توقف وصفه بهذه الصفة على وجود الإحسان منه، وإذا ظهر إحسانه على خلقه كان ¬
أبو المعالي لئلا ترد عليه المعارضات لم يلتزم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل
ذلك أثر (¬1) وصفه بالإحسان، لأن ما فعله هو صفته، وجرى ذلك مجرى وصفه بأنه صانع، فإنه يوصف بذلك، لأنه عالم بحقيقة المصنوع، لا أن الصنعة (¬2) هي المصنوع، وكذلك القول في وصفه بأنه كاتب، لأن الكتابة تجري مجرى الصنعة (¬3) في أنها نوع من أنواع العلوم بكيفيات المنفعل في إيجاد فعله، وذلك أمر غير المصنوع وهذا بين واضح. قلت: هذا الإلزام (¬4) بالمحسن والكاتب والعادل والخالق ونحو ذلك، هو إلزام مشهور للمعتزلة على قول أهل الإثبات، باطنه أن المتكلم لا بد أن يقوم به الكلام، فألزموهم أسماء الأفعال، وهذا السؤال هو الذي ضعضع هذه الحجة عند أبي المعالي الجويني والرازي وغيرهم، لما ألزمهم (¬5) المعتزلة بذلك، ولهذا عدل عنها أبو المعالي إلى أن قال (¬6): قد حصل الاتفاق على أنه سبحانه متكلم بكلامه، وأنه لا بد من ضرب من الاختصاص في إضافة الكلام إليه، ثم الاختصاص: إما اختصاص قيام، وإما أن يكون اختصاص فعل بفاعل، والثاني باطل، لأنه لا فرق بين خلق الأجسام وأنواع الأعراض، وبين خلق الكلام، في أنه لا يرجع إلى القديم سبحانه صفة حقيقة من جميع ما خلقه. قلت: فهو في هذا لم يلتزم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، لئلا ترد عليه المعارضات، لكن قال: يزول ¬
الرازي عدل عن تقرير الطريقة المشهورة وأثبت ذلك بطريقة في غاية الضعف وهي الإجماع المركب
الاختصاص، وهذا الذي ذكره في الحقيقة مستلزم (¬1) لذلك وملزوم له، فإن الكلام له اختصاص، فإن لم يكن بفاعله كان بمحله، والمعارضات واردة لا محالة. وأجاب غيره عن أسماء (¬2) العادل والمحسن ونحوهما بأن قالوا: العادل من تمام الأسماء عندنا، لأنه فاعل العدل، وإنما يشترط قيام العدل بالعادل منّالا (¬3) من حيث كان فاعلًا للعدل، بل لخصوص وصف ذلك الفعل، فإن العدل قد يكون حركة أو سكونًا أو نحوهما، فمن ذلك الوجه يجب قيامه به، وكل معنى له ضد فشرط قيامه بالموصوف به، والذي يسمى عدلًا فينا من (¬4) الأفعال، فله ضد وهو الجور، فمن ذلك يجب قيامه بالفاعل منا. قلت: هذه فروق لا حقيقة لها عند التأمل، فإن قيام الكلام بالمتكلم، كقيام الفعل بالفاعل سواء، لا فرق بينهما في الشاهد، ولا في اللغة والاشتقاق، ولا في القياس العقلي، ولهذا عدل الرازي عن تقرير الطريقة المشهورة بأن (¬5) المتكلم من قام به الكلام إذا (¬6) كانت تحتاج إلى هذه المقدمة، وإلى نفي جواز كونه محلًا للحوادث، وأثبت ذلك بطريقة في غاية الضعف، وهي الإجماع الجدلي المركب (¬7). ¬
والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد لهم في مسائل الصفات والقدر، فجعلوه موصوفًا بمفعولاته القائمة بغيره، حتى قالوا: من فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل السفه فهو سفيه، ومن فعل الكذب فهو كاذب، ونحو ذلك، فكل هذا باطل، بل الموصوف بهذه الأسماء من قامت به هذه الأفعال، لا من جعلها دعلًا لغيره أو قائمة بغيره. والأشعرية عجزوا عن مناظرتهم في هذا المقام، في مسألة القرآن، ومسائل القدر، بكونهم سلموا لهم أن الرب لا تقوم به صفة فعلية، فلا يقوم به عدل ولا إحسان ولا تأثير أصلًا (¬1)، لزمهم أن يقولوا: هو موصوف بمفعولاته، فلا يجب أن يكون القرآن قائمًا به، ويكون مسمى بأسماء القبائح التي خلقها. لكن أبو محمد بن كلّاب يقول (¬2): لم يزل كريمًا جوادًا، فهذا قد ¬
سائر أهل الإثبات من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام يقولون: إن الرب تقوم به الأفعال
يجب [عن صفة] (¬1) الإحسان (¬2) وحدها بذلك. وأما سائر أهل الإثبات من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام، من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم، فيقولون: إن الرب تقوم به الأفعال، فيتصف به طردًا لما (¬3) ذكر في الكلام، وأن الفاعل من قام به الفعل، فالعادل والمحسن من قام به العدل والإحسان، كما أشرنا إلى هذا فيما تقدم، وبهذا (¬4) أجاب القاضي (¬5) وأبو الحسن بن الزاغوني وغيرهم، فجواب (¬6) هؤلاء للمعتزلة جيد (¬7)، لكن تنازع هؤلاء هل ما يقوم به يمتنع تعلقه بمشيئته وقدرته؟ فالقاضي وابن الزاغوني وغيرهم، مشوا على أصلهم في امتناع قيام الحوادث به، ولكن تفسيرهم للصانع والكاتب بالعالم، ليس بمستقيم على هذا الأصل، فإنه إذا جاز أن تفسر (¬8) الأفعال بالعلم قيل مثل ذلك في الجميع فبطل الأصل، بل الكتابة والصنعة (¬9) فعل يقوم به وإن استلزم العلم، وهل يجب أن يكون قديمًا لا يتعلق بمشيئته وقدرته؟ أو يجوز أن يكون من ذلك ما يتعلق ¬
بمشيئته وقدرته؟ على القولين في الكلام والأفعال (¬1). وقد ظن من ذكر من هؤلاء كأبي علي وأبي الحسن بن الزغواني، أن الأمة قاطبة اتفقت على أنه لا تقوم به الحوادث، وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه، وهذا مبلغهم من العلم (¬2)، وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات (¬3) الباطلة المدعاة في الكلام وغيره (¬4) -وما أكثرها- فمن تدبر (¬5) وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلّا بإجماع مدعى أو قياس، وكلاهما عند التحقيق يكون باطلًا. ثم إن من العجب أن بعض متكلمة أهل الحديث، من أصحاب أحمد وغيرهم (¬6)، يدعون مثل هذا الإجماع، مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك، بل عن إمامهم وغيره (¬7) من الأئمة، حتى في لفظ الحركة والانتقال بينهم في ذلك نزاع مشهور، وقد أثبت ذلك [طوائف] (¬8) مثل ابن حامد (¬9) وغيره، وقد ذكر إجماع أهل السنة على ¬
ذلك حرب الكرماني (¬1)، وعثمان بن سعيد الدارمي (¬2) وغيرهما من علماء السنة المشهورين. فليتدبر العاقل ما وقع في هذه الأصول من الاضطراب، وليحمد الله على الهداية، وليقل: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا للإيمان ¬
ولا تجعل في قلوبنا غِلًا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ولكن نعرف أن هذه الحجة تبين فساد قول الجهمية من المعتزلة (¬1) الذين يقولون: خلق الله كلامه في محل، فما ذكروه يبين فساد هذا القول، الذي اتفق (¬2) سلف الأمة وأئمتها على ضلالة قائله، بل ذلك عند من يعرف ما جاء به الرسول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، ولكن هذا يسلم ويطرد لمن جعل الأفعال قائمة به، وجعل صفة التكوين قائمة به، ولهذا انتقضت على الأشعرية دون الجهمية (¬3)، ويبين أن كلام الله قائم به، وهذا حق. وأما كونه لا يتكلم إذا شاء، ولا يقدر أن يتكلم بما شاء، فهذا لا يصح إلّا بما ابتدعته الجهمية من قولهم: لا يتحرك، ولا تحل به الحوادث، وبذلك نفوا أن يكون استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا، وأن يجيء يوم القيامة، وغير ذلك مما وصف به نفسه في الكتاب والسنة. وأما قول هؤلاء (¬4): لو خلقه في نفسه لكانت ذاته محلًا للحوادث، فالذين يقولون: إنه يتكلم إذا شاء لا يقولون: إنه يخلق في نفسه شيئًا، إذ (¬5) الخلق هو فعل -أيضًا- قائم به عندهم بمشيئته، فلا يكون للخلق خلق آخر، وإلّا لزم الدور والتسلسل، ولهذا لم يقل أحد ¬
إذا تدبر اللبيب النزاع بين الذين يقولون: هو مخلوق أو محدث والذين يقولون: هو قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته، وجد أن كل طائفة تقيم الحجج على إبطال قول خصمها
ممن قال بذلك: إن كلامه مخلوق، بل كل من قال: إن (¬1) كلامه مخلوق، فإنما مراده أنه يخلقه منفصلًا عنه، والسلف علموا أن هذا مرادهم، فجعلوا يبينون فساد (¬2) ذلك، كقول مالك وأحمد وغيرهما: كلام الله من الله، ولا يكون من الله شيء مخلوق (¬3)، وقولهم: كلام الله من الله ليس ببائن عنه، وقول أحمد لمن سأله: أليس كلامك (¬4) منك؟ قال: بلى، قال: فكلام الله من الله (¬5)، ومثل هذا كثير في كلامهم، فلو أن المحتج قال: اتفق المسلمون على أنه لا يخلق في ذاته شيئًا، ¬
لكان هذا كلامًا صحيحًا، فإن أحدًا لم يطلق عليه أنه يخلق في نفسه شيئًا -فيما أعلم- بخلاف اللفظ الذي ادعاه، فإن النزاع فيه [من] (¬1) أشهر الأمور، والذين أثبتوا ذلك أكثر من الذين نفوه من أهل الحديث وأهل الكلام جميعًا، ولكن اتفاق الأمة -فيما أعلم- على (¬2) أنه لا يخلق في نفسه شيئًا يبطل مذهب المعتزلة، ولا يدل على أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولعل هذه هي (¬3) حجة عبد العزيز الكناني (¬4). ولهذا النزاع العظيم بين الذين يقولون (¬5): هو مخلوق أو محدث، بمعنى أنه أحدثه في غيره، والذين يقولون (¬6): هو قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته، إذا تدبره اللبيب، وجد كل طائفة أنما تقيم الحجج على إبطال ¬
تنازع أصحاب الإمام أحمد كما تنازع غيرهم في الأفعال القائمة بذاته هل هي متعلقة بمشيئته وقدرته على قولين
قول خصمها، لا على صحة قولها. أما الذين ينفون الخلق عنه (¬1)، فأدلتهم عامتها مبنية على أنه لا بد من قيام الكلام به، وأنه يمتنع أن يكون متكلمًا بكلام لا يقوم إلا بغيره وهذا أصل صحيح وهو من أصول السلف الذين بينوا [به] (¬2) فساد قول الجهمية. وأما الذين قالوا: مخلوق فليس لهم حجة إلّا ما يتضمن أنه متعلق بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يمنع كونه قديمًا، وذلك كقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} (¬3) {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬4)، {أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} (¬5)، لا يكون إلّا بعد وجود المخبر عنه وإلّا كان كذابًا، لأنه إخبار عن الماضي، وكذلك إخباره عن أقوال الأمم المتقدمة، ومخاطبة (¬6) بعضهم بعضًا بقوله: قالوا، وقالوا كذلك، فهذا لا يكون إلّا بعد وجود المخبر عنه. وقولهم (¬7): إنه موصوف بأنه مجعول عربيًّا، وإنه أحكمت آياته ثم فصلت، وهذا إخبار بفعل منه تعلق به، وذلك يوجب تعلقه بمشيئته وقدرته، وقد نص أحمد على أن (الجعل) فعل من الله غير (الخلق) كما تقدم ذكر لفظه (¬8). وقد حققوا (¬9) ذلك بأن الله ذكر أنه جعله عربيًّا على وجه الامتنان علينا به، والامتنان إنما يكون بفعله المتعلق بمشيئته وقدرته، لا بالأمور ¬
اللازمة لذاته، ومن خالف ذلك أجابوا بجواب ضعيف، كقول ابن الزاغوني: جعلناه: أي أظهرناه وأنزلناه. فيقال لهم: يكفي في ذلك أن يقال: أنزلناه قرآنًا عربيًّا، فإنه عندكم لا يقدر على أن ينزله ويظهره غير عربي، ولا يمكن ذلك، فإذا كان ذلك ممتنعًا لذاته فكيف يمتن بترك فعله؟ وإنما الممكن أن ينزله أو لا ينزله، أما أن ينزله عربيًّا وغير عربي، فهذا ممتنع عندهم، وقد قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (¬1) فعلم أن جعله عجميًّا كان ممكنًا، وعندهم ذلك غير ممكن، وهذا -أيضًا- حجة على من جعل العبارة مخلوقة منفصلة عن الله، لأنه جعل القرآن نفسه عربيًّا وعجميًّا، وعندهم لا يكون ذلك إلّا في العبارة المخلوقة، لا في نفس القرآن الذي هو غير مخلوق، وعندهم (¬2) المعنى الذي عبارته عربية هو الذي عبارته سريانية (¬3) وعبرانية (¬4)، فإن جاز أن يقال: هو عربي لكون عبارته كذلك، كان كلام الله هو عربي عجمي سرياني عبراني، لأن الموصوف بذلك شيء واحد عندهم (¬5). وكتاب الله يدل على أن كلامه يقدر أن يجعله عربيًّا، وأن يجعله ¬
المنصوص عن الإمام أحمد وغيره يوافق القول بأن الأفعال القائمة بذاته تتعلق بمشيئته وقدرته
عجميًّا، وهو متكلم به ليس مخلوقًا منفصلًا عنه. وأما أئمة أهل الحديث والفقهاء والصوفية وطوائف أهل الكلام الذين خالفوا المعتزلة قديمًا من المرجئة والشيعة ثم الكرامية وغيرهم فيخالفون في ذلك، ويجعلون هذه الأفعال القائمة بذاته متعلقة بمشيئته وقدرته. وأصحاب الإمام أحمد قد تنازعوا في ذلك (¬1) كما تنازع غيرهم، وذكر أبو بكر عبد العزيز عنهم في المقنع قولين (¬2). وحكى الحارث المحاسبي (¬3) القولين (¬4) عن أهل السنة، ولكن المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة يوافق هذا ¬
القول، كما ذكرناه من كلامه في الرد على الجهمية (¬1)، فإن الجهمي لما قال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فنفى المستقبل كما نفى الماضي. قال أحمد (¬2): فكيف يصنعون بحديث عدي بن حاتم؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلّا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان" (¬3). ثم قال أحمد: والجوارح إذا شهدت على الكافرين [فقالوا: لم شهدتم علينا] (¬4) {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬5) أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كما شاء، فكذلك تكلم الله كيف شاء، من غير أن نقول: جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان. فذكر أن الله يتكلم كيف [يشاء] (¬6)، ومن يقول بالأول يقول: إن تكلمه لا يتعلق بالمشيئة، إذ لا يتعلق بالمشيئة عندهم إلّا المحدث، الذي هو مخلوق منفصل. ثم قال (¬7) أحمد: (وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الكلام (¬8) الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك (¬9)، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت. ¬
قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا (¬1): صف لنا كلام ربك، فقال: سبحان الله!! وهل أستطيع أن أصفه لكم؟. قالوا: فشبهه، قال: أسمعتم (¬2) الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله (¬3). فقوله: إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، أي: لغة، ولي قوة الألسن كلها، أي: اللغات كلها، وأنا أقوى من ذلك (¬4). فيه بيان أن الكلام يكون بقوة الله وقدرته، وأنه يقدر أن يتكلم بكلام أقوى من كلام، وهذا صريح في قول هؤلاء، كما هو صريح في أنَّه كلمه بصوت، وكان (¬5) يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت، وبدون ذلك الصوت. وكذلك قول أحمد (¬6): وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة {يَا عِيسَى} (¬7). وقلنا (¬8): فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (¬9). ¬
فإنه دليل على أنَّه سألهم عن تكليمه في المستقبل [حيث أنكروا أن يكون منه تكليم في المستقبل] (¬1). ثم لما قالوا: يكون (¬2) شيئًا فيعبر عن الله قال (¬3): قلنا: قد أعظمتم على الله الفرية، حيث (¬4) زعمتم أن الله لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك (¬5)، ولا تزول من مكان [إلى مكان] (¬6). فقد حكى عنهم منكرًا عليهم نفيهم عن الله تعالى أن يتكلم، أو يتحرك، أو يزول من مكان إلى مكان. ثم إنه قال (¬7): فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد (¬8) يتكلم، ولكن كلامه مخلوق. فقلنا (¬9): وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله تبارك وتعالى بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله تعالى [قد] (¬10) كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتَّى خلق التكلم، وكذلك ¬
الذين قالوا: كلامه مخلوق أرادوا أنه لم يكن متكلما حتى خلق الكلام
بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتَّى خلق لهم (¬1) كلامًا، فقد (¬2) جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله - جل ثناؤه - عن هذه الصفة، بل نقول: إن الله - جل ثناؤه - لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتَّى خلق [فتكلم] (¬3)، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتَّى خلق فعلم (¬4) ولا نقول: إن الله قد (¬5) كان ولا قدرة (¬6) حتَّى خلق لنفسه قدرة (¬7). فهذا من كلامه يبين أن أولئك الذين قالوا: كلامه مخلوق أرادوا أنَّه لم يكن متكلمًا حتَّى خلق الكلام إذ هذا معنى قولهم: قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق، إذ المخلوق هو القائم ببعض الأجسام، فعندهم تكلمه مثل بعض الأعيان المخلوقة، ولهذا يمتنع عندهم أن يكون قبل ذلك متكلمًا، فرد أحمد هذا بأن هذا تشبيه بالإنسان الَّذي كان عاجزًا عن التكلم لصغره حتَّى خلق الله له كلامًا، فمن مر عليه وقت وهو غير موصوف فيه بأنه متكلم إذا شاء، مقتدر على الكلام، كان ناقصًا، ففي ذلك كفر لجحد (¬8) كمال الرب وصفته، وتشبيهه له بالإنسان العاجز، ولهذا قال: بل نقول لم يزل متكلمًا إذا شاء، فجمع بين الأمرين، بين كونه لم يزل متكلمًا، وبين كون ذلك متعلقًا بمشيئته، وأنه لا يجوز نفي التكلم عنه إلى (¬9) أن يخلق التكلم، كما لا يجوز نفي العلم والقدرة ¬
والنور، وهذا هو (¬1) الكمال في الكلام أن يتكلم المتكلم إذا شاء، فأما العاجز عن الكلام فهو ناقص قبيح، وأما الَّذي يلزمه الكلام ولا يتعلق بمشيئته واختياره فإنه يكون -أيضًا- عاجزًا ناقصًا، كالذي يصوت بغير اختياره، كالأصوات الدائمة التي تلزم الجمادات بغير اختيارها، مثل النواعير (¬2). ولما أقام الحجة بتكليم الله تعالى موسى، وأنه تكلم ويتكلم، وأن ذلك ممكن، من غير حاجة إلى جوف وفم وشفتين ولسان، إذا (¬3) كان من المخلوقات ما (¬4) يتكلم، وينطقها الله - تعالى - بدون حاجة إلى ذلك، فالخالق - سبحانه - أولى بالغناء من المخلوق، إذ كل ما ثبت للمخلوق من صفة كمال كالغناء، فالله - تعالى - أولى به، فالله - سبحانه - أحق بالاستغناء عن ما استغنت عنه المخلوقات في كلامها، ذكر أن الجهمي لما خنقته الحجج قال (¬5): إن الله كلم موسى إلّا أن كلامه غيره. قلنا: غيره مخلوق؟ قال: نعم. قلنا: هذا مثل قولكم الأول، إلّا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم (¬6) بما تظهرون. ¬
لفظ "الغير" مجمل
فأحمد -رحمه الله تعالى- لم ينكر عليه إطلاق لفظ الغير على القرآن حتَّى يستفسره (¬1) ما أراد به، إذ لفظ (الغير) مجمل (¬2) يراد به الَّذي يفارق الآخر، وهو قولهم: إنه مخلوق، ويراد به ما لا يكون هو إياه، وهذا يبين أن إطلاق القول على الصفة بأنها هي الموصوف أو غيره كلام مجمل، يقبل بوجه ويرد بوجه، فمتى أريد بالغير المباينة للرب كان المعنى فاسدًا، وإنما ذكر هذا لأن أهل البدع كما وصفهم به يتمسكون بالمتشابه من الكلام، ولفظ الغير من المتشابه، فإذا قال: هو غيره. ¬
فقيل له: نعم، لأنه ليس هو إياه. قال: وما كان غير الله فهو مخلوق و (غير) في هذا الموضع الثاني إنما يصح، إذا أريد بها ما كان باينًا عن الله - تعالى - فهو مخلوق، فيستعمل لفظ (الغير) في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، لما فيها من الإجمال والاشتراك، فلهذا استفسره الإمام أحمد، فلما فسر مراده قال: فهذا هو القول الأول، متى قلت: هو مخلوق. فقد قلت: بأنه خلق شيئًا فعبر عنه، وأنه لا تكلم ولا يتكلم، ثم احتج عليهم بما دل عليه القرآن من تكلمه في الآخرة خطابه للرسل، فلما أقروا بنفي التكلم عنه أزلًا وأبدًا، ولم يفسروا ذلك إلا بخلق الكلام في غيره، قال: قد أعظمتم الفرية على الله (¬1) حين زعمتم أن الله تعالى لا يتكلم (¬2)، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك (¬3) ولا تزول من مكان إلى مكان. وهذه الحجة من باب قياس الأولى (¬4)، وهي من جنس الأمثال التي ¬
ضربها الله في كتابه، فإن الله تعالى علي الأصنام بأنها لا ترجع قولًا، وأنها لا تملك ضرًّا ولا نفعًا، وهذا من المعلوم ببدائه (¬1) العقول، أن كون الشيء لا يقدر على التكلم صفة نقص، وأن المتكلم أكمل من العاجز عن الكلام، وكل ما تنزه المخلوق عنه من صفة نقص فالله -تعالى- أحق بتنزيهه عنه، وكلما أثبت لشيء من صفة -كمال فالله تعالى أحق باتصافه بذلك، فالله أحق بتنزيهه عن كونه لا يتكلم من الأحياء الآدميين وأحق بالكلام منهم، وهو - سبحانه - منزه عن مماثلة الناقصين، المعدوم والموات. ¬
وأما قول أحمد (¬1): فلما ظهرت عليه الحجة قال: إنه قد يتكلم (¬2) ولكن كلامه مخلوق. فقلنا (¬3): وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبّهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتَّى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتَّى خلق لهم كلامًا، فقد (¬4) جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله - جل ثناؤه - عن هذه الصفة، بل نقول: إن الله - جل ثناؤه - لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه كان (¬5) ولا يتكلم حتَّى خلق [الكلام] (¬6) ولا نقول: إنه كان (¬7) لا يعلم حتَّى خلق فعلم، ولا نقول: إنه كان (¬8) ولا قدرة حتَّى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه كان (¬9) ولا نور له حتَّى خلق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه كان (¬10) ولا عظمة حتَّى خلق لنفسه عظمة. فهذا يدل على أن هذا القول أراد به الجهمي أنَّه قد يتكلم بعد أن لم يكن متكلمًا بكلام مخلوق، يخلق لنفسه في ذاته، أو يخلقه قائمًا بنفسه، ليكون هذا القول غير الأول الذي قال: إنه يخلق شيئًا فيعبر عن الله تعالى. وقال: إنكم شبهتموه بالأصنام التي لا تتكلم، ولا تتحرك، ¬
ولا تزول من مكان إلى مكان، ثم انتقل الجهمي عن ذلك القول (¬1) إلى هذا القول. وقال أحمد (¬2) في الجواب: (فقلنا: كذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله - تعالى - بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتَّى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم لا يتكلمون (¬3) حتَّى خلق لهم كلامًا، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه) إلى آخر كلامه. ففي هذا كله دليل على أنَّه أنكر عليهم كونه كان لا يتكلم حتَّى خلق لنفسه كلامًا في نفسه، فصار حينئذ متكلمًا بعد أن لم يكن متكلمًا، وبين أن ذلك يستلزم أنَّه كان ناقصًا فصار كاملًا، لأن عدم التكلم صفة نقص، وهذا هو الكفر، فإن وصف الله بالنقص كفر، وفيه تشبيه له بمن كان ناقصًا عاجزًا عن الكلام حتَّى خلق له الكلام، ولهذا قال: (بل نقول: إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء). فبين أن كونه موصوفًا بالتكلم إذا شاء، أمر لم يزل، لا يجوز أن يكون ذلك محدثًا، لأنه يستلزم لكماله (¬4) بعد نقصه، وفيه تشبيه له بالآدميين، كما أن منع تكلمه بالكلية تشبيه له بالجمادات من الأصنام التي تعبد من دون الله - تعالى - وغيره، ثم إنه بين أن ثبوت هذه الصفة له فيما لم يزل كثبوت العلم والقدرة والنور والعظمة، لم يزل موصوفًا بها لا يقال: إنه كان بدون هذه الصفات حتَّى أحدثها، لأن ذلك يستلزم أنَّه كان ناقصًا فكمل بعد نقصه - سبحانه وتعالى (¬5) - عن ذلك. ¬
ولهذا كان كلام أحمد وغيره من الأئمة مع الجهمية في هذه المسألة، فيه بيان الفصل بين كلام الله - تعالى - وقوله، وبين خلقه، وأن هذا ليس هذا، ويذكرون هذا الفرق في المواضع التي أخبر الله ورسوله بأنه تكلم بالوحي، وأنه إذا تكلم بالوحي كان (¬1) هذا من أعظم الحجج لهم، فإن من يقول: القرآن مخلوق. يقول: إن الله خلقه منفصلًا عنه كسائر المخلوقات، وليس يعود إليه من خلق حكم من الأحكام أصلًا، بل ذلك بمنزلة خلق السماء والأرض، وكلام الذراع المسموم (¬2)، ونطق الأيدي والأرجل (¬3) وغير ذلك، مما خلقه الله تعالى من الموصوفات والأفعال والصفات، ومما يعلم باضطرار أن ما كان كذلك فلا بد أن يصفه الله - تعالى - بالخلق كما وصف غيره من المخلوقات، ولا يجوز -أيضًا- أن يضاف إلى الله - تعالى - إضافة اختصاص يتميز بها عن غيره من المخلوقات إذ لا اختصاص له أصلًا، فلا يكون كلامًا لله - تعالى - ولا قولًا أصلًا. والقرآن كله يثبت له صفة الاختصاص بالقول والكلام، ولم يثبت قط له الصفة المشتركة بينه وبين سائر المخلوقات من صفة الخلق، فالقرآن دل على الفرق بين القول والمقول، وبين المخلوق المفعول. قال الإمام أحمد (¬4): (وقد ذكر الله - تعالى - كلامه في غير موضع ¬
من القرآن، فسماه كلامًا ولم يسمه خلقًا، قال (¬1) {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (¬2)، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬3)، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬4) وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬5)، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬6) وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (¬7). فأخبرنا (¬8) الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمن بالله، وبكلام الله، وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (¬9)، وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} (¬10)، وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬11) ولم يقل حتَّى يسمع خلق الله، فهذا المنصوص (¬12) بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير، هو بين والحمد لله (¬13)). قلت: وقد تضمن هذا أن الله (¬14) سماه كلامًا في مواضع كثيرة، ¬
المستقر في فطر الناس الذي تلقته الأمة خلفا عن سلف أن القرآن جميعه كلام الله
ولم يسمه خلقًا، ومن المعلوم المستقر في الفطر أن الكلام هو ما تكلم به المتكلم لا يكون منفصلًا، ولهذا قال: (فهذا المنصوص (¬1) بلسان عربي [مبين] (¬2) لا يحتاج إلى تفسير هو بين). يعني: أن بيان الله مما ذكره من كلامه (¬3)، وأنه (¬4) كلامه، هو بين لكل أحد، ليس من الخفي ولا من المتشابه الَّذي يحتاج إلى تفسير، بل (¬5) الجهمي الَّذي يجعله مخلوقًا منفصلًا عنه كسائر المخلوقات، حرف هذا الكلم عن مواضعه، وألحد في آيات الله، تحريفًا وإلحادًا يعلمه كل ذي فطرة سليمة. ولهذا تجد ذوي الفطر السليمة إذا ذكر لهم هذا المذهب يقولون: هذا يقول: إن القرآن ليس كلام الله، حتَّى إنهم يقولون ذلك عمن يقول: حروف القرآن مخلوقة، هذا يقول: القرآن ليس كلام الله، لا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، لما استقر في فطرهم أن ما يكون مخلوقًا منفصلًا عن الله لا يكون كلام الله، فمن قال: إن الله لم يتكلم بحروف القرآن، بل جعله خالقًا لها في جسم من الأجسام، فهو عندهم يقول: إن القرآن ليس بكلام الله، سواء (¬6) جعل تلك الحروف هي القرآن أو ادعى أن [ثم] (¬7) معنى قديمًا هو كلام الله دون سائر الحروف. فإن المستقر في فطر الناس الَّذي تلقته الأمة خلفًا عن سلف عن نبيها أن القرآن [جميعه] (¬8) كلام الله، وكلهم فهم هذا المعنى المنصوص ¬
تعليق الشيخ على كلام الإمام أحمد بأن ما ذكره حجة قوية
بلسان عربي مبين، كما ذكر أحمد أنَّه تكلم به، لا أنَّه خلقه في بعض المخلوقات. ثم ذكر أحمد ما أمر الله به من القول، وما نهى عنه من القول، وأنه (¬1) لم يذكر من المأمور به: قولوا عن القرآن: إنه مخلوق، ولا من المنهي عنه: لا تقولوا: إنه كلامي. قال أحمد (¬2): (وقد سألت الجهمية أليس إنما قال الله - جل ثناؤه -: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} (¬3)، {وَقُولُوا للِنَّاسِ حُسْنًا} (¬4)، {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} (¬5)، {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (¬6)، {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬7)، وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ} (¬8)، وقال: {فَقُلْ سَلَامٌ} (¬9). ولم نسمع الله يقول: قولوا: إن كلامي خلق. وقال: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا} (¬10)، وقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬11) وقال: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا ¬
انْظُرْنَا} (¬1)، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} (¬2)، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (¬3)، وقال (¬4): {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} (¬5) وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬6)، {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬7)، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (¬8)، وقال (¬9): {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} [الإسراء: 29] {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (¬10)، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} (¬11)، {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬12)، {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (¬13)، ومثله في القرآن كثير. فهذا ما نهى الله عنه، ولم يقل لنا: لا تقولوا: إن القرآن كلامي. قلت: وهذه حجة قوية، وذلك أن القرآن لو كان كما يزعمه الجهمية مخلوقًا منفصلًا، كالسماء والأرض وكلام الذراع والأيدي ¬
والأرجل؛ لكان معرفة ذلك واجبًا، لا سيما وعند الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن معرفة ذلك من أصول الإيمان الَّذي لا يتم إلا به. وقد يقولون: إن (¬1) معرفة ذلك واجبة قبل (¬2) معرفة الرسالة، وأن معرفة الرسالة لا تتم إلا بتنزيه الله عن كلام يقوم به، لأن الكلام لا يقوم إلَّا بجسم متحيز (¬3)، ونفي ذلك عندهم واجب قبل الإقرار بالرسول، فإن (¬4) الجسم يستلزم أن يكون محدثًا مخلوقًا يجوز عليه الحاجة، وذلك يمنع ما بنوا عليه العلم بصدق الرسول، وقد صرحوا بذلك في كتبهم (¬5)، فإن كان الأمر كذلك كان بيان ذلك من الواجبات، فإذا لم يأمر الله به قط مع حاجة المكلفين إليه، ومع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ علم أنَّه ليس مأمورُا به ولا واجبًا (¬6)، وذلك يبطل قولهم. -وأيضًا- فلم ينه العباد عن أن يسموه كلامه، مع العلم بأن هذه التسمية ظاهرة في أنَّه هو المتكلم به، ليس هو الَّذي خلقه في جسم غيره. ¬
احتجاج أبي عبد الرحمن الأذرمي على ابن أبي دؤاد إمام الواثق
والجهمي وإن زعم أن الكلام يقال لمن فعله بغيره (¬1)، كما مثله من تكلم الجني على لسان المصروع، فهو لا ينازع في أن غالب الناس لا يفهمون (¬2) من الكلام إلّا ما يقوم بالمتكلم، بل لا يعرفون كلامًا منفصلًا عن متكلمه قط، وأمر الجني فيه من الإشكال والنزاع (¬3)، بل بطلان قول المستدل به ما (¬4) يمنع أن يكون ذلك ظاهرًا لعموم الناس. وإذا كان كذلك، كان (¬5) الواجب على قول الجهمي إما (¬6) نهي الناس عن أن يقولوا: القرآن كلام الله، حتَّى لا يقولوا (¬7) بالباطل، وإما البيان بأن قولهم: كلام الله أن الله خلق ذلك الكلام في جسم غيره، كما ذكره الجهمية من أنَّه خلق شيئًا فعبر عنه، فلما لم يؤمروا بهذا ولم ينهوا عن ذلك، مع الحاجة إلى هذا الأمر والنهي -على زعم الجهمي- علم أن قوله المستلزم لازم للأمر والنهي الَّذي لم يقع من الشارع باطل. ولهذا كان أحمد يقول لهم فيما يقوله في المناظرة الخطابية: كيف أقول ما لم يُقل؟ أي هذا القول لم يقله أحد قبلنا، ولو كان من الدين لكان قوله واجبًا، فعدم قول أولئك له يدل على أنَّه ليس من الدين. وكذلك احتجاج أبي عبد الرحمن الأذرمي (¬8)، وهو الشيخ ¬
الأذني (¬1) الَّذي قدمه ابن أبي دواد على الواثق فناظره أمامه كما حكاه ابنه المهتدي (¬2) وقطعه الأذني في المناظرة، والقصة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مشهورة (¬1)، وقال لابن أبي دواد: يا أحمد أرأيت مقالتك هذه التي (¬2) تدعو الناس إليها، هل هي داخلة في عقد الدين لا يتم الدين إلّا بها؟ وهل علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - وهل أمر بها؟ وهل وسعه و (¬3) وسع خلفاءه السكوت عنها؟ فكانت هذه الحجج كلها تبين أن هذا القول لو كان من الدين لوجب بيانه، وعدم ذلك مع قيام المقتضى له دليل على أنَّه ليس من الدين وإذا لم يكن من الدين كان باطلًا، لأن الدين لا بد فيه من أحد (¬4) أمرين: إما أن يكون الله - تعالى - تكلم بالقرآن وبسائر (¬5) كلامه، وإما أن يكون خلقه في غيره لا يحتمل الأمر وجهًا ثالثًا (¬6)، فإذا بطل أن يكون خلقه في غيره من الدين، تعين (¬7) أن يكون القول الآخر من الدين، وهو أنَّه هو المتكلم به، فمنه بدأ، ومنه يعود، ومنه حق القول، ومن لدنه نزل ولو كان مخلوقًا (¬8) في جسم غيره، لكان بمثابة ما يخلق في الأيدي والأرجل والذراع والصخر [وغير ذلك من الأجسام] (¬9) فإنه وإن كان منه، أي: من خلقه فليس من لدنه، ولا هو قولًا منه، ولا بدأ (¬10) منه. ¬
احتجاج الإمام أحمد بأن الملائكة سمت كلام الله كلاما ولم تسمه خلقا
قال (¬1) الإمام أحمد (¬2): وقد سمت الملائكة كلام الله كلامًا ولم تسمه خلقًا [في] (¬3) قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (¬4). وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي [ما] (¬5) بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وبينهما ستمائة سنة (¬6). فلما أوحى الله جل - ثناؤه - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - سمع الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفا، وظنوا (¬7) أنَّه أمر من أمر الساعة، ففزعوا وخرّوا لوجوههم سجدًا، فذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (¬8)، يقول: حتَّى إذا تجلى الفزع عن قلوبهم رفع الملائكة رؤوسهم، فسأل بعضهم بعضًا فقالوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (2) ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم. فهذا بيان لمن أراد الله هداه. ¬
تعليق الشيخ بأن الإمام أحمد احتج بما سمعته الملائكة من الوحي إذا تكلم الله به
قلت: احتج أحمد بما سمعته الملائكة من الوحي إذا تكلم الله به، كما قد جاءت بذلك الآثار (¬1) المتعددة، وسمعوا صوت الوحي فقالوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (¬2)، ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم، فبين أن تكلم الله بالوحي الَّذي سمعوا صوته هو قوله، ليس هو خلقه، ومثل هذه العبارة ذكر البخاري الإمام صاحب الصحيح، إما تلقيًا له عن أحمد أو غيره، أو موافقة اتفاقية، وقد ذكر ذلك في كتاب (¬3) الصحيح، وفي كتاب خلق الأفعال (¬4)، فقال في الصحيح في آخره في كتاب الرد على الجهمية (¬5): باب قول الله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬6)، ولم يقل: ماذا خلق ربكم (¬7)، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ} (¬8). قال (¬9): وقال مسروق عن ابن مسعود (¬10): إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئًا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنَّه ¬
الحق من ربكم (¬1)، ونادوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (¬2). قال (¬3): ويذكر عن جابر بن عبد الله (¬4)، عن عبد الله بن أنيس [قال] (¬5) سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان" (¬6). ثم قال (¬7): حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان"، [قال علي] (¬8) وقال غيره: صفوان يَنْفُذُهُم [ذلك] (¬9) {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم} (¬10)، للذي قال (¬11): {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1). قال علي (¬12): وثنا سفيان، ثنا عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة بهذا. ¬
قال (¬1) سفيان، قال عمرو: سمعت (¬2) عكرمة، ثنا أبو هريرة، قال علي: قلت لسفيان، قال (¬3) [سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة، قال: نعم، قلت لسفيان] (¬4): إن إنسانًا روى عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة، يرفعه، أنَّه قرأ: فرّغ (¬5)، قال سفيان: هكذا قرأ عمرو، فلا أدري سمعه (¬6) هكذا أم لا؟ قال سفيان: وهي قراءتنا. وما ذكره أحمد من الفترة، وتكلمه بالوحي بعدها، قاله طوائف من السلف، كما ذكره عبد الرزاق (¬7) في تفسيره (¬8)، أنبأنا معمر، عن ¬
ما في قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم. . . .} من أصول الإيمان
قتادة والكلبي في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (¬1) قالا (¬2): لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد، فنزل الوحي، قال قتادة: نزل مثل صوت الحديد على الصخر، فأفزع الملائكة ذلك، فقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (1)، يقول: إذا جلى (¬3) عن قلوبهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1). وهذه الآية وما فيها من الأحاديث المتعددة في الصحاح والسنن والمساند والآثار المأثورة عن السلف في تفسيرها، فيها أصول من أصول الإيمان، يبين بها ضلال من خالف ذلك من المتفلسفة الصابئية (¬4) والجهمية ونحو هؤلاء. ففيها ما دل عليه القرآن من أن الملائكة لا يشفعن إلّا من (¬5) بعد أن يأذن الله لهم، فضلًا عن أن يتصرفوا ابتداء، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ} (¬6) وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (¬7) وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلا مِنْ ¬
بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (¬1)، وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (¬2) فأخبر سبحانه أنهم لا يسبقونه بالقول، ولا يعملون إلّا بأمره، وأنهم لا يتكلمون بالشفاعة إلّا من (¬3) بعد أن يأذن (¬4) لهم، وأنهم مع ذلك لا يعلمون ما قال {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (¬5)، أي: جلى (¬6) عن قلوبهم فأزيل الفزع كما يقال: قردت البعير: إذا أزلت قراده، وتحوب (¬7) وتحرج وتأثم وتحنث إذا أزال (¬8) عن نفسه الحوب (¬9) والإثم والحرج والحنث، فإذا أزيل الفزع عن قلوبهم قالوا حينئذ: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوْا الْحَقَّ} (¬10)، وفي كل ذلك تكذيب للمتفلسفة من الصابئية (¬11) ونحوهم، ومن أتباعهم من أصناف المتكلمة والمتصوفة والمتفقهة (¬12) الذين خلطوا الحنيفية بالصابئية (¬13) فيما يزعمونه من تعظيم العقول والنفوس التي يزعمون أنها هي الملائكة، وأنها متولدة عن الله لازمة ¬
لذاته، وهي المدبرة للعالم بطريق التولد والتعليل، لا بأمر من الله وإذن يكون إذا شاء، بل يجعلون الَّذي (¬1) يسمونه العقل الفعال هو المدبر لهذا العالم من غير أن يحدث الله نفسه شيئًا أصلًا، ولهذا عبد هؤلاء الملائكة والكواكب وعظموا ذلك جدًّا، وهذه النصوص المتواترة تكذبهم، وتبين بعدهم عن الحق بمراتب متعددة خمسة وأكثر. فإن المرتبة الأولى: أن الملائكة هل تتصرف وتتكلم، كما يفعل ذلك سائر الأحياء بغير إذن من الله وأمر وقول؟ وإن كان الله خالق (¬2) أفعالهم، كما هو خالق أفعال الحيوان كله، فإن الحيوان من الجن والإنس والبهائم، وإن كان الله خالق أفعالهم فإن أفعالهم قد تكون معصية، وقد تكون غير مأمور بها ولا منهي عنها، بل يتصرفون بموجب إرادتهم، وإن كانت مخلوقة والملائكة ليسوا كذلك، بل لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، فلا يفعلون ما يكون من جنس المباحات والمنهيات، بل لا يفعلون إلّا ما هو من الطاعات. والمرتبة الثانية: أنهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى، فلا يشفعون عنده لمن لا يحب الشفاعة له، كما قد يفعله بعض من يدعو الله بما لا يحبه. والمرتبة الثالثة: أنهم (¬3) لا يبتدئون بالشفاعة، فلا يشفعون إلّا بعد أن يأذن لهم في الشفاعة. والمرتبة الرابعة: أنهم لا يستأذنون في أن يشفعوا إذ هم لا يسبقونه بالقول، بل هو يأذن لهم في الشفاعة ابتداء، فيأمرهم بها فيفعلونها عبادة لله وطاعة. ¬
والمرتبة الخامسة: أنهم يسجدون إذا سمعوا كلامه وأمره وإذنه، لم يطيقوا فهمه ابتداء، بل خضعت وفزعت وضربت بأجنحتها وصعقت وسجدت، فإذا فزع عن قلوبهم فجلى عنهم الفزع {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬1)، فهذا (¬2) حالهم عند (¬3) تكلمه بالوحي، وأما وحي كلامه الَّذي يبعث به رسله، كما أنزل القرآن، وأما أمره الَّذي يقضي به من أمر بكونه، فذلك حاصل في أمر التشريع وأمر التكوين، ولهذا قال سبحانه {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (2) و (حتَّى) حرف غاية يكون ما بعدها داخلًا فيما قبلها، ليست بمنزلة (إلى) التي قد يكون ما بعدها خارجًا عما قبلها، كما في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الْلَّيلِ} (¬4)، وهي سواء كانت حرف عطف أو حرف جر تتضمن (¬5) ذلك، وما بعدها يكون النهاية التي ينبه بها على ما قبلها فتقول: قدم الحجاج (¬6) حتَّى المشاة، فقدوم المشاة تنبيه على قدوم الركاب، وتقول: أكلت السمكة حتَّى رأسها، فأكل رأسها تنبيه على غيره، فإن أكل رؤوس السمك قد يبقى (¬7) في العادة. وهذه الآية أخبر فيها - سبحانه - أنَّه ليس لغير ملك ولا شرك في الملك، ولا معاونة ولا شفاعة إلّا بعد إذنه، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ ¬
أَذِنَ لَهُ} (¬1)، ثم قال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (¬2)، والضمير في قوله (عن قلوبهم) يعود إلى ما دل عليه قوله (من أذن له)، فإن الملائكة يدخلون في قوله: (من أذن له)، ودل عليه قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ} (¬3)، فإن الملائكة تدخل في ذلك، فسلبهم الملك والشركة والمعاونة والشفاعة إلّا بإذنه، ثم بين ذلك حتَّى إنه إذا تكلم لا يثبتون لكلامه ولا يستقرون بل يفزعون، ثم إذا (¬4) أزيل عنهم الفزع يقولون {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (¬5)، وذلك أن ما بعد (حتَّى) هنا جملة تامة، وقوله: {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} والعامل في (إذا) هو قوله: (قالوا ماذا) وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان متضمن معنى الشرط، أي: لما زال الفزع عن قلوبهم، قالوا ماذا قال ربكم، والغاية بعد حتَّى يكون مفردًا كما تقدم، ويكون جملة، ومنه قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} (¬6)، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (¬7). ¬
فأخبر عن ضلال أولئك إلى تلك الغاية، وعن تسيير هؤلاء إلى هذه الغاية. وكذلك قوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} (¬1). . . الآية. وكذلك قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} (¬2). وكذلك قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} (¬3). * * * ¬
(فصل) ولما قالوا: ولا تقول إن كلام الله حرف وصوت قائم به
فصل ولما (¬1) قالوا: ولا تقول (¬2): إن كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته. قلت إخبارًا عما وقع مني قبل ذلك: ليس في كلامي هذا -أيضًا- بل قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة، وقوله: إنه معنى قائم به بدعة، لم يقله (¬3) أحد من السلف، لا هذا، ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامي ما أجمع عليه السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا كلام صحيح، فلم أقل: إن الحروف ليست من كلام الله، وإن المعاني ليست من كلام الله، ولا إن الله -تعالى- لم يتكلم بالحروف والأصوات ومعاني قائمة في نفسه، ولكن بينت أن من جعل القرآن مجرد حرف وصوت قائم بالله فإنه مبتدع، وقوله يتضمن أن المعاني ليست من القرآن، ولا من كلام الله، ومن جعل القرآن مجرد معنى قائم به مبتدع، وقوله يتضمن أن حروف (¬4) القرآن ليست من (¬5) القرآن، ولم يتكلم الله بها وأن جميع كلام الله ليس إلّا معنى واحدًا (¬6)، وقد قلت قبل هذا في جواب الفتيا المصرية (¬7)، وقد قيل فيها: ¬
إجابة الشيخ
المسؤول (¬1) بيان ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلمًا بأوضح عبارة وأبينها من أن ما في المصاحف هو كلام الله القديم؟ أم هو عبارة عنه لا نفسه، وأنه حادث أو قديم؟ وأن كلام الله حرف وصوت؟ أم كلامه صفة قائمة به لا تفارقه؟ وأن قوله تعالى (¬2): {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬3)، حقيقة أم لا؟ وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول شيئًا منه، ويقول (¬4) أؤمن به كما أنزل هل يكفيه ذلك [في] (¬5) الاعتقاد؟ أم يجب عليه التأويل؟ فقلت في الجواب: الَّذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره، ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق عليه سلف المؤمنين، الذين أثنى الله -تعالى- على من اتبعهم، وذم من اتبع غير سبيلهم (¬6)، وهو أن القرآن الَّذي أنزله على عبده ورسوله كلام الله - تعالى - وأنه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلّا المطهرون، وأنه قرآن مجيد في لوح محفوظ، وأنه كما قال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬7)، وأنه في الصدور، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استذكروا القرآن فلهو أشد (¬8) تفصيًا (¬9) ¬
من صدُور الرجال من النعم من عقلها" (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الجوف الَّذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب" (¬2). وإن ما بين لوحي المصحف الَّذي كتبته الصحابة - رضي الله عنهم - كلام الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم" (¬3). فهذه الجملة تكفي المسلم في هذا الباب. وأما تفصيل ما وقع في ذلك من النزاع، فكثير منه يكون كلا الإطلاقين (¬4) خطأ، ويكون الحق في التفصيل، ومنه ما يكون مع كل من ¬
النهي عن التفرق والاختلاف
المتنازعين نوع من الحق، ويكون كل منهما ينكر (¬1) حق صاحبه، وهذا من التفرق والاختلاف الَّذي ذمه الله تعالى، ونهى عنه فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (¬2)، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬3)، وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬4)، وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬5). فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل، وإلَّا استمسك بالجمل (¬6) الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. وقد بسطت القول في جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الَّذي اتفق عليه العقل والسمع، وبيان ما يدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة (¬7)، ولكن نذكر منها جملة ¬
التفصيل المختصر: أن من اعتقد أن المداد الذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهو ضال مخطئ
مختصرة، بحسب حال السائل (¬1)، بعد الجواب بالجمل (¬2) الثابتة بالنص والإجماع، ومنعهم من الخوض في التفصيل الَّذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله. والتفصيل المختصر (¬3) أن نقول: من اعتقد أن المداد الَّذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهو ضال مخطئ، مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأولين وسائر علماء المسلمين (¬4)، ولم يقل أحد قط من علماء المسلمين أن ذلك قديم، لا من أصحاب (¬5) أحمد ولا من غيرهم، ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد، فهو مخطئ في النقل، أو متعمد للكذب، بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع (¬6) من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهموا من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق (¬7). ¬
وقد صنف أبو بكر المروذي أخص أصحاب الإمام أحمد به في ذلك رسالة كبيرة (¬1) مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب "السنة" الَّذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمة المسلمين في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحديث (¬2) إذ ذاك أطلق القول: بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر (¬3) ذلك إنكارًا شديدًا، وبدع من. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
خطأ من جعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة مثل ثبوت ذات الله في ذلك
قال (¬1) ذلك (¬2)، وأخبر أن أحدًا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم؟ وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء أن المداد الَّذي في المصحف قديم، وجميع أئمة أصحاب الإمام وغيرهم أنكروا ذلك، وما علمت أن عالمًا يقول ذلك، إلّا ما يبلغنا عن بعض الجهال، وقد ميز الله في كتابه بين الكلام والمداد (¬3) فقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬4)، فهذا خطأ من هذا الجانب. وكذلك من زعم أن القرآن محفوظ في الصدور، كما أن الله معلوم بالقلوب، وأنه متلو بالألسن، كما أن الله مذكور بالألسن، وأنه مكتوب في المصحف، كما أن الله مكتوب، وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسن والمصاحف مثل ثبوت ذات الله تعالى في هذه المواضع، فهذا -أيضًا- مخطئ في ذلك، فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بين واضح، فإن الموجودات (¬5) لها أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في البنان، فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ. فإذا قيل: إن العين في الكتاب كما في (¬6) قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ ¬
خطأ من قال: إن المداد قديم، ومن قال: ليس في المصحف كلام الله، وإنما فيه المداد الذي هو عبارة عن كلام الله
فَعَلُوهُ فِي الْزُّبُرِ} (¬1) فقد علم أن الَّذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للعلم، فبين الأعيان وبين المصحف (¬2) مرتبتان، وهما (¬3): اللفظ والخط. وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة، بل نفس الكلام يجعل في الكتاب، وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجه آخر، إلَّا إذا أريد أن الَّذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه مثل قوله: {إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}، إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬4). فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله - صلى الله عليه وسلم - ولكن في زبر الأولين ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - وخبره، كما أن أفعال العباد في الزبر، كما قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} (¬5)، فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزبر، وبين كون الكلام نفسه في الزبر، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (¬6)، وقال تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (¬7). فمن قال: إن المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الَّذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن ¬
السؤال عما في المصحف هل هو حادث أو قديم؟ سؤال مجمل
في المصحف، كما أن سائر الكلام في الورق، كما عليه الأمة مجمعة، وكما هو في قطر المسلمين، فإن كل مرتبة لها حكم يخصها وليس (¬1) وجود الكلام في الكتاب كوجود الصفة بالموصوف، مثل وجود العلم والحياة [في] (¬2) محلها (¬3)، حتَّى يقال: إن صفة الله حلت بغيره، أو فارقته، ولا وجود (¬4) فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على الباري تعالى: حتَّى يقال: ليس فيه إلّا ما هو علامة على كلام الله - عز وجل -، بل هو قسم آخر، ومن لم يعط كل مرتبة مما يستعمل فيها أداة الظرف حقها، فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان، ووجود العرض للجسم، ووجود الصورة بالمرأة، ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة، وبين رؤيته بالقلب يقظة ومنامًا، ونحو ذلك، وإلا اضطربت عليه الأمور. وكذلك سؤال السائل عما في المصحف هل هو حادث أو قديم؟ سؤال مجمل، فإن لفظ القديم (¬5) أولًا ليس مأثورًا عن السلف، وإنما ¬
الَّذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تلي وحيث كتب، وهو قرآن واحد، وكلام واحد، وإن تنوعت الصور التي يتلى فيها ويكتب، من أصوات العباد ومدادهم، فإن الكلام (¬1) كلام من قاله مبتدئًا لا كلام من بلغه مؤديًا. فإذا سمعنا محدثًا يحدث بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2). قلنا: هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفظه ومعناه، مع علمنا أن الصوت صوت المبلغ، لا صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نظم ونثر، ونحن إذا قلنا هذا كلام الله، لما نسمعه من القارئ ونرى في المصحف، فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو، مع قطع النظر عما اقترن به البلاع من صوت المبلغ ومداد الكاتب، فمن قال: ¬
صوت القارئ، ومداد الكاتب، كلام الله الَّذي ليس بمخلوق، فقد أخطأ، وهذا الفرق الَّذي بينه الإمام أحمد لمن سأله، وقد قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1)، فقال: هذا كلام الله غير مخلوق، فقال: نعم، فنقل السائل عنه أنَّه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فدعا به وزبره زبرًا (¬2) شديدًا، وطلب عقوبته وتعزيره، وقال أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: لا، ولكن قلت لي لما قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬3) هذا كلام الله غير مخلوق، قال: فلم تنقل عني ما لم أقله (¬4)؟. ¬
كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا؟ إطلاق الجواب نفيا وإثباتا خطأ
فبين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين هذا كلام الله، فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها، وإن كنا إنما سمعناها (¬1) ببلاغ المبلغ وحركته وصوته، فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه أو صوته (¬2) أو فعله، وقال: هذا غير مخلوق، فقد ضل وأخطأ. فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فالقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في المصحف ولا يقال: إن شيئًا من المداد والورق غير مخلوق، بل كل ورق ومداد في العالم فهو مخلوق. ويقال -أيضًا-: القرآن الَّذي في المصحف كلام الله غير مخلوق، والقرآن الَّذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق. ويتبين هذا بالجواب عن المسألة الثانية، وهو قوله: إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا؟ فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا خطأً، وهي من البدع المتولدة (¬3) الحادثة بعد المائة الثالثة، لما قال قوم من متكلمة الصفاتية (¬4): إن كلام الله الَّذي أنزله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والقرآن والذي لم ينزله، والكلمات التي كون بها الكائنات، والكلمات المشتملة على أمره وخبره، ليس إلَّا مجرد معنى واحد، هو صفة واحدة ¬
الصواب الذي عليه سلف الأمة
قامت (¬1) بالله إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة [وإن عبر عنها بالسريانية كانت الإنجيل] (¬2)، وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن، وإن الأمر والنهي والخبر صفات لها، لا أقسام لها، وإن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله ولم يتكلم بها وليست من كلامه، إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت. عارضهم آخرون من المثبتة (¬3) فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد، وبالأصوات أصوات العباد، وهذا لم يقله عالم. والصواب الَّذي عليه سلف الأمة، كالإمام أحمد، والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم، اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء (¬4) من ذلك كلامًا لغيره، ولكن أنزله على رسوله (¬5)، وليس القرآن اسمًا لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما (¬6)، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما، وأن الله تعالى ¬
متكلم بصوت، كما جاءت به الأحاديث الصحاح (¬1)، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره، وأن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوقين (¬2)، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد، فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته [ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته] (¬3) وقد كتبت في الجواب المبسوط المستوفي (¬4) مراتب مذاهب ¬
قول الفلاسفة والجهمية ومتكلمة الصفاتية في كلام الله
أهل الأرض في ذلك، وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلَّا في نفوس (¬1) الأنبياء تفيض (¬2) عليهم المعاني من العقل الفعال، فيصير في نفوسهم حروفًا، كما أن ملائكة (¬3) الله عندهم ما يحدث في نفوس الأنبياء من الصور النورانية، وهذا من جنس قول فيلسوف (¬4) قريش: الوليد بن المغيرة {إِنْ هَذَا إلا قَوْلُ الْبَشَرِ} (¬5). فحقيقة قولهم: إن القرآن تصنيف الرسول الكريم، لكنه كلام شريف صادر عن نفس صافية. وهؤلاء هم (¬6) الصابئية (¬7)، فتقربت منهم الجهمية فقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام، وإنما كلامه ما يخلقه في الهواء أو غيره، فأخذ (¬8) ببعض ذلك قوم من متكلمة الصفاتية فقالوا: بل نصْفُه -وهو المعنى- كلام الله، ونصفه -وهو الحروف- ليس كلام الله، بل هو خلق من خلقه. وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق، هل يقال: إنه قديم لم يزل ولم يتعلق بمشيئته؟ أم يقال: يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء؟ على قولين مشهورين في ذلك، ذكرهما الحارث المحاسبي (¬9) عن ¬
أهل السنة، وذكرهما أبو بكر عبد العزيز (¬1) عن أهل السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم. وكذلك النزاع بين أهل الحديث والصوفية، وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية، بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة في جنس هذا الباب، وليس هذا موضع بسط (¬2) ذلك، هذا لفظ الجواب في الفتيا المصرية. قلت (¬3): وأما سؤال السائل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬4) فهو حق كما أخبر الله به، وأهل السنة متفقون على ما قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن (¬5)، ومالك بن أنس، وغيرهما من ¬
خطأ من زعم أن الله مفتقر إلى عرش يقله أو أنه محصور فى سماء تظله
الأئمة (¬1): أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيف بدعة. فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش (¬2) يُقِلُّه، أو أنَّه محصور في سماء تظله، أو أنَّه محصور في شيء من مخلوقاته، أو أنَّه يحيط به جهة من جهات مصنوعاته (¬3) فهو مخطئ ضال، ومن قال: إنه ليس على العرش ربّ ولا فوق السماوات خالق، بل ما هناك (¬4) إلَّا العدم المحض، والنفي الصرف، فهو معطل جاحد لرب العالمين، مضاه لفرعون الَّذي قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (¬5). بل أهل السنة والحديث، وسلف الأمة متفقون على أنَّه فوق سماواته [على عرشه] (¬6) بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين والأولين والآخرين. وأهل السنة وسلف الأمة متفقون على أن من تأول (استوى) بمعنى استولى [أو بمعنى آخر ينفي (¬7) أن يكون الله فوق سماواته] (¬8) فهو جهمي ضال. ¬
لفظ "الظاهر" فيه اشتراك في عرف المستأخرين
قلت: وأما سؤاله عن إجراء القرآن على ظاهره، فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه ووصفه (¬1) به رسوله من غير تحريف ولا تكييف، فقد اتبع سبيل المؤمنين، ولفظ "الظاهر" في عرف المستأخرين قد صار فيه اشتراك، فإن أراد بإجرائه على الظاهر الَّذي هو (¬2) من خصائص المخلوقين حتَّى يشبه الله بخلقه، فهذا ضلال، بل يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ليس في الدنيا مما في الجنّة إلا الأسماء (¬3)، يعني أن موعود الله في الجنّة من الذهب والحرير والخمر واللبن تخالف حقائقه حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا، فالله -تعالى- أبعد عن (¬4) مشابهة مخلوقاته بما لا يدركه العباد ليست (¬5) حقيقته كحقيقة شيء منها. وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الَّذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة، بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يلحد في أسماء الله - تعالى - ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص، وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، فهذا مصيب في ذلك، وهو الحق. ¬
سئل الشيخ عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت، وإجابة الشيخ عليه
وهذه (¬1) جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها، وقلت في جواب الفتيا الدمشقية (¬2)، وقد سئلت فيها عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت، وأن الرحمن على العرش استوى على (¬3) ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره، هل يحنث هذا أم لا؟ فقلت في الجواب: إن كان مقصود هذا الحالف أن أصوات العباد بالقرآن، والمداد الَّذي يكتب به حروف القرآن قديمة أزلية، فقد حنث في يمينه، وما علمت أحدًا من الناس يقول ذلك. وإن (¬4) كان يكره تجريد الكلام في المداد الَّذي في المصحف وفي صوت العبد لئلا يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن، ومن الناس من تكلم في صوت العبد، وإن كنا نعلم أن الَّذي نقرؤه هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، وأن الَّذي بين اللوحين هو كلام الله حقيقة، ولكن ما علمت أحدًا حكم على مجموع المداد المكتوب به، وصوت العبد بالقرآن بأنه قديم. ¬
الذين في قلوبهم زيغ لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله في باب صفات الله إلا المعاني التي تليق بالخلق لا بالخالق
ولكن الذين في قلوبهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان في (باب صفات الله تعالى) إلَّا المعاني (¬1) التي تليق بالخلق لا بالخالق، ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه، في كلام الله، وكلام رسوله إذا وجدوا ذلك فيهما، وإن وجدوه في كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم، ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الَّذي فهموه، أو زادوا عليهم في الألفاظ، أو غيّروها قدرًا أو وصفًا (¬2)، كما نسمع من ألسنتهم، ونرى في كتبهم. ثم إن بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكي هذا المذهب عمن حكوه عنهم، ويذم ويحنث مع من لا وجود له، وذمه واقع على موصوف غير موجود، نظير ما وصف الله تعالى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش يشتمون مذممًا وأنا محمد" (¬3) - صلى الله عليه وسلم -. وهذا نظير ما تحكي الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه ¬
الافتراء على أهل السنة بأنهم ناصبة ومجبرة ومشبهة
والمعرفة أنهم ناصبة (¬1)، وتحكي (¬2) القدرية عنهم أنهم مجبرة، وتحكي الجهمية عنهم أنهم مشبهة، ويحكي من خالف الحديث ونابذ أهله عنه أنهم نابتة (¬3) وحشوية وغثاء (¬4) وغثر (¬5)، إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة (¬6). ¬
ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وجدهم لا يبحثون في الغالب أو (¬1) في الجميع إلَّا مع هذا القول الَّذي ما علمنا لقائله وجودًا. وإن كان مقصود الحالف أن القرآن الَّذي أنزله الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو هذه المائة والأربع عشرة سورة حروفها ومعانيها وأن القرآن ليس الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، بل هو مجموع (¬2) الحروف والمعاني، وأن تلاوتنا للحروف وتصورنا للمعاني لا يخرج المعاني والحروف عن أن تكون موجودة قبل وجودنا، فهذا مذهب المسلمين، ولا حنث عليه. وكذلك إن كان مقصوده أن هذا القرآن الَّذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم هو كلام الله - سبحانه - حقيقة لا مجازًا، وأنه لا يجوز نفي كونه كلام الله، إذ الكلام يضاف حقيقة لمن قاله متصفًا به مبتدئًا، وإن كان قد قاله غيره مبلغًا مؤديًا، وهو كلام لمن اتصف به مبتدئًا لا لمن بلغه مؤديًا (¬3)، فإنا باضطرار نعلم من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودين سلف الأمة أن قائلًا لو قال: إن هذه الحروف -حروف القرآن- ما هي من القرآن، وإنما القرآن اسم لمجرد المعاني، لأنكروا ذلك عليه غاية الإنكار، وكان عندهم بمنزلة من يقول: إن جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
القول بحدوث حروف القرآن قول محدث
ما هو داخلًا (¬1) في اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هذا اسم للروح دون الجسد، أو يقول: إن الصلاة ليست اسمًا لحركات القلب والبدن، وإنما هي اسم لأعمال القلب فقط. ولذلك ذكر الشهرستاني (¬2) -وهو من أخبر الناس بالملل والنحل والمقالات- في (نهاية الإقدام) (¬3) أن القول بحدوث حروف القرآن قول محدث وأن مذهب سلف الأمة نفي الخلق عنها، وهو من أعيان الطائفة القائلة بحدوثها. ولا يحسب اللبيب أن في العقل وفي السمع ما يخالف ذلك، بل من تبحر في المعقولات، ووقف على أسرارها علم قطعًا أن ليس في العقل الصريح الذي لا يكذب قط ما يخالف مذهب (¬4) السلف وأهل الحديث، بل يخالف ما قد يتوهمه المنازعون لهم بظلمة قلوبهم، وأهواء نفوسهم، أو ما قد يقترفونه عليهم لعدم التقوى وقلة الدين. ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذي لا يكذب يناقض بعض الأخبار، للزم أحد الأمرين: إما تكذيب الناقل، أو تأويل المنقول، لكن -ولله الحمد- هذا لم يقع، ولا ينبغي أن يقع قط، فإن حفظ الله تعالى لما أنزله من الكتاب والحكمة يأبى ذلك. نعم يوجد مثل هذا في أحاديث وضعتها الزنادقة ليشينوا بها أهل ¬
الحديث، كحديث عرق الخيل (¬1)، والجمل الأورق (¬2)، وغير ذلك مما ¬
استفاض عن علماء المسلمين أفكارهم على من زعم أن لفظ القرآن مخلوق
يعلم العلماء بالحديث أنه كذب. ومما يوضح هذا ما قد استفاض عن علماء الإِسلام مثل الشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، والحميدي، وغيرهم من إنكارهم على من زعم أن لفظ القرآن مخلوق، والآثار بذلك مشهورة في كتاب ابن أبي حاتم (¬1)، وكتاب اللالكائي (¬2)، تلميذ أبي حامد ¬
الإسفراييني، وكتاب الطبراني (¬1) وكتاب شيخ الإِسلام (¬2)، وغيرهم ممن يطول ذكره، وليس هذا موضع التقرير بالأدلة والأسئلة (¬3) والأجوبة. وكذلك إن كان مقصود الحالف بذكر الصوت التصديق بالآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وتابعيهم، التي وافقت القرآن وتلقاها السلف بالقبول، مثلما خرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله يا آدم (¬4)، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار" (¬5). وما استشهد به البخاري -أيضًا- في هذا الباب من: "أن الله ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب" (¬6). ومثل: "إن الله إذا تكلم بالوحي القرآن أو غيره سمع أهل السماوات صوته" (¬7). وفي قول ابن عباس: سمعوا صوت الجبار، وأن الله كلم موسى بصوت (¬8)، إلى غير ذلك من الآثار التي قالها، إما ذاكرًا وإما أثرًا (¬9)، ¬
مثل: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله بن أنيس، وجابر بن عبد الله، ومسروق أحد أعيان كبار التابعين، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (¬1) أحد الفقهاء السبعة (¬2)، وعكرمة مولى ابن عباس، والزهبري، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، ومن لا يحصى كثرة. ولا ينقل عن أحد من علماء الإِسلام قبل المائة الثانية أنه أنكر ذلك ولا قال خلافه، بل كانت الآثار مشهورة بينهم متداولة في كل عصر ¬
ومصر، بل أنكر ذلك شخص (¬1) في زمن الإِمام أحمد (وهو أول الأزمنة) (¬2) التي (¬3) نبعت (¬4) فيها البدع بإنكار ذلك على الخصوص، وإلا فقبله قد نبع من أنكر ذلك وغيره، فهجر أهل الإِسلام من أنكر ذلك، وصار بين المسلمين كالجمل الأجرب. فإن أراد الحالف ما هو المنقول عن السلف نقلًا صحيحًا، فلا حنث عليه. قلت: وأما حلفه أن الرحمن على العرش استوى، على ما يفيده ¬
الظاهر من لفظ "استوى" في الفطرة السليمة واللسان العربي ولسان السلف غير الظاهر في عرف كثير من المستأخرين
الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره، فلفظة (الظاهر) قد صارت مشتركة فإن الظاهر في الفطر السليمة واللسان العربي والدين القيم ولسان السلف غير الظاهر في عرف كثير من المستأخرين (¬1)، فإن أراد الحالف بالظاهر شيئًا من المعاني التي هي من خصائص المحدثين، أو ما يقتضي نوع نقص بأن يتوهم أن الاستواء مثل استواء الأجسام على الأجسام، أو كاستواء الأرواح (¬2) إن كانت عنده لا تدخل في اسم (¬3) الأجسام فقد حنث في ذلك وكذب (¬4)، وما أعلم أحدًا يقول ذلك إلَّا ما يروى عن مثل داود الجواربي البصري (¬5)، ومقاتل بن سليمان الخرساني (¬6)، وهشام بن ¬
الحكم الرافضي (¬1) ونحوهم، إن صح النقل عنهم. فإنه يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وأن مباينته للمخلوقين وتنزهه عن مشاركتهم أكبر وأعظم مما يعرفه العارفون من خليقته ويصفه الواصفون، وأن كل صفة تستلزم حدوثه أو نقصًا غير الحدوث فيجب نفيها عنه، ومن حكى عن أحد من أهل السنة أنه قاس صفاته بصفات خلقه، فهو إما كاذب أو مخطئ. وإن أراد الحالف بالظاهر ما هو الظاهر في فطر المسلمين قبل ظهور الأهواء وتشتت الآراء، وهو الظاهر الذي يليق بجلاله -سبحانه وتعالى- كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق (¬2) عليه -سبحانه- من أسمائه وصفاته، كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة، والمحبة والغضب والرضا و {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3)، و (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا) (¬4) إلى غير ذلك، فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضًا أو (¬5) أجسامًا؛ لأن ذواتنا كذلك، وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله -سبحانه وتعالى- إلّا ما يليق بجلاله ويناسب ¬
قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات
نفسه، فكما أن لفظ "ذات" و"وجود" و"حقيقة" يطلق على الله وعلى عباده، وهو على ظاهره في الإطلاقين، مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله تعالى مساويًا لظاهره في حقنا, ولا مشاركًا له فيما يوجب نقصًا وحدوثًا، سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة، كذلك قوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬1) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬2)، و {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3) {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬4) الباب في الجميع واحد. وكان قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات التي هي فينا أعراض. كالعلم والقدرة، وأجسام: كالوجه واليد، وحدثاؤهم أقروا بكثير من الصفات [التي هي فينا أعراض] (¬5) كالعلم والقدرة، وأنكروا بعضها، والصفات التي هي فينا أجسام هي فينا أعراض، ومنهم من أقر ببعض الصفات التي هي فينا أجسام كاليد. وأما السلفية فعلى ما حكاه الخطابي (¬6) وأبو بكر ¬
مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها
الخطيب (¬1)، وغيرهما، قالوا: مذهب السلف إجراء آيات الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع العلم، وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية. فقد أخبرك الخطابي والخطيب -وهما إمامان من أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - متفق على علمهما بالنقل، وعلم الخطابي بالمعاني -أن مذهب السلف إجراؤها (¬2) على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، والله -تعالى- يعلم أني قد بالغت في البحث عن مذهب (¬3) السلف، فما علمت أحدًا منهم خالف ذلك. ومن قال من المتأخرين: إن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد، فيجب لمن أحسن به الظن أن يعرف أن معنى قوله (الظاهر) الذي يليق بالمخلوق لا بالخالق، ولا شك أن هذا غير مراد، ومن قال: إنه مراد فهو -بعد قيام الحجة عليه- كافر. فهنا بحثان: لفظي ومعنوي. ¬
المذهب في الإستواء
أما المعنوي: فالأقسام ثلاثة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1) ونحوه. أن يقال: استواء كاستواء مخلوق، أو يفسر باستواء مستلزم (¬2) حدوثًا أو نقصًا، فإذا هو الذي يحكى عن الضلال المشبهة والمجسمة، وهو باطل قطعًا بالقرآن وبالعقل. وإما أن يقال: ما تم استواء حقيقي أصلًا، ولا على العرش إله، ولا فوق السماوات رب، فهذا (¬3) مذهب الجهمية الضالة المعطلة، وهو باطل قطعًا بما علم بالاضطرار من دين الإِسلام، لمن أمعن النظر في العلوم النبوية، وبما فطر الله عليه خليقته من الإقرار بأنه فوق خلقه، كإقرارهم بأنه ربهم. قال ابن قتيبة (¬4): ما زالت الأمم -عربها وعجمها، في جاهليتها وإسلامها- معترفة بأن الله في السماء، أي: على السماء. أو يقال: بل استوى -سبحانه- على العرش على الوجه الذي يليق بجلاله، ويناسب كبرياءه، وأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، مع أنه -سبحانه- هو حامل للعرش، ولحملة العرش، وأن الاستواء معلوم، الكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قالته (¬5) أم سلمة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن ¬
أنس، فهذا مذهب المسلمين. وهو الظاهر من لفظ (استوى) عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السالمة التي لم تنحرف إلى تعطيل، ولا إلى (¬1) تمثيل، وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي (¬2)، المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين، حيث قال (¬3): (من زعم أن الرحمن على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي). فإن الذي أقره الله -تعالى- في فطر عباده وجبلهم عليه، أن ربهم فوق سماواته، كما أنشد عبد الله بن رواحة (¬4) - رضي الله عنه (¬5) - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقره (¬6) النبي - صلى الله عليه وسلم -: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا (¬7) ¬
وقال عبد الله بن المبارك -الذي أجمعت فرق الأمة على إمامته وجلالته، حتى قيل: إنه أمير المؤمنين في كل شيء (¬1)، وقيل: ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك (¬2)، وقد أخذ عن عامة علماء وقته، مثل: الثوري ومالك وأبي (¬3) حنيفة والأوزاعي وطبقتهم [حين] (¬4) قيل له: بماذا نعرف (¬5) ربنا؟ ¬
قال (¬1): (بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه). وقال (¬2) محمَّد بن إسحاق بن خزيمة -الملقب إمام الأئمة، وهو ممن يفرح (¬3) أصحاب الشافعي بما ينصره من مذهبه، ويكاد يقال: ليس فيهم أعلم بذلك منه-: (من لم يقل: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب، وإلّا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملة (¬4)، ولا أهل الذمة، وكان ماله فيئًا). وقال (¬5) مالك بن أنس -الإِمام- فيما رواه عنه عبد الله بن نافع وهو مشهور عنه: (الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان). ¬
وقال (¬1) الإِمام أحمد بن حنبل مثل ما قال مالك، وما قال ابن المبارك. والآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وسائر علماء الأمة بذلك متواترة (¬2) عند من تتبعها، قد جمع العلماء فيها مصنفات صغارًا وكبارًا، ومن تتبع الآثار علم -أيضًا- قطعًا أنه لا يمكن أن ينقل عن أحد منهم حرف واحد يناقض ذلك، بل كلهم مجمعون على كلمة واحدة وعقيدة واحدة، يصدق بعضهم بعضًا، وإن كان بعضهم أعلم من بعض كما أنهم متفقون على الإقرار بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وإن كان فيهم من هو أعلم بخصائص النبوة ومزاياها وحقوقها وموجباتها وحقيقتها وصفاتها. ثم ليس أحد منهم قال يومًا من الدهر: ظاهر هذا غير مراد، ولا قال: ظاهر (¬3) هذه الآية أو (¬4) هذا الحديث مصروفة عن ظاهره، مع أنهم قد قالوا مثل ذلك في آيات الأحكام المصروفة عن عمومها وظهورها، وتكلموا فيما يستشكل مما قد يتوهم أنه متناقض، وهذا مشهور لمن تأمله، وهذه الصفات أطلقوها بسلامة، وطهارة وصفاء، لم يشوبوه (¬5) بكدر ولا غش. ولو لم يكن هذا هو الظاهر عند المسلمين لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ¬
سلف الأمة، قالوا للأمة: الظاهر الذي تفهمونه غير مراد، أو (¬1) لكان أحد (¬2) من المسلمين استشكل هذه الآية وغيرها. فإن كان بعض المتأخرين قد زاغ قلبه، حتى صار يظهر له من الآية معنى فاسد (¬3)، مما يقتضي حدوثًا أو نقصًا، فلا شك أن الظاهر لهذا الزائغ غير مراد، وإذا رأينا رجلًا يفهم من (¬4) الآية هذا الظاهر الفاسد، قررنا عنده أولًا: أن هذا المعنى ليس مفهومًا من (3) ظاهر الآية، ثم قررنا عنده ثانيًا: أنه في نفسه معنى فاسد، حتى لو فرض أنه ظاهر الآية -وإن كان هذا فرض ما لا حقيقة له- لوجب صرف الآية عن ظاهرها كسائر الظواهر التي عارضها ما أوجب أن المراد بها غير الظاهر. واعلم أن من لم يحكم (¬5) دلالات اللفظ، ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ، تارة يكون (¬6) بالوضع اللغوي، أو العرفي، أو الشرعي، إما في الألفاظ المفردة، وإما في المركبة، وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب الذي يتغير به دلالته في نفسه، وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التي تجعلها مجازًا، وتارة بما يدل عليه حال المتكلم، والمخاطب والمتكلم فيه، وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ، أو يبين أن المراد به هو مجازه، إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور، وإلا فقد يتخبط في هذه المواضع، نعم إذا لم يقترن باللفظ قط شيء من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم، بل علم مراده، بدليل آخر لفظي منفصل، فهنا أريد به خلاف الظاهر، ¬
كالعموم (¬1) المخصوص بدليل منفصل، وإن كان الصارف عقليًّا ظاهرًا ففي تسميته المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه (¬2). وبالجملة: فإذا عرف المقصود فقولنا: هذا هو الظاهر، أو ليس هو الظاهر خلاف لفظي فإن كان الحالف ممن في عرف خطابه أن ظاهر هذه الآية ما (¬3) هو مماثل لصفات المخلوقين فقد حنث، وإن كان في عرف خطابه أن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى لم يحنث، وإن لم يعلم عرف (¬4) أهل ناحيته في هذه اللفظة، ولم يكن سبب يستدل به على مراده، وتعذر العلم بنيته، فقد جاز أن يكون أراد معنى صحيحًا، وجاز أن يكون أراد معنى باطلًا، فلا يحنث بالشك. وهذا كله تفريع على قول من يقول: إن من حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث، وأما على قول من لم يحنثه (¬5) فالحكم في يمينه ظاهر. واعلم أن عامة من ينكر هذه الصفة وأمثالها، إذا بحثت (¬6) عن ¬
الوجه الذي أنكروه، وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين، أو استواء يستلزم حدوثًا أو نقصًا، ثم حكوا عن مخالفهم هذا القول ثم تعبوا (¬1) في إقامة الأدلة على (¬2) بطلانه، ثم يقولون: فيتعين تأويله، إما بالاستيلاء، أو بالظهور والتجلي، أو بالفضل والرجحان الذي هو علو القدر والمكانة، ويبقى المعنى الثالث: وهو استواء يليق بجلاله، تكون دلالة هذا اللفظ عليه كدلالة لفظ العلم والإرادة والسمع والبصر على معانيها، قد دل السمع عليه. بل من أكثر النظر في آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - علم بالاضطرار أنه قد ألقى إلى الأمة أن ربكم [الذي] (¬3) تعبدونه فوق كل شيء، وعلى كل شيء، فوق العرش، وفوق (¬4) السماوات، وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه لا ينقل عن واحد لفظ يدل -لا نصًّا ولا ظاهرًا- على خلاف ذلك، ولا قال أحد منهم يومًا من الدهر: إن ربنا ليس فوق العرش، أو إنه ليس على العرش أو إن استواءه على العرش كاستوائه على البحر، إلى غير ذلك من ترهات الجهمية، ولا مثّل استواءه باستواء المخلوقين، ولا أثبت له صفة تستلزم حدوثًا أو نقصًا. والذي يبين لك خطأ من أطلق (الظاهر) (¬5) على المعنى الذي يليق ¬
الألفاظ نوعان
بالخلق، أن الألفاظ نوعان: أحدهما: ما معناه مفرد كلفظ الأسد والحمار والبحر والكلب، فهذا إذا قيل: أسد الله وأسد رسوله أو قيل للبليد: حمار (¬1)، أو قيل: للعالم أو السخي أو الجواد من الخيل: بحر، أو قيل للأسد: كلب، فإذا مجاز، ثم إن قرنت (¬2) به قرينة تبين المراد، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لفرس أبي طلحة (وإن (¬3) وجدناه لبحرًا) (¬4) وقوله: (إن خالدًا سيف من سيوف ¬
الله على المشركين) (¬1)، وقوله لعثمان (إن الله قمصك قميصًا) (¬2)، وقول ابن عباس: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه ¬
وصافحه فكأنما بايع ربه) (¬1)، أو كما قال، ونحو ذلك. فهنا اللفظ (¬2) فيه تجوز، وإن كان قد ظهر من اللفظ مراد صاحبه، وهو محمول على هذا الظاهر في استعمال هذا المتكلم، لا على الظاهر في الوضع الأول، وكل من سمع هذا القول عدم المراد به وسبق ذلك إلى ذهنه، بل أحال إرادة المعنى الأول، وهذا يوجب أن يكون نصًّا لا محتملًا، وليس حمل اللفظ على هذا المعنى من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح في شيء، وهذا أحد مثارات غلط الغالطين في هذا الباب، حيث يتوهم أن المعنى المفهوم من هذا اللفظ مخالف للظاهر، وأن اللفظ يؤول. النوع الثاني: -من الألفاظ- ما في معناه إضافة، إما بأن يكون المعنى إضافة محضة، كالعلو والسفول وفوق وتحت، ونحو ذلك، أو [أن] (¬3) يكون معنى ثبوتيًّا فيه إضافة، كالعلم والحب والقدرة والعجز والسمع والبصر، فإذا النوع من الألفاظ لا يمكن أن يوجد له معنى مفرد بحسب بعض موارده لوجهين: أحدهما: [أنه] (¬4) لم يستعمل مفردًا قط. والثاني: أن ذلك يلزم منه الاشتراك أو المجاز، بل يجعل حقيقته (¬5) في القدر المشترك بين موارده. ¬
وما نحن فيه من هذا الباب فإن لفظ (استوى) لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي [-مثلًا- على سريره حقيقة، حتى يصير في غيره مجازًا، كما أن لفظ (العلم) لم تستعمله العرب في خصوص] (¬1) العرض القائم بقلب البشر المنقسم إلى ضروري ونظري حقيقة، واستعملته (¬2) في غيره مجازًا، بل هذا المعنى تارة يستعمل بلا تعدية، كما في قوله -تعالى-: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} (¬3)، وتارة يعلى بحرف الغاية، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (¬4) وتارة يعلى بحرف الاستعلاء. ثم هذا تارة يكون صفة لله، وتارة يكون صفة لخلقه، فلا يجب أن يجعل في أحد الموضعين حقيقة، وفي الآخر مجازًا. ولا يجوز أن يفهم من استواء الله -تعالى- الخاصية التي تثبت للمخلوق دون الخالق، كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (¬5)، وقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} (¬6)، وقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬7)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} (¬8)، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} (¬9). فهل يستحل مسلم أن يثبت لربه خاصية الآدمي الباني الصانع العامل الكاتب؟ أم يستحل أن ينفي (¬10) عنه حقيقة العمل والبناء كما يختص به ¬
ويليق بجلاله؟ أم يستحل (¬1) أن يقول: هذه الألفاظ مصروفة عن ظاهرها أم الذي يجب أن يقول: عمل كل أحد بحسبه، فكما أن ذاته ليست مثل ذوات خلقه فعمله وصنعه وبناؤه ليس مثل عملهم وصنعهم وبنائهم. ونحن لم نفهم من قولنا: بني فلان وكتب فلان ما في عمله من المعالجة والتأثرة إلّا من جهة علمنا بحال الباني، لا من جهة مجرد اللفظ، ففرق -أصلحك الله- بين ما دل عليه مجرد اللفظ الذي هو لفظ الفعل، وما يدل عليه بخصوص إضافة إلى الفاعل المعين (¬2). وبهذا ينكشف لك كثير مما يشكل على كثير من الناس، ونرى مواقع اللبس (¬3) في كثير من هذا الباب، والله يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويجمع قلوبنا على دينه الذي ارتضاه لنفسه وبعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). (¬5) ... ¬
المنصوص عن الأئمة والسلف أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه
فصل وهذا والذي ذكرناه من أن القرآن كلام الله (¬1) حروفه ومعانيه، هو المنصوص عن الأئمة والسلف، وهو الموافق للكتاب والسنة. فأما نصوصهم التي فيها بيان أن كلامه (¬2) ليس مجرد الحروف والأصوات بل المعنى -أيضًا- من كلامهم فكثير في كلام أحمد وغيره، مثل ما ذكر الخل الذي كتاب السنة (¬3) عن الأثرم (¬4)، وإبراهيم بن الحارث العبادي، أنه دخل على أبي عبد الله الأثرم، وعباس بن عبد العظيم العنبري، فابتدأ عباس فقال: (يا أبا عبد الله قوم قد حدثوا يقولون: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، هؤلاء أضر من الجهمية على الناس ويلكم فإن لم تقولوا: ليس (¬5) بمخلوق. فقولوا: مخلوق، فقال أبو عبد الله: قوم سوء. فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: الذي أعتقده وأذهب إليه ولا أشك فيه أن القرآن غير مخلوق، ثم قال: سبحان الله من يشك في هذا؟ ثم تكلم أبو عبد الله مستعظمًا للشك في ذلك. فقال: سبحان الله في هذا شك؟ قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ ¬
وَالْأَمْرُ} (¬1) ففرق بين الخلق والأمر. قال أبو عبد الله: فالقرآن من علم الله، ألا تراه يقول: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (¬2) والقرآن فيه (¬3) أسماء الله -عز وجل- أي شيء يقولون؟ لا يقولون: أسماء (¬4) الله غير مخلوقة، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر، لم يزل الله -تعالى- قديرًا عليمًا عزيزًا حكيمًا سميعًا بصيرًا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة، ولسنا نشك أن علم الله ليس بمخلوق وهو كلام الله ولم يزل الله متكلمًا. ثم قال أبو عبد الله: وأي أمر (¬5) أبين من هذا، وأي كفر أكفر من هذا، إذا (¬6) زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة [وأن علم الله مخلوق] (¬7)، ولكن الناس يتهادنون بهذا ويقولون، إنما يقولون (¬8): القرآن مخلوق [فيتهاونون به ويظنون أنه هين ولا يدرون ما فيه من الكفر] (¬9). قال: وأنا أكره أن أبوح بهذا (¬10) لكل أحد، وهم يسألونني فأقول إني أكره الكلام في هذا، فيبلغني أنهم يدعون علي أني أمسك. ¬
قَال الأثرم (¬1): فقلت لأبي عبد الله: فمن قال: إن القرآن مخلوق، وقال: لا أقول: إن (¬2) أسماء الله مخلوقة ولا علمه لم يزد على هذا أقول: هو كافر؟ فقال: هكذا هو عندنا. قال أبو عبد الله: أنحن (¬3) نحتاج أن نشك في هذا؟ القرآن عندنا فيه أسماء الله، وهو من علم الله، فمن (¬4) قال مخلوق فهو عندنا كافر. ثم قال أبو عبد الله: بلغني أن أبا خالد (¬5) وموسى بن منصور (¬6) وغيرهما يجلسون في ذلك الجانب فيعيبون قولنا، ويدعون إلى (¬7) هذا القول أن لا يقال: مخلوق ولا غير مخلوق، ويعيبون من يكفر، ¬
ويقولون: إنا نقول يقول الخوارج، ثم تبسم أبو عبد الله كالمغتاظ ثم قال: هؤلاء قوم سوء. ثم قال أبو عبد الله لعباس: وذاك السجستاني الذي عندكم بالبصرة ذاك الخبيث، بلغني أنه قد وضع في هذا -أيضًا- يقول: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، ذاك خبيث، ذاك الأحول. فقال العباس: كان يقول مرة بقول جهم، ثم صار إلى أن يقول بهذا القول، فقال أبو عبد الله: ما بلغني أنه كان يقول يقول جهم إلّا الساعة). فقول الإِمام أحمد: إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة، وأن علم الله مخلوق يبين (¬1) أن العلم الذي تضمنه القرآن داخل في مسمى القرآن، وقد نبهنا -فيما تقدم- على أن كل كلام حق فإن العلم أصل معناه. فإن كان قد ينضم إلى العلم معنى الحب والبغض، وذلك أن الكلام خبر (¬2) وطلب، أما الخبر الحق فإن معناه علم بلا ريب، وأما الإنشاء كالأمر والنهي فإنه مسبوق بتصور المأمور والمأمور به وغير ذلك، فالعلم -أيضًا- أصله، واسم القرآن والكلام يتضمن هذا كله، فقول القائل: القرآن مخلوق يتضمن أن علم الله مخلوق، وكذلك أسماء الله هي في القرآن، فمن قال هو مخلوق، والمخلوق هو الصوت القائم (¬3) ببعض الأجسام، يكون ذلك الجسم هو الذي سمى الله بتلك الأسماء، ولم يكن قبل ذلك الجسم وصوته لله اسم، بل يكون ذلك الاسم قد نحله إياه ذلك الجسم. ¬
ولهذا روى البخاري في صحيحه (¬1) عن سعيد بنِ جبير عن ابن عباس (أنه سأله سائل عن قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2) {عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬3) {سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬4) فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬5) سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك (¬6). . .) هذا لفظ البخاري وهو رواه مختصرًا. ولفظ البوشنجي (¬7) محمَّد بن إبراهيم الإِمام، عن شيخ البخاري (¬8) الذي رواه من جهته البرقاني في صحيحه (¬9): (فإن الله سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره، فذلك قوله: (وكان الله) أي: لم يزل كذلك) هكذا رواه البيهقي (¬10) عن البرقاني. وذكر الحميدي لفظه: (فإن الله جعل نفسه وسمى نفسه، وجعل نفسه ذلك ولم ينحله أحد (¬11) غيره (وكان الله) أي: لم يزل كذلك). ولفظ يعقوب بن سفيان (¬12) عن يوسف بن عدي شيخ البخاري: ¬
ما قاله ابن عباس في قوله {وكان الله. . . .} يدل على فساد قول الجهمية من أربعة وجوه
(فإن الله سمى نفسه ذلك، ولم يجعله غيره (وكان الله) أي: لم يزل كذلك). فقد أخبر ابن عباس أن معنى القرآن: أن الله سمى نفسه بهذه الأسماء لم ينحله ذلك غيره، وقوله: (وكان الله) يقول: إني لم أزل كذلك. ومن المعلوم أن الذي قاله ابن عباس هو مدلول الآيات، ففي هذا دلالة على فساد قول الجهمية من وجوه: أحدها: أنه إذا كان عزيزًا حكيمًا، ولم يزل عزيزا (¬1) حكيمًا، والحكمة تتضمن كلامه ومشيئته، كما أن (¬2) الرحمة تتضمن مشيئته، دل على أنه لم يزل متكلمًا مريدًا، وقوله: {غَفُورًا} أبلغ، فإنه إذا كان لم يزل غفورًا فأولى أنه لم يزل متكلمًا، وعند الجهمية بل لم يكن متكلمًا ولا رحيمًا ولا غفورًا، إذ هذا لا يكون إلّا بخلق أمور منفصلة عنه، فحينئذ كان كذلك. والثاني: قول ابن عباس: فإن الله سمى نفسه ذلك، يقتضى أنه هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء، لا أن (¬3) المخلوق هو الذي سماه بها، ومن قال: إنها مخلوقة في جسم، لزمه أن يكون ذلك الجسم هو الذي سماه بها. الثالث: قوله: ولم ينحله ذلك غيره (¬4)، وفي (¬5) اللفظ الآخر: ولم يجعله ذلك غيره، وهذا يتبين (¬6) بجعله ذلك في ¬
الرواية (¬1). أي: هو الذي حكم لنفسه بذلك لا غيره، ومن جعله مخلوقًا لزمه أن يكون الغير هو الذي جعله كذلك ونحله ذلك. الرابع: أن ابن عباس ذكر ذلك في بيان معنى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، {عَزِيزًا حَكِيمًا}، {سَمِيعًا بَصِيرًا} , ليبين حكمة الإتيان بلفظ كان في مثل هذا، فأخبر في ذلك أنه هو الذي سمى نفسه ذلك ولم ينحله (¬2) ذلك غيره. ووجه مناسبة هذا الجواب، أنه إذا نحل ذلك غيره كان ذلك مخلوقًا بخلق ذلك الغير، فلا يخبر عنه بأنه كان كذلك، وأما إذا كان هو الذي سمى به نفسه ناسب أن يقال: إنه كان كذلك وما زال كذلك؛ لأنه هو لم يزل -سبحانه وتعالى- وهذا التفريق إنما يصح إذا كان غير مخلوق، ليصح أن يقال: لما كان هو المسمي لنفسه بذلك، كان لم يزل كذلك. فذكر الإِمام أحمد أن قول القائل: القرآن مخلوق يتضمن القول بأن علم الله مخلوق وأن أسماءه مخلوقة؛ لأن ظهور عدم خلق هذين للناس أبين من ظهور عدم القول بفساد إطلاق القول بخلق هذين، ولو كان القرآن اسمًا لمجرد الحروف والأصوات لم يصح ما ذكره الإِمام أحمد من الحجة، فإن خلق الحروف وحدها لا يستلزم خلق العلم، وهكذا القائلون بخلق القرآن إنما يقولون بخلق الحروف والأصوات في بعض الأجسام لأن هذا هو عندهم القرآن، ليس العلم (¬3) عندهم داخلًا (¬4) في مسمى القرآن. ولهذا لما قال له الأثرم: (فمن قال القرآن مخلوق، وقال: ¬
لا أقول أسماء الله مخلوقة، ولا علمه، لم يزد على هذا، أقول هو كافر؟ فقال: هكذا هو عندنا، ثم استفهم استفهام المنكر، فقال: نحن (¬1) نحتاج أن نشك في هذا؟ القرآن عندنا فيه أسماء الله، وهو من علم الله، فمن قال: مخلوق فهو عندنا كافر. فأجاب أحمد بأنهم وإن [لم] (¬2) يقولوا بخلق أسمائه وعلمه، فقولهم يتضمن ذلك، ونحن لا نشك في ذلك حتى نقف فيه، فإن ذلك يتضمن خلق أسمائه وعلمه، ولم يقبل أحمد قولهم: القرآن مخلوق، وإن لم يدخلوا فيه أسماء الله وعلمه؛ لأن دخول ذلك فيه لا ريب فيه، كما أنهم لما قالوا: القرآن مخلوق خلقه الله في جسم، لكن هو المتكلم به لا (¬3) ذلك الجسم، لم يقبل ذلك منهم؛ لأنه من المعلوم أنه إنما يكون كلام ذلك الجسم لا كلام الله، كإنطاق الله لجوارح (¬4) العبد وغيرها (¬5)، فإنه يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره من الأجسام. وقال أحمد: (فيه أسماء الله وهو من علم الله) ولم يقل فيه علم الله؛ لأن كون أسماء الله في القرآن يعلمه كل أحد، ولا يمكن أحد أن ينازع فيه، وأما اشتمال القرآن على العلم، فإذا ينازع فيه من يقول: إن القرآن هو مجرد الحروف والأصوات، فإن هؤلاء لا يجعلون (¬6) القرآن فيه علم الله، بل والذين يقولون: الكلام معنى قائم بالذات، الخبر والطلب، وأن معنى الخبر ليس هو العلم، ومعنى الطلب لا يتضمن الإرادة ينازعون في أن مسمى القرآن يدخل فيه العلم. ¬
أطلق الإمام أحمد على القرآن أنه من علم الله
فذكر الإِمام أحمد ما يستدل به على أن علم الله في القرآن، وهو قوله: (فإن القرآن من علم الله؛ لأن الله أخبر بذلك). فذكر أحمد لفظ القرآن الذي يدل على موارد النزاع، فإن قوله: (القرآن من علم الله) مطابق لقوله -تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (¬2)، ولقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} (¬3)، الآية، ولقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (¬4). ومعلوم أن المراد بالذي جاءهم من العلم في هذه الآيات إنما هو ما جاءه من القرآن، كما يدل عليه سياق الآيات، فدل ذلك على أن مجيء القرآن إليه مجيء ما جاءه من علم الله إليه، وذلك دليل على أن مِنْ علم الله في القرآن. ثم قد يقال: هذا الكلام (¬5) فيه علم عظيم، وقد يقال: هذا الكلام (¬6) علم عظيم، فأطلق أحمد على القرآن أنه من علم الله؛ لأن الكلام الذي فيه علم هو نفسه يسمى علمًا، وذلك هو من علم الله، كما ¬
قال: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬1)، ففيه من علم الله ما شاءه الله (¬2) -سبحانه- لا جميع علمه. ومثل هذا كثير في كلام الإِمام أحمد كما رواه الخلال (¬3) عن أبي الحارث (¬4) قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر؛ لأنه يزعم أن علم الله مخلوق، وأنه لم يكن له علم حتى خلقه). وكما روي (¬5) عن محمَّد بن إبراهيم الهاشمي (¬6) قال: (دخلت على أحمد بن حنبل، أنا وأبي، فقال له أبي: يا أبا عبد الله ما تقول في القرآن؟ قال: القرآن من علم الله، ومن قال: إن من علم الله شيئًا مخلوقا (¬7) فقد كفر). وذكر ذلك لأن من الجهمية من يقول: علم الله بعضه مخلوق وبعضه غير مخلوق، وقد يقول: إن الله وإن جعل القرآن من علمه فبعض ذلك مخلوق. ¬
كما روى الخلال (¬1) عن الميموني (¬2) أنه سأل أبا عبد الله قال: قلت من قال كان الله ولا علم؟ فتغير وجهه تغيرًا شديدًا وأكبر غيظه، ثم قال لي: كافر، وقال في: في كل يوم أزداد في القوم بصيرة. قال: وقال (¬3) أبو عبد الله [علمت] (¬4) أن بشر (¬5) المريسي كان يقول: العلم علمان، فعلم مخلوق، وعلم ليس بمخلوق فإذا أيش (¬6) يكون هذا؟ قلت: يا أبا عبد الله كيف يكون ذا؟ قال: لا أدري أيكون علمه كله بعضه مخلوق وبعضه ليس بمخلوق؟ لا أدري كيف ذا؟ بشر كذا كان يقول، وتعجب أبو عبد الله تعجبًا شديدًا. وروى (¬7) عن المروذي قال: قال أبو عبد الله: قلت لابن الحجام -يعني: يوم المحنة- ما تقول في علم الله؟ فقال: مخلوق، فنظر ابن رباح إلى ابن الحجام نظرًا منكرًا عليه لما أسرع. فقلت لابن رباح: إيش (¬8) تقول أنت (¬9)؟ فلم يرض ما قال ابن الحجام، فقلت له: كفرت. قال أبو عبد الله يقول: إن الله كان لا علم له، فهذا الكفر بالله. ¬
[وقد كان المريسي يقول: إن علم الله وكلامه مخلوق وهذا الكفر بالله] (¬1). وعن عبد الله بن أحمد (¬2) سمعت أبي يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله وفيه أسماء الله، قال الله -تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬3). وعن المروذي (¬4) سمعت أبا عبد الله يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر بالله واليوم الآخر، والحجة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} (¬5). . . الآية، وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (¬6)، وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (¬7) وقال: ¬
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (¬1). والذي جاء النبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم - القرآن (¬3) وهو العلم الذي جاءه. العلم (¬4) غير مخلوق، والقرآن من العلم، وهو كلام الله، وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (¬5)، وقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬6)، فأخبر أن الخلق خلق، والخلق غير الأمر (¬7)، وأن الأمر غير الخلق وهو كلامه وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ - لم ينحل من العلم، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬8) والذكر هو القرآن، وإن الله لم يخل منهما ولم يزل الله متكلمًا عالمًا. وقال في موضع آخر: إن الله لم يخل من العلم والكلام وليسا من الخلق لأنه لم يخل منهما، فالقرآن من علم الله. وعن (¬9) الحسن بن ثواب (¬10) أنه قال لأبي عبد الله: من أين ¬
فسر طائفة منهم ابن حزم كلام الإمام أحمد بأنه أراد بلفظ القرآن المعنى فقط، وأن معنى القرآن يعود إلى العلم
أكفرتهم؟ قال: قرأت في كتاب الله غير موضع: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬1)، [فذكر الكلام] (¬2). قال ابن ثواب: ذاكرت ابن الدورقي (¬3) فذهب إلى أحمد ثم جاء فقال في: سألته فقال لي كما قال لك، إلّا أنه قال (¬4): زادني: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬5) ثم قال لي أحمد: إنما أرادوا الإبطال. وقد فسر طائفة منهم: ابن حزم (¬6)، كلام أحمد بأنه أراد بلفظ ¬
القرآن المعنى فقط، وأن معنى القرآن يعود إلى العلم، فهو من علم الله، ولم يرد بالقرآن الحروف والمعاني، فمن جعل القرآن كله ليس له معنى إلّا العلم فقد كذب. وأما من قال عن هذه الآيات التي احتج بها أحمد أن معناها العلم، لأنها [كلها] (¬1) من باب الخبر، ومعنى الخبر [العلم فإذا أقرب من الأول، وهذا إذا صح يقتضي أنه قد يراد بالكلام المعنى] (¬2) تارة كما يراد به الحروف أخرى، فأما أن يكون أحمد يقول: إن الله لا يتكلم بالحروف، فإذا خلاف نصوصه الصريحة عنه، لكن قد يقال: القرآن الذي هو قديم لا يتعلق بمشيئته هو المعنى الذي سماه الله علمًا، وذلك هو الذي يكفر من قال بحدوثه. قال الخلال في كتاب السنة (¬3): الرد على الجهمية الضلال أن الله ¬
الله تبارك وتعالى متكلم بصوت
لا يتكلم بصوت: "وروي عن يعقوب بن بختان أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لا يتكلم بصوت، قال: بلى تكلم بصوت، وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها, لكل حديث وجه، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى، فهو كافر. حدثنا عبد الرحمن بن المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله (¬1)، قال (¬2): إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجودًا حتى إذا فزع عن قلوبهم - قال: سكن (¬3) عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا". وكذلك ذكر عبد الله في كتاب السنة، وذكره عنه الخلال (¬4) "قال: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بل تكلم الله -تبارك وتعالى- بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي: حديث ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر سلسلة على الصفوان (¬5)، قال أبي: والجهمية تنكره، قال (¬6) أبي: وهؤلاء (¬7) كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر، إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت. يروي (¬8) المروذي عن أحمد حديث ابن مسعود، قال المروذي: ¬
سمعت أبا عبد الله - وقيل له: إن عبد الوهاب (¬1) قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإِسلام، [أي حقًّا جهمي عدو الله. من موسى بن عقبة (¬2) يا ضالًا مضلًا من ذب عن موسى بن عقبة؟ من كان من الناس يجانب أشد (¬3) المجانبة؟ وأبو عبد الله سأل حتى انتهى إلى آخر كلام عبد الوهاب] (¬4) فتبسم أبو عبد الله ¬
وقال: ما أحسن ما تكلم! عافاه الله! ولم ينكر منه شيئًا. وقال الإِمام أبو عبد الله البخاري: صاحب الصحيح في "كتاب خلق الأفعال" (¬1): "ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب" (¬2) فليس هذا لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ. قال البخاري (¬3): وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال: لا تجعلوا لله ندًّا (¬4)، فليس لصفة الله ند ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين. حدثنا به داود بن شيبة (¬5)، حدثنا همام، أنبأنا (¬6) القاسم بن عبد الواحد، حدثني عبد الله بن محمَّد بن عقيل أن جابر بن عبد الله حدثهم ¬
أنه سمع عبد الله بن أنيس يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة" (¬1)، وهذا قد استشهد به في صحيحه (¬2). وقال (¬3): حدثنا عمرو بن حفص بن غياث، حدثنا أبي (¬4)، ثنا الأعمش، ثنا أبو (¬5) صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله يوم القيامة يا آدم، فيقول: لبيك ربنا (¬6) وسعديك، فينادي بصوت أن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، قال: يا رب ما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬7). وهذا الحديث رواه في صحيحه (¬8)، وقال (¬9): حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: من كان يحدثنا بهذه الآية لولا ابن ¬
مسعود سألناه {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (¬1)، قال يسمع أهل السماوات صلصلة مثل صلصة السلسلة على الصفوان فيخرون حتى إذا فزغ عن قلوبهم سكن الصوت عرفوا أنه الوحي، ونادوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (¬2). وقال (¬3): ثنا عمر (¬4) بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش، ثنا مسلم، عن مسروق، عن عبد الله بهذا. وقال (3): ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا عمرو (4) [قال سمعت عكرمة يقول] (¬5) سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله (¬6) - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان (¬7) فإذا {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬8). ¬
قال (¬1): وقال الحكم بن أبان: حدثني عكرمة، عن ابن عباس، إذا قضى الله أمرًا تكلم رجفت السماوات والأرض والجبال (¬2)، وخرت الملائكة كلهم سجدًا. حدثنا عمرو بن زرارة، ثنا زياد، عن محمَّد بن إسحاق (¬3)، ثنا (¬4) محمد بن مسلم بن شهاب (¬5) الزهريّ، عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، عن عبد الله بن عباس، عن نفر من الأنصار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [لهم] (¬6): "ما كنتم (¬7) تقولون في هذا النجم الذي يرمى به؟ " قالوا (¬8): كنا يا رسول الله نقول حين رأيناها (¬9) يرمى بها: مات ملك أو ولد مولود، فقال (¬10) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس ذلك كذلك، ولكن الله إذا قضى في خلقه (¬11) أمرًا يسمعه أهل العرش. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فيسبحون (¬1) فيسبح [من تحتهم] (¬2) بتسبيحهم، فيسبح من تحت ذلك، فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا حتى (¬3) يقول بعضهم لبعض: لم سبحتم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم فيقولون: أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا (¬4)؟ فيسألونهم، فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان، فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثون به فتسترقه (¬5) الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف، ثم يأتون به إلى الكهان (¬6) ¬
كلام أبي عبد الله الرازي في نهاية العقول في كونه تعالى متكلما
من أهل الأرض فيحدثونهم، فيخطئون ويصيبون، فتحدث به الكهان، ثم إن الله حجب الشياطين عن السماء بهذه النجوم وانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة" (¬1). قال أبو عبد الله محمَّد بن عمر الرازي في كتاب "نهاية العقول في دراية الأصول" (¬2) الذي زعم أنه أورد فيه من الدقائق ما لا يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين والمخالفين (¬3) والموافقين: ¬
الأصل التاسع (¬1) في كونه تعالى متكلمًا. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في البحث عن محل النزاع: أجمع المسلمون على أن الله تعالى متكلم، لكن المعتزلة زعموا أن المعنى بكونه متكلمًا أنه خلق هذه الحروف والأصوات في جسم، ونحن نزعم (¬2) أن كلام الله تعالى صفة حقيقة مغايرة (¬3) لهذه (¬4) الحروف والأصوات، وأن (¬5) ذاته تعالي موصوفة بتلك الصفة (¬6). واعلم (¬7) أن التحقيق أنه لا نزاع بيننا وبينهم [في كونه متكلمًا بالمعنى * الذي ذكروه، لأن النزاع بيننا (¬8) وبينهم] (¬9) إما في المعنى * (¬10) وإما في اللفظ (¬11). أما في المعنى فإما أن يقع في الصحة أو في الوقوع، أما النزاع في الصحة (¬12) فذلك غير ممكن؛ لأنا توافقنا جميعَّا عَلى ¬
أنه (¬1) تعالى يصح منه إيجاد الحروف والأصوات، أما في الوقوع فذلك عندنا (¬2) غير ممكن؛ لأنه تعالى موجد لجميع أفعال العباد، ومنها هذه الحروف والأصوات، فكيف يمكننا إنكار كونه موجدًا لها على مذهبهم وهم يثبتون (¬3) ذلك بالسمع. ومعلوم أن الجزم بوقوع الجائزات التي لا تكون محسوسة لا يستفاد إلا من السمع، فإذا كان المعنى بكونه متكلمًا عندهم أنه (¬4) خلق هذه الحروف والأصوات، ولم يثبتوا له من كونه تعالى خالقًا صفة (¬5) أو حالة أو حكمًا (¬6) أزيد من كونه خالقًا لها، فقد (¬7) تعين أنه لا يمكن منازعتهم في ذلك ثبت أنه لا نزاع بيننا وبينهم من جهة (¬8) المعنى في كونه متكلمًا بالتفسير الذي قالوه. وأما النزاع من جهة اللفظ فهو أن يقال: لا نسلم أن لفظة (¬9) المتكلم في اللغة موضوعة لموجد الكلام، والناس قد أطنبوا من الجانبين في هذا المقام، وليس ذلك (¬10) مما يستحق الإطناب، لأنه بحث لغوي ¬
أقوى ما تمسك به أصحابه في هذه المسألة
وينبغي أن يرجع فيه إلى (¬1) الأدباء، وليس هذا من المباحث العقلية في شيء، وأقوى ما تمسك به أصحابنا في هذه المسألة اللفظية أمور أربعة: أولها: أن أهل اللغة متى سمعوا من إنسان (¬2) كلامًا سموه متكلمًا، مع أنهم لا يعلمون كونه فاعلًا لذلك الكلام [اللهم إلا] (¬3) بالدلالة (¬4)، ولو كان المتكلم هو الفاعل للكلام لما أطلقوا اسم المتكلم عليه إلا بعد العلم بكونه فاعلًا [له] (¬5). ثانيها: أن الاستقراء (¬6) لما دل على (¬7) أن الأسود هو الموصوف بالسواد وكذلك الأبيض والعالم والقادر، وجب أن يكون المتكلم في اللغة هو (¬8) من قام به الكلام. وثالثها: أن الله تعالى خلق الكلام في السماء والأرض، حين قال {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬9) ثم إنه أضاف ذلك القول إليهما، ¬
وأيضًا فلو كان ذلك كلام الله (¬1) تعالى لزم أن يكون الله تعالى متكلمًا بقوله {ائْتِيَا طَوْعًا} وذلك باطل وخطأ (¬2). ورابعها: أنه تعالى خلق الكلام في الذراع التي أكلها النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لا تأكل مني فإني مسمومة (¬3)، وذلك باطل، وأقوى ما تمسك به المعتزلة أن العرب يقولون: تكلم الجني على لسان المصروع، فأضافوا الكلام القائم بالمصروع إلى الجني، لاعتقادهم كون الجني فاعلًا له، فلولا اعتقادهم أن المتكلم هو الفاعل للكلام وإلا لما صح ذلك. والجواب عنه يحتمل أن يكون ذلك مجازًا، وإن (¬4) كان حقيقة فربما كان مرادهم أن ذلك الكلام هو كلام الجني حال كونه قريبًا من لسان المصروع، فإذا القدر كاف من (¬5) البحث اللغوي الخالي عن الفوائد العقلية فإذا هو البحث عن كونه متكلمًا على مذهب المعتزلة. فأما (¬6) على مذهبنا، فنحن نثبت لله تعالى كلامًا مغايرًا لهذه الحروف والأصوات، وندعي قدم ذلك الكلام، وللمعتزلة فيه (¬7) ثلاث مقامات: الأول: مطالبتهم إيانا بإفادة تصور ماهية هذا الكلام. الثاني: المطالبة بإقامة الدلالة على اتصافه تعالى بها. الثالث: المطالبة بإقامة الدلالة على كونه قديمًا، فثبت أن الخلاف ¬
بيننا وبينهم (¬1) ليس في كيفية الصفة فقط، بل في وجه تصور ماهيتها أولًا (¬2) ثم في إثباتها ثانيًا (¬3)، ثم في إثبات قدمها [ثالثًا] (¬4)، وهذا القدر لا بد من معرفته لكل من أراد (¬5) أن يكون كلامه في هذه المسألة ملخصًا، ونحن بعون الله تعالى نذكر دلالة وافية بالأمور الثلاثة. الفصل (¬6) الثَّاني: في كونه متكلمًا وإثبات قدم كلامه: الدليل (¬7) عليه (¬8) حصول الاتفاق على أنَّه آمر ناه مخبر، لا يخلو (¬9) إما أن يكون أمره ونهيه عبارة عن مجرد الألفاظ، أو لا يكون كذلك (¬10)، والأول باطل، لأنَّ اللفظة الموضوعة للأمر قد كان من (¬11) الجائز (¬12) أن يضع اللفظة الموضوعة للأمر (¬13) لإفادة معنى الخبر وبالعكس، فإذن كون اللفظة المعنية أمرًا ونهيًا أو خبرًا إنَّما كان لدلالته (¬14) على ماهيته (¬15): الطّلب والزجر والحكم، وهذه الماهيات ¬
ليست أمورًا وضعية (¬1)، لأنا نعلم بالضرورة أن [ماهية] (¬2) السواد لا ينقلب بياضًا أو غيره وبالعكس، وكذلك ماهية (¬3) الطّلب لا تنقلب ماهية الزجر، ولا الواحدة منها (¬4) ماهية الحكم. وإذا أثبت ذلك فنقول: لما كان الله تعالى آمرًا ناهيًا مخبرًا، وثبت أن ذلك لا يتحقق إلّا إذا (¬5) كان الله موصوفًا بطلب وزجر وحكم، فهذه الأمور الثلاثة ظاهر (¬6) أنها ليست عبارة عن العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والبقاء، بل الذي يشتبه الحال (¬7) فيه إما في الطّلب والزجر (¬8) فهي (¬9) الإرادة والكراهة (¬10)، وإما في الحكم فهو (¬11) العلم. والأول: باطل لما ثبت في خلق الأعمال (¬12) وإرادة الكائنات، أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى (¬13) عما يريد، ¬
فوجب (¬1) أن يكون معنى (افعل) و (لا تفعل) (¬2) في حق الله شيئًا سوى الإرادة، وذلك هو المعني بالكلام (¬3). والثاني (¬4): باطل، لأنَّه (¬5) في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير (¬6) لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب، لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب. قال (¬7): فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقة (¬8) قائمة بذاته مغايرة (¬9) لإرادته (¬10) وعلمه، وأن الألفاظ الواردة في الكتب المنزلة دليل عليها، وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها، لأنَّ الأمة على قولين (¬11) في هذه المسألة، منهم من نفى كون الله موصوفًا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك، وكل من أثبته موصوفًا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة، فلو أثبتنا (¬12) كونه -تعالى- موصوفًا بهذه الصفات، ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات، كان ذلك قولًا ثالثًا خارقًا للإجماع وهو باطل. ¬
ثم أورد على نفسه (¬1) أسئلة، منها ممانعات (¬2) تارة في إثبات هذه المعاني لله، وتارة في قدمها، وقال (¬3): "ومنها لم (¬4) لا يجوز أن يكون المرجع بالحكم الذي هو معنى الخبر إلى كونه عالمًا بذلك؟ ولئن (¬5) سلمنا كونه -تعالى- موصوفًا بالأمر والنهي والخبر على الوجه الذي ذكرتموه، لكن لم قلتم: إن تلك المعاني قديمة بقولكم (¬6): كل من أثبت هذه المعاني أثبتها قديمة؟ قلنا (¬7): القول في إثباتها مسألة، والقول في قدمها مسألة أخرى، فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت (¬8) المسألة الأخرى، لزم من إثبات كونه تعالى عالمًا بعلم قديم إثبات كونه -تعالى- متكلمًا بكلام قديم، وإذا كان ذلك باطلًا، فكذا ما ذكرتموه، ثم لئن سلمنا أن هذا النوع [من الإجماع يقتضي (¬9) عدم كلام الله، لكنَّه معارض بنوع آخر] (¬10) من الإجماع، وهو أن أحدًا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقًا للإجماع". ¬
ثم ذكر معارضات المخالف بوجوه عقلية ونقلية تسعة (¬1). وقال (¬2) في الجواب: "قوله: سلمنا أن خبر الله دليل (¬3) على أن الله حكم بنسبة (¬4) أمر إلى أمر، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الحكم هو العلم؟ قلنا: هذا باطل لوجهين: أما أولًا: فلأن القائل في المسألة (¬5) قائلان: قائل يقول نثبت لله -تعالى- خبرًا قديمًا، ونثبت كونه مغايرًا للعلم، وقائل: لا نثبت له خبرًا قديمًا أصلًا، فلو قلنا: إن الله له خبر قديم (¬6)، ثم قلنا: إنه هو العلم، كان ذلك خرقًا للإجماع. وأمَّا ثانيًا: فلأنّا بيّنا في أول الاستدلال أن فائدة الخبر في الشاهد [ليست هي الظن والعلم (¬7) والاعتقاد، وإذا بطل ذلك في الشاهد] (¬8) وجب أن يكون في الغائب (¬9) كذلك، لانعقاد الإجماع على أن فائدة الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب. ¬
قوله: سلمنا بثبوت معاني (¬1) هذه الألفاظ لله، فلم قلتم: إنَّها قديمة؟ قلنا: للإجماع المذكور. قوله: لو لزم من القول بإثبات هذه الصفة لله إثبات قدمها، لأنَّ كل من قال بالأول قال بالثاني، لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم، لأنَّ [كل] (¬2) من قال بالأول قال بالثاني. قلنا: الفرق بين الموضوعين مذكور في "المحصول في علم الأصول" (¬3)، فإن المعتزلة يساعدوننا (¬4) على الفرق بين الموضعين فلا يكون. قوله: إثبات قدم كلام الله بهذه الطريقة (¬5) على خلاف الإجماع. قلنا: قد بينا في كتاب المحصول (¬6) أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقًا للإجماع. وقال (¬7): في الجواب عن المعارضة: "وأمَّا المعارضة الخامسة (¬8) وما بعدها من الوجوه السمعية، فالجواب عنها حرف واحد، وهو أنا لا ننازع في إطلاق لفظ القرآن وكلام الله على هذه الحروف والأصوات، وما ذكروه من الأدلة فهو إنَّما يفيد حدوث القرآن بهذا ¬
التفسير، وذلك متَّفقٌ عليه، وأمَّا نحن (¬1) بعد ذلك ندعي صفة قائمة بذات الله -تعالى- وندعي قدمها، وقد بينا أن تلك الصفة يستحيل وصفها بكونها عربية وعجمية ومحكمة ومتشابهة، لأنَّ كل ذلك من صفات الكلام الذي حاولوا (¬2) إثبات حدوثه، فنحن لا ننازعهم في حدوثه، والكلام الذي ندعي قدمه لا يجري فيه ما ذكروه من الأدلة". ثم قال (¬3): في الأصل العاشر الذي هو في الكلام على بقية الصفات في القسم الثالث منه. الفصل الثَّاني (¬4): في بيان (¬5) [أن] (¬6) كلام الله واحد. المشهور اتفاق الأصحاب على ذلك، وقد نقل أبو القاسم الإسفرائيني (¬7) منا عن بعض قدماء أصحابنا أنهم أثبتوا لله خمس كلمات، الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء. قال (¬8): وأعلم أن هذه المسألة إما أن يتكلم فيها مع القول بنفي الحال (¬9)، أو مع القول بإثباته، فإن كان. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الأول (¬1) صعبت (¬2) المسألة جدًّا لأنَّ (¬3) وجود كل شيء عين حقيقته، فإذا كانت حقيقة الطّلب مخالفة لحقيقة الخبر، كان وجود الطّلب مخالفًا لوجود الخبر -أيضًا- إذ لو اتحدا في الوجود مع اختلافهما في الحقيقة كان الوجود غير الحقيقة، وذلك يقتضي إثبات الأحوال، لا يقال: لا نسلم أن يكون (¬4) الكلام خبرًا وطلبًا حقائق مختلفة، بل حقيقة الكلام هو الخبر، ألا ترى أن من طلب من غيره فعلًا أو تركًا، فقد أخبر ذلك الغير بأنه لو لم يفعله لعاقبه، أو بأنه يجب على العاقل الإحلال، ومن استفهم فقد أخبر أنَّه يطلب منه الإفهام، وإذا صار الكلام كله خبرًا زال الإشكال (¬5)، لأنا نقول: ليس هذا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
شيء (¬1)، لأنَّ حقيقة الطّلب مغايرة لحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى أمر، وتلك المغايرة معلومة بالضرورة، ولهذا يتطرق التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر". قال (¬2): "وإن تكلمنا على القول بالحال، فيجب أن ينظر في (¬3) أن الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف بوجود واحد أم لا؟. فإن قلت: جاز (¬4) ذلك، فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة، وإلّا بطل القول بذلك، وأنا إلى الآن لم يتضح لي فيه دليل، لا نفيًا ولا إثباتًا. والذي يقال في امتناعه: أنا لو قدرنا شيئًا واحدًا يكون (¬5) له حقيقتان، فإذا طرأ عليهما ما يضاد إحدى الحقيقتين [دون الأخرى] (¬6) لزم أن تعدم (¬7) تلك الصفة من أحد (¬8) الوجهين، ولا تعدم (¬9) من الوجه الآخر. قال (¬10): وهذا ليس بشيء، لأنا حكينا عن المعتزلة (¬11) استدلالهم ¬
بمثل هذا الكلام، على أن صفات الأجناس لا تقع بالفاعل، ثم زيفنا ذلك من وجوه عديدة (¬1)، وتلك الوجوه بأسرها عائدة ها هنا، فهذا هو الكلام على من استدل على امتناع أن يكون الكلام الواحد أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا (¬2) معًا. وأمَّا الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن يعول (¬3) فيه على الإجماع من الحكاية (¬4) التي ذكرها أبو إسحاق الإسفرائيني، ولم نجد لهم نصًّا، ولا يمكن أن يقال (¬5) فيه دلالة عقلية (¬6)، فبقيت المسألة بلا دليل. وإنَّما قال: لا يمكن التعويل فيها على الإجماع، لأنَّ الذي اعتمد عليه في أن علم الله واحد (¬7) ما نقله عن القاضي أبي بكر أنَّه عول فيها على الإجماع فقال (¬8): "القائل قائلان: قائل يقول: الله عالم [بالعلم] (¬9) قادر بالقدرة، وقائل يقول: [إن (¬10) الله ليس بعالم (¬11) بالعلم، ولا قادرًا بالقدرة] (¬12)، وكل من قال بالقول الأول قال: إنه عالم بعلم واحد، قادر (¬13) بقدرة واحدة، فلو قلنا: إنه عالم بعلمين أو أكثر كان ¬
مناقشة الشيخ لكلام الرازي من وجوه
ذلك قولًا ثالثًا خارقًا للإجماع وهو باطل" (¬1). وقد ذكر (¬2) عن أبي سهل (¬3) الصعلوكي أنَّه قال: إنه عالم بعلوم غير متناهية، لكن قال: هو مسبوق بهذا الإجماع. قلت: وهذا الكلام فيه أمور (¬4) يتبين بها من الهدى لمن يهديه الله ما ينتفع به. أحدها: أنَّه لم يعتمد في كون كلام الله قديمًا على حجة عقلية، ولا على كتاب ولا سنة، ولا كلام أحد من السلف والأئمة، بل ادعى فيها الإجماع قال: لأنَّ الأمة في هذه المسألة على قولين: منهم من نفى كون الله موصوفًا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك، وكل من أثبته موصوفًا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبتنا كونه موصوفًا بهذه الصفات، ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك ¬
الوجه الثاني: لم يقل أحد من السلف أن القرآن قديم وأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته
قولًا ثالثًا خارقًا للإجماع. يقال له: ليس كل من أثبت اتصافه وأنه يقوم به معنى الأمر والنهي والخبر يقول بقدمه، بل كثير من هؤلاء لا يقول بقدمه، فمن أهل الكلام كالشيعة والكرامية وغيرهم، وأمَّا من أهل الحديث والفقهاء فطوائف كثيرة، وهذا مشهور في الكتب الحديثية والكلامية، وليس له أن يقول هؤلاء يقولون: إنه يقوم به حروف ليست قديمة، ولكن لا يقولون: إنه يقوم به معان ليست قديمة، لأنَّ أقوالهم المنقولة تنطق بالأمرين جميعًا. الوجه الثَّاني: أن أحدًا من السلف والأئمة لم يقل: إن القرآن قديم، وإنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، والمخلوق عندهم ما خلقه الله من الأعيان والصفات القائمة بها، والذين قالوا: هو مخلوق، قالوا: إنه خلقه في جسم كما نقله عنهم". فقال السلف: إن ذلك يستلزم أن لا يكون الله متكلمًا، وإن الكلام كلام ذلك الجسم المخلوق، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬1). ولهذا صرحوا [بخطأ] (¬2) من يقول: إن ذلك مخلوق لأنَّ عندهم أنَّه من المعلوم بالفطرة شرعًا وعقلًا ولغة أن المتكلم بهذا الذي يقوم به وربما قد يقولون: إنه لم يكن متكلمًا حتَّى خلق الكلام، فصار متكلمًا بعد أن كان عاجزًا عن الكلام، فتوهم هؤلاء أن السلف عنوا بقولهم: القرآن كلام الله غير مخلوق أنَّه معنى واحد قديم، كتوهم من توهم من المعتزلة والرافضة أنهم عنوا به أنَّه غير مفترى مكذوب، كما ذكره هو في ¬
هذه المسألة، فقال" (¬1): الحجة الرابعة لهم من السمعيات: "ما روى أبو الحسين البصري (¬2) في الغرر (¬3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي" (¬4)، وروى عنه - عليه السلام - أنَّه كان يقول في دعائه: "يا رب طه" ويس "ويا رب القرآن العظيم" (¬5). قال (¬6): ولا يقال هذا معارض بمبالغة السلف من الامتناع عن القول بخلق القرآن، لأنا نقول: يحمل ذلك على (¬7) الامتناع من إطلاق هذا اللفظ (¬8)، لأنَّ لفظ (¬9) الخلق قد يستعمل في الافتراء ضرورة التوفيق بين الروايات". قلت: وجواب هذه الحجة سهل، فإنَّه لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذين الحديثين كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل الحديث ¬
يعلمون أن ذلك مفترى عليه بالضرورة، كما يعلمون ذلك في أشياء كثيرة من الموضوعات عليه، ويكفي أن نقل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يوجد في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب المسلمين أصلًا بإسناد معروف، بل الذي رووه في كتب أهل الحديث بالإسناد المعروف عن ابن عباس أنَّه أنكر على من قال ذلك. فروي من [غير] (¬1) وجه عن عمران بن حدير (¬2) عن عكرمة قال: "صليت مع ابن عباس على رجل، فلما دفن قام رجل فقال: يا رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه إن القرآن منه". وفي رواية: "القرآن كلام الله ليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود" (¬3). فهذا الأثر المأثور عن ابن عباس هو ضد ما رووه، وأمَّا ما رووه فلا يؤثر لا عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصّحابة ولا التّابعين أصلًا. وكذلك الحديث الآخر: "ما خلق (¬4) الله من سماء ولا أرض" فإن هذا لا يؤثر عن -النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أصلًا، ولكن يؤثر عن ابن مسعود نفسه (¬5). ¬
وقد ثبت عن ابن مسعود بنقل العدول أنَّه قال: من حلف بالقرآن فعليه بكلِّ آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع" (¬1). وقد اتفق المسلمون على أن الكفارة لا تجب بما يخلقه في الأجسام، فعلم أن القرآن كان عند ابن مسعود صفة لله، لا مخلوقًا له، وأن معنى ذلك الأثر أنَّه ليس في الموجودات المخلوقة ما هو أفضل من آية الكرسي، لا أنها (¬2) هي مخلوقة، كما يقال: الله أكبر من كل شيء، وإن كان ذلك الكبير مخلوقًا، والله تعالى ليس بمخلوق، وبذلك فسر الأئمة قول ابن مسعود. ذكر الخلال في كتاب السنة (¬3)، عن سفيان ابن عيينة أنَّه ذكر هذا الحديث الذي يروى = ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جبل أعظم من آية الكرسي، قال (¬4): فقال ابن عيينة (¬5) هو هكذا: "ما خلق الله من شيء إلَّا وآية الكرسي أعظم ممَّا خلق". ¬
وروى الخلال عن أبي عبيد قال: وقد قال رجل (¬1): ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي، أفليس يدلك على أن هذا مخلوق. قال أبو عبيد: إنَّما قال: ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي، فأخبر الله أن السماء والأرض أعظم من خلق، وأخبر أن آية الكرسي التي هي من صفاته أعظم من هذا العظيم المخلوق. وروى عن أحمد بن القاسم قال: قال أبو عبد الله: هذا الحديث ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم فقلت لهم: إن الخلق ها هنا وقع على السماء والأرض، وهذه الأشياء لا على القرآن، لأنَّه قال: ما خلق الله من سماء ولا أرض، فلم يذكر خلق القرآن ها هنا. وقال البُخاريّ في كتاب خلق الأفعال (¬2): "وقال الحميدي، ثنا سفيان، ثنا حصين، عن مسلم بن صبيح، عن شتير بن شكل (¬3)، عن عبد الله (¬4)، قال: ما خلق الله من أرض ولا سماء ولا جنة ولا نار أعظم من {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬5). ¬
قال سفيان [في] (¬1) تفسيره: إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه، لأنَّه إنَّما يقول للشيء كن فيكون، فلا يكون شيء أعظم ممَّا يكون به الخلق، والقرآن كلام الله. وأمَّا تأويلهم أن السلف امتنعوا من لفظ الخلق لدلالته على الافتراء فألفاظ السلف منقولة عنهم بالتواتر عن نحو خمسمائة من السلف كلها تصرح بأنهم أنكروا الخلق الذي تعنيه الجهمية من كونه مصنوعًا في بعض الأجسام، كما أنهم (¬2) سألوا جعفر بن محمد عن القرآن هل هو خالق أو مخلوق (¬3)؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله. ومثل قول (¬4) علي - رضي الله عنه - لما قيل له: حكمت مخلوقًا، فقال: ما حكمت مخلوقًا وإنما حكمت القرآن، وأمثال ذلك ممَّا يطول ذكره. والمقصود هنا أن السلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي أجمع عليه السلف ليس معناه ما قالته المعتزلة، ولا ما قالته الكلابية، وهذا الرازي ادعى الإجماع، وإجماع السلف ينافي ما ادعاه من الإجماع، فإن أحدًا من السلف لم يقل هذا ولا هذا (¬5)، فضلًا عن أن يكون إجماعًا، [ويكفي أن يكون اعتصامه في هذا الأصل العظيم بدعوى إجماع] (¬6)، والإجماع المحقق على خلافه، فلو كان فيه ¬
الوجه الثالث: أن الرازي أقر أنه لا نزاع بينهم وبين المعتزلة من جهة المعنى في خلق الكلام وإنما النزاع لفظي
خلاف لم تصح الحجة، فكيف إذا كان الإجماع المحقق السلفي على خلافه. الوجه الثالث: أن الرجل (¬1) قد أقر أنَّه لا نزاع بينهم وبين المعتزلة من جهة المعنى في خلق الكلام بالمعنى الذي يقوله المعتزلة، وإنَّما النزاع لفظي حيث إن المعتزلة سمت ذلك المخلوق كلام الله، وهم لم يسموه كلام الله. ومن المعلوم بالاضطرار أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم لما ابتدعت القول بأنَّ القرآن مخلوق، أو بأنَّ كلام الله مخلوق أنكر ذلك عليهم سلف الأمة وأئمتها، وقالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فلو كان ما وصفته المعتزلة بأنه مخلوق وهو مخلوق عندهم -أيضًا- وإنَّما خالفوهم في تسمية كلام الله أو في إطلاق اللفظ لم تحصل هذه المخالفة العظيمة والتكفير العظيم بمجرد نزاع لفظي، كما قال هو: إن الأمر في ذلك يسير، وليس هو ممَّا يستحق الإطناب، لأنَّه بحث لغوي وليس هو من الأمور المعقولة المعنوية، فإذا كانت المعتزلة فيما أطلقته لم تنازع إلَّا في بحث لغوي لم يجب تكفيرهم وتضليلهم وهجرانهم بذلك، كما أنَّه هو وأصحابه لا يضللونهم في تأويل ذلك وإن نازعوهم في لفظ، ومجرد النزاع اللفظي لا يكون كفرًا ولا ضلالًا في الدين. الوجه الرابع: أنَّه قد استخف بالبحث في مسمى المتكلم، وقال: إنه ليس ممَّا يستحق الإطناب، لأنَّه بحث لغوي، وهذا غاية الجهل بأصل هذه ¬
المسألة، وذلك أن هذه المسألة هي سمعية (¬1) كما قد ذكر هو ذلك فإنَّه إنما أثبت ذلك بالنقل المتواتر عن الأنبياء -عليهم السلام- أن الله يتكلم. ولهذا لما قال له المنازع: إثبات كونه متكلمًا آمرًا ناهيًا مخبرًا بالإجماع لا يصح لتنازعهم في معنى الكلام. أجاب بأنا نثبتها بالنقل المتواتر عن الأنبياء -عليهم السلام- أنهم كانوا يقولون: إن الله أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا وقال كذا وتكلم بكذا، وإنا (¬2) نثبتها -أيضًا- بالإجماع- كما قرره (¬3). وإذا كان أصل هذه المسألة هو (¬4) الاستدلال بالنقل المتواتر بالإجماع على أن الله متكلم آمر ناه، كان العلم بمعنى المتكلم الآمر الناهي هل هو الذي قام به الكلام؟ كالأمر والنهي والخبر، أو هو من فعله ولو (¬5) في غيره؟ هو أحد مقدمتي دليل المسألة الذي لا تتم إلَّا به، فإنَّه إذا جاز أن يكون القائل الآمر الناهي المخبر لم يقم به كلام ولا أمر ولا نهي ولا خبر، بطلت حجة أهل الإثبات في المسألة من كل وجه، فالإطناب في هذا الأصل هو أهم ما في هذه المسألة، بل ليس في المسألة أصل أهم من هذا، وبهذا الأصل كفر الأئمة الجهمية، لأنهم علموا أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام، وأن ذلك معلوم بالضرورة من الشرع والعقل واللغة عند الخاصة والعامة (¬6)، وليس هذا بحثًا لغويًّا كما زعمه بل هو بحث عقلي معنوي شرعي، مع كونه -أيضًا- لغويًّا كما نذكره في: ¬
الوجه الخامس: أن البحث في هذه المسألة بحث عقلي معنوي شرعي وليس بحثا لغويا كما زعم
الوجه الخامس: وذلك أن كون المتكلم هو الذي يقوم به الكلام أو لا يقوم به الكلام، وكون الحي يكون متكلمًا بكلام يقوم بغيره، هو مثل كونه حيًّا عالمًا وقادرًا وسميعًا وبصيرًا ومريدًا بصفات تقوم بغيره، وكون الحي العليم القدير لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة، وهذه كلها بحوث معقولة معنوية لا تختص بلغة دون لغة، بل تشترك فيها الأمم كلها (¬1)، وهي -أيضًا- داخلة فيما أخبرت به الرسل عن الله، فإن ثبوت حكم الصفة للمحل (¬2) الذي تقوم به الصفة أو لغيره، أمر معقول يعلم بالعقل، فعلم أنَّه مقام عقلي، وهو مقام سمعي، ولهذا يبحث معهم في سائر الصفات كالعلم والقدرة بأنَّ الحي لا يكون عليمًا قديرًا إلَّا بما يقوم به من الحياة والعلم. الوجه السادس: أنَّه لولا ثبوت هذا المقام لما أمكنه أن يثبت (¬3) قيام معنى الأمر والنهي والخبر، لأنَّه قرر بالإجماع أن الله آمر وناه ومخبر، وأن ذلك ليس هو اللفظ، بل هو معنى هو الطّلب والزجر والحكم، وهذه المعاني سواء كانت هي الإرادة والعلم أو غير ذلك. يقال له: لا نسلم أنها قائمة بذات الله إن لم يثبت أن الأمر الناهي المخبر هو من قام به معنى الأمر والنهي والخبر، بل يمكن أن يقال فيها ما يقوله المعتزلة في الإرادة والعلم، إما أن يقولوا: يقوم بغير محل، أو يقولوا: كونه آمرًا ومخبرًا مثل كونه عالمًا، وذلك حال أو صفة، فإنَّه إذا ¬
الوجه السابع: أنه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل
جاز أن يكون الآمر والمخبر لم يقم به خبر ولا أمر، لم يمكنه ثبوت هذه المعاني قائمة بذات الله، بل يقال له: هب أن لها معاني وراء الألفاظ ووراء هذه، لكن لم قلت: إن الآمر الناهي هو من قام به تلك المعاني، دون أن يكون من فعل تلك المعاني؟ الوجه السابع: أنَّه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل، فإنهم يثبتون أن المتكلم من قام به الكلام، وأن معنى الكلام هو الطّلب والزجر والحكم -كما ذكره - (¬1) ثم يقولون: ولا يجوز أن يكون ذلك حادثًا في غيره لا في ذاته، لأنَّ ذاته لا تكون محلًا للحوادث [وبذلك أثبتوا قدم الكلام، فقالوا: لو كان محدثًا لكان إما أن يحدثه في نفسه فيكون محلًا للحوادث] (¬2) وهو محال (¬3) أو غيره فيكون كلامًا لذلك المحل، أو [لا (¬4)] محل فيلزم قيام الصفة بنفسها وهو محال، وإنَّما عدل عنها لأنه قد بين أنَّه لم يقم دليل على أن قيام الحوادث به محال، بل ذلك لازم لجميع الطوائف، ومن المعلوم أنَّه إذا جوز قيام الحوادث به، بطل قول أصحابه في هذه المسألة، وامتنع أن يقال: هو قديم، لأنَّه إذا ثبت أن المتكلم هو من قام به الكلام، أو ثبت (¬5) أن الله آمر ناه مخبر بمعنى يقوم به لا بغيره، فإذا جاز أن يكون حادثًا ويكون صفة لله، كما يقوله من يقول: إن الله يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما يقوله جماهير أهل ¬
الوجه الثامن: أنه احتج بإجماع الطائفتين
الحديث والفقهاء، وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم، لم يجزأ (¬1) أن يحكم بقدمه بلا دليل، إلَّا كما يقوله من يقول من أئمة السنة -إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء فيريدون أنَّه لم يزل متصفًا بأنه متكلم إذا شاء [وهو لا يقول بذلك] (¬2) فتبين أن الأصل الذي قرره يبطل قول المعتزلة وقول أصحابه، ولا ينفع حينئذ احتجاجه باجتماع هاتين الطائفتين، إذ ليس ذلك إجماع الأمة. الوجه الثامن: أنَّه لما عارض الإجماع الذي ادعاه بنوع آخر من الإجماع، وهو أن أحدًا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه، فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقًا للإجماع. أجاب: بأنا قد بينا في كتاب المحصول (¬3) أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقًا للإجماع. فيقال له: هذا إن (¬4) كان قد استدل بدليل آخر منضمًا إلى دليل أهل الإجماع، فإن ذلك لا يستلزم تخطئة أهل الإجماع، وأمَّا إذا بطل معتمد أهل الإجماع ودليلهم، وذكر دليلًا (¬5) آخر كان هذا تخطئة منه لأهل الإجماع (¬6)، والأمر هنا كذلك، لأنَّ الذين قالوا بقدمها إنَّما قالوا ذلك ¬
الوجه التاسع: إذا لم يكن في المسألة دليل قطعي سوى ما ذكره ولم يستدل به أحد قبله لزم ألا يكون أحد علم الحق في هذه المسألة قبله
لامتناع قيام الحوادث به [عندهم] (¬1) والذين قالوا بخلقها قالوا ذلك لامتناع قيام الصفات به، وعنده كلتا (¬2) الحجتين باطلة، وهو احتج بإجماع الطائفتين، وقد أقر بأنَّ حجة كل منهما باطلة، فلزم إجماعهم على باطل. الوجه التاسع: أنَّه إذا لم يكن في المسألة دليل قطعي سوى ما ذكره، ولم يستدل به أحد قبله، لم يكن أحد قد علم الحق في هذه المسألة قبله، وذلك حكم على الأمة قبله بعدم علم الحق في هذه المسألة وذلك يستلزم أمرين: أحدهما: إجماع الأمة على ضلالة في هذا الأصل. وثانيهما: عدم صحة الاحتجاج بإجماعهم الذي احتج به، فإنهم إذا قالوا بلا علم ولا دليل لزم (¬3) هذان المحذوران. الوجه العاشر: أن هذا إجماع مركب، كالاستدلال (¬4) على قدم الكلام بقدم العلم، وتفريقه بينهما فرق صوري، وقوله للمعتزلة: نسلم ذلك، ليس كذلك، وذلك أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لما بعدهم إحداث قول ثالث (¬5)، والمعتزلة توافق على ذلك، وقد اعتقد هو ¬
النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحدة غير مستلزمة للأخرى
أن هذه المسألة من ذاك (¬1)، وإذا (¬2) اختلفت في مسألتين على قولين فهل (¬3) يجوز لمن بعدهم أن يقول بقول طائفة في مسألة، وبقول طائفة أخرى في مسألة أخرى بناء على المنع في الأولى؟ على قولين: وقيل بالتفصيل، وهو أنَّه إن (¬4) اتحد مأخذهما (¬5) لم يجز الفرق، وإلّا جاز، وقيل: إن صرح أهل الإجماع بالتسوية لم يجز الفرق، وإلّا جاز (¬6)، وإذا كان كذلك فهذه المسألة من هذا (¬7) القسم، فإن النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحدة غير مستلزمة للأخرى. إحداهن: أن الكلام هل هو قائم به أم لا؟ والثانية: الكلام هل هو الحروف والأصوات، أو المعاني، أو مجموعهما؟ والثالثة: أن القائم به (¬8) هل يجب أن يكون لازمًا له قديمًا، أو يتكلم إذا شاء؟ والرابعة: أن المعاني هل هي من جنس العلم والإرادة، أو جنس آخر؟ ¬
خاصة مذهب الأشعري وابن كلاب التي تميزا بها هو القول بأن كلام الله معنى واحد قديم قائم بنفسه
الخامسة: أن المعاني هل هي معنى واحد، أو خمس معان أو معان كثيرة؟ وهذا كله فيه نزاع، فكيف يعتقد (¬1) أن هذا هو اختلاف الأمة في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث. ومما يوضح ذلك أنَّه أثبت بالدليل أن معنى الكلام الطّلب والزجر والحكم، ثم احتج بقول الذين قالوا هذا على أن هذه المعاني قديمة لكونهم قالوا بهذا وبهذا، وهذا بعينه احتجاج بالإجماع المركب، وهو لزوم موافقتهم في مسألة قد قام عليها الدليل لموافقتهم في مسألة لم يقم عليها دليل (¬2)، وأولئك قالوا: هو محدث وليس هو هذه المعاني، فلم لا يجوز أن يوافق هؤلاء في الحدوث (¬3)، وهؤلاء في هذه المعاني وهو في بنائه خاصة مذهب الأشعري على هذا الأصل، بمنزلة الرافضة في بنائهم لإمامة علي التي هي خاصة مذهبهم على نظير (¬4) هذا الأصل. ومعلوم أن خاصة مذهب الأشعري وابن كلاب التي تميز بها هو ما ادعاه من أن كلام الله معنى واحد قديم قائم بنفسه، إذ ما سوى ذلك من المقالات في الأصول هما مسبوقان إليه، إما من أهل الحديث وإما من أهل الكلام. كما أن خاصة مذهب الرافضة الإمامية من الاثني عشرية ونحوهم هو إثبات الإمام المعصوم، وادعاء ثبوت إمامة علي بالنص عليه، ثم على غيره واحدًا بعد واحد (¬5)، وهم وإن كانوا يدعون في ذلك نقلًا متواترًا ¬
بينهم، فقد علموا أن جميع الأمة تنكر ذلك، وتقول: إنَّها تعلم بالضرورة وبأدلة كثيرة بطلان ما ادعوه من النقل، وبطلان كونه صحيحًا من جهة الآحاد (¬1)، فضلًا عن التواتر، وقد علم متكلموا الإمامية أنَّه لا يقوم على أحد حجة بما يدعونه من التواتر أو الإجماع (¬2)، فإن الشيء ¬
حجة الرازي ومن وافقه نظير حجة الرافضة
إذا لم يتواتر عند غيرهم لم يلزمهم اتباعه، وإجماعهم الذي يسمونه إجماع الطائفة المحقة لا يصح حتَّى يثبت أنهم الطائفة المحقة، وذلك فرع ثبوت المعصوم، وهم يجعلون من أصول دينهم الذي لا يكون الرجل مؤمنًا إلّا به.، هو الإقرار بالإمام المعصوم المنتظر، ويضم إلى ذلك جمهور متأخريهم الموافقين للمعتزلة: التوحيد والعدل الذي ابتدعته المعتزلة (¬1). فهذه ثلاثة أصول مبتدعة، والأصل الرابع: هو الإقرار بنبوة محمد - صَلَّى الله عليه وسلم - وهذا هو الذي وافقوا فيه المسلمين. والغرض هنا بيان أن هذه الحجة نظير حجة الرافضة، فإنهم يقولون: يجب على الله أن ينصب في كل وقت إمامًا معصومًا، لأنَّه لطف في التكليف، واللطف على الله واجب، ويحتجون على ذلك بأقيسة يذكرونها (¬2). ¬
كما ثبّت هذا ونحوه أن الكلام معنى مباين للعلم والإرادة بأقيسة يذكرونها (¬1)، فإذا زعموا أنهم أثبتوا ذلك بالقياس العقلي، ويقولون: إن المعصوم يجب أن يكون معلومًا بالنص، إذ لا طريق إلى العلم بالعصمة إلّا النص، ثم يقولون: ولا منصوص عليه بعد النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - إلَّا علي لأنَّه ليس في الأمة من ادعى النص لغيره، فلو لم يكن هو منصوصًا عليه لزم إجماع الأمة على الباطل، إذ القائل قائلان: قائل بأنه منصوص [عليه] (¬2)، وقائل بأنَّ لا نص عليه ولا على غيره، وهذا القول باطل فيما زعموا بما يذكرونه من وجوب النص عقلًا، فيتعين صحة القول الأول، وهو أنَّه هو المنصوص عليه، لأنَّ الأمة إذا أجمعت (¬3) في مسألة على قولين كان أحدهما هو الحق، ولم يكن الحق في ثالث، فهذا نظير حجته. ولهذا لما تكلمنا على بطلان هذه الحجة لما خاطبت الرافضة وكتبت في ذلك ما يظهر به المقصود، وأبطلنا ما ذكروه من ¬
الدلالات (¬1) على وجوب معصوم، وبينت (¬2) تناقض هذا الأصل، وامتناع توقف التكليف عليه، وأنه يفضي إلى تكليف ما لا يطاق (¬3)، وخاطبت بذلك أفضل من رأيته منهم واعترف بصحة ذلك بالإنصاف في مخاطبته، وليس هذا موضع ذلك (¬4). لكن المقصود الاحتجاج (¬5) بالإجماع، فإنا قلنا لهم: لا نسلم أن أحدًا من الأئمة (¬6) لم يدع النص على غير علي، بل طوائف من أهل السنة يقولون: إن خلافة أبي بكر ثبتت بالنص، ثم منهم من يقول: بنص جلي، ومنهم من يقول: بنص خفي. وأيضًا فالراوندية (¬7) تدعي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[النص] (¬1) على العباس. وأيضًا فالمدعون للنص على علي مختلفون في أن يقال النص عنه في ولده اختلافًا كثيرًا، فلا يمكن أن يقال: إنه لم يدع أحد النص على واحد بعد واحد، إلَّا ما ادعوه في المنتظر، بل إخوانهم الشيعة يدعون دعاوى مثل دعاويهم لغير المنتظر، فبطل الأصل الذي بنوا عليه إمامة المعصوم، الذي يجب على أهل عصره طاعته. ولو فرض أن عليًّا كان هو الإمام فإنَّه لا يجب علينا طاعة من قد مات بعينه إلَّا الرسول (¬2)، وإنَّما المتعلق بنا ما يدعونه من وجوب طاعتنا لهذا الحي المعصوم، ولو فرض أنَّه لم يدع النص غيرهم (¬3)، فهذه الحيلة التي سلكوها في تقرير النص على علي، مبنية على كذب افتروه، وقياس وضعوه (¬4)، لنفاق (¬5) ذلك الكذب، فإنهم افتروا النص، ثم زعموا أن ما ابتدعوه وافتروه من القياس (¬6)، مع ما ادعوه من الإجماع، يقتضي بثبوت هذا الذي افتروه، كما أن هؤلاء ابتدعوا مقالة افتروها في كلام الله لم يسبقوا إليها (¬7)، ثم ادعوا أن ما ابتدعوه وافتروه ¬
عامة أصول أهل الأهواء والبدع مبنية على نوع من القياس الذي وضعوه ونوع من الإجماع الذي يدعونه
من (¬1) القياس مع ما ادعوه من الإجماع، يحقق هذه القرية (¬2). وعامة أصول أهل البدع والأهواء الخارجين عن الكتاب والسنة تجدها مبنية على ذلك، على نوع (¬3) من القياس الذي وضعوه، وهو مثل ضربوه يعارضون به ما جاءت به الرسل، ونوع من الإجماع الذي يدعونه، فيركبون من ذلك القياس العقلي، ومن هذا الإجماع السمعي، أصل دينهم. ولهذا تجد أبا المعالي -وهو أحذق (¬4) المتأخرين- إنَّما يعتمد فيما يدعيه من القواطع على نحو ذلك. وهكذا أئمة أهل الكلام في الأهواء، كأبي الحسين البصري (¬5) ومشايخه (¬6) ونحوهم، لا يعتمدون لا على كتاب، ولا على سنة- ولا على إجماع مقبول في كثير من المواضع، بل يفارقون أهل الجماعة ذات الإجماع المعلوم، بما يدعونه هم من الإجماع المركب، كما يخالفون صرائح المعقول بما يدعونه من المعقول (¬7)، وكما يخالفون الكتاب والسنة اللذين هما أصل الدين، بما يضعونه من أصول الدين. ¬
الوجه الحادي عشر: أن هذا الإجماع نظير الحجج الإلزامية التي قرر أنها من الأدلة الباطلة
الوجه الحادي عشر: أن هذا الإجماع نظير الحجج الإلزامية، وقد قرر في أول كتابه أنَّه من الأدلة الباطلة التي لا تصلح لا بالنظر ولا بالمناظرة (¬1)، وذلك أن المنازع له يقول (¬2): إن ما قلت بقدمها لا متناع قيام الحوادث به، فإما أن يصح هذا الأصل أو لا يصح، فإن صح كان هو الحجة في المسألة، ولكن قد ذكرت أنَّه لا يصح، وإن [لم (¬3) يصح بطل مستند قول من يقول بالقدم، وصح منه القدم على هذا التقدير وهو أن يقول: لا نسلم -إذا جاز أن تحله الحوادث- وجوب قدم ما يقوم به، وهذا منع ظاهر، وذلك أنَّه لا فرق بين إقامة قوله بحجة إلزامية وبين إبطال قول منازعيه بحجة إلزامية. الوجه الثَّاني عشر: أنَّه لم يثبت أن معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة، إلَّا بما ذكره في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات (¬4) وذلك إنَّما يدل على الإرادة العامة الشاملة لكل موجود، المنتفية عن كل معدوم، فإنَّه ما شاء ¬
الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وتلك الإرادة ليست (¬1) هي الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي فإن هذه الإرادة مستلزمة للمحبة والرضا. وقد فرق الله تعالى بين الإرادتين (¬2) في كتابه، فقال في الأولى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬3) وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (¬4)، وقال: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (¬5)، وقال في الثَّانية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬6)، وقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (¬7)، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ ¬
الوجه الثالث عشر: لما طولب الرازي بالفرق بين ماهية الطلب والإرادة ذكر وجهين
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬2). الوجه الثالث عشر: أنَّه لما طولب بالفرق بين ماهية الطّلب والإرادة ذكر وجهين: أحدهما: أن القائل قد يقول لغيره: إنِّي أريد منك الأمر الفلاني وإن كنت لا آمرك به. والثاني: هب أنَّه لم يتخلص لنا في الشاهد الفرق بين طلب الفعل وإرادته لكنا دللنا على أن لفظ "افعل" إذا وردت في كتاب الله فإنَّه لا بد وأن تكون دالة على طلب الفعل، وبينا أن ذلك الطّلب لا يجوز أن يكون نفس تصور الحروف ولا إرادة (¬3) الفعل، فلا بد أن يكون أمرًا مغايرًا لهما، فليس كل ما نجد له في الشاهد نظيرًا وجب نفيه غائبًا وإلا تعذر (¬4) إثبات الإله، وهذان الجوابان ضعيفان. أما الأول فقد يقال: هو مستلزم للإرادة، وقد يقال: هو نوع خاص من الإرادة على وجه الاستعلاء، فإذا قيل: أريد منك فعل هذا ولا آمرك به؛ أي: لا أستعلي عليك، فإن المريد قد يكون سائلًا خاضعًا كإرادة العبد من ربه. ¬
الوجه الرابع عشر: أن النهي مستلزم لكراهية النهي عنه كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأمور به
وأمَّا الثَّاني: فيقال له: إذا ثبت أن معنى الأمر في الشاهد إنما هو من جنس الإرادة كانت هذه حقيقته، والحقائق لا تختلف شاهدًا ولا غائبًا، وذلك أن كون هذه الصفة هي هذه، أو مستلزمة لهذه، أو غيرها (¬1)، إنَّما يعلمه (¬2) بما نعلمه في الشاهد. الوجه الرابع عشر: أن النَّهي مستلزم لكراهة (¬3) المنهي عنه، كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأمور به، والمكروه لا يكون مرادًا، فلا بد أن تكون الإرادة المنتفية (¬4) عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له، وهذا أورده عليه في مسألة إرادة الكائنات، ولم يجب عنه إلَّا بأنَّ قال: "لا نسلم أنها مكروهة، بل هي منهي عنها". ومعلوم أن هذا الجواب مخالف إجماع (¬5) المسلمين، بل ما (¬6) علم بالضرورة من الدين، ويخالف ما قرره هو في أصول الفقه (¬7)، وقد قال تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (¬8). الوجه الخامس عشر: أن طوائف يقولون لهم: معنى الخبر لم لا يجوز أن يكون هو العلم، لا سيما أن كثيرًا من النَّاس يقولون: إن معنى الكلام يؤول إلى ¬
الخبر، وإذا (¬1) كان معنى الكلام يؤول إلى الخبر ومعنى الخبر يؤول إلى العلم كان الكلام يؤول إلى العلم، لكن قول من يقول: إن الكلام يؤول كله إلى الخبر المحض كما يقوله طائفة منهم (¬2)، هو قول ضعيف، فإنَّه وإن كان الطّلب الذي هو الأمر والنهي يستلزم علمًا وخبرًا، لكن ليس هو نفس ذلك، بل حقيقة الطّلب يجدها الإنسان من نفسه ويعلمها بالإحساس الباطن، ويجد الفرق بين ذلك (¬3) وبين كونه مخبرًا محضًا، مع أن الخبر -أيضًا- وقد يستلزم طلبًا وإرادة في مواضع كثيرة لكن تلازم الخبر والطلب والعلم والإرادة لا تمنع أن يعلم أن أحدهما ليس هو الآخر، فالإنسان يخبر عن الأمور التي لا تتعلق بفعله بالإثبات والنفي خبرًا محضًا، وقد يتعلق بذلك غرض من حب وبغض وما يتبع ذلك، لكن معنى قوله: السماء فوقنا والأرض تحتنا خبر محض، وكذلك معنى قوله: محمد رسول الله خبر، لكن يتبعه محبة وتعظيم وطاعة، وأمَّا معنى قوله: اذهب وتعال وأطعمني واسقني ونحو ذلك، فهو طلب محض، ولكنه مسبوق مستلزم للعلم والشعور بذلك كالأفعال الإرادية كلها، فالأمر والنهي كالأفعال الإرادية، كل ذلك مستلزم لما يقوم بالنفس من حب وطلب وإرادة، وما يتبع ذلك من بغض وكراهة، والخبر مستلزم للعلم والعلم يستلزم الحب والبغض والعمل -أيضًا- في عامة الأمور، ولهذا يختلط باب الإنشاء بباب الأخبار لتلازم النوعين، حيث ¬
تلازما، ولهذا يستعمل (¬1) صيغة الخبر في الطّلب كثيرًا، كما يستعمل (1) في الدعاء في باب غفر الله لفلان، ويغفر الله له، وفي الأمر مثل (¬2): {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (¬3) وذلك أكثر من استعمال صيغة الطّلب في الخبر المحض، كما قد قيل -إن كان من هذا الباب- في قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (¬4) و"إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (¬5)، وذلك لأنَّ المعنيين متلازمان في الأمر العام، فإذا استعمل صيغة الخبر في الطّلب فإنَّما استعمله (¬6) في لازمه، وجعل اللازم لقوة الطلب له والإرادة كأنه موجود محقق مخبر عنه، فكان هذا طلبًا مؤكدًا ولهذا يكثر ذلك في الدعاء الذي يجتهد فيه الداعي، وهذا أحسن الكلام (¬7). أما إذا استعمل صيغة الخبر في الأمر المحض، فالأمر فيه الطّلب المستلزم للعلم الذي هو بمعنى الخبر، فإذا لم يفد إلَّا معنى الخبر فإنَّه يكون قد سلب معناه الذي هو الطّلب ونقض ذلك ولم يبق فيه شيء من معناه، وذلك لأنَّ العلم الذي يستلزم الطّلب والإرادة هو تصور ¬
المطلوب، ليس هو العلم بوقوعه أو عدم وقوعه، فإذا استعمل اللفظ في الإخبار عن (¬1) وقوع المطلوب أو عدم وقوعه كان قد استعمل في شيء ليس من معنى اللفظ ولا من لوازمه، ولهذا قال من قال من أهل التحقيق: إن استعمال صيغة الأمر في الخبر لم يقع، لأنَّه ليس على ذلك شاهد، والقياس يأباه، لأنَّه استعمال (¬2) للفظ في شيء ليس من لوازم معناه، ولا من ملزوماته فهو أجنبي عنه، وما ذكر (¬3) من الآية والحديث فليس المراد به الخبر، بل الآية على ظاهرها، ومن كان في الضلالة فالله مسؤول مدعو بأنَّ يمد له من العذاب مدًّا، وإن كان -سبحانه- هو المتكلم بطلب نفسه ودعاء نفسه، كما في الدعاء الذي يدعو به وهو صلاته [ولعنته] (¬4) كما قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (¬5)، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬6) فإن صلاته تتضمن ثناءه ودعاءه -سبحانه وتعالى- فإن طلب الطالب من نفسه أمر ممكن في حق الخالق والمخلوق كأمر الإنسان لنفسه، كما قال: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (¬7)، وقد يقال من ذلك قوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا ¬
أكثر الناس بل عامة الناس يقولون: إن معنى الخبر هو العلم
يَفْقَهُونَ} (¬1)، وهذا القول أورده (¬2) الرازي سؤالًا في مسألة وحدة الكلام، كما تقدم لفظه في ذلك (¬3). وأجاب عنه بما ذكره من قوله: ليس هذا بشيء، لأنَّ حقيقة الطّلب كحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى أمر، وتلك المغايرة معلومة بالضرورة، ولهذا يتطرق (¬4) التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر. وهذا الذي ذكره من الفرق صحيح كما ذكرناه، ونحن إنَّما ذكرناه لتوكيد الوجه الأول وهو المقصود هنا، وهو أن يقال: إن معنى الخبر هو العلم، وبابه (¬5) من الاعتقاد ونحو ذلك، فإن هذا قاله طوائف، بل أكثر النَّاس، بل عامة النَّاس يقولون ذلك، ولا تجد النَّاس في نفوسهم شيئًا (¬6) غير ذلك يكون (¬7) معنى الخبر، وكون معنى الخبر هو العلم أو نوع منه أظهر من كون الطّلب هو الإرادة أو نوعها منها (¬8)، لأنَّه هناك أمكنهم دعوى الفرق بأنَّ الله قد أمر بمأمورات، وهو لم يرد وجودها، كما أمر به من لم يطعه (¬9)، وهذا متَّفقٌ عليه بين أهل الإثبات، وإنَّما تنازع فيه القدرية (¬10)، ثم كون الأمر مستلزمًا لإرادة ليست هي إرادة الوقوع كلام ¬
آخر، وأمَّا هنا فلم يمكنهم أن يقولوا: إن الله أخبر بما لا يعلمه أو بما يعلم ضده، بل علمه من لوازم خبره، سواء كان هو معنى الخبر أو لازمًا لمعنى الخبر، ولهذا أخبر الله بأنَّ القرآن لما جاءه (¬1) العلم، فقال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬2)، وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬3). وهذا ممَّا احتج به الأئمة (¬4) في تكفير من قال بخلق القرآن، وقالوا قولهم يستلزم أن يكون علم الله مخلوقًا، لأنَّ الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، ولم يعن علم غيره، فلا بد أن يكون عني أنَّه من علمه ومن جعل علم الله مخلوقًا قائمًا بغيره فهو كافر، ولا ريب أن كل واحد من أمر الله وخبره يتضمن علمه -سبحانه- كما تقدم، لكن أمره فيه الطّلب الذي وقع النزاع (¬5) فيه، هل هو حقيقة غير الإرادة، أو هو مستلزم لنوع من الإرادة، أو هو نوع منها، أو هو الإرادة؟ وهذا ليس هو العلم. وأمَّا الخبر فلا ريب أنَّه متضمن لعلم الله، ولا يمكن أن يتنازع في كون معنى خبر الله يوجد بدون علمه، فظهر الأمر في هذا الباب. ¬
الوجه السادس عشر: أن هذه الحجة التي ذكروها فى معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها
ولهذا لم يكن لهم حجة على ذلك إلَّا ما ادعوه (¬1) من إمكان وجود معنى خبر بدون العلم والاعتقاد والظن في حق المخلوق، وهو الخبر الكاذب، فقدروا أن الإنسان يخبر بخبر هو فيه كاذب، وذلك يكون مع علمه بخلاف المخبر، كما قدروا أن يأمر أمر امتحان (¬2) بما لا يريده، ثم ادعوا أن هذا الخبر له حكم ذهني في النَّفس غير الإرادة، وهذه الحجة قد نوزعوا في صحتها نزاعًا عظيمًا ليست هي مثل ما أمكن إثباته في حق الله من وجود آمر لم يرد وقوع مأموره. الوجه السادس عشر: أن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم، قد أقروا هم بفسادها (¬3)، فإنَّه قد تقدم لفظ الرازي في هذه الحجة بقوله (¬4): وأمَّا شبيه معنى الأمر والنهي بالإرادة والكراهة، ومعنى الخبر بالعلم، والأول: باطل لما ثبت في خلق الأفعال وإرادة الكائنات أن الله قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، فوجب أن يكون معنى "افعل" و "لا تفعل" في حق الله شيئًا سوى الإرادة، وذلك هو معنى الكلام. والثاني: باطل لأنَّه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب. وهذا هو الأصل الذي اعتمد عليه في محصوله -أيضًا- حيث جعل ¬
أبو المعالي ونحوه لم يذكروا دليلا على إثبات كلام النفس سوى ما دل على ثبوت الطلب الذي ادعوا أنه مغاير للإرادة
معنى الخبر هو الحكم الذهني، الذي انفردوا بإثباته دون سائر العقلاء (¬1). وأمَّا أبو المعالي ونحوه، فلم يذكروا دليلًا على إثبات كلام النَّفس سوى ما دل على ثبوت الطّلب الذي ادعوا أنَّه مغاير (¬2) للإرادة، وذلك إن دل فإنَّما يدل على أن معنى الأمر غير الإرادة لا يدل (¬3) على أن معنى الخبر غير العلم، لكن استدل على ثبوت التصديق النفساني بأنه مدلول المعجزة، ولم يبين أنَّه غير العلم. فيقال لهم: أنتم مصرحون بنقيض هذا، وهو أنَّه -يمتنع بثبوت الحكم الذهني على خلاف العلم وأنه إن جاز وجوده فليس هو كلامًا على التحقيق، وإذا نفيتم (¬4) وجود هذا الحكم الذهني المخالف للعلم أو كونه ¬
كلامًا على التحقيق امتنع منكم حينئذ إثبات وجوده ودعوى أنَّه هو الكلام على التحقيق، وذلك أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأنَّ الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب (¬1) العلم لله وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتَّى الرازي ذكره، لكن قال: إنَّما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه، وإن (¬2) جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه بل يعلم خلافه امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم أو أنَّه -يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبًا، وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء ليس تناقضًا من جهة اللزوم، فإنهم لما أثبتوا أن معنى الخبر ليس هو العلم أثبتوا حكمًا نفسانيًّا ينافي العلم فيكون كذبًا ويكون مع عدم العلم، ولما أثبتوا الصدق قالوا: إن معنى الخبر الذي هو الحكم النفساني يمتنع أن يحقق (¬3) بدون العلم أو خلافه فيمتنع أن يكون كذبًا. قال أبو القاسم الأنصاري (¬4): شيخ الشهرستاني، وتلميذ أبي المعالي في شرح الإرشاد: فصل: كلام الله صدق، والدليل عليه إجماع المسلمين والكذب ¬
نقص: قال (¬1): ومما تمسك به الأستاذ أبو إسحاق والقاضي أبو بكر (¬2) وغيرهما: أن قالوا: الكلام القديم هو القول الذي لو كان كذبًا لنافى العلم به من حيث أن العالم بالشيء من حقه أن يقوم (¬3) به إخبار عن المعلوم على الوجه الذي هو معلوم له، وهكذا القول في الكلام القائم بالنفس شاهدًا و (¬4) هو الذي يسمى التدبير أو حديث النَّفس، وهو ما يلازم العلم. قال (¬5): فإن قيل: لو كان العلم ينافي (¬6) الكذب، لم يصح من الواحد منا كذب على طريق الجحد، وليس كذلك فإن ذلك متصور (¬7) موهوم. قلنا: الجحد إنما يتصور من العالم بالشيء في العبارة (¬8) باللسان دون القلب، وصاحب الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب، فلا يصح منه الجحد بالقلب. فإن قالوا: لا يمتنع تصور الجحد بالقلب، وتصور (¬9) العلم في النَّفس جميعًا. قلنا: إن قدر ذلك على ما تصورونه فلم يكن ذلك كلامًا على ¬
التحقيق وإنَّما هو تقدير كلام، كما أن العالم بوحدانيته قد يقدر في نفسه مذهب الثنوية (¬1)، ثم لا يكون ذلك منافيًا لعلمه بالوحدانية، ولو كان ذلك اعتقادًا حقيقيًّا لنافاه، فإذا ثبت أن العلم يدل على الخبر الصدق، فإذا تعلق الخبر بالمخبر على وجه الصدق فتقدير خبر خلف مستحيل مع الخبر القديم، إذ لا يتجدد الكلام. قال (¬2): فإن قيل: فإذا جاز أن يكون الكلام أمرًا من وجه نهيًا من وجه، فكذلك يجوز أن يكون صدقًا من وجه كذبًا من وجه. قلنا: الأمر في حقيقته (¬3) هو النَّهي، لأنَّ الأمر بالشيء نهي عن ضده، والآمر بالشيء ناه عن ضده ولا تناقض فيه، ولا يجوز أن يكون الصدق كذبًا بوجه، وتعلق الخبر بالمخبر بمثابة تعلق العلم بالمعلوم وإذا تعلق العلم بوجود الشيء فلا يكون علمًا بعدمه في حال وجوده. وقال أبو المعالي في إرشاده (¬4) المشهور الذي هو زبور المستأخرين من أتباعه، كما أن الغرر، وتصفح الأدلة لأبي الحسين (¬5) زبور ¬
ما ذكره أبو المعالي من أقوال الناس في حقيقة الإيمان
المستأخرين من المعتزلة، وكما أن الإشارات لابن سينا (¬1) زبور المستأخرين من الفلاسفة، تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، وإن كانت طائفة أبي المعالي أمثل وأولى بالإسلام، قال: فصل: في الأسماء والأحكام: اعلموا أن غرضنا من هذا الفصل يستدعي ذكر (¬2) حقيقة الإيمان، وهذا ممَّا تباينت فيه مذاهب الإسلاميين. ¬
فذهب الخوارج (¬1) إلى أن الإيمان هو الطاعة، ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة (¬2)، واختلفت مذاهبهم في تسمية النوافل إيمانًا، وصار أصحاب الحديث (¬3) إلى أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعلم بالأركان، وذهب بعض القدماء (¬4) إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار بها، وذهبت الكرامية (¬5) إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان ¬
أبو المعالي صرح بأن كلام النفس لا يثبت إلا مع العلم
فحسب، ومضمر الكفر إذا أظهر الإيمان مؤمن حقًّا عندهم، غير أنَّه يستوجب الخلود في النَّار، ولو أضمر الإيمان ولم يتيقن (¬1) منه إظهاره فهو ليس بمؤمن، وله الخلود في الجنة. قال (¬2): والمرضي عندنا (¬3) أن حقيقة الإيمان التصديق بالله، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على الحقيقة (¬4) كلام النَّفس، ولا يثبت كلام النَّفس كذلك إلّا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النَّفس يثبت على حسب الاعتقاد، والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة، وأصل (¬5) العربية، وهو (¬6) لا ينكر فيحتاج إلى إثباته ومن (¬7) التنزيل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (¬8) معناه: ما أنت (¬9) بمصدق لنا. ثم الغرض من هذا الفصل (¬10) أن من خالف أهل الحق لم يصف ¬
أبو القاسم الأنصاري ذكر عن أبي الحسن الأشعري قولين في معنى التصديق
الفاسق بكونه مؤمنًا. فقد صرح بأنَّ كلام النَّفس لا يثبت إلّا مع العلم، وأنه إنَّما يثبت على حسب الاعتقاد، وهذا تصريح بأنه لا يكون مع [عدم] (¬1) العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النَّفس وادعوا أنَّه مغاير للعلم. وقال (¬2) صاحبه أبو القاسم الأنصاري -شيخ الشهرستاني- في شرح الإرشاد- بعد أن ذكر شرح قول الخوراج والمعتزلة والكرامية: قال: "وأمَّا مذهب (¬3) أصحابنا، فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق، وبه قال شيخنا أبو الحسن، واختلف جوابه في معنى التصديق، فقال مرَّة: هو المعرفة بوجوده وقدمه وإلاهيته (¬4)، وقال مرَّة: التصديق قوله في النَّفس غير أنَّه يتضمن المعرفة ولا يوجد دونها، وهذا ممَّا ارتضاه القاضي، فإن الصدق والكذب والتصديق والتكذيب وبالأقوال أجدر، فالتصديق إذا قول في النَّفس، ويعبر عنه باللسان فتوصف العبارة بأنها تصديق، لأنها عبارة عن التصديق هذا ما حكاه شيخنا الإمام. قلت: فقد ذكر عن أبي الحسن الأشعري قولين: ¬
أحدهما: إن التصديق هو المعرفة (¬1)، وهذا قول جهم. ¬
والثاني: أن التصديق قول في النفس يتضمن المعرفة، هو اختيار ابن الباقلاني وابن الجويني، وهؤلاء قد صرحوا بأنه يتضمن المعرفة، ولا يتصور أن يقوم في النفس تصديق مخالف لمعرفة كما (¬1) ذكروه، ولو جاز أن يصدق بنفسه بخلاف علمه واعتقاده لانتقض (¬2) أصلهم في الإيمان إذا (¬3) كان التصديق لا ينافي اعتقاد خلاف ما صدق به، فلا يجب أن يكون مؤمنًا بمجرد تصديق النفس على هذا التقدير، وكل من القولين ينقض ما استدل به على أن التصديق غير العلم. قال النيسابوري (¬4): "وحكى الإمام أبو القاسم الإسفرائيني اختلافًا عن أصحاب أبي الحسن (¬5) في التصديق"، ثم قال (¬6) والصحيح ¬
من الأقاويل في معنى التصديق ما يوافق اللغة، لأن التكليف بالإيمان ورد بما يوافق اللغة، والإيمان بالله ورسوله على موافقة اللغة هو العلم بأن الله ورسوله صادقان في جميع ما أخبرا به، والإيمان في اللغة مطلقًا هو اعتقاد صدق المخبر في خبره، إلّا أن الشرع جعل هذا التصديق علمًا، ولا يكفي أن يكون اعتقادًا من غير أن يكون علمًا، لأن من صدق الكاذب واعتقد صدقه فقد آمن به، ولهذا قال في صفة اليهود: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} (¬1) يعني: يعتقدون صدقهما". قلت: ليس الغرض هنا ذكر تناقضهم في مسمى الإيمان، وفي التصديق هل هو التصديق بوجود الله وقدمه وإلاهيته، كما قاله الأشعري؟ أو [هو] (¬2) تصديق (¬3) فيما أخبر به كما ذكره غيره؟ أو التناقض كما في كلام صاحب الإرشاد؟ حيث قال: الإيمان هو التصديق بالله، فالمؤمن بالله من صدقه، فجعل التصديق بوجوده هو تصديقه في خبره مع تباين الحقيقتين (¬4) فإنه فرق بين التصديق بوجود الشيء وتصديقه، ولهذا يفرق القرآن بين الإيمان بالله ورسوله، وبين الإيمان للرسول، إذ الأول هو الإقرار بذلك والثاني هو الإقرار له، كما في قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤمِنٍ لَنَا} (¬5) وفي قوله {يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤمِنُ لِلْمُؤمِنِيْنَ} (¬6)، وفي قوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} (¬7)، وقد قال: ¬
صرح هؤلاء بأن التصديق هو العلم أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علما
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (¬1)، فميز الإيمان به من الإيمان بكلماته وكذلك قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (¬2) الآية، وقوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (¬3) فليس الغرض أنهم (لم) (¬4) يهتدوا لمثل هذا في مثل هذا الأصل (¬5) الَّذي لم يعرفوا فيه لا الإيمان ولا القرآن، وهما نور الله الَّذي بعث به رسوله كما قال: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (¬6). وإنما الغرض أن التصديق قد صرح هؤلاء بأنه هو العلم، أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علمًا، وأنهم مضطرون إلى أن يقولوا ذلك، وهو أبلغ من قول بعضهم: إنه مستلزم للعلم في تمام ما ذكره عن أبي القاسم الإسفراييني. وقال (¬7): "حكى الإمام أبو بكر بن فورك عن أبي الحسن أنَّه قال: الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به، ثم من الاعتقاد ما هو علم، ومنه ما هو ليس بعلم، فالإيمان بالله هو اعتقاد صدقه، إنما يصح إذا كان عالمًا بصدقه في إخباره، وإنما يكون كذلك إذا كان عالمًا بأنه ¬
متكلم، والعلم بأنه متكلم بعد العلم [بأنه] (¬1) حي، والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل بعد (¬2) العلم بالفعل وكون العالم فعلًا له، وذلك يتضمن العلم بكونه قادرًا [وله قدرة (¬3)، وعالمًا وله علم، ومريدًا وله (¬4) إرادة، وسائر ما لا يصح العلم بالله تعالى إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان (¬5) ". قال (¬6): "ثم السمع قد ورد بضم شرائط أخر إليه، وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلًا وتركًا، وهو أن الشرع أمره (¬7) بترك السجود والعبادة للصنم، فلو أتى به دل على كفره، وكذلك لو قتل نبيًّا أو استخف به دل على كفره، وكذلك لو ترك تعظيم المصحف والكعبة دل على كفره، وكذلك لو خالف إجماع الخاص والعام في شيء أجمعوا عليه دل خلافه إياهم على كفره، فأي واحد مما استدللنا به على كفره مما منع الشرع أن يقرنه بالإيمان إذا وجب ضمه إلى الإيمان -لو وجد- دلنا ذلك على [أن] (¬8) التصديق الَّذي هو الإيمان مفقود من قلبه، ¬
فكذلك كلما كفرنا به المخالف من طريق التأويل، فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه، لاستحالة أن يقضي (¬1) السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه". قال (¬2): "ومن أصحابنا من قال بالموافاة (¬3)، فيشترط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به، ويختم عليه، ومنهم من لم يجعل ذلك شرطًا فيه في الحال، وهل يشترط في الإيمان الإقرار؟ اختلفوا فيه بعد (¬4) أن لم ¬
يختلفوا في ترك العناد شرطًا (¬1)، وهو أن يعتقد أنَّه متى طولب بالإقرار أتى به، فأما قبل أن يطالب به، مثهم من قال: لا بد من الإتيان به حتَّى يكون مؤمنًا، وهذا القائل يقول: التصديق هو المعرفة والإقرار جميعًا، وهذا قول الحسين بن الفضل البجلي (¬2)، وهو مذهب أبي حنيفة ¬
وأصحابه، وبقريب (¬1) من هذا كان يقول (¬2) الإمام أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان (¬3) من متقدمي أصحابنا. ونحن نقول: من أتى بالتصديق بالقلب واللسان فهو المؤمن باطنًا وظاهرًا، ومن صدق بقلبه وامتنع من الإقرار فهو معاند كافر، يكفر كفر عناد، ومن أقر بلسانه وجحد بقلبه فهو كافر عند الله وعند نفسه، ويجري عليه أحكام الإيمان لما أظهر (¬4) من علامات الإيمان. ومن أصحابنا من جعل الممعارف مجموعة تصديقًا واحدًا، أو هو المعرفة بالله وصفاته ورسوله وبأن دين الإسلام حق. قال (¬5): "وهذه الجملة تصديق واحد"، ثم قال: "هذا ما ذكره أبو القاسم الإسفرائيني". قلت: ليس المقصود هنا بيان ما ذكروه من قول الجهمية والمرجئة في الإيمان، وما في ذلك من التناقض، حيث جَعْله التصديق الَّذي في القلب، ثم سلبه عمن ترك النطق عنادًا، وأن عنده كلما سمي كفرًا فلأنه مستلزم لعدم هذا التصديق، ولكن دلالته على العدم تعلم تارة بالعقل وتارة بالشرع، لأن ما يقوم بالقلب من الاستكبار على الله والبغض له ولرسوله (¬6) ونحو ذلك يكون هو في نفسه كفرًا وما ذكروه من التصديق ¬
الفرق بين المعرفة والتصديق عند الأشاعرة
الخاص الَّذي وصفوه وهو تصديق بأصول الكلام الَّذي وضعوه. وإنما الغرض أنهم يجعلون التصديق هو نفس المعرفة كما في كلام هذا وغيره، وكما ذكروه عن أبي الحسن. وغايتهم إذا لم يجعلوه مستلزمًا للمعرفة أن يجعلوه مستلزمًا لها. قال النيسابوري: "وقال الأستاذ أبو إسحاق في المختصر (¬1): "الإيمان في اللغة والشريعة، التصديق ولا يتحقق ذلك إلّا بالمعرفة والإقرار، وتقوم الإشارة والانقياد مقام العبارة (¬2) ". قال: "وتحقيق المعرفة تحصيل ما قدمناه من المسائل في هذا الكتاب وتحقيقه". قال النيسابوري: "أراد بالكتاب هو المختصر وأشار بما قدمه فيه [إلى] (¬3) جملة ما قدمه من قواعد العقائد. قال: وقال في هذا الكتاب: "الإيمان هو المعرفة واعتقاد (¬4) الإقرار عند الحاجة أو ما يقوم مقام الإقرار". [وقال] (¬5) في كتاب الأسماء والصفات (¬6): "واتفقوا على أن ¬
ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة، وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكرناه، واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها ترك قتل الرسول، وترك إيذائه (¬1)، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من المتروك، ومن الأفعال نصرة الرسول والذب عنه، فقالوا: إن جميعه مضاف (¬2) إلى التصديق شرعًا، وقال آخرون إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان. قال النيسابوري (¬3): "هذه جملة كلام مشايخنا في ذلك، قال (¬4): وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضًا ونفلًا، والانتهاء عما نهى (¬5) عنه تحريمًا وإذنًا (¬6)، وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي (¬7)، ¬
ومن (¬1) متقدمي أصحابنا أبو العباس القلانسي (¬2). وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد (¬3)، وهو قول مالك بن أنس (¬4)، ومعظم أئمة السلف، وكانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان. قلت: وذكر الكلام إلى آخره مما ليس هذا موضعه (¬5)، فإنه ليس الغرض هنا ذكر أقوال السلف والأئمة، واعتراف هؤلاء بما اجترؤوا عليه ¬
أبو إسحاق الإسفراييني قرر أن التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار
من مخالفة السلف والأئمة وأهل الحديث في الإيمان، مع علمهم بذلك لِما عَنَتَ (¬1) لهم من شبهة الجهمية المرجئة. وإنما الغرض بيان ما ذكره الإسفراييني، من أن التصديق لا يتحقق إلّا بالمعرفة والإقرار، وإن كان أراد المعرفة كما قرره هو من قواعده، ولم يُحل ذلك على ما جاء به الرسول من أصول الإيمان، فإذا كان التصديق لا يتحقق [إلا] (¬2) بالمعرفة وبالإقرار -أيضًا- باللسان، كان هذا من كلامهم دليلًا على امتناع وجود التصديق بالقلب وتحققه إلا مع الإقرار باللسان وهذا يناقض قولهم: إن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس، فهذه مناقضة ثابتة، فإن التصديق الَّذي في القلب إن تحقق بدون لفظ بطل هذا، وإن لم يتحقق إلَّا بلفظ أو ما يقوم مقامه بطل ذاك، فهذا كلامهم، وهو يقتضي أنهم لم يكتفوا بأن جعلوا العلم ينافي الكذب النفساني، حتَّى جعلوه يوجب الصدق النفساني، فيمتنع وجود العلم بدون الصدق، فصار هذا مبطلًا لما أثبتوا به الخبر النفساني، من أنَّه يمكن ثبوته بدون العلم وعلى خلاف العلم وهو الكذب، وهم كما احتجوا بالعلم على انتفاء الكذب النفساني وثبوت الصدق النفساني، فقد احتجوا به -أيضًا- على أصل ثبوت الكلام النفساني. قال أبو القاسم النيسابوري: "ومما ذكره الأستاذ أبو إسحاق -يعني في إثبات كلام الله النفساني الَّذي أثبتوه- أن قال: الأحكام لا ترجع إلى صفات الأفعال، ولا إلى أنفسها، وإنما ترجع إلى قول الله، وهذا من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد، فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله، وجواز إرسال الرسل ¬
تعليق الشيخ على استدلالهم على ثبوت كلام الله بالتكليف والإحكام
وورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت الكلام الصدق أولًا، إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه، وذلك هو التدبير والخبر، وربما يعبر عن هذا بأنه لو لم يكن القديم - سبحانه - متكلمًا لاستحال منه التعريف والتنبيه على التكليف، لأن طرق التعريف معلومة، وذلك كالكتابة والعبارة والإشارة، وشيء من هذا لا يقع به التعريف دون أن يكون ترجمة عن الكلام القائم بالنفس، ومن لا كلام له استحال أن ينبه غيره على المعنى الَّذي يستند إلى الكلام. قال: ومما يدل على ثبوت الكلام لله آيات الرسل - عليهم السلام - فإنها كانت أدلة، ولا تدل على الصدق لأنفسها، وإنما كانت دالة من حيث كانت نازلة منزلة، قوله لمدعي الرسالة: صدقت، والتصديق من قبل الأقوال، ولا يكون المصدق مصدقًا لغيره بفعله التصديق، وإنما يكون مصدقًا له لقيام التصديق بذاته بأمر الله وبنهيه (¬1) ". قلت: أما استدلالهم على ثبوت كلام الله بالتكليف والأحكام، فهذا من باب الاستدلال على الشيء بنفسه، بل من باب الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه مع الاستغناء عنه، فإنه إذا كان التكليف والأحكام إنما ثبت (¬2) بالرسل، فالرسل كلهم مطبقون على تبليغ كلام الله ورسالته، وأن الله يقول وقال ويتكلم، ومن المعلوم أن نطق الرسل بإثبات كلام الله وقوله أكثر وأشهر وأظهر من نطقهم بلفظ تكليف وأحكام، فإذا كان هذا الدليل لا يثبت إلَّا بعد الإيمان بالرسل، وبما أخبروا (¬3) به، فإخبارهم بكلام الله وقوله لا يُحتاج فيه إلى دليل، ولهذا عدل غير هؤلاء عن هذا الدليل الغث، واحتجوا على ثبوت كلام الله ¬
بمجرد قول المرسلين. وقوله: الأحكام من أول الدليل على ثبوت الأمر والنهي. يقال له: فهل الأحكام عندك شيء غير الأمر والنهي حتَّى (¬1) يستدل بأحدهما على الآخر؟ أم اسم الأحكام هل هو أظهر في كلام الرسل والمؤمنين بهم من اسم الأمر والنهي؟. وأعجب من ذلك قوله: فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله وجواز إرسال الرسل، فإن التكليف إذا كان عنده لم يثبت إلَّا بالرسل كان العلم بجواز إرسأل الرسل سابقًا للعلم (¬2) بالتكليف، فكيف يستدل بما يتأخر علمه على ما يتقدم علمه، ومن حق الدليل أن يكون العلم به قبل العلم بالمدلول حيث جعل دليلًا على العلم به، ولو قدر أنَّه ممن يسوغ التكليف العقلي فذاك عند القائلين به يرجع إلى صفات تقوم بالأفعال، فلا يفتقر إلى ثبوت الكلام. وليس المقصود بيان هذا، وإنما المقصود قولهم: ورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت الصدق (¬3) إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه، وذلك هو التدبير والخبر، فقد جعلوا العلم مستلزمًا للكلام بنوعية الخبر الصدق (¬4) والتدبير الَّذي هو الطلب، وهذا إلى التحقيق أقرب من غيره، فإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور اجتماع العلم والكذب النفساني؟. فإن قيل: لا ريب أن هذا تناقض منهم في الشيء الواحد المعين، بإثباته تارة وجعله كلامًا محققًا، ونفيه أخرى ونفي تسميته كلامًا محققًا -إذا قدر وجوده- لكن التناقض يدل على بطلان أحد القولين المتناقضين ¬
الوجه السابع عشر: أن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله
غير معين، فقد يكون الباطل ما ادعوه من استلزام العلم للصدق النفساني ومنافاته للكذب، دون ما ذكروه من إمكان اجتماعهما وعدم استلزامه للصدق. قيل: نقول في الجواب عن هذا وهو: الوجه السابع عشر: إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقًا أو كذبًا، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلّا وهو كذب، فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذبًا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرًا باطلًا خلاف مقصودهم، وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لم (¬1) يثبت لله كلامًا لازمًا لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفساني صدق (¬2) غير العلم ونحوه لا شاهدًا ولا غائبًا، فإن خبر الله لا ينفك عن العلم، وإذا امتنع إثبات ما ادعوه (¬3) من الخبر امتنع حينئذ وصفه بكونه صدقًا، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف محال، فعلم أن الطريقة التي سلكوها في إثبات صدق الخبر تبطل (¬4) عليهم إثبات أصل الخبر النفساني، فلا يثبت حينئذ لا خبر نفساني ولا صدقه، والطريقة التي سلكوها في إثبات الكلام النفساني، إنما يثبت بها -لو قدر صحتها- خبر هو كذب، وذلك ممتنع ¬
الوجه الثامن عشر: أنهم أثبتوا للخبر معنى ليس هو العلم وبابه
في حقه (¬1)، فعلم أنهم مع التناقض لم يثبتوا لا (¬2) الكلام النفساني ولا صدقه، فلم يثبتوا واحدًا من المتناقضين. فإن قيل: كيف يخلو الأمر عن النقيضين ويمكن رفعهما جميعًا؟ قيل: هذا لا يمكن في الحقائق الثابتة (¬3)، ولكن يمكن في المقدرات الممتنعة، فإن من فرض تقديرًا ممتنعًا لزمه اجتماع النقيضين وانتفاؤهما (¬4)، وذلك محال، لأنه لازم للمحال الَّذي قدره، وهذا دليل آخر وهو: الوجه الثامن عشر: وهو أنهم أثبتوا للخبر معنى ليس هو العلم وبابه، فهذا إثبات أمر ممتنع، وإذا كان ممتنعًا من صفة بأنه صدق أو كذب ممتنع - أيضًا إذ (¬5) لا حقيقة له، فقولهم بعد هذا: العلم يستلزم الصدق منه وينافي الكذب، وإن كان يناقض قولهم: العلم لا يستلزم الصدق ولا ينافي الكذب، فهذان النقيضان كلاهما منتف، لأن كليهما (¬6) إنما يلزم على تقدير ثبوت معنى للخبر ليس هو العلم وبابه، فإذا كان ذلك تقديرًا باطلًا ممتنعًا كان ما يلزمه من نفي أو إثبات قد يكون باطلًا، إذ حاصله لزوم [اجتماع] (¬7) النقيضين، ولزوم (¬8) الخلو عن النقيضين على هذا التقدير وهذه اللوازم تدل على فساد الملزوم الَّذي هو معنى للخبر ليس هو العلم ونحوه، ¬
ولهذا يجعل فساد اللوازم دليلًا على فساد الملزوم، وإذا أريد تحرير الدليل بهذا الوجه قيل: لو كان للخبر معنى ليس هو العلم ونحوه، فإما أن يكون العلم مستلزمًا لصدقه أو لا يكون، فإن كان مستلزمًا لصدقه لم يعلم حينئذ أنَّه غير العلم، إذ لا دليل على ذلك إلا إمكان تقدير الكذب مع العلم، إذا كان العلم مستلزمًا للصدق النفساني منافيًا للكذب النفساني كان هذا التقدير ممتنعًا، فلا يعلم حينئذ بثبوت معنى للخبر (¬1) غير العلم، لا في حق الخالق ولا في حق العباد، فيكون قائل ذلك قائلًا بلا علم ولا دليل أصلًا في باب كلام الله وخبره، وهذا محرم بالاتفاق، وهذا بعينه يبطل ببطلان قولهم - أي: أنهم قالوا بلا حجة أصلًا. وإن لم يكن العلم مستلزمًا للصدق النفساني ولا منافيًا للكذب النفساني لم يكن لهم طريق إلى إثبات كلام نفساني هو الصدق (¬2)، لأن العلم لا يستلزمه ولا ينافي ضده، فلا يستدل عليه بالعلم وسائر ما يذكر غير العلم فيدل على أن الله صادق في الجملة وأن الكذب ممتنع عليه، وهذا مما لا نزاع بين الناس فيه، لكنهم (¬3) لا يمكنهم إثبات كلام نفساني هو صدق، وقيام دليل على أن الله صادق كقيام دليل على أن الله متكلم، وهذا لا ينفعهم في إثبات (¬4) الكلام النفساني الَّذي ادعوه منفردين به، فكذلك هذا لا ينفعهم في إثبات معنى الخبر النفساني الصادق، الَّذي انفردوا بإثباته من بين فرق الأمة وابتدعوه، وفارقوا به جماعة المسلمين كما أقروا هم بهذا الشذوذ والانفراد، كما ذكره في المحصول (¬5). ¬
الوجه التاسع عشر: أن قولهم: إن العلم ينافي الكذب النفساني هو الصواب دون قولهم: إنه قد يجامع الكذب النفساني
الوجه التاسع عشر: هو متضمن للجواب عما ذكرناه من السؤال عن أن المتناقضين لا يعين (¬1) الصادق، وهو أن نقول (¬2): لا ريب أن قولهم: إن العلم ينافي الكذب النفساني هو الصواب، دون قولهم: إنه قد يجامع الكذب النفساني، وإن لم يكن العلم مستلزمًا لخبر نفساني صدق، وهذا أمر يجده المرء من نفسه ويعلمه بالضرورة أن ما (¬3) علمه لم (¬4) يمكن أن يقوم بنفسه خبر ينافي ذلك، بل لو كلف ذلك كلف الجمع بين النقيضين، ولهذا لم يتنازع الناس في أنَّه يمتنع تكليف الإنسان أن يعتقد خلاف ما يعلمه، ولو كان في الإمكان خبر نفساني ينافي العلم لأمكن أن يطلب ذلك من الإنسان، فإنه يمكن أن يطلب منه كل ما يقدر عليه (¬5) سواء قيل إن ذلك جائز في الشريعة أو لم يمكن، كما أن طلب الكذب ممكن والتكليف به ممكن (¬6)، وأما طلب كذب نفساني يخالف العلم، فهذا مما ¬
الوجه العشرون: أن الإنسان قد يخبر بما لا يعلمه ولا يظنه وما يعلم أو يظن خلافه
لا يمكن طلبه والتكليف به، إذ (¬1) هو أمر لا حقيقة له. فتبين أن قولهم: إن الجحد إنما يتصور من العالم (¬2) بالشيء في العبارة باللسان دون [القلب. وصاحب] (¬3) الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب، فلا يصح الجحد بالقلب، هو أصدق من قولهم: العالم بالشيء قد يقوم بقلبه كذب نفساني ينافي علمه، وإذا كان كذلك بطل ما احتجوا به على إثبات الخبر النفساني الَّذي ادعوه وراء العلم، وهو المقصود. الوجه العشرون: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يخبر بما لا يعلمه ولا يظنه، وبما يعلم أو يظن خلافه، ولا ريب أن هذا الخبر له معنى يقوم بنفسه وراء العلم، ولهذا يمكن تقدير هذا المعنى قبل تقدير العبارة عنه، فضلًا عن وجود التعبير عنه، فإن من يريد أن يخبر بخلاف علمه ويعتقد ذلك، يقدره ويصوره في نفسه قبل التعبير عنه، ويدل على ذلك أن الكذب لفظ ¬
له معنى، كما أن الصدق لفظ له معنى، ولو (¬1) كان لفظًا لا معنى له في النفس لكان بمنزلة الأصوات والألفاظ المهملة، وليس الأمر كذلك، لكن يقال: هذا لا يخرجه عن أن يكون من جنس الاعتقاد الَّذي يكون من جنس العلم والجهل المركب، فإن المعتقد بالشيء (¬2) بخلاف ما هو به، لا ريب أن هذا (¬3) ليس بعالم به وإن اعتقد أنَّه عالم به، فالكذب من هذا الجنس، لكن الكذب يعلم صاحبه أنَّه باطل، والجهل المركب لا يعلم صاحبه أنَّه باطل، ومعلوم أن الاعتقادات في كونها (¬4) حقًّا أو باطلًا أو معلومة أو مجهولة، لا يخرج عن الاشتراك في مسمى الاعتقاد والخبر النفساني، كما لا تخرج العبارة عنها بكونها حقًّا أو باطلًا أو معلومة أو مجهولة، من أن تكون (¬5) لفظًا وعبارة وكلامًا، فإذا كانت العبارات على اختلاف أنواعها يجمعها النطق اللساني، فالمعنى الَّذي هو الاعتقاد على اختلاف أنواعه يجمعه النطق النفساني، والخبر النفساني، وهذا كما أن الإرادة أو الطلب سواء كانت إرادة خير أو إرادة (¬6) شر، أو كان صاحبها عالمًا بحقيقة مراده وعاقبته (¬7)، أو كان جاهلًا بعاقبته (6)، فإن ذلك لا يخرجها عن الاشتراك في مسمى الإرادة أو الطلب. ¬
الوجه الحادي والعشرون: أن الله تعالى نفى عن الظالمين تكذيب القلب وأثبت الجحود
الوجه الحادي والعشرون: أنَّه تعالى قال: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬1)، فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيًا عنهم، فعلم أنَّه نفى عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد لِمَا عَلِمَه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفى عنهم تكذيب القلوب، علم أن الجحود الَّذي هو ضرب من الكذب والتكذيب بالحق المعلوم، ليس هو كذبًا في النفس ولا تكذيبًا فيها وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به، ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه. فإن قيل: العالم بالشيء العارف به قد يؤمن بذلك وقد يكفر، كما (¬2) قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتهَا أَنْفُسُهُمْ} (¬3) وذلك مثل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب، وليس كفرهم لمجرد لفظهم، فإنهم ¬
-أيضًا- قد يقولون بألسنتهم ما يعلمونه، ولا يكونون مؤمنين، مثل ما كان يقوله أبو طالب (¬1) من الإخبار بأن محمدًا رسول الله، ومثله إخبار كثير من اليهود والنصارى بعضهم لبعض برسالته (¬2)، ومع هذا فليسوا ¬
الوجه الثاني والعشرون: أن ما أخبرت به الرسل من الحق ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك
مؤمنين ولا مصدقين، ومنهم اليهود الَّذي جاوروه، وقالوا: نشهد أنك رسول الله. قيل (¬1): الجواب عن هذا هو: الوجه الثاني والعشرون: وهو أن ما أخبرت به الرسل من الحق، ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك، فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق، وكان مبغضًا له وللرسول الَّذي جاء به ولمن أرسله، معاديًا لذلك، مستكبرًا عليهم، ممتنعًا عن الانقياد لذلك الحق، لم يكن هذا مؤمنًا مثابًا في الآخرة باتفاق المسلمين، مع تنازعهم الكثير في مسمى الإيمان ولهذا لم يختلفوا في كفر إبليس مع أنَّه كان عالمًا عارفًا، بل لا بد في الإيمان من علم في القلب، وعمل في القلب - أيضًا، ولهذا كان عامة أئمة المرجئة الذين يجعلون الإيمان مجرد ما في القلب، أو ما في القلب واللسان، يدخلون في ذلك محبة القلب وخضوعه للحق، لا يجعلون ذلك مجرد علم القلب، ولفظ التصديق يتناول العلم الَّذي في القلب، ويتناول -أيضًا- ذلك العمل في القلب الَّذي هو موجب العلم ومقتضاه، فإنه يقال: صدق ¬
علمه بعمله، وذلك لأن وجود العلم مستلزم لوجود هذا العمل الَّذي في القلب، الَّذي هو إسلام القلب بمحبته وخشوعه، فإذا عدم مقتضى العلم فإنه قد يزول العلم (¬1) من القلب بالكلية، ويطبع على القلب حتَّى يصير منكرًا لما عرفه، جاهلًا بما كان يعلمه، وهذا العلم وهذا العمل (¬2) كلاهما يكون من معاني الألفاظ. فلفظ الشهادة والإقرار والإيمان والتصديق ينتظم (¬3) هذا (¬4) كله، لكن لفظ الخبر والنبأ ونحو ذلك هو العلم، وإن استلزم هذا الأعمال فهو كما يستلزم العلم لذلك، فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا بمؤمنين: محمد (¬5) رسول الله، كقول (¬6) أولئك اليهود وغيرهم، فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الَّذي قال الله فيه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬7) لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لا بد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الَّذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنَّه لا بد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد وأصل الطاعة (¬8)، فهؤلاء الذين يعلمون الحق الَّذي بعث الله به رسوله - ولا يؤمنون به ويقرون به، يوصفون بأنهم كفار وبأنهم جاحدون، ويوصفون بأنهم مكذبون بألسنتهم، وأنهم يقولون بألسنتهم ¬
خلاف ما في قلوبهم، وقد أخبر الله في كتابه أنهم ليسوا بمكذبين بما علموه، أي: مكذبين بقلوبهم وإن لم يكونوا مؤمنين مقرين مصدقين إذ (¬1) العبد يخلو في الشيء الواحد عن التصديق والتكذيب، والكفر أعم من التكذيب، فكل من كذب الرسول كافر وليس كل كافر مكذبًا، بل من يعلم (¬2) صدقه ويقر به، وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر (¬3)، ومن (¬4) أعرض فليس (¬5) يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر، وليس بمكذب، وكذلك العالم بالشيء قد يخلو عن التكذيب به (¬6) عن التصديق به الَّذي هو مستلزم لعمل القلب، وإن لم يخل (¬7) عن التصديق الَّذي هو مجرد علم القلب. فأما أن يقوم بالقلب تصديق قولي غير العلم فهذا الَّذي ادعاه هؤلاء الشذاذ عن الجماعة، وهو مورد النزاع. ولهذا قال الجنيد بن محمد (¬8): "التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب" (¬9). ¬
الوجه الثالث والعشرون: أن يقال: لا ريب أن النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق والقول
وقال الحسن البصري (¬1): "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقه العمل" (¬2). وقال الحسن -أيضًا-: "ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر (¬3)، ويناطقون القلوب حتَّى نطقت، فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالحكمة، وأورثت العلم" (¬4). الوجه الثالث والعشرون: أن يقال: لاريب أن النفس الَّذي هو القلب يوصف بالنطق والقول، كما يوصف بذلك اللسان، وإن كان القول والنطق عند الإطلاق يتناول مجموع الأمرين، ولهذا كان من جعل النطق والقول هولما في اللسان فقط بمنزلة من جعله (¬5) لما في القلب فقط، ومن جعل اللفظ مشتركا بينهما فقد جمع البعيدين، بل أثبت النقيضين، فإنه يجعل اللفظ الشامل لهما مانعًا من كل منهما، فإنه إذا قال: أريد به هذا وحده، أو هذا وحده، مع أن اللفظ أريد به كلاهما كان نافيًا لكل منهما في حال ¬
إثبات اللفظ له، وإنما اللفظ المطلق من القول والنطق والكلام ونحو ذلك يتناولهما جميعًا، كما أن لفظ الإنسان يتناول الروح والبدن جميعًا، وإن كان أحدهما قد يسمى بالاسم مفردًا، ومن لم يسلك هذا المسلك انهالت (¬1) عليه الحجج لما نفاه من الحق، فإن دلالة الأدلة الشرعية واللغوية والعرفية على شمول الاسم لهما، وعلى تسمية أحدهما به أكثر من أن تحصر. لكن هذا النطق والكلام الَّذي هو معنى الخبر القائم بالنفس هل هو شيء مخالف للعلم (¬2) ممكن أن يكون ضدًّا له؟ أو هو هو؟ أو هو مستلزم (¬3) له؟ فدعوى إمكان مضادته للعلم (¬4) مما يحس الإنسان بنفسه (¬5) خلافه، ودعوى مغايرته للعلم -أيضًا- فإن الإنسان لا يحس من نفسه بنسبتين جازمتين كل منهما يتناول المفردين أحدهما علم والأخرى غير العلم (¬6). ولهذا لم يتنازع في ذلك لا المسلمون (¬7) ولا من قبلهم من الأمم، حتَّى أهل المنطق الذين يثبتون نطق النفس ويسمونها النفس الناطقة هم عند التحقيق يردون ذلك إلى العلم والتمييز (¬8). ولهذا لما أراد حاذق الأشعرية المستأخرين أبو الحسن الآمدي (¬9) ¬
حد العلم عند الآمدي
أن يحد العلم بعد أن تعقب حدود الناس بالإبطال (¬1)، ورد قول من زعم أنَّه غني عن الحد (¬2)، وأنه (¬3) يعرف بالتقسيم والتمثيل. قال (¬4): هو صفة جازمة قائمة بالنفس يوجب لمن قام به ¬
تمييزًا (¬1). ومعلوم أنَّه إذا (¬2) كان في النفس معنى للخبر غير العلم فهذا الحد منطبق عليه، ولهذا لما قسم الأولون والآخرون العلم إلى تصور وتصديق (¬3) وجعلوا التصور هو العلم بالمفردات الَّذي هو مجرد تصورها، والتصديق العلم بالمركبات الخبرية من النفي والإثبات، فسموا العلم بذلك تصديقًا (¬4) وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق، ولو كان في النفس تصديق لتلك القضايا الخبرية ليس هو العلم، لوجب الفرق بين العلم بها وتصديقها ولا ريب أن هذا العلم والتصديق قد يعتقده الإنسان، فيعقله ويضبطه ويلتزم موجبه، وقد لا يعتقده ولا يعقله ¬
الوجه الرابع والعشرون: أن ما ذكروه في إثبات معنى الأمر والخبر ليس هو العلم ولا الإرادة
و [لا] (1) يضبطه و [لا] (¬1) يلتزم موجبه، فالأول هو المؤمن، والثاني هو الكافر - إذا كان ذلك فيما جاءت به الرسل عن الله ليس كل من علم شيئًا عقله واعتقده، أي: ضبطه وأمسكه والتزم موجبه، كما أنَّه ليس كل من اعتقد شيئًا كان عالمًا به، فلفظ العقد والاعتقاد شبيه بلفظ العقل والاعتقال، ومعنى كل منهما يجامع (¬2) العلم تارة، ويفارقه أخرى، فمن هنا قد يتوهم أن في النفس خبرًا غير العلم، ولفظ العقد والعقل لما كان جاريًا على من يمسك العلم فيعيه (¬3)، ويحفظه تارة ويعمل بموجبه كان مشعرًا بأنه يوصف بذلك تارة، وبضده تارة، وهو الخروج عن العلم وعن موجبه، وقد يستعمل اللفظ فيمن يمسك بما ليس بعلم (¬4)، ومن هذين الوجهين امتنع أن يوصف الله بالاعتقاد، فإنه - سبحانه - عالم لا يجوز أن يفارقه علمه، ولا يعتقد ما ليس بعلم، فوصفه به يدل على جواز وصفه بضد العلم، ولفظ الفقه ولفظ الفهم كلاهما يستلزم علمًا مسبوقًا بعدمه، وهذا في حق الله ممتنع. الوجه الرابع والعشرون: أن ما ذكروه في إثبات أن معنى الأمر والخبر ليس هو العلم ولا الإرادة، وما يتبع ذلك من ضرب المثل بأمر الامتحان وخبر الكاذب. يقال في ذلك: لا ريب أن الكاذب المخبر يقدر في نفسه الشيء على خلاف ما هو به، ويخبر به بلسانه، لكن ذلك المقدر هو تقدير العلم، فإن الخبر الصدق الَّذي يعلم صاحبه أنَّه صدق لما كان معناه العلم ¬
المطابق للخارج، فالمخبر الكاذب الَّذي يعلم أنَّه كاذب قدر في نفسه تقديرًا مضاهيًا للعلم، فإن تقدير الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا في الأذهان واللسان أكثر من أن تحصر (¬1)، فمعنى خبره هو علم مقدر لا علم محقق أن (¬2) مخبر الخبر في الخارج وجود مقدر لا وجود محقق، والمقدر ليس بمحقق لا في الذهن ولا في الخارج، لكن لما قدر هو أنَّه عالم قدر -أيضًا- وجود المخبر في الخارج، والمستمع لما اعتقد صدقه وحسب أنَّه صادق (¬3) وأن لما قاله حقيقة، لم يظنه مقدرًا بل حسبه محققًا، وكل اعتقاد فاسد تقديرات (¬4) ذهنية لا حقيقة لها في الخارج، وهي أخبار واعتقادات وإن لم تكن علومًا (¬5)، لكن هي في الصورة من جنس المحقق، كما أن لفظ الكاذب من جنس لفظ الصادق، وخطه من جنس خطه، فهما متشابهان في الدلالة خطًا ولفظًا وعقدًا. فكذلك أمر الممتحن، هو في الحقيقة ليس بطالب ولا مريدٍ أصلًا، بل هو مقدر لكونه طالبًا مريدًا، لأنه يظهر بتقدير ذلك من طاعة المأمور وامتثاله ما يظهر بتحقيقه، ثم إظهار ذلك هو من باب المعاريض قد يجوز ذلك، وقد لا يجوز، مثل أن يفهم المتكلم للمستمع معنى لم يرده المتكلم، واللفظ قد يدل عليه بوجه ولا يدل عليه بوجه، فمعناه في نفسه هو الَّذي لا يفهمه المستمع، ومفهوم المستمع شيء آخر، وكذلك الممتحن مدلول الصيغة في نفسه طلب مقدر (¬6) وإرادة مقدرة، وبالنسبة ¬
الوجه الخامس والعشرون: أن يقال لهم: أنتم قررتم أن اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى دقيق لا يدركه إلا الخواص
إلى المستمع طلب محقق وإرادة محققة، إذا لم يعلم باطن (¬1) الأمر، وكذلك مدلول الصيغة عند الكذاب هو ما اختلقه، والاختلاق: هو التقدير، وهو ما قدره في ذهنه مما ليس له حقيقة، وعند المستمع هو ما يجب أن يعنى باللفظ من المعاني المحققة. الوجه الخامس والعشرون: أن يقال لهم: أنتم قررتم في أصول الفقه (¬2) أن اللفظ المشهور الَّذي تتداوله الخاصة والعامة، لا يجوز أن يكون موضوعًا لمعنى دقيق لا يدركه إلّا خواص الناس، وهذا حق، وذلك لأن تكلم الناس باللفظ الَّذي له معنى يدل على اشتراكهم في فهم ذلك المعنى خطابًا وسماعًا، فإذا كان ذلك المعنى لا يفهمه إلّا بعض الناس بدقيق الفكرة، امتنع أن يكون ذلك المعنى هو المراد بذلك اللفظ، لأن معنى ذلك اللفظ يعرفه العامة والخاصة بدون فكرة دقيقة، وقد مثلوا ذلك بلفظ الحركة، هل هو (¬3) اسم لكون الجسم متحركًا؟ أو لمعنى يوجب كونه متحركًا؟ وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن أظهر الأسماء ومسمياتها هو اسم (¬4) القول والكلام والنطق، وما يتفرع من ذلك كالأمر والنهي والخبر والاستخبار، إذ أظهر صفات الإنسان هو النطق، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ¬
مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (¬1)، والألفاظ الدالة على هذه المعاني من أشهر الألفاظ، ومعانيها من أظهر المعاني في قلوب العامة والخاصة. والمعنى الَّذي يقولون: إنه هو الكلام (¬2)، إما أن يكون باطلًا لا حقيقة له وراء العلم والإرادة واللفظ الدال عليهما، أو يكون له حقيقة، فإن لم تكن له حقيقة بطل قولكم بالكلية، وإن كانت له حقيقة فلا ريب أنها حقيقة مشتبهة متنازع فيها نزاعًا عظيمًا (¬3)، وأكثر طوائف أهل القبلة وغيرهم لا يعرفونها، ولا يقرون (¬4) بها، وإذا أثبتموها إنما تثبتونها بأدلة خفية (¬5) بل قد يعترفون أن معرفة هذه الحقيقة في الشاهد غير ممكن، ولكن يدعون ثبوتها في الغائب، وإذا كان كذلك فمن الممتنع ¬
الوجه السادس والعشرون: أن ثبوت كلام الله بالأمر والنهي والخبر أثبتموه بالإجماع والنقل المتواتر عن الأنبياء
أن يكون ذلك هو المراد من لفظ الكلام والقول والأمر والنهي، الَّذي لفظه ومعناه من أشهر المعارف عند العامة والخاصة، فعلم أن الَّذي قلتموه باطل بلا ريب. الوجه السادس والعشرون: أن ثبوت الكلام لله بالأمر والنهي والخبر أثبتموه (¬1) بالإجماع، والنقل المتواتر (¬2) عن الأنبياء -عليهم السلام- ومن المعلوم أن هذا المعنى الَّذي (¬3) ادعيتم أنَّه معنى كلام الله، لم يظهر في الأمة إلّا من حين حدوث ابن كلاب ثم الأشعري بعده، إذ قبل (¬4) [قول] (¬5) ابن كلاب لا (¬6) يعرف في الأمة أحد فسر كلام الله بهذا. ولهذا لما ذكر الأشعري اختلاف الناس في القرآن، وذكر أقوالًا كثيرة (¬7) فلم يذكر هذا القول إلّا عن ابن كلاب، وجعل له ترجمة فقال (¬8): هذا قول عبد الله بن كلاب. قال عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلمًا، وإن كلام الله صفة ¬
له قائمة به، وإنه قديم بكلامه، وإن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وهو قديم بعلمه وقدرته، وإن الكلام ليس بحرف (¬1) ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وإنه معنى واحد (¬2) بالله تعالى، وإن الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القارئ (¬3)، وإنه خطأ (¬4) أن يقال: إن كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره، وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير [وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله مختلف ومتغاير] (¬5) والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيًّا، لأن الرسم الَّذي هو العبارة عنه -وهو قراءته- عربي فسمي عربيًّا لعلة، وكذلك سمي عبرانيًّا لعلة (¬6)، وكذلك سمي أمرًا لعلة، وسمي نهيًا لعلة، وخبرًا لعلة، ولم يزل الله متكلمًا قبل أن يسمي كلامه أمرًا، وقبل وجود العلة التي بها (¬7) سمى الله (¬8) كلامه أمرًا، وكذلك القول في تسميته نهيًا (¬9) وخبرًا، وأنكر أن يكون البارئ لم يزل مخبرًا ولم يزل ناهيًا". ثم يقال: ولو قدر أنَّه لم يحدثه، فلا ريب أنَّه (¬10) معنى خفي مشكل متنازع في وجوده، وإنما يتصور وجوده بالأدلة الخفية، وإذا كان ¬
الذي انعقد عليه الإجماع ونقله أهل التواتر عن المرسلين هو الكلام الذي تسميه الخاصة والعامة كلاما دون هذا المعنى
كذلك فالذين نقلوا عن الأنبياء - عليهم السلام - أن الله يتكلم ويأمر وينهى، والذين أجمعوا على ذلك، إذا لم يذكر أحد منهم أنَّه أراد هذا المعنى الخفي المشكل الَّذي ليس يتصور بحال، أو لا يتصور إلا بشدة عظيمة، لم يجز أن يقال: إنهم كانوا متفقين على نقل هذا المعنى والإجماع عليه، ولم يجز أن يقال: إنهم أجمعوا على ثبوت معنى لا يفهمونه، ونقلوا عن الأنبياء -عليهم السلام- أن الله تعالى يتكلم ويقول، وهم لا يفهمون معنى لفظ الكلام والقول، فإن هذا -أيضًا- معلوم الفساد بالضرورة. وإذا بطل القسمان (¬1)، علم أن الَّذي انعقد عليه الإجماع، ونقله أهل التواتر عن المرسلين، هو الكلام الَّذي تسميه الخاصة والعامة كلامًا، دون هذا المعنى، والله - سبحانه - أعلم. وهذا بين واضح يدل على فساد مذهب المخالف، وعلى صحة مذهب أهل السنة، وبمثل هذا الوجه - يبطل -أيضًا- مذهب الجهمية من المعتزلة (¬2) ونحوهم، فإن كون الكلام يكون منفصلًا عن المتكلم قائمًا بغيره، مما لا تعرف العامة والخاصة أنَّه يكون كلامًا للمتكلم، وإن أثبت ذلك فإنما يثبت بأدلة خفية (¬3) مشكلة. وإذا كان أهل التواتر نقلوا أن الله تكلم بالقرآن، وأجمع المسلمون ¬
الوجه السابع والعشرون: أنه قد اشتهر عن العامة والخاصة اتفاق السلف على أن القرآن كلام الله
على ذلك، ولم يجز إرادة هذا المعنى، علم أن التواتر (¬1) والإجماع إنما هو على المعنى المعروف، وهو: أنَّه - سبحانه - تكلم بالقرآن كله حروفه ومعانيه، وإن المتكلم لا بد أن يقوم به كلامه وإن كان يتكلم (¬2) إذا شاء. الوجه السابع والعشرون: أن يقال: لا ريب أنَّه قد اشتهر عند العامة والخاصة اتفاق السلف على أن القرآن كلام الله، وأنهم أنكروا على من جعله مخلوقًا خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات من السماء والأرض، كما يقوله الجهمية، حتَّى قال علي بن عاصم (¬3) لرجل: أتدري ما يريدون بقولهم القرآن مخلوق؟ يريدون أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لا يتكلم، وما الذين قالوا: إن لله ولدًا بأكفر من الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، لأن الذين قالوا لله [ولد] (¬4) شبهوه بالأحياء، والذين قالوا: لا يتكلم شبهوه بالجمادات. وأنتم فلا ريب كلما (¬5) يقول هؤلاء: إنه مخلوق، تقولون (¬6): إنه مخلوق لا تنازعونهم (¬7) في أن الكلام الَّذي يقولون هو مخلوق تقولون (¬8) أنتم -أيضًا- إنه مخلوق، فالذي قال هؤلاء إنه مخلوق إما أن يكون مخلوقًا أو لا يكون فإن لم يكن مخلوقًا كنتم أنتم وهم ضالين، حيث ¬
حكمتم (¬1) بخلقه، وإن كان مخلوقًا لم يجز ذم من قال: إنه مخلوق ولا عيبه (¬2) بذلك، ولا يقال: إنه جعل كلام الله الَّذي ليس بمخلوق مخلوقًا، ولا إنه جعل كلام الله في المخلوق، ولا إنه جعل الشجرة هي القائلة: إنني أنا الله، ونحو ذلك من الأقوال التي وصف بها السلف مذهب الجهمية، كما قال عبد الله بن المبارك (¬3): "من قال: إنني (¬4) أنا الله لا إله إلَّا أنا مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك". وقال سليمان بن داود الهاشمي (¬5): "من قال إن (¬6) القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقًا كما زعموا، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (¬7). وزعموا (¬8) أن هذا مخلوق، و [الَّذي] (¬9) قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬10) [هذا أيضًا] (¬11) قد (¬12) ادعى ما ¬
ادعى (¬1) فرعون، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما (¬2) عنده مخلوق، ووافقه أبو عبيد (¬3) على مثل هذا (¬4) واستحسنه [وأعجبه] (¬5). وغاية ما يعاب به عندكم أنَّه نفي عن الله معنى آخر يثبتونه (¬6) له، وذاك (¬7) المعنى أكثر الناس لا يتصورونه، لا المعتزلة (¬8) ولا غيرهم، فضلًا عن أن يحكموا عليه بأنه مخلوق، وذلك المعنى لا يتصور أن يقوم بالشجرة ولا غيرها، حتَّى تكون الشجرة هي القائلة له، والسلف لم يعيبوهم (¬9) بهذا، ولا قالوا لهم ما ذكرتم أنَّه مخلوق، فهو مخلوق لكن ثم (¬10) معنى آخر ليس بمخلوق، ولا قالوا هذا الَّذي قلتم إنه مخلوق، ¬
الوجه الثامن والعشرون: أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث
هو مخلوق لكنه ليس هو بكلام الله، ولا نحو ذلك، فإن كان هذا الَّذي قالوا هو مخلوق، هو مخلوق كما قالوا، ليس هو كلام الله وإنما كلام (¬1) الله معنى آخر، فلا ريب أن السلف مخطئون ضالون في هذه المسألة، فأحد الأمرين لازم، إما تضليلكم والمعتزلة، أو تضليل السلف، والثاني ممتنع فتعين (¬2) الأول يؤيد هذا. الوجه الثامن والعشرون: وهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين: لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث (¬3)، فإذا لم يكن في صدر الأمة إلّا قول السلف وقول المعتزلة، تعين أن (¬4) يكون الحق في أحد القولين، ومن المعلوم بالشرع والعقل أن قول المعتزلة باطل للوجوه (¬5) الكثيرة منها: أن من تأمل كلام أهل الإجماع، وما نقل عن الأنبياء بالتواتر، علم بالاضطرار أنهم [إذا] (¬6) وصفوا الله بالكلام وصفوه بأنه هو يتكلم، لا أن الكلام يكون مخلوقًا له كالسماء والأرض وما فيهما، كما يقولون: كلام الله مثل أسماء الله، ويعلم باضطرار أن إضافة القول والكلام إلى الله ¬
الوجه التاسع والعشرون: أن السلف والمعتزلة جميعا اتفقوا على أن كلام الله ليس هو مجرد هذا المعنى الذي أثبتموه
ليس كإضافة الخلق إليه، وأن باب "قال" عند الأنبياء والمؤمنين غير باب "خلق"، وبطلان قول المعتزلة له موضع غير هذا، وإذا كان باطلًا، وقولهم -أيضًا- باطل (¬1)، تعين صحة مذهب السلف يؤكد (¬2) هذا. الوجه التاسع والعشرون: وهو أن السلف والمعتزلة جميعًا اتفقوا على أن كلام الله ليس هو مجرد هذا المعنى الَّذي تثبتونه أنتم، بل الَّذي سمته المعتزلة كلام الله وقالوا: إنه مخلوق، وافقهم السلف على أنَّه كلام الله، لكن قالوا: إنه غير مخلوق، وأنتم تقولون: إنه ليس بكلام الله، فكان قولك خرقًا لإجماع السلف والمعتزلة، وذلك خرق (¬3) لإجماع الأمة جميعها، إذ (¬4) لم يكن في عصر السلف إلّا هذان القائلان، ولم يكن في ذلك الزمان من يقول: إن القرآن الَّذي قالت المعتزلة: إنه مخلوق ليس هو كلام الله (¬5). ¬
الوجه الثلاثون: أنه لا يحل لكم أن تحكوا عن المعتزلة أنهم قالوا: بخلق القرآن وبخلق كلام الله
الوجه الثلاثون: إنه لا يحل لكم أن تحكوا (¬1) عن المعتزلة أنهم قالوا بخلق القرآن، وبخلق كلام الله، كما يحكيه عنهم السلف وأئمة الحديث والسنة، وكما يقولون هم ذلك، وإن حكيتم ذلك عنهم فلا يحل لكم أن تذموهم بذلك كما ذموهم (¬2) السلف به، بل تمدحونهم بذلك كما يمدحون بذلك أنفسهم، فلا بد لكم من مخالفة السلف والمعتزلة جميعًا، أو مخالفة السلف وموافقة المعتزلة، وذلك لأن الَّذي قالت المعتزلة: إنه مخلوق، وأنتم تقولون: إنه مخلوق -أيضًا-، وذلك واجب عندكم، ومن قال عن ذلك إنه ليس بمخلوق فهو ضال عندكم أو كافر، ثم المعتزلة تسميه كلام الله وتقول كلام الله مخلوق، والسلف تسميه كلام الله وتقول (¬3) هو غير مخلوق، وأما أنتم فمع قولكم إنه مخلوق هل يطلق عليه كلام (¬4) الله ¬
مجازًا وتنفي (¬1) الحقيقة، كمأ قاله جمهوركم؟ أو يقال: بل سمي كلام الله على الاشتراك بينه وبين غيره كما قاله بعضكم؟ على قولين (¬2): فإن قلتم بالأول: لزمكم أن لا تكون المعتزلة تعتقد في الحقيقة أن كلام الله مخلوق بحال، وإن تلفظوا بذلك بألسنتهم فهم مخطئون في هذا اللفظ، وهم بمنزلة من قال: إني زنيت بأمي، أو قتلت نبيًّا، ولم يكن المزني بها أمه، ولا المقتول نبيًّا، فهو مخطئ في هذا الظن فيما يحكيه عن نفسه، لكن هذا القول يظن القائل أنَّه به مذموم، والمعتزلة لا تذم أنفسها (¬3)، وإن كانت الجماعة تذمهم بذلك، فنظير ذلك أن يعتقد بعض الكفار أنَّه قد قتل إمام المسلمين، أو أخذ كتابًا فمزقه يظن أنَّه المصحف، أو قتل أقوامًا يظنهم (¬4) علماء المسلمين، وهو عند نفسه متدين بذلك، ولم يكن الأمر كذلك، وهكذا هم المعتزلة عندكم، فإنهم قالوا في الَّذي اعتقدوا أنَّه كلام الله: إنه مخلوق، فقلتم أنتم لا ريب أنَّه مخلوق كما لا ريب في قتل أولئك النفر وتمزيق ذلك ¬
الوجه الحادي والثلاثون: أن هذا النقل عنهم إذا قيل إنه صحيح إما باعتبار المجاز واحد الحقيقتين، أو بإعتبار قصدهم فإنهم لا يذمون على القول بخلق ذلك عندهم
الكتاب، لكن هذا ليس كلام الله وإن اعتقدتم أنَّه كلام الله، وأن القول بخلقه تعظيم لله، كما اعتقد أولئك أن هؤلاء أئمة المسلمين وأن قتلهم عبادة لله، وأن هذا المصحف هو القرآن وتمزيقه عبادة لله، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقال: إن هؤلاء قتلوا أئمة المسلمين، ولا مزقوا المصحف، وإن كانوا قصدوا ذلك واعتقدوه، فكذلك لا يجوز على أصلكم أن يقال: إن المعتزلة قالت: إن كلام الله مخلوق، وإن كانوا هم قصدوا ذلك واعتقدوه، فإن الَّذي قالوا (¬1): إنه مخلوق إن كان مجازًا فلم يحكموا على ما هو كلام الله في الحقيقة بأنه مخلوق. [وإن كان مشتركًا فهم إنما قالوا: إنه مخلوق] (¬2) بأحد المعنيين دون [الآخر، واللفظ المشترك لا يجوز إطلاقه بـ[إرادة] (¬3) أحد المعنيين] (¬4) بل هو عند الإطلاق مجمل، فلا يقال على هذا القول بأنهم قالوا: كلام الله مخلوق، ولا قالوا: إنه غير مخلوق، وهذا كله خلاف إجماع السلف والمعتزلة، ولم يكن قديمًا عندهم، فهو خلاف الإجماع مطلقًا. الوجه الحادي والثلاثون: إن هذا النقل عنهم إذا قيل: إنه صحيح إما باعتبار [المجاز] (¬5) وإحدى الحقيقتين، أو باعتبار قصدهم فإنهم لا يذمون على القول بخلق ذلك عندهم، بل يحمدون على ذلك، إذ أنتم وهم متفقون على ذلك، ¬
الجهمية أعظم قدحا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء
ومن المعلوم بالاضطرار أن السلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين ذموهم على ذلك، فإذا أنتم ذامون للسلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين وأنتم عند السلف وأئمة الدين مذمومون (¬1) وأنتم بذلك من جنس الرافضة والخوارج ونحوهم ممن يقدح في سلف الأمة وأئمتها، وهذا حق فإن قول هؤلاء من فروع قول الجهمية، وقول الجهمية فيه من التنقص والسب والطعن علي السلف والأئمة، وعلى السنة ما ليس في قول الخوارج والروافض، فإن الخوارج يعظمون القرآن ويوجبون اتباعه، وإن لم يتبعوا السنن المخالفة لظاهر القرآن، وهم يقدحون في علي وعثمان ومن تولاهما، وإن لم يقدحوا في أبي بكر وعمر. وأما الجهمية فإنها لا توجب، بل لا تجوز اتباع القرآن في باب صفات الله، كما يصرحون به كالرازي (¬2) ونحوهم من المعتزلة وغيرهم فضلًا عن أن يتبعوا السنن أو إجماع السلف، فالجهمية أعظم قدحًا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء، ولهذا تنازع العلماء من أصحابنا وغيرهم (¬3)، هل هم داخلون في الثنتين ¬
والسبعين فرقة (¬1) لكن كثير من الناس يأخذ [دون ببعض قول] (¬2) الجهم، ¬
وأيضًا ففيهم من لا يكفر الأمة بخلافه ولا يستحل (¬1) السيف، وفيهم من قد بعدت عليهم الحجة وجهلوا أصل القول، وقول (¬2) الدعاة إلى الكتاب والسنة، وظهور ذلك فمن هنا كان حال فروع الجهمية قد يكون أخف من حال الخوارج، وإلا فقولهم في نفسه أخبث (¬3) من قول الخوارج بكثير، وإذا كان يونس بن عبيد (¬4) قد قال عن المعتزلة: إن فتنتهم أضر على الأمة من فتنة الأزارقة (¬5)، والمعتزلة جهمية، علم أن السلف كانوا يعلمون أن الجهمية شر من الخوارج". قال الطبراني (¬6) في كتابه السنة: "حدثنا الحسن بن علي ¬
المعمري، حدثنا محمد بن بكار العبسي، ثنا عبد العزيز الرقاشي، سمعت يونس بن عبيد يقول: فتنة المعتزلة على هذه الأمة أشد من فتنة الأزارقة، لأنهم يزعمون أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلوا، وأنهم لا تجوز شهادتهم بما أحدثوا (¬1)، ويكذبون بالشفاعة (¬2) والحوض (¬3)، ¬
أهل البدع مع القدرة يشبهون الكفار في استحلال قتل المؤمنين ومع العجز يشبهون المنافقين
وينكرون عذاب القبرر (¬1)،، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم". وفروع الجهمية لا يقبلون شهادة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رووه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يأتمون بكتاب الله، وفيهم من هو في بعض المواضع شر من المعتزلة، ولكن المعتزلة هم أصلهم في الجملة، وفي هؤلاء من لا يرى التكفير والسيف كما تراه المعتزلة والرافضة، وهو قول الخوارج، ولهذا كثيرًا (¬2) ما يكون أهل البدع، مع القدرة (¬3) يشبهون الكفار في استحلال قتل المؤمنين وتكفيرهم، كما يفعله الخوارج والرافضة والمعتزلة والجهمية وفروعهم، لكن فيهم من يقاتل بطائفة ممتنعة كالخوراج والزيدية، ومنهم من يسعى في قتل المقدور عليه من مخالفيه، إما بسلطانه، ¬
أهل السنة مع أهل البدعة على العكس
وإما بحيلته، ومع العجز يشبهون المنافقين، يستعملون التقية (¬1) والنفاق كحال المنافقين، وذلك لأن البدع مشتقة من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب، هم مع القدرة يحاربون المؤمنين، ومع العجز ينافقونهم. والمؤمن مشروع له، مع القدرة، أن يقيم دين الله -بحسب الإمكان- بالمحاربة وغيرها، ومع العجز يمسك عما عجز عنه من الانتصار، ويصبر على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة، بل يشرع له من المداراة ومن التكلم بما يكره عليه ما جعل الله له فرجًا ومخرجًا. ولهذا كان أهل السنة مع أهل البدعة بالعكس، إذا قدروا عليهم لا يعتدون عليهم بالتكفير والقتل وغير ذلك، بل يستعملون معهم العدل الَّذي أمر الله به ورسوله، كما فعل عمر بن عبد العزيز (¬2) ¬
بالحرورية (¬1) والقدرية (¬2)، وإذا جاهدوهم، فكما جاهد علي - رضي عنه - الحرورية (¬3) بعد الإعذار وإقامة الحجة (¬4)، وعامة ¬
الوجه الثاني والثلاثون: أن هذا المعنى القائم بالذات قد قال أكثرهم أنه معنى واحد وقال بعضهم خمسة معان
ما كانوا يستعملونه معهم الهجران والمنع من الأمور التي تظهر بسببها (¬1) بدعتهم، مثل ترك مخاطبتهم ومجالستهم؛ لأن هذا هو الطريق إلى خمود بدعتهم، وإذا عجزوا عنهم لم ينافقوهم، بل يصبرون على الحق الذي بعث الله به نبيه، كما كان سلف المؤمنين يفعلون، وكما أمرهم الله في كتابه، حيث أمرهم بالصبر على الحق، وأمرهم أن لا يحملهم شنآن قوم على أن لا يعدلوا (¬2). الوجه الثاني والثلاثون (¬3): أن هذا المعنى القائم بالذات الذي زعموا أنه كلام، وخالفوا في إثباته جميع فرق الإِسلام، كما يقرون هم على أنفسهم بذلك، كما ذكره ¬
الرازي وغيره (¬1) من أن إثباتهم لهذا يخالفهم فيه سائر فرق الأمة، قد قال أكثرهم: هو معنى واحد (¬2)، وقال بعضهم: هو خمسة معان: أمر، ¬
ونهي، وخبر، واستخبار، ونداء (¬1). فالأولون يقولون: ذلك المعنى هو معنى كل أمر أمرَ الله به، سواء كان أمر تكوين كقوله للمخلوق (¬2): كن فيكون، أو كان أمر تشريع، كأمره في التوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك مما جاءت به الرسل، وهو معنى كل نهي نهى الله عنه وكل خبر أخبر الله به. والآخرون يقولون: الأمر الواحد هو الأمر بالصلاة والزكاة والحج والصوم والسبت (¬3) الذي لليهود هو الأمر المنسوخ وبالناسخ وبالأقوال ¬
والأفعال والأصول والفروع وبالعربية وبالعبرانية وغير ذلك، وكذلك قولهم في النهي وكذلك قولهم في الخبر هو معنى واحد، هو معنى ما أخبر الله به من صفاته كآية الكرسي وسورة الإخلاص، وما أخبر به من قصص الأنبياء والمؤمنين والكفار، وصفة الجنة والنار. ومن المعلوم أن مجرد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده كما اتفق على ذلك سائر العقلاء، فإن أظهر المعارف للمخلوق أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسبت ليس هو الأمر بالحج، وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم، فمن جعل هذه الأمور كلها حقيقة واحدة، وجعل الأمر والنهي إنما هي صفات عارضة لتلك الحقيقة العينية، لم يجعل ذلك أقسامًا للكلام الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليًّا، إذ ليس في الخارج كلام هو أمر بالحج هو بعينه خبر عن جهنم، كما ليس في الخارج إنسان هو بعينه فصيل (¬1)، وإن شملها اسم الحيوان، كما شمل ذينك اسم الكلام، فمن جعل الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا فهو يشبه من جعل المكانين (¬2) مكانًا واحدًا حتى يجعل الجسم الواحد (¬3) يكون في مكانين ويقول: إنما هما مكان واحد، أو لا يجعل الواحد نصف الاثنين، أو يقول: الاثنان هما واحد، فإن هذا كله من هذا النمط، وهو رفع التعدد في الأشياء المتعددة وجعلها شيئًا واحدًا في ¬
الوجه الثالث والثلاثون: يقال لهم: إذا جاز أن تجعلوا الحقائق المختلفة حقيقة واحدة فهلا جعلتم الصفات حقيقة واحدة
الوجود الخارجي بالعين لا بالنوع، وهؤلاء ينكرون على من يقول: إن الكلام الذي تكلم الله به والذي يقرؤه العباد، والقرآن الذي يقرؤه زيد هو القرآن الذي يقرؤه عمرو، ويقولون: بل هما حقيقتان متباينتان (¬1). ومن المعلوم أن هناك قدرًا مشتركًا متحدًا (¬2) بالعين في الوجود الخارجي (¬3) وبينهما من الاتحاد الشرعي واتباع أحدهما للآخر [ما] (¬4) ليس بين هذه الحقائق البعيدة من الاشتراك إلا في الجنس العام الذي لا وجود له في الخارج عامًّا فضلًا عن أن يكون واحدًا بالعين، وما هناك من التعدد فأحدهما تابع للآخر فهما متحدان من وجه متغايران من وجه، ولا ينكرون على أنفسهم اتحاد الحقائق المتنوعة، وهذا (¬5) قول يعلم فساده بالضرورة كل عاقل، ولم يوافق على إطلاق القول بذلك أحد، وهناك اتفق الخلائق على أن يشيروا إلى ما يسمعونه من المبلغين، ويقولون: هذا كلام المبلغ عنه، فهذا المتفق عليه بين العباد الذي تطمئن إليه القلوب وجاءت بإطلاقه النصوص أنكروه، وذاك الذي ابتدعوه فلم يطلقه نص ولا قاله إمام ولا تصوره أحد إلا علم فساده بالبديهة قالوه، وجعلوه أصل (¬6) الدين. الوجه الثالث والثلاثون: أن يقال لهم: إذا جاز أن تجعلوا هذه الحقائق المختلفة حقيقة واحدة سواء قلتم بثبوت الحال أو نفيه، وأن كونها أمرًا ونهيًا وخبرًا، أو أمرًا بكذا ونهيًا عن كذا إنما هي أمور نسبية لها كتسمية المعنى الذي في ¬
ذكر الرازي أنه لا يجوز أن يكون الله موصوفا بصفة واحدة تفيد فائدة الصفات السبع
النفس عربيًّا وعجميًّا، ولهذا تنازع ابن كلاب والأشعري (¬1) في هذه التسمية بالأمر والنهي والخطاب هل هي حادثة عند حدوث المخاطب كما يقوله ابن كلاب أو قديمة كما يقوله الأشعري؟. فيقال لكم: هذا بعينه يقال لهم في الصفات من العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر فهلا جعلتم هذه الصفات حقيقة واحدة، وهذه الخصائص عوارض نسبه لها؟ بل جعل السمع والبصر بمعنى علم خاص أقرب إلى المعقول من جعل حقيقة معنى كل خبر حقيقة معنى كل أمر وحقائق معاني الأخبار شيء واحد، وهم قد ذكروا هذه المسألة فقال الرازي (¬2): الفصل الثالث (¬3) في أنه لا يجوز أن يكون الله موصوفًا بصفة واحدة ¬
الوجه الرابع والثلاثون: أن هؤلاء يجعلون حقيقة معنى ما أخبر الله به عن نفسه هو حقيقة معنى ما أخبر به عن الجن والجحيم
تفيد فائدة الصفات المختلفة السبعة قال (¬1): اعلم أن فساد ذلك على القول ينفي الحال (¬2) معلوم بالضرورة على ما قررناه [يعني على ما قرره في مسألة الكلام أنه يمتنع أن يكون الطلب هو الخبر] (¬3). قال: قال (¬4): وأما على القول بالحال، فالقاضي أبو بكر (¬5) عول في إبطال هذا الاجتماع (¬6) على الإجماع، وهو أن القائل قائلان: منهم من أثبتها، ومنهم من نفاها، وكل من أثبتها قال إنها صفات متعددة، فالقول بأنها صفة واحدة يكون خرقًا (¬7) للإجماع. قلت: وهذه الحجة وإن كانت صحيحة فلا يمكن طردها في الكلام، فإنه لا إجماع على أنه معنى واحد. الوجه الرابع والثلاثون: أن هؤلاء يجعلون حقيقة معنى ما أخبر الله به عن نفسه هو حقيقة معنى ما أخبر به (¬8) عن الجن والجحيم، ومن المعلوم أن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة وتطابقها، فمعنى الخبر عن الملائكة والجن (¬9) ¬
يطابق ذلك، ومعنى الخبر عن الجنة (¬1) والنار يطابق ذلك فإذا كان معنى هذا الخبر هو حقيقة معنى هذا الخبر وكلاهما مطابق لمخبره لزم أن يكون هذا المخبر هو هذا المخبر، فيلزم أن تكون الحقائق الموجودة كلها شيئًا واحدًا، فتكون الجنة هي النار والملائكة هم الشياطين، والموجود هو المعدوم، والثبوت هو الانتفاء، وفي ذلك من اجتماع النقيضين ما لا يحصى. وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه، فإن الخبر الصادق الحكم الذهني، والحكم الذهني يطابق الحقيقة الموجودة، وكل أخبار الله صادقة، فإذا كانت جميعها حقيقة واحدة ليس فيها تغاير -أصلًا- وذلك هو الحكم الذهني -لزم أن يكون هذه الحقيقة مطابقة للوجود الخارجي، بخلاف الخبر الكذب، فإنه لا يجب مطابقته (¬2) للوجود الخارجي، والحكم الواحد الذهني الذي لا تغاير فيه بوجه من الوجوه إذا طابق المحكوم به لزم أن يكون المحكوم به كذلك، وإلا لم يكن مطابقًا، وكذلك فإن الله أمر بالإيمان والصلاة والزكاة، ونهى عن الكفر والكذب والظلم، فإذا كانت (¬3) حقيقة الأمر هي حقيقة النهي وإنما لها نسبة إلى الأفعال فقط لم يكن فرق بين المأمور به والمنهي عنه [بل إذا قيل: إن المنهي عنه مأمور به والمأمور به منهي عنه] (¬4) لم يمتنع ذلك، إذا (¬5) كانت الحقيقة واحدة وإنما اختلف التعليق، والتعلق ليس له حقيقة يمنع الاختلاف، بل يمكن فرض تعلقه أمرًا كتعلقه نهيًا مع أن الحقيقة باقية، ¬
الوجه الخامس والثلاثون: أن حجتهم إذا تدبرها الإنسان علم فسادها
فيمكن على هذا تقدير المأمور به منهيًا عنه وبالعكس، ولم يتغير شيء من الحقائق. الوجه الخامس والثلاثون (¬1): أنهم قد ذكروا حجتهم على ذلك، وإذا تدبرها الإنسان علم فسادها وبناءها على أصل فاسد وتناقضهم فيها. قال الأستاذ أبو بكر بن فورك (¬2): "أمره سبحانه للمؤمنين (¬3) بالإيمان، هو نهيه عن الكفر، وأمره بالصلاة إلى بيت المقدس في وقت بعينه، هو نهيه عن الصلاة إليه في وقت غيره. قال (¬4): وكذلك نقول (¬5): إن مدحه للمؤمنين على إيمانه (¬6) بكلامه الذي هو ذم للكافرين، ولا نجيز (¬7) القول بتغاير كلامه واختلاف أنواعه، بل نقول فيه كما نقول في علمه وقدرته وسمعه وبصره، فنقول: إن علمه بوجود الموجود هو علمه بعدمه إذا عدم، وقدرته عليه قبل أن يوجده هي مقدرته عليه في حال إيجاده، ولا يقال: إنها قدرة عليه في حال بقائه، ورؤيته لآدم وهو في الجنة هي رؤيته له وهو في الدنيا، ¬
وسمعه لكلام زيد هو سمعه لكلام عمرو من غير تغير واختلاف في شيء من أوصافه ونعوته لذاته". وقال (¬1): "فإن قيل: كيف يعقل كلام واحد يجمع أوصافًا (¬2) مختلفة حتى يكون أمرًا نهيًا خبرًا استخبارًا، ووعدًا ووعيدًا؟. قيل: يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه، المانع من كونه متغايرًا مختلفًا على خلاف كلام المحدثين، كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات، والذي أوجب كونه كذلك قدمه، ووجب (¬3) مخالفته للمتكلمين المحدثين، وإن كان لا يعقل (¬4) متكلم هو (¬5) شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات". فيقال له: ليس هذا (¬6) جوابًا عن السؤال، فإن السائل قال: كيف يعقل أن يكون الواحد الذي لا اختلاف فيه مختلفًا؛ فإن هذا مثل قول النصارى هو جوهر واحد هو ثلاثة جواهر، وما ذكره إنما هو إقامة الدليل على ثبوت ما ادعاه ليس جوابًا عن المعارضة، وهذه عادة ابن فورك وأصحابه، فإنه لما نوظر (¬7) قدام محمود بن ¬
تعليق الشيخ عليه بأنه جمع بين النقيضين
سبكتكين (¬1) أمير المشرق فقيل له: لو وصف المعدوم لم يوصف إلا بما وصفت به الرب من كونه لا داخل العالم ولا خارجه، كتب إلى أبي إسحاق الإسفرائيني في ذلك، ولم يكن جوابهما إلَّا أنه لو كان خارج العالم (¬2) للزم أن يكون جسمًا. فأجابوا لمن عارضهم بضرورة العقل بدعوى الحجة. [قلت] (¬3) فنظره (¬4) كذلك في هذا المقام، فإن كون الواحد الذي لا اختلاف فيه ولا تعدد ولا تغاير أصلًا يكون أشياء مختلفة هو جمع بين النقيضين، وذلك معلوم الفساد ببديهة العقل [فإذا قيل للشخص: هذا الكلام معلوم الفساد ببديهة العقل] (¬5) هل يكون جوابه أن يقيم دليلًا على صحته؟ بل يبين أنه لا يخالف بديهة العقل وضرورته، وهو لم يفعل ذلك ¬
الوجه السادس والثلاثون: يقال له إما أن تكون أقمت دليلا على كونه قديما واحدا ليس بمتغاير ولا مختلف أو لم تقم
ولا يمكن أحد (¬1) أن يفعل ذلك بحق، فإن البديهيات (¬2) لا تكون باطلة، بل القدح فيها سفسطة، وهم دائمًا ينكرون على غيرهم من (¬3) يخالف (¬4) ما هو دون هذا، كما سننبه على بعضه. الوجه السادس والثلاثون: أن يقال: إما أن يكون (¬5) أقمت دليلًا على كونه قديمًا واحدًا ليس بمتغاير ولا مختلف أولم تقم، فإن لم تقم بطل ذلك ذلك، وإن أقمت دليلًا فلا ريب أنه نظري إذ ليس من الأمور البديهية (¬6) الضرورية، والعلم بأن الواحد الذي ليس فيه تغاير ولا اختلاف لا يكون حقائق مختلفة ولا موصوفًا بأوصاف مختلفة أو متضادة هو من العلوم (¬7) البديهية (¬8) الضرورية، والضروري لا يعارض النظري؛ لأن الضروري أصله فالقدح فيه قدح في أصله [وبطلان أصله] (¬9) يوجب بطلانه في نفسه. فعلم أن معارضة الضروري بالنظري يوجب بطلان النظري، وإذا بطل النظري المعارض لهذا الضروري لم يكن البتة دليلًا صحيحًا وهو المطلوب. ¬
الوجه السابع والثلاثون: أن يقال: المانع من ذلك إما قدمه أو شيء آخر، وأنت لم تذكر شيئا آخر والقدم لا دليل لك عليه
الوجه السابع والثلاثون: أن يقال: المانع من ذلك إما قدمه أو شيء آخر، وأنت لم تذكر شيئًا آخر، والقدم لا (¬1) دليل لك عليه، كما سبق بيانه من أنهم لم يقيموا حجة على كونه قديمًا، كالعلم من كل وجه. الوجه الثامن والثلاثون: هب (¬2) أنه قديم، فكونه قديمًا لا يوجب أن يكون صفة واحدة، فإنك تقول: إن صفات الرب من العلم والقدرة والسمع والبصر والحياة وغير ذلك قديمة، ولم يكن قدمها موجبًا لأن تكون هذه الصفة هي هذه الصفة، فمن أين أوجب قدم الأمر أن يكون هو عين النهي (¬3) وأن يكون النهي عين الخبر؟ وهلا قلت في أنواع الكلام ما قلته في الصفات كما قاله بعض أصحابك؟ الوجه التاسع والثلاثون: أن المحققين من أصحابك يعلمون أنه (¬4) لا دليل على نفي سوى ما علموه من الصفات، فإنه لم يقم على النفي دليل شرعي ولا عقلي، فالنفي بلا دليل قول (¬5) بلا علم، وعدم العلم ليس علمًا بالعلم، وعدم الدليل عندنا لا يوجب انتفاء المطلوب الذي يطلب العلم به والدليل ¬
الوجه الأربعون: يقال لابن فورك: الدليل على قدمه لا يوجب كونه معنى واحدا
عليه، وهذا من أظهر البديهيات (¬1)، وإذا كان كذلك فمن أين لك أن الكلام لا يكون صفات كثيرة؟ ولم أوجبت أن يكون واحدًا أو معدودًا بعدد معين؟ فإن ما ذكرت من قدمه لا يمنع تعدده إذ (¬2) الصفات عندك متعددة وقديمة، والمعلوم أن القديم هو إله واحد، أما أنه ليس له صفة قديمة فهذا باطل بالضرورة لامتناع وجود لا صفة له، كما هو مقرر في غير هذا الموضع، وهم يسلمون ذلك، وإن لم يسلموا بطل قولهم في مسألة الكلام بالكلية. الوجه الأربعون: أن قولك يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرًا مختلفًا. يقال لك: الدليل على قدمه لا يوجب كونه معنى واحدًا (¬3)، كما تقدم وإذا لم يوجب كونه معنى واحدًا (3) لم يوجب أن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وهو الاستخبار. وقولك (¬4) بعد هذا: بالدليل المانع من كونه متغايرًا مختلفًا. يقال لك: إذا لم تقدم الدليل على [أن] (¬5) هذا هو هذا، بل علم أن هذا ليس هو هذا، فيقال فيه ما يقال في السمع والبصر وإن اشتركا في مسمى الإدراك فليس أحدهما هو الآخر، ثم هل يقال: أحدهما غير الآخر، أو مخالف (¬6) له؟ أو يقال: ليس بغير له ولا مخالف (6) له، أو ¬
الوجه الحادي والأربعون: كونه على خلاف كلام المحدثين لا يسوغ ما يعلم بالعقل امتناعه
لا يقال: لا هذا ولا هذا، أو يقال: هذا باعتبار، وهذا باعتبار (¬1). هذه منازعات لفظية بين الناس وكل قول يختاره فريق، والمنازعات في الألفاظ التي لم ترد بها الشريعة لا حاجة بنا إليها، بل المقصود المعنى، نعم إذا كان اللفظ شرعيًّا كنا مأمورين بحفظ حده، كما قال تعافي: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (¬2)، وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرًا مختلفًا دعوى مجردة لا حقيقة لها. الوجه الحادي والأربعون: أن قولك: على خلاف [كلام] (¬3) المحدثين. يقال لك: كونه على خلاف كلام المحدثين لا يسوغ ما يعلم بالعقل امتناعه كاجتماع النقيضين، وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف حقائق مختلفة معلوم الفساد ببديهة العقل، وكون (¬4) صفة الله على خلاف صفة المخلوقين لا يسوغ هذا الممتنع. الوجه الثاني والأربعون: أن قولك: على خلاف كلام المحدثين: إن عنيت به أن حقيقة كلام الله ليست (¬5) كحقيقة كلام المخلوقين كما أنه هو كذلك وسائر صفاته كذلك فهذا حق، لكن لا يفيدك، فإن كونه كذلك لا يوجب أن يثبت ما يعلم بالعقل انتفاؤه، فإن ما يعلم بالعقل انتفاؤه لا يثبت شاهدًا ولا غائبًا، وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ¬
الوجه الثالث والأربعون: أن الكلام والعلم والقدرة وسائر الصفات يجمع هؤلاء وغيرهم بينها وبين الصفات المخلوقة من وجه ويفرقون بينها من وجه آخر
ولا اختلاف [هو حقائق] (¬1) مختلفة معلوم الفساد بالعقل، فلا يثبت لله ولا لغيره. وإن عنيت بقولك على خلاف كلام المحدثين شيئًا غير ذلك، وهو أن كونه معنى قائمًا بالنفس، أو كونه ليس بحرف ولا صوت هو مخالف في ذلك لكلام المحدثين، فليس الأمر عندك كذلك، فإن القديم والمحدث يشتركان في هذا الوصف عندك. وإن عنيت أنه واحد وكلام المخلوقين ليس بواحد، فيقال: هذا هو محل النزاع فما الدليل على أنه مخالف لكلام المحدثين من هذا الوجه يقرر ذلك. الوجه الثالث والأربعون: وهو أن الكلام والعلم والقدرة وسائر الصفات يجمع (¬2) هؤلاء وغيرهم (¬3) بينها وبين الصفات المخلوقة من وجه ويفرقون بينها من وجه، كما يجمع بين الوجود القديم الواجب القائم بنفسه الخالق، وبين الوجود الممكن المخلوق من وجه، ويفرق بينهما من وجه، ولهذا يجمعون بين الشاهد والغائب بالحد والدليل والعلة والشرط، فيقولون: حد العالم من قام به العلم، والحقائق لا تختلف شاهدًا ولا غائبًا، والعلم والقدرة مشروطان (¬4) بالحياة في الشاهد والغائب، والأحكام دليل على العلم في الشاهد والغائب ويقول (¬5) من يثبت الأحوال منهم (¬6): العلم موجب ¬
الوجه الرابع والأربعون: أن ابن فورك اعتمد في كون الكلام معنى واحدا قديما على قيامه على المتكلم
لكون العالم عالمًا، وذلك لا يختلف في الشاهد والغائب، وإذا كان الأمر كذلك فمخالفة كلامه لكلام المخلوقين من وجه لا يقتضي أن يكون واحدًا إن لم تبين أن تلك المخالفة موجبة لوحدته، وأنت لم تذكر ذلك ولا سبيل إليه أكثر ما (¬1) ذكرت أنك قسته على المتكلم، فقلت: يجب أن يكون واحدًا لأن المتكلم واحد، وسنتكلم على ذلك. الوجه الرابع والأربعون: إنك اعتمدت في كون الكلام معنى واحدًا قديمًا على قياسه على المتكلم، فلما قيل لك كيف يعقل كلام [واحد] (¬2) يجمع أوصافًا (¬3) مختلفة حتى يكون أمرًا نهيًا خبرًا استخبارًا وعدًا ووعيدًا؟. قلت: يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرًا مختلفًا على خلاف كلام المحدثين، كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات، وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات، فقولك: كما يعقل متكلم هو شيء واحد وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد في المحدثات، أي: كما يعقل هذا في الموصوف فليعقل في صفته ذلك. فيقال لك: لا يخلو إما أن يكون الدليل الحق قد دل على هذه الوحدة التي أثبتها للمتكلم أو لم يدل عليها، فإن لم يدل عليها كنت قائسًا لدعوى على دعوى بلا حجة، وكانت المطالبة لك واحدة فصارت اثنتين، وإن دل عليها، فيقال لك: وحدة الموصوف علمت بذلك الدليل الدال عليها فمن أين يجب إذا علم أن الموصوف واحد أن يكون ¬
الوجه الخامس والأربعون: ما ذكرته في الجواب إما أن تذكره لإثبات كون الكلام معنى واحدا، أو لإمكان أن المعنى الواحد يكون حقائق مختلفة
كلامه معنى واحدًا؟ مع أن هذا الموصوف الواحد موصوف عندك وعند عامة المثبتة بصفات متعددة، فلم يلزم من وجدته في نفسه وحدة صفته، فلم لزم من وجدته وحدة كلامه بلا حجة؟ الوجه الخامس والأربعون: أن ما ذكرته في هذا الجواب إما أن تذكره (¬1) لإثبات كون الكلام معنى واحدًا أو لإمكان أن المعنى الواحد يكون حقائق مختلفة قياسًا على الموصوف [فإن كان لإثبات الأول فليس ذلك بحجة أصلًا إذ مجرد كون الموصوف] (¬2) واحدًا (¬3) لا يقوم أن يكون (¬4) صفته معنى واحدًا، وهذا معلوم بالضرورة والاتفاق، وهو يسلم ذلك، وأيضًا فإن هذه الحقيقة لا تفيد إمكان ذلك -كما سنبينه- فإنه لا (¬5) يفيد ثبوت ذلك، ووجوده أولى وأحرى، وإن كان ذكره (¬6) لبيان إمكان ذلك، فيقال لك: ليس كل ما أمكن في الموصوف أمكن في الصفة، ولا كل ما يمتنع في الصفة - يمتنع في الموصوف وهذا معلوم، فإن لم يبين أنه يلزم من كون الموصوف واحدًا بهذه الوحدة التي أثبتها أن تكون صفته يمكن فيها ما أثبته لم يكن ما ذكرته كلامًا مفيدًا ولا قولًا سديدًا. الوجه السادس والأربعون: أن يقال لك: قياسك الوحدة التي أثبتها للكلام على الوحدة التي أثبتها للمتكلم قياس للشيء على ضده لا على نظيره، وذلك أنك جعلت ¬
الكلام معنى واحدًا، وهذا المعنى الواحد هو حقائق مختلفة هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، لم تقل: إن الأمر والنهي والخبر والاستخبار صفات قائمة بالكلام كالصفات القائمة بالمتكلم، ولا يمكنك أن تقول ذلك؛ لأن الصفة لا تقوم بالصفة بل هما جميعًا يقومان بالموصوف، فلو قلت ذلك لكان الأمر والنهي والخبر صفات مختلفة قائمة بالله وذلك الذي فررت (¬1) منه، ولكن هذا يناسب قول من قال: الكلام صفات، والرب الواحد لم تقل (¬2): إنه في نفسه شيئان، بل قلت: إنه ليس بذي أبعاض ولا أجزاء، فكان نظير هذا أن تقول الكلام ليس بذي أبعاض ولا أجزاء وليس هو مع ذلك حقائق مختلفة، فليس هو في نفسه أمرًا ولا خبرًا ولا استخبارًا كما تقول مثل ذلك في (¬3) الموصوف، ولعل هذا هو الذي لحظه ابن كلاب إذ كان أقدم وأحذق من الأشعري، حيث لم يصف الكلام في الأزل بأنه أمر ونهي وخبر واستخبار، وجعل ذلك أمورًا نسبية تعرض (¬4) له، وهذا أقرب إلى المعقول وطرد أصولهم في قول الأشعري وأن هذا باطل، فأما أن يكون الموصوف عندك واحدًا بمعنى أنه ليس بذي أبعاض، وليس هو عندك حقائق مختلفة بل موصوفًا بصفات، ثم تقول (¬5): الكلام هو معنى واحد ليس بذي أبعاض وهو حقائق مختلفة أمر ¬
الوجه السابع والأربعون: أن يقال: كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولا أو لا يكون
ونهي، وتقول: هو في ذلك مثل الموصوف فهذا من فساد القياس والتلبيس على الناس. الوجه السابع والأربعون: أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولًا أو لا يكون، فإن لم يكن معقولًا بطل كلامك، وإن كان معقولًا لزم أن يعقل صفة ليست بذات أبعاض فإن ما لا يتبعض يقوم به (¬1) ما لا يتبعض، أما أن يعقل شيء واحد هو بعينه حقائق مختلفة؛ لأنه عقل شيء واحد لا يتبعض فهذا لا يلزم، وغاية ما يقوله أن يقول: الأمر والنهي والخبر إما أن يكون (¬2) أقسام الكلام وأبعاضه أو لا يكون (3)، فإذا لم يكن (¬3) أقسامه وأبعاضه صح مذهبنا (¬4)، ونحن غرضنا أن نثبت أنها ليست أقسامه وأبعاضه؛ لأن الموصوف ليس بمتبعض ولا منقسم، فيكون صفته (¬5) ليست متبعضة ولا منقسمة. فيقال له: لم تقم حجة على أنها ليست أبعاضه وأقسامه [و] (¬6) غاية ما ذكرت إنما يفيد أنه إذا كان الموصوف غير متبعض عقل في صفته أنها غير متبعضة، ولم تبين أن هذا يفيد مطلوبك، وهو لا يفيده؛ لأنه لم يثبت أنه واحد، وليس تبعض الكلام كتبعض الموصوف -كما سنبينه إن شاء الله- ثم إن تبعض الصفة إنما يواد به تعددها وهذا ممكن عندك، ¬
الوجه الثامن والأربعون: أن كون القديم عندهم ليس بمتبعض ولا منقسم معناه أنه شيء واحد في الخارج ليس بذي أبعاض ولا بمنقسم
[فهذه ثلاثة أوجه (¬1) نبهنا عليها وهي مبسوطة في سائر الوجوه] (¬2). الوجه الثامن والأربعون: أن كون القديم عندهم ليس بمنقسم ولا متبعض معناه أنه شيء واحد في الخارج ليس بذي أبعاض ولا (¬3) بمنقسم قسمة الكل إلى أجزائه كانقسام الإنسان إلى أبعاضه وأعضائه، وإن كان هو -سبحانه -أيضًا- ليس بجنس كلي ينقسم إلى أنواعه، ومعنى كون الكلام ليس بمنقسم يراد به شيئان: أحدهما: أنه ليس بذي أجزاء وأبعاض. والثاني: أنه ليس من الكليات التي تنقسم إلى أنواعها وأشخاصها، كانقسام جنس الإنسان إلى أنواعه، وانقسام جنس الموجود [إلى القديم والمحدث، وكذلك جنس العلم والكلام وغيرهما] (¬4) إلى القديم والمحدث. وهذه القسمة والتبعيض ليست هذه بوجه من الوجوه في العالم، فإن هذا نفي للقسمة عن شيء واحد موجود في الخارج، وذاك نفي للقسمة عن كلي لا يوجد في الخارج كليا بحال، فإنه ليس في الخارج إنسان كلي ينقسم [ولا وجود كلي (¬5) ينقسم، ولا علم أو كلام كلي ينقسم، ومن المعلوم أنه لم يقصد نفي هذا، وإن قصد، (¬6) نفيه فهذا مما لا ينازعه فيه عاقل لا في كلام المخلوق ولا في كلام الخالق، فليس في ¬
الوجود الخارجي كلام كلي هو بعينه ينقسم إلى أمر ونهي، بل إن كان أمرًا لم يكن نهيًا وإن كان نهيًا لم يكن أمرًا، ولهذا يجب في الكلي المقسوم أن يقال اسمه على أنواعه وأقسامه، فيسمى كل واحد من أفراد الإنسان إنسانًا، وكل واحد من آحاد الكلام كلامًا، وكل واحد من آحاد العلوم أنه علم، وهذا الفرق هو الفرق الذي يذكره الناس لمتعلم العربية في أول التعليم، فيقولون: من قال: الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف فإنه يريد قسمة الكل إلى أجزائه وأبعاضه، وأما من أراد تقسيم الجنس فإنه يقول: الكلمة تنقسم إلى اسم أو (¬1) فعل أو (¬2) حرف، فإن الجنس إذا قسم إلى أنواعه أو أشخاص (¬3) أنواعه، أو النوع إذا قسم إلى أشخاصه كان اسم المقسوم صادقًا على الأنواع والأشخاص وإلا فليست بأقسام له، وسواء أراد (¬4) ذلك أو لم يرده، فأي نوعي القسمة أراد فإن في كل واحد من نوعيها لا يكون هذا القسم هو هذا القسم [ولم يقل أحد من العقلاء أنه يمكن أن يكون هذا القسم هو هذا القسم] (¬5) فلا يقول أحد: إن الكلام الكلي المنقسم إلى أمر ونهي، الأمر فيه هو النهي، ولا أن الكلام الموجود المعين المنقسم إلى أبعاض كالأمر والنهي أو الاسم والفعل والحرف يكون الأمر فيه هو النهي أو (¬6) الاسم فيه هو الحرف، فأيهم اختاروه من القسمين كان قولهم مخالفًا للبديهة المتفق عليها بين العقلاء. ¬
الوجه التاسع والأربعون: حقيقة قولهم نفي القسمين جميعا عن كلام الله
الوجه التاسع والأربعون: أن حقيقة قولهم: نفي القسمين جميعًا عن كلام الله، فإن المعقول في الكلام سواء قدر كليًّا، أو موجودًا معينًا أن منه ما هو أمر ومنه ما هو خبر، فإذا أريد قسمة الكل قيل (¬1): الكلام والقول ينقسم إلى الأمر والنهي، فيكون الأمر موجودًا والنهي موجودًا، وكلاهما يقال له: كلام ويقال له: قول، وأما كلام هو بعينه موجود (¬2) في الخارج، وهو بعينه أمر ونهي فهذا لا يكون، وإذا أريد قسمة الكلي قيل: هذا الكلام الموجود منه ما هو أمر ومنه ما هو نهي، وهم يقولون كلام الله ليس بعضه أمرًا وبعضه نهيًا ولا بعضه خبرًا، فإن ذلك يقتضي ثبوت الأبعاض له ولا بعض له، ولا هو -أيضًا- كليًّا ينقسم إلى الأمر والنهي فإن ذلك يقتضي أن يكون الأمر غير النهي، بل هو عندهم معنى واحد موجود في الموصوف هو الأمر والنهي [والخبر] (¬3). وأما الموصوف فإن ظهور انتفاء القسمة الأولى عنه (¬4) لا يحتاج إلى بيان، فإنه ليس وجودًا كليًّا ينقسم إلى القديم والمحدث والواجب والممكن والخالق والمخلوق، فإن هذا قول بعدمه -إذ الكلي لا وجود له في الخارج- وقول مع ذلك بأنه يكون خالقًا ويكون مخلوقًا وقديمًا ومحدثًا، أي بعض أنواعه هو الخالق وبعض أنواعه المخلوق، ومعلوم أن الذي هو كذلك ليس هو الخالق القديم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. ¬
الاتحادية يقولون: إن الرب هو الوجود وهم على قولين
نعم الزنادقة الاتحادية (¬1) يقولون: إن الرب هو الوجود وهم على قولين: أحدهما: أنه هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهذا قول القونوي (¬2)، فعلى [هذا القول] (¬3) ينقسم إلى حيوان ونبات وأرواح وأجسام، لكن لا ينقسم إلى واجب وممكن وخالق ومخلوق، بل الوجود الكلي المطلق هو الواجب الخالق، وهذا قول بتعطيل الصانع وجحوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، ولا يقول: عاقل إنه (¬4) الوجود المطلق الثابت للواجب المتميز بنفسه عن الممكن فإن هذا إنما قاله لكونه لا يثبت الواجب متميزًا عن الممكن بنفسه، فإذا لزمه ثبوت واجب متميز لزم تناقضه ومع هذا فهم من أكثر الخلق تناقضًا، وهم مخلطون تخليطًا عظيمًا مع اشتراكهم فيما هم فيه من أظلم الخلق من ¬
الشرك بالله والتعطيل فلا يبعد على بعضهم أن يقول ذلك لا سيما إذا فرقوا بين تجليه الذاتي وتجليه الأسمائي (¬1)، فقد يقولون: التجلي الذاتي هو الواجب، والأسمائي هو الممكن، ويقولون، هو الوجود المطلق المقول على الواجب والممكن. والقول الثاني: يقولون (¬2) هو نفس الوجود وإن الموجودات أبعاضه وأجزاؤه لا أنواعه، وهؤلاء جعلوه موجودًا لكن جعلوه هو المخلوقات بعينها والأولون لم يجعلوه موجودًا في الخارج لكن جعلوه المطلق الذي يوجد في الخارج معينًا لا مطلقًا، ثم مع هذا (¬3) هل للممكنات (¬4) أعيان ثابتة في العلم سوى وجوده أم هو عين الممكنات (¬5)؟ على قولين: والأول قول صاحب المنصوص (¬6) منهم، والثاني قول أتباعه كالقونوي والتلمساني (¬7) وغيرهما، لكن قول هؤلاء وإن أضل طوائف من أذكياء ¬
الناس وعبادهم، ووقع تعظيمهم في نفوس طوائف كثيرة من العلماء والعباد والملوك تقليدًا وتعظيمًا لقولهم من غير فهم لقولهم. فكل مسلم بل كل عاقل إذا فهم قولهم حقيقة، علم أن القوم جاحدون للصانع مكذبون بالرسل والشرائع مفسدون للعقل والدين [و] (¬1) ليس الغرض هنا (¬2) الكلام فيهم فإن الأشعرية لا تقول بهذا -وحاشاها من هذا- بل هم من أعظم الناس تكفيرًا ومحاربة لمن هو أمثل من هؤلاء، وإنما هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية. ومن قال من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن الفلاسفة: ليس بمنقسم فإن هذا المعنى هو أظهر فسادًا عندهم من أن يكون هو مرادهم، بل يريدون أنه موجود في الخارج متميز بنفسه، وأنه مع ذلك ليس له أجزاء وأبعاض، وقد يقول نفاة الصفات من الفلاسفة وغيرهم كابن سينا وغيره: إن واجب الوجود ليس له أجزاء، لا (¬3) أجزاء حد ولا أجزاءَ كَمٍّ ومراده بذلك أنه ليس له صفة كالعلم والقدرة، ولا بعض كالجسم (¬4)، وهو يقول: إنه موجود متميز عن الممكنات، ولكن يقول ¬
تحقيق الأمر: أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره
هو وغيره -من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية- فيه ما يوجب أن يلزمهم قول أولئك الاتحادية، فإنه يقول: هو الوجود المطلق، ويصفونه (¬1) بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلّا على المعدوم كالوجود المطلق الكلي الذي لا جود له في الخارج، لكن لازم قول الناس ليس هو نفس قولهم الذي قصدوه. وتحقيق الأمر: أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره، ولا يقرون بأنه وجود المخلوقات، وأما أولئك الاتحادية فمع تناقضهم صرحوا بأنه وجود المخلوقات. والمقصود هنا: أن الباري تعالى وإن كانت هذه القسمة والتبعيض منتفية عنه، فقولهم: إنه واحد ليس بذي أبعاض معناه عندهم أنه واحد متميز عن غيره موجود لا بعض له، وإذا كان كذلك [كان كلامه معنىً واحدًا] (¬2) ومن أصلهم أن كلام الله شيء موجود قائم بالمتكلم لا يتبعض ولا ينقسم، أي ليس منه ما هو أمر ومنه ما هو نهي، ومنه ما هو خبر بحيث يكون ليس هذا هو هذا، بل الذي هو الأمر هو (¬3) النهي وهو الخبر، والباري عندهم شيء واحد، أي: ليس بجسم ذي أبعاض، واحد هذين النوعين ليس من جنس الآخر؛ لأنه إنما يصلح أن يستدل (¬4) بنفي هذا التبعيض أن (¬5) لو كان بعض الكلام يقوم ببعض، وبعضه يقوم ببعض آخر، فيقال: يلزم من نفي تبعض الموصوف نفي تبعض الصفة القائمة به، بل إذا قيل: إن الكلام حقائق فكل حقيقة تقوم بالموصوف ¬
الوجه الخمسون: أن ما ذكره ابن فورك من كون الموصوف شيئا واحدا ليس بذي أبعاض يصلح أن يحتج به على إمكان أن تكون صفته واحدة ليست بذي أبعاض ولا أجزاء
قيامًا مطلقًا، كما تقوم به الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك قيامًا مطلقًا لكان هذا مقولًا (¬1) مقبولًا، فعلم أنه وإن عقل متكلم واحد ليس بذي أبعاض وأجزاء فإنه لا يلزم أن يعقل كلام هو معنى واحد هو الأمر والنهي، وأن هذا شيء غير هذا. الوجه الخمسون: أن ما ذكره من كون الموصوف شيئًا واحدًا ليس بذي أبعاض، يصلح أن يحتج به على إمكان أن تكون صفته واحدة ليست بذات أبعاض ولا أجزاء، فإذا قام به علم أو علوم أو قدرة أو قدر أو كلام أو كلمات أو غير ذلك، قيل في كل صفة تقوم به: إنها ليست ذات أجزاء وأبعاض، فإذا قام به أوامر وأخبار كان كل أمر وكل خبر غير متبعض ولا مجتزئ، أما أنه يصلح أن يحتج به أن هذا الصفة هي هذه الصفة، مثل أن يقال: إن الأمر هو الخبر والسمع هو البصر؛ فهذا باطل، ثم يقال: الوجه الحادي والخمسون: إن وجدته إما أن تصحح هذا بأن (¬2) يقال: هذه الصفة هي هذه الصفة، أو لا تصحح ذلك، فإن صححته صح أن يقال: السمع هو البصر، وهما جميعًا العلم وهو القدرة وهي الحياة، وإن لم يصح ذلك لم يصح أن يقال: الأمر بالصلاة هو الأمر بالزكاة فضلًا عن أن يقال: الأمر بالصلاة هو الخبر عن سجود الملائكة لآدم. الوجه الثاني والخمسون: أن يقال: ما تعني (¬3) بقولك كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس ¬
بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات؟ أتعني بذلك أنه لا يتفرق ولا ينفصل منه شيء عن شيء، بل هو صمد -سبحانه وتعالى؟ أم تعني به أنه لا يتميز منه في العلم شيء من شيء؟. فإن عنيت الأول فهو حق، لكن لا يفيدك ذلك، فإن هذا لا يستلزم أن لا يكون له كلام متعدد. وإن عنيت الثاني قيل لك: لا ريب أنك تسلم أنه يمكن العلم ببعض صفاته دون بعض، كما تعلم قدرته ولا تعلم (¬1) علمه، وتعلم وجوده ولا تعلم وجوبه، ولا ريب أن المعلوم ليس هو هذا الذي ليس بمعلوم، فهذا إقرار منك بثبوت التبعيض والتجزيء بهذا الاعتبار، ثم العلم إن لم يكن مطابقًا للمعلوم كان جهلًا، فلا بد أن تكون هذه الحقائق متميزة في ذواتها، وهذا صريح فيما أنكرته، ولا بد لكل موجود من مثل هذا، فإنه ما من موجود إلّا ويمكن أن يعلم منه شيء دون شيء وذلك يستلزم ثبوت حقائق ليست هذه هي هذه، وهذا لازم لكل أحد، حتى نفاة الصفات يقرون بثبوت المعاني التي هي هذه، وإن (¬2) كان التبعيض (¬3) بهذا الاعتبار ثابتًا لم يمكنك إنكار التبعيض مطلقًا، بل علم بالضرورة والاتفاق أن منه شيئًا ليس هو الشيء الآخر. أما الصفاتية فيقرون بذلك لفظًا ومعنى وهو الحق، والكلابية والأشعرية منهم، وأما نفاة الصفات فإنهم -أيضًا- مضطرون إلى الإقرار بذلك، فإن أخذوا يقولون بل هذا هو هذا، كما يقوله المتفلسفة في العاقل والمعقول والعقل (¬4) وفي الوجود والوجوب، وكما يقول المعتزلة ¬
كما يقوله أبو الهذيل (¬1): إن العلم والقدرة هو الله ونحو ذلك، فمن المعلوم أن فساد هذا من أظهر البديهيات (¬2) في العقول، ثم إذا التزموا ذلك كان لكل من نازع أن يقول فيما أنكروه كما قالوه فيما أقروا به، فيقول المجسم: أنا أقول إن هذا الجانب هو هذا (¬3) الجانب، كما يقوله من يقول مثل ذلك في الجوهر الفرد (¬4)، ويقول الصفاتية ¬
الوجه الثالث والخمسون: يقال لابن فورك: قولك كما يعقل. متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض والذي أوجب كونه كذلك قدمه من أين في قدمه أن يكون كذلك وأنت لم تذكر ذلك
[كلهم] (¬1) نحن نقول: العلم هو القدرة، والقدرة هي السمع والبصر، ويقول الأشعري للمعتزلة: نحن نقول: الأمر هو النهي، ويقول القائلون بالحرف (¬2) والصوت نحن نقول: الياء هي السين وأمثال ذلك كثير. وإن قالوا: بل لا نقول (¬3) في هذين إن أحدهما هو الآخر ولا غيره، أو هما متغايران باعتبار دون اعتبار أو نحو ذلك، كان القول فيما نوزعوا فيه من التبعيض نظير القول فيما أقروا به، وهذا كلام متين لا انفصال عنه بحال، وقد بسطناه في الكلام على تأسيس الرازي (¬4). الوجه الثالث والخمسون: قوله: كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض، والذي أوجب كونه كذلك (¬5) قدمه. ¬
الوجه الرابع والخمسون: أن حجتهم على إنكار تكلم الله بالحرف والصوت نقيض ما احتجوا به على الكلام النفساني
يقال: لكن من أين في قدمه أن يكون كذلك وأنت لم تذكر ذلك؟ وقد تكلمنا في تلخيص التلبيس (¬1) على جميع ما احتجوا به في هذا الباب وبينا لكل من له أدنى فهم أن جميع حججهم داحضة، وتكلمنا على طريقهم المشهور الذي أثبتوا به حدوث الأجسام وبينا اتفاق السلف على فسادها، فإنها فاسدة في العقل أيضًا. الوجه الرابع والخمسون: إن حجتهم على إنكار تكلم الله بالحرف نقيض (¬2) ما احتجوا به على هذا الكلام النفساني، فيلزمهم أحد الأمرين: إما إنكار ما أثبتوه من الكلام النفساني، أو الإقرار بما أنكروه من التكلم بالحروف. قال (¬3) القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب "النقض" (¬4) وهو في ¬
أربعين سفرًا، وقد تكلم في مسألة القرآن في ثلاث مجلدات، وتكلم على القائلين بقدم الحروف، وقال (¬1): "من زعم أن السين (¬2) من بسم بعد الباء، والميم بعد السين، والسين الواقعة بعد الباء لا أول (¬3) له، فقد خرج عن المعقول إلى جحد الضرورة، فإن من اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوليته، فإن ادعى أنه لا أول لما له أول (¬4) سقطت مكالمته. وأما من زعم أن الرب -سبحانه- تكلم بالحروف دفعة واحدة من غير ترتيب ولا تعاقب فيها، فيقال لهم: الحروف أصوات (¬5) مختلفة لا شك في اختلافها، وقد اعترف خصومنا (¬6) باختلافها، وزعموا أن لله ضروبًا من الكلام متغايرة مختلفة ¬
على اختلاف اللغات والمقاصد في العبارات، وكل (¬1) صوتين مختلفين من الأصوات متضادان (¬2) يستحيل اجتماعها في المحل الواحد وقتًا واحدًا، كما يستحيل اجتماع كل مختلفين من الألوان. والذي يوضح ذلك ويكشفه: أنا كما نعلم استحالة قيام السواد والبياض بمحل واحد جميعًا [فكذلك نعلم استحالة صوت خفيض وصوت جهوري بمحل (¬3) واحد في وقت واحد جميعًا] (¬4) وهذا واضح لا خفاء به (¬5) والمختلف من الأصوات تتضاد (¬6) كما أن (¬7) المختلف من الألوان تتضاد (¬8)، والرب -سبحانه- واحد ومتصف بالوحدانية (¬9) متقدس عن التجزئ والتبعيض (¬10) والتعدد والتركب (¬11) والتألف، وإذا تقرر ما قلناه استحال قيام أصوات متضادة بذات موصوفة بحقيقة الوحدانية، وهذا ما لا مخلص لهم منه. فإن تعسف من المقلدين (¬12) متعسف، وأثبت الرب (¬13) -سبحانه- جسمًا مركبًا من أبعاض متألفًا من جوارح نقلنا (¬14) الكلام معه ¬
تعليق الشيخ عليه
إلى إبطال التجسيم (¬1)، وإيضاح تقدس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيب (¬2) ". فيقال له: هذا (¬3) بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعنى (¬4) القائم بالذات، فإن الذي نعلمه (¬5) بالضرورة في الحروف يعلم (¬6) نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظًا ومعنى قبل (¬7) الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف، فيقال من اعترف بأن معنى (¬8) الرحمن الرحيم بعد معنى بسم الله وادعى (¬9) أن هذا المعنى لا أول (¬10) له فقد خرج عن المعقول إلى جحد (¬11) الضرورة. وإن زعم أن الرب تكلم بمعاني الحروف دفعة واحدة من غير تعاقب ولا ترتيب قيل له: معاني الحروف حقائق مختلفة لا شك في اختلافها فإن المعنى القائم بنفس المتكلم المفهوم من {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬12) ليس هو المعنى ¬
الذي نجده أنه لا يمكننا أن نجمع بين صوتين في محل واحد وقتا واحدا
القائم بالنفس المفهوم من {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} " (¬1) ولا شك في أن المعنى في صيغ الأمر ليس هو المعنى (¬2) في صيغ الإخبار، فإما أن يسلم هذا أو يمنع، فإن سلم كما سلم بعضهم أن الكلام خمس حقائق تكلم معه حينئذ وإن لم يسلم قيل له: العلم باختلاف هذه المعاني ضروري بديهي ليس هو بدون العلم بتعاقب الحروف والمعاني ولا بدون العلم باختلاف الأصوات، بل أصوات المصوت الواحد أقرب تشابهًا من المعاني القديمة بنفسه، وهذا أمر (¬3) محسوس، ومن أنكره سقطت مكالمته أبلغ مما تسقط مكالمة ذاك وحينئذ فيقال له: هذه المعاني المختلفة متضادة في حقنا، فإنا نجد من نفوسنا أنها عند تصور معاني كلام لا يمكنها أن تتصور معاني كل كلام، كما نجد من أنفسنا (¬4) أنا عند التكلم (¬5) بصوت لا يمكننا أن نتكلم بصوت آخر، فإن كان هذا الامتناع لذات المعنيين والصوتين امتنع أن يقوم ذلك بمحل واحد، وإن كان لعجزنا عن ذلك كما نعجز عن استحضار علوم كثيرة لم يجب أن يكون ذلك ممتنعًا في حق الله، ولا ممتنعًا أن يخلق الله في ما شاء من المخلوقات معاني كثيرة مختلفة وأصواتًا كثيرة مختلفة. قوله: وكل صوتين مختلفين من الأصوات متضادان يستحيل اجتماعهما في المحل الواحد وقتًا واحدًا. فيقال له: أما الذي نجده فإنا لا يمكننا أن نجمع بين صوتين في محل واحد وقتًا واحدًا سواء كانا مختلفين أو متماثلين، فليس الامتناع في ¬
ذلك لأجل اختلاف الأصوات، وكذلك لا يمكننا أن نستحضر في قلوبنا المعاني الكثيرة في الوقت الواحد في الزمن الواحد، سواء كانت مختلفة أو متماثلة، وإن قدرنا أن نجمع من المعاني في قلوبنا ما لا نقدر على أن نجمع لفظه من الأصوات، فلا ريب أن القلب أوسع من الجسد لكن لا بد أن يجد كل أحد نفسه يمتنع أن يجتمع فيها معاني كثيرة في وقت واحد، كما يمتنع أن يجمع (¬1) بين صوتين في محل واحد، وقياس الأصوات بالمعاني وهي مطابقة لها وقوالب (¬2) لها أجود من قياسها بالألوان، وما ألزموه في -المعاني من أنها معنى واحد (¬3) هو الأمر والنهي والخبر ليس في مخالفته لبديهة العقول بدون أن يقال (¬4) يكون حرفًا واحد هو الباء والسين، وإذا لم يقل هذا وهو نظيره، فلا ريب أن القول بجواز اجتماعهما في المحل الواحد أقرب إلى المعقول من كون الأمر هو النهي وهما الخبر، فالقول باجتماع الصفتين المتضادتين في محل واحد أقرب من القول بأن إحداهما الأخرى، ومن قال الكلام هو الأمر والنهي والخبر وأنها كلها مجتمعة قائمة بمحل واحد، فكيف يمتنع أن يقول باجتماع حروفها (¬5) في محل واحد. ومما يؤيد هذا أنه على أصل القاضي أبي بكر -وهو فحل الطائفة- أن النسخ رفع الحكم بعينه، وهذا اختيار الغزالي (¬6)، وهو قول ابن عقيل ¬
وغيره من المحققين (¬1)، فيكون -سبحانه- قد أمر بشيء ونهى عن نفس ما أمر به، كما في قصة الذبيح (¬2)، والأمر (¬3) بالشيء مضاد للنهي عنه في فطر العقول أعظم من مضادة السواد للبياض، فإذا كانوا يلتزمون مثل ذلك ¬
حتى يجعلوا (¬1) الضدين شيئًا واحدًا، كيف يمنعون اجتماع حرفين أو صوتين (¬2) وذلك أقرب إلى المعقول، وهذا الكلام لازم لجماعتهم، فإنهم حكوا عن القائلين بقدم الحروف والأصوات، هل هي متعاقبة أو يتكلم بها دفعة واحدة؟ قولين: كما قال أبو المعالي فيما ذكره أبو عبد الله القرطبي (¬3) أن كلام الله منزه عن الأصوات (¬4). ¬
الوجه الخامس والخمسون: أن المثبتين للحروف القديمة قولهم أقرب إلى المعقول من قول أهل المعنى الواحد القديم
الوجه الخامس والخمسون: أن هؤلاء المثبتين للحروف القديمة قالوا ما هو أقرب إلى المعقول من قول أهل المعنى الواحد القديم الذي هو الأمر والخبر، فقالوا: الترتيب والتعاقب نوعان: ترتيب وجودي زماني كترتيب الابن علي الأب واليوم على أمس، ولا ريب أن هذا يمتنع في القديم الأزلي. والثاني: ترتيب ذاتي حقيقي ليس زمانيًّا، كترتيب الصفات على الذات والعلم على الحياة والمعلول على علته المقارنة له، إذا قدر ذلك، فإنا نعقل (¬1) هنا ترتيبًا وتقدمًا وتأخرًا بالذات دون الوجود والزمان، وهذا كما لو فرض مصحفًا (¬2) كتب آخره قبل أوله، فإنه يعلم أن أول السورة متقدم على آخرها بالذات، وإن كان قد كتب بعده. قالوا: والكلام على حروفه ومعانيه مترتب في حق الله بهذا الاعتبار، لا بالترتيب الزماني كما يوجد في قراءة القارئين من ترتيب المعاني والألفاظ جميعًا في الزمان، وهذا الترتيب لا ينافي قدمه. ولا ريب أن ما في هذا من إثبات تعدد المعاني لتعدد الحروف، والحكم عليهما بحكم واحد، وإثبات القدم على هذا الوجه أقرب إلى المعقول من جعل الحقائق المختلفة معنى واحدًا، ثم التفريق بين المعنى والحرف بالتحكيم، فإن هذا فيه جمع بين المختلفين بجعلهما (¬3) شيئًا واحدًا، وتفريق بين الشيئين فيما اشتركا فيه. ¬
الوجه السادس والخمسون: قلتم يستحيل اجتماع الصوتين في المحل الواحد، وأثبتم ذلك شاهدا وغائبا
الوجه السادس والخمسون: أن نقول: قولكم يستحيل اجتماع الصوتين في المحل الواحد، وأثبتم ذلك شاهدًا وغائبًا. ومن المعلوم أن وحدة الباري عندكم لا تناسب (¬1) وحدة غيره، وليس هذا (¬2) عندكم كوحدة الأجسام، فليس (¬3) عندكم في الشاهد ما هو واحد من كل وجه إلا الجوهر الفرد عند من يقول به، فقولكم بعد هذا يستحيل اجتماع الصوتين المختلفين في المحل الواحد وقتًا واحدًا، بهما يستحيل اجتماع اللونين مع أنه لا واحد يفرض (¬4) ذلك فيه شاهدًا إلا الجسم، وذلك مستلزم لكون الجسم واحدًا، فيقال: هب أن الجسم لا يقبل اجتماع صوتين مختلفين، كما لا يقبل معنى واحدًا يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا، فهلا قلتم: إن الواحد الذي ليس بجسم يمكن اجتماع أصوات فيه، كما قلتم: إنه يقوم به معنى واحد هو حقائق مختلفة؟ فلما قيل لكم: كيف يعقل هذا؟ قلتم: يعقل ذلك بالدليل الموجب (¬5) لقدمه المانع من كونه متغايرًا مختلفًا، كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض. ومعلوم أن الأدلة الدالة على قدم الكلام عند التحقيق لا تفرق (¬6) بين المعاني والحروف، وإنما فرقتم لمعارض إخراج الحروف عن ذلك، ¬
الوجه السابع والخمسون: أن اجتماع العلم بالشيء والرؤية له في محل واحد في وقت واحد ممتنع في حقنا
وهو ما اعتقدتموه من وجوب حدوثها كما ذكرتم هنا، هذا الدليل يلزم أقوى منه في المعاني، فلو قلتم: نعقل حروفًا (¬1) مجتمعة أو أصواتًا (¬2) مجتمعة في محل واحد بالدليل الدال على ذلك، إذ كان ذلك الواحد ليس بذي أبعاض حتى يكون القائم بهذا البعض مغايرًا للقائم بالبعض الآخر، وإذا لم تجب المغايرة فيما قام به، لم يمتنع أن يقوم به الصوت الذي هو بالنسبة إلى غيره أصوات، إذ الاختلاف فرع للتغاير، فما لا تغاير فيه يمتنع الاختلاف فيه، فإذا كان ما يقوم به لا يغاير فأن (¬3) لا يختلف أولى وأحرى. ففرض (¬4) قيام صوتين مختلفين به والحال هذه يمتنع على ما أصلتموه. الوجه السابع والخمسون: إن اجتماع العلم بالشيء والرؤية له في محل واحد في وقت واحد ممتنع في حقنا، وكذلك العلم به وسمعه، ومع هذا فقد أثبتم الباري يعلم الموجودات ويراها، والعلم والرؤية قائمان بمحل واحد عندكم، وأيضًا فعند الأشعري، والقاضي وسائر أئمتهم أن الوجه واليدين والصفات قائمة بذات الله التي لا تنقسم، كقيام العلم والسمع والبصر والقدرة. ومن المعلوم أن قيام القدرة واليدين في محل واحد ممتنع عندنا، بل عندنا أن اليدين محل القدرة، فإذا أثبتم يدًا ووجهًا وصفتموهما بذلك، فما المانع من ثبوت حروف وأصوات؟ ويمكنكم أن تقولوا: ¬
الوجه الثامن والخمسون: يقال للباقلاني: إن قولك إن الرب واحد ومتصف بالوحدانية متقدس عن التجزئ والتبعض هذا يلزمك في سائر الصفات
إنها ليست من جنس هذه الأعراض القائمة بالمخلوقين، فلا يجب أن يحكم فيها بحكمها. الوجه الثامن والخمسون: أن قوله (¬1): الرب واحد ومتصف بالواحدانية متقدس عن التجزيء والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف، يستحيل قيام أصوات متضادة بذات موصوفة بحقيقة الواحدانية. يقال له: هذا يلزمك في سائر الصفات فإن الذات التي لا يتميز في العلم منها شيء من شيء يمتنع أن يقوم بها صفات كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر، إذ ذلك يوجب من التعدد والتركيب والتأليف والتجزيء والتبعيض نظير ما نفاه، وهو من حجة نفاة الصفات عليه. ولما قال له مخالفه: لا نعقل الحياة والعلم والقدرة يقوم إلا بجسم، ولا نعقل (¬2) اليد والوجه إلا بعضًا من جسم. قال: لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حيًّا عالمًا قادرًا، إلا جسمًا أن يكون الغائب كذلك، فألزم مخالفه إثباته لحي عالم قادر في متصف بهذه الوحدة التي وافق خصمه عليها. ومعلوم أن هذا كله في مخالفة صريح العقل سواء، فكونه لا يتميز منه شيء من شيء يأبى أن يكون حيًّا عالمًا قادرًا، إذ هذه الأشياء مستلزمة لمعاني يتميز بعضها عن بعض، بل يأبى ثبوت موجود مطلقًا سواء كان قديمًا أو حادثًا، إذ لا بد للوجود من أمور متميزة فيه، وذلك مستلزم لثبوت ما نفاه، فهذا التوحيد الذي ابتدعوه هو التعطيل المحض وهو تشبيه الباري بالمعدومات. ¬
الوجه التاسع والخمسون: يقال له -أيضا- الألفاظ الواردة في قولك: لأنه مقدس عن التجزئ والتبعيض ألفاظ مجملة
الوجه التاسع والخمسون: قولك: لأنه مقدس عن التجزيء والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف: يقال: هذه الألفاظ (¬1) مجملة. فإن أردت المعنى المعروف في اللغة لهذه الألفاظ، مثل أن يريد (¬2) أنه لا ينفصل بعضه عن بعض، ولا يتجزأ فيفارق جزء منه جزءًا كما هو المعقول من التجزيء، ولا يتعدد فيكون إلهين أو ربين أو خالقين، ولم يركب فيؤلف فيجمع بين أبعاضه، كما في قوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (¬3) أو ما يشبه هذه الأمور، فهذا كله ينافي صمدانيته ولكن لا ينافي قيام ما يثبته من الأصوات، كما لا ينافي قيام سائر الصفات. وإن أردت بهذه الألفاظ أنه لا يتميز منه شيء، فهذا باطل بالضرورة وباطل باتفاق العقلاء وهو لازم لمن نفاه لزومًا لا محيد عنه وقد بسطنا هذا بسطًا مستوفى في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعتهم الكلامية (¬4). وأما قوله: فإن تعسف من المقلدين متعسف وأثبت الرب تعالى جسمًا مركبًا من أبعاض متألفًا من جوارح، نقلنا (¬5) الكلام معه إلى إبطال الجسم، وإيضاح تقدس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيب. ¬
لفظ الجسم بين الناطقين به فيه نزاع كثير
فيقال له: الكلام في وصف الله بالجسم نفيًا وإثباتًا بدعة لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن الله ليس بجسم (¬1). كما لم يقولوا: إن الله جسم (¬2)، بل من أطلق أحد اللفظين استفصل (¬3) عما أراد بذلك فإن في لفظ الجسم بين الناطقين به نزاعًا كثيرًا (¬4). فإن أراد تنزيهه عن معنى يجب تنزيهه عنه، مثل أن ينزهه عن مماثلة المخلوقات فهذا حق، ولاريب أن من جعل الرب جسمًا من جنس المخلوقات فهو من أعظم المبتدعة ضلالًا، دع من يقول منهم: إنه لحم ودم ونحو ذلك من الضلالات المنقولة عنهم. وإن أراد نفي ما ثبت بالنصوص وحقيقة العقل -أيضًا- مما وصف الله ورسوله منه وله، فهذا حق، وإن سمى ذلك تجسميًا (¬5)، أو قيل: إن ¬
هذه الصفات لا تكون إلّا لجسم (¬1)، فما ثبت بالكتاب والسنة أو أجمع عليه سلف الأمة هو (¬2) حق، وإذا لزم من ذلك أن يكون هو الذي يعنيه (¬3) بعض المتكلمين بلفظ الجسم فلازم الحق حق كيف والمثبتة يقولون (¬4) إن ثبوت هذا معلوم بضرورة العقل ونظره وهكذا مثبت لفظ الجسم إن أراد بإثباته ما جاءت به النصوص صوبنا معناه ومنعناه من (¬5) الألفاظ [المبتدعة] (¬6) المجملة، وإن أراد بلفظ الجسم ما يجب تنزيه الرب عنه من مماثلة المخلوقات رددنا ذلك عليه وبينا ضلاله وإفكه. وأما قوله: نقلنا الكلام معه إلى إبطال التجسيم، فقد ذكرنا أدلة النافين (¬7) والمثبتين مستوفاة في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية وتبين لكل من له أدنى فهم أن ما ذكره هؤلاء من أدلة النفي كلها حجج داحضة وأن جانب المثبتة أقوى، وقد (¬8) بسطنا الكلام في ذلك (¬9) في غير هذا الموضع (¬10). قال أبو عمر (¬11) بن عبد البر: "الذي أقول: إنه إذا نظر (¬12) إلى ¬
الوجه الستون: أن أقوالهم التي يصفون فيها الرب بأنه واحد هي من أعظم أصول أهل الشرك والإلحاد
إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، وسائر (¬1) المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجًا، علم أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين وأعلام (¬2) النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا سكون (¬3)، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبًا، وفي الجسم ونفيه [والتشبيه ونفيه] (¬4) لازمًا ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما (¬5) نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان [ذلك] (¬6) من علمهبم (¬7) مشهورًا، ومن (¬8) أخلاقهم معروفًا، لاستفاض عنهم وشهروا (¬9) به كما شهروا بالقرآن والروايات (¬10) ". الوجه الستون: أن (¬11) قوله: والرب واحد ومتصف بالوحدانية ومتقدس عن التجزيء والتبعيض، وقول ابن فورك: لأن الرب متكلم واحد ونحو ذلك من أقوالهم التي يصفون فيها الرب بأنه واحد ويشعرون الناس أنهم ¬
هؤلاء يفسرون التوحيد واسم الله الواحد بثلاث معان
بذلك موحدون، وأن من خالفهم في ذلك فقد خالفهم في التوحيد، هي من (¬1) أعظم أصول أهل الشرك والإلحاد والتي أفسدوا بها التوحيد الذي (¬2) بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وإن كان هذا الأصل المحدث (¬3) قد زين لهؤلاء ولغيرهم من أهل القبلة المسلمين وظنوا أنهم بذلك موحدون (¬4) ومحسنون حتى سموا أنفسهم بذلك موحدين دون غيرهم ممن هو أحق بتوحيد الله منهم، وحتى كفروا وعادوا المسلمين أهل التوحيد حقًّا، وكانوا على الأمة أضر من الخوارج المارقين الذين يقتلون أهل الإِسلام ويدعون أهل الأوثان، وهؤلاء الكلابية والأشعرية إنما أخذوه عن المعتزلة والجهمية ولم يوافقوهم عليه كله، بل وافقوهم في بعض دون بعض، وهذا هو أصل جهم الذي أسس عليه ضلالته (¬5). وهؤلاء يفسرون التوحيد واسم الله الواحد في أصول دينهم بثلاثة معان (¬6)، وليس في شيء (¬7) منها التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ثم يختلفون في تحقيق تلك المعاني اختلافًا عظيمًا، فيقولون (¬8) في اسم الله الواحد، الواحد له ثلاثة (¬9) معان: ¬
أبو المعالي بنى رأيه في كلام الله على أنه يستحيل قيام الحوادث به
أحدها (¬1) الذي لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتركب، وربما قال بعضهم: هذا تفسير الاسم الأحد، وهذه الوحدانية هي (¬2) [التي] (¬3) ذكروها هنا. قال أبو المعالي في إرشاده (¬4): القول في وحدانية الباري: فصل: في حقيقة الواحد قال أصحابنا: الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم، أو لا يصح انقسامه. قال القاضي أبو بكر: ولو قلت الواحد هو الشيء [كان كافيًا، ¬
ولم يكن فيه تركيب، وفي قول القائل: الشيء، (¬1) الذي لا ينقسم نوع تركيب. قال أبو المعالي: يقال للقاضي: التركيب المحدود هو أن يأتي الحادُّ بوصف زائد يستغنى عنه، وقد لا يفهم من الشيء المطلق ما يفهم من المقيد، فليس يفهم من الشيء ما يفهم من الواحد الذي لا ينقسم، فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء [و] (¬2) المقصود من التحديد الإيضاح. أجاب القاضي بأن قال: كلامنا في الحقائق، والشيء المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم. يقال: قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء، فهما أمر أن متلازمان لا بد من التعرض لهما، كما قلنا في الغيرين كل موجودين يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه (¬3). ثم قال أصحابنا (¬4): إذا سئلنا عن الواحد، فنقول: هذه اللفظة تردد بين معان، فقد يراد بها الشيء [الذي] (¬5) لا يقبل وجوده القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الإشكال والنظائر عنه، وقد يطلب والمراد به أنه لا ملجأ ولا ملاذ سواه، وهذه المعاني متحققة في وصف القديم سبحانه. ¬
وقال أبو بكر بن فورك: إنه -سبحانه- واحد في ذاته لا قسيم (¬1) له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. قال شارح الإرشاد أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني: "وحكي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال: الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع: يعني الفصل والوصل. أشار (¬2) إلى وحدة الإله فإن الجوهر واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية، والإله -سبحانه- واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلًا ولا وصلًا، ونحن قد أقمنا الدلالة في مسألة نفي التجسم على نفي الأقسام، وأقمنا الدلالة على نفي المثل، وبقي علينا الدلالة على نفي الشريك. قلت: أما نفي المثل عن الله ونفي الشريك فثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، لكن قد يدخل طوائف من المتكلمين في ذلك ما لم يدل عليه الكتاب والسنة، بل ينفيانه (¬3)، وأما المعنى الذي ذكروه بنفي الانقسام، فيلزم على قولهم أن لا يكون شيء قط من المخلوقات يقال: إنه واحد إلا الجوهر الفرد، وعند بعضهم: لا (¬4) يقال ذلك للجوهر الفرد، مع أن أبا المعالي هو من الشاكين في ثبوت الجوهر الفرد، فإذًا (¬5) لا يصح أن يقال لشيء من الموجودات إنه واحد، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وإجماع أهل اللغة والعقل، وإذا ¬
قيل: الواحد هو الشيء، كما قاله القاضي أبو بكر فلا يكون قد خلق شيئًا، لأنه لم يخلق واحدًا على التفسير الذي فسروه، ولا يستحق على قوله أن يسمى أحد من الملائكة والإنس والجن شيئًا، ثم إنهم يسمون أهل الكلام الموحدين، ويسمون ما كان السلف يسمونه الكلام علم التوحيد، حتى قال أبو المعالي في أول إرشاده (¬1) بعد أن زعم أن أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن (¬2) البلوغ أو الحلم شرعًا، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بمحدث (¬3) العالم. قال (¬4): والنظر في اصطلاح الموحدين هو الفكر الذي يطلب (¬5) [به] (¬6) من قام به علمًا وغلبة ظن. وأيضًا فإن اسم الواحد أو الأحد قد جعلوا لله فيه شريكًا أحقر (¬7) الموجودات، وهو الجوهر الفرد، وجعلت المتفلسفة له في ذلك شركاء، العقول والنفوس كالنفس الإنسانية، وهذا الذي ذكرنا من أن عمدة أصحابه في مسألة القرآن ونحوها من المسائل، أنه لا يجوز أن يكون محلًا للحوادث، هو مما لا ريب فيه عند من يعرف أصول الكلام، واعتبر ذلك بما ذكره أفضل متأخريهم أبو المعالي الجويني في إرشاده الذي التزم أن يذكر فيه قواطع الأدلة، فإنه قال (¬8): ¬
فصل: الباري متكلم آمر ناهٍ مخبر واعد متوعد (¬1)، وقد قدمنا في خلال (¬2) إثبات أحكام الصفات المعنوية، الطريق (¬3) إلى إثبات العلم بكون الرب تعالى متكلمًا (¬4) عند إسنادنا (¬5) نفي النقائض إلى السمع، وتوجيهنا (¬6) على أنفسنا السؤال عما ثبت بالسمع (¬7). قال (¬8): فإذا صح (¬9) كون الباري متكلمًا، فقد آن أن نتكلم في صفة كلامه: فاعلموا -وقيتم (¬10) البدع- أن (¬11) من (¬12) مذهب أهل الحق: أن الباري تعالى متكلم بكلام أزلي، لا مفتتح لوجوده. وأطبق المنتمون إلى الإسلام على إثبات الكلام، ولم يَصِر منهم صائر إلى نفيه، ولم ينتحل أحد منهم (¬13) في كونه متكلمًا نحلة نفاة الصفات في كونه عالمًا قادرًا حيًّا. ثم ذهبت المعتزلة، والخوارج، والزيدية، والإمامية، ومن ¬
عداهم من أهل الأهواء إلى أن كلام الباري -تعالى- عن قول الزائغين- حادث مستفتح الوجود. وصار صائرون من هؤلاء إلى الامتناع من تسميته مخلوقًا مع القطع بحدثه (¬1)، لما في لفظ المخلوق من إيهام (¬2) الخلق، إذ الكلام المختلق (¬3) هو الذي يبديه المتكلم تخرصًا من غير أصل. وأطلق معظم المعتزلة لفظ المخلوق على كلام الله. وذهبت الكرامية إلى أن الكلام قديم، والقول حادث غير محدث والقرآن قول الله، وليس بكلام الله، وكلام الله -تعالى- القدرة (¬4) على التكلم، وقوله حادث قائم بذاته -تعالى عن قول المبطلين- وهو غير قائل بالقول الذي قام به (¬5)، بل هو (¬6) قائل بالقائلية (¬7)، وكل مفتتح وجوده قائم بالرب (¬8)، فهو حادث بالقدرة غير محدث، وكل محدث (¬9) مباين للذات فهو محدث بقوله "كن" لا بالقدرة، من هذيان طويل لا يسع هذا المعتقد استقصاؤه. ¬
وغرضنا من إيضاح الحق والرد على منكريه (¬1) لا يتبين إلا بعد عقد فصول في ماهية (¬2) الكلام وحقيقته شاهدًا، حتى إذا وضحت الأغراض منها انعطفنا بعدها إلى مقصدنا، وقد التزمنا التمسك بالقواطع في هذا المعتقد على صغر حجمه، وآثرنا إجراءه (¬3) على خلاف ما صادفنا (¬4) من معتقدات الأئمة (¬5)، و [هذا الشرط] (¬6) يلزمنا طرفًا (¬7) من البسط في مسألة الكلام، وها نحن خائضون فيه. ثم تكلم في حد الكلام (¬8)، ثم تكلم في أن المتكلم من قام به الكلام لا من فعله (¬9)، ثم بنى على ذلك أنه لا بد أن يكون الكلام قائمًا به، ثم قال (¬10): وإذا تقرر ذلك ترتب عليه استحالة كونه حادثًا لقيام (¬11) الدليل على استحالة قبوله للحوادث، ولا يبقى بعد هذه (¬12) الأقسام إلا مذهب أهل الحق في وصف الباري تعالى بكونه متكلمًا بكلام قديم أزلي: فقد بين أن ذلك مبني على أنه يستحيل قيام الحوادث به، وكان قد ¬
ذكر هذه المسألة قبل ذلك فقال (¬1): فصل: مما يخالف الجوهر فيه (¬2) حكم الإله: قبول الأعراض، وصحة الاتصاف بالحوادث، والرب -سبحانه وتعالى- متقدس (¬3) عن قبول الحوادث: قال (¬4): وذهبت الكراميّة إلى أن الحوادث تقوم بذات الإله (¬5) -تعالى عن قولهم- ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث. قال (¬6): وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا إليها، فقالوا: القول الحادث يقوم بذات الرب -سبحانه وتعالى- وهو غير قائل به، وإنما هو قائل بالقائلية (¬7). وحقيقة أصولهم (¬8) أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد (¬9)، وكذلك (¬10) وصفوه بكونه تعالى خالقًا في الأزل، فلم (¬11) يتحاشوا من قيام الحوادث به، وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكرًا وقولًا. ¬
قال (¬1): والدليل على بطلان ما قالوه، أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر، حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض، وما لم يخل من الحوادث لم يسبقها (¬2)، وينساق ذلك إلى الحكم بحدث (¬3) الصانع. قال (¬4): ولا يستقيم هذا الدليل على أصول المعتزلة مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجواهر عن الأعراض، على تفصيل لهم أشرنا إليه، وإثباتهم أحكامًا متجددة لذات الرب -تعالى- من الإرادات الحادثة القائمة، لا بمحال (¬5) -على زعمهم-، ويصدهم (¬6) -أيضًا- عن طرد الدليل في هذه المسألة أنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام الذات (¬7) من غير أن يدل (¬8) على الحدث (¬9)، لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض على الذات. قال (¬10): وتقول الكرامية: مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الرب (¬11) به تناقض، إذ لو جاز قيام معنى بمحل غائب (¬12) ¬
من غير أن يتصف المحل (¬1) بحكمة، لجاز شاهدًا قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف (¬2) المحال بأحكام مركبة على (¬3) المعاني، وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى الجهالات. ثم نقول لهم: إذا جوزتم [قيام ضروب من الحوادث بذاته فما المانع من تجويز] (¬4) قيام أكوان (¬5) حادثة بذاته على التعاقب؟ وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث، ومما يلزمهم [تجويز] (¬6) قيام قدرة حادثة وعلم حادث [بذاته على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثتين، ولا يجدون بين ما] (¬7) جوزوه (¬8) وامتنعوا منه فصلًا. ¬
تعليق الشيخ على كلام أبي المعالي بأن مداره على ثلاثة أشياء
ونقول أيضًا: إذا وصفتم الباري (¬1) -تعالى- بكونه متحيزًا، وكل متحيز جسم وجرم (¬2)، فلا يتقرر في المعقول خلو الأجرام عن الأكوان فما (¬3) المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه؟ قلت: هذه جملة كلامه في هذه المسألة بألفاظه، ومداره على ثلاثة أشياء: أحدها: أنه لو قبلها لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. والثاني: أنه لو قبلها لاتصف بها. والثالث: أنه إذا قبل بعضها فيجب أن يقبل بعضه (¬4) غيره، وهم لا يقولون به، وهاتان الحجتان الثانيتان جدليتان، فإن كونه متصفًا بالأفعال التي تقوم به أو غير متصف إلا بالصفات اللازمة له نزاع لفظي، وكذلك كون المنازع جوز قيام البعض دون البعض، فإنه إما أن يبين فرقًا بين الممنوع (¬5) والمجوز أو لا يبين فرقًا، فإن بين فرقًا ثبت الفرق، وإن لم يبين فرقًا فقد يكون عجزًا منه، وإن قدر على (¬6) أنه لا فرق في نفس الأمر فيلزم أحد الأمرين لا (¬7) بعينه، إما جواز الجميع، وإما المنع من ¬
الجميع وذلك لا يقتضي ثبوت أحدهما وهو الامتناع إلا بدليل، وهو لم يذكر دليلًا على ذلك، فلم يذكر في المسألة حجة إلا ما ذكره من قوله: لو قبلها لم يخل منها، وهذه الحجة (¬1) أحال فيها على ما ذكره قبل ذلك، فإنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما [سبق] (¬2) تقريره في الجواهر (¬3)، حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض، وهذا الذي أحال عليه هو ما ذكره في مسألة حدوث الأجسام، فإنه ذكر الطريقة المشهورة الكلامية المبنية على أربعة أصول (¬4) قال (¬5): "فأما (¬6) الأصل الثالث، فهو يبين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض، فالذي صار إليه أهل الحق أن الجوهر (¬7) لا يخلو عن كل ¬
جنس من الأعراض وعن (¬1) جميع أضداده إن كانت له أضداد، فإن (¬2) كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين، فإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه. قال (¬3): وجوزت الملحدة خلو الجواهر عن جميع الأعراض، والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى (¬4) والمادة، والأعراض تسمى الصور، وجوز الصالحي (¬5) -الخلو عن جملة الأعراض ابتداء، ¬
ومنع (¬1) البصريون من المعتزلة (¬2) العُرُوّ عن الأكوان، وجوزوا العرو (¬3) عما عداها، وقال الكعبي ومتبعوه (¬4): يجوز الخلو عن ¬
الأكوان، ويمتنع الخلو عن الألوان (¬1). قال (¬2): وكل مخالف لنا وافقنا (¬3) على امتناع العرو عن (¬4) الأعراض بعد قبول الجواهر فيفرض الكلام على الملحدة في الأكوان، فإن القول فيها يستند إلى الضرورة، فإنا ببديهة العقول (¬5) نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع (¬6) والافتراق لا تعقل (¬7) غير متماسة (¬8) ولا متباينة. ومما يوضح ذلك، أنها إذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر في العقل اجتماعها (¬9) إلا عن افتراق سابق، إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها، اضطررنا إلى العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع. ¬
الجويني تمسك بنكتتين في رده على المعتزلة
وغرضنا في رَوْم (¬1) إثبات حدوث (¬2) العالم يتضح بالأكوان (¬3). وإن حاولنا ردًّا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين: إحداهما: الاستشهاد بالإجماع (¬4) على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها، فنقول: كل عرض باق فإنه ينتفي (¬5) عن محله بطريان ضده، والضد إنما يطرأ (¬6) في حال عدم المنتفي به -على زعمهم- فإذا انتفى البياض فهلا جاز ألا يحدث (¬7) بعد انتفائه لون، إن كان يجوز (¬8) تقدير الخلو عن الألوان ابتداء؟ وتَطّرد (¬9) هذه الطريقة (¬10) في أجناس الأعراض. ونقول -أيضًا (¬11): الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب -سبحانه وتعالى- أنها (¬12) لو قامت به لم يخل عنها، وذلك يقضي ¬
بحدثه (¬1) فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث (¬2)، مع قبوله لها صحة وجوازًا، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث. قلت: فهذا جملة كلامه في هذا الأصل، ولم يذكر فيه حجة أصلًا على المطلوب، بل فيه إحالة، فإنه ذكر خمسة أقوال: أحدها: القول الذي عليه أصحابه أن الجوهر لا يجوز أن يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن أضدادها، بل لا بد أن يقوم به من كل جنس عرض (¬3) واحد، سواء كان له ضد أولم يكن له، وإن كان كثير من الناس يقول إن هذا مخالف للحس، كدعوى الطعم والريح للهواء والماء والنار. والقول الثاني: في مقابلة هذا، وهو جواز خلوه عن كل عرض. والثالث: الخلو عن جميعها في الابتداء دون الدوام. الرابع (¬4): أنه يمتنع خلوه عن الأكوان، ويجوز خلوه عما سواها، وهو قول بصري (¬5) المعتزلة. والخامس: امتناع خلوها عن الأكوان دون ما سواها، وهو قول البغداديين (¬6) الكعبي وأتباعه، وهم أغلظ بدعة من البصريين. ثم إنه لم يقم دليلًا إلا على الأكوان، فإنه ذكر أنه يعلم بالضرورة أن ما قبل الاجتماع والافتراق لم يعقل إلّا مجتمعًا أو متفرقًا، وذكر أن ¬
مقصوده في حدوث العالم يتم بالأكوان (¬1)، وهذا إنما هو رد على من يجوز خلوها عن الأكوان، وقد ذكر عن البصريين أنهم لا يخالفونه في ذلك، فاحتج عليهم بحجتين إلزاميتين ليس فيهما حجة علمية: إحداهما (¬2): ما سلموه من امتناع الخلو بعد قيام العرض، وسوى بين الحالين، وقال: إذا جاز أن يخلو قبل قيام العرض عن الضدين جاز بعد ذلك. فيقال له: إن كانت هذه التسوية باطلة ثبت الفرق وبطل قولك، وإن كانت التسوية صحيحة لزم أحد الأمرين: إما جواز الخلو قبل وبعد أو امتناع الخلو قبل وبعد، لا يلزم أحدهما بعينه، وموافقة المنازع لك على امتناع الخلو [بعد] (¬3) لا يفيدك أنت علمًا إذا لم يكن لك ولا له ¬
حجة على ذلك، فلا بد من حجة يعلم بها امتناع الخلو فيما بعد حتى يلحق به ما قبل، وليس معك في ذلك إجماع معصوم من الخطأ إذ ذاك إجماع المؤمنين، وطائفة من المتكلمين لا يمتنع أن يتفقوا على خطأ إذ أكثر الأمة يخطئهم كلهم في كثير [من] (¬1) كلامهم، على أن الخلاف في هذه المسألة لا يمكن دعوى عدمه، على أنه ليس غرضنا الكلام معه في ذلك. وإنما الغرض قوله في النكتة الثانية (¬2): "الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب -سبحانه وتعالى- أنها لو قامت به لم يخل عنها وذلك يقضي بحدثه (¬3)، فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن الحوادث، مع قبوله لها صحة وجوازًا، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري للحوادث". فيقال لك: أنت قد ذكرت -أيضًا- فيما تقدم - (¬4) أن المعتزلة لا يستقيم على أصولهم الاجتماع على أن الحوادث لا تقوم بذات الباري، مع تجويزهم خلو الجواهر عن الأعراض، ومع قضائهم بتجدد أحكام الرب -تبارك وتعالى- وأما أنت وأصحابك فلم تذكروا حجة على أنه يمتنع خلو الجواهر عن كل جنس من أجناس الأعراض، ولا أقمتم حجة على [أن] (¬5) القابل (¬6) للشيء لا يخلو منه ومن ضده، ولا أقمتم حجة على استحالة قيام الحوادث به، بل أنت في مسألة الحوادث جعلت ¬
الدليل القاطع الذي تحتج به (¬1) في أصول الدين الذي ذكرت أنه ليس في بابه مثله هو قولك (¬2): "إنه لو قبل (¬3) الحوادث لم يخل منها لما (¬4) سبق تقريره في الجواهر، حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض، وما لم يخل من الحوادث لم يسبقها، وينساق ذلك إلى الحكم بحديث (¬5) الصانع". فيقال له: قولك: لما سبق تقريره إحالة على ما مضى وأنت لم تقرر فيما مضى أن ما قبل الشيء لم يخل منه، ولا قررت أن كل جوهر قبل عرضًا يستحيل خلوه عنه (¬6)، ولا قررت -أيضًا- استحالة تعري الجواهر (¬7) عن جميع الأعراض، إذ هذا يحتاج إلى مقدمتين: إحداهما: إمكان قيام كل جنس من الأعراض بكل جوهر. والثانية: أن القابل للشيء (¬8) لا يخلو منه ومن ضده، وأنت لم تذكر حجة على شيء من ذلك، غاية ما ذكرت أنك أثبت الأكوان التي هي الاجتماع والافتراق فقط، وأنك ادعيت تناقض المعتزلة حيث فرقوا بين ما قبل الاتصاف وبعده، وحيث إنهم إذا جوزوا خلو الجوهر عن بعض الحوادث مع قبوله لها (¬9)، بطل الاستدلال على امتناع قيام الحوادث بذات الله، وأنه لا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري للحوادث، فكان هذا الكلام مع ما فيه من ذكر تناقض المعتزلة، وأنه لا حجة لهم ¬
على امتناع قيام الحوادث بالرب، فيه -أيضًا- أنه لا حجة على امتناع ذلك إلا هذه الحجة، وهو أنه لو قبل (¬1) الجوهر العرض لم يخل منه، ثم هذه الدعوى لم تذكر أنت -أيضًا- عليها حجة أصلًا، فقد أقررت بأن قول أصحابك، وقول المعتزلة بأنه تعالى منزه عن قبول الحوادث قول بلا حجة أصلًا فأين الدليل الذي ذكرتموه في ذلك، فضلًا عن أن يكون قاطعًا؟ وهذا إذا تدبره العاقل تبين له أن القوم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويقولون على الله غير الحق، كما يقوله المشركون وأهل الكتاب. فإن قلت: فقد (¬2) قررنا ذلك في الأكوان، كالاجتماع والافتراق. فيقال: هذا حق، فإن ما كان قابلًا (¬3) أن يكون مجتمعًا وأن يكون مفترقًا، لم يكن إلا مجتمعًا أو مفترقًا، لكن هذا لا عموم فيه في جميع الصفات والأعراض، وغايته أن يثبت نظيره في الرب، فيقول: إذا كانت ذاته قابلة (¬4) للاجتماع أو الافتراق، لم يكن إلّا مجتمعًا أو مفترقًا، فالمنازع لك إن لم يسلم قبوله لهذين، لم يلزم أن لا يسلم قبوله لغيرهما من الصفات والأفعال، كما تقوله أنت، وإن سلم ذلك وقال: إنه أحد صمد والصمد أصله: المجتمع الذي لا جوف له، فإنه يقول (¬5): اجتماعه كعلمه وقدرته، هو من الصفات اللازمة له التي لا يجوز عدمها، وليس من الحوادث، فصفات الجوهر المخلوق تقبل الزوال إذ ¬
مسألة حلول الحوادث جعلتها الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم أصلا عظيما في تعطيل ما جاء في الكتاب والسنة
يمتنع [عليها البقاء، بخلاف صفات الله الواجبة له، كما أن ذات (¬1) الجواهر المخلوقة تقبل العدم، والرب -سبحانه- واجب الوجود بنفسه يمتنع] (¬2) عليه العدم. وبهذا يظهر أنه لم يذكر دليلًا على حدوث الجواهر -أيضًا- كما لم يذكر دليلًا على امتناع قيام الحوادث بالرب، فإن دليله مبني على أربع مقدمات: ثبوت الأعراض [وثبوت أنها جميعًا حادثة، وأن الجوهر لا يخلو منها، وأنه يمتنع حوادث لا أول لها (¬3)، وهو لم يثبت من الأعراض] (¬4) اللازمة للجواهر إلّا الأكوان، الاجتماع والافتراق، ولم (¬5) يثبت حدوثها إلّا بقبولها العدم، فما لم (¬6) يثبت عدمه لم يعلم حدوثه، ولم يثبت جواز تفرق كل الأجسام، مع أن الحجة المذكورة في أن ما ثبت عدمه امتنع قدمه، فيها كلام ليس هذا موضعه. والمقصود هنا: الكلام في مسألة حلول الحوادث التي جعلتها الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم، أصلًا عظيمًا في تعطيل ما جاء في الكتاب والسنة من ذلك، كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬7) {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (¬8)، وغير ذلك، ثم أنه -سبحانه- يقبل أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلًا، والقول بأن فاعلًا يفعل وحاله قبل الفعل ¬
وبعده سواء ولم يقم به فعل نفسه، هو (¬1) في المعقول أبعد من كون الساكن الذي سكونه قديم (¬2) [يمتنع أن يتحرك، لأن السكون القديم يمتنع عدمه ولو عرض] (¬3) على العقل الصحيح جواز أن يبدع أشياء من غير أن يكون له في نفسه فعل أصلًا، وجواز أن يفعل ويكون فعله في نفسه بعد أن كان تاركًا، لكان الثاني أقرب إلى عقل كل أحد من الأول، فإن هذا الثاني معقول، والأول غير معقول. وبهذا استطالت عليهم الدهرية من الفلاسفة (¬4) ونحوهم، فإنهم ادعوا حدوث الجواهر والأجسام، ومضمون عموم كلامهم يقتضي أنهم ادعوا حدوث كل موجود، لكن لم يقصدوا ذلك، وإنما هو لازم لهم، ومعلوم أن هذا باطل، والدهرية ادعوا قدم السماوات، ولا شك أن هذا كفر باطل -أيضًا- لكن صار كل من الفريقين يعارض الآخر بحجج ¬
تبطل (¬1) حجج نفسه، لأن كلًّا (¬2) من القولين باطل، فتكون حجتهم باطلة فيمكن إبطالها، ولهذا كان غالب أئمتهم يقولون بتكافؤ الأدلة في هذه المسألة ونحوها (¬3)، ويصيرون فيها إلى الوقف والحيرة، ثم هم مع ذلك قد يعتقدون أن الإسلام لا يتم إلّا بما ادعوه من القول بهذا الحدوث، فيكون ذلك سببًا لنفاقهم وزندقتهم، وذلك باطل، ليس هذا من أصل الإسلام في شيء، واعتبر ذلك بابن الراوندي (¬4) الذي يقال: إنه أحد شيوخ الأشعري وقد فرح أصحاب الأشعري بموافقته، وموافقة أبي عيسى الوراق (¬5) لهم على إثبات كلام النفس، ومع هذا فله كتاب مشهور سماه كتاب "التاج" (¬6) في قدم (¬7) العالم، وذكر الأشعري أنه في كتابه ¬
الأشعري والرازي أقرا في آخر عمرهما بتكافؤ الأدلة في مسألة حدوث الأجسام
الكبير وهو "الفصول" (¬1) ذكر علل الملحدين والدهريين مما احتجوا به في قدم العالم، وتكلم عليها، وأنه استوفى ما ذكره ابن الراوندي في كتابه المعروف بكتاب (¬2) التاج، وهو الذي نصر فيه القول بقدم العالم. وقد قيل: إن الأشعري في آخر عمره أقرَّ بتكافؤ الأدلة (¬3)، واعتبر ذلك بالرازي فإنه في هذه [وهي] (¬4) مسألة حدوث (¬5) الأجسام -يذكر أدلة الطائفتين، ويصرح في آخر كتبه وآخر عمره، وهو كتاب "المطالب العالية" (¬6) بتكافؤ الأدلة وأن المسألة من محارات. . . . . . . . . . . . . . . ¬
الغالب على اتباعهم الشك والارتياب
العقول (¬1). ولهذا كان الغالب على أتباعهم الشك والارتياب في الإسلام، كما حدثني من حدثه ابن باده أنه دخل على الخسرو شاهي (¬2) -وهو أحد تلامذة ابن الخطيب (¬3) - الذي قدم إلى الشام ومصر، وأخذه الملك ¬
الناصر (¬1) صاحب الكرك (¬2) إلى عنده، وكان يقرأ عليه، حتى قيل: إنه حصل له اضطراب في الإيمان من جهته وجهة أمثاله. قال: دخلت عليه بدمشق، فقال لي: يا فلان ما تعتقد؟ قلت: أعتقد ما يعتقده المسلمون، قال: وأنت جازم بذاك (¬3) وصدرك منشرح له قلت: نعم، قال: فبكى بكاء شديدًا (¬4) عظيمًا، أظنه وقال: لكني والله ما أدري ما أعتقد؟ لكني والله ما أدري ما أعتقد؟ لكني والله ما أدري ما أعتقد (¬5)؟ ¬
وحدثني الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد القوي (¬1) عن مؤذن الكرك، قال: صعدت ليلة بوقت فسبحت في المنارة، ثم نزلت والخسرو شاهي ساهر مع السلطان يتحدثان، فقال: إلى الساعة وأنت تسبح في المنارة؟ فقلت: نعم. فقال: بت تناجي الرحمن، وبت أناجي الشيطان. وأيضًا (¬2)، فما ذكره (¬3) أن المعتزلة تصدهم عن طرد الدليل في هذه المسألة أنه إذا لم يتمنع تجدد أحكام الذات (¬4) من غير أن يدل على الحدث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار (¬5) الأعراض على الذات، يلزمه مثله في تجدد حكم السمع والبصر، فإنه إنما يتعلق بالموجود دون المعدوم، وإما أن يكون الرب بعد أن خلق الموجودات، كحاله قبل وجودها في السمع والبصر، أو (¬6) لا يكون، فإن كان حاله قبل كحاله بعد، وهو قبل لم يكن يسمع شيئًا ولا يراه، فكذلك بعد لاستواء الحالين، فإن قيل: إن حاله بعد ذلك خلاف حاله قبل، فهذا قول بتجدد الأحوال (¬7) والحوادث ولا حيلة في ذلك، ولا يمكن أن يقال في ذلك ما قيل في ¬
العلم، وأن (¬1) العلم يتعلق بالمعدوم، فأمكن المفرق أن يقول: حاله قبل وجود المعلوم (¬2) وبعده سواء. وقد ذكر هذا الإلزام أبو عبد الله الرازي (¬3)، والتزم قول الكرامية بعد أن أجاب بجواب ليس بذاك (¬4)، فإن المخالف احتج عليه بأن السمع والبصر يمتنع أن يكون قديمًا، لأن الإدراك لا بد له من متعلق، وهو لا يتعلق بالمعدوم، فيمتنع ثبوت (¬5) السمع والبصر للعالم قبل وجوده، إذ هم لا يثبتون أمرًا في ذوات الله، به يسمع ويبصر، بل السمع والبصر نفس الإدراك عندهم، ويمتنع أن يكون حادثًا، لأنه يلزم أن يكون محلًا للحوادث، ويلزم أن يتغير، وكلاهما محال. وقال (¬6) في الجواب: "لم لا يجوز أن يكون الله سميعًا بصيرًا بسمع قديم وبصر قديم، ويكون ذلك (¬7) السمع والبصر يقتضيان التعلق بالمرئي والمسموع بشرط حضورهما ووجودهما (¬8). قال (¬9): وهذا هو (¬10) المعنى بقول أصحابنا في السمع والبصر: ¬
إنه صفة متهيئة لدرك ما عرض عليه، فإن قال قائل (¬1): فحينئذ يلزم تجدد التعلقات. قلنا: وأي بأس بذلك إذا لم يثبت أن التعلقات أمور (¬2) وجودية في الأعيان، فهذا هو تقرير المذهب، ثم لئن سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز [أن يكون (¬3) محدثًا (¬4) في ذاته على ما هو مذهب الكرامية؟ قوله (¬5): يلزم أن يكون محلًا للحوادث. قلنا: إن عنيتم (¬6) حدوث هذه الصفات في ذاته تعالى بعد أن لم تكن حادثة فيها (¬7)، فهذا هو المذهب، فلم قلتم إنه محال؟ وإن عنيتم شيئًا (¬8) آخر فبينوه لنتكلم عليه، وهذا هو الجواب عن قوله: يلزم وجود التغيير في ذات الله (¬9) ". قلت: وقد اعترف في هذا الموضع بضعف الجواب الأول، وذلك قول القائل: صفة متهيئة لدرك ما عرض عليه، وضده نفي السمع والبصر هو الإدراك (¬10)، فما الفرق بين الصفة وبين هذا المدرك؟ ثم عند وجود ¬
هذا الدرك هل يكون سامعًا مبصرًا لما لم يكن قبل ذلك سامعا [له] (¬1) مبصرًا أم لا يكون؟ فإن لم يكن [كذلك لزم نفي أن يسمع ويبصر، وإن كان سمع ورأى ما لم يكن] (¬2) سمعه ورآه. فمن المعلوم بالاضطرار أن هذا أمر وجودي قائم بذات السامع الرائي وأنه ليس أمرًا عدميًّا، ولا واسطة بين الوجود والعدم، ولو كان عدميًّا لكان سلبه وجوديًّا إذا قيل: لم يسمع ولم يبصر، وإن كان سلبه وجوديًّا لا متنع (¬3) وصف المعدوم به، فإن المعدوم لا يوصف بوجود، ومذهب هؤلاء إنما تشكل على الناس لاشتراك اللفظ، فإن السمع والبصر يطلق بمعنى ما به يسمع ويبصر، وليس الله عندهم سميعًا بصيرًا بهذا الاعتبار، وإن كان أهل الإثبات يقولون بذلك، وإنما هو عندهم مجرد الإدراك فقط فكيف يقال: كان ثابتًا في العدم غير متعلق، وأنه لا يتعلق إلا بالموجود وأن تعلقه بالموجود عدم محض؟ هذه أقوال معلومة (¬4) الفساد بالضرورة، وقد بسطنا الكلام في مسألة الأفعال الاختيارية بسطًا عظيمًا في غير هذا الموضع (¬5). ¬
الكلام في اسم الله الواحد، وأن له ثلاث معان عندهم
وكان المقصود هنا أولًا الكلام في اسم الله الواحد وأن له ثلاثة معان (¬1): أحدها: أنه الذي لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتركب وربما قال بعضهم: هذا تفسير الاسم الأحد، وهذه الوحدانية هي التي ذكروها هنا، إذ ليس مرادهم بأنه لا ينقسم ولا يتبعض أنه لا ينفصل بعضه عن بعض، وأنه لا يكون إلهين اثنين، ونحو ذلك مما يقول نحوًا منه النصارى والمشركون، فإن هذا مما لا ينازعهم فيه المسلمون، وهو حق لا ريب فيه، وكذلك كان علماء السلف ينفون التبعيض عن الله بهذا المعنى، وإنما مرادهم بذلك أنه لا يشهد ويرى (¬2) منه شيء دون شيء، ولا يدرك منه شيء دون شيء، ولا يعلم منه شيء دون شيء، ولا يمكن أن يشار إلى شيء منه (¬3) دون شيء، بحيث أنه ليس [له] (¬4) في نفسه حقيقة عندهم قائمة بنفسها يمكنه هو أن يشير منها إلى شيء دون شيء، أو يَرَى عباده منها شيئًا دون شيء، بحيث إذا تجلى لعباده يريهم من نفسه المقدسة ما شاء، فإن ذلك غير ممكن عندهم، ولا يتصور عندهم أن يكون العباد محجوبين عنه بحجاب منفصل عنهم يمنع أبصارهم رؤيته (¬5)، فإن الحجاب لا يحجب إلا ما هو جسم منقسم، ولا يتصور عندهم أن الله يكشف عن وجهه الحجاب ليراه المؤمنون، ولا أن يكون على وجهه حجاب (¬6) أصلًا، ولا أن يكون ¬
المعنى الثاني
بحيث يراه (¬1) العبد أو يصل إليه أو يدنو منه أو يقرب (¬2) إليه في الحقيقة، فهذا (¬3) ونحوه هو المراد عندهم بكونه (¬4) لا ينقسم (¬5)، ويسمون ذلك نفي التجسيم إذ كل ما (¬6) ثبت له ذلك كان جسمًا منقسمًا مركبًا، والباري فإنه (¬7) منزه عندهم من (¬8) هذه المعاني. والمعنى الثاني: من معاني الواحد عندهم هو الذي لا شبيه له، وهذه الكلمة أقرب إلى الإسلام، لكن أجملوها فجعلوا نفي الصفات أو بعضها داخلًا في نفي التشبيه، واضطربوا في ذلك على درجات لا تنضبط، والمعتزلة تزعم أن نفي العلم والقدرة وغير ذلك من التوحيد ونفي (¬9) التشبيه والتجسيم (¬10)، والصفاتية تقول: ليس ذلك من التوحيد ونفي التجسيم والتشبيه، ثم هؤلاء مضطربون فيما ينفونه من ذلك، لكن أولئك على أن ما نفوه من [التشبيه وما نفوه من] (¬11) المعنى الذي سموه تجسيمًا هو التوحيد الذي لا يتم الدين إلا به، وهو أصل الدين عندهم. ¬
إنكار السلف لما سماه هؤلاء توحيدا
وكل من سمع (¬1) ما جاءت به الرسل يعلم بالاضطرار أن هذه الأمور ليست مما بعث الله به رسوله، ولم يكن الرسول يعلم أمته هذه، الأمور، ولا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، فكيف يكون هذا التوحيد الذي هو أصل الدين لم يدع إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعون؟ بل يعلم بالاضطرار أن الذي جاء به الرسول من الكتاب والسنة يخالف هذا المعنى الذي سماه هؤلاء الجهمية توحيدًا. ولهذا ما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون ذلك، كما روى الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، في ذم الكلام (¬2) قال: "سمعت عبد الرحمن بن جابر السلمي قال: سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول: جاء رجل إلى المزني فسأله عن شيء من الكلام، فقال: إني أكره هذا، بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، ولقد (¬3) سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام في التوحيد. قال (¬4) ¬
مالك: محال أن يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علم أمته الاستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد، فالتوحيد (¬1) ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" (¬2) [فما] (¬3) عصم به الدم والمال فهو حقيقة (¬4) التوحيد. وقد روى (¬5) ذلك (¬6) [شيخ الإسلام] (¬7) أبو إسماعيل الأنصاري ¬
في كتاب ذم الكلام (¬1)، والشيخ أبو الحسن الكرجي (¬2) في كتاب الفصول في الأصول. ¬
وروى -أيضًا- أبو عبد الرحمن السلمي (¬1)، ومن طريق شيخ الإسلام: حدثنا محمد بن محمود الفقيه بموو (¬2)، ثنا محمد بن عمير، ثنا أبو يحيى زكريا بن العلاف التجيبي بمصر، ثنا (¬3) يونس بن عبد الأعلى، ثنا أشهب بن عبد العزيز سمعت مالك بن أنس يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. ورويا (¬4) -أيضًا- ما ذكره -أيضًا- الشيخ أبو عبد الرحمن: "ثنا محمد بن جعفر، ثنا (¬5) بن مطر، سمعت شكرًا، سمعت أبا سعيد البصري، سمعت أبا عبد الرحمن بن مهدي (¬6) يقول: دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عَمْرًا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام ¬
علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل". وهذا صريح في رد الكلام والتوحيد الذي كان تقوله المعتزلة والجهمية، وليس له أصل عن الصحابة والتابعين، بخلاف ما روي من (¬1) الآثار الصحيحة في الصفات والتوحيد عن الصحابة والتابعين، فإن ذلك لم ينكروه، إنما (¬2) أنكر (¬3) الكلام والتوحيد المبتدع في أسماء الله وصفاته وكلامه. وقال (¬4) أبو عبد الرحمن: "ثنا أبو القاسم بن مستوية، ثنا حامد بن رستم ثنا الحسين بن مطيع، ثنا إبراهيم بن رستم، عن نوح الجامع، قال: قلت لأبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها (¬5) بدعة. وقال (¬6): "حدثنا عبد الله بن أحمد بن سعيد البخاري، سمعت سعيد بن الأحنف، سمعت الفتح بن علوان، سمعت أحمد بن ¬
الحجاج، سمعت محمد بن الحسن (¬1)، صاحب أبي حنيفة يقول: قال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم (¬2) من الكلام، وكان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام". قال (¬3) شيخ الإسلام [أنبأ] (¬4) أبو الفضل (¬5) الجارودي: "أنبأ إبراهيم بن محمد ثنا زكريا بن يحيى سمعت محمد بن إسماعيل يقول (¬6): سمعت الحسين بن علي الكرابيسي (¬7) يقول: شهدت الشافعي ودخل عليه بشر المريسي فقال (¬8) لبشر: أخبرني عما تدعو (¬9) إليه: أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة، ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟ فقال بشر: لا إلا أنه لا يسعنا خلافه، فقال الشافعي: أقررت على نفسك (¬10) بالخطأ فأين أنت. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
التوحيد الذي يذكره هؤلاء مأخوذ من قول بشر المريسي وذويه وهو التعطيل بعينه
عن (¬1) الكلام في الفقه والأخبار، يواليك الناس عليه وتترك هذا؟ قال: لنا تهمة فيه، فلما خرج بشر قال الشافعي: لا يفلح". وروى شيخ الإسلام (¬2) عن المزني وعن ربيع: "قال المزني: سمعت الشافعي يقول للربيع: يا ربيع اقبل مني ثلاثة أشياء: لا تخوضن (¬3) في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن خصمك النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، ولا تشتغل بالكلام فإني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل، وزاد المزني: ولا تشتغل بالنجوم فإنه يجر إلى التعطيل". وهذا التوحيد الذي يذكره هؤلاء مأخوذ من قول بشر المريسي وذويه وهذا التوحيد الذي ذكروه هو التعطيل بعينه، فإنه لا يصلح إلا أن يكون (¬4) صفة للمعدوم. وقال (¬5) أبو عبد الرحمن السلمي -أيضًا-: "رأيت بخط أبي عمرو بن مطر يقول: سئل ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات، فقال: بدعة ابتدعوها، ولم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب وأئمة الدين، مثل مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك ومحمد بن يحيى وأبي (¬6) حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف، يتكلمون في ذلك، بل كانوا ينهون عن الخوض ¬
الخوض في الجسم والعرض، ونفي ذلك وجعل ذلك من التوحيد هو قول أهل الباطل
فيه، ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة، فإياك والخوض فيه، والنظر في كتبهم بحال". قلت: وقول ابن خزيمة، الملقب بإمام الأئمة: الكلام في الأسماء والصفات [هو نظير ما نهى عنه مالك من الكلام في الأسماء والصفات] (¬1)، وهو هذا التوحيد الذي ابتدعته (¬2) الجهمية وأتباعها، فإن ابن خزيمة له كتاب مشهور في التوحيد (¬3) يذكر فيه صفات الله التي نطق بها كتابه وسنة رسوله. قال (¬4) أبو عبد الرحمن: "سمعت أبي يقول: قلت لأبي العباس بن سريج (¬5): ما التوحيد؟ قال: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتوحيد أهل الباطل: الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنكار ذلك". هذا موافق لما تقدم، فبين أن الخوض في الجسم والعرض ونفي ¬
ذلك وجعل ذلك من التوحيد، هو من قول أهل الباطل، فكيف بمن جعله أصل الدين، كما قال شيخ الإسلام (¬1): "سمعت أحمد بن الحسن، أنبأ الأشعث، يقول: قال رجل لبشر بن أحمد أبي سهل الإسفرائيني: إنما أتعلم الكلام لأعرف به الدين. فغضب، وسمعته قال: أو كان السلف من علمائنا كفارًا؟ ". وقال أبو عمر بن عبد البر (¬2): "الذي أقول: إنه إذا نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبد الرحمن، وسائر (¬3) المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجًا، علم أن الله -عزَّ وجلَّ- لم يعرفه واحد منهم إلّا بتصديق النبيين وبأعلام (¬4) النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا سكون (¬5)، ولا من باب البعض والكل (¬6)، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبًا، وفي الجسم ونفيه والتشبيه (¬7) ونفيه لازمًا ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب لما (¬8) نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من علمهم (¬9) مشهورًا، ومن أخلاقهم معروفًا، لاستفاض عنهم واشتهروا به ¬
كما اشتهروا بالقرآن (¬1) والروايات". فذكر أبو عمر أن ما يدخله (¬2) هؤلاء في أصول الدين والتوحيد، من الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه، والاستدلال بالحركة والسكون، لو كان من الدين لما أضاعه (¬3) خيار هذه الأمة، فعلم أنه ليس من الدين، وكلام علماء الملة في هذا الباب يطول، وإنما الغرض التنبيه على أن ما سماه هؤلاء توحيدًا، وجعلوه هو نفي التجسيم والتشبيه، إنما هو شيء ابتدعوه لم يبعث الله به رسله ولا أنزل به كتبه، وقد اعترف بذلك حذاقهم، كما ذكره أبو حامد الغزالي، في كتابه إحياء علوم الدين (¬4)، ووافقه فيه أبو الفرج بن الجوزي في كتاب منهاج القاصدين (¬5)، لما ذكر الأسماء التي ¬
ابن كلاب والأشعري والقلانسي ممن أخذ أصل الكلام والتوحيد عن المعتزلة وخالفوهم في بعض دون بعض
عرف مسمياتها، فذكر العلم والفقه والتوحيد، قال: [اللفظ الثالث التوحيد: وقد كان ذلك إشارة إلى أن ترى الأمور كلها من الله تعالى، رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فيثمر ذلك التوكل والرضى، وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام في الأصول، وذلك من المنكرات عند السلف] (¬1). ولهذا لما كان أبو محمد عبد الله بن سعيد [بن كلاب] (¬2) وأبو ¬
الحسن الأشعري، وأبو العباس القلانسي، ممن أخذ أصل الكلام في التوحيد عن المعتزلة، وخالفوهم في بعض دون بعض، يقع في كلامهم من هذا التوحيد المبتدع المخالف للتوحيد المنزل من عند الله ما يقع، كان الناس ينبهون على ذلك، حتى ذكر شيخ الإسلام (¬1) قال: "سمعت عدنان (¬2) بن عبدة النميري، سمعت أبا عمر (¬3) البسطامي يقول: كان أبو الحسن الأشعري أولًا ينتحل الاعتزال، ثم رجع فتكلم عليهم (¬4)، وإنما مذهبه (¬5) التعطيل إلّا أنه رجع من التصريح إلى التمويه". وقال (¬6) الشيخ أبو نصر السجْزي (¬7) في رسالته إلى أهل ¬
اليمن (¬1): "ولقد حكى لي محمد بن عبد الله المالكي المغربي، وكان فقيهًا صالحًا، عن الشيخ أبي سعيد البرقي، وهو من شيوخ فقهاء المالكيين [ببرقة (¬2)، عن أستاذه خلف المعلم (¬3)، وكان من فقهاء المالكيين] (¬4) أنه قال: الأشعري أقام (¬5) أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على (¬6) الأصول". قال أبو نصر (¬7):. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
"هذا (¬1) كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره (¬2) ". ولهذا قال محمد بن خويز منداد (¬3): إمام المالكية في وقته في العراق، في الكلام الذي ذكره عنه أبو عمر بن عبد البر (¬4)، قال: أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه الذين (¬5) ترد شهادتهم، هم: أهل الكلام". قال: "فكل متكلم فهو من أهل (¬6) الأهواء والبدع عند مالك ¬
المعنى الثالث
وأصحابه [وكل (¬1) متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء] (¬2) أشعريًّا كان أو غير أشعري". والمعنى الثالث (¬3) من معاني التوحيد -عند هؤلاء الأشعرية، كالقاضي أبي بكر (¬4) وغيره- هو أنه سبحانه لا شريك له في الملك، بل هو رب كل شيء، وهذا معنى صحيح، وهو حق، وهو أجود ما اعتصموا به من الإسلام في أصولهم، حيث اعترفوا فيها بأن الله خالق كل شيء ومربه (¬5)، ومدبره، والمعتزلة وغيرهم يخالفون في ذلك، حيث يجعلون بعض المخلوقات لم يخلقها الله ولم يحدثها، لكن مع هذا قد ردوا قولهم ببدع غلوا فيها، وأنكروا ما خلقه الله من الأسباب، وأنكروا ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله يخلق الأشياء بعضها ببعض، وغير ذلك مما ليس هذا موضعه. فهذه المعاني الثلاثة هي التي يقولون: إنها معنى اسم الله الواحد، ¬
التوحيد الذي ذكره الله في كتابه، وبعث به رسله
وهي التوحيد، وفيها من البدع التي خولف فيها (¬1) الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ما قد نبهنا على بعضه. وأما التوحيد الذي ذكر الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة، فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2) فأخبر أن الإله إله واحد لا يجوز أن يتخذ إلهًا غيره، فلا يعبد إلا إياه، كما قال في السورة الأخرى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (¬3) وكما قال: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} إلى: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} (¬4) وكما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬5) وكما قال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬6). والشرك الذي ذكره الله في كتابه، إنما هو عبادة غيره من المخلوقات كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم أو قبورهم، أو غيرهم من الآدميين، ونحو ذلك مما هو كثير في هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محقق (¬7) في التوحيد، وهو من أعظم الناس إشراكًا، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ¬
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬1) وقال: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (¬2) وقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (¬3) وقال تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (¬4) وقال تعالى {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إلا اخْتِلَاقٌ} (¬5)، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (¬6) وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬7). قال ابن عباس، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد: يسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع هذا (¬8) يعبدون غيره، ¬
ويشركون به، ويقولون: له ولد، وثالث (¬1) ثلاثة. فكان الكفار يقرون بتوحيد الربوبية، وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون -إذا سلموا من البدع فيه- وكانوا مع هذا مشركين، لأنهم كانوا يعبدون غير الله، قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬3)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (¬4). فبين سبحانه أنه بهذا التوحيد بعث جميع الرسل، وأنه بعث إلى كل أمة رسولًا به، وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله لا من الأولين ولا من ¬
الآخرين دينًا غيره، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). فدين الله أن يدينه العباد (¬2) ويدينون له، فيعبدونه وحده ويطيعونه، وذلك هو الإسلام له، فمن ابتغى غير هذا دينًا فلن يقبل منه، وكذلك قال في الآية الأخرى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬3). فذكر أن الدين عند الله الإسلام، بعد إخباره بشهادته وشهادة الملائكة وأولي (¬4) العلم أنه لا إله إلا هو، والإله هو المستحق للعبادة، فأما من اعتقد في الله أنه رب كل شيء وخالقه، وهو مع هذا يعبد غيره، فإنه مشرك بربه متخذ من دونه إلهًا آخر، فليست الإلهية هي (¬5) الخلق أو القدرة على الخلق أو القدم، كما يفسرها هؤلاء المبتدعون في التوحيد من أهل الكلام، إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم، لم يكونوا يشكون في أن الله خالق كل شيء وربه، فلو ¬
التوحيد الذي لابد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد
كان هذا هو إلهية لكانوا قائلين: إنه لا إله إلا هو. فهذا (¬1) موضع عظيم جدًّا ينبغي معرفته، لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام، حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا، وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه، وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله، فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك، دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك، بل التوحيد الذي لا بد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد، وهو توحيد العبادة (¬2)، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، أن يقصد [الله] (¬3) بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه، وهذا هو الإسلام، فإن الإسلام يتضمن أصلين: ¬
أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالمًا فلا يشركه أحد في الإسلام له، وهذا هو الاستسلام لله دون ما سواه، وسورة قل يا أيها الكافرون تفسر ذلك. ولا ريب أن العمل والقصد مسبوق بالعلم، فلا بد أن يعلم ويشهد أن لا إله إلا الله. وأما التوحيد القولي الذي هو الخبر عن الله، ففي سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن (¬1) وفيها اسمه (الأحد) (الصمد) وكل من هذين الاسمين يدل على نقيض مذهب هؤلاء الجهمية كما قد بيناه في موضعه (¬2)، وعبادة الله وحده يدخل فيها كمال المحبة لله وحده، وكمال الخوف منه وحده، والرجاء له وحده (¬3)، والتوكل عليه وحده، كما يبين القرآن ذلك في غير موضع، فكل ذلك من أصول التوحيد الذي أوجب الله على عباده، وبذلك يكون الدين كله لله، كما أمر الله رسله والمؤمنين بالقتال إلى هذه الغاية، حيث يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (¬4). ¬
الوجه الحادي والستون: أن القرآن قد نطق بأن لله كلمات
الوجه الحادي والستون (¬1): أن القرآن قد نطق بأن لله كلمات في غير موضع من كتابه، كقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (¬2) وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬3) وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬4) وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (¬5)، وقال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (¬6) وقال تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬7)، وقال: {وصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (¬8). وكذلك تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة بكلمات الله التامات (¬9)، وهذا وأمثاله صريح في تعدد كلماته، فكيف يقال: ليس كلامه إلّا معنى واحد لا عدد فيه أصلًا؟ وهذا قد أوردوه، وذكروا جوابهم عنه. ¬
ما ذكره ابن فورك من أن كلام الله معنى واحد
فقال القرطبي (¬1) فيما ذكره من كلام ابن فورك: "فإن قيل: هذا (¬2) الذي قلتم يوجب أن تكون التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وسائر كتب الله شيئًا واحدًا، والرب تعالى قد أثبت لنفسه كلمات فقال (¬3): {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬4) وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (¬5) وقال: {وصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (¬6). قلنا: إن الرب سبحانه أثبت لنفسه كلمات، وأنزل الكتب كذلك، وسمى (¬7) نفسه بأسماء كثيرة، وأثبتها في التنزيل فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬8)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله تسعة وتسعون (¬9) اسمًا" (¬10)، أفتقولون بتعدد المسمى لتعديد الأسامي؟ أو تقولون: ¬
الأسماء تدل على مسمى واحد بنعوت الجلال (¬1)؟ ¬
فإن قلتم (¬1): التسميات تتعدد والمسمى واحد، فكذلك نقول في الكلام (¬2): إنه واحد لا يشبه كلام المخلوقات ولا هو بلغة من اللغات، ولا يوسف بأنه عربي أو فارسي أو عبراني، لكن العبارات عنه تكثر وتختلف، فإذا قرئ كلام الله بلغة العرب سمي قرآنًا، وإذا قرئ بلغة العبرانية أو الفارسية (¬3) سمي توراة وإنجيلًا (¬4)، كذلك الرب -سبحانه- يوصف (¬5) بالعربية الله الرحمن الرحيم، وبالفارسية "خداي بزرك" (¬6) وبالتركية "سركوي" (¬7) ونحو ذلك (¬8)، وهو -سبحانه- واحد، والتسمية الدالة عليه تكثر، وكذلك هو -سبحانه- معبود في السماء (¬9)، ومعبود في الأرض بعبادات وقصور (¬10) متباينة، وكذلك هو -سبحانه- مذكور الذاكرين بأذكار مختلفة، وكذلك الكلام يقرأ ويكتب (¬11) ويفسر، بقراءات مختلفة، وأذكار متفاوتة، وكتابة (¬12) متباينة. ¬
تعليق الشيخ عليه بأن من تدبره علم أن من أبطل القول وأفسد القياس
وقوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬1) قد قيل: إنما (¬2) سمى كلامه (¬3) كلمات لما فيه من فوائد الكلمات، ولأنه ينوب منابها، فجازت العبارة عنه بصيغة الجمع تعظيمًا (¬4)، وفي قريب من هذا المعنى قوله (¬5) الحق (¬6): {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬7)، وكذلك قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} (¬8) وكذلك قوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} (¬9) لأنه مناب أمة، وكذلك قوله: {ونَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬10) والمراد ميزان واحد. وقيل (¬11): ما نفذت (¬12) العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه". قلت: فهذا ما ذكروه، ومن تدبر ذلك علم أنه من أبطل القول وأفسد القياس، فإنهم أوردوا سؤالين: ¬
أحدهما: [أن هذا] (¬1) يوجب أن تكون التوراة والإنجيل وسائر كتب الله شيئًا واحدًا. والثاني: أن الرب أثبت لنفسه كلمات، ثم جعل الجواب عن الأول أن هذا مثل أسماء الله الحسنى، هي متعددة ومتنوعة باللغات والمسمى واحد، فكذلك هذه الكتب مع تعددها وتنوعها هي عبارة عن معنى واحد. ومن المعلوم أن هذا باطل في الأصل المقيس عليه، وفي الفرع أما في الأصل، فلأن أسماء الله الحسنى ليست مترادفة بحيث يكون معنى كل اسم هو معنى الاسم الآخر، ولا هي -أيضًا- متباينة التباين في المسمى وفي صفته، بل هي من جهة دلالتها على المسمى كالمترادفة، ومن جهة دلالتها على صفته (¬2) كالمتابينة، وهذا القسم كثير، ومنه أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وأسماء القرآن (¬4) وغير ذلك، وبعض الناس يجعلون (¬5) هذا قسمًا ¬
من المترادف وبعضهم يجعله من المتباين قسمًا ثالثًا قد يسميه المتكافئ. والمقصود فهم المعنى، فإذا قيل: "الرحمن الرحيم"، وقيل: "العليم" "القدير"، وقيل: "السميع" "البصير" فالأول يدل على المسمى بصفة الرحمة، والثاني يدل عليه بصفة العلم، والثالث بصفة القدرة، والرابع بصفة السمع، والخامس بصفة البصر، وهذه الصفات ليس أحدها هو الآخر، وهذا مما [لا] (¬1) ينازع فيه هؤلاء و [لا] (1) غيرهم، فصفات كل اسم يدل من صفات الرب على ما لم يدل عليه الآخر مع اتفاقها في الدلالة على المسمى. نعم، وقد يدل الاسم على معنى الآخر بطريق اللزوم، فإنه يدل على الذات، والذات تستلزم جميع الصفات، لكن دلالة اللزوم ليست هي دلالة الاسم اللغوية، واللزوم -أيضًا- يحتاج إلى أن (¬2) يعرف (¬3) تلك الصفات من غير الاسم، فلا يكون الاسم هو الدال عليها، وإذا كان كذلك فتعدد أسماء الله تعالى لم تقتض (¬4) تعدد (¬5) المسمى، ولكن اقتضى تعدد صفاته التي دلت عليها تلك الأسماء، وهؤلاء لا (¬6) ينازعون في تعدد الصفات في الجملة، ومحققوهم (¬7) لا يقولون إنها محصورة بعدد، بل يقولون: هذا الذي علمناه، وقد يكون له من الصفات ما لا نعلمه، وإذا كانت معاني الأسماء متعددة -وإن كان المسمى واحدًا- ¬
اختلاف الأسماء بالعربية وغيرها من الألسن على وجهين
لم يكن هذا نظيرًا لما ادعاه (¬1) من تكثر العبارات مع اتحاد المعنى المعبر عنه. وأما اختلاف الأسماء بالعربية وغيرها من الألسن، فهذا على وجهين: تارة تكون تلك (¬2) الأسماء العجمية تدل على صفات ليست هي الصفة التي تدل عليها الاسم العربي، فيكون بمنزلة الأسماء الحسنى بالعربية، وتارة يكون معناها معنى الاسم العربي فيكون هذا كالأسماء المترادفة، ولولا (¬3) تنوع معاني الأسماء لم يكن لبعضها (¬4) على بعض مزية، ولا كان في اختصاص بعض الناس بعلم بعضها فضيلة، ولا كان الدعاء ببعضها أوكد من الدعاء ببعض، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور الذي رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أصاب عبدًا قط همّ ولا غمّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل (¬5) اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلّا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجًا"، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: "بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن" (¬6). ¬
وكذلك قوله في حديث [أنس بن مالك] (¬1): "لقد دعا الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" (¬2). وقوله: [] (¬3) "أسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر" (¬4) ¬
الوجه الثاني والستون: ليست دلالة الكتب المنزلة من السماء على كلامه كدلالة أسمائه على نفسه المقدسة
[] (¬1) وقوله في حديث [أسماء بنت يزيد] (¬2) "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين" (¬3). الوجه الثاني والستون: أن أسماء الله الحسنى مع أنها تدل على ذاته الموصوفة بصفات متعددة، فليست دلالة الكتب المنزلة من السماء على كلامه كدلالة أسمائه على نفسه المقدسة، فإن الاسمين يشتركان في المسمى، وينفرد كل منهما بالصفة التي اختص بالدلالة عليها، وأما الكلام المنزل فكل من الكلامين له معنى يختص [به] (¬4) لا يشاركه الآخر في شيء من معناه كما ¬
يشارك (¬1) [الاسم] (¬2) الاسم في مسماه، فإن آية الكرسي مثلًا، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ونحوهما دالة على المعنى القائم بالنفس المتعلق بصفات الله تعالى، وآية (¬3) الدين، وسورة تبت يدا أبي لهب وغيرهما، لهما معان أخر من ذم بعض المخلوقين، والأمر ببعض الأفعال (¬4)، وليس ذم هذا المخلوق والخبر عنه هو مدح الله والثناء عليه ولا معنى هذا هو معنى هذا، ولا بينهما قدر يشترك (¬5) في الخارج أصلًا كما بين الاسمين إذ مسماهما واحد موجود، وأما معنى هاتين الآيتين فليس هو واحدًا (¬6) أصلًا، بل هذا المعنى ليس هو هذا المعنى بوجه من الوجوه، نعم يشتركان (¬7) في كون كل منهما كلامًا للمتكلم [ومعناه، فلفظ معنى ولفظ يقوم به] (¬8) وهذا كاشتراك الحياتين في أن هذه حياة وهذه حياة، واشتراك الموجودين في أن هذا وجود وهذا وجود، وهذا الاشتراك لا يقتضي أن أحدهما هو الآخر في الخارج أصلًا، فكذلك معاني هذه العبارات لا تقتضي أن أحدهما هو الآخر (¬9) في الخارج أصلًا، وهذا معلوم بالفطرة البديهية (¬10)، وفهمه سهل على من تدبره، ومن جحد هذا كان من أظهر الجاحدين للمعارف الفطرية الضرورية، وإن سقطت ¬
الوجه الثالث والستون: أن قولهم: كذلك نقول في الكلام أنه واحد لا يشبه كلام المخلوقات. . . . من أفسد ما يعلم ببديهة العقل فساده
مكالمة أحد (¬1) لسفسطته فهذا من أحق هؤلاء (¬2) بهذا، ويتضح ذلك بالذي بعده، وهو: الوجه الثالث والستون: وهو قولهم: "كذلك نقول (¬3) في الكلام؛ إنه واحد لا يشبه كلام المخلوقات، ولا هو بلغة من اللغات، ولا يوصف بأنه عربي أو فارسي أو عبراني، لكن العبارات عنه تكثر وتختلف، فإذا قرئ كلام الله بلغة العرب سمي قرآنًا، وإذا قرئ بلغة العبرانية أو السريانية سمي توراة (¬4) وإنجيلًا". فإن هذا الكلام من أفسد ما يعلم ببديهة العقل فساده، وهو كفر إذا فهمه الإنسان وأصر عليه، فقد أصر على الكفر، وذلك أن القرآن يقرأ بالعربية، وقد يترجم بحسب الإمكان بالعبرانية أو الفارسية أو غيرهما من الألسن، ومع هذا إذا ترجم بالعبرية (¬5) لم يكن هو التوراة ولا مثل التوراة، ولا معانيه مثل معاني التوراة، وكذلك يقرأ بالعبرية ويترجم (¬6) بالعربية والسريانية، ومع هذا فليست مثل القرآن، ولا معانيها مثل معاني القرآن، وكذلك الإنجيل من المعلوم أنه يقرأ بعدة ألسن وهو في ذلك معانيه ليس معاني التوراة والقرآن، فهل يقول من له عقل أو دين: إن كلام الله مطلقًا إذا قرئ بالعربية كان هو القرآن؟ وليس يلزم صاحب هذا أن تكون التوراة والإنجيل إذا فسرا (¬7) بالعربية كانا هذا القرآن الذي أنزل ¬
على محمد؟ بل هذه الأحاديث الإلهية التي يرويها الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] (¬1) عن ربه تعالى مثل قوله: "يقول الله تعالى: مَن عادى لي وليًّا، فقد بارزني بالمحاربة" (¬2). وقوله: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني" (¬3) ونحو ذلك. ¬
لا يقول من له عقل ودين إن القرآن إذا ترجم بالعبرية أو السريانية كان هو التوراة والإنجيل
فهذا كلام عربي مأثور عن الله، ومع هذا فليس قرآنًا ولا مثل القرآن لا لفظًا ولا معنى، فكيف يقال في التوراة والإنجيل إذا قرئا بالعربية كان قرآنًا؟ وكذلك القرآن إذا ترجم بالعبرية أو السريانية هل يقول من له عقل أو له دين: إن ذلك [هو] (¬1) التوراة والإنجيل المنزل على موسى وعيسى -عليهما السلام-؟ وهل يقول عاقل: إن كلام الله المنزل بالألسنة المختلفة معناه شيء واحد كالكلام الذي يترجم بألسنة متعددة؟ العلم بفساد هذا من أوضح العلوم البديهية العقلية، وقائل هذا لو تدبر ما قال لعلم أن المجانين لا يقولون هذا، ومن المعلوم لكل أحد أن الكلام إذا ترجم كما ترجمت العرب كلام الأوائل من الفرس واليونان والهند وغيرهم، فتلك المعاني هي المعاني وهي باقية لم تختلف بكونها عربية أو فارسية أو رومية أو هندية [و] (¬2) كذلك لما ترجموا (¬3) ما ترجموه من كلام الأنبياء قبلنا وأممهم، فتلك المعاني هي هي سواء كانت بالعربية أو الفارسية، وقد أخبر الله في كتابه عما قالته الأمم قبلنا من الأنبياء وأممهم، وهم إنما قالوه بألسنتهم، وقصه الله علينا باللسان العربي، وتلك المعاني هي هي لم يكن كونها حقًّا أو باطلًا أو إيمانًا أو كفرًا أو رشدًا أو غيًّا من جهة اختلاف الألسنة، بل لأن تلك المعاني هي في نفسها حقائق متنوعة مختلفة أعظم من اختلاف الألسنة واللغات بكثير كثير، وأين اختلاف المعاني من اختلاف الألفاظ؟ وإنما ذلك بمنزلة اختلاف ¬
صور بني آدم وألسنتهم بالنسبة إلى اختلاف قلوبهم وعلومهم وقصودهم، ومن المعلوم أن اختلاف قلوبهم وعلمها وإرادتها أعظم بكثير من اختلاف صورهم وألوانهم ولغاتهم، حتى [قد] (¬1) ثبت في الحديث المتفق عليه في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر عن رجلين: "يا أبا ذر هذا خير من ملءِ (¬2) الأرض مثل هذا" (¬3) فجعل أحدهما. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجوب العلم بأصلين عظيمين
خيرًا (¬1) من ملء (¬2) الأرض من جنس الآخر، وذلك لاختلاف قلوبهم، وإلا فاختلاف الصور لا يبلغ قريبًا من ذلك، وهكذا كلام الله الذي أنزله على موسى وهو التوراة [والذي أنزله على عيسى وهو الإنجيل، والذي أنزله على داود وهو الزبور] (¬3) والذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن، لم يكن (¬4) مغايرة بعضه بعضًا لمجرد (¬5) اختلاف الألسنة، بحيث إذا ترجم كل واحد بلغة الآخر صار مثله أو صار هو إياه، كما قاله هؤلاء الملحدون في أسماء الله وآياته، بل مع الترجمة يكون لكل منهما (¬6) معان (¬7) ليست معاني (¬8) الآخر ولا مثلها، بل التفاوت الذي بين معاني هذه الكتب أعظم من التفاوت الذي بين ألفاظها، واللسان العبري قريب من اللسان العربي، ومع هذا فمعاني القرآن فوق معاني التوراة بأمر عظيم، ثم المسيح إنما كان لسانه عبريًّا، وإنما بعده ترجم الإنجيل بالسريانية، أفترى الإنجيل الذي أنزله الله عليه بالعبرية (¬9) هو التوراة التي (¬10) أنزلت على موسى؟!! بل يجب أن يعلم أصلان عظيمان: أحدهما: أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص ¬
لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء (¬1) أصلًا، أعني خاصة في اللفظ، وخاصة فيما دل عليه من المعنى، ولهذا لو فسر القرآن ولو ترجم، فالتفسير والترجمة قد يأتي بأصل المعنى أو يقربه، وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن، فهذا غير ممكن أصلًا، ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية، لا مع القدرة عليها، ولا مع العجز عنها، لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل، ولكن يجوز ترجمته كما يجوز تفسيره، وإن لم تجز قراءته بألفاظ التفسير، وهي إليه أقرب من ألفاظ الترجمة بلغة أخرى. الأصل الثاني: إنه إذا ترجم أو قرئ بالترجمة، فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلًا، ومعناه أشد مباينة لسائر معاني الكلام من مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم، والإعجاز في معناه أعظم بكثير من الإعجاز في لفظه، قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬2)، يتناول ذلك كله، فكيف يقال: الكلام المقروء بالعبرية (¬3) والسريانية من التوراة والإنجيل والمترجم بالفارسية والتركية من ذلك الكلام (¬4) المقروء بالعربية الذي هو القرآن؟ مع أنا بالبديهة نعلم أنه ليس مثله لا في لفظ ولا معنى، فضلًا عن أن يكون هو إياه. وهل يقول من له أدنى (¬5) عقل أو دين يفهم ما يقول: إن هذه الكتب والكلام المنزل هي في (¬6) الدلالة على معناها كدلالة أسماء الله عليه؟ أم يعلم كل أحد أن أسماء الله مع تنوع ¬
ما دلت عليه من الصفات والمسمى واحد؟ وأما الكلام فيكون معنى هذا الكلام ليس هو معنى الآخر، وينبغي أن يعلم أنه ليس مقصودنا عموم النفي، بل مقصودنا نفي العموم، فإنا (¬1) لا ننكر أن الكلامين قد يتفقان في المعنى، وقد ينزل الله -سبحانه- على نبي بلغته (¬2) المعنى الذي أنزله على الآخر، فيكون المعنى واحدًا واللفظ مختلفًا، هذا (¬3) كثير جدًّا، فإنا نحن لم ننكر أن معاني الألفاظ تتفق، لكن المنكر أن يقال: جميع معاني ألفاظ الكتب متفقة، وهي معنى واحد، وإن معنى ما أنزل على هذا النبي هو بعينه ذلك المعنى، وأن جميع ألفاظ القرآن معناها واحد، ومعنى آية (¬4) الدين، ومعنى آية الكرسي، وإذ معنى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ومعنى المعوذتين، وهذا لو عرض على من له أدنى تمييز من الصبيان لعلم ببديهة عقله أنه من أعظم الباطل، فتدبر كيف ضلوا في زعمهم أن معاني (¬5) أسماء الله معنى واحد (¬6)، لاتحاد المسمى، ثم ضلوا أعظم ضلالة (¬7) في أن كلام الله الذي أنزله معناه (¬8). واحد (¬9)، وإنما اختلف (¬10) أسماؤه لاختلاف الألسنة، وشبهوه بالأسماء، فلو كان الكلام معنى واحدًا وله صفات متعددة، لكانوا قد ¬
ضلوا من وجه، ولكن معنى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ليس [هو] (¬1) معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} بوجه من الوجوه، فلا يصح أن يقال: ذلك مثل "الرحمن الرحيم" "السميع العليم" إذ المدلول هنا واحد في نفسه وله صفات، والمدلول هناك (¬2) في إحدى السورتين ليس هو المدلول في السورة الأخرى بوجه من الوجوه. وأما تشبيههم ذلك بكون الله معبودًا بعبادات متنوعة، فهو أوضح من أن يحتاج إلى الفرق، فلهذا لم تحتج إلى الكلام عليه، إذ تشبيه ذلك بأسماء الله تعالى أقوى اشتباهًا، فقد (¬3) ظهر (¬4) ما فيه، فكيف بتشبيه كتب الله المنزلة بالنسبة إلى ما ادعوه من المعنى الواحد، بعبادات (¬5) العابدين بالنسبة إلى الله تعالى. وبهذا يتبين لك [أن] (¬6) من قال منهم: إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، مقروء بالألسنة حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة، كما أن الله معلوم بالقلوب، مذكور بالألسنة، مكتوب في المصاحف حقيقة، فهو يقصد هذا التلبيس من جعل الكتب المنزلة وسائر كلام الله بالنسبة إلى ما ادعوه من ذلك المعنى النفساني، كسائر أسماء الله بالنسبة إلى نفسه، وقد تبين لك أن هذا من أفسد القياس، فالحمد لله الذي عافانا (¬7) مما ابتلى به كثيرًا (¬8) من عباده، وفضلنا على كثير ممن خلق ¬
الوجه الرابع والستون: أنهم لم يذكروا في الجواب عما أخبر الله به عن نفسه من أن له كلمات - ما له حقيقة
تفضيلًا. وبهذا وأمثاله تعرف (¬1) أن القائلين بخلق القرآن، وإن كانوا أخبث قولًا من هؤلاء من جهات مثل: نفيهم أن يقوم بالله كلام، فهؤلاء أخبث منهم من جهات أخر، مثل: منعهم أن يكون كلام الله ما هو كلامه، وجعلهم كلام الله شيئًا لا حقيقة له، وغير ذلك. الوجه الرابع والستون: إنها لم يذكروا في الجواب -عما أخبر الله به عن نفسه من أن له كلمات- ما له حقيقة، فإنهم يقولون: ليس لله كلام إلّا معنى واحدًا لا يجوز عليه التعدد، والله -سبحانه- قد أخبر بأن (¬2) له كلمات، وإن البحار لو كانت مدادها، والأشجار أقلامها لما نفذت تلك الكلمات، وهذا صريح بأن لها من التعداد ما لا يأتي عليه إحصاء العباد، فكيف يقال: ليس له كلمات فصاعدًا؟ وأما قولهم: التكثير للتفخيم، كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (¬3). فيقال لهم: هذا إنما يستعمل في المواضع التي تصرح بأن المعنى بذلك اللفظ هو واحد، والله -سبحانه- قد بين في غير موضع أنه واحد، فإذا قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (¬4)، {إِنَّا فَتَحْنَا} (¬5) وقد علم المخاطبون أنه واحد، علم أن ذلك لم يقتض أن ثم آلهة متعددة، لكن قال بعض الناس: صيغة الجمع في [مثل] (¬6) هذا دلت على كثرة معاني أسمائه وهذا مناسب وأما الكلام فلم يذكر الله قط، ولا قال أحد من المسلمين ¬
قبل ابن كلاب: إن كلام الله ليس إلا معنى واحدًا (¬1)، ولا خطر هذا بقلب أحد، فكيف يقال: إنه أراد بصغية الجمع [الواحد] (¬2) ولهذا لا يكاد يوجد [هذا] (¬3) في صيغة المتكلم في حق الله، أو صيغة المخاطبة له، كما قد قيل في قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} (¬4). وأما تمثيلهم ذلك بقوله: {إِنَّ إِبْرَهِيمَ كان أُمَّةً} (¬5) أي: مثل أمة، فليس كذلك، بل الأمة (¬6) كما فسره عبد الله بن مسعود وغيره (¬7)، هو معلم الخير، وهو القدوة الذي يؤتم به أي: يقتدى به، فأمة من الائتمام كقدوة من الاقتداء، وليس هو مستعارًا من الأمة الذين هم جيل. وكذلك قولهم (¬8): {وَنَضَعُ المَوازَيِنَ اَلْقِسْط} (¬9) وإنما هو ميزان واحد، ليس كذلك بل الجمع مراد من هذا اللفظ، إما لتعدد الآلات التي ¬
الوجه الخامس والستون: أن القرآن صرح بإرادة العدد من لفظ "الكلمات" وبإرادة الواحد من لفظ "الكلمة"
توزن بها، أو لتعدد الأوزان، وأما ما ذكروه من كثرته لكثرة المعاني التي دلت عليها العبارات عنه فهذا حق، لكن إذا كانت العبارات دلت على معان كثيرة، علم أن معاني العبارات لكلام (¬1) الله كثيرة، ليس هو معنى واحدًا (¬2) وهو المطلوب. الوجه الخامس والستون: إن القرآن صرح بإرادة العدد من لفظ الكلمات، وبإرادة (¬3) الواحد من لفظ كلمة، كما في قوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (¬4)، وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬5)، وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬6). فبين أنها إذا كتبت بمياه البحار، وأقلام الأشجار ما تنفذ، والنفاذ: الفراغ، فعلم أنه يكتب بعضها ويبقى منها ما لم يكتب، وهذا صريح في أنها من الكثرة إلى أن يكتب منها ما يكتب ويبقى ما يبقى، فكيف يكون إنما أراد بلفظ الكلمات كلمة واحدة؟ لا سيما ولفظ الشجر ¬
الوجه السادس والستون: أنه ثبت أن الله جزأ القرآن إلى ثلاثة أجزاء
يعم كل ما قام على ساق صلب أو غير صلب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[في الضالة] (¬1): "ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها" (¬2). الوجه السادس والستون: إنه قد ثبت [في صحيح مسلم] (¬3) من حديث ابن أبي عروبة، وأبان العطار، عن قتادة، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله جزأ القرأن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءًا من أجزاء القرآن" (¬4). ¬
فهذه التجزئة إما أن تعود إلى لفظ القرآن، وإما أن تعود إلى معناه، والأول باطل، لأن حروف {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ليس بقدر حروف ثلث القرآن، بل هي أقل من عشر العشر بكثير، فعلم أنه أراد بالتجزئة المعنى، وذلك (¬1) يقتضي أن معنى حروف القرآن متجزئة، وهم قد قالوا: إن كلام الله واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير ولا يختلف، ولو قيل: إن التجزئة للحروف لكن لا يشترط فيها تماثل قدر الحروف، بل يكون بالنظر إلى المعنى، لكان ذلك حجة -أيضًا- فإنه إذا كان التجزئة باعتبار المعنى، علم أن المعنى الذي دل عليه هذه الحروف ليس هو معاني بقية القرآن. وروى الترمذي وغيره عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة أبي أيوب، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} فقد قرأ ثلث القرآن" (¬2) قال الترمذي هذا [حديث حسن. فقد أخبرنا أنها ثلث القرآن. فإن قيل: الحديث] (¬3) المتقدم قد رواه مسلم -أيضًا- بلفظ آخر ¬
أنه قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة [ثلث] (¬1) القرآن؟ " قالوا: وكيف يقرأ (¬2) ثلث القرآن؟ قال: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدُ} تعدل ثلث القرآن" (¬3)، فقوله: تعدل ثلث القرآن يبين أنها في نفسها ليست ثلثه، ولكنها تعدل ثلثه، أي في الثواب. قلنا: لا منافاة بين اللفظين (¬4)، فإنها ثلثه باعتبار المعنى، وهي تعدل ثلثه باعتبار الحروف، أو هي بلفظها ومعناها ثلثه فتعدل ثلثه، لأن ذلك اللفظ صريح في معناه، وحيث قال: "جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءًا" (¬5) من تلك الأجزاء، فأخبر أن القرآن تجزأ ثلاثة أجزاء وإنما هي جزء من تلك الأجزاء، وهذا لا يصلح أن يراد به مجرد الثواب دون السورة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين اللفظين، كما في الحديث الذي رواه أبو حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله [صلى الله] (¬6) عليه وسلم: "احشدوا (¬7) فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن" فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله [صلى الله] (¬8) عليه وسلم ¬
فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ([سأقرأ عليكم ثلث القرآن] (¬1)، وإني لأرى هذا خبرًا جاءه من السماء"، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن" (¬2). قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. والذي يبين أن قوله: "تعدل" يدخل فيه حروفها، ما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري، عن قتادة بن النعمان، أن رجلًا أقام في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ من السحر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يزيد عليها، فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فكأن الرجل يتقالها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" (¬3)، وهذا -أيضًا- من حديث أبي سعيد، رواه (¬4) البخاري من حديث أبي سعيد نفسه، وكذلك رواه أبو داود (¬5) والنسائي (¬6). ¬
الوجه السابع والستون: احتج بعض متأخريهم على إمكان أن يكون كلامه واحدا بما ذكره فخر الدين الرازي
الوجه السابع والستون: أنه قد احتج بعض متأخريهم (¬1) على إمكان أن يكون كلامه واحدًا بما ذكره -الملقب عندهم بالإمام- فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي فقال: "لما كان الباري -سبحانه- عالمًا بالعلم الواحد لجملة المعلومات الغير متناهية، فلم لا يجوز أن يكون مخبرًا بالخبر الواحد عن المخبرات الغير المتناهية، ولنضرب لذلك مثلًا (¬2) لهذا الكلام، وهو أن رجلًا إذا قال لأحد غلمانه: إذا قلت: اضرب فاضرب فلانًا، ويقول للثاني (¬3): إذا قلت: اضرب فلانًا (¬4) فلا تتكلم مع فلان، ويقول للثالث: إذا قلت: اضرب فلانًا (¬5) فاستخبر عن فلان، ويقول للرابع: إذا قلت: اضرب فأخبرني عن الأمر الفلاني، ثم إذا حضر الغلمان بين يديه ثم يقول لهم: اضرب، فهذا الكلام الواحد في حق أحدهم أمر، وفي حق الثاني نهي، وفي [حق] (¬6) الثالث خبر، وفي حق الرابع استخبار، وإذا كان اللفظ الواحد بالنسبة إلى أربعة أشخاص أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا فأي استبعاد في أن يكون كلام الحق -سبحانه- كذلك؟ فثبت أنه سبحانه متكلم بكلام واحد". فيقال لهؤلاء: هذه الحجة بعينها التي اعتمدها إمام أتباعه أبو عبد الله الرازي، هو -أيضًا- قد رجع عن ذلك في أجل كتبه عنده، وبين ¬
فسادها، فقال في نهاية العقول (¬1): من جهة أصحابه: "لا نسلم أن الشيء يستحيل (¬2) أن يكون خبرًا وطلبًا، وبيانه (¬3) أن إنسانًا لو قال لبعض عبيدة: متى قلت لك: افعل، فاعلم أني أطلب منك الفعل، وقال للآخر: متى قلت لك هذه الصغية، فاعلم أني أطلب منك الترك، وقال للآخر: متى قلت لك هذه الصيغة، فاعلم أني أخبر عن كون العالم حادثًا (¬4)، فإذا حضروا بأسرهم وخاطبهم دفعة واحدة بهذه الصيغة، كانت (¬5) تلك الصيغة الواحدة أمرًا ونهيًا خبرًا معًا (¬6)، فإذا عقل ذلك في الشاهد، فليعقل (¬7) مثله في الغائب. ثم قال (¬8): "وهذا ضعيف (¬9)، لأن قوله: "افعل" ليس في نفسه طلبًا ولا خبرًا، بل هو (¬10) صيغة موضوعة لإفادة معنى الطلب ومعنى الخبر، ولا استحالة في جعل الشيء الواحد دليلًا على حقائق مختلفة، إنما الاستحالة في أن يكون الشيء حقائق مختلفة، وكلامنا إنما هو في نفس حقيقة الخبر وحقيقة الطلب (¬11)، واستقصاء القول في ذلك مذكور في باب الأمر من كتاب المحصول في علم الأصول". ¬
الوجه الثامن والستون: أن يقال هذه الحجة من أفسد الحجج عند التأمل
فهذا كلام المستدل بهذه الحجة في بيان فسادها بطلانها، وذلك كاف. الوجه الثامن والستون: أن يقال: هذه الحجة من أفسد الحجج عند التأمل، وذلك أن [هذا] (¬1) المثل المضروب أكثر ما فيه جواز أن يكون اللفظ الواحد مشتركًا بين معاني أمر ونهي وخبر، كما قد قيل في قول القائل: ويل لك إنه دعاء وخبر، ولا ريب أن الصيغة الواحدة يراد بها الأمر [تارة] (¬2) والخبر أخرى، كقول القائل غفر الله لفلان ورحمه (¬3)، وأحسن إليه، وأدخله الجنة، وأجاره من النار، وأنعم عليه نعمًا عظيمة، فإن هذا في الأصل خبر، وهو كثير مستعمل في الدعاء الذي هو طلب، وكذلك صيغة "افعل" هي أمر في الأصل، وقد تضمن معنى النهي والتهديد، كما قد قيل في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬4)، لكن هل يجوز أن يراد باللفظ الواحد المشترك بين معنيين إما الأمر والخبر، أو الأمر والنهي، أو غير ذلك كلا المعنيين على سبيل الجمع؟ هذا فيه نزاع مشهور بين أهل الفقه والأصول وغيرهم، والنزاع مشهور في مذهب أحمد والشافعي ومالك وغيرهم، وبين المعتزلة بعضهم مع (¬5) بعض، وبين الأشعرية (¬6) -أيضًا- والرازي يختار أن ذلك لا يجوز موافقة لأبي ¬
الحسين البصري، ولم يجعل المانع من ذلك أمرًا يرجع إلى القصد [فإن ¬
قصد] (¬1) المعنيين جائز، ولكن المانع (¬2) أمر يرجع إلى الوضع، وهو أن أهل (¬3) اللغة إنما وضعوه لهذا وحده، ولهذا وحده، فاستعماله فيهما (¬4) جميعًا استعمال في غير ما وضع له، ولهذا كان المرجح قول المسوغين، لأن استعماله (¬5) فيهما غايته أن يكون استعمالًا له في غير ما وضع له، وذلك يجوز (¬6) بطريق المجاز، ولا مانع لأهل اللغة من أن يستعملوا اللفظ في غير موضعه بطريق المجاز، على أن إطلاق القول بأن هذا استعمال له في غير موضعه فيه نزاع، كإطلاق القول في اللفظ العام المخصوص أنه استعمال له في غير موضوعه، ومنه استعمال صيغة الأمر في الندب ونحو ذلك، فإن طوائف من الناس يقولون: بعض المعنى ليس هو غيره فلا يكون ذلك استعمالًا له في غير موضعه، ولا يجعلون اللفظ بذلك مجازًا، وهذا قول أئمة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الطيب وغيرهما، واستعمال اللفظ المشترك في معنييه ضد استعمال العام في بعض معناه، فإنه موضوع لهذا مفردًا، ولهذا مفردًا (¬7) فجمع بين معنييه. [بخلاف استعمال العام في بعض معناه] (¬8). ¬
ومثل هذا لا يقر مثل هؤلاء بأنه عين معناه، إذ هو معناه مفردًا ومعه غيره، وكما أن بعض الشيء ليس بغير له عندهم، فلا يصير الشيء غيرًا لنفسه بالزيادة عليه، لا سيما إذا كان المزيد نظيره، وليس المقصود هنا تكميل القول في هذه المسألة، ولكن نبين حقيقة ما يحتج به هؤلاء، فإن هذا المثل الذي ضربوه مضمونه أن يجعل اللفظ موضوعًا لأمر ونهي وخبر، ويقصد بالخطاب به إفهام كل معنى لمخاطب غير المخاطب الأول، وهذا جائز في المعقول، لكن ليس هذا مما ادعوه في الكلام بشيء، وذلك أن النزاع ليس هو في أن اللفظ الواحد يدل على حقائق مختلفة، فإن هذا لا ينازع فيه أحد، ولا حاجة فيه إلى ضرب المثل، بل دلالة الألفاظ الموضوعة على حقائق مختلفة [كثير جدًّا وإن كان اللفظ خبرًا أو أمرًا، لكن يدل على حقائق مختلفة] (¬1)، وإنما النزاع في المعاني المختلفة التي هي مدلول جميع الألفاظ التي أنزلها الله، هل هي معنى واحد (¬2)؟ فالنزاع في المعاني المعقولة من الألفاظ وهي أمر الله بكذا أو أمره (¬3) بكذا ونهيه (¬4) عن كذا، ونهيه عن كذا (¬5)، وخبره (¬6) بكذا، وخبره بكذا (¬7)، هل هي شيء واحد؟ والمعاني لا تتبع وضع واضع، ومن العجب أن هؤلاء إذا احتجوا على أن الكلام هو معنى في النفس قالوا: إن مدلول العبارات والإشارات لا يختلف باختلاف اللغات ¬
ولا يقصد (¬1) الواضعين المتكلمين، ثم يحتجون على أنه واحد يجوز أن يجعل الواضع اللفظ الواحد موضوعًا لمعان (¬2) متعددة، وأين هذا من هذا؟! فإن دلالة [اللفظ على] (¬3) المعنى يتبع قصد المتكلم والإرادة، فإنه بالقصد والإرادة كان هذا اللفظ يدل على هذا المعنى، وهذا اللفظ (¬4) يدل على هذا المعنى، لا أن (¬5) اللفظ صار كذلك بناته أو بطبعه، لكن تنازع الناس هل بين اللفظ والمعنى مناسبة لأجلها خصص الواضعون هذا اللفظ بهذا المعنى؟ على قولين: أصحهما أنه لا بد من المناسبة وليست موجبة بالطبع حتى يقال (¬6)، فذلك يختلف باختلاف الأمم، بل هي مناسبة داعية، والمناسبة تتنوع بتنوع الأمم كتنوع الأفعال الإرادية، ولو قيل: إنه بالطبع، فطباع الأمم تختلف سواء في ذلك طبعهم الاختياري وغير الاختياري. فتبين أن هذا المثل الذي ضربوه في غاية البعد عما قصدوه، إذ ما ذكروه هو اللفظ الدال على معان (¬7)، وهذا لا نزاع فيه، ومقصودهم أن المعاني التي هي نفسها لكل معنى حقيقة هل هي في نفسها شيء واحد؟ وذلك لا يكون بقصد (¬8) واضع ولا إرادة (¬9) ولا وضعه، والإمكان هنا ليس هو إمكان أن يجعل هذا هذا، بل المسؤول عنه الإمكان الذهني، ¬
الوجه التاسع والستون: أنه لا يمكن أن يكون الخبر هو نفس الأمر
وهو أنه (¬1) هل يمكن في العقل أن يكون المعنى المعقول من صيغ الأمر هو المعنى المعقول من صيغ الخبر، وأن يكون نفس ما يقوم بالنفس من الأمر بهذا والخبر عنه هو بعينه ما يقوم بالنفس من الأمر بغيره والخبر عنه؟ الوجه التاسع والستون: أن يقال: هو قال إذا كان الباري عالمًا بالعلم الواحد لجملة المعلومات غير المتناهية، فلم لا يجوز أن يكون مخبرًا بالخبر الواحد عن المخبرات غير المتناهيات؟ فيقال له: هب أن (¬2) هذا ثبت في كون الخبر واحدًا فلم قلت: إنه يجب أن يكون خبره عن المخبرات الغير المتناهية هو بعينه الأمر بالمأمورات والتكوين للمكونات الغير المتناهية؟ فهب أن الخبر يقاس بالعلم فهل يمكن أن يكون الخبر هو نفس الأمر؟ الوجه السبعون: أن الأصل الذي يقاس عليه وشبه [به] (¬3) من الإمكان -هو العلم- أصل غير مدلول عليه فمن أين لهم أن الباري ليس له إلا علم واحد لا يتبعض ولا يتعدد؟ وهذا لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا قاله إمام من أئمة المسلمين، فضلًا عن أن يكون ثابتًا بإجماع، ولا قام به (¬4) دليل عقلي، وقد قال الله في كتابه: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} (¬5) فأخبر أنه يحاط ببعض من (¬6) علمه لا بكله، وقال في كتابه: ¬
ليس في المسألة عمدة إلا ما اعتمد عليه القاضي أبو بكر من الإجماع المدعي
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬1). وقد احتج الإمام أحمد (¬2) وغيره بهذه الآية وغيرها (¬3) على أن القرآن من علم الله، فجعلوه بعض علم الله، فمن الذي يقول: إن علم الله ليس له بعض وجزء؟ واعلم أنه ليس في المسألة عمدة إلا ما اعتمد عليه إمام القوم القاضي أبو بكر بن الباقلاني، فإنه اعتمد فيها إجماعًا ادعاه (¬4)، وهو في غير هذا الموضع (¬5) يدعي إجماعات لا حقيقة لها، كدعواه إجماع ¬
السلف (¬1) على صحة الصلاة في الدار المغصوبة (¬2) بكونهم لم (¬3) يأمروا الظلمة بالإعادة، ولعله لا يقدر أن ينقل عن أربعة من السلف أنهم استفتوا في إعادة الظلمة ما صلوه في مكان مغصوب فأفتوهم بإجزاء الصلاة، لكن أهل الكلام كثيروا الاحتجاج من المعقول والمنقول بالحجج الداحضة، ولهذا كثر ذم السلف لهم، قال أبو عبد الله الرازي، لما تكلم على وحدة علم الله وقدرته فقال (¬4): "الفصل الأول: في وحدة علم الله وقدرته، نقل إمام الحرمين في الشامل (¬5) عن أبي سهل الصعلوكي منا أنه تعالى عالم بعلوم غير متناهية، ¬
تعليق الشيخ بأن هذا الإجماع مركب من جنس الإجماع الذي احتج به الرازي على قدم المعنى
وذهب جمهور الأصحاب إلى أنه تعالى عالم بعلم واحد، قادر بقدرة واحدة، مريد بإرادة واحدة". قال (¬1): واعلم أن القاضي أبا بكر عول في هذه المسألة على الإجماع، فقال: القائل قائلان: قائل يقول (¬2): الله تعالى عالم بالعلم، قادر بالقدرة. وقائل يقول: ليس الله عالمًا بالعلم، ولا قادرًا بالقدرة، وكل من قال بالقول الأول قال: إنه عالم بعلم واحد، قادر بقدرة واحدة، فلو قلنا: إنه -سبحانه (¬3) - عالم بعلمين أو أكثر، كان ذلك قولًا ثالثًا خارقًا للإجماع (¬4)، وإنه باطل. قال (¬5): وأما الصعلوكي فهو مسبوق بهذا الإجماع، فيكون حجة عليه". قلت: هذا الإجماع مركب من جنس الإجماع الذي احتج به الرازي (¬6) على قدم المعنى الذي ادعوه، فإنه (¬7) هو الكلام وليس في ذلك إجماع أصلًا، وإنما هو إجماع المعتزلة والأشعرية لو صح، فكيف وقد حكى أبو حاتم التوحيد (¬8)، عن الأشعري نفسه أنه كان يثبت [علومًا] (¬9) ¬
الوجه الحادي والسبعون: أن الرازي اعترف في أجل كتبه أن القول بكون الطلب هو الخبر باطل
لا نهاية لها، والسلف الذين أثبتوا (¬1) علم الله وقدرته ليس مقصودهم بذلك ما يقصده هؤلاء من أنه لا بعض له، بل قد صرحوا بأنه يعلم بعض علم الله ولا يعلم بعضه، وكل من لم يوافقهم على ما ادعوه من نفي التبعيض الذي اختصموا (¬2) بنفيه، كالذين خالفوهم من المرجئة (¬3) والشيعة والكرامية وغيرهم، فإنهم يخالفونهم في ذلك، وكذلك جماعة أهل الحديث والفقهاء والصوفية. وهذا الذي اعتمده إمام الطائفة ولسانها القاضي أبو بكر من أنه لا يمكن إثبات وحدة العلم إلا بالإجماع الذي ادعاه، يبين لك أنه ليس في العقل ما يمنع تعدد علمه وقدرته وكلامه وسائر صفاته، وكذلك أقر بذلك أبو المعالي والرازي وغيرهم من حذاق القوم، فإن كلام ابن فورك قد يشعر بأن العقل يوجب اتحاد ذلك، وقد بينا فساد ذلك. الوجه الحادي والسبعون: إن إمامهم المتأخر وهو أبو عبد الله الرازي اعترف في أجل كتبه (¬4) أن القول بكون (¬5) الطلب هو الخبر باطل على القول بنفي الحال (¬6)، ونفي الحال هو مذهب الأشعري نفسه ومحققيهم (¬7)،. . . . . . . . . . . ¬
وإليه رجع أبو المعالي في آخر عمره (¬1). وأما على القول بثبوت الحال فتوقف في ذلك ولم يجزم بإمكانه ولا امتناعه (¬2)، وقد تقدم حكاية لفظه في ذلك، وهذا اعتراف (¬3) منه بأن هذا القول الذي قالوه ممتنع في العقل عند محققيهم وهم نفاة الحال وأما عند مثبتي الحال منهم (¬4) فلا نعلم أنه ممكن أو ممتنع [وعلى التقديرين فلا نعلم أن ذلك ممكن. فتبين أن لا حجة لهم في إمكان صحة] (¬5) ما ادعوه من أن كلام الله معنى واحد (¬6)، فضلًا عن أن يكون ذلك هو الواقع، إذ ليس كل ما أمكن في الذهن كان هو الواقع، فإنه إذا جاز في العقل أن يكون الكلام صفة واحدة، وجاز أن يكون صفات متعددة، فلا بد من دليل يبين ثبوت أحدهما دون الآخر، فكيف إذا قال الناس لهم: إنه ممتنع؟ لم يذكروا دليلًا على إمكانه. ¬
الوجه الثاني والسبعون: أن هذا القول ممتنع على القول بثبوت الحال وعلى القول بنفيه
الوجه الثاني والسبعون: إنا نبين أن هذا القول ممتنع على القول بثبوت الحال، وعلى القول بنفيه. أما على القول بنفيه، فقد تقدم كلامه في ذلك. وأما على القول بثبوته، فإن الرازي إنما توقف لأنه قال (¬1): "وأما إن تكلمنا على القول بالحال، فيجب أن ينظر في الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف (¬2) بوجود واحد أم لا؟ فإن قلنا: بجواز ذلك (¬3) فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة، وإلّا بطل القول بذلك (¬4). قال (¬5): وأنا إلى الآن لم يتضح في فيه دليل لا نفيًا ولا إثباتًا. فيقال لهذا: هذه غلوطة (¬6)، وذلك أنه هب أن وجود كل شيء زائد على حقيقته في الخارج، وهب أنا سلمنا له ما شك فيه وهو اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد، فهذا لا يثبت محل النزاع، وذلك لأن هذا إنما يفيد أن تكون الحقائق المختلفة لها صفة واحدة، فتكون الحقائق المختلفة موصوفة بصفة واحدة هي الحال التي هي الموجود، وذلك لا يستلزم أن تكون الحقائق المختلفة شيئًا واحدًا، وأن تكون الصفة الواحدة في نفسها حقائق مختلفة، وبهذا يتبين لك ضعف قوله: فإن قلنا ¬
الوجه الثالث والسبعون: ما شك فيه يقطع فيه بالامتناع
بجواز (¬1) ذلك -أي بجواز اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد- فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة، وإلا بطل القول بذلك. وإنما قلنا: إن هذا ضعيف، لأن اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد غير كون الصفة الواحدة هي في نفسها حقائق مختلفة، فإن الفرق بين كونها صفة الحقائق مختلفة وبين كونها في نفسها حقائق مختلفة أمر واضح بين، وإنما يصح له ما قال، لو ثبت أن الحقائق المختلفة تتصف بوجود واحد، فإن ذلك الوجود الثابت في الخارج هو في نفسه حقائق مختلفة، وهذا لا يقوله عاقل، وهؤلاء يقولون: إن نفس الطلب هو نفس الخبر، فيجعلون الحقيقتين المختلفين شيئًا واحدًا وذلك ممتنع. وإن قيل: إن (¬2) لها وجودًا واحدًا زائدًا على حقيقتها، فإن فساد كون الحقيقتين شيئًا واحدًا معلوم بالبديهة. ومما يوضح هذا: أن الحقائق المختلفة كالأعراض المختلفة، وإن قيل: إن وجودها زائد (¬3) على حقيقتها، وإنه يجوز أن يكون وجودها واحدًا، فلا يقول عاقل بها في نفسها واحدة. الوجه الثالث والسبعون: أن يقال: ما شك فيه يقطع فيه بالامتناع (¬4) فيقال: من الممتنع أن يكون الحقيقتان المختلفتان لهما وجود واحد قائم بهما، كما يمتنع أن يكون لهما عرض واحد يقوم بها، وذلك لأن الحال -الذي هو الوجود- الذي يقال: إنه قائم بالحقائق، وإنه زائد على حقائقها تابع لتلك ¬
الوجه الرابع والسبعون: ما شك فيه لو صح لكان غايته أن يكون الكلام متعددا متحدا
الحقائق، فوجود كل حقيقة تابع لها لا يجوز أن يوجد (¬1) بغيرها، كما لا يوجد بغيرها سائر ما يقوم به من الأعراض فكما لا يجوز أن يكون العرض القائم بهذه الحقيقة هو بعينه العرض القائم بالحقيقة الأخرى المخالفة لها، فالوجود (¬2) الذي لهذه الحقيقة أولى أن لا يكون الوجود القائم بالحقيقة الأخرى بعينه، وهذا ظاهر. الوجه الرابع والسبعون: إن هذا الذي شك فيه لو صح وجزم به، لكان غايته أن يكون الكلام متعددًا متحدًا، فيكون حقيقتين وهو واحد، أما رفع التعدد عنه من كل وجه فلا يمكن، لأن الوجود واحد، إذا كان لحقيقتين -وقيل: إن الصفة تكون حقائق مختلفة- فلا ريب أن ذلك يوجب كونها حقائق مختلفة وكونها شيئًا واحدًا، وهؤلاء يمنعون أن يكون المعنى الواحد القائم بالنفس حقائق مختلفة، فعلم أن قولهم معلوم الفساد على كل تقدير، وهذا كله تنزل معهم على تقدير ثبوت الحال، وإن وجود الشيء في الخارج زائد على حقائقها الموجودة، وإلّا فهذا القول من أفسد الأقوال، وإنما ابتدعه بعض المعتزلة الذي يقولون: المعدوم شيء في الخارج، فالبناء عليه فاسد. الوجه الخامس والسبعون: إنه يقال: هب أنه أمكن أن يكون الكلام معنى واحدًا (¬3)، كما قلتم: إنه يمكن أن يكون العلم واحدًا، فما الدليل (¬4) على أنه ليس لله ¬
الوجه السادس والسبعون: أن الجهمية تزعم أن أهل الإثبات يضاهئون النصارى
كلام إلا معنى واحدًا؟ وما الدليل على أنه يمتنع أن يكون كلامه، إلا معنى واحدًا (¬1)؟ وقد اعترفوا بأنه لا دليل على ذلك، كما قال الرازي بعد أن بين أنه إما ممتنع أو متوقف في إمكانه، فقال (¬2): "وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن يعول فيه على الإجماع للحكاية التي (¬3) ذكرها أبو إسحاق الإسفرائيني، ولم نجد لهم نصًّا، ولا يمكن أن يقال (¬4): فيه دلالة عقلية، فبقيت المسألة بلا دليل". الوجه السادس والسبعون: إن الجهمية كثيرًا ما يزعمون أن أهل الإثبات يضاهئون النصارى، وهذا يقولونه: تارة لإثباتهم الصفات (¬5)، وتارة لقولهم: إن كلام الله أنزله، وهو في القلوب والمصاحف، والجهمية هم المضاهئون للنصارى (¬6) فيما كفرهم الله به، لا أهل الإثبات الذين ثبتهم الله بالقول ¬
الجهمية ضاهوا النصارى فيما هو ضلال
الثابت، فأما، الوجه الأول: في إثبات الصفات فليس هذا موضعه وإنما الغرض الوجه الثاني: الذي يختص بالكلام، فإنهم تارة يقولون: إذا قلتم: إن كلام الله غير مخلوق، فهو نظير قول النصارى: إن المسيح كلمة الله، وهو غير مخلوق، وتارة يقولون: إذا قلتم: إن كلام الله في الصدور والمصاحف فقد قلتم يقول النصارى الذين يقولون: إن الكلمة حلت في المسيح وتدرعته، وهذا الوجه هو الذي يقوله من يزعم أن كلام الله ليس إلا معنى في النفس، ومن يزعم أن الله لم ينزل إلى الأرض كلامًا له في الحقيقة، والغرض هنا الكلام على هؤلاء. [فيقال لهم] (¬1): أما أنتم فضاهيتم النصارى في نفس ما هو ضلال مما خالفوا فيه صريح العقل وكفرهم الله بذلك، بخلاف أهل الإثبات، وذلك يتبين بما ذمه الله تعالى من مذهب النصارى، فإنه سبحانه قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬2). وهذا المعنى -هو جعلهم ولدًا لله وتنزيه الله نفسه عن ذلك- مذكور في مواضع من القرآن، كما ذكر قصة مريم ثم قال في آخرها: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3)، وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ¬
وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (¬1) وقال في موضع آخر: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬2) الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). . . . الآيات. وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (¬4). . . . الآية. ¬
أصناف النصارى وأقوالهم
فقد ذكر كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة [في آية] (¬1) ونهى أهل الكتاب عن ذلك في آية أخرى، فهذان موضعان ذكر فيهما التثليث عنهم، وفي موضعين ذكر كفرهم بقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم، وأما ذكر الولد عنهم فكثير. واعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله عن النصارى، هي قول الأصناف الثلاثة: اليعقوبية (¬2)، وهم شرهم، وهم السودان من الحبشة والقبط، ثم الملكية (¬3)، وهم أهل الشمال من ¬
الشام والروم، ثم النسطورية (¬1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قولهم بالحلول والاتحاد
وهم نشؤوا في دولة المسلمين من زمن المأمون، وهم قليل. فإن اليعقوبية: تزعم أن اللاهوت والناسوت (¬1) اتحدا وامتزجا كامتزاج الماء واللبن والخمر، فهما جوهر واحد (¬2)، وأقنوم واحد، وطبيعة واحدة، فصار عين الناسوت عين اللاهوت، وأن المصلوب (¬3) هو عين اللاهوت. والملكية (¬4) تزعم أنهما صارا جوهرًا (¬5) واحدًا له أقنومان، وقيل: أقنوم واحد له جوهران. والنسطورية يقولون (¬6): هما جوهران أقنومان، وإنما اتحدا في المشيئة، وهذان قول من يقول بالاتحاد (¬7). وأما القول بالحلول: فمن المتكلمين كأبي المعالي (¬8) من يذكر ¬
الخلاف في فرقهم الثلاث، منهم من يقول بالاتحاد بالمسيح، ومنهم من يقول بالحلول فيه، فيقول هؤلاء: من الطوائف الثلاثة من يقول (¬1) بالحلول، وأن اللاهوت (¬2) حل في الناسوت، وقالوا: هذا قول الأكثر منهم، فهما جوهران وطبيعتان وأقنومان، كالجسد والروح، وأما من فسر ذلك بظهور اللاهوت في الناسوت، فهذا ليس من هؤلاء. وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعًا يقولون بالاتحاد والحلول لكن الاتحاد في المسيح والحلول في مريم، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم (¬3)، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، وذكروا اختلافًا بينهم (¬4). ثم قالوا: وزعموا أن الجوهر هو الأب، والأقانيم الحياة وهي روح القدس، والعلم القدرة، وأن الله اتحد بأحد الأقانيم (الذي) (¬5) ¬
هو الابن بعيسى بن مريم، وكان مسيحًا عند الاتحاد لاهوتيًّا وناسوتيًّا، حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن. ثم ذكروا (¬1) اليعقوبية، والنسطورية، والملكية. قال الناقلون عنهم: واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم -عليها السلام- فقال طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما (¬2) يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه، وقالت طائفة منهم: إنها حلت في مريم من غير ممازجة، [كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة] (¬3) وزعمت طائفة من النصارى أن اللاهوت مع الناسوت، كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش ثم لا يبقى منه شيء إلا أثر فيه. ثم ذكر هؤلاء (¬4) عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون فقالوا: قد اختلف قولهم في الاتحاد اختلافًا (¬5) متباينًا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو: أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح، قيل (¬6): وهذا قول الأكثرين منهم، وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو: الاختلاط والامتزاج. وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله انقلبت لحمًا ودمًا بالاتحاد. وقال كثير من اليعقوبية النسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت ¬
اختلطا فامتزجا، كاختلاط الماء بالخمر، والخمر باللبن. وقال قوم منهم: إن الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلًا ومحلًا. وقال قوم منهم: إن (¬1) الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة، والطابع (¬2) في المطبوع، مثل الخاتم في الشمع (¬3). وقال قوم منهم: الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما تقول: إن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة. وقال الملكية: الاتحاد هو: أن الاثنين صارا واحدًا، وصارت الكثرة قلة (¬4). فزعم بعض الناس أن الذين قالوا: هو المسيح بن مريم [هم] (¬5) الذين قالوا: اتحدا (¬6) حتى صارا شيئًا واحدًا، والذين قالوا: هما جوهر واحد له طبيعتان، فيقولون: هو ولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس، والذين قالوا بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب، قالوا: ثالث ثلاثة، وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء، فإن الله أخبر أن النصارى يقولون: إنه ثالث ثلاثة [وإنهم يقولون: إنه الله] (¬7) وإنهم يقولون: إنه ابن الله، وقال لهم: لا تقولوا (¬8): ثلاثة، مع إخباره أن النصارى افترقوا وألقى بينهم العداوة والبغضاء بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ ¬
الاختلاف في قوله تعالى {ولا تقولوا ثلاثة}، وقوله {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬1)، وقد ذكر [المفسرون أن] (¬2) هذا إخبار بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك (¬3). وقد أخبر سبحانه (¬4) عقب قوله {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوه ولدًا بقوله (¬5): {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} (¬6). وقد (¬7) ذكر -أيضًا- ما يقتضي أن قولهم: إن الله هو المسيح بن مريم من الشرك، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ ¬
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (¬1). فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك، وذلك لأنهم مع قولهم: إن الله هو المسيح بن مريم فلا يخصونه بالمسيح، بل يثبتون أن له وجودًا وهو الأب، ليس هو الكلمة التي في المسيح، فإن عبادتهم إياه معه إشراك، وذلك مضموم إلى قولهم (¬2): إنه هو، وقولهم: إنه ولده، وقد نزه الله نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن، نزه نفسه عن الشريك والولد، كما في قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} (¬3) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (¬4)، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (¬5) وأيضًا -فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر، فإن الذين (¬6) يقولون: إنهما اتحدا وصارا (¬7) شيئًا واحدًا يقولون -أيضًا-: إنما اتحد به (¬8) الكلمة التي هي الابن، والذين يقولون: هما جوهر واحد له ¬
طبيعتان يقولون: إن المسيح إله، وإنه الله، والذين يقولون: إنه حل فيه يقولون: حلت فيه الكلمة التي هي الابن، وهي الله -أيضًا- بوجه آخر، كما سنذكره. وأيضًا -فقوله: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬1) ليس المراد به الله، واللاهوت الذي في المسيح، وجسد المسيح، فإن أحدًا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين، ويفصل الناسوت عن اللاهوت، بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت. وأيضًا -فقوله عن النصارى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} (¬2) و {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬3). وقد قيل (¬4): إن المراد به قول النصارى باسم الأب والابن وروح ¬
القدس إله واحد، وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له الأقانيم [الثلاثة التي يجعلونها ثلاثة جواهر وثلاثة أقانيم] (¬1)، أي: ثلاث صفات وخواص، وقولهم: إنه هو الله، وابن الله، هو الاتحاد والحلول، فيكون على هذا تلك الآية على قولهم تثليث الأقانيم، وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد، فالقرآن على هذا القول رد في كل آية بعض قولهم، كما أنه على القول الأول في كل آية على صنف منهم. والقول الثاني (¬2): وهو الذي عليه [يدل القرآن] (¬3) أن المراد ¬
بذلك جعلهم المسيح إلهًا ولأمه إلهًا مع الله، كما ذكر ذلك في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (¬1). . . الآية، ويدل على ذلك قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (¬2) فقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، عقيب (¬3) قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬4)، يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ابن مريم [وأمه] (¬5) إلهين، وهذا واضح (¬6) على قول (¬7) من حكى عن النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم وعلى هذا فيكون (¬8) كل آية مما ذكره الله من الأقوال تعم جميع طوائفهم، وتعم -أيضًا- قولهم بتثليث الأقانيم وبالاتحاد والحلول، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم، ليس يختص كل آية ¬
بصنف، كما قال من يزعم ذلك، ولا تختص آية بتثليث الأقانيم، وآية بالحلول والاتحاد، بل هو -سبحانه- ذكر في كل آية كفرهم المشترك، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات، وكل صفة تستلزم الأخرى، إثهم يقولون: المسيح هو الله، ويقولون: هو ابن الله، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، هذا بالاتحاد، وهذا بالحلول، ويبين (¬1) بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة (¬2) غير الأقانيم، وهذا يتضمن جميع كفر النصارى، وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاثة أقانيم، وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصًا، وتارة صفات وخواصًا (¬3)، فيقولون: الوجود الذي هو الأب، والابن الذي هو العلم، وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم، والقدرة عند متأخريهم، فيقولون: موجود هي عالم أو ناطق أو موجود عالم قادر، لكن يقولون -أيضًا-: إن الكلمة التي هي الابن جوهر، وروح القدس -أيضًا- جوهر، وإن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس، وهذا مما لا نزاع بينهم فيه. ومن هنا قالوا كلهم: المسيح هو الله، وقالوا كلهم: هو ابن الله، لأنه من حيث أن الأب والابن وروح القدس إله واحد [وجوهر واحد] (¬4) وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله، ومن حيث أن الأب جوهر، والابن جوهر وروح القدس جوهر، والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي ¬
هو الكلمة، كان المسيح هو ابن الله عندهم، ولا ريب أن هذين القولين وإن كان كل منهما متضمنًا لكفرهم، كما ذكره الله، فإنهما متناقضان، إذ كونه هو، ينافي كونه ابنه، لكن النصارى يقولون هذا كلهم، ويقولون هذا كلهم، كما ذكر الله ذلك عنهم، ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول عند كل من تصوره، فإن هذه الأقانيم إذا كانت صفات أو خواصًا، وقدر (¬1) أن الموصوف له بكل صفة اسم، كما مثلوه بقولهم: زيد الطبيب (¬2)، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، لكن لا (¬3) يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر، ولا أن بعض هذه الصفات يفارق بعضًا، فلا يتصور مفارقة بعضها بعضًا، ولا مفارقة شيء منها للموصوف، حتى يقال: المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات، وهم لا يقولون ذلك -أيضًا- بل هم متفقون على أنه المتحد به جوهر قائم بنفسه، فإن لم يكن جوهر إلا جوهر الأب، كان جوهر الأب هو المتحد، وإن كان جوهر الابن غيره، فهما جوهران منفصلان، وهم لا يقولون بذلك، والموصوف -أيضًا- لا يفارق صفاته، كما لا تفارقه، فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة، إذ العلم والحياة لا زمان للذات، لا يتصور أن تفارقهما الذات ولا يفارقهما واحد منهما. ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد، وهو قولهم: الواحد ثلاثة، وأما قول بعضهم: أحديّ ¬
الذات ثلاثي الصفات (¬1)، فهم لا يكتفون بذلك كما تقدم، بل يقولون: الثلاثة جواهر والمتحد بالمسيح واحد منها (¬2) دون الآخر (¬3)، وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على وجه يعقل فقد قال الباطل، كقول المتكايسين (¬4) منهم: هذا كما تقول: زيد الطبيب (¬5)، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات، وهم رجل واحد باعتبار الذات فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول: بأن زيدًا الطبيب (¬6) فعل ¬
كذا، أو اتحد بكذا، أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب، بل أي شيء فعله أو وصف به زيدًا الطبيب (¬1) في هذا المثال هو الموصوف به زيد الكاتب الحاسب (¬2). والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم: إن المتحد هو الواحد، فيجعلون المسيح هو الله، لأنهم يقولون: [الموصوف اتحد به، ويجعلونه (¬3) هو ابن الله، لأنهم يقولون:] (¬4) إنما اتحد به الجوهر الذي هو الكلمة، أو إنما اتحد به الكلمة دون الأب الذي هو الوجود، و (¬5) دون روح القدس، وهما -أيضًا- جوهران، فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين، وهو من أفسد شيء في بدائه (¬6) العقول، وكل منها كفر كما كفرهم الله، وأما قولهم: ثالث ثلاثة، فإنهم ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم، وهذا كفر ¬
مضاهاة القائلين بأن الكلام معنى واحد قائم بذات الرب للنصارى
آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد (¬1) بالمسيح، فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولًا تامًّا. والمقصود هنا التنبيه على مضاهاة (¬2) الجهمية لهم دون تفصيل الكلام عليهم، والجهمية الغلاط يضاهئونهم (¬3) مضاهاة عظيمة، لكن المقصود هنا ذكر مضاهاة هؤلاء الذين يقولون: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب، فيقال: أنتم قلتم: الكلام معنى واحد لا ينقسم ولا يختلف، وهذا المعنى الواحد هو بعينه أمر ونهي وخبر، فجعلتهم الواحد ثلاثة، وجعلتم الواحد الذي لا اختلاف فيه ثلاث حقائق مختلفة، وهذا مضاهاة قوية لقول النصارى: الرب إله واحد جوهر واحد، وهو مع ذلك ثلاثة (¬4) جواهر، فجعلوه واحدًا، وجعلوه (¬5) ثلاثة، ثم قلتم هذا الكلام الذي هو واحد، وهو أمر ونهي وخبر، ينزل تارة فيكون أمرًا، وتارة فيكون خبرًا، وتارة فيكون نهيًا، وإذا نزل فكان أمرًا لم يكن خبرًا، وإذا نزل فكان خبرًا لم يكن أمرًا، فإنه إذا أنزله الله فكان آية الكرسي، وهي خبر، لم يكن آية الدين التي هي أمر، وهذا لعله من أعظم المضاهاة لقول (¬6) النصارى: إن الجوهر الواحد الذي هو ثلاثة جواهر ثلاثة أقانيم، إذا اتحد فإنما يكون كلمة وابنًا، لا يكون أبًا ولا روح قدس، فإن هؤلاء كما جعلوا الشيء الذي هو واحد، يتحد ولا يتحد، يتحد من جهة كونه كلمة، ولا يتحد من كونه وجودًا، ¬
جعل (¬1) أولئك الذي هو كلام واحد، ينزل لا ينزل، ينزل من جهة كونه أمرًا، لا ينزل من جهة كونه خبرًا. وأيضًا -فإنهم ضاهوا النصارى في تحريف مسمى الكلمة والكلام، فإن المسيح سمي كلمة الله، لأن الله خلقه بكلمته "كن فيكون" كما يسمى متعلق الصفات بأسمائها، فيسمى المقدور قدرة، والمعلوم علمًا، وما يرحم به رحمة، والمأمور به أمرًا، وهذا كثير قد بسطناه في غير هذا الموضع (¬2)، لكن هذه الكلمة تارة يجعلونها صفة لله، ويقولون: هي العلم، وتارة يجعلونها جوهرًا قائمًا بنفسه، وهي المتحد بالمسيح، وهؤلاء حرفوا مسمى الكلام، فزعموا أنه ليس إلّا مجرد المعنى، وأن ذلك المعنى ليس هو العلم، ولا الإرادة، ولا ما هو من جنس ذلك، ولكن هو شيء واحد، وهو حقائق مختلفة، لكن ليس في المسلمين من يقول: الكلام جوهر قائم بنفسه، إلّا ما يذكر عن النظام (¬3) أنه قال: الكلام الذي هو الصوت جسم من الأجسام. وأيضًا -فهم في لفظ القرآن الذي هو (¬4) حروف (¬5) واشتماله على المعنى، لهم مضاهاة قوية بالنصارى في جسد المسيح، الذي هو متدرع للاهوت، فإن هؤلاء متفقون على أن حروف القرآن ليست من كلام الله، بل هي مخلوقة، كما أن النصارى متفقون على أن جسد المسيح لم يكن ¬
من اللاهوت، بل هو مخلوق، ثم يقولون: المعنى القديم لما أنزل (¬1) بهذه الحروف المخلوقة، فمنهم من يسمي الحروف كلام الله حقيقة، كما يسمي المعنى كلام الله حقيقة، ومنهم من يقول: بل هي كلام الله مجازًا، كما أن النصارى منهم من يجعل (¬2) لاهوتًا حقيقة لاتحاده باللاهوت واختلاطه به، ومنهم من يقول: هو محل اللاهوت ودعاؤه، ثم النصارى تقول: هذا الجسد إنما عبد لكونه مظهر اللاهوت وإن لم يكن هو إياه، ولكن صار هو إياه بطريق الاتحاد، وهو محله بطريق الحلول، فعظم ذلك (¬3)، وهؤلاء يقولون: هذه الحروف ليست من كلام الله ولا يجوز أن يتكلم الله بها، ولا يكلم بها، بل لا يدخل في قدرته أن يتكلم بها، ولكن خلقها فأظهر بها المعنى القديم ودل بها عليه، فاستحقت الإكرام والتحريم لذلك، حيث يدخل في حكمه، بحيث لا يفصل بينهما، أو يفصل بأن يقال: هذا مظهر هذا [و] (¬4) دليله، وجعلوا ما ليس هو كلام الله، ولا تكلم الله به قط كلامًا لله، معظمًا تعظيم كلام الله كما جعلت النصارى الناسوت الذي ليس هو بإله قط، ولا هو الكلمة، إلها وكلمة، وعظموه تعظيم الإله الذي هو كلمة الإله (¬5) عندهم، ومنها أن النصارى على ما حكى عنهم المتكلمون، كابن الباقلاني (¬6) أو غيره (¬7) ينفون الصفات، ويقولون: إن الأقانيم التي هي الوجود والحياة والعلم، هي خواص، هي صفات نفسية للجوهر، ¬
ابن الزاغواني ومن وافقه قالوا ما هو ظاهر الفساد في مقابلة هؤلاء
ليست صفات زائدة على الذات، ويقولون: إن الكلمة هي العلم، ليس هي كلام الله، فإن كلامه صفة فعل، وهو مخلوق، فقولهم في هذا كقول نفاة الصفات من الجهمية المعتزلة وغيرهم، وهذا يكون قول بعضهم ممن خاطبه متكلموا الجهمية من النسطورية وغيرهم، وممن تفلسف منهم على مذهب نفات الصفات من المتفلسفة ونحو هؤلاء، وإلا فلا ريب أن النصارى مثبتة للصفات، بل غالية في ذلك، كما أن اليهود -أيضًا- فيهم المثبتة والنفاة. والمقصود هنا أن تسميتهم للعلم كلمة، ودون الكلام الذي هو الكلام، ثم ذلك العلم ليس هو أمرًا (¬1) معقولًا، كما تعقل الصفات القائمة بالموصوف، ضاهاهم في هؤلاء الذين يقولون: الكلام هو ذلك المعنى القائم بالنفس، دون الكلام الذي هو الكلام [ثم ذلك المعنى ليس هو المعقول من معاني الكلام، فحرفوا اسم الكلام] (¬2) ومعناه، كما حرفت النصارى اسم الكلمة ومعناها، وهذا الذي ذكرته من مضاهاة هؤلاء النصارى من بعض الوجوه رأيت بعد ذلك الناس قد نبهوا على ذلك. قال أبو الحسن بن الزاغوني (¬3) في مسألة وحدة الكلام: دليل آخر يقال لهم: ما الفرق بينكم في قولكم: إن الأمر والنهي اثنان وهما واحد، والقول بذلك قول صحيح غير مناف للصحة والإمكان، وبين من قال: إن الكلمة والناسوت واللاهوت ثلاثة واحد؟ فإن هذا مما اتفقنا على قبحه شرعًا وعقلًا، من جهة أن الكلمة (¬4) غير الناسوت واللاهوت، وكذلك الآخران صفة ومعنى، كما أن الأمر يخالف النهي صفة ومعنى. ¬
قال: وهذا مما لا محيد لهم عنه، ولا انفصال لهم منه، إلا بزخارف عاطلة عن صحة لا يصلح مثلها أن يكون شبهة يوقف (¬1) معها. وقد قال ابن الزاغوني قبل ذلك: لو جاز أن يقال: إن عين الأمر هو النهي، مع كون الأمر يخالف النهي في وضعه ومعناه، فإن الأمر استدعاء الفعل، والنهي استدعاء الترك، وموضوع الأمر إنما يراد منه [تحصيل ما يراد بطريق الوجوب أو الندب، وموضوع النهي براد منه] (¬2) مجانبة ما يكره، إما بطريق التحريم أو الكراهة والتنزيه، وما يدخل تحت الأمر يقتضي الصحة، وما يدخل تحت النهي يقتضي الفساد، إما بنفسه، أو بدليل يتصل به [أو ينفصل عنه، وكذلك من المحال أن يقتضي النهي الصحة، إما بنفسه، أو بدليل يتصل به] (¬3) ولو قال قائل: إن المنهي (¬4) عنه نهي عنه لكونه محبوبًا عند الناهي عنه، والمأمور به أمر به لكونه مبغوضًا (¬5) عند الآمر به، لكان هذا قولًا باطلًا يشهد العقل بفساده، ويعرف جري العادة على خلافه، وهذا يوجب أن يكون الأمر في نفسه وغيره (¬6)، غير النهي بنفسه وعينه، ولو ادعى مدع أن ذلك مقطوع به غير مسوغ حصوله لكان ذلك جائزًا ممكنًا. قلت: ما ذكره من فساد هذا القول هو كما ذكره، لكن يقال له ولمن وافقه: وأنتم أيضًا-[قد] (¬7) قلتم في مقابلة هؤلاء ما هو في الفساد ظاهر كذلك. ¬
قال ابن الزاغوني (¬1) في مسألة الحرف (¬2) والصوت قالوا: إذا قلتم: إن القرآن صوت ندركه بأسماعنا، والذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي، إنما هو صوته الذي يحدث عنه، وهو عرض وجد بعد عدمه (¬3)، وعدم بعد وجوده، وهو مما (¬4) يقوم به، ويتقدر بقدر حركاته، فإن قلتم: هذا هو القديم، فنقول لكم: هذا هو صوت الله، فإن قلتم: نعم، فهذا محال (¬5)، لأنا نعلمه ونتحقق صوت القارئ، وإن قلتم: إنه صوت القارئ، فقد أقررتم بأنه محدث، وهو خلاف قولكم. قال: قلنا: قولكم إن الصوت الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي للقرآن، إنما هو صوته الذي يحدث عنه على ما ذكرتم، هو دعوى مسألة الخلاف، بل نقول: إن هذا الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي، هو الكلام القديم، فلا نسلم لكم ما قلتم، وما ذكرتموه من العدم، والوجود بعد العدم، والفناء بعد الوجود، ليس الأمر كذلك، بل نقول: إنه ظهر عند حركات التالي بآلاته (¬6) في محل قدرته، فأما عدمه قبل وبعد فلا، وأما قولكم: إنه يتقدر بحركاته، فقد أسلفنا الجواب عنه، وأما سؤالكم لنا: هل هذا الذي نسمعه صوت الله تعالى أم ¬
صوت الآدمي؟ فقد ذكر أصحابنا في هذا جوابين: أحدهما: لما قلنا: إن [ما] (¬1) يظهر عند حركات آلات الآدمي في محل قدرته من الأصوات، فإنما هو القرآن الذي هو كلام الله، وليس هو بالعبد، ولا منه، ولا مضاف (¬2) إليه على طريق التولد والانفعال ونتائج العقل، وإنما يضاف إلى الله تعالى بقدر ما توجبه (¬3) الإضافة، والذي توجبه الإضافة أن يكون قرآنًا وكلامًا لله، وقد اتفقنا أن القرآن الذي هو كلام الله قديم غير مخلوق، فوجب لذلك أن نقول (¬4): إن ما يصل إلى السمع هو صوت الله تعالى، لأنه لا فعل للعبد فيه، وهو جواب حسن مبني على هذا الأصل الذي ثبت بالأدلة الجلية القاطعة. والجواب الثاني: أنهم قالوا: لما جرت العادة أن زيادة الأصوات تكثر عند كثرة الاعتمادات، وقد يختلف الناس في الأداء، فمنهم من يقول: القرآن على وجه لا زيادة فيه، بل هو كاف في إيصاله إلى السمع على وجه، فإن نقص لم يصل، وإن زاد أكثر منه وصل عما يحتاج إليه، إما في رفع الصوت، وإما في الأداء من المد والهمز والتشديد، إلى غير ذلك من حلية التلاوة، وتصفية الأداء بالقوة والتحسين، فما لا غنى عنه في تحصيل الاستماع وتكملة الفهم فذلك (¬5) هو القديم، وما قارنه مما اقتضى الزيادة في ذلك مما لو أسقط لما أثر في شيء مما يحتاج إليه من الاستماع والفهم، فذلك مضاف إلى العبد، فهذا يبين أنه اقترن القديم ¬
دعوى أن الصوت المسموع من العبد أو بعضه هو صوت الله، أو هو قديم بدعة منكرة
بالمحدث على وجه يعسر تمييزه إلا (¬1) بعد التلفظ والتأني (¬2) في التدبر، ليصل بذلك إلى مقام الفهم والتبيين (¬3) لما ذكرناه، وهو عند الوصول إليه مضى (¬4) العقل بتحصيل مطلوبه. قلت: دعوى أن هذا الصوت المسموع من العبد أو بعضه، هو صوت الله، أو هو قديم، بدعة منكرة (¬5)، مخالفة لضرورة العقل، لم يقلها أحد من أئمة الدين، بل أنكرها جمهور المسلمين، من أصحاب الإمام أحمد وغيره، وإنما قال ذلك شرذمة قليلة من الطوائف وهي (¬6) أقبح وأنكر من قول الذين قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، فإن أولئك لم يقولوا: صوتنا، ولا قالوا: قديم، ومع هذا فقد اشتد نكير الإمام ¬
أحمد عليهم، وتبديعه لهم (¬1)، وقد صنف الإمام أبو بكر المروذي -صاحبه- في ذلك مصنفًا (¬2)، جمع فيه مقالات علماء الوقت، من أهل الحديث والسنة من أصحاب أحمد وغيرهم على إنكار ذلك، وقد ذكر ذلك أبو بكر الخلال في كتاب السنة (¬3)، وهذا الذي ذكره ابن الزاغوني ¬
عن أصحابه، إنما هم أتباع القاضي أبي يعلى في ذلك، فإن هذا تصرف القاضي والله يغفر له، وقد كان ابن حامد يقول: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق على ما ذكره (¬1) عنه، والقاضي أنكر هذا، كما ثبت إنكاره عن أحمد وذهب في إنكار ذلك إلى ما ذهب إليه الأشعري (¬2) وابن الباقلاني (¬3) وغيرهم، أنهم كرهوا أن يقال: لفظت بالقرآن، وأن القرآن لا يلفظ، قالوا: لأن القديم لا يلفظ، إذ اللفظ هو الطرح والرمي، ولكن يتلى ويقرأ (¬4)، فإن الأشعري لما ذكر في مقالة أهل السنة أنهم منعوا أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق (¬5)، وكان هو وأئمة أصحابه منتسبين إلى الإمام أحمد خصوصًا، وإلى غيره من أهل الحديث عمومًا في السنة والإنكار على الطائفتين كما اشتهر عن الإمام أحمد، وطائفة من (¬6) الأئمة في زمانه وافقوه (¬7) على ذلك وفسروه بكراهة لفظ القرآن [و] (¬8) وافقهم القاضي أبو يعلى في ذلك، ثم إن القاضي وأتباعه يقولون أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأولئك يقولون أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، مع دعوى ¬
الوجه السابع والسبعون: أنه قد اشتهر بين علماء الأمة وعامتهم أن حقيقة قولهم أن القرآن ليس كلام الله
الطائفتين اتباع أحمد، وقد صنف الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر (¬1) المشهور وكان في عصر أبي الحسن بن الزاغوني الفقيه، وفي بلده -مصنفًا يتضمن إنكار قول من يقول: إن المسموع صوت الله، وأبطل ذلك بوجوه (¬2) متعددة وكان ما قام به في ذلك المكان والزمان قيامًا بغرض رد هذه البدعة وإنكارها وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد وعلمائهم، ومن أعلم علماء وقته بالحديث والآثار. الوجه السابع والسبعون: أنه قد اشتهر بين علماء الأمة وعامتها أن حقيقة قول هؤلاء: إن القرآن ليس كلام الله، وهو كما اشتهر بين الأمة، وذلك أنهم يصرحون بأن حروف القرآن لم يتكلم الله بها بحال، فهذا إقرار منهم بأن نصف مسمى القرآن، وهو لفظه ونظمه وحروفه لم يتكلم الله بها، فلا يكون كلامه، وإن كان قد قال بعض متأخريهم: إنها تسمى كلامًا (¬3) حقيقة، فهم بين أمرين، إن أقروا بأنها كلام الله حقيقة، مع كونها مخلوقة في غيره، بطل أصلهم الذي أفسدوا به قول المعتزلة: إن الكلام إذا قام ¬
بمحل، كان كلامًا لذلك المحل، لا (¬1) لمن أحدثه وأما المعاني فإنهم يزعمون أن ليس كلام الله إلّا معنى واحدًا (¬2)، هو الأمر بكل شيء، والنهي عن كل شيء، والخبر عن كل شيء، وهذا معلوم الفساد بالضرورة بعد تصوره، وهو مستلزم بأن يكون (¬3) معاني القرآن ليست كلام الله -أيضًا- إذا (¬4) كان هذا الذي ادعوه لا يجوز أن يكون له حقيقة، فضلًا عن أن يكون صفة لموصوف، أو يكون كلامًا. فتبين أن الله لم يتكلم عندهم بالقرآن لا بحروفه ولا بمعانيه، وهذا أمر قاطع لا مندوحة لهم عنه. وينضم إليه -أيضًا- أن القرآن المنزل حروفه ومعانيه هم يصرحون -أيضًا- بأنها ليست كلام الله، فظهر أنهم يقولون: إن القرآن ليس كلام الله. وأما الجهمية المحضة كالمعتزلة، فهم وإن كانوا يقولون: إن القرآن مخلوق، فأكثرهم يطلقون القول: بأن القرآن كلام الله، لكن حقيقة قولهم يعود إلى أنه ليس بكلام الله، كما يعترف بذلك حذاقهم عند التحقيق، من أن الله لم يتكلم ولا يتكلم، أو يقولون: الإخبار عنه بأنه متكلم مجازًا لا حقيقة (¬5)، فهؤلاء المعطلة لتكلم الله في الحقيقة أعظم من أولئك (¬6)، لكن تظاهر هؤلاء بأن القرآن كلام الله أعظم من تظاهر أولئك. وبذلك يتبين أن نفي الكلام عن الله على قول هؤلاء المعتزلة أوكد ¬
الوجه الثامن والسبعون: أن أئمة الطوائف قالوا: إن قول ابن كلاب والأشعري في القرآن والكلام قول مبتدع
وأقوى، ونفي كون القرآن كلام الله على قول أولئك هو أظهر وأبين، لكن (¬1) عند التحقيق فأولئك -أيضًا- يقولون ذلك -أيضًا- فهم أعظم إلحادًا في الحقيقة في أسماء الله وآياته، وأولئك أسخف (¬2) قولًا. الوجه الثامن والسبعون: إنه ما زال أئمة الطوائف، طوائف الفقهاء وأهل الحديث، وأهل الكلام يقولون: إن هذا القول الذي قاله ابن كلاب والأشعري في القرآن والكلام، من أنه معنى قائم بالذات، وأن الحروف ليست من الكلام، قول مبتدع، مخالف لأقوال سلف الأمة وأئمتها، مسبوق بالإجماع على خلافه، حتى الذين يحبون الأشعري ويمدحونه بما كان منه من الرد على أهل البدع والكبار، من المعتزلة والرافضة ونحوهم، ويذبون عنه عند من يذمه ويلعنه، ويناصحون عنه من أئمة الطوائف، يعترفون بذلك، ويقولون: إنا نخالفه في ذلك، ويجعلون ذلك من أقواله المتروكة، إذ لكل عالم خطأ من قوله يترك، أو يمسكون عن نصر هذا القول والدعاء إليه، لعلمهم بما فيه من التناقض والاضطراب واعتبر ذلك بما ذكره أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد أبي المعالي (¬3) في آخر كتاب صنفه (¬4) سماه (عقيدة أصحاب الإمام المطلبي الشافعي وكافة أهل السنة ¬
ما قاله أبو محمد الجويني
والجماعة) (¬1) وقد نقل هذا منه الحافظ أبو القاسم بن عساكر (¬2) في مناقبه الذي سماه (تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري) (¬3) وجمع فيه ما أمكنه من مناقبه، وأدخل في ذلك أمورًا أخرى يقوي بها ذلك. قال أبو محمد الجويني: "ونعتقد أن المصيب من المجتهدين في الأصول والفروع واحد، ويجب التعيين [في الأصول، فأما في الفروع فربما يتأتى التعيين] (¬4) وربما لا يتأتى، ومذهب الشيخ أبي (¬5) الحسن -رحمه الله- تصويب المجتهدين في الفروع، وليس ذلك مذهب الشافعي - رضي الله عنه - وأبو الحسن أحد أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - (¬6) فإذا خالفه في شيء أعرضنا عنه [فيه] (¬7) ومن هذا القبيل قوله: أن لا صيغة للألفاظ، ويقل ويعز (¬8) مخالفته أصول الشافعي - رضي الله ¬
ما قاله أبو حامد الاسفرائيني
عنه، ونصوصه وربما نصب المبتدعون إليه [ما هو بريء منه (¬1) كما نسبوا إليه] (¬2) أنه يقول: ليس في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وكذلك الاستثناء في الإيمان، ونفي القدرة على الخلق (¬3) في الأزل، وتكفير العوام، وإيجاب علم الدليل عليهم. [قال] (¬4): وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه، فوجدتها (¬5) كلها خلاف ما نسب إليه ولا عجب أن اعترضوا عليه وافترضوا (¬6) فإنه -رحمه الله- فاضح القدرية وعامة المبتدعة، وكاشف عوراتهم، ولا خير في من لا يعرف حاسده" (¬7). وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني في كتابه في أصول (¬8) الفقه الذي شرح فيه رسالة الشافعي وسماه: "مسألة في أن الأمر أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به: اختلف الناس في الأمر هل له صيغة تدل على كونه أمرًا ¬
[أم] (¬1) ليس له ذلك؟ على ثلاثة مذاهب: فذهب أئمة الفقهاء إلى أن ذلك (¬2) الأمر له صيغة تدل بمجردها على كونه أمرًا إذا تعرت (¬3) عن القرائن، وذلك مثل قول القائل: افعل كذا وكذا (¬4)، وإذا وجد ذلك عاريًا عن القرائن كان أمرًا، ولا يحتاج في كونه أمرًا إلى قرينة، هذا مذهب [مالك و] (¬5) الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي، وجماعة أهل العلم، وهو قول البلخي (¬6) من المعتزلة. وذهبت المعتزلة بأسرها -غير البلخي- إلى أن الأمر لا صيغة له، ولا يدل اللفظ بمجرده على كونه أمرًا، وإنما يكون أمرًا بقرينة تقترن به وهي الإرادة". إلى أن قال (¬7): "وذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن الأمر هو معنى قائم بنفس الآمر، ولا يفارق الذات ولا يزايلها، وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك، كل هذه معان (¬8) قائمة بالذات لا يزايلها (¬9)، كالقدرة والعلم وغير ذلك، وسواء هذا في (¬10) أمر الله وأمر الآدميين، إلّا أن أمر الله تعالى مختص بكونه قديمًا، وأمر الآدمي ¬
ما قاله أبو الحسن الكرجي
محدث، وهذه الألفاظ والأصوات ليست عندهم أمرًا ولا نهيًا، وإنما هي عبارة عنه". قال: وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول: هي حكاية عن الأمر، وخالفه أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- في ذلك، فقال: لا يجوز أن يقال: إنها حكاية، لأن الحكاية تحتاج أن تكون (¬1) مثل المحكي ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس، وتقرر مذهبهم على هذا، فإذا كان [هذا] (¬2) حقيقة مذهبهم، فليس يتصور بيننا وبينهم خلاف في أن الأمر هل له صيغة أم لا؟ فإنه إذا كان الأمر عندهم هو المعنى القائم بالنفس، فذلك المعنى لا يقال: إن له صيغة، أو ليست له صيغة، وإنما يقال ذلك في الألفاظ" إلى آخر كلامه (¬3). [و] (¬4) قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي (¬5) الشافعي في كتابه الذي سماه (الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزامًا لذوي البدع والفضول): (وذكر اثني عشر (¬6) إمامًا وهم (¬7): الشافعي ومالك والثوري وأحمد والبخاري وابن عيينة (¬8) وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهوية وأبو زرعة (¬9) وأبو حاتم. ¬
قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار: أن [القرآن] (¬1) كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبرئيل - عليه السلام - مسموعًا من الله تعالى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبرئيل، والصحابة سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نتلوه [نحن] (¬2) بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا، مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا، وكل حرف منه -كالباء والتاء- كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين). قال الشيخ أبو الحسن: (وكان الشيخ أبو حامد (¬3) شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام). قال أبو الحسن: (ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون (¬4) أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه، على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة -منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي- يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات، قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام الأئمة، الذي طبق الأرض علمًا وأصحابًا، إذا سعى إلى الجمعة من قطيعة (¬5) الكرخ إلى جامع ¬
المنصور، يدخل الرباط المعروف بالروزي (¬1) المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر، ويقول: اشهدوا عليّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله أحمد بن حنبل (¬2)، لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه في جمعات، فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر (¬3) في الناس وفي أهل الصلاح، ويشيع الخبر في البلاد (¬4) أني بريء ممّا هم عليه -يعني الأشعرية- وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني (¬5)، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء، يدخلون على الباقلاني خفية، فيقرؤون (¬6) عليه فيفتنون (¬7) بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه وأنا قلته (¬8)، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته). قال الشيخ أبو الحسن (¬9): (وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرائيني، وكان ينهى أصحابه عن ¬
الكلام، وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أن نفرًا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصة قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني بلغني أنك تدخل على هذا الرجل -يعني الباقلاني- فإياك وإياه، فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل، وتائب إليه، واشهدوا علي أني لا أدخل عليه (¬1)). قال (¬2): وسمعت الفقيه [الإمام] (¬3) أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد -أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم- قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعًا، خوفًا من الشيخ أبي حامد (¬4) الإسفرائيني). قال (¬5): وأخبرني جماعة من الثقات كتابة، منهم القاضي أبو منصور اليعقوبي عن الإمام عبد الله بن محمد بن علي، هو شيخ الإسلام الأنصاري قال: سمعت أبا عبد الرحمن محمد (¬6) بن الحسين -وهو السلمي- يقول: وجدت أبا حامد الإسفرائيني، وأبا الطيب الصعلوكي، وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله". ¬
ما ذكره الشيخ -رحمه الله- عن هؤلاء
قال (¬1): "وسمعت (¬2) أحمد بن أبي رافع وخلقًا يذكرون شدة أبي حامد الإسفرائيني (¬3) على الباقلاني (¬4) ". قال الشيخ أبو الحسن الكرجي (¬5): (ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام، حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلقه عنه (¬6) الإمام (¬7) أبو بكر (¬8) الزاذقاني، وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة، حتى لو وافق قول الأشعري وجهًا لأصحابنا ميزه، وقال: هو قول بعض أصحابنا، وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن (¬9) مذهبهم في أصول الفقه، فضلًا عن أصول الدين). قلت: أبو محمد الجويني، وشيخه أبو بكر القفال المروزي (¬10)، ¬
وشيخه أبو زيد المروزي (¬1)، هم أهل الطريقة المروزية الخراسانية (¬2)، وأئمتها من أصحاب الشافعي، والشيخ أبو حامد الإسفرائيني وأتباعه، كالقاضي أبي الطيب (¬3) وصاحبه أبي إسحاق الشيرازي (¬4) وغيره، هم ¬
أئمة الطريقة العراقية (¬1) من أصحاب الشافعي. وقد ذكر أبو القاسم بن عساكر (¬2) في ترجمة أبي محمد الجويني ما ذكره عبد الغافر الفارسي (¬3) في تاريخ نيسابور في ترجمة الشيخ أبي محمد الجويني في مناقبه وقال: "سمعت خالي الإمام أبا سعيد (¬4) -يعني عبد الواحد بن عبد الكريم القشيري- يقول: كان أئمتنا في عصره، والمحققون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحميدة، أنه لو جاز أن يبعث الله نبيًّا في عصره لما كان إلا هو، من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته في كمال فضله). وذكر عبد الغافر (¬5) أنه كان أوحد زمانه، قال: (وله في الفقه تصانيف كثيرة الفوائد، مثل التبصرة، والتذكرة، ومختصر المختصر (¬6)، ¬
وله التفسير الكبير المشتمل على عشرة أنواع في كل آية). وأما الشيخ أبو حامد فهو الشافعي الثالث، فإنه ليس بعد الشافعي مثل أبي العباس بن سريج (¬1)، ولا بعد أبي العباس مثل الشيخ أبي حامد، حتى ذكر أبو إسحاق في طبقات الفقهاء (¬2)، عن أبي الحسين القدوري، أنه كان يقول في الشيخ أبي حامد: إنه أنظر من الشافعي. وهذا الكلام -وإن كان قد ردت زيادته، لكن لولا براعة أبي حامد ما قال فيه مثل الشيخ أبي الحسين هذا القول. قال الشيخ أبو الحسن الكرجي (¬3): "ولا شك أنه كان أعرف الأصحاب بمناصيص الشافعي، وأعظمهم بركة في مذهبه، وهو أول من كثر شرح المزني (¬4) وشحنه بالمختلف والمؤتلف، ونصر فيه مذاهب الأئمة (¬5)، وجعله مساغًا لاجتهاد الفقهاء". وقد ذكر أبو القاسم بن عساكر (¬6) فيما ذكره من أصحاب الأشعري ¬
جماعة كثيرة ليسوا منهم، بل منهم من هو مشهور بالمناقضة والمعارضة لهم، وذكر منهم (¬1) الشيخ أبا إسحاق الشيرازي. قال: (وكان يظن به من لا يفهم (¬2) أنه مخالف للأشعري، لقوله في كتابه (¬3) في أصول الفقه: وقالت الأشعرية: إن الأمر لا صيغة له، وليس ذلك لأنه لا يعتقد اعتقاده، وإنما قال ذلك لأنه خالفه في هذه المسألة مما انفرد بها (¬4) أبو الحسن. قال (¬5): وقد ذكرنا في كتابنا هذا (¬6) عنه (¬7) فتواه فيمن خالف الأشعرية واعتقد بتبديعهم (¬8)، وذلك أوفى (¬9) دليل على أنه منهم). وقد ذكر هذه الفتوى (¬10) ونسختها: "ما قول السادة الجلة (¬11)، الأئمة الفقهاء، أحسن الله توفيقهم، ورضي عنهم، في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعرية (¬12) وتكفيرهم، ما الذي يجب عليهم في هذا ¬
القول؟ تفتونا (¬1) في ذلك منعمين مثابين (¬2). الجواب -وبالله التوفيق-: أن كل من أقدم على لعن فرقة من المسلمين وتكفيرهم، فقد ابتدع وارتكب ما لا يجوز الإقدام عليه، وعلى الناظر في الأمور -أعز الله أنصاره- الإنكار عليه، وتأديبه بما يرتدع هو وأمثاله عن ارتكاب مثله. وكتب محمد بن علي الدامغاني (¬3)، وبعده الجواب وبالله التوفيق: أن الأشعرية أعيان أهل (¬4) السنة، وأنصار (¬5) الشريعة، انتصبوا للرد على المبتدعة -من القدرية والرافضة وغيرهم- فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين، وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد، وكتب إبراهيم بن علي الفيروزآبادي (¬6) وبعده (¬7) جوابي مثله، وكتب محمد بن أحمد الشاشي (¬8). ¬
قال: فهذه أجوبة هؤلاء الأئمة، الذين كانوا في عصرهم علماء الأمة، فأما قاضي القضاء الحنفي (¬1) الدامغاني، فكان يقال له في عصره: أبو حنيفة الثاني، وأما الشيخ الإمام [أبو إسحاق، فقد طبق ذكر فضله الآفاق، وأما الشيخ] (¬2) أبو بكر (¬3) الشاشي، فلا يخفى محله على منته في العلم، ولا ناشئ). قلت: هذه الفتيا كتبت هي وجوابها في فتنة ابن القشيري (¬4) لما قدم بغداد، فإن ملك خراسان محمود بن سبكتكين كان قد أمر (¬5) في مملكته بلعن أهل البدع على المنابر، فلعنوا وذكر فيهم الأشعرية (¬6)، ¬
وكذلك جرى في أول مملكة (¬1) السلجقية (¬2) الترك، وكان الذين سعوا في ¬
أئمة الكلابية والأشاعرة يذهبون إلى أن اليدين والوجه والعينين صفات ثابتة لله
إدخالهم في اللعنة فيهم من سكان تلك البلاد، من الحنفية الكرامية وغيرهم، ومن أهل الحديث طوائف، وجواب الدامغاني جواب مطلق فيه رضي هؤلاء وهؤلاء، فإنه أجاب (¬1) بأنه من أقدم على لعنة فرقة من المسلمين وتكفيرهم، فقد ابتدع وفعل ما لا يجوز [وهذا مما لا ينازع فيه أحد، أنه من كان من المسلمين لا يجوز] (¬2) تكفيره، إذ المكفر لشخص أو طائفة لا يقول: إنهم من المسلمين ويكفرهم، بل يقول: ليسوا بمسلمين. قال (¬3) أبو المعالي الجويني (¬4): "ذهب أئمتنا (¬5) إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمع، دون قضية العقل. قال (¬6): والذي يصح عندنا، حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود". ¬
أبو المعالي خالف أئمته في هذا ووافق المعتزلة
قلت: فاتضح أن أئمة الكلابية والأشعرية يثبتون هذه الصفات، فإنه خالف أئمته ووافق المعتزلة. قال شارح كلامه أبو القاسم بن الأنصاري (¬1): "اعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان ثابتتان زائدتان على وجود الإله -سبحانه- ونحوه. قال عبد الله بن سعيد. قال: ومال القاضي أبو بكر في الهداية (¬2) إلى هذا المذهب". قلت: القاضي قد صرح بذلك في جميع كتبه، كالتمهيد (¬3) والإبانة (¬4) وغيرهما. قال (¬5): "في كلام أبي إسحاق (¬6) ما يدل على أن التثنية في اليدين ¬
ترجع (¬1) إلى اللفظ لا إلى الصفة، وهو مذهب أبي العباس القلانسي. قال الأستاذ -يعني أبا إسحاق-: "أما العينان فعبارة عن البصر، وكان في العقل ما يدل عليه، وأما اليد والوجه (¬2)، فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما. فقال قائلون: قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين، يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق، وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام، لكن لم يكن في العقل دليل على تسميته، فورد الشرع ببيانها، فسمى الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق يدًا، والصفة التي يقع بها التقريب في التكليم وجها، وقالوا: لما صح في العقل التفصيل (¬3) في الخلق والفعل (¬4) بالمباشرة والإكرام، والتقريب بالإقبال، وجب (¬5) إثبات صفة له يصح بها ما قلناه، من غير مباشرة ولا محاذاة، فورد الشرع بتسمية إحداهما يدًا، والأخرى وجهًا، ومن سلك هذه (¬6) الطريق قال: لم يكن في العقل جواز ورود السمع بأكثر منه، وما جهر [به] (¬7) عليه من جهة الإخبار، فطريقه الآحاد التي لا توجب العلم، ولا يجوز بمثلها إثبات صفة للقديم (¬8)، وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم، كان متأولًا على الفعل. ¬
وقال آخرون: طريق إثباتها السمع المحض، ولم يكن للعقول فيه تأثير، وإذا قيل لهم: لو جاز ورود الشرع بإثبات صفات لا يدل العقل عليها لم يؤمن أن يكون الله على صفات لم يرد الشرع بها، ولا صارت معلومة، ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله -تعالى- إذا لم تكن واحدة منها شبيهة (¬1) بصفته. كان جوابهم أن يقولوا: لما أخبر الله المؤمنين بصفاته وحكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة بها، لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها، لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنًا مستحق المدح إذا لم يكن عارفًا بالله -يعني- وبصفاته أجمع، فلما وصفهم الله (¬2) بالإيمان عند معرفتهم بما ورد من الشرع، ثبت أن لا صفة أكثر مما بين الطريق إليه بالعقل (¬3) والشرع. قال الأستاذ: والتعويل على الجواب الأول فإن فيه الكشف عن المعنى". قلت: الجوابان مبنيان على وجوب العلم بجميع صفات الله، لكن [هل] (¬4) كلها معلومة بالعقل، أو منها ما علم بالسمع؟ على القولين (¬5)، ومحققوا الأشعرية وغيرهم، لا يرضون أن يقولوا: إنا نقطع بأنا علمنا الله بجميع صفاته، أو بأنه لا صفة له وراء ما علمناه. ¬
قال أبو المعالي (¬1): "فمن (¬2) أثبت هذه الصفات السمعية، وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول (¬3)، استدل بقوله تعالى (¬4): {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}) (¬5). قالوا: ولا وجه لحمل اليدين على القدرة إذ جملة المخترعات مخلوقة بالقدرة (¬6)، ففي الحمل على ذلك إبطال فائدة التخصيص. قال (¬7): وهذا غير سديد، فإن العقول قضت بأن الخلق لا يقع إلّا بالقدرة، أو بكون (¬8) القادر قادرًا، فلا وجه لاعتقاد خلق آدم بغير القدرة". وقال القاضي (¬9): الآية تدل على إثبات يدين صفتين، والقدرة واحدة، فلا يجوز حملها على القدرة (¬10). ¬
قال أبو المعالي: "وقد قال بعض الأصحاب: التثنية راجعة إلى اللفظ لا إلى المعنى، وإنما هي صفة واحدة، كما حكيناه عن القلانسي وعن الأستاذ، على أنه كما يعبر باليد (¬1) عن الاقتدار، فكذلك يعبر باليدين عن الاقتدار، فقد تقول العرب: ما لي بهذا الأمر يدان، يعنون: ما لي بها قدرة قال عزَّ وجلَّ: {بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬2). قال أبو الحسن والقاضي: (المراد باليدين في هذه الآية القدرة). قلت: هذا النقل فيه نظر فكلامهما يقتضي خلافه، بل هو نص في خلاف ذلك (¬3). ¬
قال (¬1): (وأجمع أهل التفسير على أن المراد بالأيدي (¬2) في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا}) (¬3) القدرة). قال: (والذي يحقق ما قلناه: أن الذي ذكره شيخنا والقاضي، ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين على ما عداهما من الصفات، ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية، لا يدل مقتضى العقل عليها، وإنما يتوصل إليها سمعًا، فيشترط أن يكون السمع مقطوعًا به، وليس فيما استدل به الأصحاب قطع، والظواهر المحتملة لا توجب العلم، وأجمع المسلمون على منح تقدير صفة مجتهد فيها لله -عزَّ وجلَّ- لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع (¬4)، وليس في اليدين على ما قاله شيخنا -رحمه الله- نظر لا يحتمل التأويل، ولا إجماع عليه، فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه". قال: "والظاهر من لفظ اليدين حملهما (¬5) على جارحتين، فإن استحال حملهما (¬6) على ذلك، ومنع من حملهما على القدرة أو النعمة أو الملك (¬7)، فالقول بأنهما. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أبو المعالي اعتمد على مقدمتين باطلتين
محمولتان (¬1) على صفتين قديمتين لله -تعالى، زائدتين على ما عداهما من الصفات تحكم محض". قلت: ثم ذكر الجواب عن حجة أئمته بما ليس هذا موضعه، فإن المقصود ليس هو الاستقصاء في إثبات هذه الصفة ونفيها، إذ قد تكلمنا على ذلك في موضعه (¬2) وإنما الغرض التنبيه على [تغيير] (¬3) قول الأشعري وأئمة أصحابه، وأبو المعالي اعتمد (¬4) على مقدمتين باطلتين. إحداهما (¬5): أنه ليس في السمع ما يقطع (¬6) بثبوت هذه الصفة لا نص ولا إجماع. والثانية (¬7): المنع أن يتكلم في الصفات بغير قطع عقلي أو نقلي، وادعى الإجماع على ذلك، وهذا باطل، كما يقوله من يقول: إذا لم يقم القاطع بالثبوت وجب القطع بالانتفاء، وهذا مطابق لما ذكره الإسفرائيني، من أن الله معروف بجميع صفاته في الدنيا، إما بالعقل على قول قوم من أصحابه، وإما بالعقل والسمع. ¬
أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم قليل المعرفة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة
وهذا الذي قالوه خلاف إجماع سلف الأمة، وخلاف قول المحققين من أصحابهم، فضلًا عن أن يكون في ذلك إجماع، فإن القطع بالنفي بلا علم يوجب النفي، كالقطع بالإثبات بلا علم، والواجب أن تعطى الأدلة حقها، فما كان قطعيًّا قطع به، وما كان ظاهرًا محتملًا قيل: إنه ظاهر محتمل، وما كان مجملًا قيل: إنه مجمل، ولم يقل أحد من الأئمة، فضلًا عن أن يكون إجماعًا: إن ما [لم] (¬1) تعلموه من صفات الرب فانفوه، بل قالوا: أمسكوا عن التكلم في ذلك بغير ما ورد، وفرق بين السكوت عما لم يرد (¬2) وبين النفي، فكيف إذا كان النفي لما يكون ظاهرًا في الوارد؟ وأبو المعالي يتكلم بمبلغ علمه في هذا الباب وغيره، وكان بارعًا في فن الكلام الذي يشترك فيه أصحابه والمعتزلة -وإن (¬3) كانت المعتزلة هم الأصل فيه- كثير المطالعة (¬4) لكتب أبي هاشم بن الجبائي (¬5)، فأما الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وقول أئمتها، فكان قليل المعرفة ¬
ما قاله أبو المعالي في الآجري ونحوه
به (¬1) جدًّا، وكلامه في غير موضع يدل على ذلك، ولهذا تجده في عامة مصنفاته في أصوله (¬2) وفروعه، إذا اعتمد على قاطع فإنما هو ما يدعيه من قياس عقلي، أو إجماع سمعي، وفي كثير من ذلك ما فيه، فأما الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها، فهو قليل الاعتماد عليه (¬3)، والخبرة به (¬4)، واعتبره بما ذكره في الرد على الآجري (¬5) ونحوه، من العلماء الذين صنفوا في أبواب السنة والرد على أهل الأهواء، وردوا (¬6) عليهم بالسنة والآثار، وذكروا في ذلك أحاديث الصفات، فإنه قال (¬7): (اعلم أن أهل الحق نابذوا المعتزلة وخالفوهم واتبعوا السمع والشرع، وأثبتوا الرؤية والنظر، وأثبتوا الصراط والميزان، وعذاب القبر ومسألة منكر ونكير، والمعراج والحوض، واشتد نكيرهم على من ينسب إلى إنكار مأثور الأخبار، والمستفيض من الآثار (¬8)، في هذه القواعد والعقائد، واتفقوا على أن الحسن والقبيح (¬9) في أحكام التكليف والإيجاب والخطر لا يدرك عقلًا، والمرجع في جميعها إلى موارد الشرع ¬
وقضايا السمع، ولكنهم لما بلغتهم أخبار (¬1) متشابهة، وألفاظ مشكلة، لم يستبعدوا أن يكون في الأخبار البين الظاهر (¬2) [و] (¬3) المجمل والمشكل (¬4)، فإن الله أخبر أن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد (¬5)، منه آيات محكمات، وأخر متشابهات، أعرضوا (¬6) عن ذكرها، ولم يشتغلوا بها (¬7)، والدليل عليه أن أئمة السنة، وأخيار (¬8) الأمة، بعد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم- لم (¬9) يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات (¬10)، فلم يورد مالك - رضي الله عنه - في الموطأ منها شيئًا مما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي، وأبو حنيفة، وسفيان، والليث، والثوري، ولم يعتنوا (¬11) بنقل المشكلات، ونبعْت ناشئة ضروا بنقل المشكلات، وتدوين المتشابهات، وتبويب أبواب، ورسم تراجم، على ترتيب فطرة المخلوقات ورسموا بابًا في ضحك الباري [وبابًا في نزوله وانتقاله وعروجه ودخوله وخروجه] (¬12) وبابًا في إثبات الأضراس، وبابًا في خلق الله آدم على صورة الرحمن، وبابا في إثبات ¬
تعليق الشيخ بأن هذا القول يجب رده لأمور
القدم والشعر القطط (¬1)، وبابًا في إثبات الأصوات والنغمات -تعالى الله عن قول الزائغين). قال (¬2): (وليس يتعمد جمع هذه الأبواب، وتمهيد هذه الأنساب (¬3) إلّا مشبه على التحقيق، أو متلاعب زنديق). قال -المعظم لأبي المعالي، الناقل لكلامه- أبو عبد الله القرطبي (¬4) -وهو من أكابر علماء الأشعرية- في قول أبي المعالي: (هذا بعض التحامل (¬5)، وقد أثبتنا في هذا الكتاب (¬6) -يعني (¬7) شرح الأسماء الحسنى، فإنه ذكر الصفات في آخره- (¬8) من هذه الأخبار ما صح سنده، وثبت نقله ومورده، وأضربنا عن كثير منها استغناء عنها، لعدم صحتها، فليوقف على ما ذكرنا منها، لنقل الأئمة الثقات لها وحديث النزول (¬9) ثابت في الأمهات، خرجه الثقات الأثبات). قلت: هذا (¬10) الكلام فيه ما يجب رده لأمور (¬11) عظيمة: أحدها: ما ذكره عمن سماهم أهل الحق، فإنه دائمًا يقول: قال ¬
أهل الحق، وإنما يعني أصحابه، وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها، فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون، الذين لا يجتمعون على ضلالة، فأما أن يفرد (¬1) الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة، ويسميها (¬2) أهل الحق، ويشعر بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل، فهذا حال أهل الأهواء والبدع، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وليس هذا من فعل أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يصفون طائفة بأنها صاحبة الحق مطلقًا (¬3) إلا المؤمنين (¬4)، الذين لا يجتمعون على ضلالة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} (¬5) وهذا نهاية الحق، والكلام الذي لا ريب فيه أنه حق، قول الله، وقول رسوله الذي هو حق وآت بالحق. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} (¬6)، وقال تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} (¬7). وقول النبي (¬8) - صلى الله عليه وسلم -: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلّا الحق" (¬9). يعني شفتيه. ¬
أهل الحق هم أهل الكتاب والسنة
فأهل الحق، هم أهل الكتاب والسنة، وأهل الكتاب والسنة -على الإطلاق- هم المؤمنون، فليس الحق لازمًا لشخص بعينه، دائرًا معه حيثما دار لا يفارقه قط، إلّا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا معصوم من الإقرار على الباطل غيره، وهو حجة الله التي أقامها على عباده، وأوجب اتباعه وطاعته في كل شيء على كل أحد. وليس الحق -أيضًا- لازمًا لطائفة دون غيرها إلّا للمؤمنين، فإن الحق يلزمهم، إذ لا يجتمعون على ضلالة، وما سوى ذلك [فقد يكون] (¬1) الحق فيه مع الشخص أو الطائفة في أمر دون أمر، وقد يكون المختلفان كلاهما على باطل، وقد يكون الحق مع كل منهما من وجه دون وجه، فليس لأحد أن يسمي طائفة منسوبة إلى أتباع شخص -كائنًا من كان- غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم أهل الحق، إذ ذلك يقتضي أن كل ما هم عليه فهو حق، وكل من خالفهم في شيء من سائر المؤمنين فهو مبطل، وذلك لا يكون إلّا إذا كان متبوعهم كذلك، وهذا معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام، ولو جاز ذلك لكان إجماع هؤلاء حجة، إذا ثبت أنهم هم أهل الحق. ثم هو يذكر أئمته الذين جعلهم أهل الحق، ثم يخالفهم ويخطئهم، كما صنع في مسألة الصفات الخبرية وغيرها، مع أنهم فيها أقرب إلى الحق منهم، فكيف يسوغ لهم أن يخالفوا من شهد لهم بأنهم أهل الحق، فيما اختلف فيه الناس من أصول الدين، وله في ذلك شبه ¬
قوي ببعض أئمة الرافضة، الذين كانوا بالشام، يقال له: ابن العود (¬1)، رأيت له (¬2) فتاوى يدعي فيها في [غير] (¬3) موضع أن الطائفة المحقة هم أتباع المعصوم المنتظر، ويحتج بإجماع الطائفة المحقة، بناء على أن قولهم مأخوذ من (¬4) المعصوم، الذي لا يعرفه أحد، ولم يسمع له بخبر، ولا وقع له على عين ولا أثر، حتى إنه قال: إذا تنازعوا في مسألة على قولين: أحدهما يعرف قائله، دون الآخر، فالقول الذي لا يعرف قائله هو الحق، لأن في أهله الإمام المعصوم، ثم رأيته يخالف أصحابه ويرد عليهم في مواضع، فأين مخالفتهم والرد عليهم، من دعوى أنهم الطائفة المحقة الذين لا يتفقون على باطل؟ وكذلك دعوى كثير من أهل الأهواء والضلال، أنهم المحقون، أو أنهم أهل الله، أو أهل التحقيق، أو أولياء الله، حتى تقفوا (¬5) هذه (¬6) المعاني عليهم دون غيرهم، ويكونون (¬7) في الحقيقة إلى أعداء الله أقرب، وإلى الإبطال أقرب منهم إلى التحقيق بكثير، فهؤلاء لهم شبه قوي بما ذكره الله عن اليهود والنصارى من قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ ¬
الثاني: أنه ذكر عنهم أنهم اتبعوا السمع والشرع وذكر عنهم أنه لم يثبت لله صفة بالسمع
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬1) وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬2). الثاني: إنه ذكر عنهم أنهم اتبعوا السمع والشرع، وهو قد ذكر في أصولهم التي بها صاروا أهل الحق عندهم، أنه لم يثبت لله صفة بالسمع، بل إنما تثبت (¬3) صفاته بالعقل المجرد، وأن الذين أثبتوا ما جاء في القرآن، منهم من أثبته بالعقل، ومنهم من أثبته بالسمع، ورد هو على الطائفتين، فأي اتباع للسمع والشرع إذا لم يثبت به شيء من صفات الله بالشرع؟ بل وجوده كعدمه فيما أثبتوه ونفوه من الصفات، فأئمتهم كانوا يثبتون الصفات بالسمع وبالعقل، أو بالسمع ويجعلون العقل مؤكدًا، فخالفهم (¬4) في ذلك، فأين اتباعهم للسمع والشرع، وقد عزلوه عن الحكم به، والاحتجاج به، والاستدلال به؟ الثالث: قوله: "يشتد نكيرهم على من ينتسب إلى إنكار مأثور الأخبار والمستفيض من الآثار". فيقال له: إذا لم يستفد منها ثبوت معناها، فأي إنكار لها أبلغ من ذلك؟ وأنت قد ذكرت إعراضهم عنها، وقلت فيها من الفرية ما سنذكر ¬
الرابع: ما يثبتونه من أمر الآخرة على وجه الجلة يشركهم فيه آحاد العوام
بعضه، فهل الإنكار لمأثور الأخبار ومستفيضها إلا من جنس ما ذكرته في هذا الكلام؟ الرابع: ما ذكره أنهم يثبتون ما يثبتونه من أمر الآخرة. فيقال لهم: هذا يثبتونه على وجه الجملة إثباتًا يشركهم فيه آحاد العوام، ولا يعلمون من تفصيل ذلك ما يجاب به أدنى السائلين، وليس في كتبهم ما في ذلك من الأحاديث التي وصف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولهذا تجدهم بذلك من أقل الناس علمًا بها، أو تجدهم مرتابين فيها أو مكذبين، فأي تعظيم بمثل هذا؟ وأي مزية بمثل (¬1) هذا (¬2) على أوساط العوام أو أدناهم؟ بل كثير من عوام المؤمنين يؤمن من تفاصيل (¬3) هذه الأمور، يعلم (¬4) منها ما (¬5) أخبر به الشارع ما ليس مذكورًا في أصول هؤلاء، وإنما الفضيلة على عموم المؤمنين، بأن يكون الإنسان أو الطائفة من أهل العلم، الذي لا يوجد عند عموم (¬6) المؤمنين، وليس فيما ذكره من هذه الأصول ذلك. الخامس: لحجة (¬7) أنهم نفوا التحسين والتقبيح العقلي، وجعلوا أحكام الأفعال لا تتلقى إلّا من الشرع (¬8) [فإنه بين ذلك تعظيمهم للشرع] (¬9) واتباعهم له، وأنهم لا يعدلون عنه ليثبت بذلك تسننهم، ¬
وهذا الأصل هو من الأصول (¬1) المبتدعة في الإسلام، لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن العقل لا يحسن ولا يقبح، أو أنه لا يعلم بالعقل حسن فعل ولا قبحه، بل النزاع في ذلك [حادث في حدوث المائة الثالثة، ثم النزاع في ذلك] (¬2) بين فقهاء الأمة وأهل الحديث والكلام منها (¬3)، فما من طائفة إلّا وهي متنازعة في ذلك، ولعل أكثر الأمة تخالف في ذلك، وقد كتبنا في غير هذا الموضع فصل النزاع في هذه المسألة (¬4)، وبينا ما مع هؤلاء فيها من الحق، وما مع هؤلاء فيها من الحق. ثم يقال: ولو كانت هذه المسألة حقًّا على الإطلاق، فليس لك (¬5) ولا لأصحابك فيها حجة نافية، بل عمدتك (¬6) وعمدة. . . . . . . . . . . ¬
القاضي (¬1) ونحوكما على مطالبة الخصم بالحجة، والقدح فيما يبديه (¬2)، والقدح في دليل المنازع إن صح، لا يوجب العلم بانتفاء قوله، إن لم يقم على النفي دليل. وعمدة إمام المتأخرين ابن الخطيب (¬3) الاستدلال على ذلك بالجبر، وهو من أفسد الحجج، فإن الجبر سواء كان حقًّا أو باطلًا، كما لا يبطل الحكم الشرعي لا ينفي ثبوت أحكام معلومة بالعقل، كما لا ينفي الأحكام التي يثبتها الشارع. وعمدة الآمدي (¬4) بعده أن الحسن والقبح عرض، والعرض لا يقوم بالعرض. وهذا من المغاليط التي لا يستدل بها إلّا جاهل أو مخالط، فإنه يقال في ذلك ما يقال في سائر صفات الأعراض، وغايته أن يكون كلاهما قائمًا بمحل العرض، ونفي الحكم المعلوم بالعقل، مما عده من بدع الأشعري التي أحدثها في الإسلام، علماء أهل الحديث والفقه والسنة، كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني (¬5) ¬
السادس: تسمية الأخبار التي أخبر بها الرسول عن ربه أخبارا متشابهة من حال أهل البدع
دع من سواهم. السادس: تسمية الأخبار التي أخبر بها الرسول عن ربه أخبارًا متشابهة، كما يسمون آيات الصفات متشابهة، وهذا كما يسمي المعتزلة الأخبار المثبتة للقدر متشابهة، وهذه حال أهل البدع والأهواء، الذين يسمون ما وافق آراءهم من الكتاب والسنة محكمًا، وما خالف آراءهم متشابهًا، وهؤلاء كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} (¬1). وكما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (¬2)، وكما قال تعالى (¬3): {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬4). السابع: قياسه لما سماه المتشابه في الأخبار على المتشابه في آي الكتاب، ليلحقه به في الإعراض عن ذكره وعدم الاشتغال [به] (¬5) -وحاشا الله (¬6) - أن يكون في كتاب الله ما أمر المسلمون بالإعراض عنه ¬
وعدم التشاغل به، أو أن يكون سلف الأمة وأئمتها أعرضوا عن شيء من كتاب الله، لا سيما الآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته، فما منها آية إلا وقد روى الصحابة فيما يوافق معناها ويفسره (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكلموا في ذلك بما لا يحتاج معه إلى مزيد، كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} (¬2). فإن المتأخرين، وإن كان فيهم من حرف، فقال: بقبضته، بقدرته، ويمينه (¬3): بقوته، أو بقسمه أو غير ذلك، فقد استفاضت الأحاديث الصحيحة التي رواه خيار الصحابة وعلماؤهم، وخيار التابعين وعلماؤهم، بما يوافق ظاهر الآية، ويفسر المعنى، كحديث أبي هريرة المتفق عليه (¬4)، وحديث عبد الله بن عمر -المتفق عليه (¬5) - وحديث ابن مسعود في قصة الحبر (¬6) -المتفق عليه- وحديث ابن عباس الذي رواه ¬
الترمذي وصححه (¬1) وغير ذلك، وكذلك أنه خلق آدم بيديه (¬2) وغير ¬
الثامن: ما قاله عن أئمة السلف لا يقوله إلا من كان من أبعد الناس عن معرفتهم
ذلك (¬1). الثامن: قوله: " [و] (¬2) الدليل عليه أن أئمة السنة وأخيار الأمة بعد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات، فلم يورد مالك - رضي الله عنه - في الموطأ منها شيئًا، كما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي، وأبو حنيفة، وسفيان، والليث، والثوري، ولم يعتنوا بنقل المشكلات". فإن هذا الكلام لا يقوله إلّا من كان من أبعد الناس عن معرفة هؤلاء الأئمة، وما نقلوه وصنفوه، وقوله رجم بالغيب من كان بعيدًا، فإن نقل هؤلاء الأئمة وأمثالهم لهذه الأحاديث، مما يعرفه من له أدنى نصيب من معرفة هؤلاء [الأئمة] (¬3) وهذه الأحاديث من (¬4) هؤلاء وأمثالهم أخذت، وهم الذين أدوها إلى الأمة، والكذب في هذا الكلام أظهر من أن يحتاج إلى بيان، لكن قائله لم يتعمد الكذب، ولكنه كان قليل المعرفة بحال هؤلاء، وظن أن نقل هذه الأحاديث لا يفعله إلّا الجاهل، الذين يسميهم المشبهة (¬5) أو الزنادقة، وهؤلاء برآء عنده من ذلك، فتركب من قلة علمه بالحق، ومن هذا الظن الناشئ عن الاعتقاد الفاسد هذا الكلام، الذي فيه من الفرية والجهل والضلال ما لا يخفى على أدنى الرجال. التاسع: قوله لم يورد مالك في الموطأ منها شيئًا، وقد ذكر أحاديث النزول، وأحاديث الضحك فيما أنكره، ومن المعلوم أن حديث ¬
النزول من أشهر حديث في موطأ مالك رواه عن (¬1) أجل شيوخه ابن شهاب (¬2) عمن هو من أجل شيوخه أبي سلمة (¬3) بن عبد الرحمن، وأبي عبد الله الأغر (¬4) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " (¬5)، وقد رواه أهل الصحاح كالبخاري ومسلم من طريق مالك وغيره، وأحاديث النزول متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواها أكثر من عشرين نفسًا من الصحابة بمحضر بعضهم من بعض، والمستمع لها [منهم] (¬6) يصدق المحدث بها ويقره، ولم ينكرها منهم أحد، ورواه [أئمة] (¬7) التابعين، وعامة ¬
أحاديث الضحك متواترة عن النبي -عليه السلام-
الذين سماهم من الأئمة رووا ذلك، وأودعوه كتبهم، وأنكروا على من أنكره. قال شارح الموطأ، الشرح الذي لم يشرح [أحد] (¬1) مثله الإمام أبو عمر بن عبد البر (¬2): (هذا حديث ثابت من (¬3) جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته". قال (¬4): (هو حديث منقول من طريق سوى هذه من أخبار (¬5) العدول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). (وفيه (¬6) دليل على أن الله -عزَّ وجلَّ- في السماء على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة (¬7) في قولهم: إن الله في كل مكان، وليس على العرش)، وبسط الكلام في ذلك. وكذلك أحاديث الضحك متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رواها (¬8) [الأئمة، وروى مالك في الموطأ (¬9) منها حديثه عن أبي الزناد (¬10) عن ¬
الأعرج (¬1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) قال: "يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيقاتل في سبيل الله، فيستشهد"، وقد أخرجه أهل الصحاح من حديث مالك، وغير مالك (¬3)، ورواه ¬
-أيضًا- سفيان الثوري الإمام عن أبي الزناد وحدث به (¬1). وقد روى صاحبا الصحيحين منها قطعة مثل هذا الحديث، ومثل حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الطويل المشهور (¬2)، وفيه: "فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله منه (¬3)، فإذا ضحك الله منه قال: ادخل (¬4) الجنة" (¬5) ورواه أعلم التابعين بإجماع المسلمين سعيد بن المسيب (¬6) عن ¬
أبي هريرة، وغير سعيد -أيضًا- ورواه عنه الزهري، وعنه أصحابه، وفي هذا الحديث: "فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه (¬1)، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون" (¬2). وهذا الحديث في الصحيحين من طريق آخر (¬3)، عن أبي سعيد من رواية الليث بن سعد (¬4) -إمام المسلمين- وغيره، الذي زعم أنه لم يكن يروي هذه الأحاديث، وفيه ألفاظ عظيمة أبلغ من الحديث الأول كقوله: "فيرفعون رؤوسهم، وقد تحوّل في صورته التي رأوه (¬5) فيها أول مرة" (¬6)، وقوله فيه:. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
"فيكشف عن ساق" (¬1)، وقوله: "فيقول الجبار بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج (¬2) أقوامًا قد امتحشوا" (¬3). وقد روى مالك (¬4) -أيضًا- عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي" (¬5)، وقد أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري من طريقه وطريق غيره. وروى البخاري في صحيحه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون ¬
السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك" (¬1). قال (¬2): رواه سعيد عن مالك. وقد روى مالك في موطئه (¬3) عن زيد بن أسلم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه (¬4) الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (¬5). . . الآية، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -تبارك وتعالى- خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -تبارك وتعالى- إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة (¬6)، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار، حتى ¬
يموت على عمل من أعمال أهل النار" (¬1). وهذا الحديث إنما رواه أهل السنن والمساند، كأبي داود والترمذي والنسائي، وقال (¬2): حديث حسن. وقد قيل: إن إسناده منقطع، وأن واوية مجهول (¬3)، ومع هذا فقد رواه مالك في الموطأ (¬4)، مع أنه أبلغ من غيره لقوله: (ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية). ¬
أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم قليل المعرفة بالآثار النبوية
ومن العجب أن الآجري يروي كتاب الشريعة (¬1) له من طريق مالك والثوري والليث وغيوهم، فلو تأمل (¬2) أبو المعالي وذووه (¬3) الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه ما يخصمهم، ولكن أبو (¬4) المعالي، مع فرط ذكائه، وحرصه على العلم، وعلو قدره في فنه، كان قليل المعرفة بالآثار النبوية (¬5)، ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، وأمثال هذه السنن علم أصلًا، فكيف بالموطأ ونحوه؟ وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه، إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني (¬6)، وأبو الحسن مع تمام إمامته في الحديث، فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه، ويجمع طرقها، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله، فأما الأحاديث ¬
المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنه (¬1) في ذلك، فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الباب، يورث جهلًا عظيمًا بأصول الإسلام، واعتبر ذلك بأن كتاب أبي (¬2) المعالي الذي هو نخبة عمره: "نهاية المطلب في دراية المذهب" (¬3) ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري، إلّا حديث واحد في البسملة، وليس ذلك الحديث في البخاري -كما ذكره- ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام، اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي، فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه، كيف يكون حالهم في غير هذا؟! وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ (¬4) إمامًا في مسألة واحدة من مسائل الفروع، فكيف يتخذ إمامًا في أصول الدين؟! مع العلم بأنه [إنما] (¬5) نبل قدره عند الخاصة والعامة، بتبحره في مذهب الشافعي - رضي الله عنه - لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة، وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين، غايته فيه أن يوجد منه نقل جمعه أو بحث تفطن له لا (¬6) يجعل إمامًا فيه، كالأئمة الذين لهم وجوه، فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة (¬7) على أنه ليس ¬
بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه؟ وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما، هو بعينه من الكلام الذي نصت عليه الأئمة. ولهذا روى عنه ابن طاهر (¬1) أنه قال وقت الموت (¬2): "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يدركني (¬3) ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهأنذا (¬4) أموت على عقيدة أمي أو عقائد عجائز نيسابور". وقال (¬5) أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي (¬6)، حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري (¬7) الفقيه قال: "دخلنا على الإمام ¬
عامة المستأخرين سلكوا خلفه
أبي المعالي الجويني، نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور فأقعد، فقال لنا: اشهدوا على أني قد (¬1) رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح -عليهم السلام- وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور". وعامة المستأخرين (¬2) من أهل الكلام، سلكوا خلفه من تلامذته، وتلامذة تلامذته، وتلامذة تلامذة تلامذته، ومن بعدهم، ولقلة علمه بالكتاب والسنة [وكلام سلف الأمة يظن أن أكثر الحوادث ليس (¬3) في الكتاب والسنة] (¬4) والإجماع ما يدل عليها، وإنما يعلم حكمها بالقياس، كما يذكر ذلك في كتبه (¬5)، ومن كان له علم بالنصوص ودلالتها على الأحكام، علم أن قول أبي محمد بن حزم وأمثاله أن النصوص تستوعب جميع الحوادث، أقرب إلى الصواب من هذا القول، وإن كان في طريقه هؤلاء من الإعراض عن بعض الأدلة الشرعية ما قد يسمى قياسًا جليًّا (¬6)، وقد يجعل من دلالة اللفظ، مثل فحوى الخطاب ¬
والقياس في معنى الأصل وغير ذلك، ومثل الجمود على الاستصحاب الضعيف، ومثل الإعراض عن متابعة أئمة من الصحابة ومن بعدهم ما هو معيب عليهم، وكذلك القدح في أعراض الأئمة، لكن الغرض أن قول هؤلاء في استيعاب النصوص للحوادث، وأن الله ورسوله قد بين للناس دينهم، هو أقرب إلى العلم والإيمان الذي هو الحق، ممن يقول: إن الله لم يبين للناس حكم أكثر ما يحدث لهم من الأعمال، بل وكلهم فيها إلى الظنون المتقابلة والآراء المتعارضة. ولا ريب أن هذا سببه (¬1) كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية، وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ، وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع، لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين، لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد، ولكن اتباع (¬2) أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس، ينقص (¬3) صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقًا لذلك، وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره، فليس الفضل بكثرة الاجتهاد، ولكن بالهدى والسداد، كما جاء في الأثر: "ما ازداد مبتدع اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا" (¬4). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن ¬
لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية " (¬1). ويوجد لأهل البدع من أهل القبلة لكثير من الرافضة والقدرية الجهمية وغيرهم، من الاجتهاد ما لا يوجد لأهل السنة في العلم والعمل، وكذلك لكثير من أهل الكتاب والمشركين، لكن إنما يراد الحسن (¬2) من ذلك، كما قال الفضيل بن عياض (¬3) في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬4) قال (¬5): "أخلصه وأصوبه. فقيل ¬
روى الشافعي في كتبه بعض أحاديث الصفات
له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا [لم يقبل، وإن (¬1) كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا] (¬2) والخالص أن يكون لله، والصواب (¬3) أن يكون على السنة". وأما الشافعي - رضي الله عنه - فقد روى الأحاديث التي تتعلق بغرض كتابه (¬4)، مثل حديث النزول، وحديث معاوية بن الحكم السّلمي الذي فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجارية: "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: "من أنا؟ " قالت: أنت محمد رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" (¬5). وقد رواه مسلم في صحيحه. ¬
بل روى في كتابه الكبير (¬1) الذي اختصر منه مسنده من الحديث ما هو من أبلغ أحاديث الصفات، ورواه بإسناد فيه ضعف (¬2)، فقال: [أخبرنا] (¬3) إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عبيدة، حدثني (¬4) أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبيد الله بن ¬
عمير (¬1) أنه سمع أنس بن مالك يقول: أتى جبرائيل بمرآة بيضاء فيها وكتة (¬2) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال [النبي] (¬3) - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذه؟ " قال (¬4): هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها عبد (¬5) مؤمن يدعو [الله بخير] (¬6) إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبرائيل وما يوم (¬7) المزيد؟ " قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديًا أفيح (¬8)، فيه كثب (¬9) مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله -عزَّ وجلَّ- ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين (¬10)، وحفت تلك ¬
المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون فجلسوا من ورائهم (¬1) على تلك الكثب، فيقول الله -عز وجل- لهم: أنا ربكم قد (¬2) صدقتكم وعدي، فاسألوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من خير (¬3)، وهو اليوم الذي استوى ربكم (¬4) على العرش فيه، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة" (¬5). وأما ما رواه الثوري، والليث بن سعد، وابن جريج، والأوزاعي ¬
روى الأئمة حديث خلق آدم على صورته
وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة ونحوهم، من هذه الأحاديث فلا يحصيه إلَّا الله، بل هؤلاء عليهم مدار هذه الأحاديث من جهتهم أخذت، وحماد بن سلمة الذي قال: إن مالكًا احتذى موطأه على كتابه، هو قد جمع أحاديث الصفات (¬1) لما أظهرت الجهمية إنكارها، حتى إن حديث خلق آدم على صورته، أو صورة الرحمن، قد رواه هؤلاء الأئمة، رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان (¬2)، ورواه سفيان (¬3) بن عيينة عن أبي الزناد، ومن طريقه رواه مسلم في صحيحه (¬4)، ورواه الثوري عن حبيب بن أبي (¬5) ثابت، عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
مرسلًا (¬1)، ولفظه: "خلق آدم على صورة الرحمن" مع أن الأعمش رواه مسندًا (¬2)، فإذا كان الأئمة يروون مثل هذا الحديث وأمثاله مرسلًا، فكيف يقال: إنهم كانوا يمتنعون عن روايتها؟! والحديث هو في الصحيحين (¬3) من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة، وفي صحيح مسلم (¬4). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة. وقد روى ابن القاسم (¬1) قال: سألت مالكًا عن من يحدث الحديث: "إن الله خلق آدم على صورته"، والحديث: "إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة" وأنه يدخل في النار يده حتى يخرج (¬2) من أراد، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا ونهى أن يتحدث به أحد (¬3). قلت: هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما، فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان (¬4)، والثاني هو في حديث أبي ¬
سعيد الخدري الطويل، وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين (¬1) من حديث الليث، والأول قد أخرجاه في الصحيحين (¬2) من حديث غيره. وابن القاسم إنما سأل مالكًا لأجل تحديث الليث بذلك، فيقال: إما أن يكون ما قاله مالك مخالفًا لما فعله الليث ونحوه، أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك لمن (¬3) يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلّا كان فتنة لبعضهم (¬4)، وقد كان مالك يترك رواية أحاديث كثيرة ¬
العاشر: إن سائر أئمة الإسلام مطبقون على ذم الكلام الذي بنى عليه أبو المعالي أصول دينه
لكونه (¬1) لا يأخذ بها ولم يتركها غيره، فله في ذلك مذهب. فغاية ما يعتذر لمالك أن يقال: كره أن يتحدث بذلك حديثًا يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك، وأما أن يقال (¬2): إنه كره التحدث بذلك مطلقًا، فهذا مردود على من قاله، فقد حدث بهذه الأحاديث من هم أجل من مالك عند نفسه وعند المسلمين، كعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وقد حدث بها نظراؤه (¬3) كسفيان الثوري، والليث بن سعد، وابن عيينة، والثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظ (¬4) له، وهو أقل غلطًا فيه من مالك، وإن كان مالك (¬5) ينقي (¬6) من يتحدث عنه. وأما الليث، فقد قال فيه الشافعي "كان أفقه من مالك إلّا أنه ضيعه أصحابه" (¬7). ففي الجملة هذا الكلام (¬8) في حديث مخصوص، أما أن يقال: إن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقًا، فهذا بهتان عظيم. العاشر: إن هؤلاء الذين سماهم وسائر أئمة الإسلام، كانوا كلهم مثبتين لموجب الآيات والأحاديث الواردة في الصفات، مطبقين على ذم الكلام الذي بنى عليه أبو المعالي أصول دينه، وزعم أنه أول ما أوجبه الله ¬
على العبد بعد البلوغ، وهو ما استدل به على حدوث الأجسام بقيام الأعراض (¬1) بها، حتى إن شيخه أبا الحسن الأشعري ذكر اتفاق الأنبياء وأتباعهم، وسلف هذه الأمة على تحريم هذه الطريقة التي ذكر أبو المعالي أنها أصل الإيمان، وبها وبنحوها عارض هذه الأحاديث، وقد كتبنا كلام الأشعري وغيره في ذلك في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم [الكلامية] (¬2) لما استدل الرازي بالحركة على حدوث ما قامت به في إثبات حجته الدالة على نفي التحيز عندهم، ولكن علمه بحالهم كعلمه بمذهبهم في آيات الصفات وأحاديث الصفات، حيث اعتقد أن مذهبهم: إمرار (¬3) حروفها مع نفي دلالتها على ما دلت عليه من ¬
الحادي عشر: الذي أوجب للأئمة جمع هذه الأحاديث وتبويبها ما أحدثت الجهمية
الصفات فهذا الضلال في معرفة رأيهم، كذلك الضلال في معرفة روايتهم وقولهم في شيئين: في الكلام الذي كان ينتحله، وفي النصوص الواردة عن الرسول، فقد حرفوا مذهب الأئمة في هذه الأصول الثلاثة، كما حرفوا نصوص الكتاب والسنة. الحادي عشر: إن الذي أوجب لهم جمع هذه الأحاديث وتبويبها، ما أحدثت الجهمية من التكذيب بموجبها، وتعطيل صفات الرب المستلزمة لتعطيل ذاته، وتكذيب رسوله والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان وما صنفوه (¬1) في ذلك من الكتب وبوبوه أبوابًا مبتدعة، يردون بها ما أنزله الله على رسوله، ويخالفون بها صرائح المعقول وصحائح المنقول، وقد أوجب الله تعالى تبليغ ما بعث به رسله، وأمر ببيان العلم، وذلك يكون بالمخاطبة تارة، وبالمكاتبة أخرى، فإذا كان المبتدعون قد وضعوا الإلحاد في كتب، فإن لم يكتب العلم الذي بعث الله به رسوله في كتب لم يظهر إلحاد ذلك، ولم يحصل تمام البيان والتبليغ، ولم يعلم كثير من الناس ما بعث الله به رسوله من العلم والإيمان المخالف لأقوال الملحدين المحرفين، وكان جمع ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر به عن ربه أهم من جمع غيره. الثاني عشر: إن أبا المعالي وأمثاله يضعون كتب الكلام التي تلقوا أصوله عن المعتزلة والمتفلسفة، ويبوبون أبوابًا ما أنزل الله بها من ¬
سلطان، ويتكلمون فيها (¬1) بما يخالف الشرع والعقل، فكيف ينكرون على من يصنف ويؤلف ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، والأصول التي يقررها هي أصول جهم بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء، وقد ظهر ذلك في أتباعه، كالمدعي المغربي في مرشدته (¬2) وغيره، فإن هؤلاء في القدر يقولون بقول جهم يميلون إلى الجبر، وفي الإرجاء بقول جهم -أيضًا- لأن الإيمان هو المعرفة (¬3)، وأما في الصفات فهم يخالفون جهمًا والمعتزلة، فهم يثبتون الصفات في الجملة، لكن جهم والمعتزلة حقيقة قولهم نفي الذات والصفات وإن لم يقصدوا ذلك ولم يعتقدوه، وهؤلاء حقيقة قولهم إثبات صفات بلا ذات، وإن لم يعتقدوا ذلك ويقصدوه، ولهذا هم متناقضون، لكن هم ¬
خير من المعتزلة، ولهذا إذا حقق قولهم لأهل الفطر السليمة -بقول (¬1) أحدهم- فيكون الله شبحًا وشبحه خيال الجسم، مثل ما يكون من ظله على الأرض وذلك هو عرض، فيعلمون أن من وصف الرب بهذه (¬2) السلوب، مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه ونحوه، فلا يكون الله على قوله شيئًا قائمًا بنفسه موجودًا، بل يكون كالخيال الذي يشبحه الذهن، من غير أن يكون ذلك الخيال قائمًا بنفسه. ولا ريب أن هذه حقيقة قول (¬3) هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينزهون الرب بنفي الجسم وما يتبع ذلك، ثم إنهم مع هذا النفي إذا نفوا الجسم وملازيمه، وقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، فيعلم أهل العقول أنهم لم يثبتوا شيئًا قائمًا بنفسه موجودًا، بل يقال: هذا الذي أثبتوه (¬4) شبح (¬5) أي: خيال ومثال، كالخيال الذي هو ظل الأشخاص، وكالخيال الذي في المرآة والماء، ثم من المعلوم أن هذا الخيال والمثال والشبح [يستلزم حقيقة موجودة قائمة بالنفس، فإن خيال الشخص] (¬6) يستلزم وجوده، وكذلك قول هؤلاء، فإنهم يقرون بوجود مدبر خالق للعالم موصوف بأنه عليم قدير، ويصفونه (¬7) من السلب بما يوجب أن يكون خيالًا، فيكون قولهم مستلزمًا لوجوده ولعدمه معًا، فإذا تكلموا بالسلف لم يبق إلّا الخيال، ويصفون ذلك الخيال بالثبوت، فيكون الخيال يستلزم ثبوت الموجود القائم بنفسه. ¬
الثالث عشر: أن معرفة أبي المعالي وذويه بحال هؤلاء الأئمة لا يكون أعظم من معرفتهم بالصحابة
الثالث عشر: أن معرفة أبي المعالي وذويه بحال هؤلاء الأئمة، الذين اتفقت الأمة على إمامتهم، لا يكون أعظم من معرفتهم بالصحابة والتابعين، بل بنصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه، يذكر ما ظاهره (¬1) الاعتذار عن الصحابة، وباطنه جهل بحالهم، مستلزم إذا طرد الزندقة والنفاق، فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين، ولم يقرروا قواعده فقال: "لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك" (¬2)، هذا مما في كلامه، وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين، قد علموا أن الصحابة لم يقولوها، وهم يظنون أنها أصول صحيحة، وأن الدين لا يتم إلا بها وللصحابة - رضي الله عنهم -أيضًا- من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه، حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة، كما أخذوا من التجهم بشعبة (¬3)، وذلك (¬4) دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم، حين غلب على الرافضة التجهم، وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم، إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة، لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام، ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا محمد بن التومرت المتبع لأبي المعالي، أمثل وأقرب إلى الإسلام من ¬
المغاربة (¬1) الذين اتبعوا القرامطة، وغلوا (¬2) في الرفض والتجهم حتى انسلخوا من الإسلام، فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين، التي (¬3) لا يتم الدين إلا بها (¬4)، وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد، وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتلتهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسة للملك والقتال، فيها الحق والباطل، ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة، ولم يمكنهم القدح فيهم، فأخذوا يقولون: كانوا مشغولين (¬5) بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه. وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة وعلمهم ودينهم وقتالهم، وإن كان لا يعرف حقيقة أحوالهم، فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد من المنتسبين إلى القبلة، أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم؟ أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد، كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم؟ ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقًّا باطنًا وظاهرًا، وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله، وفعلهم لأمر الله، فمن حاد عن سبيلهم لم ير ما فعلوه، فيزين له سوء عمله حتى يراه حسنًا، ويظن أنه حصل له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما قصروا عنه، وهذه حال أهل البدع. ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته -التي رواها عبدوس بن مالك العطار (¬6):. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
"أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (¬1)، والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول ثم الثاني أكثر من أن تذكر، ومعلوم أن أم الفضائل ¬
الرابع عشر: أن من سماهم أهل الحق متناقضون في الشرعيات والعقليات
العلم والدين والجهاد، فمن ادعى أنه حقق من العلم بأصول الدين، أو من الجهاد ما لم يحققوه، كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد والعبادة والنسك، أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة، وقد يبلغ الغلو بهذه الطوائف إلى أن يفضلوا نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم، وتجدهم (¬1) عند التحقيق من أجهل الناس وأضلهم وأفسقهم وأعجزهم. الرابع عشر (¬2): أن يقال له: هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق، وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة، هم متناقضون في الشرعيات والعقليات. أما الشرعيات فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل، فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقًا، ردوا عليهم وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات، وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة، كالمحبة والرضا والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها، وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم من يحيل على العقل، ومنهم من يحيل إلى (¬3) الكشف، فأكثر متكلميهم (¬4) يقولون: ما علم بثبوته بالعقل لا يتأول، وما لا (¬5) يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته ¬
بالكشف والنور الإلهي لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بذلك يتأول (¬1) , وكلا الطريقين (¬2) ضلال وخطأ من وجوه: أحدها: أن يقال: عدم الدليل ليس دليل العدم، فإن عدم العلم بالشيء بعقل أو كشف لا يقتضي (¬3) أن يكون معدومًا، فمن أين لكم ما دلت عليه النصوص أو الظواهر، ولم تعلموا انتفاءه، أنه منتف في نفس الأمر؟ الوجه (¬4) الثاني: أن هذا في الحقيقة عزل للرسول، واستغناء عنه، وجعله بمنزلة شيخ من شيوخ المتكلمين أو الصوفية، فإن المتكلم مع المتكلم، والمتصوف مع المتصوف، يوافقه فيما علمه بنظره أو كشفه، دون ما لم يعلمه بنظره أو كشفه بل ما ذكروه فيه تنقيص للرسول عن درجة المتكلم والمتصوف، فإن المتكلم والمتصوف إذا قال نظيره شيئًا، ولم يعلم ثبوته ولا انتفاؤه لا نثبته ولا ننفيه، وهؤلاء ينفون معاني النصوص ¬
ويتأولونها، وإن لم يعلموا انتفاء مقتضاها، ومعلوم أن من جعل الرسول بمنزلة واحد من هؤلاء، كان في قوله من الإلحاد والزندقة ما الله به عليم، فكيف بمن جعله في الحقيقة دون هؤلاء؟ وإن كانوا هم لا يعلمون أن هذا لازم قولهم، فنحن ذكرنا أنه لازم لهم لنبين فساد الأصول التي لهم، وإلّا فنحن نعلم أن من كان منهم ومن غيرهم مؤمنًا بالله ورسوله، لا ينزل الرسول هذه المنزلة. الوجه الثالث: أن يقال: ما نفيتموه من الصفات وتأولتموه، يقال في ثبوته من العقل والكشف نظير ما قلتموه فيما أثبتوه وزيادة، وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع، وبينت أن الأدلة الدالة سمعًا وعقلًا على ثبوت رحمته ومحبته ورضاه وغضبه، ليست بأضعف من الأدلة الدالة على إرادته، بل لعلها أقوى منها، فمن تأول نصوص المحبة والرضا والرحمة وأقر نصوص الإرادة كان متناقضًا. الوجه الرابع: إن ما ذكرتموه هو نظير قول المتفلسفة والمعتزلة، فإنهم يقولون: تأولناه لدلالة أدلة المعقول (¬1) على نفي مقتضاه، وكل ما يجيبونهم به يجيبكم أهل الإثبات من أهل الحديث والسنة به. الوجه الخامس: إن أهل الإثبات لهم من العقل الصريح والكشف الصحيح ما يوافق ما جاءت به النصوص، فهم مع موافقة الكتاب والسنة وإجماع سلف ¬
الأمة، يعارضون بعقلهم عقل النفاة، وبكشفهم كشف النفاة (¬1)، لكن عقلهم وكشفهم هو الصحيح، ولهذا تجدهم ثابتين فيه وهم في مزيد علم وهدى، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (¬2) وأولئك تجدهم في مزيد حيرة وضلال، وآخر (¬3) أمرهم ينتهي إلى الحيرة، ويعظمون الحيرة فإن اَخر معقولهم الذي جعلوه ميزانًا يزنون به الكتاب والسنة يوجب الحيرة، حتى يجعلوا الرب موجودًا معدومًا ثابتًا منتفيًا (¬4) فيصفونه بصفة الإثبات وبصفة العدم، والتحقيق عندهم جانب النفي بأنهم يصفونه بصفات المعدوم والموات، وآخر كشفهم وذوقهم وشهودهم الحيرة، وهؤلاء لا بد لهم من إثبات، فيجعلونه حالًا (¬5) في المخلوقات، أو يجعلون وجوده وجود المخلوقات، فآخر نظر الجهمية وعقلهم أنهم لا يعبدون شيئًا، وآخر كشفهم وذوقهم أنهم يعبدون كل ¬
تناقضهم في العقليات
شيء، وأصل الشر ممن (¬1) جعل مثل هذا العقل ومثل هذا الكشف ميزانًا يزن به الكتاب والسنة. وأما أهل العقل الصريح، والكشف الصحيح، منهم أئمة العلم والدين من مشايخ الفقه والعبادة الذين لهم في الأمة لسان صدق، وكل من له في الأمة لسان صدق عام من أئمة العلم والدين المنسوبين إلى الفقه والتصوف فإنهم على الإثبات لا على النفي، وكلامهم في ذلك كثير قد ذكرناه في غير هذا الموضع (¬2). وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى، مثل قولهم: إن الباري لا يقوم به الأعراض، ولكن تقوم به الصفات، والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم، فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق هو عندهم صفة، وهو عندهم عرض، ثم قالوا: في الحياة ونحوها هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض، إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين، والصفة القديمة باقية. ومعلوم أن قولهم العرض ما [لا] (¬3) يبقى زمانين: هو فوق ¬
بِدعَوِي وتحكم، فإن الصفات في المخلوق لا تبقى -أيضًا- زمانين عندهم فتسمية الشيء صفة أو عرضًا لا يوجب الفرق، لكنهم ادعوا أن صفة المخلوق لا تبقى زمانين، وصفة الخالق تبقى، فيمكنهم أن يقولوا: بالمخلوق لا يبقى والقائم بالخالق باق، هذا إن صح قولهم (¬1): إن الصفات التي هي الأعراض لا تبقى (¬2)، وأكثر (¬3) العقلاء يخالفونهم في ذلك. وكذلك قولهم (¬4): إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة، وإن كل موجود يرى حتى الطعم واللون. وإن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرًا بكل ما أمر به، ونهيًا عن كل ما نهى عنه، وخبرًا بكل ما أخبر به، وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية (¬5) فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وإن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له، وأن هذا المعنى يسمع بالأذن على قول بعضهم إن (¬6) عنده متعلق بكل موجود، وعلى قول بعضهم: إنه لا يسمع بالأذن لكن بلطيفة جعلت في قلبه، فجعلوا السمع من جنس الإلهام، ولم يفرقوا بين الإيماء إلى غير موسى وبين تكليم موسى. ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ¬
ذلك، لأن هذه لا تقوم إلا بمتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز، وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا فرق بين المتماثلين. وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي الصفات بالمحل الذي تقوم به يدل على حدوثها، ثم قالوا: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدثه (¬1). وكذلك في احتجاجهم على المعتزلة في مسألة القرآن، فإن عمدتهم فيها: أنه لو كان مخلوقًا لم يخل إما أن يخلقه في نفسه أو في غيره، أو لا في نفسه ولا في غيره وهذا باطل، لأنه يستلزم قيام الصفة بنفسها، والأول باطل لأنه ليس بمحل الحوادث، والثاني باطل لأنه لو خلقه في محل لعاد حكمه على ذلك المحل، فكان يكون هو المتكلم به، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، ولم يعد على غيره كالعلم والقدرة والحياة. وهذا من أحسن ما يذكرونه من الكلام، لكنهم نقضوه حيث منعوا أن يقوم (¬2) به (¬3) الأفعال مع اتصافه بها، فيوصف بأنه خالق وعادل ولم يقم به خلق ولا عدل، ثم كان من قولهم الذي أنكره الناس إخراج الحروف عن مسمى الكلام، وجعل دلالة لفظ الكلام عليها مجازًا، فأحب أبو (¬4) المعالي ومن اتبعه كالرازي أن يخلصوا من هذه الشناعة، فقالوا: اسم الكلام يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الحروف الدالة عليه. وهذا الذي قالوه أفسدوا به أصل دليلهم على المعتزلة، فإنه إذا صح أن ما قام بغير الله يكون كلامًا له حقيقة بطلت ¬
حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الكلام إذا قام بمحل عاد حكمه عليه، وجاز حينئذ أن يقال: إن الكلام مخلوق خلقه في غيره وهو كلامه حقيقة، ولزمهم من الشناعة ما لزم المعتزلة، حيث ألزمهم السلف والأئمة أن تكون الشجرة هي القائلة لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا} (¬1) مع أن أدلتهم في مسألة امتناع حلول الحوادث، لما تبين للرازي ونحوه ضعفها لم يمكنه أن يعتمد في مسألة الكلام على هذا الأصل، بل احتج بحجة سمعية هي من أضعف الحجج حيث أثبت الكلام النفساني بالطريقة المشهورة، ثم قال (¬2): "وإذا ثبت ذلك ثبت أنه واحد وأنه قديم، لأن كل من قال ذلك قال هذا ولم يفرق أحد" هكذا قرره في نهاية العقول. ومعلوم أن [هذا] (¬3) الدليل لا يصلح لإثبات مسألة فرعية عند محققي الفقهاء، وقد بينا تناقضهم في هذه المسألة بقريب من مائة وجه عقلي في هذا الكتاب (¬4)، وكان بعض الفضلاء قد قال للفقيه أبي محمد بن عبد السلام (¬5) في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ¬
الخامس عشر: أن هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم
ونهي (¬1) وخبر واستخبار؟ فقال له أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري. و-أيضًا- فهم في مسألة القدر (¬2) يسوون بين الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك ويتأولون قوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (¬3) بمعنى (¬4) لا يريده لهم، وعندهم أنه رضيه وأحبه لمن وقع منه، وكل ما وقع في الوجود من كفر وفسوق وعصيان فالله يرضاه ويحبه، وكل ما لم يقع من طاعة وبر وإيمان فإن الله لا يحبه ويرضاه، ثم إنهم إذا تكلموا مع سائر العلماء في أصول الفقه، بينوا أن المستحب هو ما يحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر استحباب سواء قدره أو لم يقدره، وهذا باب يطول وصفه. الوجه الخامس عشر (¬5): أن يقال: إن (¬6) هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم، وظننتم أنكم بها صرتم مؤمنين بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وزعمتم أنكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها، وبها ¬
دفعتم أهل الإلحاد (¬1) من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم، هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم، وتسلط (¬2) عليكم عدوكم، وتوجب تكذيب نبيكم، والطعن في خير قرون هذه الأمة، وهذا -أيضًا- فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات. أما الشرعيات، فإنكم لما تأولتم ما تأولتم من نصوص الصفات الإلهية، تأولت المعتزلة ما أقررتموه أنتم (¬3)، واحتجوا بمثل حجتكم، ثم زادت الفلاسفة وتأولوا ما جاء من (¬4) النصوص الإلهية في الإيمان باليوم الآخر، وقالت الفلاسفة (¬5) مثل ما قلتم لإخوانكم المؤمنين , ولم يكن لكم حجة على المتفلسفة، فإنكم إن احتججتم بالنصوص تأولوها، ولهذا كان غايتكم في مناظرة هؤلاء أن تقولوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر بمعاد الأبدان، وأخبر بالفرائض الظاهرة، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان ونحو ذلك لجميع البرية، والأمور الضرورية لا يمكن القدح فيها. فإن قال لكم المتفلسفة: هذا غير معلوم بالضرورة، كان جوابكم أن تقولوا: هذا مكابرة أم هذا جهل منكم؟ أو تقولوا: إن العلوم الضرورية لا يمكن دفعها عن النفس، ونحن نجد العلم بهذا أمرًا ضروريًّا في أنفسنا، وهذا كلام صحيح منكم، لكن [في] (¬6) هذا يقول لكم المثبتة أهل العلم بالقرآن وتفسيره المنقول عن السلف والأئمة وبالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين نحن نعلم بالاضطرار ¬
أنها أثبت (¬1) الصفات، وأن الله فوق العالم، والعلم بهذا ضروري عندهم، كما ذكرتم أنتم في معاد الأبدان والشرائع الظاهرة، بل لعل العلم بهذا أعظم من العلم ببعض ما تنازعكم فيه المعتزلة والفلاسفة من أمور المعاد، كالصراط والميزان والحوض والشفاعة ومسألة منكر ونكير. و-أيضًا- فالعلم بعلو الله على عرشه ونحو ذلك، يعلم بضرورية عقلية وأدلة عقلية يقينية لا يعلم بمثلها معاد الأبدان، فالعلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على ما نفيتموه من علو الله على خلقه، ومباينته لهم ونحو ذلك، أكمل وأقوى من العلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على كثير مما خالفكم فيه المعتزلة بل والفلاسفة، ولهذا يوجد عن كثير من السلف موافقة المعتزلة في بعض ما خالفتموه فيه، كما يوجد عن بعض السلف إنكار سماع الذي في القبر للأصوات (¬2)، وعن بعض السلف إنكار المعراج (¬3) بالبدن وأمثال ذلك، ولا يوجد عن أحد (¬4) منهم ¬
موافقتكم على أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، وأنه ليس فوق العالم، بل ولا على ما نفيتموه من الجسم وملازمه وكذلك المعتزلة وإن كانوا ضالين في مسألة إنكار الرؤية، فمعهم فيها من الظواهر التي تأولوها، والمقاييس التي اعتمدوا عليها أعظم مما معكم في إنكار مباينة الله لمخلوقاته وعلوه على عرشه. ومن العجب أنكم تقولون: إن محمدًا رأى ربه ليلة المعراج، وهذه مسألة نزاع بين الصحابة (¬1)، أو تقولون: رآه بعينه، ولم يقل ذلك ¬
أحد منهم، ثم تقولون (¬1): إن محمدًا لم يعرج به إلى الله، فإن الله ليس هو فوق السماوات، فتنكرون ما اتفق عليه السلف، وتقولون بما تنازعوا فيه ولم يقله أحد منهم، فالمعتزلة في جعلهم المعراج منامًا أقرب إلى السلف والسنة (¬2) منكم، حيث قلتم رآه بعينه ليلة المعراج، وقلتم مع هذا: [إنه] (¬3) ليس فوق السماوات رب يعرج إليه، فهذا النفي أنتم (¬4) والمعتزلة فيه شركاء (¬5) وأنتم امتزتم بقولكم رآه بعينه، وهذا لم يثبت عن أحد من السلف، وهم امتازوا بقولهم المعراج منامًا، وهو قول مأثور عن طائفة من السلف، وإنما نقل عنهم بأسانيد ضعيفة، ثم إنكم أظهرتهم للمسلمين مخالفة المعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن، ووافقتم أهل السنة على إظهار القول بأن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق والقول بأن الله لا يرى في الآخرة، وأن القرآن مخلوق (¬6) من البدع القديمة التي أظهرت الجهمية من المعتزلة وغيرهم في عصر الأئمة حتى امتحنوا (¬7) الإمام أحمد وغيره بذلك، ووافقتم (¬8) المعتزلة على ¬
نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة، وهو قولهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه وإنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من قول (¬1) كثير من اليهود والنصارى، لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة، ولا يدعو عموم الناس إليها، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم، فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد الذي هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه فيه في مسألة الرؤية والقرآن فإن كل عاقل يعلم أن دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أن الله يرى وليس في القرآن آية توهم المستمع أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، وفيه ما يوهم بعض الناس نفي الرؤية، ولكن يعارضون (¬2) آيات العلو الكثيرة الصريحة بما يتوهم أنه يدل على أنه بذاته في كل مكان، وأنتم لا تقولون لا بهذا ولا بهذا فلم يكن معكم على هذا النفي آية تشعر بمذهبكم، فضلًا عن أن تدل عليه نصًّا أو ظاهرًا، ولا حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول صاحب ولا تابع ولا إمام، وإنما غايتكم أن تتمسكوا بأثر مكذوب كما تذكرونه عن علي أنه قال: الذي أين الأين لا يقال له: أين، وهذا من الكذب على علي باتفاق أهل العلم لا إسناد له (¬3) وكذلك حديث الملائكة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الأربعة (¬1) مع أن ذلك لا حجة فيه لكم، وكذلك القول بأن القرآن مخلوق، فيه من الشبهة ما ليس في نفي علو الله على عباده، ولهذا كان في فطر جميع الأمم الإقرار بعلو الله على خلقه (¬2)، وأما كونه يرى أو لا يرى أو يتكلم أو لا يتكلم، فهذا عندهم ليس في الظهور بمنزلة ذلك (¬3)، فوافقتم الجهمية المعتزلة وغيرهم على ما هو أبعد عن العقل والدين مما خالفتموهم فيه (¬4). ومعلوم اتفاق سلف الأمة وأئمتها على تضليل الجهمية من المعتزلة ¬
ما وافقتم فيه الجهمية من المعتزلة وما خالفتموهم فيه أوجب فسادين عظيمين
وغيرهم، بل قد كفروهم وقالوا فيهم ما لم يقولوه في [أحد من] (¬1) أهل الأهواء، بل أخرجوهم عن الثنتين والسبعين (¬2) فرقة، وقالوا: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية (¬3)، فكنتم وافقتم فيه الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وما خالفتموهم فيه، كمن (¬4) آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، ولكن هو (¬5) إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان، وأوجب ذلك فسادين عظيمين: أحدهما: تسلط المعتزلة ونحوهم عليكم، فإنكم لما وافقتموهم على هذا التعطيل بقي بعد ذلك إثباتكم للرؤية، ولكون القرآن غير مخلوق قولًا باطلًا في العقل عند جمهور العقلاء، وانفردتم عن جميع طوائف الأمة بما ابتدعتموه في مسألة الكلام والرؤية، وقويت المعتزلة عليكم بذلك (¬6) وعلى [أهل] (¬7) السنة، وإن كنتم قد رددتم على ¬
المعتزلة، حتى قيل (¬1): إن الأشعري حجرهم في قمع السمسمة (¬2)، فهذا -أيضًا- صحيح بما أبداه من تناقض أصولهم، فإنه كان خبيرًا بمذاهبهم، إذ كان من تلامذة أبي علي الجبائي، وقرأ عليه أصول المعتزلة أربعين سنة، ثم لما انتقل إلى طريقة أبي محمد عبد الله بن سعيد (¬3) بن كلاب، وهي أقرب إلى السنة من طريقة المعتزلة، فإنه يثبت الصفات والعلو ومباينة الله للمخلوقات، ويجعل العلو يثبت بالعقل، فكان الأشعري لخبرته بأصول المعتزلة، أظهر من تناقضها وفسادها ما قمع به المعتزلة، وبما أظهر (¬4) من تناقض المعتزلة والرافضة والفلاسفة ونحوه، صار له من الحرمة والقدر ما صار له فـ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬5). لكن الأشعري قصر عن طريقة ابن كلاب، وأنتم خالفتم ابن كلاب والأشعري، فنفيتم الصفات الخبرية، ونفيتم العلو، وخياركم يجعله ¬
من الصفات السمعية، مع أن ابن كلاب كان مبتدعًا (¬1) عند السلف والأئمة، بما قاله في مسألة القرآن وفي إنكار الصفات الفعلية القائمة بذات الله، ثم إن المعتزلة وإن انقمعوا من هذا الوجه فإنهم طمعوا وقووا من وجه آخر بموافقتكم لهم على أصول النفي والتعطيل، فصار ذلك مغريًا لفضلائهم بلزوم مذهبكم، فإن كل من فهم مذهبكم الذي خالفتم فيه المعتزلة، علم أن كل (¬2) ما ذكرتموه قول فاسد -أيضًا- وإن كان قول المعتزلة فاسدًا. ونشأ الفساد. الثاني: وهو أن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة، وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى، كما في مسألة الرؤية، فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة، ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في إثباته، ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه (¬3)، وكذلك قولكم في مسألة القرآن، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا: إنه مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم، حتى نصر الله [أهل] (¬4) السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق فأنتم ¬
موافقون للمعتزلة من وجه ومخالفونهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في (¬1) العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه. وذلك (¬2) أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبرئيل هو كلام الله، وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر، وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل، وإن الله -سبحانه- يتكلم بما شاء. وقلتم أنتم إن الكلام معنى واحد قديم قائم (¬3) بذات المتكلم، هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر [عنه] (¬4) بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام الله، والكلام الذي نزل به جبرئيل من الله ليس كلام الله، بل حكاية عن كلام الله كما قال (¬5) ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قال (5) الأشعري. ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام، وأن من (¬6) لم يقم به الكلام لا يكون متكلمًا به، كما أن من لم يقم به العلم والقدرة والحياة لا يكون عالمًا به ولا قادرًا بها ولا حيًّا بها، ¬
وإنه لو كان الكلام مخلوقًا من جسم من الأجسام لكان ذلك الجسم هو متكلم به، فكانت الشجرة هي القائلة لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1) فهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها. ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلامًا له، بل يكون إنطاقه للجلود كلامًا له، بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلامًا له، وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون: إن وجوده عين الموجودات، فيقول قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه (¬2) لكن المعتزلة أجود منكم، حيث سموا (¬3) هذا القرآن الذي نزل به جبرئيل كلام الله، كما يقوله سائر المسلمين، وأنتم جعلتموه كلامه مجازًا، ومن جعله منكم حقيقة وجعل لفظ الكلام مشتركًا (¬4)، كأبي المعالي وأتباعه، انتقضت قاعدته في أن المتكلم بالكلام من قام به، ولم يمكنكم أن تقولوا بقول أهل السنة فإن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئًا لا كلام من قاله مبلغًا مؤديًا. فالرجل إذا بلغ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬5) كان قد بلغ كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بحركاته وأصواته، وكذا (¬6). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس (¬1) أو غيره، فإذا قال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (¬2) ... . . . . . . . . . . . . . . . . . كان هذا الشعر شعر امرئ القيس، وإن كان هذا قد قاله بحركاته وأصواته، وهذا أمر مستقر في فطر (¬3) الناس كلهم، يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئًا، آمرًا بأمره ومخبرًا بخبره ومؤلفًا حروفه ومعانيه وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمبلغ عنه لا للمبلغ، وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به والمبلغ عنه، وبين سماعه من الأول وسماعه من الثاني، ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬4) مع علمهم بأن القارئ يقرأه بصوته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "زينوا القرآن بأصواتكم" (¬5) , فالكلام ¬
كلام الباري والصوت هو صوت القارئ، وإن كان من المعتزلة من يجعل كلام الثاني حكاية لكلام الأول، وينازع المعتزلة في الحكاية هل هي المحكي كما يقول الجبائي؟ أو غيره كما يقول (¬1) ابنه (¬2)؟ على قولين (¬3). والتحقيق أن الحاكي لكلام غيره ليس هو المبلغ له، فإن الحاكي له بمنزلة المتمثل به الذي يقول (¬4) لنفسه موافقًا لقائله الأول، بخلاف المبلغ له الذي يقصد أن يبلغ كلام الغير، وللنية تأثير في مثل هذا، فإن من قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬5) القراءة [لم] (¬6) يكن (¬7) له ذلك مع الجنابة بخلاف من قالها بقصد (¬8). . . . . . . . . . . . . . . ¬
ذكر الله وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع (¬1). والمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما قاله (¬2) المسلمون، لأن حروف القرآن ونظمه ليس هو عندكم كلام الله، بل ذلك عندكم مخلوق، إما في الهواء، وإما في نفس جبرئيل، وإما في غير ذلك، فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق، لكن هم قالوا (¬3) [ذلك] (¬4) كلام الله [وقلتم أنتم: ليس كلام الله] (¬5) ومن قال منكم: إنه كلام الله انقطعت حجته على المعتزلة، فصارت المعتزلة خيرًا منكم في هذا الموضع، وهذه الحروف والنظم الذي يقرؤه الناس هو حكاية تلك الحروف والنظم المخلوق عندكم، كما يقوله المعتزلة، وهي عبارة عن المعنى القائم بالذات، ولهذا كان ابن كلاب يقول: إن هذا القرآن حكاية عن المعنى القديم فخالفه الأشعري، لأن الحكاية تشبه المحكي وهذا حروف وذلك معنى، وقال الأشعري: بل هذا عبارة عن ذلك لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه، وكلا القولين خطأ. فإن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف مؤلفة وفيه معان، فنحن نتكلم بالحروف بألسنتنا ونعقل المعاني بقلوبنا، ونسبة المعاني القائمة بقلوبنا إلى المعنى القائم بذات الله كنسبة الحروف التي ننطق بها إلى الحروف المخلوقة عندكم. ¬
فإن قلتم: إن هذا حكاية عن كلام الله لم يصح، لأن كلام الله معنى مجرد عندكم وهذا فيه حروف ومعان، وإن قلتم: إنه عبارة لم يصح، لأن العبارة هي اللفظ الذي يعبر به عن المعنى، وهنا حروف ومعان يعبر بها عن المعنى القديم عندكم. وإن قلتم: هذه الحروف وحدها عبارة عن المعنى، بقيت المعاني القائمة بقلوبنا، وبقيت الحروف التي عبر بها أولًا عن المعنى [القائم] (¬1) بالذات التي هذه الحروف المنظومة نظيرها عندكم لم تدخلوها (¬2) في كلام الله، فالمعتزلة في قولهم بالحكاية أسعد منكم في قولكم بالحكاية وبالعبارة. وأصل هذا الخطأ أن المعتزلة قالوا: إن القرآن بل كل كلام هو مجرد الحروف والأصوات، وقلتم أنتم: بل هو مجرد المعاني، ومن المعلوم عند الأمم أن الكلام اسم للحروف والمعاني، للفظ (¬3) والمعنى جميعًا كما أن اسم الإنسان اسم للروح والجسد، وإن سمي المعنى وحده [حديثًا أو كلامًا أو الحروف وحدها حروفًا أو كلامًا فعند التقييد] (¬4) والقرينة، وهذا مما استطالت المعتزلة عليكم به، حيث أخرجتم الحروف المؤلفة عن أن تكون من الكلام، فإن هذا مما أنكره عليكم الخاص والعام، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به (¬5) أو تعمل به" قال له معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك (¬6) أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار ¬
على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم؟ " (¬1) وشواهد هذا كثيرة. ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحدًا مفردًا، هو الأمر بكل ما أمر الله به، والخبر عن كل ما أخبر الله به، وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه، وقالوا: إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح ¬
المعقول، وأنتم تنكرون على من يقول: إن الله يتكلم بحروف وأصوات قديمة أزلية، ومعلوم أن ما قلتموه أبعد عن العقل والشرع من هذا، وإن كان العقلاء قد أنكروا هذا -أيضًا- لكن قولكم أشد نكرة، بل قولكم أبعد من قول النصارى الذين يقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ثم أعجب من هذا أنكم تقولون: إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وبالعبرية كان هو التوراة، وبالسريانية كان هو الإنجيل، ومن المعلوم بالاضطرار لكل عاقل أن التوراة إذا عربت لم تكن معانيها معاني القرآن، وإن القرآن إذا ترجم (¬1) بالعبرية لم تكن معانيه معاني التوراة، ثم إن منكم من جعل ذلك المعنى يسمع ومنكم من قال: لا يسمع، وجعلتم تكليم الله لموسى من جنس الإلهام الذي يلهمه غيره، حيث قلتم: خلق في نفسه لطيفة أدرك بها الكلام القائم بالذات، وقد قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2). ففرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى، وبين تكليمه لموسى. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (¬3). ففرق بين إيحائه، وبين تكليمه من وراء حجاب. ¬
والأحاديث متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخصيص موسى بتكليم الله إياه دون إبراهيم وعيسى ونحوهما (¬1)، وعلى قولكم لا فرق بل قد زعم من زعم من أئمتكم أن الواحد من غير الأنبياء يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، فمن حصل له إلهام في قلبه جعلتموه قد كلمه الله كما كلم موسى بن عمران، ومعلوم أن المعتزلة لم يصلوا في الإلحاد إلى هذا الحد، بل من قال: إن الله خص موسى بأن خلق كلامًا في الهواء سمعه كان أقل بدعة ممن زعم أنه لم يكلمه إلّا بأن أفهمه معنى أراده، بل هذا قريب إلى قول المتفلسفة الذين يقولون: ليس لله كلام إلّا ما في النفوس، وإنه كلم موسى من سماء عقله، لكن يفارقونها بإثبات المعنى القديم القائم بذات الله. و-أيضًا- فجعلتم ثبوت القرآن في المصاحف مثل ثبوت الله فيها وقلتم: قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (¬2) بمنزلة قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (¬3)، ومعلوم أن المذكور في التوراة هو اسمه، وأن الله إنما يكتب في المصحف اسمه، فأسماؤه بمنزلة (¬4) كلامه، لا أن (¬5) ذاته بمنزلة كلامه، والشيء لوجوده أربع (¬6) مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في ¬
اللسان، ووجود في البنان، فالأعيان لها المرتبة (¬1) الأولى، ثم يعلم بالقلوب، ثم يعبر [عنها] (¬2) باللفظ، ثم يكتب اللفظ. وأما الكلام فله المرتبة الثالثة وهو الذي يكتب في المصحف، فأين قول القائل: إن الكلام في الكتاب من قوله: إن المتكلم في الكتاب، وبينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق (¬3)، ثم إن منكم من احتج بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (¬4)، وجعل المراد بذلك العبارة، وهذا مع أنه متناقض فهو أفسد من قول المعتزلة، فإنه إن كان أضيف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أحدث حروفه، فقد أضافه في موضع إلى رسول هو جبرئيل، وفي موضع إلى رسول هو محمد، قال في موضع: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} (¬5)، وقال في موضع: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} (¬6). ومعلوم أن عبارتها إن (¬7) أحدثها جبريل لم يكن محمد أحدثها [وإن أحدثها محمد لم يكن جبريل أحدثها] (¬8)، فبطل قولكم، وعلم أنه إنما أضافه إلى الرسول لكونه بلغه وأداه، لا أنه أحدثه وابتدأه، ولهذا قال: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} ولم يقل: لقول ملك ولا نبي، فذكر اسم الرسول المشعر بأنه بلغ (¬9) عن غيره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ ¬
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬1) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموسم ويقول: "ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي" (¬2). ومعلوم أن المعتزلة لا تقول: إن شيئًا من القرآن أحدثه لا جبرئيل ولا محمد، ولكن يقولون (¬3): إن تلاوتهما له كتلاوتنا له. وإن قلتم: أضافه إلى أحدهما لكونه تلاه بحركاته وأصواته، فيجب أن يكون القرآن قولًا لكل من تكلم (¬4) به من مسلم وكافر وطاهر وجنب حتى إذا قرأه الكافر يكون القرآن قولًا له على قولكم، فقوله بعد هذا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (¬5) كلام لا فائدة فيه، إذ هو على أصلكم قول رسول كريم، وقول فاجر لئيم، وكذلك المعتزلة احتجت بقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬6)، وقالوا: إن الله أحدثه في الهواء، فاحتج من احتج منكم على أن القرآن المنزل محدث، ولكن زاد ¬
على الفلاسفة بأن المحدث له إما جبرئيل أو (¬1) محمد. وإن قلتم: إنه محدث في الهواء صرتم كالمعتزلة، ونقضتم استدلالكم بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (¬2)، وقد استدل من استدل من أئمتكم على قولكم بهاتين الآيتين بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (2)، وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬3)، فإن أراد بذلك أن الله أحدثه بطل استدلاله بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، فإن أراد بذلك أن الرسول أحدثه بطل بإضافته إلى الرسول الآخر، وكنتم شرًّا من المعتزلة الذين قالوا: أحدثه الله. وإن قلتم: أراد بذلك أن من تلاه فقد أحدثه، فقد جعلتموه قولًا لكل من تكلم به من الناس، برهم وفاجرهم، وكان ما يقرؤه المسلمون ويسمعونه كلام الناس عندكم لا كلام الله، ثم إن الله -تعالى- قال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (¬4). فأخبر أن جبرئيل نزله من الله، لا من هواء ولا من لوح. وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (¬5)، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬6)، {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬7)، وأنتم وافقتم المعتزلة بحيث يمتنع أن يكون عندكم ¬
منزلًا من الله، لأن الله ليس فوق العالم، ولو كان فوق العالم لم يكن القرآن منزلًا منه، بل من الهواء. و-أيضًا- فأنتم في مسائل الأسماء والأحكام قابلتم المعتزلة تقابل التضاد، حتى رددتم بدعتهم ببدع (¬1) تكاد أن تكون مثلها، بل هي من وجه شر منها، ومن وجه دونها، فإن المعتزلة جعلوا الإيمان اسمًا متناولًا لجميع الطاعات القول والعمل، ومعلوم أن هذا قول السلف والأئمة (¬2)، وقالوا: إن الفاسق الملي لا يسمى (¬3) مؤمنًا ولا كافرًا (¬4)، وقالوا: إن الفساق مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها (¬5)، وهم في هذا القول مخالفون للسلف والأئمة، فخلافهم في الحكم للسلف، وأنتم وافقتم الجهمية في الإرجاء والجبر، فقلتم: الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم بلسانه، وهذا عند السلف والأئمة شر من قول المعتزلة، ثم إنكم قلتم: إنا لا نعلم الفساق هل يدخل أحد منهم النار أولًا يدخلها أحد منهم، فوقفتم وشككتم في نفوذ الوعيد في أهل القبلة جملة، ومعلوم أن هذا من أعظم البدع عند السلف والأئمة، فإنهم لا يتنازعون (¬6) أنه لا بد أن يدخلها من يدخلها من أهل الكبائر، فأولئك قالوا: لا بد أن يدخلها كل فاسق، وأنتم قلتم: لا نعلم (¬7) هل يدخلها فاسق أم لا؟ فتقابلتم في هذه البدعة، وقولكم ¬
أعظم بدعة من قولهم وأعظم مخالفة للسلف والأئمة، وعلى قولكم لا نعلم شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل النار، لأنه لا يعلم هل يدخلها أحد أم لا؟ وقولكم إلى إفساد (¬1) الشريعة أقرب من قول المعتزلة، وكذلك في مسائل القدر، فإن المعتزلة أنكروا أن يكون الله خالق أفعال العباد أو مريدًا لجميع الكائنات (¬2)، بل الإرادة عندهم بمعنى المحبة والرضا (¬3)، وهو لا يحب ويرضى إلّا ما أمر به، فلا يريد إلّا ما أمر به، وأنتم وافقتموهم على أصهلم الفاسد، وقاسمتموهم بعد ذلك الضلال، فصرتم وهم في هذه المسائل كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء (¬4): "فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون (¬5) على مفارقة الكتاب". قلتم (¬6): إن الإرادة بمعنى المحبة والرضا كما قالت المعتزلة، لكن قلتم: وهو أراد كل ما يفعله العباد، فيجب أن يكون محبًا راضيًا لكل ما يفعله العباد حتى الكفر والفسوق والعصيان (¬7)، وتأولتم قوله: ¬
{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (¬1) على المؤمنين من عباده (¬2)، وعلى قولكم لا يرضى لعباده الإيمان يعني الكافرين منهم، إذ عندكم كل من فعل فعلًا فقد رضيه منه، ومن لم يفعله لا يرضاه منه، فقد رضي عندكم من إبليس وفرعون ونحوهما كفرهم ولم يرض منهم الإيمان، وكذلك قلتم في قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬3) أي: لا يحبه للمؤمنين (¬4)، وأما من قال منكم (¬5): لا يحبه دينًا أو لا يرضاه دينًا فهذا أقرب، لكنه بمنزلة قولكم: لا يريده دينًا ولا يشاؤه دينًا، فيجوز عندكم أن يقال: يحب الفساد ويرضاه، أي: يحبه فسادًا ويرضاه فسادًا كما أراده فسادًا. وأنكرتم على المعتزلة ما أنكره المسلمون عليهم، وهو قولهم: إن الله لا يقدر أن يفعل بالكفار غير ما فعل بهم من اللطف (¬6)، وأنكرتم على من قال منهم: إن خلاف المعلوم غير مقدور، ثم قلتم: إن العبد لا يقدر على غير ما علم منه، وإنه لا استطاعة له إلّا إذا كان فاعلًا فقط، فأما من لم يفعل فإنه لا استطاعة له أصلًا (¬7)، فخالفتم قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى ¬
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1) ونحو ذلك من النصوص، ولزمكم أن كل من لم يؤمن بالله فإنه لم يكن قادرًا على الإيمان، وكل من ترك طاعة الله فإنه لم يكن مستطيعًا لها، فإن ضم ضام هذا إلى قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3) تركب من هذين أن كل كافر وفاجر فإنه قد اتقى الله ¬
ما استطاع، وأنه قد أتى فيما أمر بما استطاع إذ لم يستطع غير ما فعل، وأنتم وإن كنتم لا تستلزمون (¬1) ذلك فهو لازم قولكم إذا لم تجعلوا الاستطاعة نوعين، وقول القدرية الذين يجعلون استطاعة العبد صالحة للضدين، ولا يثبتون الاستطاعة التي هي مناط الأمر والنهي أقرب إلى الكتاب والسنة والشريعة من قولكم: إنه لا استطاعة إلا للفاعل وإن من لم يفعل فعلًا فلا استطاعة له عليه، وكل من تدبر القولين بغير هوى علم أن كلًّا منهما وإن كان فيه من خلاف السنة ما فيه فقولكم أكثر خلافًا للسنة. وكذلك المعتزلة قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد بل العبد هو الذي يحدث أفعاله، فضلوا بقولهم: إن الله لم يخلق أفعال العباد. وقلتم أنتم: إن العبد لا يفعل أفعاله، بل هي فعل الله تعالى، ولكن هي كسب للعبد (¬2) ولم. . . . . . . . . . . . . . . ¬
تفرقوا (¬1) بين الكسب والفعل بفرق معقول (¬2)، وادعيتم العلم الضروري بأن كون العبد فاعلًا بعد أن لم يكن فاعلًا أمر محدث ممكن، فلا بد له من محدث واجب، وهذا حق أصبتم فيه دون المعتزلة، لكن من المعتزلة من ادعى العلم الضروري بأن العبد يحدث (¬3) أفعاله، وهذا -أيضًا- حق أصابوا فيه دونكم. ¬
ولهذا (¬1) كان أهل السنة والجماعة على أن العبد فاعل لأفعاله حقيقة، والله خلق الفاعل فاعلًا، كما قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (¬2)، وليس كونه قادرًا مريدًا فاعلًا بألزم له من كونه طويلًا قصيرًا والله خلقه على هذه الصفة، فليس ما ذكره الله في كتابه من أن العباد يفعلون ويصنعون بمناف أن يكون الله خلقهم على هذه الصفة، وكون العبد فاعلًا لما جعل الله فيه من القدرة كسائر (¬3) ما خلقه الله بقوة فيه، وقدرته سبب في حصول مقدوره كسائر الأسباب، والأسباب لا ينكر (¬4) وجودها ولا ينكر أن الله خلقها وخلق المسبب بها، فمن قال: قدرة العبد مؤثرة في المقدور كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها لم ينكر قوله، ومن قال: ليست مؤثرة أي ليست مستقلة وليست مبدعة، كما أن سائر الأسباب ليست كذلك لم ينكر قوله، فإن السبب ليس علة مستقلة بمسببه، بل لا بد له من أسباب أخر، ولا بد من صرف الموانع، والله خالق مجموع الأسباب، وصارف جميع الموانع، وهذا هو الخلق المطلق والتأثير المطلق الذي ليس إلا لله وحده، وكل ما سواه مما يجعل سببًا ومؤثرًا فإنه جزء سبب، فلا ينفي هذا الجزء، ولا يعطي ما لا يستحقه من كونه مبدعًا خالقًا، ومن كونه واحدًا لا شريك له، فهو رب كل شيء ومليكه، وأنتم خالفتم من نصوص الكتاب والسنة وسلف الأمة في مسائل الصفات والقرآن والرؤية ومسائل الأسماء والأحكام (¬5) والقدر ما تأولتموه، فالمعتزلة ونحوهم إذا خالفوا من ذلك ما تأولوه لم يكن لكم عليهم حجة، وإذا قدحتم في ¬
عامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة فللأشاعرة منه أوفر نصيب
المعتزلة بما ابتدعوه من المقالات وخالفوه من السنن والآثار (¬1) قدحوا فيكم بمثل ذلك، وإذا نسبتموهم (¬2) إلى القدح في السلف والأئمة نسبوكم إلى مثل ذلك، فما تذمونهم به من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع يذمونكم بنظيره، ولا محيص لكم عن ذلك إلا بترك ما ابتدعتموه وما وافقتموهم عليه من البدعة، وما ابتدعتموه أنتم، وحينئذ فيكون الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها سليمًا من التناقض والتعارض محفوظًا، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3). وبالجملة فعامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة، من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم لكم منه أوفر نصيب، بل تارة تكونون (¬4) أشد مخالفة لذلك من المعتزلة، وقد شركتموهم (¬5) في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها، ونبذوا بها كتاب الله وراء ظهورهم، فإنهم لا يثبتون شيئًا من صفات الله تعالى، ولا ينزهونه عن شيء بالكتاب والسنة والإجماع [بل يزعمون أن معرفة صحة الكتاب والسنة والإجماع] (¬6) موقوف على العلم بذلك، والعلم بذلك لا يحصل به لئلا يلزم الدور، فيرجعون إلى مجرد رأيهم في ذلك (¬7)، وإذا استدلوا بالقرآن كان ذلك على وجه الاعتضاد والاستشهاد لا على وجه الاعتماد ¬
والاعتقاد، وما خالف قولهم من القرآن تأولوه على مقتضى آرائهم، واستخفوا بالكتاب والسنة وسموها (¬1) ظواهر، وإذا استدلوا على قولهم بمثل قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (¬2) وقوله: {فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬3) , أو قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬4) , ونحو ذلك , لم تكن هذه النصوص هي عمدتهم ولكن يدفعون [بها] (¬5) عن أنفسهم عند المسلمين، وأما الأحاديث النبوية فلا حرمة لها عندهم، بل تارة يردونها بكل طريق ممكن، وتارة يتأولونها، ثم (¬6) أن يزعمون أن ما وضعوه برأيهم قواطع عقلية، وأن هذه القواطع العقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والسنة، إما بالتأويل، وإما بالتفويض، وإما بالتكذيب، وأنتم شركاؤهم في هذه الأصول كلها (¬7)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومنهم (¬1) أخذتموها، وأنتم فروخهم فيها، كما يقال: الأشعرية مخانيث المعتزلة (¬2)، والمعتزلة مخانيث الفلاسفة (¬3)، لكن لما شاع بين ¬
الأمة فساد مذهب المعتزلة، ونفرت القلوب عنهم، صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع، مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة، وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد، لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات، وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد، وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد، وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد، إما في الحكم، وإما في الدليل، أصول الدين، وأنتم شركتموهم (¬1) في ذلك. وقد علم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام، بل علم من يعرف دين الإسلام وما بعث الله به نبيه -عليه أفضل الصلاة والسلام- ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله، وقد بسطنا الكلام على فساد هذه الأصول في غير هذا الموضع (¬2)، وبينا أن دلالة (¬3) الكتاب والسنة التي يسمونها دلالة السمع ليست بمجرد الخبر، كما تظنونه أنتم وهم، حتى جعلتم ما دلّ عليه السمع إنما هو بطريق الخبر الموقوف على تصديق المخبر (¬4)، ثم جعلتم تصديق المخبر -وهو الرسول- موقوفًا على هذه الأصول التي سميتموها (¬5) أنتم وهم العقليات، وجعلوا منها نفي (¬6) ¬
الأشاعرة والمعتزلة يثبتون كثيرا مما يثبتون من أصول الدين بطرق ضعيفة أو فاسدة
الصفات والتكذيب بالقدر، ووافقتموهم على أن منها نفي كثير من الصفات، وأنتم لم تثبتوا القدر حتى أبطلتم ما في أمر الله ونهيه، بل [ما] (¬1) في خلقه وأمره من الحكم والمصالح والمناسبات، وزعمتم أن الرد على القدرية لا يتم إلا بنفي تحسين العقل وتقبيحه مطلقًا، وأن تجعل الأفعال كلها سواء في أنفسها لا فرق في نفس الأمر بين الصلاة والزنا إلا من جهة تحكم (¬2) الشارع بإيجاب أحدهما وتحريم الآخر، فصار قولكم مدرجة إلى فساد الدين والشريعة، وذلك أعظم فسادًا من التكذيب بالقدر، وقد بينا في غير هذا الموضع (¬3) أن القرآن ضرب الله فيه الأمثال، وهي المقاييس العقلية التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين، كالتوحيد وتصديق الرسل وإمكان المعاد، وأن ذلك مذكور في القرآن على أكمل الوجوه، وأن عامة ما يثبته النظار من المتكلمين والمتفلسفة في هذا الباب يأتى القرآن بخلاصته وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه، بل لا نسبة بينهما لعظم التفاوت. ومعلوم أن هذا أمر عظيم، وخطب جسيم، فإنكم والمعتزلة تثبتون كثيرًا مما (¬4) يثبتونه من أصول الدين بطرق ضعيفة أو فاسدة، مع ما يتضمن ذلك من التكذيب بكثير من أصول الدين، وحقيقة قولهم الذي وافقتموهم عليه: أنه لا يمكن تصديق الرسول في بعض ما أخبر به إلا بتكذيبه في شيء مما أخبر به، فلا يمكن الإيمان بالكتاب كله، بل يكفر ¬
ببعضه ويؤمن ببعضه، فيهدم من الدين جانب ويبنى منه جانب على غير أساس ثابت، ولولا أن هذا الموضع لا يسع (¬1) ذلك لفصلناه، فإنا قد بسطناه في مواضع، مثل ما يقال: من أنه لا يمكن الإقرار بالصانع إلا بنفي صفاته أو بعضها، التي يستلزم نفيها تعطيله في الحقيقة، فيبقى الإنسان مثبتًا له نافيًا له مقرًا بوجوده مستلزمًا لعدمه، وإن كان لا يشعر بالتناقض. وأما العقليات، فإنكم وافقتم المعتزلة والفلاسفة على أصول يلزم من تسليمها فساد ما بينتموه، فإنكم لما سلمتم لهم أن الأعراض وهي صفات تدل على حدوث ما قامت به أو تدل على إمكانه (¬2)، كانوا مستدلين بهذا على نفي الصفات عن الرب -سبحانه وتعالى- فتنقطعون معهم، ثم أنتم إنما استدللتم على المتفلسفة بأن ما قامت به الحوادث فهو حادث، فإنهم يزعمون أن القديم تقوم به الحوادث، ولما ادعيتم أن ما قامت به الحوادث فهو حادث ألزموكم أول الحوادث، فقالوا: ذلك الحادث إما أن يكون لحدوثه سبب، وإما أن لا يكون لحدوثه سبب، فإن كان لحدوثه سبب لزم تسلسل الحوادث وذلك يبطل دليلكم عليهم، إذ هو مبني على تسلسل الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها، وإن لم ¬
يكن لحدوثه سبب جاز ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح، وهذا يبطل جميع أصولكم وأصول المعتزلة والفلاسفة، ويبطل إثباتكم لوجود الصانع، فأنتم مع الفلاسفة بين أمرين: إما أن تجوزوا حوادث لا أول لها فيبطل دليلكم عليهم الذي أثبتم به حدوث العالم وهو أصل الأصول عندكم وإما أن لا تجوزوا ذلك، فيبطل -أيضًا- دليلكم على حدوث العالم، فعلى كلا التقديرين دليلكم الذي هو أصل أصولكم على حدوث العالم باطل، وأما المعتزلة فهم يوافقونكم على هذا الأصل، لكن خطاب الفلاسفة لهم كخطاب الفلاسفة لكم، وأما خطاب المعتزلة فإنهم يقولون لكم: إذا سلمتم أن ما تقوم به الحوادث لا يكون إلا جسمًا لزمكم أن تقولوا: ما تقوم به الأعراض لا يكون جسمًا، إذ لا فرق في (¬1) المعقول بين قيام الأعراض والحوادث، وإذا كان ما قام به الأعراض لا يكون إلا جسمًا، وأنتم قد قلتم: تقوم به الصفات وهي في الحقيقة الأعراض، لزمكم (¬2) أن يكون جسمًا، والجسم حادث، فيلزم أن يكون حادثًا، ويقول لكم المعتزلي: إن قيام الكلام والحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك بمحل ليس بجسم، ودعوى أن هذه الصفات ليست أعراضًا أمر معلوم الفساد بالضرورة، وكان جوابكم للمعتزلة في هذا المقام أن قلتم لهم: كما اتفقنا نحن وأنتم على أن الله حي عالم قادر وليس بجسم، فذلك يجب أن تكون له حياة وعلم وقدرة وليست أعراضًا، وتقوم به ولا يكون جسمًا. ومعلوم أن هذا الجواب ليس بعلمي ولا يحصل به انقطاع المعتزلة ولا غيرهم، إذ يقال لكم: المعتزلة مخطئون إما في قولهم: إن هذه الأسماء تثبت لغير جسم، وإما في قولهم: إن هذه الصفات لا تقوم إلّا ¬
ما ذكره أبو إسماعيل الأنصاري عن الأشعرية
بجسم، فلم (¬1) قلتم إن خطأهم في الثاني دون الأول؟ فإن قلتم لأنه (¬2) قد قام الدليل على نفي الجسم. قيل لكم: ذلك الدليل بعينه ينفي قيام الصفات التي هي الأعراض به، إذ لا يعقل ما يقوم به الأعراض إلا الجسم. ويقال لكم: الدليل على الذي نفيتم به الجسم إنما هو الاستدلال على حدوثه بحدوث الأعراض، وهذا الدليل آخره بعد تقرير كل مقدمة هو منع حوادث لا أول لها، وهذه المقدمة إن صحت لزمكم إثبات حوادث بلا سبب، وذلك يبطل أصل دليلكم على إثبات الصانع، فإنه متى جوز الحدوث بلا مرجح تام يلؤم من الحدوث لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح، وهو يسد باب إثبات الصانع، بل يستلزم أن لا يكون في الوجود موجود واجب، وهو في نفسه من أفسد ما يقال، ولهذا لم يقله عاقل. قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه "ذم الكلام" (¬3) باب: في (¬4) ذكر كلام الأشعري (¬5): ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا (¬6) كلام الجهمية، وما أودعته رموز (¬7) الفلاسفة، ولم نقف منهم (¬8) إلا على التعطيل البحت، وإن قطب مذهبهم، ومنتهى عقدتهم (¬9)، ما صرحت ¬
به رؤوس (¬1) الزنادقة قبلهم، أن الفلك دوار [و] (¬2) السماء خالية، وإن قولهم: إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء، ما استثنوا (¬3) جوف كلب، ولا جوف خنزير ولا حشًا فرارًا من الإثبات، وذهابًا عن التحقيق، وإن قولهم: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قدير (¬4) بلا قدرة، إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة، ثم قالوا: لا حياة له، ثم قالوا: لا شيء، فإنه لو كان شيئًا لأشبه الأشياء حاولوا حول [مقال] (¬5) رؤوس الزنادقة القدماء، إذ قالوا: الباري لا صفة ولا لا صفة، خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم، إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن، وإن كان اعتصامًا به من السيف، واجتنانًا (¬6) به منهم (¬7)، وإذ هم يردون (¬8) التوحيد، ويخاوضون المسلمين، ويحملون الطيالسة (¬9) فأفصحوا بمعايبهم (¬10)، وصاحوا بسوء ضمائرهم، ونادوا على خبايا نكتهم، فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء، وألسن العلماء، وهجران الدهماء (¬11) فقد شحنت ¬
كتاب (¬1) "تكفير الجهمية" من مقالات علماء الإسلام فيهم، ودأب الخلفاء فيهم، ودق عامة أهل السنة عليهم، وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة، ثقلت عليهم الوحشة، وطالت عليهم الذلة، وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم، ويصفوا كلامهم صفًّا (¬2)، يكون ألوح للإفهام، وأنجع في العوام، من أساس أولهم، يجد ذلك المساغ، ويتخلصوا من خزي الشناعة، فجاءت بمخاريق تراءى للغير (¬3) بغير ما في الحشايا، ينظر الناظر الفهم في حذرها، فيرى مخ الفلسفة يكسى لحاء السنة، وعقد الجهمية ينحل ألقاب الحكمة، يردون على اليهود قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (¬4)، فينكرون الغل، وينكرون اليد، فيكونون (¬5) أسوأ حالًا من اليهود، لأن الله أثبت الصفة، ونفى العيب، واليهود أثبتت الصفة، وأثبتت العيب، وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب، ويردون على النصارى في مقالتهم (¬6) في عيسى وأمه، فيقولون: لا يكون في المخلوق غير المخلوق (¬7)، فيبطلون القرآن، فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم (¬8) وكلام آخرهم (¬9) كخيط السحارة (¬10). ¬
فاسمعوا الآن يا أولي الألباب، وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك، أولئك قالوا -قبح الله مقالتهم-: إن الله موجود بكل مكان، وهؤلاء يقولون: ليس هو في مكان، ولا يوصف بأين، وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم: "أين الله" (¬1)؟ وقالوا: هو من فوق كما هو من تحت، لا يدرى أين هو، ولا يوصف بمكان، وليس هو في السماء، وليس هو في الأرض، وأنكروا الجهة والحد. وقال أولئك: ليس له كلام إنما خلق كلامًا، وهؤلاء يقولون: تكلم مرة فهو متكلم به مذ تكلم، لم ينقطع الكلام، ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به، ثم تقولون: ليس هو في مكان. ثم قالوا: ليس هو صوت ولا حروف، وقالوا: هذا زاج (¬2) وورق، وهذا صوف وخشب، وهذا إنما قصد به النقش (¬3) وأريد به النقر، وهذا صوت القارئ، أما (¬4) ترى منه حسن ومنه قبيح (¬5)، وهذا لفظه، أو ما تراه يجازى به، حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من لبد (¬6)، وقال آخر: من خشب؟ فراغوا (¬7) فقالوا: هذه (¬8) ¬
حكاية عبر بها عن القرآن، والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك، ثم قالوا: غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر، وهذا من خوضهم، يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود، لفظته الجهمية الذكور بمرة، والأشعرية الإناث بعشر مرات، وأولئك قالوا: لا صفة، وهؤلاء يقولون: وجه كما يقال: وجه النهار، ووجه الأمر، ووجه الحديث، وعين كعين المتاع، وسمع كأذن الجدار وبصر، كما يقال: جداراهما يتراءيان، ويد كيد المنة والعطية، والأصابع كقولهم: خراسان بين أصبعي (¬1) الأمير، والقدمان كقولهم: جعلت الخصومة تحت قدمي، والقبضة كما قيل: فلان في قبضتي، أي: أنا أملك أمره، وقال (¬2): و (¬3) الكرسي العلم، والعرش الملك، والضحك الرضى، والاستواء الاستيلاء، والنزول القبول، والهرولة مثله، فشبهوا من وجه، وأنكروا من وجه، وخالفوا السلف، وتعدوا الظاهر، وردوا الأصل، ولم يثبتوا شيئًا، ولم يبقوا موجودًا، ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسن (¬4)، فقالوا: لا نفسرها نجريها عربية كما وردت، وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة، أرادوا بهذه المخرقة (¬5) أن يكون عوام المسلمين أبعد غيابًا عنها (¬6)، وأعيا ذهابًا منها، ليكونوا ¬
أوحش عند ذكرها، وأشمس (¬1) عند سماعها، وكذبوا بل التفسير أن يقال: وجه، ثم يقال: كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين. فالعبارة (¬2)، فقد قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (¬3) وإنما قالو [ها] (¬4) هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية، وكان يكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابه (¬5) بالعربية فيها أسماء الله وصفاته، فيعبر بالألسنة عنها، ويكتب إليها بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بالعربية (¬6)، والله تعالى يدعى بكل لسان بأسمائه فيجيب، ويحلف بها فيلزم، وينشد فيجاز، ويوصف فيعرف. ثم قالوا: ليس ذات الرسول بحية (¬7)،. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقالوا: ما هو بعد ما مات بمبلغ فيلزم به الحجة. فسقط (¬1) من أقاوليهم ثلاثة أشياء: أنه ليس في السماء رب، ولا في الروضة رسول، ولا في الأرض كتاب، كما سمعت يحيى بن عمار (¬2) يحكم به عليهم، وإن كانوا موهوها، ووروا عنها، واستوحشوا من تصريحها، فإن حقائقها لازمة لهم، وأبطلوا التقليد، فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام، واضطروا إليه الدين -بزعمهم- فكفروا السلف، وسموا الإثبات تشبيهًا، فعابوا القرآن، وضللوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يكاد يرى منهم رجلًا ورعًا، ولا للشريعة معظمًا، ولا للقرآن محترمًا، ولا للحديث موقرًا، سلبوا التقوى، ورقة القلب، وبركة التعبد، ووقار الخشوع، واستفضلوا الرسول فانظر -أي- إلى أحدهم، فلا (¬3) هو طالب آثاره (¬4)، ولا متبع أخباره، ولا مناضل عن سنته، ولا هو راغب في أسوته، يتقلب بمرتبة العلم وما عرف حديثًا واحدًا، تراه يهزأ بالدين ويضرب له ¬
الأمثال، ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلًا من العلم، لا ينقر (¬1) لهم عن بطانة إلا خانتك ولا [عن] (¬2) عقيدة إلا أرابتك، ألبسوا ظلمة الهوى (¬3)، وسلبوا هيبة الهدى، فتنبوا (¬4) عنهم الأعين، وتشمئز منهم القلوب، وقد شاع في المسلمين [349] أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي (¬5). ¬
قال (¬1): وقد سمعت محمد بن زيد العمري النسابة، أخبرنا المعافى، سمعت أبا الفضل الحادني القاضي بسرخس (¬2)، يقول: سمعت زاهر بن أحمد (¬3) يقول: أشهد لما مات أبو الحسن الأشعري متحيرًا بسبب مسألة تكافؤ (¬4) الأدلة. ¬
فلا جزى الله امرأً ناط مخاريقه بمذهب الإمام المطللبي (¬1) -رحمه الله- وكان من أبر خلق الله قلبًا، وأصوبهم سمتًا، وأهداهم هديًا، وأعمقهم قلبًا، وأقلهم تعمقًا، وأقرهم للدين، وأبعدهم من التنطع، وأنصحهم لخلق الله جزاء خير. قال: ورأيت منهم قومًا يجتهدون في قراءة القرآن، وتحفظ حروفه، والإكثار من ختمه، ثم اعتقاده (¬2) فيه ما قد بيناه، اجتهاد روغان كالخوارج. وروي (¬3) بإسناد (¬4) عن حرشة بن الحر، عن حذيفة قال: "إنا آمنا ولم نقرأ القرآن، وسيجيء قوم يقرؤون القرآن لا يؤمنون". قال (¬5): وقال ابن عمر: "كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن". وروى (¬6) بإسناد (¬7) عن ابن عمر قال: "لقد عشنا برهة من الدهر، وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن". وفي لفظ: " [إنا] (¬8) كنا صدور هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحيهم ¬
ما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقل (¬1) عليهم، ورزقوا علمًا به وعملًا (¬2)، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون منه شيئًا" (¬3) ". أو قال: لا يعملون منه بشيء (¬4). قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتابه المشهور في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (¬5) لما ذكر عقوبات الأئمة لأهل البدع، قال: "واستتاب أمير المؤمنين القادر بالله (¬6) -حرس الله مهجته، وأمد بالتوفيق أموره، ووفقه من القول والعمل لما يرضى مليكه (¬7) - فقهاء المعتزلة الحنفية في سنة ثمان وأربعمائة، فأظهر الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال. ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض (¬8)، والمقالات المخالفة للإسلام [والسنة] (¬9)، وأخذ ¬
خطوطهم بذلك، وأنهم مهما خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم. وامتثل يمين الدولة، وأمين الملة أبو القاسم محمود، يعني: ابن سبكتكين -أعز الله نصره- (¬1) أمر [أمير] (¬2) المؤمنين القادر بالله، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية (¬3) والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم (¬4)، والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل البدع، وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين في الآفاق. ¬
وجر ذلك على يد (¬1) الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد، في جمادى [الآخرة] (¬2) سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، تمم الله ذلك وثبته إلى أن يرث الأرض (¬3) ومن عليها وهو خير الوارثين". وقد ذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب "ذم الكلام" (¬4) وأهله في الطبقة الثامنة قال: "وفيها نجمت (¬5) الأشعرية". ثم ذكر الطبقة التاسعة وذكر (¬6) فيها كلام من ذكره فيهم ثم قال (¬7): "قرأت كتاب محمود الأمير (¬8) يحث فيه على كشف أستار هذه الطائفة والإفصاح بعيبهم ولعنهم، حتى كان قد قال فيه: أنا ألعن من لا يلعنهم فطار -والله-[في الآفاق] (¬9) للحامدين كل مطار، وصار في المادحين (¬10) كل مسار، لا ترى عاقلًا إلّا (¬11) وهو ينسبه إلى متانة الدين وصلابته، ويصفه بشهامة الرأي ونجابته، فما ظنك بدين يخفى فيه ظلم العيوب، وتنجلي عنه (¬12) بهم القلوب، ودين تناجى (¬13) به أصحابه، ¬
وتبرأ منه أربابه، وما خفي عليك فلا يخف (¬1) أن القرآن مصرح (¬2) به في الكتاتيب، ويجهر به في المحاريب، وحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجوامع ويستمع في المجامع، وتشد إليه الرحال، ويتبع في البراري، والفقهاء في القلانس (¬3) يفصحون في المجالس، وأن الكلام في الخفايا يدس به في الزوايا، قد (¬4) ألبس أهله الذلة (¬5)، وأشعر (¬6) بهم ظلمه، يرمون بالألحاظ (¬7)، ويخرجون من الحفاظ، يسب بهم أولادهم، وتبرأ (¬8) منهم أوداؤهم (¬9)، يلعنهم المسلمون، وهم عند المسلمين يتلاعنون". ثم إنه جرى بعد ذلك في خلافة القائم في مملكة السلاجقة طغرل بك وذويه لعن المبتدعة -أيضًا- على المنابر، فذكر أبو القاسم بن عساكر أن وزيره (¬10) كان معتزليًّا رافضيًّا، وأنه أدخل فيهم الأشعرية لقصد ¬
ما ذكره أبو القاسم ابن عساكر من لعن الأشاعرة وما حصل بسبب ذلك من المحنة
التشفي والتسلي، فإنه ذكر رسالة أبي بكر البيهقي إلى الوزير في استدراك ذلك قال فيها (¬1): "ثم إن السلطان أعز (¬2) الله نصره، وصرف همته العالية إلى نصرة دين الله وقمع أعداء الله، بعدما تقرر للكافة حسن اعتقاده، بتقرير خطباء أهل مملكته على لعن من استوجب اللعن من أهل البدع (¬3) ببدعته، وأيس أهل الزيغ عن زيغه عن الحق وميله عن القصد، فألقوا في سمعه ما فيه مساءة أهل السنة والجماعة كافة ومصيبتهم عامة، من الحنفية والمالكية والشافعية الذين لا يذهبون في التعطيل مذهب المعتزلة ولا يسلكون في التشبيه طرق المجسمة في مشارق الأرض ومغاربها ليتسلوا (¬4) بالأسوة معهم في هذه المساءة عما يسوؤهم من اللعن والقمع في هذه الدولة المنصورة". وذكر تمام الرسالة (¬5) في بيان أنهم من أهل السنة ومسألة المنع من إدخالهم في اللعنة. قال أبو القاسم ابن عساكر (¬6): "وإنما كان انتشار ما ذكره أبو بكر البيهقي من المحنة، واستعار (¬7) ما أشار بإطفائه في رسالته من الفتنة، مما تقدم به من سب حزب أبي (¬8) الحسن الأشعري، في دولة السلطان طغرل بك، ووزارة أبي نصر منصور بن محمَّد الكندري، وكان السلطان ¬
حنفيًّا سنيًّا، وكان وزيره معتزليًّا رافضيًّا، فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع، قرن الكندري للتسلي والتشفي اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع (¬1)، وامتحن الأئمة الأماثل، وقصد (¬2) الصدور الأفاضل وعزل أبا عثمان الصابوني بنيسابور (¬3)، وفوضها إلى بعض الحنفية، فأم (¬4) الجمهور، وخرج الأستاذ أبو القاسم (¬5)، والإمام أبو المعالي الجويني، عن البلد، فلم يكن (¬6) إلا يسيرًا حتى مات ذلك (¬7) السلطان، وولي ابنه ألب أرسلان، واستوزر الوزير الكامل أبا علي (¬8) الحسن بن علي بن إسحاق، فأعز أهل السنة، وقمع أهل النفاق، وأمر بإسقاط ذكرهم من السب وإفراد من عداهم باللعن والثلب (¬9)، واسترجع من خرج منهم إلى وطنه، واستقدمه مكرمًا بعد بعده وظعنه". وذكر قصة أبي القاسم القشيري التي سماها "شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة" (¬10)، قال. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فيها (¬1): "ومما ظهر (¬2) بنيسابور في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة (¬3) ما دعى (¬4) أهل الدين إلى سوء ضر أضرهم وكشف قناع صبرهم (¬5) " إلى أن قال (¬6): "ذلك بما أحدث من لعن إمام الدين، وسراج [ذوي] (¬7) اليقين، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحق، وناصح الخلق أبي الحسن (¬8) الأشعري". وقال فيها (¬9): ولما مَنَّ الله الكريم على أهل الإِسلام بزمام (¬10) الملك المعظم، المحكم بالقوة السماوية في رقاب الأمم، الملك الأجل شاهنشاه (¬11) يمين خليفة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الله (¬1)، وغياث عباد الله طغرل بك أبي طالب محمَّد بن ميكائيل وقام بإحياء السنة، والمناضلة عن الله، حتى لم يبق من أصناف المبتدعة إلا ¬
سل (¬1) -لاستئصالهم سيفًا عضبًا (¬2)، وأذاقهم ذلا وخسفًا، وعقب لآثارهم نسفًا، حرجت (¬3) صدور أهل البدع عن تحمل هذه النقم، وضاق صبرهم عن مقاساة هذا الألم، ومُنوا (¬4) بلعن أنفسهم على رؤوس الأشهاد بألسنتهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بانفرادهم بالوقوع في مهواة محنتهم (¬5)، فسولت لهم أنفسهم أمرًا، فظنوا أنهم بنوع تلبيس أو ضرب (¬6) تدليس يجدون لعسرهم يسرًا، فسعوا إلى عالي مجلس السلطان (¬7) بنوع نميمة، ونسبوا الأشعري إلى مذاهب ذميمة، وحكوا عنه مقالات لا يوجد في كتبه منها حرف، ولم نر (¬8) في المقالات المصنفة للمتكلمين الموافقين والمخالفين من وقت الأوائل إلى زماننا هذا لشيء منها حكاية، ولا وصف، بل كل ذلك تصوير بتزوير (¬9)، وبهتان (¬10) بغير تقرير. وما نقموا من الأشعري إلّا أنه قال بإثبات القدر لله خيره وشره نفعه وضره، وإثبات صفات الجلال لله من قدرته وعلمه وإرادته وحياته وبقائه ¬
ما ذكره أبو القاسم ابن عساكر من صحة اعتقاد أبي الحسن الأشعري
وسمعه وبصره وكلامه ووجهه ويده، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى موجود تجوز رؤيته، وأن إرادته نافذة في مراده (¬1) وما لا يخفى من (¬2) مسائل الأصول التي تخالف طريقة (¬3) المعتزلة والجهمية (¬4). وذكر تمام الكلام في المسائل التي نسبت إليه، وهو كلام طويل ليس هذا موضعه، وإنما الغرض التنبيه على سبب لعنهم على ما نقله أصحابه المعظمون له. وأما بغداد فلم تجر فيها لعنة أحد على المنابر، بل كانت الأشعرية منتسبة إلى الإِمام أحمد وسائر أهل (¬5) السنة، كما ذكره الأشعري في كتابه "الإبانة" (¬6)، وهذا هو الذي اعتمد عليه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في وصف اعتقاد الأشعري، قال (¬7) -بعد أن ذكر ما ذكره من وصف من وصف من العلماء [و] (¬8) الأشعري بالرد على أهل (¬9) البدع والانتصار للسنة وما يشبه ذلك: "فإذا كان أبو الحسن -رحمه الله- كما ذكر (¬10) عنه من حسن ¬
الاعتقاد مستصوب (¬1) المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد (¬2)، فلا بد أن يحكي عنه (¬3) معتقده على وجه الأمانة (¬4)، ويجتنب أن يزيد فيه أو ينقص منه (¬5) تركًا للخيانة، لنعلم (¬6) حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما قاله (¬7) في أول كتابه الذي سماه بالإبانة فإنه قال (¬8): "الحمد لله الأحد الواحد العزيز الماجد" وساق الخطبة (¬9)، إلى أن قال: "أما بعد فإن كثيرًا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم (¬10) ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم، تأويلًا لم ينزل الله به سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول (¬11) الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن السلف المتقدمين، فخالفوا ¬
رواية (¬1) الصحابة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في رؤية الله بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، وتواترت بها الآثار, وتتابعت بها الأخبار. وأنكروا شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين (¬2)، وردوا الرواية (¬3) في ذلك عن السلف المتقدمين. وجحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون. ودانوا بخلق القرآن نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إلا قَوْلُ الْبَشَرِ} (¬4)، فزعموا أن القرآن كقول البشر. وأثبتوا (¬5) أن العباد يخلقون الشر نظيرًا لقول المجوس الذين يثبتون (¬6) خالقين: أحدهما يخلق الخير، والآخر يخلق الشر. وزعموا القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر. وزعموا أن الله شاء (¬7) ما لا يكون، خلافًا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون (¬8)، وردًّا لقول الله {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬9) فأخبر أنا لا نشاء شيئًا إلا وقد شاء أن نشاء. ولقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (¬10) ولقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا ¬
كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (¬1) ولقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬2) ولقوله مخبرًا عن شعيب أنه قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (¬3). ولهذا أسماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة (¬4)؛ لأنهم دانوا بديانة المجوس [وضاهوا قولهم (¬5)، وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس] (¬6)، وأنه يكون من الشر (¬7) ما لا يشاؤه الله كما قالت المجوس ذلك. وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردًّا لقول الله (¬8): {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلا مَا شَاءَ} (¬9)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وانحرافًا (¬1) عن القرآن، وعما أجمع المسلمون عليه (¬2). وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، وأثبتوا (¬3) لأنفسهم غنى (¬4) عن الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه، كما أثبتت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله - عَزَّ وَجَلَّ - فكانوا مجوس هذه الأمة، إذ دانوا بديانة المجوس، وتمسكوا بأقوالهم، ومالوا إلى أضاليلهم. وقنطوا الناس من رحمة الله، وآيسوهم من (¬5) روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود [فيها] (¬6)، خلافًا لقول الله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬7). وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها، خلافًا لما جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله يخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا فيها وصاروا حممًا (¬8). ¬
ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬1). وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2). وأنكروا أن يكون له عينان (¬3)، مع قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (¬4) ولقوله: (¬5) {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (¬6). ونفوا (¬7) ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إن الله ينزل إلى سماء الدنيا" (¬8). وأنا ذاكر (¬9) ذلك إن شاء الله بابًا بابًا، وبه المعونة (¬10)، ومنه التوفيق والتسديد. ¬
فإن قال قائل (¬1): قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين (¬2)، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه (¬3) - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل (¬4) -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإِمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشكاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا: إنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاءه من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئًا. وأن الله إله واحد فرد أحد صمد لا إله غيره (¬5) لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا. وأن محمدًا عبده ورسوله (¬6). وأن الجنة والنار حق. ¬
وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو (¬1) على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬2). وأن له وجهًا (¬3)، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬4). وأن له يدين (¬5)، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬6) وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬7). وأن له عينين (¬8) بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (¬9). وأن من زعم أن اسم (¬10) الله غيره كان ضالًا. وأن لله علمًا، كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬11)، وقوله (¬12): {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ} (¬13). ونثبت لله قوة (¬14)، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬15). ¬
ونثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج. ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وإنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له: كن فيكون، [كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1)] (¬2). وإنه لا يكون في الأرض [شيء] (¬3) من خير وشر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، وإن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله الله. ولا يستغني (¬4) عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله. وإنه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له، كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬5)، وإن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون، كما قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (¬6)، وكما قال: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (¬7)، وكما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} (¬8)، وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (¬9) وهذا في كتاب الله كثير. ¬
وإن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم ونظر لهم (¬1) وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم (¬2) بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف لهم (¬3) وأصلحهم كانوا (¬4) صالحين، ولو هداهم كانوا (3) مهتدين، كما قال تبارك وتعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬5)، وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف لهم (¬6) حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم. وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم [يكن لـ] (¬7) يخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وإنا لا نملك لأنفسنا (¬8) نفعا ولا ضرًّا (¬9)، إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا (¬10) إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه. ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلقه (¬11) ¬
كان كافرًا. وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة (¬1)، كما يرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات (¬2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونقول: إن الكافرين -إذا رآه المؤمنون- عنه محجوبون (¬3)، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬4) وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا (¬5)، فعلم (¬6) بذلك موسى أنه لا يراه أحد (¬7) في الدنيا. ونرى ألّا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعموا بذلك (¬8) أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من الكبائر وما أشبهها مستحلًا لها كان كافرًا إذا كان غير معتقد لتحريمها (¬9). ¬
ونقول: إن الإِسلام أوسع من الإيمان, وليس كل إسلام إيمانًا (¬1). وندين بأنه (¬2) يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه (¬3) [وأنه يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية (¬4) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬5). وندين بأن لا ننزل أحدًا من الموحدين المستمسكين (¬6) بالإيمان جنة ولا نارًا، إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين. ¬
ونقول: إن الله يخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا بشفاعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ونؤمن بعذاب القبر، ونقول: إن الحوض والميزان والصراط حق (¬2) والبعث بعد الموت حق، وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين. وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات (¬3) الصحيحة في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وندين (¬4) بحب السلف الذين اختارهم [الله] (¬5) لصحبة نبيه، ونثني عليهم بما أثنى الله عليهم، ونتولاهم (¬6). ونقول: إن الإِمام (¬7) بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله عنه - وإن الله تعالى أعز به الدين، وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[للصلاة] (¬8)، ثم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم عثمان بن عفان - نضر الله وجهه - قتله قاتلوه (¬9) ظلمًا وعدوانًا، ثم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلافتهم خلافة النبوة. ¬
ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ونتولى سائر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ونكف عما شجر بينهم، وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون (¬2) مهديون فضلاء لا يوازنهم (¬3) في الفضل غيرهم. ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها (¬4) أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا (¬5)، وأن الرب يقول: "هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ " (¬6) وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافًا لما قاله أهل الزيغ والتضليل. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7) وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها, ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬8) وإن الله يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ ¬
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (¬1)، وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (¬2). ومن ديننا نصلي (¬3) الجمعة والأعياد خلف كل بر وغيره (¬4)، وكذلك سائر (¬5) الصلوات والجماعات، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج (¬6). وأن المسح على الخفين في السفر (¬7) والحضر، خلافًا لمن أنكر (¬8) ذلك. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بترك (¬9) ¬
الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة. ونقر بخروج الدجال، كما جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهم (¬2) المدفونين في قبورهم. ونصدق بحديث المعراج (¬3). ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام، ونقول: إن لذلك تفسيرًا (¬4). ونرى الصدقة من موتى المؤمنين (¬5)، والدعاء لهم، ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك. ونصدق بأن (¬6) في الدنيا سحرة (¬7)، وأن السحر (¬8) كائن موجود في الدنيا. ¬
وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم (¬1) وفاجرهم ومواريثهم (¬2). ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان. وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل. وأن الأرزاق من قبل الله عَزَّ وَجَلَّ يرزقها (¬3) عباده حلالًا وحرامًا. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه (¬4) خلافًا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬5)، وكما قال: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (¬6). ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها الله عليهم. وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم نارًا في الآخرة، ثم يقول (¬7): اقتحموها، كما جاءت الرواية بذلك (¬8). ¬
وندين بأن الله (¬1) يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون [وما كان] (¬2) وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون؟. وبطاعة (¬3) الأئمة، ونصيحة المسلمين. ونرى مفارقة كل داعية لبدعة (¬4)، ومجانبة أهل الأهواء وسنحتج لما ذكرنا (¬5) من قولنا، وما بقي منه مما لم (¬6) نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا. ¬
رد ابن عساكر على الأهوازي
ثم قال أبو القاسم بن عساكر (¬1) -رحمه الله-: "فتأملوا -رحمكم الله- هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإِمام العالم الذي شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأبينه، وكونوا ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬2) وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على عمر الأوقات تعتضد (¬3) بالأشعرية على أصحاب البدع؛ لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات فمن تكلم منهم (¬4) في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ووزارة النظام، ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحراف (¬5) النظام. وعلى الجملة فلم يزل في الحنابلة طائفة تغلو في السنة، وتدخل فيما لا يعنيها حبًّا للخفوق (¬6) في الفتنة، ولا عار (¬7) على أحمد -رحمه الله- من صنيعهم، وليس يتفق على ذلك رأي جميعهم، ولهذا قال أبو حفص بن شاهين (¬8) -وهو من أقران الدارقطني-. . . . . . . . . . . . . . . ¬
ما قرأته (¬1) على عبد الكريم بن الخضر (¬2)، عن أبي محمَّد الكناني، حدثني (¬3) أبو النجيب الأرموي (¬4)، ثنا أبو ذر الهروي (¬5)، قال: سمعت ابن زنين يقول: رجلان صالحان بلوا (¬6) بأصحاب سوء: جعفر بن محمَّد، وأحمد بن حنبل". وقال ابن عساكر (¬7) فيما رده على أبي علي الأهوازي (¬8)، فيما صنفه من مثالب الأشعري وقد ذكر أبو علي الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه تصنيف الإبانة. قال الأهوازي: "وللأشعري كتاب في السنة قد جعله أصحابه وقاية لهم من أهل السنة، يتولون به العوام من أصحابنا سماه كتاب ¬
"الإبانة" صنفه ببغداد لما دخلها، فلم يقبل ذلك منه الحنابلة وهجروه". وسمعت (¬1) أبا عبد الله الحمراني يقول: "لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري (¬2) فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم، وعلى اليهود والنصارى وعلى المجوس، فقلت (¬3) وقالوا وأكثر الكلام في ذلك، فلما سكت قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلًا ولا كثيرًا، ما نعرف إلا ما قال (¬4) أبو عبد الله أحمد بن حنبل، قال: فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة، فلم يقبلوه (¬5) منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منه". قال (¬6): وقول الأهوازي: إن الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره (¬7) من كتاب (¬8) الإبانة وهجروه، فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم (¬9) ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه كان صديقًا ¬
للتميميين (¬1)، سلف أبي محمَّد رزق [الله] (¬2) بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث، وكانوا له مكرمين، وقد ظهر (¬3) [أثر] (¬4) بركة هذه (¬5) الصحبة على أعقابهم، حتى نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلوذاني (¬6) من أصحابهم، وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربي (¬7) ¬
يخبر بصحة ما ذكرته وينبيء، وكذلك كان بينهم وبين صاحبه أبي عبد الله بن مجاهد (¬1)، وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطيب (¬2) من المواصلة والمؤاكلة ما يدل على كثرة الاختلاق من الأهوازي والتكذيب. قال (¬3): وقد أخبرني الشيخ أبو الفضل بن أبي سعد البزار عن (¬4) أبي محمَّد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي الحنبلي، قال سألت الشريف أبا علي محمَّد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي (¬5)، فقال: حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي (¬6) سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه، حضرها أبو بكر ¬
الأبهري (¬1)، شيخ المالكيين، وأبو القاسم الداركي (¬2) شيخ الشافعيين، وأبو الحسين طاهر بن الحسين (¬3) شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسين بن سمعون (¬4) شيخ الوعاظ والزهاد، وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين، وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني، في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة، قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدًا منهم. قال (¬5): وحكاية الأهوازي عن البربهاري مما يقع في صحتها التمادي وأدل دليل على بطلانه قوله: إنه لم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها، وهو بعد إذ (¬6) صار إليها لم يفارقها ولا رحل عنها". ¬
الأشعرية تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد
قلت: لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإِمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد، فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى (¬1) الساجي، وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه، ثم لما قدم بغداد أخذ عمن كان بها, ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا بن يحيى الساجي التي وصف بها مذهب أهل السنة، وإما ألفاظ أصحاب الإِمام أحمد وما ينقل عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلّا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير. وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل ولهذا لما صنف كتابه في مقالات (¬2) الإِسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل، وأما أهل السنة والحديث فلم يذكر عنهم (¬3) إلّا جمل (¬4) مقالات، مع أن لهم في تفاصيل تلك الأقوال أكثر مما لأهل الكلام، وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق (¬5)، ¬
ولم (¬1) يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق، وبينهم منازعات في أمور دقيقة لطيفة، كمسألة اللفظ، ونقصان الإيمان, وتفضيل عثمان، وبعض أحاديث الصفات، ونفي لفظ الجبر وغير ذلك من دقيق القول ولطيفه. وليس المقصود هنا مدح شخص أو طائفة ولا إطلاق ذم ذلك، فإن الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه قد يجتمع (¬2) في الشخص الواحد والطائفة الواحدة ما يحمد به من الحسنات وما يذم به من السيئات، وما (¬3) لا يحمد به ولا يذم من المباحات، والعفو عنه من الخطأ والنسيان بحيث يستحق الثواب على حسناته ويستحق العقاب على سيئاته، بحيث لا يكون محمودًا ولا مذمومًا على المباحات والمعفوات، وهذا مذهب أهل السنة (¬4) في فساق أهل القبلة ونحوهم، وإنما يخالف في هذا الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ونحوهم، الذين يقولون: من استحق المدح لم يستحق الذم، ومن استحق الثواب لم يستحق العقاب، ومن يستحق (¬5) العقاب لم يستحق الثواب، حتى يقولوا (¬6): إن من دخل النار لا يخرج منها بل يخلد فيها، وينكرون شفاعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر قبل الدخول وبعده، وينكرون خروج أحد من النار، وقد تواترت السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروج من يخرج من النار حتى يقول الله تعالى: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" (¬7). . . . ¬
وبشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته (¬1). ولهذا يكثر في الأمة من أئمة الأمراء والعلماء وغيرهم من يجتمع (¬2) فيه الأمران، فبعض الناس يقتصر على ذكرِ محاسنه ومدحه غلوًا وهوى، وبعضهم يقتصر على ذكر مساوئه وذمه غلوًا وهوى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيار الأمور أوسطها (¬3). ¬
لا ريب أن للأشعري كلاما حسنا في الرد على أهل البدع
ولا ريب أن للأشعري (¬1) في الرد على أهل البدع كلامًا حسنًا، هو من الكلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية، وله -أيضًا- كلام خالف فيه (¬2) بعض السنة، هو من الكلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة، وإن كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية والكلام السيئ كان صاحبه مجتهدًا مخطئًا مغفورًا (¬3) له خطؤه، لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم، بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة، ويذم الكلام المخالف للسنة. وإنما المقصود أن الأئمة المرجوع إليهم في الدين مخالفون (¬4) للأشعري في مسألة الكلام، وإن كانوا مع ذلك معظمين له في أمور أخرى، وناهين عن لعنه وتكفيره، ومادحين له بما له من المحاسن، وبزيادة أخرى فإن هذه المسألة هي مسألة الكلام من الأمر والنهي والخبر هل له صيغة؟ أو ليس له صيغة، بل ذلك معنى قائم بالنفس، فإذا كانوا مخالفين له في ذلك، وقائلين بأن الكلام له الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة، قائلين خلافًا للأشعري (¬5) مصرحين بأن قوله في ذلك مخالف لقول الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإِسلام علم صحة ما ذكرناه (¬6) وقولهم: للأمر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرًا ¬
[وللنهي صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه] (¬1) نهيًا، وللخبر صيغة موضوعة له (¬2) في اللغة تدل بمجردها على كونه خبرًا، وللعموم صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على استغراق الجنس واستيعاب الطبقة (¬3)، أجود من قول من استدرك (¬4) ذلك عليهم كابن عقيل أن الأجود أن يقال: الأمر صيغة، قالوا: لأن الأمر والنهي والخبر هو نفس الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة، وهذا الذي قاله وأنكره هؤلاء خطأ، وهو لو صح فإنما يصح على قول من يقول: إن الكلام مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعنى، وليس هذا مذهب الفقهاء وأئمة الإِسلام وأهل السنة، وإن كان قد يقوله كثير ممن ينتسب إليهم كما قالته المعتزلة، بل مذهبهم أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعًا، والأمر ليس هو اللفظ المجرد ولا المعنى المجرد، بل لفظ الأمر إذا أطلق فإنه ينتظم اللفظ والمعنى جميعًا، فلهذا قيل للأمر: صيغة، كما يقال للإنسان: جسم أو للإنسان روح، كما (¬5) يقال للكلام: معنى وللكلام حروف. وأما ما ذكره أبو القاسم الدمشقي (¬6) من أن هذه المسألة خالف فيها أبو إسحاق الأشعري (¬7). فيقال له: هذه المسألة هي أخص مذهب الأشعري التي يكون ¬
(فصل) مذهب الأشعري وطبقته ومن بعده إثبات الصفات الخبرية
الرجل بها مختصًّا بكونه أشعريًّا، ولهذا ذكر العلماء الخلاف فيها معه، وأما سائر المسائل فتلك لا يختص هو بأحد الطرفين بها، بل في كل طرف طوائف (¬1)، فإذا خالفه في خاصة مذهبه لزم (¬2) أن لا يكون متبعًا له، وأيضًا فإنه إذا قال: "أصحابنا" فإنما يعني الشافعية، وإذا ذكر الأشعري فإنه يقول: قالت الأشعرية، فلا يدخلهم في مسمى أصحابه، ولكن أبو القاسم كان له هوى، ولم تكن له معرفة بحقائق الأصول التي تنازع (¬3) فيها العلماء، ولكن كان ثقة في نقله، عالمًا بفنه، كالتاريخ ونحوه. فصل ومذهب الأشعري نفسه وطبقته كأبي العباس القلانسي (¬4) ونحوه، ومن قبله من أئمته كأبي محمَّد عبد الله بن سعيد بن كلاب (¬5)، ومن بعده من أئمة أصحابه الذين أخذوا عنه، كأبي عبد الله بن مجاهد (¬6) شيخ القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي الحسن الباهلي (¬7) شيخ ابن ¬
الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني (¬1)، وأبي بكر بن فورك (¬2)، وكأبي الحسن علي بن مهدي الطبري (¬3) صاحب التأليف في تأويل الأحاديث المشكلات الواردة بالصفات ونحوهم. والطبقة الثانية التي أخذت عن أصحابه كالقاضي أبي بكر إمام الطائفة، وأبي بكر بن فورك، وأبي إسحاق الإسفرائيني، وأبي علي بن شاذان (¬4)، وغير هؤلاء، إثبات الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن والسنن (¬5) المتواترة، كاستوائه على العرش والوجه واليد ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك، وقد رأيت كلام كل من ذكرته من هؤلاء يثبت هذه الصفات، ومن لم أذكره -أيضًا- وكتبهم وكتب من نقل عنهم مملوءة بذلك وبالرد على من يتأول هذه الصفات والأخبار بأن تأويلها طريق الجهمية والمعتزلة، وذلك (¬6) نحو ما ذكره الأشعري في كتابه كتاب "الإبانة الذي يذكر أصحابه أنه آخر مصنفاته، وفي غيره من مصنفاته كتابي ¬
"المقالات"، وكما ذكره هو في كتاب "العمد" (¬1)، وقد ذكر ذلك أبو بكر بن فورك في أخباره (¬2)، ونقله عنه أبو القاسم بن عساكر (¬3) فقال: "انتقل الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري من مذاهب المعتزلة" (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وليعلم أن هذا آخر ما وجدنا من هذا التأليف المفيد، وهو للإمام بل إمام الأئمة، والمجدد سنة سيد المرسلين لهذه الأمة، مبيد أقران الباطل في كل حال، ومبدي ما ستروا من عيوبهم بزخرفة القيل والقال أبو العباس أحمد بن تيمية، سقى الله بوابل الرحمة ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، وقد تم بعون الله نهار الرابع والعشرين من شهر جمادى سنة 1223 هـ فمن هجرته [عليه وسلم] (¬5). ... ¬
فهرس المراجع
فهرس المراجع (أ) 1 - الآداب السامية: محمد عطية الأبراشي: ط / 1 - القاهرة - دار إحياء الكتب العربية للطباعة والنشر - 1978 م. 2 - الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات. نعمان بن محمد الألوسي - تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني - ط / 3 - 1402 هـ. 3 - الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير. أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الجوزقاني - تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي - ط / 1 - بنارس الهند - إدارة البحوث الإسلامية - 1403 هـ / 1983 م. 4 - الإبانة عن أصول الديانة: أبو الحسن الأشعري: تحقيق: د. صالح الفوزان - الرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 5 - الإبانة عن أصول الديانة: أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري. تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط - ط / 1 - دمشق - مكتبة دار البيان - 1401 هـ / 1981 م. 6 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات. القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء - مصورة عن مكتبة السيد صبحي البدري السامرائي - بغداد. 7 - أبكار الأفكار (مخطوط): أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي. دار الكتب المصرية - القاهرة. 8 - إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: الزبيدي. 9 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. أبو بكر بن قيم الجوزية - ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1404 هـ / 1984 م.
10 - الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. أبو الحسن علي بن بلبان الفارسي - ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1407 هـ. 11 - الأحكام في أصول الأحكام. أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي - ط / 1 - الرياض - مؤسسة النور للطباعة والتجليد - 1387 هـ. 12 - إحياء علوم الدين: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي. بيروت - دار المعرفة. 13 - أدب الإملاء والاستملاء: أبي سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني. بيروت - دار الكتب العلمية - 1401 هـ. 14 - الأربعين في أصول الدين: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي. ط / 2 - بيروت - دار الآفاق الجديدة - 1979 م. 15 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد. أبو المعالي عبد الملك الجويني - تحقيق: محمد يوسف موسى - وعلي عبد المنعم عبد الحميد - مصر - مكتبة الخانجي - 1369 هـ / 1950 م. 16 - أساس التقديس في علم الكلام. أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي - القاهرة - مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده - 1354 هـ / 1935 م. 17 - الاستقامة: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. تحقيق: د. محمد رشاد سالم - ط / 1 - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض - 1403 هـ / 1983 م. 18 - الإسراء والمعراج: عبد الملك بن هشام. شرح: الإمام السهيلي، تحقيق: مشاهير المحققين. القاهرة - مطابع دار الشعب. 19 - أسماء مؤلفات الشيخ ابن تيمية: لابن قيم الجوزية. تحقيق: صلاح الدين المنجد - ط / 3 بيروت - دار الكتاب الجديد - 1976 م. 20 - الأسماء والصفات: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. تصحيح وتعليق: محمد زاهد الكوثري - بيروت - دار إحياء التراث العربي.
21 - الأسنى في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى. (ميكروفيلم). أبو عبد الله القرطبي - الرياض - المكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - رقم 228 - 230. 22 - الأشعري (أبو الحسن): حمودة غرابة. القاهرة: مطبعة الرسالة. 23 - الإصابة في تمييز الصحابة: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني بيروت - دار صادر. 24 - أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء. ط / 4 - بيروت مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - 1402 هـ / 1982 م. 25 - أصول أهل السنة والجماعة: أبو الحسن الأشعري. تحقيق: محمد السيد الجليند. القاهرة - مكتبة التقدم. 26 - أصول الدين: أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي. ط / 1 - استانبول - مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية - 1346 هـ / 1927 م. 27 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي. بيروت - عالم الكتب. 28 - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: محمد بن عمر الخطيب الرازي. (مع) ذيل كتاب المرشد الأمين إلى اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. تأليف: طه عبد الرؤوف سعد، ومصطفى الهواري - القاهرة - مكتبة الكليات الأزهرية - 1398 هـ / 1978 م. 29 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد. أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي - تحقيق: أحمد - عصام الكاتب - ط / 1 - بيروت - دار الآفاق الجديدة. 1401 هـ / 1981 م. 30 - الأعلام: خير الدين الزركلي. ط / 3 - بيروت - 1389 هـ / 1969 م. 31 - الأعلام العلمية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية. أبو حفص عمر بن علي البزار - تحقيق: صلاح الدين المنجد - ط / 1 بيروت - دار الكتاب الجديد - 1396 هـ.
32 - أعلام الموقعين عن رب العالمين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر. المعروف بابن قيم الجوزية - مراجعة: طه عبد الرؤوف. بيروت - دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة. 33 - أعلام النساء: عمر رضا كحالة. ط / 5 - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1404 هـ / 1984 م. 34 - أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات. مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي الحنبلي - تحقيق: شعيب الأرناؤوط - ط / 1 - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1406 هـ / 1985 م. 35 - الاقتصاد في الاعتقاد: أبو حامد محمد الغزالي. تقديم: عادل العوا - ط / 1 - بيروت - دار الأمانة - 1388 هـ / 1969 م. 36 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل - ط / 1 - الرياض - مكتبة الرشد. 37 - الأم: محمد بن إدريس الشافعي. ط / 2 - بيروت - دار المعرفة - 1393 هـ / 1973 م. 38 - الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء. يوسف بن عبد البر - بيروت - دار الكتب العلمية. 39 - الأنساب: أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني. ط / 1 - الهند - مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - 1382 هـ / 1962 م. 40 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي - صححه وحققه: محمد حامد الفقي - ط / 2 - دار إحياء التراث العربي - 1406 هـ / 1986 م. 41 - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به. أبو بكر بن الطيب الباقلاني. تحقيق: محمد زاهد الكوثري ط / 2 - القاهرة - مؤسسة الخانجي - 1382 هـ / 1963 م. 42 - إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. إسماعيل باشا بن محمد أمين بن مير سليم - بيروت - دار الفكر - 1402 هـ / 1982 م. 43 - الإيمان: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. دمشق - منشورات المكتب الإسلامي - 1381 هـ.
(ب)
44 - الإيمان: أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. 45 - الإيمان: أبو عبيد القاسم بن سلام. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. 46 - الإيمان: محمد بن إسحاق بن يحيى بن مندة. تحقيق: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي - ط / 1 - المدينة المنورة - الجامعة الإسلامية - 1401 هـ / 1981 م. (ب) 47 - الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث. أبو الفدا إسماعيل بن كثير - مكتبة المعارف - الرياض. 48 - بحوث في تاريخ السنة المشرفة. أكرم ضياء العمري - ط / 4 - 1405 هـ. 49 - البداية والنهاية: أبو الفدا إسماعيل بن كثير. تحقيق: محمد عبد العزيز النجار - القاهرة - مطبعة الفجالة الجديدة. 50 - البرهان في أصول الفقه: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني. تحقيق: عبد العظيم الديب - ط / 2 - القاهرة - دار الأنصار - 1400 هـ. 51 - البرهان في عقائد أهل الأديان. تحقيق: د. علي بن حسن ناصر. 52 - البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - ط / 3 - الرياض - الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. 1400 هـ / 1980 م. 53 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية. أحمد عبد الحليم بن تيمية - تعليق: محمد بن عبد الرحمن القاسم - ط / 1 - مكة المكرمة - مطبعة الحكومة - 1391 هـ. (ت) 54 - تاج العروس في جواهر القاموس. أبو الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي - ط / 1 - مصر - المطبعة الخيرية - 1306 هـ.
55 - تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان. ط / 4 - القاهرة - دار المعارف. 56 - تاريخ بغداد أو مدينة السلام: أبو بكر بن علي الخطيب البغدادي. بيروت، دار الكتب العلمية. 57 - تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين. الرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - 1403 هـ / 1983 م. 58 - تاريخ الثقات: أحمد بن عبد الله بن صالح أبي الحسن العجلي. تعليق عبد المعطي قلعجي - ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1405 هـ / 1984 م. 59 - تاريخ الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - ط / 2 - دار المعارف. 1976 م. 60 - تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم. القاهرة - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - 1365 هـ. 61 - تاريخ اللغات السامية: إسرائيل ولفنسون. ط / 1 - القاهرة - مطبعة الاعتماد - 1348 هـ. 62 - التبصير في الدين: أبو المظفر ظاهر بن محمد الإسفراييني. تحقيق: كمال يوسف الحوت - ط / 1 - بيروت - عالم الكتب. 1403 هـ / 1983 م. 63 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري. علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر - بيروت - القدس 1399 هـ / 1979 م. 64 - تاريخ التشريع الإسلامي: مناع القطان - طبعة أولى - مكتبة المعارف. 65 - تجريد التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. يوسف بن عبد البر - بيروت - مكتبة القدس. 66 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: جلال الدين السيوطي تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف - القاهرة - مطبعة السعادة. 67 - تذكرة الحفاظ: الذهبي. بيروت - دار إحياء التراث العربي.
68 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة: محمد بن أحمد القرطبي. تحقيق: أحمد حجازي السقا - القاهرة - مكتبة الكليات الأزهرية - 1400 هـ / 1980 م. 69 - ترتيب المدارك: القاضي عياض بن موسى بن عياض. تحقيق محمد بن تاويت الطنجي - ط / 2 - المغرب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - 1403 هـ / 1983 م. 70 - التعرف لمذهب أهل التصوف: محمد الكلاباذي. بيروت - دار الكتب العلمية - 1400 هـ / 1980 م. 71 - التعريفات: الشريف علي بن محمد الجرجاني. ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1403/ 1983 م. 72 - تغليق التعليق: ابن حجر العسقلاني. تحقيق: سعيد عبد الرحمن القزقي. 73 - تفسير ابن كثير - المسمى تفسير القرآن العظيم. أبو الفدا إسماعيل بن كثير - بيروت - دار المعرفة - 1403 هـ / 1983 م. 74 - تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي. تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي - ط / 2 - بيروت دار الفكر - 1398 هـ. 75 - التفسير الكبير: أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين - الملقب بـ فخر الدين الرازي - ط / 3 - بيروت - دار إحياء التراث العربي. 76 - التمهيد: أبو بكر محمد بن الطيب بن الباقلاني. بيروت - المكتبة الشرقية - 1957 م. 77 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر - تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد بن عبد الكبير البكري - المغرب وزارة عموم الأوفاف والشؤون الإسلامية - 1387 هـ / 1967 م. 78 - التوحيد الذي هو حق الله على العبيد. محمد بن عبد الوهاب. 79 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع. محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي - بغداد - مكتبة المثنى - 1388 هـ / 1968 م. 80 - تهذيب الأسماء واللغات: محيي الدين بن شرف النووي. بيروت - دار الكتب العلمية.
(ج)
81 - تهذيب تاريخ دمشق الكبير. علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر - بيروت - دار المسيرة - 1399 هـ / 1979 م. 82 - تهذيب التهذيب: لا بن حجر العسقلاني. بيروت - دار صادر. 83 - التوحيد وإثبات صفات الرب: محمد بن إسحاق بن خزيمة. راجعه وعلق عليه: محمد خليل هراس - بيروت - دار الكتب العلمية - 1403 هـ / 1983 م. 84 - كتاب التوحيد: أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي. تحقيق: فتح الله خليف - الإسكندرية - دار الجامعات المصرية. 85 - ابن تيمية - حياته وعصره وآراؤه وفقه. القاهرة - دار الفكر العربي. (ج) 86 - جامع الأصول في أحاديث الرسول. أبو السعادات المبارك محمد بن الأثير الجزري - تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط - نشر وتوزيع مكتبة الحلواني - مطبعة الملاح - مكتبة دار البيان. 87 - جامع بيان العلم وفضله: أبو عمر يوسف بن عبد البر. بيروت - دار الفكر. 88 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن - المشهور بتفسير الطبري. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري - ط / 3 - القاهرة - شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده - مصر - 1388 هـ / 1968 م. 89 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم. أحمد بن رجب الحنبلي - الرياض - مكتبة الرياض الحديثة. 90 - الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي. أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي - ط / 3 - دار الكتاب العربي للطباعة والنشر. 1387 هـ / 1967 م. 91 - الجرح والتعديل: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي. ط / 1 - الهند - مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - بحيدر آباد الدكن. 92 - الجمع بين رجال الصحيحين "بخاري ومسلم". أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي المعروف بابن القيسراني - ط / 2 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1405 هـ.
(ح)
93 - جواب أهل العلم والإيمان أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن: لابن تيمية. 94 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لابن تيمية. القاهرة - مطبعة المدني - 1383 هـ / 1964 م. 95 - الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية. أبو محمد بن عبد القادر بن أبي الوفا القرشي - تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو - القاهرة - مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه - 1398 هـ / 1978 م. (ح) 96 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: لابن قيم الجوزية. ط / 3 - مكة المكرمة - مكتبة النهضة الحديثة - 1392 هـ / 1972 م. 97 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستنقع. عبد الرحمن بن محمد بن قاسم - ط / 1 - 1397 هـ. 98 - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. جلال الدين السيوطي - تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - ط / 1 - القاهرة - دار إحياء الكتب العربية - 1387 هـ. 99 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم أحمد عبد الله الأصفهاني. بيروت - دار الكتب العلمية. 100 - حياة شيخ الإسلام ابن تيمية: محمد بهجت البيطار. بيروت - المكتب الإسلامي - 1380 هـ. 101 - الحيدة: عبد العزيز الكناني. تحقيق: جميل صليبا - دمشق، المجمع العلمي العربي سنة 1384 هـ. (خ) 102 - خطبة الحاجة: محمد ناصر الدين الألباني. 103 - الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الأثنى عشرية: محب الدين الخطيب. مؤسسة مكة للطباعة والأعلام. 104 - خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: أحمد بن عبد الله الخزرجي. ط / 2 - بيروت - مكتب المطبوعات الإسلامية - 1391 هـ / 1971 م.
(د)
105 - خلق آدم على صورة الرحمن (¬1). للشيخ حمود بن عبد الله التويجري. دار اللواء - الرياض - 1407 ط / 1. 106 - خلق أفعال العباد: محمد بن إسماعيل البخاري. تحقيق: عبد الرحمن عميرة - ط / 2 - جدة - دار عكاظ. (د) 107 - الدارس في تاريخ المدارس: للنعيمي. 108 - دائرة المعارت الإسلامية: مجموعة من المؤلفين. القاهرة - دار الشعب - ط / 2. 109 - دائرة معارف القرن العشرين: محمد فريد وجدي. ط / 2 - القاهرة - مطبعة دائرة معارف القرن العشرين 1342 هـ. 110 - الدر المنثور في التفسير المأثور: جلال الدين السيوطي - ط / 1. بيروت - دار الفكر - 1403 هـ / 1983 م. بيروت - دار المعرفة للطباعة والنشر. 111 - درء التعارض العقل والنقل: ابن تيمية. تحقيق: محمد رشاد سالم - ط / 1 - الرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - 1403 هـ / 1983 م. 112 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: ابن حجر العسقلاني. تحقيق: محمد سيد جاد الحق - ط / 2 - القاهرة - دار الكتب الحديثة - 1385 هـ / 1966 م. 113 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة. أحمد بن الحسين البيهقي - ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1405 هـ / 1985 م. 114 - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب: لإبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون المالكي - 1351 هـ - القاهرة. 115 - ديوان امرئ القيس. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - ط / 4 - دار المعارف - 1984 م. القاهرة. (ذ) 116 - ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل. ¬
(ر)
جمع: أبي عبد الله حنبل بن إسحاق بن حنبل - تحقيق: محمد نغش - ط / 2 / - 1403 هـ / 1983 م. 117 - ذم الكلام (مخطوط): أبو إسماعيل الأنصاري الهروي. مصور بقسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - برقم 5992. مصور عن الظاهرية بدمشق تحت رقم 1128. 118 - الذيل على طبقات الحنابلة. أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي - بيروت - دار المعرفة. (ر) 119 - رد الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد. تحقيق: محمد حامد الفقي - باكستان - حديث أكادمي - 1402 هـ / 1982 م. 120 - الرد على الجهمية والزنادقة: أحمد بن حنبل. تحقيق: عبد الرحمن عميرة - الرياض - دار اللواء - 1397 هـ / 1977 م. القاهرة - قصي محب الدين الخطيب - 1399 هـ. 121 - الرد على الجهمية: الإمام الحافظ ابن مندة. تحقيق: علي بن محمد ناصر الفقيهي - ط / 1. 1401 هـ / 1981 م. 122 - الرد على الجهمية: عثمان بن سعيد الدارمي. تحقيق: زهير الشاويش - ط / 3 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1398 هـ / 1978 م. 123 - الرد على الرافضة: أبو حامد محمد المقدسي. تحقيق: عبد الوهاب خليل الرحمن - ط / 1 - الهند. الدار السلفية - 1403 هـ / 1983 م. 124 - الرد على الرافضة: محمد بن عبد الوهاب. تحقيق: ناصر بن سعد الرشيد - الرياض - دار طيبة للنشر والتوزيع. 125 - الرد على المنطقيين: ابن تيمية. ط / 2 - باكستان - إدارة ترجمان السنة - 1392 هـ / 1972 م.
(ز)
126 - الرسالة: الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي. تحقيق: أحمد محمد شاكر - ط / 2 - القاهرة - مكتبة دار التراث - 1399 هـ / 1979. 127 - الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة. محمد بن جعفر الكتاني - ط / 2 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1400 هـ. 128 - رسائل العدل والتوحيد: الحسن البصري وآخرون. دراسة وتحقيق: محمد عمارة - القاهرة - دار الهلال - 1971 م. 129 - الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء. لشمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية - ط / 3 - الرياض - مكتبة الرياض الحديثة - 1386 هـ / 1966 م. 130 - الرد على من أنكر الحرف والصوت. لأبي نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي السجزي. تحقيق ودراسة: محمد باكريم باعبد الله - رسالة ماجستير. 1403/ 1404 هـ / طبع على الآلة الكاتبة. 131 - الرسالة التدمرية: ابن تيمية. الرياض - مكتبة الرياض الحديثة. 132 - رسائل في العقيدة: محمد صالح العثيمين. ط / 2 - الرياض - مكتبة المعارف - 1404 هـ / 1983 م. 133 - الروض المعطار في خبر الأقطار (معجم جغرافي). محمد عبد المنعم الحميري - تحقيق: إحسان عباس - ط / 2 - بيروت - مكتبة لبنان - 1984 م. 134 - روضة الناظر وجنة المناظر: ابن قدامة المقدسي. القاهرة - المطبعة السلفية ومكتبتها - 1391 هـ. 135 - الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية. زيد بن عبد العزيز بن فياض - ط / 2 - الرياض - مكتبة الرياض الحديثة. (ز) 136 - زاد المسير في علم التفسير: عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. ط / 3 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1404 هـ / 1984 م. 137 - الزندقة والزنادقة: عاطف شكري أبو عوض. الأردن - عمان - دار الفكر.
(س)
138 - الزهد -: أحمد بن حنبل. الإسكندرية - دار عمر بن الخطاب للنشر والتوزيع. (س) 139 - السريانية - نحوها وصرفها: زاكية محمد رشدي. ط / 2 - دار الثقافة للطباعة والنشر - القاهرة - 1980 م. 140 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة. تخريج: محمد ناصر الدين الألباني - ط / 3 - الرياض - مكتبة المعارف. 141 - سنن ابن ماجة: محمد بن يزيد القزويني بن ماجة. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي - القاهرة - عيسى البابي الحلبي وشركاه. 142 - سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الآذدي. إعداد وتعليق: عزت عبيد الدعاس - حمص - دار الحديث ط / 1 - 1388 هـ / 1969 م. 143 - سنن الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. تحقيق: أحمد محمد شاكر - دار إحياء التراث العربي. 144 - سنن الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني - باكستان - 1404 هـ / 1984 م. 145 - السنن المأثورة: الإمام محمد بن إدريس الشافعي. رواية: أبي جعفر الطحاوي - بيروت - دار المعرفة. 146 - السنة: عبد الله بن أحمد بن حنبل. مكة المكرمة - المطبعة السلفية ومكتبتها - 1349 هـ. 147 - السنة: عمرو بن أبي عاصم الضحاك الشيباني. ط / 1 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1400 هـ / 1980 م. (مع) ظلال الجنة في تخريج السنة: محمد ناصر الدين الألباني. 148 - سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرين - ط / 2 - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1402 هـ / 1982 م. 149 - سيرة الإمام أحمد بن حنبل: صالح بن أحمد بن حنبل. تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد - الإسكندرية - مؤسسة شباب الجامعة - 1401 هـ.
(ش)
150 - سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبو محمد عبد الملك بن هشام. ضبط وتعليق: محمد محيي الدين عبد الحميد - الرياض - رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. 151 - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز - الخليفة الزاهد. أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - تعليق: نعيم زرزور ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية 1404 هـ / 1984 م. (ش) 152 - الشامل في أصول الدين: إمام الحرمين عبد الملك الجويني. تحقيق: علي سامي النشار - فيصل بدير عون - سهير محمد مختار - الإسكندرية - منشأة المعارف - 1969 م. 153 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب. أبو الفلاح عبد الحي بن العماد - ط / 2 - بيروت - دار المسيرة - 1399 هـ / 1979 م. 154 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. أبو القاسم اللالكائي - تحقيق: أحمد سعد حمدان - الرياض - دار طيبة للنشر والتوزيع. 155 - شرح الأصول الخمسة: للقاضي عبد الجبار بن أحمد. تحقيق: عبد الكريم عثمان - ط / 1 - القاهرة - مكتبة وهبة - 1384 هـ / 1965 م. 156 - شرح جوهرة التوحيد المسمى إتحاف المريد بجوهرة التوحيد. عبد السلام بن إبراهيم اللقاني - ط / 1 - القاهرة - المكتبة التجارية الكبرى - 1369 هـ / 1949 م. 157 - شرح السنة: الحسين بن مسعود البغوي. تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش - ط / 2 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1403 هـ / 1983 م. 158 - شرح العقيدة الطحاوية: علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي. تحقيق: جماعة من العلماء - ط / 4 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1391 هـ.
(ص)
159 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري. عبد الله بن محمد الغنيمان - ط / 1 - المدينة المنورة - مكتبة الدار. 160 - شرح المقاصد: سعد الدين التفتازاني. طبع الأستانة - 1305 هـ. 161 - شرح المواقف: علي بن محمد الجرجاني. ط / 1 - مصر - مطبعة السعادة - 1325 هـ. 162 - الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة. عبيد الله محمد بن بطة - تحقيق: رضا بن نعسان معطى - مكة المكرمة - المكتبة الفيصلية - 1404 هـ / 1984 م. 163 - الشريعة: أبي بكر محمد بن الحسين الآجري. تحقيق: محمد حامد الفقي - ط / 1 - باكستان - حديث أكادمي - 1403 هـ / 1983 م. 164 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض. تحقيق: محمد أمين قرة علي - وآخرين، ط / 3 - عمان - دار الفيحاء، 1407 هـ / 1986 م. 165 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل. أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية. ط / 1 - الرياض - مكتبة الرياض الحديثة - 1323 هـ. 166 - شيخ الإسلام ابن تيمية: محمد كرد علي. ط / 2 - دمشق - 1391 هـ. 167 - الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية. بيروت - دار الشروق. (ص:) 168 - صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري. استانبول - المكتب الإسلامي - 1315 هـ. 169 - صحيح الجامع الصغير وزياداته (الفتح الكبير). محمد ناصر الدين الألباني - ط / 3 - بيروت - المكتب 1402 هـ / 1982 م.
(ض)
170 - صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي - ط / 1 - القاهرة - دار إحياء الكتب العربية - 1374 هـ / 1955 م. 171 - صحيح مسلم بشرح النووي: للإمام محي الدين بن شرف. دار الفكر - بيروت ط 2 - 1392 هـ. 172 - الصفدية: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. تحقيق: د. محمد رشاد سالم - الرياض - شركة مطابع حنيفة - 1396 هـ / 1976 م. 173 - صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام. عبد الرحمن بن أبي بكر الجلال السيوطي - (يليه): مختصر السيوطي لكتاب نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان. تعليق: علي سامي النشار. بيروت - دار الكتب العلمية. (ض) 174 - ضحى الإسلام: أحمد أمين. ط / 1 - بيروت - دار الكتاب العربي. (ط) 175 - طبقات الحنابلة: أبو الحسين محمد بن أبي يعلى. بيروت - دار المعرفة للطباعة والنشر. 176 - طبقات الشافعية. أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن محمد تقي الدين بن قاضي شهبة - ط / 1 - حيدر أباد الدكن - الهند - مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - 1398 هـ / 1978 م. 177 - طبقات الشافعية: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي. تحقيق: محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو - ط / 1 - عيسى البابي الحلبي وشركاه - القاهرة - 1983 هـ / 1964 م. 178 - طبقات الفقهاء: أبو إسحاق الشيرازي. بيروت - دار القلم. 179 - الطبقات الكبرى: محمد بن سعد. بيروت - دار صادر.
(ع)
180 - طبقات المفسرين: محمد بن علي بن أحمد الداوودي. ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1403 هـ / 1983 م. 181 - طريق الهجرتين وباب السعادتين. أبو عبد الله محمد بن أبي بكر. دار الكتاب العربي - 1404 هـ / 1984 م. (ع) 182 - العبر في خبر من غبر: أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي. تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول - ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1405 هـ / 1985 م. 183 - عقائد الإمامية الإثنى عشرية: السيد إبراهيم الموسوي الرنجاني. ط / 2 - بيروت - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - 1393 هـ / 1973 م. 184 - عقائد السلف للأئمة أحمد بن حنبل والبخاري وابن قتيبة الدارمي. علي سامي النشار، وعمار جمعي الطالبي - الإسكندرية - منشأة المعارف - 1971 م. 185 - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية. أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي - تحقيق: محمد حامد الفقي - بيروت - دار الكتب العلمية. 186 - عقيدة أهل السنة والجماعة: الطحاوي. تعليق: الشيخ محمد نافع. 187 - العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية. أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني - تحقيق وتعليق: أحمد حجازي السقا - ط / - مصر مكتبة الكليات الأزهرية - 1398 هـ / 1978 م. 188 - علوم الحديث: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح. تحقيق: نور الدين عتر - ط / 2 - المدينة المنورة - المكتبة العلمية - 1972 م. 189 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري. أبو محمود بن أحمد العيني - بيروت - دار إحياء التراث العربي.
(غ)
(غ) 190 - غاية المرام في علم الكلام: سيف الدين الآمدي. تحقيق: حسن محمود عبد اللطيف - القاهرة - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - 1391 هـ / 1971 م. (ف) 191 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري. أبو الفضل شهاب الدين أحمدبن علي بن محمد بن حجر العسقلاني - القاهرة - مكتبة الكليات الأزهرية - 1398 هـ / 1978 م. 192 - فتح المجيد: عبد الرحمن آل الشيخ. 193 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث. أبو الخير محمد بن الرحمن السخاوي - ضبط وتحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان - ط / 2 - المدينة المنورة - المكتبة السلفية - 1388 هـ. 194 - الفتوحات المكية: لابن عربي. مصر - دار الكتب العربية. 195 - الفتوى الحموية: لابن تيمية. ضمن الفتاوى. 196 - فجر الإسلام: أحمد أمين. ط / 10 - بيروت - دار الكتاب العربي - 1969 م. 197 - فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية. محمد صالح الزركان، دار الفكر. 198 - الفرق بين الفرق: عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد - مصر - مكتبة محمد علي صبيح وأولاده. 199 - الفصل في الملل والأهواء والنحل. أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري - ط / 2 - بيروت دار المعرفة - 1395 هـ / 1975 م. 200 - فصل المقال في شرح كتاب الأمثال. 201 - فضائح الباطنية: أبو حامد الغزالي. تحقيق: عبد الرحمن بدوي - الكويت - مؤسسة دار الكتب الثقافية. 202 - فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة. القاضي عبد الجبار، أبي القاسم البلخي، الحاكم الجشمي، تحقيق: فؤاد
(ق)
السيد - الدار التونسية للنشر - 1972 م. 203 - فلسفة المعتزلة: ألبير نصري نادر. الإسكندرية - مطبعة دار نشر الثقافة. 204 - الفهرس الموحد للمكتبة المركزية ومكتبات المعاهد العليا والكليات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض - مطابع الجامعة. 205 - الفهرست: محمد بن إسحاق بن النديم. بيروت - دار المعرفة - 1398 هـ / 1978 م. 206 - فهرسة ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع المعارف: أبو بكر محمد بن خير بن عمر الإشبيلي. ط / 2 - بيروت - منشورات المكتب التجاري - 1382 هـ. 207 - فهم القرآن: الحارث بن أسد المحاسبي. تحقيق: حسين القوتلي - ط / 3 - دار الكندي للطباعة والنشر، ودار الفكر - 1402 هـ، 1982 م. 208 - فوات الوفيات والذيل عليها: محمد بن شاكر الكتبي. تحقيق: إحسان عباس - بيروت - دار صادر - 1974 م. 209 - في سبيل موسوعة فلسفية (أرسطو): مصطفى غالب. بيروت - دار مكتبة الهلال - 1979 م. (ق) 210 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ابن تيمية. ط / 2 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1398 هـ. 211 - القرامطة: عبد الرحمن بن الجوزي. تحقيق: محمد الصباغ - ط / 2 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1388 هـ / 1968 م. 212 - القرامطة: محمود شاكر. ط / 1 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1399 هـ. 213 - قصة الفلسفة: و. ل. ديورانت. ترجمة: فتح الله محمد المشعشع - ط / 4 - بيروت - مكتبة المعارف - 1979 م. 214 - القصيدة النونية المسماة بالكافية الشافية - لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم - بيروت - دار المعرفة.
(ك)
215 - القضاء والقدر في الإسلام: فاروق أحمد الدسوقي. ط / 2 - بيروت - المكتب الإسلامي، 1406 هـ. 216 - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى. محمد بن صالح العثيمين - الرياض - مكتبة المعارف - 1405 هـ. (ك) 217 - الكافية في الجدل: عبد الملك الجويني. تحقيق: فوقية حسين محمود - القاهرة - مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه - 1399 هـ / 1979 م. 218 - الكامل في التاريخ. أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير - بيروت - دار صادر - 1402 هـ / 1982 م. 219 - كشاف اصطلاحات الفنون: محمد علي الفاروقي التهانوي. تحقيق: لطفي عبد البديع - القاهرة - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر 1382 هـ / 1963 م. 225 - الكشاف عن أبواب مراجع تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف. عبد الصمد شرف الدين - ط / 2 - بيروت - المكتب الإسلامي - الدار القيمة - 1403 هـ. 221 - كشاف القناع: منصور بن يونس بن إدريس البهوتي. مكة المكرمة - مطبعة الحكومة - 1394 هـ. 222 - كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة. نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - ط / 1 - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1399 هـ. 223 - كشف الخفاء ومزيل الألباس: إسماعيل بن محمد العجلوني. تعليق: أحمد القلاش - ط / 3 - بيروت - مؤسسة الرسالة. 224 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي المعروف بحاجي خليفة - دار الفكر - 1402 هـ / 1982 م. 225 - الكليات: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكغوى. ط / 2 - منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي - 1981 م.
(ل)
226 - الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية. مرعي بن يوسف الكرمي - تحقيق: نجم عبد الرحمن - ط / 1 - بيروت - دار الغرب الإسلامي - 1406 هـ. (ل) 227 - اللباب في تهذيب الأنساب: ابن الأثير الجزري. بيروت - دار صادر - 1400 هـ / 1980 م. 228 - لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور. بيروت - دار صادر. 229 - لسان الميزان: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. بيروت - ط / 2 - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - 1971 م / 1390 هـ. 230 - اللغة العبرية - قواعد ونصوص: رمضان عبد التواب. 231 - لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة. عبد الملك الجويني - تحقيق: فوقية حسين محمود - ط - / 1 - القاهرة - الدار المصرية للتأليف والنشر - 1385 هـ. 232 - اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع: أبو الحسن الأشعري. تعليق وتصحيح: حمودة غرابة. القاهرة - الهيئة العامة للمطابع الأميرية - 1975 م. 233 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضيئة في عقد الفرقة المرضية. محمد بن أحمد السفارييني - ط / 2 - دمشق - مؤسسة الخافقين ومكتبتها - 1402 هـ / 1982 م. (م) 234 - المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين: لسيف الدين الأمدي. تحقيق: د. حسن محمد الشافعي - القاهرة - 1403 هـ. 235 - متشابه القرآن: القاضي عبد الجبار أحمد الهمذاني. تحقيق: عدنان محمد زرزور - القاهرة - دار التراث. 236 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين. محمد بن حبان البستي - تحقيق: محمود إبراهيم زايد - ط / 1 - حلب - دار الوعي - 1396 هـ.
237 - مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري. من إملاء: أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك - تحقيق: دانيال جمارية - بيروت - دار المشرق. 238 - مجمع الأمثال: أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد - بيروت - دار المعرفة. 239 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: علي بن أبي بكر الهيثمي. ط / 3 - بيروت - دار الكتاب العربي - 1402 هـ / 1982 م. 240 - مجموع شذرات البلاتين من طيبات كلمات سلفنا الصالحين. الإمام أحمد - بتحقيق: محمد حامد الفقي. 241 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المشتمل على التسعينية والسبعينية وشرح العقيدة الأصفهانية وما يناسبها. أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - القاهرة - مطبعة كردستان العلمية - 1329 هـ - المجلد الخامس. 242 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم - ط / 2 - مصور عن الطبعة الأولى - بيروت - مطابع دار العربية - 1398 هـ. 243 - مجموعة الرسائل المنيرية: محمد أمين دمج. بيروت - 1970 م. 244 - مجموعة الرسائل والمسائل: أحمد عبد الحليم بن تيمية. ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1402 هـ / 1983 م. 245 - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين. فخر الدين محمد بن عمر الخطيب الرازي - مراجعة: طه عبد الرؤوف - القاهرة - مكتبة الكليات الأزهرية. 246 - المحصول في علم أصول الفقه. فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي - تحقيق طه جابر فياض العلواني - ط / 1، الرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - 1399 هـ / 1979 م. 247 - المحلى: لابن حزم. 248 - المحيط بالتكليف: للقاضي عبد الجبار بن أحمد. جمع: الحسن بن أحمد بن متوية - تحقيق: عمر السيد عزمي - القاهرة - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر.
249 - مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي. تحقيق لجنة من علماء العربية - بيروت - دار الفكر. 250 - المختار من كتاب الإبانة (مخطوط). ابن بطة أحمد بن علي الحنفي. 251 - مختصر الإبانة (الاختيارات): ابن بطة. مكتبة كوبريلي - تركيا - توجد صورة منه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - ميكروفيلم رقم 3854. 252 - مختصر التحفة الإثنى عشرية: الدهلوي. 253 - مختصر الخرقي من مسائل الإمام أحمد بن حنبل. أبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي - تحقيق: زهير الشاويش - ط / 3 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1403 هـ. 254 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية - اختصره محمد بن الموصلي - الرياض - مكتبة الرياض الحديثة. 255 - مختصر العلو للعلي الغفار: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. اختصار وتحقيق: محمد ناصر الدين الألباني - ط / 1 - دمشق المكتب الإسلامي - 1401 هـ / 1981 م. 256 - مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية. تأليف: أبي عبد الله محمد بن علي البعلي - تعليق: محمد حامد الفقي - باكستان - دار نشر الكتب الإسلامية 1398 هـ. 257 - مختصر المزني (ضمن كتاب الأم): محمد بن إدريس الشافعي. بيروت - دار المعرفة. 258 - مختصر منهاج السنة النبوية: أبي العباس أحمد بن تيمية. اختصار: محمد بن عثمان الذهبي - تحقيق: محب الدين الخطيب - القاهرة - المطبعة السلفية ومكتبتها - 1374 هـ. 259 - مختصر منهاج القاصدين. أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي - تحقيق: زهير الشاويش - ط / 6 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1405 هـ / 1985 م. 265 - مدارج السائلين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية - القاهرة - مطبعة السنة المحمدية - 1375 هـ / 1955 م.
261 - مذاهب الإسلاميين: عبد الرحمن البدوي. ط / 1 - بيروت - دار العلم للملايين - 1971 م. 262 - مروج الذهب ومعادن الجوهر. أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي - تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد - بيروت - دار المعرفة. 263 - مسائل الإمام أحمد: رواية إسحاق بن إبراهيم. 264 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري. ط / 1 - الهند - مطبعة دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد الدكن - 1334 هـ. 265 - المستصفى من علم الأصول: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي. بيروت - دار العلوم الحديثة. 266 - مسند الإمام أحمد بن حنبل. ط / 2 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1398 هـ / 1978 م. ط / 3 - شرح: أحمد محمد شاكر - نشر: دار المعارف - 1368 هـ. 267 - مسند أبي داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود. بيروت - دار المعرفة. 268 - مسند أبي يعلى الموصلي: الإمام الحافظ أحمد بن علي بن المثنى التميمي. تحقيق: حسين سليم أسد - دمشق - ط / 1 - دار المأمون للتراث - 1404 هـ. 269 - مسند الحميدي: أبو بكر عبد الله بن الزبير. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - بيروت - عالم الكتب القاهرة - مكتبة المثنى. 270 - المسند من مسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل. (مخطوط) رواية أبي بكر أحمد بن محمد الخلال. 271 - مسند الشافعي: محمد بن إدريس الشافعي. ترتيب: محمد عابد السندي - تصحيح ومراجعة: يوسف على الزواوي الحسني - بيروت - دار الكتب العلمية - 1951 م. 272 - مشكل الحديث وبيانه: أبو بكر محمد بن فورك. تحقيق: موسى محمد علي - القاهرة - دار الكتب الحديثة.
273 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي. أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي - بيروت - المكتبة العلمية. 274 - المصنف: أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - ط / 1 - بيروت - المكتب الإسلامي - 1390 هـ / 1970 م. 275 - الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار. عبد الله بن محمد بن أبي شيبة - تحقيق: عبد الخالق الأفغاني - ط / 2 - بومبي - الهند - الدار السلفية - 1399 هـ / 1979 م. 276 - المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (الموضوعات الصغرى). علي القاري الهروي - تحقيق وتعليق: عبد الفتاح أبو غدة - ط / 4 - القاهرة - مكتبة المطبوعات الإسلامية - 1404 هـ / 1984 م. 277 - المطالب العالية بزوائد مسانيد الثمانية: ابن حجر. 278 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد. حافظ بن أحمد الحكمي - الرياض - الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. 279 - معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول: ابن تيمية. حققه وخرج أحاديثه عبد العزيز رباح - مكتبة دار البيان - دمشق. 280 - المعارف. 281 - المعتمد في أصول الفقه: أبو الحسين محمد بن علي البصري. ط / 1 - بيروت - دار الكتب العلمية - 1403 هـ / 1983 م. 282 - المعجم الأوسط: لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق: محمود الطحان - ط / 1 - الرياض - مكتبة المعارف - 1405 هـ / 1985 م. 283 - معجم البلدان: أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي. بيروت - دار صادر - 1404 هـ / 1984 م. 284 - المعجم الصغير: لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. تصحيح ومراجعة: عبد الرحمن محمد عثمان - المدينة المنورة - المكتبة السلفية - 1388 هـ. 285 - المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية. جميل صليبا - بيروت - دار الكتاب اللبناني - 1979 م.
286 - المعجم الفلسفي: مجمع اللغة العربية. مصر - 1399 هـ / 1979 م. 287 - المعجم الكبير: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي - وزارة الأوقاف العراقية. 288 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث. 289 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. وضعه: محمد فؤاد عبد الباقي - بيروت - مؤسسة جمال للنشر. 290 - معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. تحقيق: عبد السلام محمد هارون - قم - إيران - دار الكتب العلمية. 291 - معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة. بيروت - مكتبة المثنى. 292 - المعجم الوسيط: إبراهيم أنيس وآخرين. بيروت - دار الفكر. 293 - المعرفة والتاريخ: أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي. رواية: عبد الله بن جعفر - تحقيق: أكرم ضياء العمري. ط / 2 - بيروت - مؤسسة الرسالة - 1401 هـ. 294 - معمر بن راشد الصنعاني - مصادره - منهجه - وأثره في رواية الحديث: د. محمد رأفت سعيد. ط / 1 - الرياض - عالم الكتب - 1403 هـ / 1983 م. 295 - المغازي: محمد بن عمر الواقدي. تحقيق: مارسدن جونس - بيروت - عالم الكتب. 296 - المغني: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة. على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي - الرياض - مكتبة الرياض الحديثة. 297 - المغني في أبواب التوحيد والعدل. القاضي أبي الحسن عبد الجبار الأسد آبادي - تحقيق: محمد مصطفى حلمي، أبو الوفا الغنيمي وآخرون - القاهرة - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر - الدار المصرية للتأليف والترجمة. 298 - المفردات في غريب القرآن. الحسين بن محمد، المعروف بالراغب الأصبهاني.
299 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين. أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد - ط / 2 - القاهرة - مكتبة النهضة المصرية - 1389 هـ / 1969 م. 300 - المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل. عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي - ط / 3 - الرياض المؤسسة السعيدية. 301 - الملل والنحل: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني - تحقيق - محمد سيد كيلاني - ط / 2 - بيروت دار المعرفة - 1395 هـ / 1975 م. 302 - مناقب الإمام أحمد بن حنبل: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي - ط / 1 - مصر مكتبة الخانجي - 1399 هـ / 1979 م. 303 - المنتخب من مسند عبد بن حميد. تحقيق: سالم بن عبد الله الدخيل - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - رسالة دكتوراه - 1405/ 1406 هـ طبع على الآلة الكاتبة. 304 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: ابن الجوزي. ط / 1 - الهند - مطبعة دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد الدكن - 1357 هـ. 305 - منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب. عبد العزيز بن حمد بن ناصر آل معمر - ط / 3 - الطائف دار ثقيف للنشر والتأليف. 306 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - الرياض - مكتبة الرياض الحديثة. 307 - المنهج الأحمد في تراجم الإمام أحمد. أبو اليمن عبد الرحمن بن محمد العليمي - تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد - ط / 1 - بيروت - عالم الكتب - 1403 هـ / 1983 م. 308 - منهج النقد في علوم الحديث: نور الدين عتر. ط / 3 - بيروت - دار الفكر - 1401 هـ. 309 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. أبو العباس أحمد بن علي المقريزي - بيروت - دار صادر. 310 - المواقف في علم الكلام: عبد الرحمن بن أحمد الأيجي. بيروت - الكتب.
(ن)
311 - الموضوعات: لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان - ط 2 - بيروت - دار الفكر للطباعة والنشر - 1403 هـ 1983 م. 312 - الموطأ: مالك بن أنس. صححه وخرج أحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي - القاهرة كتاب الشعب. 313 - ميزان الاعتدال: أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي. تحقيق: علي محمد البجاوي - ط / 1 - بيروت - دار المعرفة للطباعة والنشر - 1382 هـ / 1963 م. (ن) 314 - النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة. تأليف: جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي - مصورة عن طبعة دار الكتب - توزيع دار القلم - القاهرة. 315 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر: ابن حجر العسقلاني. بيروت - دار الكتب العلمية - 1401 هـ. 316 - نشاة الأشعرية وتطورها: جلال محمد موسى. بيروت - دار الكتاب اللبناني - 1982 م. 317 - نصحية أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان. أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - بيروت - دار الكتب العلمية. 318 - نقض المنطق: ابن تيمية. تحقيق: محمد بن عبد الرازق، وسليمان بن عبد الرحمن الصنيع - القاهرة - مكتبة السنة المحمدية. 319 - النهاية. لأبي الفداء إسماعيل بن كثير. تحقيق الدكتور محمد الشربيني. ط 1 - 1389 هـ. دار الكتب الحديثة. 320 - نهاية الإقدام في علم الكلام. أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني - مكتبة زهران. 321 - نهاية العقول في دراية الأصول: فخر الدين الرازي. أحمد الثالث - 1874 م - علم الكلام تركيا (مخطوط). 322 - النهاية في غريب الحديث والأثر. أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير. تحقيق: محمود محمد الطناحي، وطاهر أحمد الزاوي - باكستان - أنصار السنة المحمدية.
(هـ)
(هـ) 323 - هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون. إسماعيل باشا البغدادي - بيروت - دار الفكر - 1402 هـ / 1982 م. (و) 324 - الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أبيبك الصفدي. ط / 2 - فيسبادن - دار النشر فرانز شتاينر - 1381 هـ / 1962 م. 325 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان. بيروت - دار صادر - 1398 هـ / 1978 م. ***