التفسير اللغوي للقرآن الكريم
مساعد الطيار
التفْسِيرُ اللُّغَوِيُّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مساعد بن سليمان بن الطيار، 1421هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الطيار، مساعد بن سليمان بن ناصر التفسير اللغوي للقرآن الكريم. ـ الرياض. 734 ص؛ 17 × 24سم ردمك: 1 - 682 - 38 - 9960 1 - القرآن ـ التفسير الحديث 2 - القرآن النحو 3 - القرآن ـ الصرف ت اعنوان ديوي 277.366 4609/ 21 رقم الإيداع: 4609/ 21 ردمك: 1 - 682 - 38 - 9960 جميع الحقوق محفوظة 1432هـ التفْسِيرُ اللُّغَوِيُّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيَّار الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض دار ابن الجوزي
التفْسِيرُ اللُّغَوِيُّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مساعد بن سليمان بن الطيار، 1421هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الطيار، مساعد بن سليمان بن ناصر التفسير اللغوي للقرآن الكريم. ـ الرياض. 734 ص؛ 17 × 24سم ردمك: 1 - 682 - 38 - 9960 1 - القرآن ـ التفسير الحديث 2 - القرآن النحو 3 - القرآن ـ الصرف ت اعنوان ديوي 277.366 4609/ 21 رقم الإيداع: 4609/ 21 ردمك: 1 - 682 - 38 - 9960 جميع الحقوق محفوظة 1432هـ 2011م ممم سنة الطبعة دي مش عارف جابها منين اللي عامل الكتاب ده ويا دكتور أنا مش عارف السنة الميلادي للطبعة ممم التفْسِيرُ اللُّغَوِيُّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيَّار الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض دار ابن الجوزي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أنزل خير كتبه على خير رسله، وجعله بلسان عربي مبين، والصلاة والسلام على النبي الأمي العربي، وعلى الآل والصحب الكرام، وعلى التابعين لهم إلى يوم الدين، أما بعد: فإن من سنة الله سبحانه أن يرسل الرسول بلسان قومه، وينْزل عليهم الكتاب بلسانهم، ليفهموا عن الله خطابه ومراده، فيؤمنون به ويصدقونه، ولو كان بغير لغتهم لاحتاجوا إلى ترجمان يبين لهم. ولما كان الأمر كذلك، كانت لغة العرب من أهمِّ المصادر وأوثقها في معرفة كلام الله تعالى، وكان من أهمِّ ما فيها ـ وهو من بدايات علم التفسيرِ ـ معرفة دلالات الكلامِ [أي: معاني الألفاظ] التي يدور عليها كثيرٌ من علمِ التَّفسيرِ، ليُعرفَ المرادُ بالخطابِ. وهذا مما لا يسع الجهل به لمن أراد علم التفسير، وبيان معنى كلام الله الخبير، إذ لزاماً عليه أن يعرف مدلولات الألفاظِ، ويستشرح معانيها من مصادرها المعتمدةِ. من رام معرفة مدلولاتها من غير لغته، أو اعتمد معاني محدثة أو مولَّدة أو مصطلحاتٍ ليست من لغته = كان من أهل التَّحريفِ والزَّيغِ؛ كمن فسَّر «استوى» بأنه «استولى»، ولست تجد هذا المعنى محكيًّا عن العربِ، أو من فسَّرَ الذَّرَّةَ الواردة في القرآن على أنها الذَّرَّةُ التي يحكيها علماء الفيزياء والكيمياء. واللغةُ سدٌّ منيع لمن أراد أن يفسِّر كلام الله بما لا يعرفُ معناه إلاَّ
خواصُّ من الناس كما يزعم كثيرٌ من الغلاة من الروافض والباطنية والصوفيَّةِ والفلاسفةِ وغيرهم، فمن أورد معنى لا تعرفه العرب كان ذلك مما يدلُّ على بطلانه، إذ المعاني محدودة محصورةٌ، ومدونة مشهورة، لا يمكن أن يزاد فيها ما ليس منها (¬1)، فمن فسَّر الحجارةَ بالبَرَدِ، لزمه صحةُ النقلِ عن العربِ في أنهم يطلقون هذا على هذا، وإلا رُدَّ قوله ولم يُقبلْ. وبهذا تكون اللغة التي ثبتت حتى عصر الاحتجاج بنقل العدول من علماء التفسير واللغة وغيرهم = هي اللغة التي يُرجع إليها في تفسير كلام الله، وما عداها لا يُعتمدُ عليه، ولا يوثق به. وإذا تأمَّلت تفسيرَ القرآنِ في الآثارِ المنقولةِ عن الصحابة أو التَّابعين أو أتباعهم، وفرزت كلَّ نوع من هذه الآثار المنقولةِ، فإنَّك ستجد ما كان مرجعه اللغة له الحظُّ الأوفرُ، والنَّصيبُ الأكثرُ. بل ستجدُ أنَّ تعدُّدَ مدلولاتِ لفظٍ من ألفاظِ القرآنِ في لغةِ العربِ كان سبباً في اختلافِ المفسرينِ، فمنهم من اجتهد رأيه واعتمد معنًى، ومنهم من اجتهد رأيه واعتمد معنًى آخر، وكلاهما كان معتمده الأول ورود هذا المعنى في لغة العربِ، ثمَّ صحَّةُ حمل هذا اللفظِ على الآيةِ. وشرح هذا وغيره مكانه هذه الرِّسالةُ التي بين يديك. ولما كان الأمرُ في هذا المصدر المؤثِّرِ في التفسير ما ذكرتُ لك طرفاً منه، فإنِّي قد عمدت إلى هذا الموضوعِ الطويلِ، واستلبتُ منه أطرافاً رأيت أنها جديرةٌ بالبحثِ والتَّحريرِ، فكان منها: التفسيرِ اللغوي عند السلفِ وعند اللغويين، ومكانة التفسير اللغوي، ومصادره، وآثار تعدد مدلولات اللفظ في ¬
اللغة في اختلاف المفسرين، واتخاذ المبتدعة هذا التعدد في دلالات الألفاظ أداة لإثبات بعض تحريفاتهم وأخطائهم، وغيرها من المسائل التي تتعلق بالتفسير اللغوي. وهذا الموضوع؛ أي: التفسير اللغوي، طويل جدًّا، لا تحويه مثل هذه الرسالة، لتعدد جوانبه، وكثرة تشعباته، ووفرة معلوماته ومصادره، فقد ينفتح لبعض الناس من أبوابه ما لا ينفتح للآخر، وكلها تدخل تحت مسمى التفسير اللغوي، فليست تسميتي له بهذا العنوان دالَّة على استقصاء جوانبه كلِّها، ولا هي مثبِّطةٌ من أراد أن يبحث فيه؛ إذ في البحث فيه متسعات لا متَّسع. ولعل من المعلوم لدى الباحثين أن من أراد الكتابة في موضوع كثير الذيول لا يمكنه أن يصل في كل مسائله إلى كل شيء، بل قد يَغفلُ عما يراه غيره أولى وأفضل، ويَعْيَا عما يجب أن يُكتب فيه ويُكمل، ويُنقِصُ في مكان بسبب تزاحم المسائل عليه. وكلما كان البحث محدَّداً دقيقاً في مسائل يمكن استجلابها وتحريرها بعينها دون الدخول في تفصيلات ـ ولو كانت من عيون مسائل الموضوع العامِّ ـ كان الوصول إلى تحقيق هذه المعلومات أحرى وأجدى. وكم من بحث يَصِلُ صاحبُه إلى الكَلال عند صُلبِ موضوعِه بسبب انشغاله بالنَّقل والتَّكميل لموضوع سبقه إليه السابقون، وحرَّره العارفون، فإذا وصل إلى ما هو من صلب بحثه وصميمه، ضعفت همَّتُه، وكلَّ قلمه، واعتلَّ تفكيرُه، فكان يرقِّعُ لئلا تبلغه مدَّة انتهاء البحث، فيخرجُ بحثاً ذا عورٍ، لا يَشفي مبتغيه، ولا يُرضي مُبْتَليه، وصاحبه إلى أن يتبرَّأ منه أحبُّ إليه من أن يَقتنيه، فضلاً عن أن ينسبه إليه ويدَّعيه. لذا كان من أكبر العقبات التي في هذا البحث كثرةُ المسائل المتشعِّباتِ، واحتياجُها إلى التفكير والتنقيب والتحرير، ففي هذا البحث مسائل لم يُسبق إلى بحثها.
والمقصود أن يُرام في البحوث التَّحديد، وأن لا يكون طول البحوث مراداً على كيفيَّتها والقدرة على تحريرها، وأن يكون البحثُ ـ ولو كان قصيراً ـ معتَبراً بما قدَّم من جديدٍ في التأليف وحسن التصنيفِ من جمع متفرِّقٍ مفيدٍ، أو ابتكار معلومٍ جديدٍ، أو اعتراضٍ على خطأ منتشر، أو غيرها مما هو داخل في حيِّزِ الابتكار، خارجٍ عن النقل والرَّصفِ والتكرارِ بلا عقلٍ ولا رأي. هذا .. وقد بحثتُ في حيثيَّةِ كونِ اللُّغةِ مصدراً من مصادرِ التَّفسيرِ = جملةً من المسائلِ، منها: * كيفَ كان التَّفسيرُ بها؟ * كيف اعتمدها السَّلفُ واللُّغويُّون، وما مصادرُ من أرادَ الاستفادةَ من تفسيرِ القرآنِ باللُّغةِ. * ما ضوابطُ التَّفسيرِ بها عند الاحتمالِ؟. * مسألةُ تفسيرِ السَّلفِ ومدى الاستفادةِ منه في البحثِ اللغويِّ، وكنت أظنُّ أن أجد لأعلامِ المفسِّرينَ ذكراً كثيراً في كتبِ اللُّغةِ كما هو الحالُ في ذكرِ أعلامِ اللُّغويِّينَ، ولكن من خلالِ ما قرأته من كتب اللغة وجدت أنَّه لم يكن لكثير من اللُّغويينَ عناية بنقل تفسيرِ السَّلفِ، ولم يعتمدوا عليه في بيان مدلولاتِ ألفاظِ اللُّغةِ، ولا في بيان الألفاظِ القرآنيةِ التي يفسِّرونها. * لماذا ارتبطَ التفسيرُ اللُّغويُّ باللُّغويِّينَ، وصارَ الفرَّاء (ت:207)، وأبو عبيدة (ت:210) وغيرهما المقدَّمينَ فيه، وأُغفلَ تفسيرُ السَّلفِ اللغويِّ؟ * لو اعترضَ لغويٌّ على تفسيرِ أحدِ السَّلفِ من جهةِ اللُّغةِ، فأيهما يقدَّمُ؟ أيقدَّمُ قولُ اللُّغويِّ؛ لأنَّه صاحبُ تخصُّصٍ، أم يقدَّمُ قولُ الواحدِ من مفسِّريِّ السَّلف؛ لأنهم أهل اللغةِ وفي عصر الاحتجاج؟
إلى غير ذلك من المسائلِ التي ستجدها مسطَّرةً في هذا البحثِ. ولقد كانت الفكرةُ الأولى أن أطرح هذه المسائلِ من خلالِ كتابٍ من كتبِ اللُّغةِ، بحيثُ أجعلُها مقدمةً للبحثِ في تفسيرِ لغويٍّ من اللُّغويِّين، أجمعُ أقوالَه في التَّفسيرِ وأدرسها، وبهذا يتسنَّى لي بحثُ بعضِ هذه المسائلِ، فرأيتُ أن أجمع تفسيرَ أبي بكر محمد بن القاسم بن بشَّار الأنباريِّ (ت:328)، وقدَّمتُ له ببعضِ هذه الأفكارِ التي كانت تراودني في موضوع التَّفسيرِ اللغويِّ، وعرضتُ هذا الموضوعَ بعد جمعه، على الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشَّايع إبَّان رئاستِه لقسم القرآنِ وعلومه عام (1416)، فأشارَ عليَّ أن أبسُطَ البحثَ في البابِ الذي جعلتُه في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، وأن أتركَ جمع تفسيرِ ابن الأنباريِّ (ت:328)، فأخذتُ برأيه، واستعنتُ اللهَ على هذا الموضوعِ، وسمَّيتُه: التَّفسيرُ اللغويُّ للقرآنِ الكريم خِطَّةُ البَحثِ: هذا البحث مكوَّنٌ منْ: 1 - المقدمة. 2 - أبوابُ الرسالةِ، وهي: البابُ الأولُ: التفسير اللغوي مكانتُهُ ونشأتُه وفيه ثلاثةُ فصولٍ: الفصل الأول: التفسيرُ اللغويُ ومكانته. وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف التفسير اللغوي. المبحث الثاني: مكانة التفسير اللغوي. الفصل الثاني: نشأة التفسير اللغوي.
وفيه: أولاً: التفسير اللغوي عند السلف. ثانياً: التفسير اللغوي عند اللغويين. الفصلُ الثالث: مسائل في نشأة التفسير اللغوي. الباب الثاني: مصادر التفسير اللغوي وفيه: 1 - كتب التفسير. 2 - كتب معاني القرآن. 3 - كتب غريب القرآن. 4 - كتب معاجم اللغة. 5 - كتبٌ أخرى. الباب الثالث: آثار التفسير اللغوي وقواعده وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: أثر التفسير اللغوي في اختلاف المفسرين. الفصل الثاني: أثر التفسير اللغوي في انحراف المفسرين. الفصل الثالث: قواعد في التفسير اللغوي. أولاً: كل تفسير لغوي ثابت عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين. ثانياً: إذا ورد أكثر من معنى لغويٍّ صحيحٍ تحتملُه الآيةُ، جازَ تفسير الآية بها. ثالثاً: لا يصح اعتماد اللغة وحدها دون غيرها من المصادر التفسيرية. رابعاً: لا تعارض بين التفسير اللغوي والتفسير على المعنى. 3 - الخاتمة، وأذكر فيها أهم النتائج. 4 - الفهارس الفنية للبحث.
منهج البحث: أولاً: خرَّجتُ الآياتِ، وجعلتُها بين هذين المعقوفين []، سواءً أكانت الآيةُ من نصٍّ منقولٍ، أم كانت من استشهادي ابتداءً. ثانياً: خرَّجتُ الأحاديث النبوية، وإن كان في أحد الصحيحين اكتفيت به غالباً. ثالثاً: عزوتُ الأشعارَ، وإذا كان الشِّعرُ في الديوان، اكتفيت بالعزو إليه. رابعاً: عرَّفت أغلبَ الأعلامِ من كتب التراجم، وقد أذكرُ فائدةً في ترجمة العلمِ وجدتها في كُتبِ التَّفسيرِ، وهي غيرُ مدوَّنةٍ في مصادرِ ترجمتِه. وحرصت على إتباعِ كلِّ علمٍ بسنة وفاتِه، وجعلتها بين قوسين صغيرين () في كلِّ مواطن ورودِ العلم، لما رأيت في ذلك من الفائدة في ترتيبهم حسب الوفيات من استقرارِ ذلك في الذهن، ومعرفةِ من سبق بالمعلومةِ منهم. وإذا كان العلم في نصٍّ منقولٍ لم أذكر سنة وفاتِه، إلاَّ أن ينصَّ عليها المنقول عنه. كما قد تختلفُ الأقوالُ في ذكر سنة وفاةِ العَلَمِ، فأذكرُ أحد الأقوالِ، وأسيرُ عليه في البحثِ ما أمكن، وإن وقع عند اختلاف في ذكر سنة الوفاة بين موطن وموطن في هذا البحث، فإنه بسبب ذلك الاختلاف في سنة وفاته؟، وليس قصيداً منّي أن أذكر هذا الاختلاف في بعض المواطن، مع ملاحظةِ التقارب في الخلافِ بين سنوات الوفاة المختلفِ فيها، ولذا لم أذهبْ إلى تحقيقِ سنةِ وفاةِ كلِّ واحدٍ منهم، لعدم الحاجة إلى ذلك في هذا البحثِ. والتزمت عدم الإشارة إلى التاريخ الهجري بعلامة (هـ)، إلا أن يكون نصًّا منقولاً.
خامساً: في حالِ إرجاعِ المعلومة إلى معاجم اللغة سلكت الآتي: إن كان المعجم مرتَّباً على الحروفِ، واضحَ الترتيبِ، سواءً أكان على ترتيب الألفبائي، أم الترتيب على آخر الكلمة، أرجعتُ إلى مادة الكلمةِ. وإن كان غير ذلك ـ كما في كتاب «العين» و «الجمهرة» و «تهذيب اللُّغةِ» و «مقاييس اللغةِ» ـ أرجعتُ إلى الجزءِ والصفحةِ، لصعوبة الوصول إلى المادةِ، بسبب صعوبة الترتيبِ في هذه الكتبِ. سادساً: لما كان موضوع اللُّغةِ في التفسيرِ طويلاً، فإنِّي حرصتُ على أن تكونَ الدراسةُ في نشأة التفسير اللغويِّ ومصادرِه في بدايةِ فترةِ التَّدوينِ اللُّغويِّ؛ لأنَّ غالبَ من جاء بعد هذه المرحلةِ ناقلٌ منها، ولذا حرصتُ على دراسةِ الكتبِ التي كانت في هذه المرحلةِ، فإن لم أجدْ نزلتُ إلى ما بعدها، وجعلتُ الدراسة في ثلاثةِ كتبٍ من كلِّ مصدرٍ من المصادرِ التي قسَّمتُها. سابعاً: جعلتُ هذه الدراسة منصبَّةً على ما له أثرٌ في التَّفسيرِ، وظهرَ لي أنَّ أغلبَ ذلكَ كان في دلالةِ الألفاظِ، وإن كُنتُ ألممتُ بشيءٍ من دلالةِ الصِّيَغِ، وشيءٍ من الأساليبِ العربيةِ كما درسَها المتقدمون من اللُّغويينَ، والتي تشكَّلَ منها ـ فيما بعدُ ـ علمُ البلاغةِ، وذلك نظراً لأثرِها في المعنى. وحرصتُ على بسطِ الأمثلةِ، لتوضيحِ الفكرةِ (¬1)، كما حرصتُ على ألاَّ أُكثِرَ مما لا أثرَ له من اللُّغويَّاتِ، ولأجلِ هذا تجنَّبتُ الاستطرادَ، وإن كان ثمةَ فوائد ذكرتها في الحاشيةِ، ولم أكثر منها لخروجها عن موضوع البحث. ثامناً: لم ألتزم ـ في الغالب ـ إيرادَ ألقابِ العلماءِ أو التَّرَحُّمَ عليهم، رحمهم اللهُ، وليس ذلك من تنقُّصٍ، وإنما التزامُ ذلك يطولُ ويصعبُ، أسألُ الله لهم المغفرةَ والرحمةَ. أشكرُ كلَّ من كان له عونٌ لي في هذا البحثِ صغيراً كان جهده أم ¬
كبيراً، وأسأل الله لهم أحسن الجزاء، وأن يوفقهم في الدارين، إنه سميع مجيب (¬1). وأخيراً، فما كان في هذا البحث من صوابٍ، فمن اللهِ عزّ وجل، وما كان فيه من خطأ أو زللٍ، فمن نفسي ومن الشيطانِ، وأستغفرُ اللهَ منه، وحسبي أني بذلت جهدي ووسْعي. وأسألُ اللهَ سبحانَهُ أنْ يُوفِّقني للعمل الصالحِ، وأنْ يجعلَ عملي نافعاً لي ولمن يطَّلِعُ عليه، وأنْ يُسدِّدني في كلِّ قولٍ وعملٍ، وآخر دعواي أن الحمد لله ربِّ العالمين. ¬
الباب الأول التفسير اللغوي: مكانته ونشأته
الباب الأول التفسير اللغوي: مكانته ونشأته وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: التفسير اللغوي ومكانته. الفصل الثاني: نشأة التفسير اللغوي. الفصل الثالث: مسائل في نشأة التفسير اللغوي.
الفصل الأول التفسير اللغوي ومكانته
الفصل الأول التفسير اللغوي ومكانته وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف التفسير اللغوي. المبحث الثاني: مكانة التفسير اللغوي.
المبحث الأول تعريف التفسير اللغوي
المبحث الأول تعريفُ التَّفسير اللُّغويِّ قبلَ الولوجِ في تعريفِ مصطلحِ «التَّفسيرِ اللُّغويِّ»، يحسنُ تعريفُ هاتينِ المفردتينِ قبلَ الإضافةِ؛ لكي يكون هذا التعريفُ للمفردتينِ مدخلاً يوضِّحُ المرادَ بمصطلحِ التَّفسير اللُّغويِّ. أولاً: تعريف التفسير: التفسير لغةً: التَّفسيرُ: تفعيلٌ من الفَسْرِ، وأصلُ مادَّتِه اللُّغوية تدلُّ على بيانِ شيءٍ وإيضاحِه (¬1)، ولذا قيلَ: الفَسْرُ: كَشفُ المغطَّى (¬2). وقيلَ: هو مأخوذٌ من قولِهم: فَسَرْتُ الحديثَ، أفسُرُهُ فَسْراً؛ إذا بيَّنتُه ¬
وأوضحتُه. وفَسَّرْتُهُ تفسيراً: كذلك (¬1). والأشهرُ في الاستعمالِ: فَسَّرَ تفسيراً، بتشديدِ حرفِ السِّينِ في الماضي، وبه جاءَ القرآنُ، كما قالَ تعالى: {وَلاَ يَاتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]. قالَ مجاهد (ت:104) (¬2) في تفسير هذه الآية: «{وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}: بياناً» (¬3). ومن الألفاظِ التي تُستخدمُ للدلالةِ على التَّفسيرِ، لفظُ التأويلِ ولفظُ المعنى. قالَ ابنُ الأعرابيِّ (ت:231) (¬4): «التفسيرُ والتأويلُ والمعنى؛ واحدٌ» (¬5). فإذا قال مفسِّرٌ: «معنى هذهِ الآيةِ كذا» (¬6)، أو قال: «تأويلُ هذه ¬
التفسير اصطلاحا
الآيةِ كذا» (¬1)؛ فإنَّ المرادَ بهاتينِ العبارتينِ: تفسيرُها. هذا، وقد استخدمَ إمامُ المفسِّرينَ ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ (ت:309) (¬2) مصطلحَ التأويلِ بمعنى: التفسيرِ، في عنوانِ كتابِه: «جَامِعِ البَيَانِ عَنْ تَأوِيلِ آيِ القُرْآنِ»، كما أنه يُطلِقُ على أهلِ التَّفسيرِ: أهلَ التَّأويلِ، ويترجم لكل مقطعٍ من الآياتِ بقوله: «القول في تأويل قوله تعالى». التفسير اصطلاحاً: اختلفتْ عباراتُ المعرِّفينَ لمصطلحِ التفسيرِ، وكان فيها توسُّعٌ أو اختصارٌ، وممن عرَّفه: * ابن جُزَيّ (ت:741) (¬3)، قالَ: «معنى التَّفسيرِ: شرحُ القرآنِ، وبيانُ معناه، والإفصاحُ بما يقتضيه بنصِّه أو إشارَتِه أو نجواه» (¬4). * وعرَّفَهُ أبو حيان (ت:745) (¬5)، فقال: «التفسيرُ: علمٌ يُبحثُ فيه عن ¬
كيفيةِ النطقِ بألفاظِ القرآن، ومدلولاتِها، وأحكامِها الإفراديَّةِ والتركيبيَّةِ، ومعانيها التي تُحمَلُ عليها حالَ التركيبِ، وتتماتُ ذلك. فقولنا: «علم»: هو جنسٌ يشملُ سائرَ العلومِ. وقولنا: «يُبحثُ فيه عن كيفيَّةِ النُّطقِ بألفاظِ القرآنِ»: هذا علمُ القراءاتِ. وقولنا: «ومدلولاتها»، أي: مدلولاتِ تلك الألفاظِ، وهذا علمُ اللُّغةِ الذي يُحْتاجُ إليه في هذا العلمِ. وقولنا: «وأحكامها الإفرادية والتَّركيبية»: هذا يشملُ علمَ التَّصريفِ، وعلمَ الإعرابِ، وعلمَ البيانِ، وعلمَ البديعِ. «ومعانيها التي تحمل عليها حال التَّركيب»: شملَ بقوله: «التي تحمل عليها»: ما لا دلالةَ عليه بالحقيقةِ، وما دلالته عليه بالمجازِ، فإنَّ التَّركيبَ قد يقتضي بظاهره شيئاً، ويصدُّ عن الحملِ على الظَّاهرِ صادٌّ، فيحتاج لأجل ذلك أن يُحملَ على غيرِ الظَّاهرِ، وهو المجازُ. وقولنا: «وتتمات ذلك»: هو معرفةُ النَّسخِ، وسببُ النُّزولِ، وقصةٌ توضِّحُ ما انبهمَ في القرآنِ، ونحوُ ذلك» (¬1). * وعرَّفه الزَّرْكَشِيُّ (ت:794) (¬2) في موضعينِ من كتابِه البرهانِ في علوم القرآن، فقالَ في الموضعِ الأوَّلِ: «علمٌ يُعرفُ به فَهْمُ كتابِ اللهِ المنَزَّلِ على نبيه محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وبيانُ معانيه، واستخراجُ أحكامِه وحِكَمِهِ» (¬3). ¬
وعرَّفه في الموضعِ الثاني، فقال: «هو عِلْمُ نُزولِ الآيةِ وسورتِها وأقاصيصِها والإشاراتِ النَّازلةِ فيها، ثُمَّ ترتيبُ مكِّيِّها ومدنِّيها، ومحكمِها ومتشابِهها، وناسخِها ومنسوخِها، وخاصِّها وعامِّها، ومطلقِها ومقيدِها، ومجملِها ومفسرِها. وزادَ فيه قومٌ، فقالوا: علمُ حلالِها وحرامِها، ووعدِها ووعيدها، وأمرِها ونهيِها، وعِبَرِها وأمثالِها» (¬1). * وقال ابنُ عَرَفَةَ المالكي (ت:803) (¬2): «... هو العلمُ بمدلولِ القرآنِ وخاصِّيَةِ كيفيةِ دلالتِه، وأسبابِ النُّزولِ، والنَّاسخِ والمنسوخِ. فقولنا: خاصيةِ كيفيَّةِ دلالتِه: هي إعجازُه، ومعانيه البيانيَّةُ، وما فيه من علمِ البديعِ الذي يذكره الزَّمَخْشَرِيُّ (¬3)، ومن نحا نحوه» (¬4). * وقال الكَافِيجِيُّ (ت:879) (¬5): «وأمَّا التَّفسيرُ في العُرْفِ، فهو كشفُ معاني القرآنِ، وبيانُ المرادِ. ¬
والمرادُ من معاني القرآنِ أعمُّ، سواءً كانت معاني لغويَّةً أو شرعيَّةً، وسواءً كانت بالوضعِ أو بمعونةِ المقامِ وسَوْقِ الكلامِ وبقرائنِ الأحوالِ؛ نحو: السَّماء والأرض والجنَّة والنَّار، وغير ذلك. ونحو: الأحكام الخمسة. ونحو: خواصِّ التَّركيب اللازمة له بوجه من الوجوه» (¬1). * وقال محمَّد الطَّاهر بن عاشور (ت:1393) (¬2): «التَّفسير ... : اسمٌ للعِلْمِ الباحثِ عن بيانِ معاني ألفاظِ القرآنِ، وما يستفاد منها، باختصارٍ أو توسعٍ» (¬3). * وقال عبد العظيم الزُّرْقَانِيُّ: «علمٌ يُبحَثُ فيه عن القرآنِ الكريمِ من حيثُ دلالتُه على مرادِ اللهِ بقدرِ الطاقةِ البشريَّةِ» (¬4). * وقال منَّاع القطَّان: «بيانُ كلامِ اللهِ المنَزلِ على محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم. فبيانُ كلامِ اللهِ ـ هذا المركَّبُ الإضافيُّ ـ: يُخرِجُ بيانُ كلامِ غيرِ اللهِ من الإنسِ والجنِّ والملائكةِ. والمنَزَّلُ: يُخرِجُ كلامَ اللهِ الذي استأثرَ به سبحانَه. ¬
تحليل هذه التعريفات
وتقيِيد المُنَزَّلِ بكونِه «على محمَّد صلّى الله عليه وسلّم»: يُخرَجُ به ما أُنزِلَ على الأنبياءِ قبله؛ كالتَّوراةِ والإنجيلِ» (¬1). * وقال محمد بن صالح بن عُثَيمِين: «بيان معاني القرآن الكريم» (¬2). تحليل هذه التعريفات: 1 - يلاحظُ أنَّ بعضَ أصحاب هذه التَّعريفات نظرَ إلى جملةِ العلومِ التي تسْتَبْطِنُها كتبُ التَّفسيرِ، ولكثرتِها، فإنَّه لا يُتمكَّنُ من حصرِها وعدِّها كلِّها في التَّعريفِ، فجاءتْ في بعضِ التَّعريفات مثالاً لهذه الموضوعاتِ، وهذا ليس فيه تحديدٌ دقيقٌ لعلمِ التَّفسيرِ، ويظهرُ هذا واضحاً في تعريفِ أبي حيَّانَ الأندلسيِّ (ت:745) والزَّرْكَشِيِّ (ت:794). 2 - ويلاحظُ أنَّ بعضَهم ذَكَرَ ما ليس من علمِ التَّفسيرِ؛ كقولِ أبي حيَّانَ الأندلسيِّ (ت:745): «وقولنا: يُبحثُ فيه عن كيفيةِ النُّطقِ بألفاظِ القرآنِ: هذا علمُ القراءاتِ» (¬3). ومعلومٌ أنَّه ليس من مُهِمَّةِ المُفَسِّرِ بيانُ كيفيَّةِ النُّطقِ بألفاظِ القرآنِ، إذ هذا من مُهِمَّةِ مقرئ القرآنِ. وإنما يتعلقُ بالتَّفسيرِ من هذا العلمِ ما كان له أثرٌ في اختلافِ المعنى؛ مثلُ الاختلافِ في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، حيثُ قُرِئَ: «بِضَنِين» و «بِظَنِين»، فمن قرأ: «بضنين»، فمعناه: ما هو ببخيل. ومن قرأ: «بظنين»، فمعناه: ما هو بمتَّهم (¬4). ¬
أمَّا ما يتعلقُ بالأداءِ في القراءاتِ؛ كالإمالةِ، والتَّقليلِ، والهمزةِ، والإدغامِ، وغيرِها، فإنَّه لا أثرَ لها في التَّفسيرِ، ومن ثَمَّ، فهي ليست من علومِ التَّفسيرِ التي يحتاجها المفسِّرُ. 3 - كما يلاحظُ أنَّ بعضَ العلومِ المذكورةِ لم يُذكَرْ لها ضابطٌ فيما يدخلُ منها وما لا يدخلُ في التَّفسيرِ. ومن العلومِ ـ مثلاً ـ علمُ الأحكامِ (أي: علم الفقه)، وليس كلُّ ما ذُكِرَ منه في كتبِ التَّفسيرِ داخلاً في مصطلحِ التَّفسيرِ؛ لأنَّ بعضَ المفسِّرينَ يتوسَّعونَ في ذكرِ المسائلِ المتعلِّقةِ بموضوعِ الحكمِ الشَّرعيِّ الذي نَصَّتْ عليه الآيةُ، وهذا التَّوسُّعُ محلُّه كتبُ الفقهِ، وليسَ كتبَ التَّفسيرِ، وقد أشارَ إلى ذلك بعضُ المفسِّرينَ، منهم: * الطبريُّ (ت:310)، قال في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنَّ اللهَ تعالى ذكرُه حرَّمَ قتلَ صيدِ البرِّ على كلِّ مُحْرِمٍ في حالِ إحرامِه ما دام مُحرِماً بقولِه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95]، ثمَّ بيَّنَ حكمَ من قتلَ ما قتلَ من ذلكَ في حالِ إحرامِه مُتعمِّداً لقتلِه، ولم يُخصِّص به المتعمِّدَ قتلَه في حالِ نسيانِه لإحرَامه، ولا المخطئَ في قتلِه في حالِ ذكرِه إحرامَه، بل عمَّ في التَّنْزيلِ ـ بإيجابِ الجزاءِ ـ كلَّ قاتلِ صيدٍ في حالِ إحرامِه متعمِّداً ... وأمَّا ما يلزمُ بالخطأ قاتلَه، فقد بيَّنَّا القول فيه في كتابنا: (كتابِ لطيفِ القولِ في أحكامِ الشَّرائعِ) بما أغنى عن ذكرِه في هذا الموضعِ. وليسَ هذا الموضِعُ موضعَ ذكرِه؛ لأنَّ قصدنا في هذا الكتاب؛ الإبانةُ عن تأويلِ التَّنْزيلِ، وليسَ في التَّنْزيلِ للخطَأ ذِكْرٌ، فنذْكُر أحْكامَه» (¬1). ¬
* وأبو حيَّان (ت:745)، قال: «وقد تَعَرَّضَ المفسِّرون في كتبِهم لحكمِ التَّسميةِ في الصَّلاةِ، وذكروا اختلافَ العلماءِ في ذلك، وأطالوا التَّفاريعَ في ذلك، وكذلك فَعَلُوا في غيرِ ما آيةٍ، وموضوعُ هذا كتبُ الفقهِ. وكذلك تكلَّمَ بعضُهم على التَّعَوُّذِ، وعلى حكمِه، وليس من القرآنِ بإجماعٍ. ونحنُ في كتابِنا هذا لا نتعرَّضُ لحكمٍ شرعيٍّ إ لاَّ إذا كان لفظُ القرآنِ يدلُّ على ذلك الحكمِ، أو يمكنُ استنباطُه منه بوجهٍ من وجوهِ الاستنباطاتِ» (¬1). لقد ذكر الطَّبريُّ (ت:310) وأبو حيان (ت:745) هاهنا الضابطَ الذي يُعتمدُ عليه في ذكرِ مثلِ هذه الأحكام، وهو أن يكونَ القرآنُ نصَّ على الحكمِ الفقهيِّ، فإنَّهم يبيِّنونَ هذا الحكمَ ولا يتوسَّعونَ في بيانِ ما يتعلَّقُ به من الأحكامِ التي لم يردِ النَّصُّ عليها في القرآنِ، ومنْ ثَمَّ، فبيانُ الحكمِ الذي نصَّ عليه القرآنُ من التَّفسيرِ، وما يُذكرُ من المسائلِ الفقهيَّةِ المتعلِّقةِ بهذا الحكمِ، ولم ينصَّ عليها القرآنُ فهي ليستْ من التَّفسيرِ، ومحلُّها كتبُ الفقهِ، واللهُ أعلمُ. والملاحظُ أنَّ أبا حيَّانَ (ت:745) لم يلتزم هذا الضَّابطَ الذي ذكره في إيرادِه للأحكامِ عندَ تعرُّضِه للمسائلِ اللُّغويَّةِ والصَّرفيَّةِ والنَّحويَّةِ، بل توسَّع فيها، حتى خرجَ بها عن حدِّ التَّفسيرِ. وأخيراً، إذا أمعنتَ النَّظرَ في هذه التَّعريفات فإنك ستجدُ بعضَها قد انطلقَ من المعنى اللُّغويِّ للتَّفسيرِ، وهذا هو الصوابُ، وقد استُعملتْ في هذه التَّعريفات عباراتُ: بيانٍ، وشرحٍ، وكشفٍ؛ للتَّعبير عن معنى «التَّفسير». ويمكنُ من هذا المنطلقِ القولُ بأنَّ عمليةَ التَّفسيرِ إنَّما هي بيانُ وشرحُ ¬
المعومات التي تتضمنها كتب التفسير (حاشية)
القرآنِ، فما كان خارجَ نطاقِ البيانِ فإنَّه غيرُ داخلٍ في مصطلحِ التَّفسيرِ (¬1)، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما يرجعُ إلى المُحَسِّنَاتِ اللَّفظيَّةِ من علمِ البديعِ؛ كالطِّباقِ (¬2) المذكورِ في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] (¬3) فإنه لا أثرَ له في بيانِ الآيةِ؛ أي أنَّه يمكنك أن تفهم معنى الآية، وإنْ لم تعرفْ هذا الطِّباقَ المذكورَ. ¬
وغايةُ هذا البيانِ فهمُ كلام الله، فما خرجَ عن حَدِّ فَهْمِ كلامِه سبحانَهُ فإنه زائدٌ عن معنى البيانِ؛ لأنَّ الغايةَ من التَّفسيرِ معرفةُ المعنى الذي أراده الله من كلامِهِ، فما تَحْصُلُ به المعرفةُ فإنه بيانٌ وتفسيرٌ، وما عدا ذلك، فإنه توسُّعٌ حاصلٌ بعدَ هذا الفَهمِ والبيانِ. وإذا تأمَّلتَ كثيراً من النِّكاتِ البلاغيَّةِ، والمُلَحِ التَّفسيريَّةِ، واللَّطائفِ اللُّغويَّةِ، وجدتَها تدخلُ في ما وراءَ البيانِ والفهمِ، فهي ليست من صُلْبِ التَّفسيرِ؛ لأن البيانَ لا يتوقفُ عليها، أمَّا إذا توقَّفَ البيانُ عليها فهي من التَّفسيرِ. وإذا كان ذلك هو المنطلق في تعريفِ التَّفسيرِ، فإنَّ البيانَ قد يتحقَّقُ بمعرفةِ اللَّفظةِ الغريبةِ في الآيةِ، أو بمعرفةِ قصتِها وسببِ نزولِها، أو بمعرفةِ مكانِ نزولِها وفيمن نزلتْ، أو بمعرفةِ ما فيها من النَّسخِ بمصطلحِه العامِّ؛ كبيانِ مجملٍ، وتخصيصِ عامٍ، وتَقْيِيدِ مطلقٍ، ورفعِ حكمٍ شرعيٍّ، وغيرِها مما يعتريه إزالةٌ ورفعٌ. والمقصودُ: أنَّ ما يقعُ به بيانٌ عن معنى الآيةِ، فإنه تفسيرٌ للقرآنِ، ودونك هذه الأمثلةُ، إذ بالمثالِ يتبيَّنُ المقالُ. 1 - في قولِه تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 38]. إن أوَّلَ ما تحتاجُ إليه لِمعرفةِ تفسيرِ الآيةِ، معرفةُ لفظِ «النَّسِيء» في اللُّغةِ. فإذا عرفتَ أنَّ النَّسِيءَ: التأخيرُ، صارَ معنى الآيةِ: إنما التَّأخيرُ زيادةٌ في الكفرِ. ولكن أيُّ تأخيرٍ هو المرادُ، وهذا يعني أنَّه لم يتمَّ البيانُ بمعرفةِ المدلولِ اللُّغويِّ وحدَه، لاحتياجِك إلى تحديدِ النَّسِيءِ المرادِ في الآيةِ، فإذا تَكَشَّفتْ لك قصةُ الآيةِ بما رُوي عن حبرِ الأمَّةِ ابن عباسٍ (ت:68): أنَّ جُنَادَةَ بنَ عوفٍ بنَ أميةَ الكناني كان يوافي الموسمَ كلَّ عامٍ ـ وكانَ يُكْنَى أبا
ثُمَامَةَ ـ فينادي: أَلاَ إنَّ أبا ثُمَامَةَ لا يُحَابُ (¬1) ولا يُعابُ، أَلاَ وإنَّ صفرَ العَامِ الأوَّلِ العَامَ حلالٌ. فَيُحِلُّهُ الناسُ، فيحرِّمُ صفرَ عاماً، ويحرِّم المحرَّمَ عاماً، فذلك قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37] (¬2) = تَبَيَّنَ لك المعنى المرادُ بالآيةِ، وهو أنَّ تأخيرَ الأشهرِ الحُرُمِ وإيقاعَها في أشهرِ الحِلِّ زيادةٌ في الكفرِ إلى كفرِهم، فَصِرْتَ في هذه الآية محتاجاً إلى معرفة معاني المفردات وقصةِ الآيةِ، والله أعلم. 2 - في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، قيلَ: المرادُ: زكاةُ الفِطرِ وصلاةُ العِيدِ. وقيلَ: تَطَهَّرَ مِن الشِّركِ بالإيمانِ باللهِ، وصلَّى الصَّلواتِ الخمسَ. وهو قولُ ابنِ عباسٍ (ت:68). قال ابن الجَوْزِيِّ (ت:597) (¬3): «والقَولُ قولُ ابنِ عباسٍ في الآيتينِ، فإنَّ هذه السُّورةَ مكيَّةٌ بلا خلافٍ، ولم يكنْ بمكةَ زكاةٌ ولا عِيدٌ» (¬4). لعلَّكَ تلاحظُ في هذا المثالِ أثرَ معرفةِ المكيِّ والمدنيِّ في فَهمِ الآيةِ، فلأنَّ السُّورةُ مكيَّةٌ، لا يمكنُ القولُ بأنَّها نزلتْ بشأنِ زكاةِ الفطرِ وصلاةِ العيدِ المفروضتين في المدينةِ، وأنَّ المرادَ بها هذا دونَ غيرِه، وإن كانتا تدخلانِ في معنى الآيةِ بالنَّظرِ إلى تعميمِ اللَّفظِ. ¬
3 - في قوله تعالى: {وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5]، إذا أخذتَ بالعمومِ في قولِه: {لِمَنْ فِي الأَرْضِ} جعلتَ الاستغفارَ حاصلاً للمؤمنين والكافرين. وبه قال بعضهم، وجعلَ استغفارَ الملائكةِ للكافرِ بمعنى طلبِ الهدايةِ له. وقالَ آخرونَ: إنه عَامٌّ مخصوصٌ، وإنَّ المرادَ بمن في الأرضِ: المؤمنون. ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] (¬1). ومن هذين القولين يَتحصَّلُ أنَّ مَنْ جَعَلَ الآيةَ عامَّةً أو خاصَّةً، فقد وقعَ منهم بيانٌ له أثرٌ في فَهْمِ معنى الآيةِ، وإنْ اختلفتْ أقوالُهم في تفسيرها. ومن ثَمَّ، فإنَّ أيَّ معلومةٍ لها أثرٌ في فهْمِ المعنى أو تَغيُّرِهِ، فإنها تفسيرٌ، أمَّا ما كانتْ معرفتُه غيرَ مُؤَثِّرَةٍ في معنى الآيةِ، فإنه خارجٌ عن معنى التَّفسيرِ، وهو من باب التَّوَسُّعِ في هذا العلمِ. والله أعلم. وسأضربُ مثلاً يُبَيِّنُ أنَّ بعضَ المعلوماتِ الموجودة في التَّفسيرِ لا أثرَ لها في بيانِ الآيةِ، وهي خارجةٌ عن حدِّه، وزائدةٌ عليه، ومن ذلك ما وردَ في تفسيرِ قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]، حيثُ اختلفَ المفسِّرونَ في تعيين الشَّجرةِ التي نُهِيَ آدمُ وزوجُه عن الأكلِ منها، فقيل: هي السُّنبلةُ، وقيلَ: الكَرْمَةُ، وقيلَ: التِّينةُ (¬2). والجهلُ بنوعِ الشَّجرةِ التي نُهِيَ عنها آدمُ وزوجُه، لا يؤثِّرُ في فهمِ المعنى، قال الطبري (ت:310): «فالصوابُ في ذلك أن يقالَ: إنَّ اللهَ جلَّ ¬
التعريف المختار لمصطلح التفسير
ثناؤه نهى آدمَ وزوجتَه عن أكلِ شجرةٍ بعينِها من أشجارِ الجنَّةِ دونَ سائرِ أشجارِها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جلَّ ثناؤه به. ولا علمَ عندنا بأيِّ شجرةٍ كانت على التَّعيينِ؛ لأنَّ اللهَ لم يضع لعبادِه دليلاً من القرآنِ، ولا في السنّةِ الصحيحةِ، فأنَّى يتأتي ذلكَ؟ وقد قيلَ: كانت شجرةَ البُرِّ، وقيلَ: شجرةَ العنبِ، وقيلَ: شجرةَ التِّينِ، وجائزٌ أن تكونَ واحدةً منها، وذلك عِلْمٌ، إذا عُلِمَ، لم ينفعِ العالِمَ به علمُه، وإن جَهِلَهُ جاهلٌ، لم يضرَّه جهلُه به» (¬1). وعلى ذلكَ يجري كثيرٌ من مبهماتِ القرآنِ. إذ العلمُ بها لا يفيدُ معنىً، ولا بياناً في الآيةِ. وبعد هذا التَّفصيلِ يُمكنُ القولُ بأنَّ التَّفسيرَ: بَيَانُ القرآن الكريم. فخرجَ بالبيان: ما كان خارجاً عن حَدِّ البيانِ؛ ككثيرٍ من المسائلِ الفقهيَّةِ، والمسائلِ النَّحويَّةِ، ومبهماتِ القرآنِ، وغيرِها مِمَّا يُذْكَرُ في كتبِ التَّفسيرِ، مِمَّا لا أثرَ له في التَّفسيرِ. ويخرج بالقرآنِ: غيرُ كلامِ اللهِ سبحانَه، وكلامُه لملائكتِه، وكلامُه لرسلِه السَّابقينَ محمداً صلّى الله عليه وسلّم، والحديثُ القدسيُّ، والله أعلم. ثانياً: تعريف اللغة: اللُّغةُ لغةً: اللُّغةُ: فُعْلَةٌ من لَغَوتُ؛ أي: تَكَلَّمْتُ. وأصلها: لُغْوَةٌ، وقيل: لُغَيٌ أو لُغَوٌ ـ على وزنِ فُعَلٌ ـ والهاءُ عوضٌ. وجمعُها: لُغَىً، ولغاتٌ، ولُغُونٌ (¬2). ¬
اللغة اصطلاحا
واللُّغةُ: اللِّسْنُ والنُّطقُ، يقال: هذه لغتُهم التي يَلْغُونَ بها؛ أي: ينطقون (¬1). ولَغْوَى الطَّيرِ: أصواتُها (¬2). واختُلفَ في أصلِ اشتقاقِ المادَّةِ، فقيل: 1 - أُخذتْ من الْمَيلِ، في قولهم: لَغَا فلانٌ عن الصَّوابِ، إذا مَالَ عنه، قال ابنُ الأعرابيِّ (ت:231): «واللُّغةُ أُخِذَتْ من هذا؛ لأنَّ هؤلاءِ تكلَّموا بكلامٍ مالُوا فيه عنْ لغةِ هؤلاءِ الآخرين» (¬3). 2 - أُخِذَتْ من اللَّهْجِ بالشَّيءِ، قال ابن فارس (ت:395) (¬4): «... لَغَى بالأمرِ: إذا لَهَجَ به، ويقالُ: إنَّ اشتقاقَ اللُّغةِ منه؛ أي: يَلْهَجُ صاحبُها بها» (¬5). 3 - وقيل: مصدرُها: اللَّغْوُ، وهو الطَّرْحُ، فالكلامُ لكثرةِ الحاجةِ إليه يُرْمَى به (¬6). اللغة اصطلاحاً: وردَ في تعريفِ اللغةِ اصطلاحاً عِدَّةُ تعريفاتٍ عن العلماءِ، ومن ذلك: ¬
1 - عَرَّفها ابنُ جِنِّي (ت:392) (¬1) فقال: «أصواتٌ يُعبِّرُ بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهِم» (¬2). 2 - وقال ابنُ حَزْمٍ (ت:456) (¬3): «ألفاظٌ يُعبَّرُ بها عن المُسَمَّيَاتِ وعن المعاني المرادِ إفهامُها، ولكُلِّ أمةٍ لغتُهم» (¬4). 3 - وفي تاجِ العروسِ: «هي الكلامُ المصطلحُ عليه بين كُلِّ قبيلٍ» (¬5). وهذه التعريفاتُ مُتقاربةٌ في الدلالةِ على اللغةِ اصطلاحاً، وإن اختلفتْ تعبيراتُ المعبِّرين عنها. ويُلاحظُ أنهم جعلوا اللُّغةَ الطريقَ الذي يحصلُ به التَّفاهمُ بين اثنين عن طريقِ النُّطقِ بالألفاظِ؛ أي: أنَّ عمدةَ اللُّغةِ الألفاظُ التي يتداولُها القومُ الذين اصطلحوا عليها، بحيثُ لو حُدِّثوا بغيرِها لم يحصل بينهم تفاهم. ¬
ويلاحظُ في هذه التعريفات أنها لم تذكر الأساليبَ التي تتميزُ بها اللُّغةُ؛ كالحذفِ والاختصارِ والكنايةِ والاستعارةِ وغيرِها من الأساليبِ العربيَّةِ التي لها أثرٌ في الفَهْمِ حَالَ التَّخاطُبِ بَين المتخاطِبينَ بها. ولغةُ العربِ من أوسعِ اللُّغاتِ في التَّفننِ بهذه الأساليبِ. والمقصودُ: أنَّ كلامَ المخاطِبِ قد لا يكفي في فهمِه معرفةُ الألفاظِ وتراكيبِ الجملة، بلْ يُحْتَاجُ إلى معرفةِ الأسلوبِ الذي استعملَه المتكلمُ، ففي قوله تعالى: {قَالُوا ياشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] تجدُ أنَّ قولَهُم: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ظاهرُه المدحُ؛ لأنَّ هذه الألفاظَ ألفاظُ مدحٍ، ولكن السياق يدلُّ على أنَّ هذا الأسلوبَ أسلوبُ تَهَكُّمٍ وسخريةِ، قال الطبري (ت:310): «وأمَّا قولُهم لشعيبٍ: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، فإنهم ـ أعداءُ اللهِ ـ قالوا ذلك له استهزاءً به، وإنما سَفَّهُوه وجَهَّلُوه بهذا الكلامِ، وبما قلنا من ذلك قالَ أهل التَّأويلِ» (¬1). ثمَّ ذكرَ الروايةَ في ذلك عن ابنِ جريجٍ (ت:150) (¬2)، وابن زيدٍ (ت:182) (¬3). وقد أوردَ العلماءُ في بعضِ الأساليبِ قواعدَ تَدُلُّ على أثرِ هذه ¬
الأساليبِ في فَهْمِ اللُّغةِ؛ كقولِهم: «العربُ إنَّما تحذفُ من الكلامِ ما دَلَّ عليه ما ظهرَ» (¬1). وقولِهم: «العربُ تختصرُ الكلامَ ليخفِّفُوه؛ لِعِلْمِ السامعِ بتمامِه» (¬2) وقولِهم: «إنما يحسنُ الإضمارُ في الكلامِ الذي يجتمعُ، ويدلُّ أولُه على آخرِه» (¬3). ولبيانِ أثرِ الأسلوبِ في فَهْمِ الكلامِ، انظرْ تفسير قولِه تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]، قال الفراء (ت:207) (¬4): «ويقالُ: قَدَّرَ فهدى وأضَلَّ، فاكتفى من ذِكْرِ الضَّلالِ بذِكْرِ الهدى، لكثرةِ ما يكونُ معه» (¬5)، حيثُ جعلَ هذا القائلُ الآيةَ على أسلوبِ الحذفِ اختصاراً، وجعلَ لفظَ هدى دلالةً على اللَّفظِ المحذوفِ، وبهذا تصيرُ دلالةُ الآيةِ محصورةً على الهدى والضَّلالِ الشَّرعيِّ، والصوابُ أنَّ الآيةَ أعمُّ من ذلك، قال الطَّبريُّ (ت:310): «والصَّوابُ من القولِ في ذلك عندنا أن الله عمَّ بقوله: {فَهَدَى} الخبر عن هدايته خلقَه ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى، وقد هداهم لسبيلِ الخيرِ والشَّرِ، وهدى الذكورَ لمَاتَى الإناثِ، فالخبر على عمومِه حتى يأتيَ خبرٌ تقومُ به الحجةُ دالٌّ على خصوصِه» (¬6). ¬
مصطلح اللغة في كلام السلف
مصطلحُ اللُّغةِ في كلامِ السَّلفِ: وقدْ وردَ استخدامُ السلفِ لمصطلح اللغةِ على ما ذكره العلماء في التعريف الاصطلاحي، وذلك أنهم ذكروا في تفسيرِ بعضِ الألفاظِ أنها «بِلُغَةِ كذا»، مثل ما ورد عن الضَّحَّاكِ (ت:105) (¬1) في قوله تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11]، حيثُ قال: «يعني: الجبلَ، بلغةِ حِمْيَر» (¬2). وغالباً ما يَرِدُ تعبيرُهم بهذا إذا كان اللفظُ المفسَّرُ نازلاً بغيرِ لغةِ قريشٍ أو لغةِ العربِ، وقد اصطُلِحَ على ما كان بغيرِ لغةِ العربِ بمصطلح: «المُعَرَّب» (¬3). كما وردَ عنهم التعبيرُ عن اللغةِ بأنها الكلامُ، ومن ذلك ما وردَ عن ابنِ عباسٍ (ت:68) في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، قال: «من الإثمِ، وهي في كلامِ العربِ: نَقِيُ الثِّيابِ» (¬4). أي: في لغتِهم. المعاني المرادفةِ للفظِ اللُّغةِ في القرآن وكلامِ السَّلفِ: وردَ في القرآنِ مرادفُ «اللُّغةِ»، وهو «اللِّسانُ»، ومما جاء في ذلك، قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]. قال قتادة (ت:117) (¬5): «بلغة قومه» (¬6). ¬
ثالثا: تعريف التفسير اللغوي
وقوله تعالى: {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22] قال الطَّبريُّ (ت:310): «واخْتِلافُ منطقِ ألسنَتِكُم ولُغَاتِكم» (¬1). ومن ذلك: قولُ ابنِ عباسٍ (ت:68) ـ في تفسيرِ قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]ـ قال: «الكَنُودُ بلسانِنا أهلَ البلدِ (¬2): الكفورُ» (¬3). وقولُ سعيدِ بن المسيبِ (¬4) (ت:94): «الماعونُ بلسانِ قريشٍ: المالُ» (¬5). ثالثاً: تعريف التفسير اللغوي: بعدَ أنْ تمَّ التَّعَرُّفُ على مفرداتِ هذا المصطلحِ، فإنه يمكنُ الانطلاقُ منها إلى تعريفِ هذا المصطلحِ، فأقولُ: التفسيرُ اللغويُ: بيان معاني القرآن بما ورد في لغة العرب. أمَّا الشِقُّ الأولُ مِنَ التعريفِ، وهو بيان معاني القرآن: فإنه عامُّ يشملُ كُلَّ مصادرِ البيانِ في التَّفسيرِ؛ كالقرآنِ، والسُّنَّةِ، وأسباب النزول، وغيرها. وأمَّا الشِّقُّ الثاني منه، وهو بما ورد في لغة العرب: فإنه قَيدٌ واصفٌ لنوعِ البيانِ الذي وَقَعَ لتفسيرِ القرآنِ، وهو ما كان طريقُ بيانِه عن لغةِ العربِ. وبهذا النَّوعِ من البيانِ يخرجُ ما عداه من أنواعِ البيان؛ كالبيانِ الكائنِ بأسبابِ النُّزولِ وقصصِ الآيِ، أو غيرِها مما ليس طريقُ معرفتِه اللُّغةُ. كما يخرج بهذا القيدِ ما كان طريقُ بيانِه بغيرِ لغةِ العربِ، كمن يُفسِّرُ بمدلولاتٍ لا تُعرفُ عند العربِ؛ كالمصطلحاتِ الحادثةِ. ¬
والمرادُ بما وردَ في لغةِ العربِ: ألفاظُها وأساليبُها التي نزلَ بها القرآنُ. وقد أشارَ إلى هذا الشَّاطِبِيُّ (ت:790) (¬1)، فقال: «فإنْ قلنا إنَّ القرآنَ نزلَ بلسانِ العربِ، وإنَّه عربيٌ، وإنه لا عُجْمَةَ فيه، فيعني أنه أُنزِلَ على لسانِ معهودِ العربِ في ألفاظِها الخاصةِ وأساليبِ معانيها، وأنها فيما فُطِرتْ عليه من لسانِها تُخَاطِبُ بالعامِّ يُرَادُ به ظاهره، وبالعَامِّ يراد به العَامُّ في وجهٍ والخاصُّ في وجهٍ، وبالعَامِّ يُرادُ به الخاصُّ، وظاهرٌ ويُرادُ به غيرُ الظاهرِ، وكلُّ ذلك يُعرَفُ من أوَّلِ الكلامِ أو وسطِه أو آخرِه ...» (¬2). ومن أمثلةِ تفسيرِ الألفاظِ، تفسيرُ لفظ «استوى» في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، قال أبو عبيدة (¬3) (ت:210): «مَجَازُهُ: ظَهَرَ عَلَى العَرْشِ وعَلاَ عَلَيه. ويُقالُ: اسْتَوَيتُ على ظَهْرِ الفَرَسِ، وعلى ظَهْرِ البَيتِ» (¬4). ومن أمثلةِ تفسيرِ الأساليبِ، تفسيرُ أبي عبيدة (ت:210) لقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، قال: «والعربُ تختصرُ الكلامَ ليخفِّفُوه، لِعِلْمِ المستمعِ بتمامِه، فكأنه في تمامِ القولِ: ويقولون: ربنا ما خلقتَ هذا باطلاً» (¬5). ¬
المبحث الثاني: مكانة التفسير اللغوي
المبحث الثاني مكانة التَّفسير اللُّغويِّ اختارَ اللهُ سبحانه نبيَّه الخاتم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم عربيًّا، وكان من السَّننِ أن يكون كتابُه بلسانِ قومِه، جَرْياً على سنَّة الله في إرسالِ الرُّسلِ عليهم السلام؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]. وقد جاءَ النَّصُّ على عربيةِ القرآنِ في غيرِ ما آيةٍ، منها: 1 - قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]. 2 - وقولُه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]. 3 - وقولُه تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28]. 4 - وقوله تعالى: {وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12]. 5 - وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، وغيرُ هذه الآياتِ التي نَصَّتْ على عربيَّةِ القرآنِ. ولما كانَ الأمرُ كذلكَ، فإنه لا يمكنُ العدولُ عن هذه اللُّغةِ التي نزلَ بها القرآنُ إلى غيرِها إذا أُرِيدَ تفسيرُ الكتابِ الذي نزلَ بها؛ لأنَّ معرفةَ معاني ألفاظِه لا تؤخذُ إلاَّ منها. قال ابن فارس (ت:395): «إنَّ العلمَ بلغةِ العربِ واجبٌ على كُلِّ متعلقٍ
منَ العلمِ بالقرآنِ والسُّنَّةِ والفُتْيَا بسببٍ، حتى لا غَنَاءَ بأحدٍ منهم عنه، وذلك أنَّ القرآنَ نازلٌ بلغةِ العربِ، ورسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عربيٌ. فَمَنْ أرادَ معرفةَ ما في كتابِ اللهِ جلَّ وعزَّ، وما في سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم من كلِّ كلمةٍ غريبةٍ أو نَظْمٍ عجيبٍ، لم يجدْ مِن العلمِ باللغةِ بُدًّا» (¬1). وقالَ الشَّاطبيُّ (ت:790): «لا بُدَّ في فَهْمِ الشَّريعةِ من اتباعِ معهودِ الأمِّيِّينَ، وهم العربُ الذين نزلَ القرآنُ بلسانِهم، فإنْ كانَ للعربِ في لسانِهم عُرْفٌ مُستمِرٌّ فلا يَصِحُّ العدولُ عنه في فَهْمِ الشَّريعةِ، وإنْ لم يكنْ ثَمَّ عُرْفٌ، فلا يَصِحُّ أنْ يُجْرَى في فَهْمِهَا على ما لا تعرفُه، وهذا جَارٍ في المعاني والألفاظِ والأساليبِ» (¬2). ويُفهمُ من ذلك أنَّ معرفةَ اللُّغةِ العربيَّةِ شرطٌ في فَهْمِ القرآنِ؛ لأنَّ من أرادَ تفسيرَه، وهو لا يَعْرفُ اللُّغةَ التي نزلَ بها القرآنُ، فإنه لا شَكَّ سيقعُ في الزَّلَلِ، بل سيحرِّف الكَلِمَ عن مَواضِعِهِ، كما حصلَ من بعضِ المبتدعةِ الذين حملوا القرآنَ على مصطلحاتٍ أو مدلولاتٍ غيرِ عربيَّةٍ. وإليك هذه الأمثلة التي تدلُّ على أثرِ الغفلةِ عن دلالةِ اللَّفظِ، أو جهلِ معناه في لغة العرب: * أسندَ أبو سليمان الخطَّابي (ت:388) (¬3) عن مالكِ بنِ دينارٍ (ت:127) (¬4)، ¬
قال: «جَمَعَنَا الحسنُ (¬1) لِعَرْضِ المصاحفِ: أنَا، وأبَا العاليةِ (¬2)، ونَصْرَ بنَ عاصمٍ الليثي (¬3)، وعاصماً الجحدري (¬4). فقال رجلٌ: يا أبا العاليةَ، قوله تعالى في كتابِه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5] ما هذا السهوُ؟. قال: الذي لا يدري عنْ كَمْ ينصرفْ، عَنْ شَفْعٍ أو عن وِتْرٍ؟. قال الحسن: مَهْ يا أبا العالية، ليس هكذا، بلْ الذين سهوا عن ميقاتِها حتى تفوتَهم، قال الحسن: ألا ترى قولَه عزّ وجل: {عَنْ صَلاَتِهِمْ}» (¬5). وإنما وقعَ أبو العالية (ت:93) في ذلك، لأنَّه جعلَ دلالةَ الحرفِ «عن» بمعنى «في»، ولم يُفرِّقْ بينهما، قال أبو سليمان الخطَّابي (ت:388): «وإنما أُتيَ أبو العاليةِ في هذا حيثُ لم يُفَرِّقْ بَيْنَ حرف «عن» و «في»، فَتَنَبَّهَ له الحسنُ فقالَ: ألا ترى قوله: {عَنْ صَلاَتِهِمْ} يؤيدُ أنَّ السَّهْوَ الذي هو الغلطُ ¬
في العَدَدِ إنما يَعْرُضُ في الصَّلاةِ بعدَ ملابستِها، فلو كانَ هذا هوَ المراد لقيلَ: في صلاتِهم ساهون، فلما قال: {عَنْ صَلاَتِهِمْ} دَلَّ على أن المرادَ به الذهابُ عن الوقت» (¬1). * ومِنَ الأمثلةِ التي تَدُلُّ على الوقوعِ في الزَّلَلِ والتَّحريفِ: ما وقع لعَمْرِو بنِ عُبَيْدٍ (ت:144) (¬2). قالَ ابنُ خالويه (ت:370) (¬3): «كان عمرو بنُ عبيدٍ يُؤتى من قِلَّةِ المعرفةِ بكلامِ العربِ ... وقدْ كانَ كَلَّمَ أبا عمرو بن العلاء (¬4) في الوعدِ والوعيدِ، فلم يُفَرِّقْ بينهما، حتَّى فَهَّمَه أبو عمرو، وقالَ: ويحك، إنَّ الرَّجلَ العربيَّ إذا وعدَ أنْ يُسِيءَ إلى رجلٍ، ثُمَّ لم يفعلْ، يقالُ: عَفَا وتكرَّمَ، ولا يقالُ: كذب. وأنشد (¬5): وإني إن أوَعَدْتُهُ أو وْعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي ومُنْجِزُ مَوعِدِي» (¬6) ¬
* وقد حَكَى أبو حاتم السِّجِسْتَانِيُّ (ت:255) (¬1)، عن الأخفشِ النحويِّ البصريِّ (ت:215) (¬2) أنه فسَّرَ قولَه تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] من القُدْرَةِ (¬3). قال الأزهري (ت:370) (¬4): «قال [أي: أبو حاتم]: ولم يدرِ الأخفشُ ما ¬
معنى نَقْدِرْ، وذهبَ إلى موضعِ القُدْرَةِ، إلى معنى: فَظَنَّ أنْ يَفُوتَنَا (¬1). ولم يعلمْ كلامَ العربِ، حتى قال: إنَّ بعضَ المفسرين قال: أرادَ الاستفهامِ: أفظنَّ أنْ لنْ نقدرَ عليه (¬2). ولو عَلِمَ أنَّ معنى نَقْدِر: نُضَيِّقْ، لم يَخْبِطْ هذا الخَبْطَ. ولم يكنْ عالماً بكلامِ العربِ، وكانَ عالماً بقياسِ النَّحْوِ». ثم قال الأزهري (ت:370): «... والمعنى: ما قَدَّرَهُ اللهُ عليه من التَّضيِيْقِ في بطنِ الحوتِ، ويكونُ المعنى: ما قَدَّرَهُ اللهُ عليه من التضييق؛ كأنه قال: ظنَّ أن لن نُضَيِّقَ عليه، وكل ذلك شائعٌ في لغةِ العربِ، واللهُ أعلمُ بما أرادَ. ¬
فأمَّا أنْ يكونَ قولُه: {أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} في (¬1) القُدْرَةِ فلا يجوزُ؛ لأنَّ منْ ظَنَّ هذا كَفَرَ، والظَنُّ: شَكٌّ، والشَّكُّ في قُدْرَةِ اللهِ كُفْرٌ، وقد عَصَمَ اللهُ أنبياءه عن مثلِ ما ذهب إليه هذا المتأوِّلُ. ولا يتأولُه إلا الجاهلُ بكلامِ العربِ ولغاتِها» (¬2). * قال الأخفشُ (ت:215) في قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]: «يعني، واللهُ أعلمُ، بالنَّظرِ إلى اللهِ: إلى ما يأتيهم من نِعَمِهِ ورِزْقِهِ، وقد تقولُ: واللهِ ما أنظرُ إلاَّ إلى اللهِ وإليك؛ أي: أنتظرُ ما عند اللهِ وعندك» (¬3). ¬
قال الأزهري (ت:370): «ومن قالَ: إنَّ معنى قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] بمعنى: منتظرة، فقد أخطأَ؛ لأنَّ العربَ لا تقولُ: نظرتُ إلى الشيءِ، بمعنى: انتظرتُه، إنما تقول: نظرتُ فلاناً؛ أي: انتظرتُه، ومنه قول الحطيئة (¬1): وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أَبْنَاءَ صَادِرَةٍ لِلْوِرْدِ طَالَ بِهَا حَوْزِي وتَنْسَاسِي فإذا قلتَ: نَظَرْتُ إليه، لم يكنْ إلاَّ بالعينِ» (¬2). وإنما وقعَ الخطأُ في تفسيرِ هذه الألفاظِ بسببِ جهلِ لغةِ العربِ، ولذا شَدَّدَ العلماءُ النَّكيرَ على من فَسَّرَ القرآنَ وهو جاهلٌ بلغةِ العربِ، ومن ذلك ما رُوِيَ عن مجاهدٍ (ت:104) أنه قال: «لا يَحِلُّ لأحدٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ يتكلمَ في كتابِ اللهِ، إذا لم يكنْ عالماً بلغاتِ العربِ» (¬3). وقال مالك بن أنس (ت:179) (¬4): «لا أُوتَى بِرَجُلٍ يُفَسِّرُ كلامَ اللهِ، وهو ¬
لا يعرفُ لغةَ العربِ، إلاَّ جعلتُه نكالاً» (¬1). وهذا يدلُّ على ظهورِ أثرِ معرفةِ لغةِ العربِ للمفسِّرِ عند هؤلاء الأعلامِ الأجلاءِ، ومن زعمَ أنه قادرٌ على فهمِ كلامِ اللهِ من غيرِ معرفةٍ بلسانِ العربِ، فقدْ قالَ مُحَالاً، وأَعْظَمَ الفِرْيَةَ، ولذا قال أبو الوليدِ بنِ رشدٍ (ت:520) (¬2) ـ في جوابٍ له عَمَّنْ قال: إنه لا يحتاجُ إلى لسانِ العربِ ـ: «هذا جاهلٌ، فلينصرفْ عن ذلك، ولْيَتُبْ منه، فإنه لا يصلحُ شيءٌ من أمورِ الديانةِ والإسلامِ إلا بلسانِ العربِ، يقولُ اللهُ تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، إلاَّ أنْ يُرَى أنَّه قال ذلك لِخُبْثٍ في دينِه، فيؤدبُه الإمامُ على قولِه ذلك بحسبِ ما يَرى، فقد قالَ عظيماً» (¬3). ومن أعظمِ من زعمَ أنه لا يُحتَاجُ إلى لغةِ العربِ الباطنيةُ (¬4)، لكي يتسنَّى لهم تحريفُ كتابِ اللهِ سبحانَه على ما يريدون، مما لا يضبطُه لغةٌ ولا عقلٌ ولا نقلٌ. قال يحيى العلوي (ت:745) (¬5): «اِعلم أنَّ فريقاً من أهلِ الزيغِ، ¬
يزعمونَ أنهم يُصَدِّقُونَ بالقرآنِ، أنكروا تفسيرَه من اللُّغةِ، وأنه لا يمكنُ الوقوفُ على معانيه منها، ولا مجالَ فيه لاستعمالِ النظرِ، وسلوكِ منهجِ الاستدلالِ، وإنما يُوجَدُ معناه عندهم من الأئمةِ المعصومين بزعمِهِم، وهم فرقٌ ثلاثٌ: الحشويةُ (¬1)، والباطنيةُ، والرَّافضةُ (¬2)، وذلك لأنَّ القرآنَ لَمَّا كانَ مُصَرِّحاً بفسادِ مذهبِهِم، ومُوَضِّحاً لفضائحِهم حاولوا دفعَه، موهمينَ أنَّ القرآنَ لا يدلُّ على فسادِ مذهبِهِم؛ لأنَّ معناه لا يمكنُ أخذُه من جِهَةِ اللغةِ، يريدون بذلك تَرْوِيجَ مذاهبِهِم الرديئةِ، وتسويغَ تأويلاتِهِم المنكرةِ ... وأعظمُهُم في الضَّرَرِ وأدخلُهُم: هؤلاءِ الباطنيةُ، فإنَّهم تَلَبَّسُوا بالإسلامِ، وتظاهروا بمحبةِ أهلِ البيتِ في الدعاءِ إلى نُصْرَتِهِم، فاستلبُوا بذلك قلوبَ العامَّةِ، ولَبَّسوا عليهم الأمرَ بدقَّةِ الحِيَلِ، ولطيفِ الاستدراج» (¬3). ومن اطَّلَعَ على تحريفاتِهم لكتابِ اللهِ، عَلِمَ أنها لا تَصْدُرُ عن لغةٍ ولا عقلٍ ولا شَرْعٍ، ومن تأويلاتِهم ما ورد في أحد كتبهم في التفسير، وهو كتاب مزاج التسنيم: «قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} [النحل: 118] يعني: عن منهجِ إمامِ كُلِّ عَصْرٍ. ¬
{حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} يعني: من العِلْم البَاطِنِ. {مِنْ قَبْلُ} يعني: عندَ ظهورِ فضلاتِهم في الأدوارِ الأوَّلةِ ...» (¬1). فَمِنْ أيِّ مأخذٍ أخذَ هذا التأويلَ، وما مصدرُه فيه، غيرَ أنَّه لا يخفى على من يرى مثلَ هذا الكتابِ أنه قصدَ التحريفَ، ومن طالعَ مثلَ هذا الكتابِ، وجدَ فيه كثيراً من هذه التَّحريفات العجيبةِ. والمقصودُ: أنَّ كلَّ منْ فَسَّرَ القرآنَ، وهو جاهلٌ بلغةِ العربِ، أو سالكٌ غيَر طريقِها، فإنه قدْ وقعَ في الخطأِ الأكيدِ، وجانبَ الصوابَ. وإذا كانَ هذا شأنَ اللغةِ في تفسيرِ القرآنِ، فهلْ يعني هذا أنه يمكنُ أن تستقلَّ بتفسيرِ القرآنِ؟. معَ ما سبقَ ذكرُهُ من أقوالِ العلماءِ في أهميةِ معرفةِ اللغةِ في تفسيرِ القرآنِ، إلاَّ أنهم ذكروا أنَّ اللغةَ بمجردِها لا تَسْتَقِلُّ به (¬2). وهذا يعني أنَّ اللغةَ ليست المصدرَ الوحيدَ الذي يمكنُ لمنْ أحكمَهُ أنْ يفسرَ القرآنَ، إذْ لاَ بُدَّ للمفسِّرِ منْ معرفةِ مصادرَ أُخرَى يعتمدُ عليها في تفسيرِه؛ كالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ، وأسبابِ النُّزولِ، وقصصِ الآيِ، وأحوالِ من نزلَ فيهم الخطابُ، وتفسيراتِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وتابعيهِم، وغيرِها من المصادرِ التي لا يمكنُ أخذُها عن طريقِ اللُّغةِ. وبهذا يُعلَمُ أنَّ التَّفسيرَ اللُّغويَّ جزءٌ من علمِ التَّفسيرِ، ومع أن حَيِّزَهُ كبيرُ، فإنَّه لا يَسْتَقِلُّ بتفسيرِ القرآنِ. وهذا يفيدُ أنَّ اعتمادَ اللُّغةِ بمفردها، دون النَّظرِ في غيرِها من المصادرِ يوقعُ ¬
في الخطأ في التَّفسيرِ (¬1)، إذ قد يكونُ المدلولُ اللُّغويُّ غيرَ مرادٍ في الآيةِ؛ كقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، فلو فسَّرتَ الصَّلاةَ بالمدلولِ اللُّغويِّ، لقلتَ: نُهِيَ الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم عنِ الدُّعَاءِ لهم. ولكنَّكَ إذا نظرتَ إلى الواردِ في قصةِ الآيةِ، وهو ما رواه ابنُ عباسٍ (ت:68) عن عمرَ بن الخطابِ (ت:23) قال: «لما مات عبدُ اللهِ بنُ أبي سَلُولٍ، دُعِيَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصليَ عليه، فلما قامَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَثَبْتُ إليه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَتُصَلِّي على ابنِ أبي سَلُولٍ وقد قال يومَ كذا وكذا كذا وكذا؟! قال: أُعدِّدُ عليه قولَه. فتبسَّمَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: أخِّرْ عني يا عمر، فلما أكثرتُ عليه، قال: إني خُيِّرتُ فاخترتُ، ولو أعلمُ أني إن زدتُ على السبعين يُغْفَرُ له لزدتُ عليها. قال: فصلَّى عليه رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، ثمَّ انصرفَ، فلم يمكثْ إلاَّ يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} ـ إلى قوله ـ {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، قال: فَعَجِبْتُ من جُرأتي على رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، واللهُ ورسولُه أعلمُ» (¬2)، علمتَ أنَّ المرادَ بها «صلاة الجنازة» = فإنه سيمنعُكَ ذلك من أنْ تَحْمِلَهَا على المعنى اللُّغويِّ. هذا، وسيأتي تتمَّةُ حديثٍ عن عدم استقلالِ اللُّغةِ بالتَّفسيرِ (¬3). ¬
الفصل: الثاني: نشأة التفسير اللغوي
الفصل الثاني نشأةُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ وفيه: أوَّلاً: التفسيرُ اللُّغويُّ عند السَّلفِ. ثانياً: التَّفسيرُ اللُّغويُّ عند اللُّغويِّين.
أوَّلاً: التفسيرُ اللُّغويُّ عند السَّلفِ وفيه: الأسلوب الأول: أسلوبُ التَّفسير اللَّفظي. الأسلوبُ الثاني: أسلوبُ الوجوه والنَّظائرُ.
تمهيد
تمهيد أنزلَ اللهُ القرآنَ عربيًّا على قومٍ عربٍ، فخاطبَهم بما يعقلون عنه من لغتِهِم؛ كما قالَ أبو عبيدة (ت:210): «ففي القرآنِ ما في الكلامِ العربي من الغريبِ والمعاني، ومن المحتملِ من مجازِ ما اختُصِرَ، ومجازِ ما حُذِفَ، ومجاز ما كُفَّ عن خبرِهِ، ومجاز ما جاء لفظُهُ لفظَ الواحدِ ووقعَ على الجمعِ، ومجاز ما جاء على الجمع ووقع معناه على الاثنين ...» (¬1). وقال ابن قتيبة (ت:276) (¬2): «القرآنُ نزلَ بألفاظِ العربِ ومعانيها، ومذاهبِها في الإيجازِ والاختصارِ، والإطالةِ والتوكيدِ، والإشارةِ إلى الشَّيءِ، وإغماضِ بعضِ المعاني حتى لا يظهرَ عليه إلا اللَّقِنُ (¬3)، وإظهارِ بعضِها، وضربِ الأمثالِ لما خَفِيَ» (¬4). ¬
ولمَّا كانَ الأمرُ كذلك؛ فإنَّ بيانَ هذا القرآنِ وتفسيرَه لا بُدَّ أنْ يكونَ أحدَ مصادرِه التي يُفسَّرُ بها هذه اللغةُ التي نزلَ بها. ولا يمكنُ أن يَتَأتَّى تفسيرُه بلغةٍ غيرِها. ومن رامَ غيرَ ذلك وقعَ في الزللِ، وجانبَ الصوابَ (¬1). وقد أشارَ الشَّاطِبيُ (ت:790) إلى ذلك بقوله: «... فليسَ بجائزٍ أنْ يُضَافَ إلى القرآنِ ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلُحُ أنْ يُنْكَرَ منه ما يقتضيه، ويجبُ الاقتصارُ في الاستعانةِ على فهمِه على كلِّ ما يُضَافُ علمُه إلى العربِ خاصةً؛ فبه يُوصَلُ إلى علمِ ما أُودِعَ من الأحكام الشرعيةِ، فمنْ طلبَه بغيرِ ما هو أداتُهُ ضَلَّ عنْ فهمِه وتَقَوَّلَ على اللهِ ورسولِه» (¬2). وإذا نظرتَ إلى الذين فسَّروا القرآن، وجدتَ أنَّ أوَّلَ المفسرينَ الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم، ويدُلُّ لذلك قولُه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ثمَّ جاءَ بعدَه الصَّحابةُ الكرامُ رضي الله عنهم الذين نزلَ القرآنُ بلغتِهم، وشَهِدُوا التَّنْزيلَ، وعرفوا أحوالَ من نزلَ فيهم الخطابُ من المشركين وأهل الكتابِ، فتصدَّى بعضُهم لعلمِ التَّفسيرِ، حتى صارَ مبرِّزاً فيه كعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ الهذليِّ (ت:35)، وعبدِ اللهِ بنِ عباسٍ بن عبد المطلب (ت:68). ثمَّ لَحِقَ بالصَّحابةِ أعلامُ التَّابعينَ مِمَّنْ تَتَلمذَ عليهم، وبَرَزَ في علمِ التَّفسيرِ؛ كسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94)، ومجاهدِ بنِ جبرٍ (ت:104)، وقتادةَ بن دعامةَ السَّدُوسِيِّ (ت:117)، وغيرِهم. ثمَّ حملَه في جيلِ أتباعِ التَّابعينَ بعضُ أعلامِ المفسِّرينَ؛ كإسماعيلَ ¬
السُّدِّيِّ الكوفيِّ (ت:128)، وعبدِ الملكِ ابنِ جُرَيجٍ المكيِّ (ت:150)، وعبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ المدنِيِّ (ت:182)، ويحيى بنِ سلاَّمٍ البصريِّ (ت:200) (¬1). وهذه الطَّبقاتُ الثَّلاثُ (أي: الصَّحابة والتَّابعون وأتباعهم) هي التي اعتمدَ النَّقْلَ عنها علماءُ التَّفسيرِ ومن كتبَ فيه من المتقدِّمين؛ كعبد الرَّزَّاقِ بنِ همَّامٍ الصَّنعانيِّ (ت:210)، وعبد بن حميد الكشِّي (ت:249)، ومحمدِ بنِ جريرٍ الطَّبريِّ (ت:310)، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي حاتمٍ (ت:327) وغيرِهم. وإذا أُطلِقَ مصطلحُ السَّلفِ في علمِ التَّفسيرِ، فإنَّ المرادَ به علماءُ هذه الطَّبقاتِ الثَّلاثِ؛ لأنَّ أصحابَها أوَّلُ علماء المسلمين الذين تعرَّضوا لبيانِ القرآنِ، وكانَ لهم فيه اجتهادٌ بارزٌ، وَقَلَّ أنْ تَجِدَ في علماءِ الطَّبقةِ التي تليهِم منْ كانَ مشهوراً بالتَّفسيرِ والاجتهادِ فيه، بلْ كانَ الغالبُ على عملِ منْ جاءَ بعدَهُم في علمِ التَّفسيرِ نقلَ أقوالِ علماءِ التَّفسيرِ في هذه الطَّبقاتِ الثَّلاثِ أو التَّخَيُّرَ منها والتَّرجيح بينها؛ كما فعل الإمامُ محمدُ بنُ جريرٍ الطَّبريُّ (ت:310) (¬2). ¬
ويلاحظُ أنه قدْ ظهرَ في جيلِ أتباعِ التَّابعين غيرُهم ممن شاركَ في علم التَّفسيرِ، وهم صنفانِ: الصِّنفُ الأوَّلُ: جمعٌ من اللُّغويِّين شاركوا في علمِ التَّفسيرِ، وكتبوا فيه؛ كالكِسَائيِّ (ت:183)، وتلميذِه الفرَّاءِ (ت:207). وقد كانَ بعضُ هؤلاءِ اللُّغويِّينَ الذين شاركوا في علمِ التَّفسيرِ من المعتزلة (¬1)؛ كمحمد بن المستنير (قطربَ) (ت:206)، وأبي الحسن سعيد بن مسعدة (الأخفشِ) (ت:215). الصِّنفُ الثَّاني: بعضُ متكلِّمي المعتزلةِ الذينَ شاركوا في علمِ التَّفسيرِ؛ كأبي بكرٍ عبد الرحمن بن كيسان الأصمِّ (ت:201) (¬2)، ويوسفَ بن عبد الله ¬
الشَّحَّامِ (ت:233) (¬1)، وغيرهم (¬2). وكتب هذا الصِّنفِ مفقودةٌ، لم يَصِلْ منها ما يمكنُ دراسةُ منهجِ مؤلِّفِه فيه، وغالباً ما يكونُ منهجُ هؤلاءِ منهجاً يُخَالِفُ منهجَ السَّلفِ إذ اعتمادُهم على العقلِ، وستأتي أمثلةٌ من كتبِ متأخِّرِيهم يتبيَّنُ بها هذا المنهجُ العامُّ عندهم، واللهُ الموفِّقُ. وسيكون الحديث في هذا الموضوع منقسماً إلى قسمين: الأول: التَّفسيرُ اللُّغويُ عندَ السَّلفِ. الثاني: التَّفسيرُ اللُّغويُ عندَ اللُّغويين. وسأختم هذا الموضوعَ بدراسةِ بعضِ المسائلِ التي ظهرت لي أثناء بحثِ نشأة التَّفسيرِ اللُّغويِّ. ¬
أولا: التفسير اللغوي عند السلف
أولاً: التَّفْسِيرُ اللُّغَوِيُّ عِنْدَ السَّلفِ تمهيد: قام السَّلفُ رضي الله عنهم بتفسيرِ القرآنِ، وكان لهم مصادرُ يعتمدون عليها في بيانِ القرآنِ. وكانت هذه المصادرُ على قسمين: مصادرُ نقليةٌ، ومصادرُ استدلاليةٌ. أما المصادرُ النَّقليةُ فتشملُ: 1 - ما يروونه عنِ الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم، وسيأتي مثالٌ للتفسيرِ النبويِّ (¬1). 2 - ما يرويه بعضُهُم عنْ بعضٍ، ومن ذلكَ سؤالُ ابنِ عباسٍ (ت:68) لعمر بن الخطَّابِ (ت:23) عن المرأتينِ المتظاهرتينِ في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ...} [التحريم: 4] (¬2). 3 - ما يعرفونَه منْ أحوالِ منْ نزلَ فيهم الخطابُ منَ العربِ وأهلِ الكتابِ. 4 - أسبابَ النُّزُولِ، وهذا النَّوعُ والذي قبلهُ قد يشتركان في مثالٍ واحدٍ، فيكونُ سببُ النُّزولِ بسببِ حالٍ من أحوالِ من نزلَ فيهم الخطابُ؛ كسببِ نزولِ آيةِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وذلكَ بسببِ تحرُّجِ الأنصارِ من الطَّوافِ بهما على أنهما من أمرِ الجاهليَّةِ (¬3). ¬
5 - ما يروونَه عنْ أهلِ الكتابِ (¬1)، وهو ما اصطُلحَ عليه بالإسرائيلياتِ، وله أمثلةٌ كثيرةٌ، ومنها سؤالُ ابنِ عباسٍ (ت:68) لعبد اللهِ بن سلام (ت:43) (¬2) ـ الذي كان من أحبارِ اليهودِ ـ عن سببِ تفقُّدِ سليمانِ عليه السلام للهدهدِ في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] (¬3). ¬
وأمَّا ما عدا ذلك، فإنَّه منَ المصادرِ الاستدلاليَّةِ المعتمدةِ على هذه المصادرِ النَّقليَّةِ. وإذا تأمَّلْتَ التَّفسيرَ باللُّغةِ، فإنكَ ستجدُ أنَّ هذا المصدرَ يتنازعُه النَّقلُ والاستدلالُ، ذلك أنَّ التَّفسيرَ المعتمدَ على اللُّغةِ إذا كان لا يَحْتَمِلُ إلاَّ معنى واحداً، فإنه أَشْبَهُ بالمصادرِ النَّقليَّةِ لعدمِ وجودِ احتمالٍ آخرَ في تفسيرِه يحتاجُ إلى استدلالٍ (¬1). وإذا كان يحتملُ أكثرَ من معنى؛ فإنَّ حملَه على أحدِ هذهِ المحتملاتِ يعتمدُ على الرَّأيِ والاجتهادِ، وبذا يكونُ داخلاً في الاستدلالِ، والله أعلم. وبضَرْبِ المثالِ تَتَّضِحُ هذه المسألةُ: 1 - قولُه تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]، لم يقعْ خلافٌ في أنَّ تفسيرَ «شانئك»: مُبْغِضُكَ، ذلك أنَّه لا يوجد لمعنى الشانئِ في لغةِ العربِ غيرُ هذا المعنى. قال ابن فارس (ت:395): «الشينُ والنونُ والهمزةُ أصلٌ يدلُّ على البِغْضَةِ والتَّجنُّبِ للشَّيء» (¬2)؛ لذا لا يمكنُ أنْ يحتملَ التَّفسيرُ قولاً آخرَ، فالتَّفسيرُ اللُّغويُّ ـ في مثلِ هذه الحالةِ ـ أشبهُ بأنْ يكونَ تفسيراً نقلياً، لأنه لا أثرَ في مثلِ هذا المثالِ لاجتهادِ المفسِّرِ في اختيارِ أحدِ المحتملاتِ اللُّغويَّةِ. 2 - ورد في معنى «الهيمِ» من قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] قولان: ¬
هل ورد تفسير لغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم
القولُ الأوَّلُ: الإبلُ العِطاشُ. وردَ ذلكَ عن ابنِ عبَّاسٍ (ت:68)، ومجاهدٍ (ت:104)، وعكرمةَ (ت:105)، والضَّحَّاكِ (ت:105)، وقتادةَ (ت:117) (¬1). القولُ الثاني: الرَّملُ، ورد ذلك عن سفيانَ الثَّوريِّ (ت:161) (¬2). ومرجعُ الخلافِ في هذا التَّفسيرِ إلى الاحتمالِ اللُّغويِّ في كلمةِ الهِيمِ؛ لأنها تحتملُ هذا وذاك على سبيلِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في المدلولِ. ومن ثَمَّ، فاختيارُ المفسِّرِ أحدَ المعنيينِ المحتملينِ اجتهادٌ منه، وهو راجعٌ إلى الاستدلالِ. والله أعلم. والمقصودُ أنَّ السَّلفَ من الصحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم كانوا يرجعون إلى لغتِهم العربيَّةِ لبيانِ القرآنِ، حيثُ كانت أحدَ مصادرِهِم التي يعتمدونَ عليها في التَّفسيرِ. ويرد هاهنا سؤالٌ: هل وردَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم تفسيرٌ لغويٌ؟ لقد استقرأتُ التَّفسير النَّبويَّ (¬3) للقرآنِ الكريمِ، ووجدتُ أنَّه صلّى الله عليه وسلّم لم يفسرْ ¬
للصَّحابةِ منْ ألفاظِ القرآنِ إلاَّ ما احتاجوا إليه، وهو قليلٌ (¬1)، ومنْ ذلك: تفسيرُه معنى الوسطِ في قولِه تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال: «والوسطُ: العدلُ» (¬2). ومنه تفسيرُه الخيطَ الأبيضَ والأسودَ في قولِه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] عندما أشكلَ على عَدِيِ بنِ حاتمٍ، ففسَّرَه له صلّى الله عليه وسلّم بأنَّه بياضُ النَّهارِ وسوادُ اللَّيلِ (¬3). وهذا يعني أنَّ الصَّحابةَ رضي الله عنهم كانوا يتأوَّلُونَ القرآنَ على ما يفهمُونَه من لغتِهم؛ لوضوحِ ذلك عندهم، فإذا أشكلَ عليهم منه شيءٌ سألوا رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ كما حَدَثَ مِنْ عَدِيِ بنِ حاتمٍ. ومما يُعَزِّزُ وُرُودَ الاجتهادِ عنهمْ: 1 - حديثُ ابنِ مسعودٍ (ت:35)، قال: «لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قلنا: يا رسولَ اللهِ، وأيُّنا لم يظلمْ نفسَه؟ قال: ليسَ كما تقولونَ. لم يلبِسُوا إيمانَهم بظلمٍ: بشركٍ. ألم تسمعوا إلى قولِ لقمانَ لابنِه: {يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» (¬4). إنَّ هذا الحديثَ يَدُلُّ على أن الصَّحابةَ رضي الله عنهم كانوا يجتهدونَ في فَهمِ القرآنِ ¬
الذي نزلَ بلغتِهم على ما يفهمونَه منها، فإنْ أشكلَ عليهم منه شيءٌ سألوا رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ظاهرٌ من هذا الحديثِ؛ لأنَّهم جعلوا معنى الظُّلمِ عاماً على ما يعرفونه من لغتِهم، فأرشدَهم النَّبيُ صلّى الله عليه وسلّم إلى المعنى المرادِ به في الآيةِ، ونبَّهَهم إلى أن المعنى اللُّغويَّ الذي فسَّروا به الآيةَ غيرُ مرادٍ، ولم ينهَهم صلّى الله عليه وسلّم عنْ أنْ يفسِّروا القرآنَ بلغتِهم، ولو كان هذا المَسْلَكُ خَطأً لنَّبهَهُم عليه، والله أعلم. 2 - ما وقَعَ بينَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم منْ خِلافٍ مُحَقَّقٍ في تفسيرِ بعضِ الألفاظِ القرآنيَّة التي لها أكثرُ من دَلاَلَةٍ لغويَّةٍ، فحملَها بعضُهُم على معنى، وحمَلَهَا الآخرُون على معنىً آخرَ. وهذا يَدُلُّ على أنَّهم لم يتلقوا من النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بياناً نبويًّا في هذه اللَّفظةِ، ولو كان عند أحدٍ منه بيانٌ لما وَقَعَ مثلُ هذا الاختلافِ. ومنْ أشهرِ الأمثلةِ التي يمكن أن يُمثَّلَ بها: اختلافُهم في لفظِ: «القُرْءِ» في قولِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فقد وَرَدَ في معنى القُرْءِ قولانِ، كلاهما مُعْتَمِدٌ على اللُّغةِ، وهما: الأول: الحَيضُ، وبه قال عمرُ بن الخطَّابِ (ت:23)، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ (ت:30)، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ (ت:35)، وعليُّ بن أبي طالبٍ (ت:40)، وأبو موسى الأشعريِّ (ت:43)، وابنُ عبَّاسٍ (ت:68) رضي الله عنهم. الثاني: الطُّهرُ، وبه قالَ زيدُ بن ثابتٍ (ت:55)، وعائشةُ (ت:58)، ومعاويةُ بنُ أبي سفيان (ت:60)، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ (ت:74) (¬1). ولو كان عند هؤلاء الصَّحابةِ الكرامِ رضي الله عنهم خبرٌ عن الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم في تفسيرِ هذه اللَّفظةِ لنقلُوه، ولمَّا لم يكنْ عندَهُم، اجتهدوا في بيانِ المرادِ معتمدينَ في ذلك على لغتِهم. ولقدِ استمرَّ الاجتهادُ في التَّفسيرِ في جيلِ التَّابعين وأتباعِهم، حيثُ اعتمدَ كُلُّ هؤلاءِ على اللُّغةِ في بيانِ التَّفسيرِ. ¬
طريقة السلف في التفسير اللغوي
ومن الأمثلةِ التي وقعَ فيها الخلافُ بين هؤلاءِ في طبقاتِهم الثَّلاثِ، اختلافُهم في لفظ «عسعس» في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، فقد ورد عنهم في ذلك معنيان: الأول: والليلِ إذا أدبر، وبه قال عليُ بنُ أبي طالبٍ (ت:40)، وابنُ عباسٍ (ت:68)، والضَّحَّاكُ بنُ مزاحمٍ (ت:105)، وقتادةُ (ت:117)، وابنُ زيدٍ (ت:182). الثاني: والليل إذا أقبل، وبه قال مجاهدٌ (ت:104)، والحسنُ البصريُّ (ت:110)، وعطيةُ العوفيُّ (ت:111) (¬1)، كما رواه عنهم الطبريُّ (¬2). والأمثلةُ ـ من هذا النَّوعِ ـ التي تدلُّ على اعتمادِ السَّلفِ على اللُّغةِ في بيانِ القرآنِ كثيرةٌ جداً، والمقصودُ هاهنا ذِكْرُ المثالِ. طريقة السَّلفِ في التَّفسير اللُّغويِّ: كانَ البيانُ اللَّفظيُّ في تفسيرِ السَّلفِ واضحاً، وهو أحدُ طرقِ البيانِ عن التَّفسيرِ، كما سيأتي، وهذا النَّوعُ هو الأصلُ في البيانِ عن المعاني، والمرادُ به تفسيرُ اللَّفظِ بما يطابقهُ من لغةِ العربِ، مع ذكرِ الشَّواهدِ إن وُجِدَتْ، وهذا ما يمكنُ أن يُصطلَح عليه بالتَّفسير اللَّفظيِّ. هذا، وقد برزَ عندَ السَّلفِ الاهتمامُ بالمدلولِ السِّياقيِّ للَّفظِ، وهذا موجودٌ عندهم في كتبِ الوجوهِ والنَّظائرِ. وسيكونُ الحديثُ عن هذينِ النَّوعينِ مفصَّلاً ـ إنْ شاءَ اللهُ تعالى ـ على النَّحوِ الآتي: الأسلوب الأول: أسلوبُ التَّفسيرِ اللَّفظيِّ. الأسلوب الثاني: أسلوبُ الوجوه والنَّظائر. ¬
الأسلوب الأول التفسير: اللفظي عند السلف
الأسلوبُ الأول أسلوب التَّفسير اللَّفظيِّ أسلوبُ التَّفسيرِ اللَّفظيِّ (¬1): أن يكون اللَّفظ المفسِّرُ مطابقاً لِلَّفْظِ المفسَّرِ، مع الاستشهاد عليه ـ أحياناً ـ من لغة العرب شعراً أو نثراً. ولقد كان لهذا الأسلوبِ مكانُه في تفسيرِ السَّلفِ، ومن خلال استقراء تفسيرهم في تفسير الطبريِّ (ت:310) وغيرِه، وجدتُ أنَّ لهم في البيانِ اللُّغويِّ للقرآنِ ـ على هذا الأسلوبِ ـ طريقينِ: الأولُ: أنْ يذكروا معنى اللَّفظَةِ في اللُّغةِ دونَ أنْ ينصُّوا على ما يدلُّ عليها من شعرٍ أو نثرٍ. الثاني: أن ينصُّوا على الاستدلالِ بلغةِ العربِ في تفسيرِ اللَّفظةِ، وهو قسمانِ: القسمُ الأولُ: أنْ يستشهدوا بالشِّعرِ. القسم الثاني: أنْ يستشهدوا بالنَّثرِ، وهو نوعانِ: النَّوعُ الأولُ: أنْ ينصُّوا على لغةِ القبيلةِ التي نزلَ القرآنُ بلفظِها. النَّوعُ الثاني: أنْ يَرجعوا إلى منثورِ كلامِهِم دونَ أنْ ينصُّوا على لغةِ قبيلةٍ بعينِها. وإليكَ بيان هذه الأقسامِ بأمثلتِها من تفسيرِ السَّلفِ: ¬
أن يذكروا معنى اللفظ مجردا من الشاهد اللغوي
أولاً: الطَّريقُ الأولُ: أنْ يذكروا معنى اللَّفظِ في اللُّغةِ، دونَ أنْ ينصُّوا على ما يدلُّ عليه من شعرٍ أو نثرٍ. وهذا هو الأغلبُ فيما ورد عنهم من تفسيراتِهم اللُّغويَّةِ، إذ يَنُصُّ المفسِّرُ منهم على معنى اللَّفظِ، دون أن يستشهد لتفسيره هذا، ومن أمثلةِ ذلك ما يلي: 1 - أخرجَ الطَّبريُّ (ت:310) عن عمرَ بنِ الخطابِ (ت:23) أنه سُئلَ عن قولِ اللهِ عزّ وجل: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]، قال: «يُقرنُ بينَ الرَّجلِ الصَّالحِ مع الصَّالِح في الجنَّةِ، وبَين الرَّجلِ السُّوءِ مع الرَّجلِ السُّوءِ في النَّارِ» (¬1). فقولُه: «يقرن»، تفسيرٌ لمعنى التَّزويجِ في الآيةِ. وهذا هو أصلُ معنى اللَّفظِ لغويًّا. قالَ ابنُ فارسٍ (ت:395): «الزَّاءُ والواوُ والجيمُ: أصلٌ يدلُّ على مقارنةِ شيءٍ لشيءٍ» (¬2). 2 - وردَ عن ابنِ عباسٍ (ت:68) في معنى «دِهَاقاً» من قولِه تعالى: {وَكَاسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] قال: «ملأى» (¬3). وقد وردَ ذلك عن مجاهدٍ (ت:104)، والحسنِ البصري (ت:110)، وقتادةَ (ت:117)، وابنِ زيدٍ (ت:182) (¬4). وفي أصلِ معنى هذهِ اللَّفظةِ، قالَ ابنُ فارسٍ (ت:395): «الدَّالُ والهاءُ والقافُ: يَدلُّ على امتلاءٍ في مجيءٍ وذهابٍ واضطرابٍ. يقالُ: أَدْهَقْتُ الكأسَ: ملأتُها، قال تعالى: {وَكَاسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34]» (¬5). ¬
أن يستدلوا لمعنى اللفظ من لغتهم شعرا أو نثرا
3 - أخرجَ الطَّبري (ت:310) عن ابنِ عباسٍ (ت:68) في معنى «لا وَزَرَ» من قولِه تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] قال: «لا حِرز». وفي رواية أخرى عنه: «لا حِصْنَ ولا مَلْجَأَ» (¬1). ويجيء الوَزَرُ بمعنى: الشَّيء الذي يَلْجَأُ إليه الإنسانُ من حصنٍ أو جبلٍ أو معقلٍ (¬2). وهذا أحدُ معاني اللَّفظةِ في اللُّغةِ. قالَ أحمدُ بنُ فارسٍ (ت:395): «الواوُ والزَّاءُ والرَّاءُ: أصلانِ صحيحانِ: أحدُهما: الملجأُ، والآخرُ: الثِّقَلُ في الشَّيءِ. الأولُ: الوَزَرُ: الملجأُ، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] ...» (¬3). وقد ورد هذا التَّفسيرُ عن بعضِ السَّلفِ، منهم: سعيدُ بنُ جُبيرٍ (ت:94)، ومُطَرِّفُ بنُ الشِّخِّيرِ (ت:95) (¬4)، وأبو قِلابةَ الجرميُّ (ت:104) (¬5)، ومجاهدٌ (ت:104)، والضَّحَّاكُ (ت:105)، والحسنُ البصريُ (ت:110)، وقتادةُ (ت:117)، وابنُ زيدٍ (ت:182) (¬6). ثانياً: الطريقُ الثاني: أنْ يستدلوا لمعنى اللَّفظةِ من لغتِهِم. وذلك قسمانِ: ¬
القسمُ الأولُ: أنْ يستشهدوا لذلك بالشِّعرِ. لقد كان الشِّعرُ ديوانَ العربِ، إذ فيه مخزونٌ من حضارتِهم ولغتِهم، وكانَ السَّلفُ يعمدونَ إلى تلك الأشعار العربيَّةِ فيستعينونَ بها في التَّفسيرِ، ولمْ تكنْ قليلةً، وإن كانت من أقلِّ الواردِ عنهم في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، ومن الأمثلةِ الواردةِ عنهم في ذلك: 1 - عن عكرمةَ (ت:105) أنَّ ابنَ عباسٍ (ت:68) سُئِلَ عن قولِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قالَ: لا تلبسْها على غَدْرَةٍ ولا فَجْرَةٍ، ثمَّ قالَ: ألا تسمعون قولَ غيلانَ بنِ سلمةَ (¬1): إني بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوبَ فَاجِرٍ لَبَسْتُ، ولا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (¬2) وبهذا قال الفراء (ت:207): «لا تكن غادراً فتدنِّسَ ثيابَك، فإنَّ الغادرَ دَنِسُ الثيابِ» (¬3). 2 - وعن عكرمةَ (ت:105)، عن ابنِ عباسٍ (ت:68) في قولِه تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14]، قال: «على الأرضِ. ¬
قال: فذكرَ شعراً قالُه أُميةُ بنُ أبي الصلتِ (¬1)، فقال (¬2): عندنا صيد بحر وصيد ساهرة» (¬3). هذا المعنى حكاهُ أهلُ اللُّغةِ، ومن ذلك ما ذكره ابن فارس (ت:395)، قال: «ويقالُ للأرضِ: السَّاهرةُ، سُمِّيتْ بذلك لأنَّ عملها في النَّبْتِ دائماً ليلاً ونهاراً (¬4)، ولذلك يقالُ: خيرُ المالِ عينٌ خرَّارَةٌ (¬5)، في أرضٍ خوَّارةٍ (¬6)، تسهرُ إذا نِمْتَ، وتشهدُ إذا غِبْتَ. وقال أُميةُ بنُ أبي الصلتِ: وفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرِ ... وَمَا فَاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ وقالَ آخرُ ـ وذكرَ حميرَ وحشٍ ـ (¬7): ¬
يَرْتَدْنَ سَاهِرَةً كَأَنَّ عَمِيمَهَا ... وَجَمِيمَهَا أَسْدَافُ لَيلٍ مُظْلِمِ ثمَّ صارت الساهرةُ اسماً لكلِّ أرضٍ. قال جلَّ جلالُهُ: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ *فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14]» (¬1). 3 - عن سعيدٍ بنِ جبيرٍ (ت:94) في قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، قال: «القانعُ: السائلُ الذي يسألُ، ثمَّ أنشدَ قولَ الشاعرِ (¬2): لَمَالُ المَرْءِ يُصلِحُهُ فَيَبقَى ... مُعَاقِرَهُ، أَعَفُّ من القُنُوعِ» (¬3) وقد ورد هذا المعنى في اللُّغة، قال ابن فارسٍ (ت:395): «القافُ والنونُ والعينُ: أصلانِ صحيحانِ، أحدهما يدلُّ على الإقبالِ على الشيءِ، ثمَّ تختلفُ معانيه مع اتفاقِ القياسِ، والآخرُ يدلُّ على استدارةٍ في الشيءِ. فالأولُ: الإقناعُ: الإقبالُ بالوجهِ على الشيءِ ... ومن البابِ قَنَعَ الرجلُ يَقْنَعُ قُنُوعاً، إذا سألَ، قالَ اللهُ سبحانَهُ: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فالقانعُ: السائلُ، وسُمِّيَ قانعاً؛ لإقباله على من يسأله، قال: لمالُ المَرءِ يُصلِحُهُ فَيُغني ... مَفَاقِرَهُ، أَعَفُّ من القُنُوعِ» (¬4) ¬
4 - وسُئل عكرمةُ (ت:105) عن الزَّنيمِ، فقالَ: «هو ولدُ الزِّنا، وتمثَّلَ بقولِ الشاعرِ (¬1): زَنِيمٌ ليس يُعرَفُ من أَبُوهُ ... بَغِيُّ الأُمِّ، ذو حَسَبٍ لَئِيمٍ» (¬2) قال ابن فارس (ت:395): «الزَّاءُ والنُّونُ والميمُ: أصلٌ واحدٌ يدلُّ على تعلُّقِ شيءٍ بشيءٍ، ومن ذلك الزَّنيمُ، وهو الدَّعيُ ... قال الشاعر في الزَّنيم (¬3): زَنِيمٌ تَداعاهُ الرِّجَالُ زيادةً ... كَمَا زِيدَ في عَرْضِ الأدِيمِ الأكَارِعُ» (¬4) 5 - وعن الضَّحَّاكِ بن مزاحم (ت:105) في قوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَاسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 18]، قال: «الأكوابُ: جِرارٌ ليس لها عُرىً. وهي في النِّبطِيَّة (¬5): ¬
«كوبا»، وإيَّاها عنى الأعشى (¬1) بقوله (¬2): صَرِيفِيَّةً طَيِّبٌ طَعْمُهَا لَهَا ... زَبَدٌ بَينَ كُوبٍ وَدَنِّ» (¬3) وقال ابن فارسٍ (ت:395): «الكافُ والواوُ والباءُ: كلمةٌ واحدةٌ، وهي الكوبُ: القَدَحُ لا عُروَةَ له، والجمعُ: أكوابٌ، قال تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية: 14]» (¬4). 6 - وعن ابنِ زيدٍ (ت:182) في قوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]، قال: «الموت. قال الشاعرُ (¬5): ¬
تَرَبَّصَ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا ... سَيَهْلَكُ عنها بَعلُهَا أَو تُسَرَّحُ» (¬1) وللمنونِ في لغةِ العربِ معانٍ، منها المنيَّةُ [أي: الموت]. وقدْ أوردَ عبد الله بنُ بري المصريُّ اللُّغويُّ (ت:582) (¬2) عِدَّةَ شواهدٍ على أنَّ العربَ تطلقُ المنونَ على الموتِ. ومن هذه الشَّواهدِ قولُ الشاعرِ (¬3): لَقُوا أُمَّ اللُّهَيمِ فَجَهَّزَتْهُم ... غَشُومُ الوِرْدِ نَكنِيهَا: المَنُونَا (¬4) 7 - وعن السُّدِّيِّ (ت:128) في قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ} [الفجر: 5]، قالَ: لِذِي لُبٍّ، قال الحارثُ بنُ ثعلبةَ (¬5): وكيفَ رَجَائِي أنْ تَثُوبَ وإنما ... يُرَجَّى مِنَ الفِتيَانِ مَنْ كَانَ ذَا حِجْرِ (¬6) واللُّبُّ: العقلُ، قال ابن فارسٍ (ت:395): «والعقلُ يُسَمَّى حِجراً لأنه ¬
يمنعُ من إتيانِ ما لا ينبغي، كما سُمِّيَ عقلاً تشبيهاً له بالعِقَالِ، قال الله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ} [الفجر: 5]» (¬1). ولهم في هذا القسم أمثلة أخرى (¬2)، وهي تدلُّ بمجموعها على أنَّ السَّلف اعتمدوا الشَّاهد الشِّعريَّ في التَّفسير، وسيأتي بيان ذلك، إن شاء الله. القسمُ الثاني: أن يستشهدوا بالنَّثْرِ: وهو نوعان: النوعُ الأولُ: أنْ يَنُصُّوا على لغةِ القبيلةِ التي نزلَ القرآنُ بلفظِها (¬3). نزل القرآنُ بجملةٍ من ألفاظِ قبائلِ العربِ، أمَّا أغلبُه فكانَ بلغةِ ¬
الرسول صلّى الله عليه وسلّم: لغةِ قريشٍ؛ لذا كان المفسِّرونَ من السَّلفِ يُعيِّنونَ القبيلةَ التي نزل القرآنُ بلفظِها. ولَعَلَّ هذا يُفسِّرُ ما وقعَ لبعضِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم من جهلِ شيءٍ من معاني ألفاظِه؛ كالذي وقعَ لعمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه في عدمِ معرفتِه معنى «الأبِّ» من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: «قرأ عمرُ بنُ الخطابِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، ومعه عصا في يدِه، فقال: ما الأَبُّ؟، ثمَّ قالَ: بِحَسبِنَا ما قد عَلِمنَا، وألقى العصا من يدِه» (¬1). والذي وقع لابن عباس (ت:68) في لفظ: فاطر السموات، فقد ورد عنه أنَّه قالَ: «كنتُ لا أدري ما فاطر السَّموات؟ حتى أتاني أعرابيَّان يختصمان في بئرٍ، فقال أحدهُما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها» (¬2). ومن أمثلة ما فسَّروه بلغات العرب: 1 - عن أبي الصَّلت الثقفي (¬3): «أنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ ـ رحمةُ اللهِ عليه ـ قرأ هذه الآية: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] بنصب الراءِ. قال: وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضَيِّقاً حَرِجاً» (¬4). ¬
قالَ صفوانُ (¬1): فقالَ عمرُ: أَبغُوني رَجُلاً من كِنَانةَ، واجعلوه راعيَ غنمٍ، وليكن مُدْلِجياً (¬2). قالَ: فأتوا به. فقالَ عمرُ: يا فتى ما الحرجةُ؟ قالَ: الحرجةُ فينا: الشَّجرةُ تكونُ بينَ الأشجارِ التي لا تصلُ إليها راعيةٌ ولا وَحْشِيَّةٌ ولا شيءٌ. قالَ عمرُ: كذلك قلبُ المنافقِ لا يَصِلُ إليه شيءٌ من الخيرِ» (¬3). وقد قالَ محمود شاكر في تعليقِه على هذا الأثرِ: «وهذا خبرٌ عزيزٌ جداً في بيانِ روايةِ اللُّغةِ وشرحِها، وسؤالِ الأعرابِ والرُّعاةِ عنها» (¬4). 2 - وعن عكرمةَ (ت:105)، عن ابنِ عباس (ت:68) في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61] قالَ: «هو الغِناءُ. كانوا إذا سَمِعُوا القرآنَ تَغَنَّوا ولَعِبُوا، وهي لغةُ أهلِ اليمنِ. قالَ اليمانيُ: اسْمُد» (¬5). ¬
كذا ورد عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد نقلَ عنه أهلُ اللُّغةِ هذا المعنى، قالَ الزَّبِيدي (ت:1205) (¬1): «سَمَدَ سُمُوداً: غَنَّى. قالَ ثعلبٌ (¬2): وهي قليلةٌ، وقوله عزّ وجل: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61] فُسِّرَ بالغناءِ، ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: السُّمودُ: الغناء بلغةِ حِمْيَرَ (¬3). وزاد في الأساس (¬4)؛ لأن المُغَنِّيَ يرفعُ رأسَه ويَنْصِبُ صدرَه، ويقال للقينة: اسمُدينا؛ أي: ألهينا بالغناءِ» (¬5). وقال ابنُ دُرَيْدٍ (ت:321) (¬6): «والسامدُ: اللاهي، سَمَدَ يَسْمَدُ سُمُوداً، لغةٌ يمانيةٌ، يقولون للقينة: اسْمدينا؛ أي: ألهينا. ¬
وقد رُوِيَ هذا البيتُ في شعرِ عادٍ (¬1) ـ ولا أدري ما صحته، وقد احتج به العلماءُ ـ: قَيْلُ، قُمْ، فانظُرْ إليهم، ... ثُمَّ دَعْ عَنْكَ السُّمُودا قَيْلُ: اسمُ رجلٍ، وجاء في القرآن: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ}، قال أبو عبيدةَ: لاهون (¬2)، والله أعلم» (¬3). وقال نَشْوَانُ الحِمْيَرِي (ت:573) (¬4): «السَّمود: اللَّهوُ والغِناءُ، يقال: سَمَدَتِ القَينَةُ: إذا غنَّتْ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ. والسَّامدُ: اللاهي، قال تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61]: لاهون» (¬5). 3 - وعن ابن عباسٍ «أنه أبصرَ رجلاً يسوقُ بقرةً، فقالَ: من بعلُ هذه؟ فدعاه، فقالَ: ممن أنت؟ قالَ: من أهلِ اليمنِ. فقال: هي لغةُ {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125]؛ أي: ربّاً» (¬6). ¬
وهذا يعني أنَّ معنى {بَعْلاً}: رَبًّا، وقد ورد هذا المعنى في كتبِ أهلِ اللُّغةِ، ومن ذلك ما ورد في لسان العرب: «وَبَعْلٌ والبَعْلُ جميعاً: صَنَمٌ، سُمِّيَ بذلك لعبادتهم إيَّاه كأنه ربهم، وقوله عزّ وجل: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125]، قيلَ: معناهُ: أتدعونَ رَبًّا، وقيلَ: هو صنمٌ، يقال: أنا بَعْلُ هذا الشيءِ؛ أي: ربُّه ومالِكُه؛ كأنَّه قالَ: أتدعونَ رَبًّا سوى اللهِ (¬1). ورُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ أنَّ ضَالَّةً أُنْشِدتْ، فجاء صاحبُها، فقالَ: أنا بَعْلُها؛ يُريدُ: رَبَّها، فقالَ ابنُ عباسٍ: هو مِنْ قولِ اللهِ: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125]؛ أي: رَبًّا. ووردَ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ مرَّ برجُلينِ يختصمانِ في ناقةٍ، وأحدُهما يقولُ: أنا بَعْلُها؛ أيْ: مالكُها وربُّها. ¬
وقولُهم: مَنْ بَعْلُ هذهِ النَّاقةِ؛ أيْ: مَنْ رَبُّها وصاحبُها» (¬1). 4 - وعنْ مجاهدٍ (ت:104) في قولِهِ تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8]» قالَ: «هي بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، أَوْصَدَ البابَ: أغْلَقَهُ» (¬2). وهذا المعنى الذي فسَّرَ بِهِ مجاهدٌ (ت:104) هو معنى هذا اللَّفظِ في لغةِ العربِ، قال ابنُ فارسٍ (ت:395): «الواوُ والصَّادُ والدَّالُ: أصلٌ يدلُّ على ضَمِّ شيءٍ إلى شيءٍ، أَوْصَدتُ البابَ: أغلقتُه ... والمُوصَدُ: المُطْبَقُ، وقال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8]» (¬3). ولم أجد ـ فيما وقفتُ عليه ـ أحداً من اللُّغويينَ نَصَّ على أنَّ هذه اللفظةَ مُختصَّةٌ بقريشٍ، ومجاهد (ت:104) عاش في مَكَّةَ، وهو ينقل هذا عن سماعٍ، ولذا فإنَّ تحديده هذا يُقبَلُ، والله أعلم. 5 - وعن سعيدِ بنِ المسيبِ (ت:95) والزُّهْرِي (ت:124) (¬4) في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]، قالا: «الماعونُ بلسانِ قريشٍ: المالُ» (¬5). ولم أجدْ في كتبِ اللُّغةِ التي رجعتُ إليها من نَصَّ على أنَّ الماعونَ: المالُ. ¬
ومادةُ: (مَعَنَ) تحتملُ هذا المعنى الذي ذكراه، وقد وردَ أنَّ المَعْنَ: القليلُ من المالِ والكثيرُ من المالِ، ومنه قولهم: أمعنَ الرجلُ: إذا كَثُرَ مالُه، وأمعنَ: إذا قلَّ مالُه، وهو من الأضدادِ. وقد ذُكِرَ أنَّ الماعونَ: الزكاةُ، وهي ترجعُ إلى معنى المالِ، وإن لم تكن نصّاً فيه (¬1)، والله أعلم. 6 - وعنِ الحسنِ (ت:110)، قال: «كُنَّا لا ندري ما الأرائكُ؟ حتى لَقِينَا رجلاً من أهلِ اليمنِ، فأخبرنا أنَّ الأريكةَ عندهم: الحجلةُ فيها السريرُ» (¬2). وكذا جاء في معاجم اللغة: والأريكةُ: سريرٌ في حجلةٍ، والجمعُ: أرِيكٌ وأرَائِكُ، وفي التَّنْزِيل: {عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56]، قال المفسِّرون: الأرائكُ: السُّرُرُ في الحِجَالِ» (¬3). 7 - وعن الضَّحَّاكِ (ت:105) في قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] قال: «سُتُورَهُ، أهلُ اليمنِ يُسمُّونَ السِّتْرَ: المِعْذَارَ» (¬4). وقد نقلَ هذا المعنى بعضُ أهلِ اللُّغةِ، قالَ ابنُ دريدٍ (ت:321): «وفسَّرَ قومٌ قولَه جلَّ ثناؤه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] قالوا: السِّتر، لغةٌ أَزْدِيةٌ، الواحدُ: مِعْذَارٌ. قال الشاعرُ (¬5): ¬
لَمَحَتْ لَمْحَةً كجانب قَرْنِ الـ ... ـشَّمْسِ بين القِرَامِ والمِعْذَارِ والقِرَامُ: سِتْرٌ رَقِيقٌ» (¬1). وقال رضيُّ الدِّين الصَّغَانِيُّ (ت:650) (¬2): «والمِعْذَار: السِّترُ في لغةِ قومٍ من اليمنِ، وعلى ذلك فسَّرَ بعضُ المفسرين قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] قال: معناه: أَرْخَى سُتُورهُ» (¬3). وتتبع الأمثلة الواردة عن السلفِ في هذا النوعِ يطول، وهي منثورةٌ في المرويِّ عنهم، وفيما ذكرتُه غُنيةٌ في بيانِ الموضوعِ (¬4)، والله الموفق. ¬
النوع الثاني: أن يرجعوا إلى منثورِ كلامِهم، دونَ أن ينصُّوا على لغةِ قبيلةٍ بعينِها. يعتمدُ المفسِّرُ في هذا النَّوعِ على شيءٍ من كلامِ العرب المنثورِ، أو ينصُّ على أنَّ هذا من لغةِ العربِ، ومن أمثلةِ ذلك: 1 - عن ابنِ مسعودٍ (ت:35) في قولِه تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] قال: «إنه ليسَ بالخَاتِمِ الذي يختمُ، أمَا سمعتُمُ المرأةَ من نسائِكُم تقولُ: طِيبُ كذا وكذا خِلْطُهُ مِسْكٌ» (¬1). 2 - وعن ابن عباس (ت:68) في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، قال: «مِنَ الإثمِ، ثُمَّ قالَ: نَقِيُّ الثِّيابِ في كلامِ العربِ» (¬2). والمراد بقوله: «نقيُّ الثِّياب»؛ أي: أنَّ فِعْلَه فعلٌ محمودٌ. وقد ورد في اللُّغةِ: «فلانٌ دَنِسُ الثِّيابِ: إذا كان خبيث الفعلِ والمذهبِ خبيث العِرْضِ، قال امرُؤ القيسِ (¬3): ثِيَابُ بني عَوفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وأَوجُهُهُم بِيضُ المَسَافِرِ غرَّانُ» (¬4) ¬
3 - وقالَ: «كنتُ لا أدري ما فاطر السماوات؟ حتى أتاني أعرابيانِ يختصمانِ في بئرٍ، فقالَ أحدُهما: أنَا فطرتها؛ يعني: أنا ابتدأتها» (¬1). وقد ورد هذا عن بعض أئمة اللُّغة، قال ابن الأعرابي (ت:231): «أنا أولُ من فطر هذا؛ أي: ابتدأه» (¬2). 4 - وعن مجاهد (ت:104) في قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات: 2] قال: «المكرُ، تقولُ العربُ ـ إذا أرادَ الرجلُ أن يمكرَ بصاحبِه ـ: أمَا واللهِ لأقدحنَّ لك» (¬3). وقد ورد في بعض كتبِ اللُّغةِ قريبٌ من هذا، يقال: قدح في ساق أخيه: إذا غشَّهُ، وعَمِلَ في شيءٍ يكرهه (¬4). كما ورد فيها: اقتدحَ الأمرَ: تدبَّرَهُ (¬5). ولفظُ المكرِ فيه شيءٌ من معنى التَّدبرِ؛ إذ يشتركان في إعمال الفكر والتأمُّل، وإن كان المكرُ أخصَّ من التَّدبرِ. 5 - وقال عكرمة (ت:105) في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]: «إن العربَ إذا اشتدَّ القتالُ فيهم والحربُ، وعَظُمَ الأمرُ فيهم، قالوا لِشِدَّةِ ذلك: قد كشفتْ الحربُ عن ساقٍ، فذكرَ اللهُ شِدَّةَ ذلك اليوم بما يعرفون» (¬6). ¬
6 - وورد عن الحسنِ البصريِّ (ت:110) في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] أنه قال: «كان واللهِ سَرِيًّا [يعني: عيسى]. فقال له خالدُ بنُ صفوان (¬1): يا أبا سعيد، إنَّ العربَ تسمي الجدولَ: السَّرِيَّ. فقال: [أي: الحسن]: صدقت» (¬2). والسَّريُّ بمعنى: السَّيدُ الشَّريفُ واردٌ في لغة العربِ، قال نشوان الحِمْيَرِي (ت:573): «والسَّرَاة: جمعُ سَرِيٍّ، وهو الفاضلُ» (¬3). وأمَّا المعنى الآخرُ للسَّرِيِّ، وهو النَّهْرُ، فقال أبو بكر بن دريد الأزديُّ (ت:321): «والسَّرِيُّ: النَّهْرُ، هكذا فُسِّرَ في التَّنْزيل» (¬4). والأمثلة الواردة عنهم في هذا كثيرة (¬5)، والله الموفقُ. ¬
أسلوب الوجوه والنظائر
الأسلوب الثاني أسلوبُ الوجوه والنَّظائر ظَهَرَ لهذا العلم تسميتان: الوجوهُ والنَّظائرُ. والأشباهُ والنظائرُ. والغالبُ من هاتين التَّسميتين التَّسميةُ الأولى (¬1)، ولم أجدْ منْ عرَّفَ مصطلحَ الأشباهِ عند من ذكره، كما لم أجدْ له ذكراً في تطبيقاتِ هذه الكتبِ التي ذكرته (¬2)، وإنما الموجودُ لفظُ الوجوه، ولفظُ النَّظائرِ، ومرادفاتُ لفظِ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأشباه والنظائر في اللغة
النَّظائرِ، ولما كان الأمر كذلكَ، فإنِّي رجعتُ إلى كتبِ اللُّغةِ؛ لمعرفةِ معنى الأشباهِ، وهل بينه وبين النَّظائرِ فرقٌ في المعنى. الأشباهُ والنَّظائرُ في اللُّغةِ: ورد في القاموسِ المحيطِ: «الشِّبهُ ـ بالكسرِ والتحريكِ وكأميرٍ ـ: المِثْلُ، والجمعُ: أشباهٌ» (¬1). وقال الزَّبيديُّ (ت:1205) في شرحه: «النَّظيرُ ـ كأميرٍ ـ والمُنَاظِرُ: المَثِيلُ والشَّبِيهُ في كلِّ شيءٍ، يقال: فلانٌ نَظِيرُكَ؛ أي: مِثْلُكَ؛ لأنَّه إذا نَظَرَ إليهما النَّاظِرُ رآهما سواءً» (¬2). وقال: «والنَّظَائِرُ: الأفَاضِلُ والأمَاثِلُ؛ لاشْتِبَاهِ بعضهم ببعضٍ في الأخلاقِ والأفعالِ والأقوالِ» (¬3). ومن هذا يتبينُ أنَّ لفظيْ الأشباهِ والنَّظَائرِ يأتيان في اللُّغة لمعنىً واحدٍ، ولَمَّا لَم يتبينْ مرادُ من أطلقَ الأشباهَ والنَّظائرَ على هذا العلمِ، فإنَّ اللُّغةَ تُحَكَّمُ في هذا، ويكونُ معنى الأشباهِ هو معنى النَّظائرِ. الوجوهِ والنَّظائر في الاصطلاح: غلبَ هذا المصطلحُ على المؤلَّفات التي كُتِبَتْ في هذا العلمِ، وقد اختلفَ العلماءُ في بيانِه (¬4)، ولما لم يكنْ تحريرُ هذا الخلافِ من صلبِ ¬
البحثِ، فإنِّي قد حَرَصْتُ على استقراءِ أوَّلِ كتابٍ فيه: كتابِ مقاتلِ بنِ سليمانَ البلخيِّ (ت:150) (¬1)، حتى أتبينَ منه المرادَ بهذا المصطلحِ؛ لأنَّ من كتبَ بعده في هذا العلمِ عَالَةٌ عليه، وإذا ظهرَ بهذا المصطلحِ، فإنه يُحتكمُ إليه، ويُصحَّحُ ما خالفَه من التَّعريفاتِ التي ذكرها العلماءُ. وبعدَ استقراءِ كتاب مقاتلٍ (ت:150)، ظهرَ لي مرادُه بعلمِ الوُجُوهِ والنَّظائِر، وإليك هذا المثال الذي يتبيَّنُ منه مرادُه بالوجوه والنَّظائرِ: * قال مقاتل (ت:150): «تفسيرُ الحسنى على ثلاثةِ أوجهٍ: فوجهٌ منها: الحسنى؛ يعني: الجنَّةَ، فذلك قولُه في يونسَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26]؛ يعني: الذين وَحَّدُوا لهم الحسنى؛ يعني: الجنَّةَ، {وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]؛ يعني: النَّظرَ إلى وجهِ اللهِ. ونَظِيرُها في النَّجمِ، حيثُ يقولُ: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]؛ يعني: بالجنَّةِ، وكقولِه في الرحمنِ: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] يقول: هلْ جزاءُ أهلِ التَّوحيدِ إلا الجنَّةَ. ¬
الوجه الثاني: الحسنى؛ أي: البنون، فذلك قول الله تعالى في النَّحْلِ: {لَهُمُ الْحُسْنَى} [النحل: 62] (¬1)؛ أي: البنون. والوجه الثالث: الحسنى؛ يعني: الخيرَ، فذلك قولُه في براءة: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} [التوبة: 107] يقولُ: ما أردنا ببناء المسجدِ إلاَّ الخيرَ (¬2). ونظيرها في النساءِ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] (¬3)، يعني: الخير» (¬4). تحليلُ هذا المثالِ: 1 - إنَّ مقاتلَ بنَ سليمان (ت:150) جعلَ لفظَ الحسنى في القرآن على ثلاثةِ وجوهٍ: (الجنَّة، والبنون، والخير)، وهذه الوجوهُ معانٍ مختلفةٌ لهذه اللَّفظةِ. 2 - وإنه يكفي في الوجوه اتفاقها في المادَّةِ، وإن لم تتفقْ في صورةِ اللَّفظِ؛ كالحسنى والإحسان. 3 - وإنه في الوجه الأولِ فَسَّرَ الحسنى في آيةِ يونسَ بأنها الجنَّة، ثمَّ جعل الحسنى في آية سورةِ النَّجمِ نظيرةً لآيةِ سورةِ يونس. وفسَّرَ الحسنى في آية سورة براءة بأنها الخير، ثُمَّ جعلَ الحسنى في آية سورة النِّساء نظيرةً لها، فهما موضعان مختلفان من القرآنِ، لكنهما اتفقا في ¬
بداية الكتابة في هذا العلم
مدلولِ اللَّفظةِ، وهذا يعني أنَّ تماثلَ المدلولِ في الآيتينِ هو النظائرُ (¬1). 4 - وإنه لم يذكر في الوجه الثاني نظيراً للآيةِ، وهذا يعني أنَّه لا يلزمُ أن يكونَ في كلِّ وجهٍ من الوجوهِ نظائرُ من الآيات. ومن هذا الموضع المنقولِ عن مقاتلٍ (ت:150) يتحرَّرُ مصطلحُ الوجوهِ والنَّظائرِ، ويكونُ كالآتي: الوجوهُ: المعاني المختلفةُ لِلَّفظةِ القرآنيةِ في مواضعِها من القرآنِ. والنَّظَائِرُ: المواضعُ القرآنيةُ المتعدِّدَةُ للوجهِ الواحدِ التي اتفقَ فيها معنى اللَّفظِ، فيكون معنى اللَّفظ في هذه الآية نظيرَ (أي: شبيه ومثيل) معنى اللَّفظ في الآيةِ الأخرى، واللهُ أعلمُ. بداية الكتابة في هذا العلم: برزتْ كتبُ هذا العلمِ في عهد أتباعِ التَّابعينَ، وقدْ كتبَ فيه منهم: 1 - مقاتلُ بنُ سليمانَ البلخيُّ (ت:150)، وكتابه: الوجوه والنَّظائر. 2 - أبو عليِّ الحسينُ بنُ واقدٍ المروزيُّ (ت:159) (¬2)، وكتابه: وجوه القرآن (¬3). ¬
علاقة الوجوه والنظائر بالتفسير اللغوي
3 - هارونُ بن موسى الأعورُ (ت:170 تقريباً) (¬1)، وكتابه: الوجوه والنَّظائر. 4 - يحيى بنُ سلامٍ (ت:200)، وكتابه: تفسيرُ القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرَّفت معانيه، وقد عَنْوَنَتْ له المحقِّقَةُ بعنوان (التَّصاريف) بناءً على ما جاء في أول ورقة من المخطوطِ. علاقةُ الوجوهِ والنَّظائر بالتَّفسير اللُّغويِّ: يظهر من كُتبِ هذا العلمِ أنَّ البحثَ فيه يتعلَّقُ بالنَّصِّ القرآنيِّ مباشرةً، حيثُ يستنبطُ المفسِّرُ معانيَ الوجوهِ والنَّظائرِ من الآيات مباشرةً، ويقتنصُها من السِّياقِ القرآنيِّ الذي وردت فيه اللَّفظةُ، ولذا كثُرتْ عندهم الوجوهُ في بعضِ الألفاظِ بسببِ النَّظرِ إلى الاستعمالِ السِّياقيِّ، دون الاقتصارِ على أصلِ المدلولِ اللُّغويِّ (¬2). وعند بحثِ علاقةِ الوجوهِ والنَّظائرِ القرآنيَّةِ باللُّغةِ، فإنَّ الأمرَ فيه جانبانِ مرتبطانِ باللُّغةِ: ¬
الأولُ: الأصلُ الجامعُ لمعنى اللَّفظِ في لغةِ العربِ، ومعرفةُ علاقةِ هذه الوجوهِ بهذا الأصلِ (¬1). الثاني: أنَّ بعضَ هذه الوجوهِ تكونُ دلالاتٍ لغويَّةً مباشرةً، وقد تتعدَّدُ الوجوهِ بتعدُّد هذه الدلالاتِ، والنَّظرُ في ذلكَ يرجعُ إلى استعمالِ العربِ حسبما قرَّرهُ أهلُ اللُّغةِ. وإذا وُجِدَ في كُتبهم شيءٌ من الوجوهِ لا يوجدُ له دلالةٌ مباشرةٌ في كتبِ أهل اللُّغةِ، فإنَّ هذا لا يعني خروجَه عن اللُّغةِ (¬2)، ولكنْ يُلْحَظُ أنَّهُ لا بدَّ من وجودِ ارتباطٍ بينه وبينَ أصلِ المعنى اللُّغويِّ. وسأذكر من الأمثلةِ ما يوضِّحُ ذلكَ: * قال مقاتل (ت:150): «تفسيرُ اللَّبسِ على أربعةِ وجوهٍ: فوجهٌ منها: يلبسونَ؛ يعني: يخلِطونَ، فذلكَ قوله في البقرةِ: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42]؛ يعني: لا تخلِطوا. ونظيرها في آل عمرانَ: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71]؛ يعني: لمَ تخلِطونَ، كقوله في الأنعامِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]؛ يعني: لم يخلِطوا الإيمانَ بالشِّرك. والوجه الثاني: اللِّباسُ؛ يعني: سَكَنٌ (¬3)، فذلك قوله في البقرة: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187]، يقول: نساؤكم سكنٌ لكم. {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}؛ يعني: سكنٌ لهنَّ؛ كقولِه في الفرقانِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47]؛ يعني: سكناً، نظيرُها في عمَّ يتساءلونَ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10]؛ يعني: سكناً. ¬
والوجهُ الثالثُ: اللِّباسُ؛ يعني: الثِّياب الَّتي تُلبَسُ، فذلك قوله في الأعراف: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]؛ يعني: الثياب. وقال في حم الدُّخان: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الدخان: 53]؛ يعني: الثياب. والوجهُ الرابعُ: يعني العملَ الصالحَ، كذلك (¬1) قوله في الأعرافِ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26]؛ يعني: العمل الصالح» (¬2). تحليلُ هذه الوجوه: 1 - أصلُ مادةِ «لبس» يدلُّ على مخالطةٍ ومداخلةٍ، كما قاله ابن فارسٍ (ت:395) (¬3)، والوجه الأولُ من الوجوه التي ذكرها مقاتلٌ (ت:150) جاءَ على أصلِ مادَّةِ اللَّفظِ. 2 - غلبَ إطلاقُ لفظِ اللِّباسِ على الثِّيابِ الملبوسةِ، فصارَ شيوع هذا المعنى أشبهَ بأن يكونَ أصلَ المادَّةِ (¬4)، وإن كانَ في حقيقتِه يعودُ إلى معنى المخالطةِ والمداخلةِ، وعلى هذا المعنى المشهورِ جاء تفسيرُ الوجه الثالثِ من الوجوه التي ذكرها مقاتلٌ (ت:150). 3 - أمَّا الوجه الثَّاني والرَّابع، فإنه نحى به إلى التَّفسيرِ على المعنى، ولم يبيِّنْ مدلولَ اللَّفظِ المباشرِ، وإن كانَ يعودُ إلى أصلِ المادَّةِ الدَّالِّ على الاختلاطِ، وهو ألصقُ بالمدلولِ المشهور في المادَّةِ، وهو اللِّباسُ. ¬
فقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] فيه تشبيهٌ للزوجينِ باللِّباسِ، لشدَّةِ مخالطتهما فيما بينهما، كما قال الشاعر (¬1): إذا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جيدَهَا ... تَدَاعَتْ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاساً وتفسيرُه اللِّباسَ في هذه الآية بأنه السَّكنُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من الزوجينِ يسكنُ إلى صاحبِه؛ كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، فكأنَّه نظرَ إلى هذه الآيةِ ففسَّرَ اللِّباسَ بالسكنِ، وهو تفسيرٌ لا يَخْرُجُ عن معنى المُخالطةِ، لأنَّ الساكنَ مخالطٌ لمسكنِه. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47] ونظيره من سورة النَّبأ، هو من بابِ تشبيهِ الليلِ باللِّباسِ الذي يستُرُ الإنسانَ؛ أي أنَّ اللِّباسَ كما يسترُ جسمَ الإِنسانِ، فكذلك اللَّيل يسترُ الإنسانَ. وتفسيرُه اللِّباسَ في هاتينِ الآيتينِ بأنه «السكنُ»، كأنَّ فيه إشارةً إلى تفسيرِها بما وردَ في قوله تعالى: و {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [النمل: 86]، وغيرها من الآياتِ الدَّالَّةِ على هذا المعنى الذي لا يَخْرُجُ ـ أيضاً ـ عن معنى المخالطةِ، لأنَّ اللَّيلَ يختلطُ بالإنسانِ ويغطِّيه، فيكون له كاللِّباسِ الذي يلبسُه. وأما تفسيرُه قولَه تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] بأنه العملُ الصالحُ، فهو تفسيرٌ على المعنى؛ لأنَّ المرادَ بلباسِ التقوى استشعارُ النَّفسِ تقوى الله، في الانتهاء عمَّا نهى الله عنه، وإتيان ما أمر الله به، وذلكَ يجمعُ الإيمانَ والعملَ الصالحَ (¬2)، فتلبُّسُه بهذا يدلُّ على المخالطةِ منه لهذه الأمورِ، ¬
حتى كأنها عليهِ كاللِّباسِ الذي يلبسُه، فكما يظهر أثرُ لباسهِ عليه، يظهرُ عليه أثرُ التقوى بعمل الطَّاعات واجتنابِ المنهيَّاتِ، وما يلحقُ ذلكَ من حُسنِ السَّمتِ والحياءِ وغيرِها من أخلاقِ الإيمانِ. * وقال مقاتلٌ (ت:150): «تفسيرُ الحِسَّ على أربعةِ أوجهٍ: فوجهٌ منها: أَحَسَّ؛ يعني: رَأَى، فذلك قولُه في آل عمرانَ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران: 52]، كقولِه في الأنبياء: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَاسَنَا} [الأنبياء: 12] يقولُ: فلمَّا رَأَوا عذابَنا، وكقولِه في مريم: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]، يقول: هلْ تَرَى مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ والوجه الثَّاني: الْحَسُّ؛ يعني: القَتْلَ، فذلك قولُه في آلِ عمرانَ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152]؛ يعني: إذ تقتلونهم. والوجه الثَّالث: الحس؛ يعني: البَحْثَ، فذلك قولُه في يوسفَ: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87]. والوجه الرابع: الحسُّ؛ يعني: الصَّوتَ، فذلك قولُه في الأنبياء: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}؛ يعني: صوتَها، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102]» (¬1). تحليل هذه الوجوه: مادةُ «حَسَّ» ترجعُ إلى أصلينِ لُغويَّين، كما قاله ابن فارسٍ (ت:395): ¬
«الأولُ: غلبةُ الشيء بقتلٍ أو غيرِه. والثاني: حكايةُ صوتٍ، عند توجُّعٍ وشبهِه» (¬1). وإذا تأمَّلتَ هذه الوجوهَ المفسَّرةَ وجدتَها ترجعُ إلى هذين الأصلين، كما تجدُها ـ مع هذا التَّفسيرِ السِّياقي ـ مدلولاتٍ لغويةً لهذا اللَّفظِ، وبهذه المعاني الأربعةُ فَسَّرَ اللُّغويون هذه الآيات. فقد جاء في تهذيب اللغة: «قال ابن المظفر (¬2): الحَسُّ: القتلُ الذريعُ (¬3)، وفي القرآن: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152]، أي: تقتلونهم قتلاً شديداً كثيراً ... وقال أبو إسحاق [يعني: الزَّجَّاج] في قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] معناه: تستأصلونهم قتلاً، يقالُ: حَسَّهم القائد، يَحُسُّهم: إذا قتلهم (¬4). وقال الفراءُ: الحَسُّ: القتلُ والإفناءُ هاهنا (¬5) ... وقال الفراءُ في قولِه جلَّ وعزَّ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران: 25]، وفي قولِه: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]، معناه: فلمَّا وَجَدَ عيسى. قال: والإحساسُ: الوجودُ، تقولُ في الكلامِ: هَلْ أَحْسَسْتَ منهم مِنْ أَحَدٍ (¬6)؟. قال الزجَّاج (¬7): معنى أحسَّ: عَلِمَ وَوَجَدَ في اللغةِ. قال: ويقال: هل ¬
أَحْسَسْتَ صاحبك؟ أي: هلْ رأيتَهُ؟ (¬1) ... وقوله عزّ وجل: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102]؛ أي: لا يسمعون حِسَّهَا وحركةَ تَلَهُّبِها. والحَسِيسُ والحِسُّ: الحركةُ، وقولُه: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]، معناه: هلْ تبصر؟ هل ترى؟ ... قال الليث [يعني: ابن المظفر] في قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران: 52]؛ أي: رأى (¬2)» (¬3). * وقال مقاتلٌ (ت:150): «تفسيرُ الطَّاغوتِ على ثلاثةِ وجوهٍ: فوجهٌ منها: الطَّاغوتُ: يعني به الشيطان، فذلك قوله في البقرةِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256]، نظيرُها في النساءِ، حيثُ يقولُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76]؛ يعني: في طاعةِ الشَّيطانِ، ونظيرُها أيضاً في المائدةِ، حيثُ يقولُ: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]؛ يعني: الشيطان. والوجه الثاني: الطَّاغوتُ؛ يعني: الأوثانَ التي تُعبدُ من دون الله، فذلك قولُه في النَّحلِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]؛ يعني: اجتنبوا عبادة الأوثانِ، ونظيرُها في الزُّمرِ، حيثُ يقولُ: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]؛ يعني: الَّذينَ اجتنبوا عبادة الأوثانِ، وأنابوا إلى ربِّهم. والوجه الثالثُ: الطَّاغوتُ؛ يعني: كعبَ بنَ الأشرفِ اليهوديَّ، فذلك ¬
قوله في البقرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة: 257]؛ يعني: كعب، {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النَّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}. نظيرُها في النساء، حيثُ يقولُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 51]؛ يعني: اليهود، {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}؛ يعني: كعبَ بن الأشرفِ» (¬1). تحليل هذه الوجوه: إذا نظرتَ إلى هذه التفسيراتِ التي ذكرها لِلَفْظِ الطَّاغوتِ، وجدتها تفاسيرَ على المعنى، نظرَ فيها إلى سياقاتِ الآي ففسَّر بها، ولم يُعرِّجْ على أصلِ اللَّفظِ ومعناه في اللُّغةِ. والطَّاغوتُ مأخوذٌ من مادَّةِ «طغى»، وهذه المادَّةُ لها أصلٌ واحدٌ، وهو مجاوزةُ الحَدِّ (¬2)، فكلُّ شيءٍ تجاوز به المرءُ الحدَّ، فقد طغى به، قال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ (ت: بعد 400): «الطَّاغوتُ: عبارةٌ عن كلِّ متعدٍّ، وكلِّ معبودٍ من دونِ اللهِ» (¬3). وإذا تأمَّلتَ هذه الوجوه الثلاثَةَ التي ذكرَها مقاتلٌ (ت:150)، وجدتها ترجِعُ إلى هذا المعنى الذي ذكره الراغبُ (ت: بعد 400)، والله أعلم. وهذه الأمثلةُ وغيرُها تُبَيِّنُ أنَّ كتبَ الوجوهِ والنَّظائرِ تَنُصُّ على المعنى اللُّغويِّ إذا كانَ مراداً في الآيةِ، كما تُكثِرُ من ذِكْرِ المعنى الاستعمالي [أي: المناسب للسياق]، ولا يكونُ فيه ـ في الغالبِ ـ خروجٌ عن المعنى اللُّغوي، كما ظهرَ في التَّمثيلِ السَّابقِ، والله أعلم. ¬
كليات الألفاظ القرآنية
كُلِّيَّات الألفاظِ القرآنيَّة: المرادُ بكلِّيَّات الألفاظِ القرآنيَّةِ = ما يُصَدِّرُ به المفسِّرونَ تفسيرَ بعضِ الألفاظِ بقولِهم: كُلُّ ما في القرآنِ من كذا، فهو كذا، وهذا هو الغالبُ في التَّعبيرِ عن كليَّاتِ القرآنِ، وقد يردُ التَّعبيرُ عنها بغير لفظِ «كل»، مثل: ما ورد في القرآن من كذا، فهو كذا، ولهم في ذكرِها طريقتان: الأولى: أنْ ينُصُّوا على انخرامِ الكُلِّيَّةِ في اللَّفظِ المفسَّرِ، ومثالُ ذلك ما قاله ابن فارس (ت:695): «ما في القرآنِ من ذِكْرِ البعلِ فهو الزوجُ؛ كقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، إلا حرفاً واحداً في الصَّافَّاتِ: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125]، فإنه أراد صنماً» (¬1). وبتأملِ هذا النوعِ من الكلياتِ يظهرُ أنه مندرجٌ في الوجوهِ والنَّظائرِ، غيرَ أنه هاهنا لا يكونُ لِلَّفظةِ إلا معنيانِ، أحدُهما هو المطَّرِدُ في مواضعِ اللَّفظةِ من القرآنِ، والآخرُ يكونُ في موضعٍ أو موضعينِ. وعندَ حكايةِ ما ذكرَهُ ابنُ فارسٍ (ت:395) على أسلوبِ الوجوهِ والنظائرِ، فإنه يكونُ كالآتي: البعل، له في القرآنِ وجهان: الأولُ: الزَّوجُ، ومنه قولُه تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، ونظيرُها قولُهُ تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، ونحوُها. الثاني: صنمٌ، وهو قولُه تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125]؛ أيْ: صنماً. وعلى هذا الأسلوب، صار لِلَفظِ البعلِ وجهانِ، وللوجه الأولِ نظائرٌ، وهذا الأسلوبُ في الكليَّةِ المنخرمةِ غيرُ موجودٍ عند السَّلفِ، بل هو موجودٌ عندهم على أسلوب الوجوه والنَّظائر. الثانية: أن لا ينصوا على انخرامِ الكليةِ، وهذا يحتاجُ إلى تتبع معنى اللَّفظةِ في كلِّ القرآن، وأن تكون بمعنىً واحدٍ في كلِّ هذه المواضع، فإذا كانت كذلك، فإنها تكون كلِّيةً تامَّةً غيرَ مُنْخَرِمَةٍ، ويمكنُ أنْ يصبحَ هذا ¬
المعنى مصطلحاً قرآنيًّا (¬1)؛ أي أنَّه أينما وردَ هذا اللَّفظُ في موضعٍ من القرآنِ، فإنه لا يحتملُ غيرَ هذا المعنى. ومن الأمثلةِ الواردةِ عن السَّلفِ في ذلك: لفظ «أليم»، قال الضَّحَّاكُ (ت:105): «كلُّ شيءٍ في القرآن من الأليمِ فهو الموجعُ» (¬2). وقد وَرَدَتْ هذه اللَّفظة في القرآن اثنتين وسبعين مرةً، وَوَرَدَتْ بصيغةِ: تألمون ويألمون ثلاثَ مراتٍ (¬3). وهذا المعنى الذي جعله الضَّحَّاكُ (ت:105) معنًى كُلِّيًّا لهذه اللَّفظةِ، هو المعنى اللُّغويُّ لها. قال ابنُ فارسٍ (ت:395): «الهمزة واللام والميم: أصلٌ واحدٌ، وهو الوجعُ» (¬4). وبناءً على قولِ الضَّحَّاكِ (ت:105)، فإنَّ هذه الكلمةِ أينما وُجِدَتْ في القرآنِ، فإنها بمعنى الألمِ، ومما يلاحظُ على هذا المعنى أنه هو المعنى اللُّغويُّ الوحيدُ لهذه اللَّفظةِ. ومن هذا البيان يظهرُ أنَّ الكلِّيَّةَ التَّامَّةَ في الألفاظ القرآنيَّةِ بحثٌ يقابلُ الوجوهَ والنَّظائرَ؛ لأنَّ كتبَ الوجوهِ والنَّظائرِ تذكرُ اللَّفظَ الذي يكونُ له أكثرُ من وجهٍ دونَ غيرِهِ، والكُّلِّياتُ التَّامَّةُ يُذكرُ فيها اللَّفظُ الذي له معنًى واحدٌ. ¬
ومما وردَ عنِ السَّلفِ منْ كُلِّيَّات في الألفاظِ القرآنيَّةِ ما يلي: 1 - عن مجاهدٍ (ت:104) قال: «كُلُّ ظَنٍّ في القرآنِ فهو علمٌ»، وفي روايةٍ: «يقين» (¬1). هذا المعنى الذي ذكره مجاهدٌ (ت:104) للفظةِ الظَّنِّ هو أحدُ المعاني اللُّغويَّةِ لهذا اللفظِ، قالَ ابنُ فارسٍ (ت:395): «الظَّاءُ والنُّونُ: أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنيين مختلفين: يقينٍ وشكٍّ. فأمَّا اليقينُ، فقولُ القائلِ: ظَنَنْتُ ظَنًّا؛ أي: أَيْقَنْتُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ} [البقرة: 249] أرادَ ـ والله أعلمُ ـ: يوقنونَ، والعربُ تقولُ ذلك وتعرفُه، قال شاعرُهُم (¬2): فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمْ فِي الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ أرادَ: أَيْقِنُوا، وهو في القرآن كثير» (¬3). 2 - وعنْ سعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94) قالَ: «كُلُّ شيءٍ في القرآنِ إفكٌ فهو كَذِبٌ» (¬4). وهذا الذي ذكرَه سعيدُ (ت:94) هو المعنى اللُّغويُّ لهذه اللفظةِ. قال ابنُ فارسٍ (ت:395): «الهمزة والفاء والكاف: أصلٌ واحدٌ يدلُّ على قلبِ الشَّيءِ عن جهتِهِ، يقال: أَفِكَ الشَّيءُ، وأَفِكَ الرجلُ: إذا كذب. والإفكُ: الكذبُ ...» (¬5). وبهذا تظهر علاقةُ هذينِ العلمينِ (الوجوه والنظائر، وكليات الألفاظ القرآنية) بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ، وأنَّ المفسِّرَ الذي يسلكُ هذا السَّبيلَ لا بُدَّ أنْ يكونَ معتمداً على اللُّغةِ، وإن لم يَنُصَّ على ذلك، والله أعلم. ¬
ثانيا: التفسير اللغوي عند اللغويين
ثانياً: التَّفسيرُ اللُّغويُّ عند اللُّغوِيين وفيه: القسم الأوَّلُ: المشاركةُ غيرُ المباشرةِ في تفسيرِ القرآنِ. القسم الثاني: المشاركةُ المباشرةُ في تفسيرِ القرآنِ.
تمهيد
تمهيد اللغويون: هم المشتغلون بجمعِ ألفاظِ العربِ ومعرفةِ دلالتِها واشتقاقِها وتصريفِها، ومعرفةِ أساليبِها في الخطابِ، والاستدلالِ لذلك بلغةِ العربِ من شعرٍ أو نثرٍ (¬1). ¬
وبتَتبُّع تراجم اللُّغويِّين وفهارس كتبهم، ظهرَ أنهم برزوا في القرنِ الثَّاني الهجريِّ، وكانَ ظهورُهم إيذاناً ببروزِ هذا التَّخصُّصِ العلميِّ الذي لم يكنْ ينسبُ قبلهم إلى أعلامٍ في جيلِ الصَّحابةِ والتَّابعين، أي أنك لا تكادُ تجدُ في هذين الجيلينِ من وصفَ بأنه فلانٌ اللُّغويُ (¬1). وإنما تَجدُ في جيلِ الصَّحابةِ من عُرفَ بسعةِ علمِه بأشعارِ العربِ وأيَّامِها وأنسابِها؛ كأبي بكر الصِّديق، وابنتِه عائشة رضي الله عنهما. وتجد في جيل التَّابعينَ منْ يوصفُ بالفصاحةِ في المنطقِ، وعدمِ الوقوعِ في اللَّحْنِ؛ كأبي الأَسْوَدِ ظالم بن عمرو الدُّؤْلِيِّ (ت:69) (¬2)، وزِرِّ بنِ حُبيشٍ الأسديِّ (ت:83) (¬3)، ¬
ونَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيثِيِّ (ت:89) (¬1)، والحَسَنِ البَصرِي (ت:110) (¬2). أو تجدُ منِ اشْتَهَرَ بمعرفتِه بأيامِ العربِ أو أخبارِها أو أشعارِها؛ كعَامِرٍ الشَّعْبِي (ت:103) (¬3)، وقَتَادَةَ بنِ دَعَامَةَ السَّدُوسِي (ت:117) (¬4). وتحفظُ كتبُ تراجمِ اللُّغويينَ بعضَ الأخبارِ التي تدلُّ على بدايةِ الاهتمامِ بتدوينِ ألفاظِ اللُّغةِ، ومن ذلك ما أسندَه أبو سَعِيدٍ السِّيرَافِي (¬5)، عن عِيسَى بْنِ ¬
عُمَرَ النحوي (¬1)، قال: «كُنَّا نمشي مع الحَسَنِ (¬2)، ومعنا عبدُ الله بْنُ أبي إسحَاقَ (¬3)، قال: فقال: حَادِثُوا هذه النُّفوسَ فإنَّها طُلَعَةٌ، ولا تدَعُوها فتنْزعُ بكم إلى شَرِّ غَايةٍ (¬4). قال: فأخرجَ عبدُ اللهِ بنُ أبي إسْحَاقَ ألواحَه، فكتبَها، فقال: استفدنا منك يا أبا سعيدٍ: طُلَعَة» (¬5). وكان ظهورُ هذا التَّخصُّصِ أثراً من آثار الاهتمامِ بتقويمِ اللسانِ العربي الذي أصابه شيءٌ من الخللِ بدخولِ غيرِ العربِ في الإسلامِ. وكانت بداية التَّوجُّه إلى تقويم اللِّسانِ (¬6) كما ذهب إليه كثير من ¬
الباحثين ـ على يد أبي الأَسْوَدِ الدُّؤَلي (ت:69)، وقيل: إنه أخذ مبادئه عن عَلِيٍّ بْنِ أبي طَالِبٍ (ت:40). وفي قول آخر: أنه من ابتكارِ أحد تلميذي أبي الأسْوَدِ (ت:96)، وهما: نَصْرُ بنُ عَاصِمٍ (ت:89)، ويَحْيَى بنُ يَعْمُر (ت:129) (¬1). وأيًّا ما كان الأمر، فإنه لم يشتهر في عهد الصَّحابة والتَّابعين مَنْ اهتم بجمع كلام العربِ وبيانِ معانيه، ولذا لم يرد في ترجمة أحدٍ منهم مصطلحُ اللُّغَويِّ، وهذا يظهر بمراجعة تراجمهم، وتبيُّن الألقاب العلميَّة التي كانت تُطلَق في عصرهم. وبتأمُّلِ تراجم اللُّغويِّين تَجِدُ أوائلَهم ـ كأبانَ بنِ تغلبٍ (ت:141) (¬2)، وأبي عَمْرو بنِ العَلاَءِ (ت:154)، والخَلِيلِ بنِ أحمد الفراهيديِّ (ت:175)، وعلي بن حمزة الكسائيِّ (ت:183)، وأبي عُبَيْدَةَ معمر بن المثنَّى (ت:210)، وغيرِهِم من اللُّغويِّين ـ قد عَاصَر مفسِّري أتباعِ التَّابعينَ؛ كمقاتل بن حيان البلخيِّ (ت:150)، وعبد الملك بنِ جُرَيجٍ المكيِّ (ت:150)، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ زيدٍ المدنيِّ (ت:182)، وغيرهم من مفسِّري هذا الجيلِ (¬3). ¬
وقدْ قامَ اللُّغويُّونَ منْ أصحابِ هذه الطَّبقةِ ومن بعدهم ـ كأبي عُبَيْدَةَ (ت:210) والفَرَّاءِ (ت:207)، وتلاميذِهم الذين أخذوا عنهم علم اللُّغةِ وتابَعُوهم في ذلك؛ كأبي عُبَيدٍ القَاسِمِ بنِ سَلاَّمٍ (ت:224)، وأبي حَاتَمٍ السِّجِسْتَاني (ت:255)، ثمَّ تلاميذ هؤلاء؛ كابن قُتَيبَةَ (ت:276)، وأبي العباس المُبَرَّدِ (ت:285)، وثَعْلَبٍ (ت:291) ـ بتدوينِ لغةِ العربِ وكانوا عمدةً لمنْ جَاءَ بعدَهم في حكايةَ اللُّغةِ. ولاستجلاءِ مشاركةِ اللُّغويِّينَ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، رجعتُ إلى تراجمِهم وفهارس كتبِهم، ثمَّ قرأتُ ما وقعَ بين يَدَيَّ من كتبِ أعلامِ هذه الفترةِ من اللُّغويِّينَ (¬1). وبعد رجوعي إلى تراجم هؤلاء اللغويين وفهارس كتبهم وجدتُ أنَّ مشاركة اللُّغويينَ في التفسيرِ كانتْ على قسمين: الأول: مشاركة غير مباشرة في تفسيرِ القرآنِ. والثاني: مشاركة مباشرة في تفسيرِ القرآنِ. وسأتحدَّث عن كلِّ قسمٍ على حِدَةٍ. ¬
القسم الأول: المشاركة غير المباشر في تفسير القرآن
القسمُ الأولُ المشاركة غير المباشرة تَبْرُزُ مشاركةُ اللُّغويينَ غيرُ المباشرةِ في أنماطِ التَّأليفِ اللُّغويِّ التي سلكَها اللُّغويونَ في الكتابةِ اللُّغويَّةِ، وكانتْ كتبُ النَّوادرِ (¬1) من أقدمِ ما ظهر مِنْ أَنْماطِ التَّأليفِ اللُّغويِّ. وكان أبو عَمْرو بنُ العلاءِ (ت:145) (¬2) أوَّلَ مَنْ ذُكِرَ له كتابٌ في «النَّوادرِ». وقد كانتِ الكتابةُ في هذه الأنماطِ اللُّغويَّةِ (¬3) على ضَرْبَينِ: الأول: الكتابةُ على أسلوبِ الموضوعاتِ: كانت الكتابةُ على أسلوبِ الموضوعاتِ أسبقَ التَّأليفات اللُّغويَّةِ، وأغلبُ ما كُتِبَ كان في موضوعٍ واحدٍ؛ ككتبِ: الفروقِ، والنوادرِ، والأضدادِ، والنباتِ، وخلقِ الإنسانِ، والأنواءِ، ... وغيرِها. وقد ظهر جمع هذه الموضوعات في كتاب واحد عند أبي عبيد (ت:224) في كتابه: «الغَرِيبِ المُصَنَّفِ» (¬4)، حيثُ جعلَ لكلِّ موضوعٍ باباً مستقلاً، فتجدُ ¬
أولا: التفسير اللغوي في كتب الموضوعات
فيه باباً في خلق الإنسان، وباباً في اللباس، وباباً في الأطعمة، وباباً في الأمراض، وباباً في الخمر، وباباً في الدور والأرضين ... إلخ (¬1). الثاني: الكتابةُ على الحروفِ: كانت الكتابةُ على الحروفِ تَهْدِفُ إلى استيعابِ ألفاظِ العربِ، وكانت البدايةُ فيها بكتابِ العينِ المنسوبِ للخَلِيلِ بن أحمد (ت:175)، ثمَّ تَلَتْهُ الكتبُ الأخرى، ومنها: كتاب الجِيمِ، لأبي عَمْرو الشَّيبانِيِّ (ت:220 تقريباً) (¬2)، وكتابِ البارعِ في اللُّغةِ، للْمُفَضَّلِ بنِ سَلَمَةَ (ت:290) (¬3)، وكتابِ جمهرةِ اللغةِ، لابن دُرَيدٍ (ت:321) ... إلخ. وسأذكرُ كيفَ كان التَّفسيرُ اللُّغويُّ في هذين الضَرْبَينِ من الكتابةِ، معَ ذكرِ الأمثلةِ لذلك. أولاً: التفسيرُ اللغويُ في كتبِ الموضوعات: 1 - يظهرُ منْ كتبِ اللُّغةِ التي كُتِبَتْ على نَمَطِ الموضوعاتِ أنَّ التَّفسيرَ لم يكنْ قَصْداً أوَّلِيًّا منْ مقاصدِ اللُّغويِّ في كتابِه. ¬
2 - غالبُ ما جاءَ في التَّفسيرِ كانَ تفسير ألفاظٍ قرآنيَّةٍ مفردةٍ، يَذْكُرُ فيها اللُّغويُّ دلالةَ هذه اللَّفظةِ، ومن ذلك قول أبي العَمَيثَلِ (ت:240) (¬1)، قال: «والجُؤَارُ ـ مهموز ـ: صوتٌ في تَضَرُّعٍ، ومنه قوله تعالى: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]» (¬2). وقال أبو مِسْحَل (¬3): «وتحيَّفَ مالَه وتَحَوَّفَهُ، وتَخَوَّفَتُ مالَه، وقال الله عزّ وجل: {أَوْ يَاخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، وهو النقص» (¬4). 3 - غالباً ما يذكرُ اللُّغويُّ معنى اللَّفظةِ في لغةِ العربِ، ثمَّ يذكرُ الآيةَ التي وردَ فيها هذا اللَّفظُ، فيفسِّر لفظَ الآيةِ به، ومن ذلك ما ذكره قُطْرُبَ (ت:206) (¬5): «وقالوا ـ إذا دَنَا وِلادُهَا ـ: بَخَضَتْ بَخَاضاً، ومَخَضَتْ: لغةٌ، وهو قول الله عزّ وجل: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَخْلَةِ} [مريم: 23]» (¬6). ¬
4 - كما أنَّ هذه الكتبَ لا تذكرُ ـ في الغالبِ ـ إلاَّ الألفاظَ المناسبةَ لموضوعِ الكتابِ، وقَلَّ أنْ تذكرَ ألفاظاً لا علاقةَ لها بموضوعِ الكتابِ، ومن ذلك ما ورد في كتابِ «الإبدال» لابن السِّكِّيت (ت:244) (¬1)، قال: «... ما يَنُوصُ لحاجةٍ، وما يقدر على أن يَنُوصَ؛ أي: يتحرَّك لشيءٍ، ومنه قوله تعالى: {وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3]، ومعنى وَلاَتَ: ليس. ومَنَاصٍ، مثل: مَنَاض» (¬2). ففي هذا المثالِ تجدُ ابن السِّكِّيتِ (ت:244) يُوردُ الإبدالَ في الضَّادِ والصَّادِ في مَنَاصٍ ومَنَاض، ثمَّ ذكر الآية، ثمَّ استطرد في معنى «وَلاَت». 5 - وقدْ تخلو بعضُ الرَّسائلِ اللُّغويَّةِ منْ ذكرِ ألفاظٍ قرآنيَّةٍ مفسَّرةٍ، وذلك لأسباب؛ منها: * أن لا يوجدَ لموضوعِ الكتابِ ما يناسبُه منْ ألفاظٍ قرآنيَّةٍ. * أو لعدمِ حضورِها في ذهنِ المؤلِّفِ، أو لغيرِها من الأسبابِ (¬3). وعوداً على بدءٍ، فإنَّ كتبَ الموضوعاتِ لا تكادُ تخرجُ عنْ بيانِ مدلولِ اللَّفظِ في اللُّغةِ، ومن الأمثلةِ الواردةِ في بعضِ الكتبِ ما يلي: ¬
ثانيا: التفسير اللغوي في معاجم الحروف
في كتاب «ما تلحن فيه العامَّة» المنسوب للكِسَائي (ت:183)، قال: «تقول: عندي وِقْرُ حطبٍ، ووِقْرُ حنطةٍ، وكلُّ ما يحملُ فهو وِقْرٌ ـ بكسر الواو ـ قال تعالى: {فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا} [الذاريات: 2]. وتقولُ: في أُذُنيه وَقْرٌ ـ بفتح الواو ـ وهو رجلٌ موقورٌ: إذا كان به صَمَمٌ، وقال الله تعالى: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]» (¬1). وفي كتاب «الأمثال» لمؤَرِّجٍ (ت:195) (¬2)، قال: «المُبْسَلُ: المُسْلَمُ. قال الله عزّ وجل: {أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام: 70]» (¬3). وفي كتاب «الغريب المصنف» لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت:224)، قال: «والكوثرُ: الشيءُ الكثيرُ، ومنه قول الله جلَّ ذكره: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]» (¬4). ثانياً: التفسير اللغوي في معاجم الحروف: يُعدُّ كتابُ العينِ أوَّلَ معجمٍ عربيٍّ سارَ في ترتيبه على الحروفِ، سواءً أكان كاتِبَه الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديُّ (ت:175)، أمْ كان تلميذُه الليثُ بنُ ¬
المظفَّرِ (¬1). وسأجعله مثالاً لهذه الكتبِ؛ لأنها ـ في الغالبِ ـ تسيرُ على منوالٍ واحدٍ. ولما كانَ مقصدُ التَّأليفِ على هذه الطريقةِ محاولةُ الإحاطةِ بلغةِ العربِ؛ فإنَّ المؤلِّفَ سيذكرُ ألفاظاً قرآنيَّةً ويقومُ بتفسيرِها. ومن الملاحظِ أنَّ اللُّغويَّ في هذه الكتبِ قد يوردُ اللفظَ القرآنيَّ دونَ ذكرِ الآيةِ التي ورَدَ فيها؛ مثل تفسيرِ العِهْنِ في كتاب العين: «والعِهْنُ: المصبوغُ ألواناً من الصُّوفِ، ويقال: كلَّ صوفٍ: عهنٌ، والقطعة؛ عِهنَةٌ، والجمعُ: عُهُونٍ» (¬2). والعهنُ واردٌ في قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبِالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9]، وقوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، ولم يذكر شيئاً من هذين الموضعينِ. ومن أمثلةِ تفسيرِ الألفاظِ في كتابِ العينِ، ما يلي: 1 - قال: «والمُعْصِرَاتُ: سحاباتٌ تمطرُ، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14]. ¬
وأُعْصِرَ القومُ: أُمطِرُوا، قال الله عزّ وجل: «وفيه يُعْصَرُون» [يوسف: 49]، ويقرأ {يُعْصِرُونَ} (¬1): من عصيرِ العنب. قال أبو سعيدٍ (¬2): يستغلونَ أَرَضِيهِم؛ لأنَّ الله يُغْنِيهم، فتجيءُ عصارةُ أَرَضيهم؛ أي: غلَّتها؛ لأنك إذا زرعتَ اعتصرَت من زرعِك ما رزقَك اللهُ. والإعصارُ: الرِّيحُ التي تُثِيرُ السَّحَابَ. عَصَرَت الرِّياحُ، فهي مُعْصِراتٌ؛ أي: مثيراتٌ للسَّحابِ. والإعصارُ: الغبارُ الذي يستديرُ ويسطعُ. وغبارُ العجاجةِ إعصارٌ أيضاً، قال الله عزّ وجل: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} [البقرة: 266]، يعني: العجاجة» (¬3). 2 - وقال: «نَسِيَ فلانٌ شيئاً كان يذكره، وإنه لنَسِيٌّ؛ أي؛ كثيرُ النسيانِ، من قولِ اللهِ جلَّ وعزَّ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. والنِّسْيُ (¬4): الشيءُ المنسي الذي لا يذكرُ، يقال: منه قوله تعالى: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]. ويقال: هو خِرقَةُ الحائضِ إذا رمت به. ¬
ونسيتُ الحديثَ نسياناً، ويقال: أَنْسَيْتُ إنساءً، ونَسِيتُ أجْوَدُ، قال الله تعالى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] ولم يقل: أنسيت، ومعنى أنسيت: أخرت» (¬1). 3 - وقال: «والهَجْرُ والهِجْران: تركُ ما يلزمك تعهُّدُه، ومنه اشتُقَّتْ هجرةُ المهاجرين؛ لأنهم هجروا عشائرهم فتقطَّعُوهم في الله، قال الشاعر (¬2): وأُكثِرُ هَجْرَ البَيتِ حَتى كأنَّنِي مَلَلْتُ، وما بي من مَلاَلٍ ولا هَجْر وقال تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]؛ أي: يهجرونني وإيَّاه. وقال تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]؛ أي: تهجرون محمداً صلّى الله عليه وسلّم. ومن قرأ {تُهجِرونَ} (¬3)؛ أي: تقولون الهُجْرَ؛ أي: قولَ الخَنَا والإفحاشِ في المنطقِ، تقولُ: أَهْجُرُهُ إهْجَاراً، قال الشَّمَّاخُ (¬4): كمَاجِدَةِ الأعْرَاقِ قَالَ ابنُ ضَرَّةٍ عَلَيْهَا كَلاَماً جَارَ فيه وأَهْجَرَا والهَجْرُ: هذيانُ المُبَرْسَمِ (¬5) ودأبُه وشأنُه، ويقال: منه {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 76]؛ أي: تَهْذُونَ في النَّومِ. ¬
وتقولُ: هَجَرْتُ هَجْراً» (¬1). إنَّ هذه النُّصوصَ تعطي صورةً تقريبيَّةً للتَّفسيرِ اللُّغويِّ في كتبِ المعاجمِ التي نُظِّمتْ على الحروفِ. ويمكنُ تلخيصُ ذلك فيما يلي: 1 - بيانُ دلالةِ اللَّفظِ القرآنيِّ في لغةِ العربِ، والغالبُ عليها أنها تذكرُ الآيةَ التي وردتْ فيها اللَّفظةُ. وإذا كان للَّفظِ أكثرُ من دلالةٍ في لغةِ العربِ، فإنَّ كتبَ المعاجمِ تذكرُها. كما أنه إذا كانَ له أكثرُ من استعمالٍ ذُكِرَ؛ كما في لفظِ النسيءِ المذكورِ سابقاً. 2 - الاهتمامُ باختلافِ القراءاتِ إذا كانَ في اختلافِها أثرٌ على المعنى؛ كلفظِ: (يعصرون، وتهجرون) الواردان في الأمثلة السَّابقة. 3 - الاستشهادُ لِلَّفظِ القرآنِيِّ بأشعارِ العربِ؛ كالاستشهادِ الواردِ في تفسيرِ لفظِ: تهجرون. والاستشهادُ قدْ يَقِلُّ في كتابٍ ككتابِ العين (¬2). ¬
القسم الثاني: المشاركة المباشرة في تفسير القرآن
القسمُ الثاني المشاركة المباشرة في تفسير القرآن بعدَ قراءةٍ في تراجمِ اللُّغويِّين وجملةٍ من فهارسِ الكتبِ، ظهرَ لي أنَّ مشاركتَهم المباشرةَ في التَّفسيرِ برزتْ منْ خلالِ علمين: علم غريبِ القرآن، وعلمِ معاني القرآن. وقد تَتَبَّعْتُ كتبَ اللُّغويين المؤلَّفةِ في هذين العِلْمَينِ إلى نهايةِ القرنِ الثالثِ، فظهرَ لي منها ما يربو على العشرينَ مؤلَّفاً، وقبلَ ذكرِ هذه المؤلَّفاتِ أُسجِّلُ بعضَ التَّنْبيهاتِ، وهي: * ما سأذكرُه منها ليسَ على سبيلِ الحصرِ، إذ المرادُ التَّنبيه عل حرصِ اللُّغويِّينَ في التأليفِ في هذينِ العِلْمَيْنِ، وقد وقفتُ بها إلى نهايةِ القرن الثالثِ. *قد يُذكرُ للعالِمِ الواحدِ أكثرُ من كتابٍ، وقد تكونُ عِدَّةَ أسماءٍ لمؤلَّفٍ واحدٍ؛ ككتابِ مجاز القرآنِ، لأبي عُبَيدَةَ (ت:210)، حيثُ يُسمى: معاني القرآن، وغريب القرآن. * قد يَرِدُ بعضُ الكُتبِ باسم «مشكل القرآن»، وهو جزءٌ من علمِ معاني القرآنِ. * سأُرتِّبُ المؤلَّفاتِ حسبَ وفياتِ المؤلِّفينَ. وهذا أوانُ سردِ كُتبِ اللُّغويِّينَ في هذينِ العِلْمَيْنِ: 1 - غريبُ القرآنِ، لأبانَ بنِ تغلبٍ الجَرِيرِيِّ، القارئ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ (ت:141) (¬1). ¬
2 - معاني القرآنِ، لمحمدِ بنِ الحسنِ الرُّؤاسِيِّ، الكوفيِّ، المقرئ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ (ت:170) (¬1). 3 - معاني القرآنِ، ليونسَ بنِ حبيبٍ، البصريِّ، النَّحويِّ (ت:182) (¬2). 4 - معاني القرآنِ، لعلي بنِ حمزةَ الكسائيِّ، الكوفيِّ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ، أحدِ القرَّاءِ السَّبعةِ (ت:183 وقيل غيرها) (¬3). 5 - غريبُ القرآنِ، لِمُؤَرِّجِ بْنِ عَمْرٍو السَّدوسيِّ، البصريِّ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ (ت:195) (¬4). 6 - غريبُ القرآنِ، لأبي محمدٍ يحيى بنِ المباركِ اليزيديِّ، البصريِّ، اللُّغويِّ (ت:202) (¬5). ¬
7 - غريبُ القرآنِ، للنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، البصريِّ، اللُّغويِّ (ت:203) (¬1). 8 - مشكلُ القرآنِ، لمحمدِ بنِ المُسْتَنِيرِ (قطربَ) البصريِّ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ (ت:206) (¬2). 9 - معاني القرآنِ، لأبي زكريا يحيى بنِ زيادٍ الفرَّاءِ، الكوفيِّ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ (ت:207) (¬3). 10 - مجازُ القرآنِ، لأبي عبيدَة معمرِ بنِ المثنى، البصريِّ، اللُّغويِّ (ت:210) (¬4). 11 - معاني القرآنِ، لأبي الحسنِ سعيدِ بنِ مسعدةَ (الأخفشِ)، النَّحويِّ، البصريِّ (ت:215) (¬5). ¬
12 - غريبُ القرآنِ، للأخفشِ (ت:215) (¬1). 13 - معاني القرآنِ، لأبي زيدٍ سعيدِ بنِ أوسٍ الأنصاريِّ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ، البصريِّ (ت:215) (¬2). 14 - معاني القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام، اللُّغويِّ (ت:224) (¬3). 15 - غريبُ القرآنِ، لأبي عبدِ اللهِ محمدِ بنِ سلامٍ الجُمَحِيِّ، الأديبِ، البصريِّ (ت:231) (¬4). 16 - غريبُ القرآنِ، لأبي عبدِ الرحمنِ عبدِ اللهِ بنِ يحيى بنِ المباركِ اليزيديِّ (ت:237) (¬5). ¬
17 - غريبُ القرآنِ، لأبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ مسلمِ بنِ قُتَيْبَةَ، البصريِّ، اللُّغويِّ، الأديبِ (ت:276) (¬1). 18 - تأويلُ مشكلِ القرآنِ، لابنِ قُتَيْبَةَ (ت:276) (¬2). 19 - معاني القرآنِ، لأبي العباسِ محمدِ بنِ يزيدَ (المبردِ)، النَّحويِّ، اللُّغويِّ، الأديبِ (ت:285) (¬3). 20 - ضياءُ القلوبِ في معاني القرآنِ، للمُفَضَّلِ بنِ سلمةَ، الكوفيِّ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ (ت:290 تقريباً) (¬4). 21 - معاني القرآنِ، لأبي العباسِ أحمدَ بنِ يحيى (ثعلبٍ) الكوفيِّ، النَّحويِّ، اللُّغويِّ (ت:291) (¬5). 22 - معاني القرآنِ، لمحمدِ بنِ أحمدَ بنِ كَيسَانَ، النَّحَويِّ، اللُّغويِّ (ت:209) (¬6). ¬
طريقة التفسير اللغوي في هذه الكتب
طريقةُ التَّفسير اللُّغويِّ في هذه الكتبِ: لقد استقرأتُ المطبوعَ من هذه الكتبِ، وظهرَ لي من خلال هذا الاستقراءِ أنَّ اللُّغويِّينَ سلكوا في هذه الكتبِ مسلك السَّلفِ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، فظهرَ عندهم التَّفسيرَ على المعنى، وعلمَ الوجوهِ، وأسلوبَ التَّفسيرِ اللَّفظيِّ. غيرَ أنَّ هذا الأخيرَ هو الغالبُ على التَّفسيرِ اللُّغويِّ عندَ اللُّغويِّين، والأولانِ لا يشكِّلانِ شيئاً كثيراً عندهم. وقبلَ أنْ أذكرَ الأمثلةَ على ذلك، سأذكرُ ما تجدُه زائداً عن السَّلفِ من البحوث في مسائل العربيَّةِ في التَّفسيرِ عند اللُّغويِّين. أولاً: كثرةُ مباحثِ الصَّرفِ والاشتقاقِ: برزتْ هذه المباحثُ بكثرةٍ عند الفرَّاءِ (ت:207) والأخفشِ (ت:215)، وغالبُ هذه المباحثِ لا أثرَ لها على التَّفسيرِ؛ أي: لا يتوقَّفُ عليها البيانُ. وإنما لما كانَ النَّظرُ اللُّغويُّ عند هؤلاءِ اللُّغويِّين هو المقصدَ في التَّفسيرِ توسَّعُوا في ذكرِ هذه المباحثِ اللُّغويَّةِ. ويلاحظُ أنَّ هذه المباحثَ الصرفيَّةَ والاشتقاقيَّةَ في كتبِ المعاني، دون كتبِ الغريبِ. ومنَ الأمثلةِ في كتبِ المعاني: قال الأخفشُ (ت:215): «وقال: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]؛ لأنك تقول: طَهَرَتْ المرأةُ، فهي تَطْهُرُ. وقال بعضهم: طَهُرَتْ. وقالوا: طَلَقَتْ تَطْلُقُ، وطَلُقَتْ تَطْلُقُ أيضاً. ويقال للنفساءِ إذا أصابها النفاس: نُفِسَتْ، فإذا أصابها الطَّلْقُ: طُلِقَتْ. وقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] تقول: لَغَوتُ في اليمين، فأنا أَلْغُو لَغْواً، ومن قال: هو يَمْحَى؛ قال: هو يَلْغَى لَغْواً ومَحْواً، وقد سمعنا ذلك من العرب، وتقول لَغِيتُ باسمِ فلانٍ، فأنا أَلْغَا به لَغاً؛ أي: أذكُرُهُ» (¬1). ¬
ثانيا: كثرة المباحث النحوية
قال الفراء (ت:207) في قوله تعالى: {لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]: «والعوان ليست بنعتٍ للبِكرِ؛ لأنها ليست بِهَرِمَةٍ ولا شابَّةٍ. انقطع الكلام ثمَّ استأنف، فقال: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} والعوانُ يقال منه: قد عَوَّنت، والفارض: قد فَرَضت. وبعضهم: قد فَرُضت. وأما البِكْرُ فلم نسمع فيها بفعلٍ. والبِكْرُ بكَسرِ أوَّلها إذا كانت بِكْراً من النساءِ، والبَكْرُ ـ مفتوحٌ أوُّلُهُ ـ من بِكَارَةِ الإبل» (¬1). ثانياً: كثرة المباحث النحوية: كان النَّحوُ وَعِلَلُهُ بارزاً في كتب المعاني، وقد كان أحدَ مقاصدِ التأليفِ في كتب المعاني دون كتب الغريب، وهذا مما لا تجده عند السلف، ومن الأمثلة على ذلك: قال الفرَّاء (ت:207) «وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] يقول: نقضَ عهدٍ. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} بالنقض {عَلَى سَوَاءٍ} يقول: افعل كما يفعلون سواءً. ويقال في قوله: {عَلَى سَوَاءٍ}: جَهْراً غيرَ سِرٍّ. وقوله: {تَخَافَنَّ} في موضع جزمٍ، ولا تكاد العرب تدخلُ النون الشديدة ولا الخفيفة في الجزاء حتى يصلوها بـ «ما»، فإذا وصلوها، آثروا التنوين، وذلك أنهم جعلوا لـ «إمَّا» وهي جزاء شبيهاً بإمَّا من التخيير، فأحدثوا التنوين ليعلم به تفرقة بينهما، ثمَّ جعلوا أكثر جوابها بالفاء؛ كذلك جاء التنزيل، قال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ} [الأنفال: 57]، {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}، ثمَّ قال: {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]، فاختيرت الفاء لأنهم إذا نوَّنوا في إمَّا جعلوها صدراً للكلام، ولا يكادون يؤخرونها. ليس من كلامهم: اضربه إمَّا يقومن، إنما كلامهم أن يقدموها، فلما ¬
ثالثا: كثرة الاستشهاد من لغة العرب
لزمت التقديم صارت كالخارج من الشرط، فاستحبوا الفاء وآثروها، كما استحبوها في قولهم: أما أخوك فقاعد، حين ضارعتها» (¬1). وقال أبو عبيدة (ت:210) في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَّرٌّ لَهُمْ} [آل عمران: 180]: «انتصب ولم تعمل (هو) فيه، وكذلك ما وقفت فيه فلم يتمَّ إلاَّ بِخَبَرٍ؛ نحو: ما ظننتُ زيداً هو خيراً منك، وإنما نصبت خيراً؛ لأنك لا تقول: ما ظننتُ زيداً، ثمَّ تسكتُ، وتقولُ: رأيتُ زيداً فيتمَّ الكلام، فلذلك قلت: هو خيرٌ منك، فرفعتَ، وقد يجوز في هذا النصبُ» (¬2). وقال الأخفش (ت:215) ـ في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 51]ـ: «وهذه إِنْ التي تكونُ للإيجابِ وهي في معنى الثقيلةِ، إلاَّ أنَّها ليست بثقيلةٍ؛ لأنَّكَ إذا قلتَ: إِنْ كان عبدُ اللهِ لظريفاً، فمعناه: إنَّ عبدَ اللهِ لَظَرِيفٌ قبلَ اليومِ، فـ «إنْ» تدخل في هذا المعنى، وهي خفيفةٌ» (¬3). هذه الأمثلةُ ـ وهي كثيرةٌ جداً في معاني القرآنِ للفرَّاءِ (ت:207) والأخفش (ت:215) ـ توضِّحُ صورةَ المسائلِ النَّحويةِ التي طَرَقَهَا اللُّغويُّون في كتبِ المعاني، ويلاحظُ أنَّ أغلبَ هذه المسائلِ لا أثرَ فيه على التَّفسيرِ، بل هي بكتب النَّحْوِ ألصقُ. ثالثاً: كثرةُ الاستشهادِ منْ لغةِ العربِ: لقدْ كانَ الشَّاهدُ العربيُّ عند اللُّغويِّين ذا قيمةٍ كبيرةٍ. ويلاحظُ هاهنا أمرانِ: الأولُ: أنَّ الشَّواهدَ للمسائلِ النَّحويَّةِ والصَّرفيَّةِ والاشتقاقيَّةِ أكثرُ من الشَّواهدِ اللُّغويَّةِ في كتبِ معاني القرآنِ. ¬
الثاني: أنَّ كتبَ الغريبِ يكثر فيها الاستشهادُ اللُّغويُّ، وهي أكثرُ من شواهدِ كتبِ المعاني في هذا البابِ. ومنَ الأمثلةِ على هذه الشَّواهدِ في كتبِ اللُّغويِّين ما يلي: 1 - قال الفراءُ (ت:207): «وقولُهُ: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21]: لا يخافون لقاءنا، وهي لغةٌ تِهاميَّةٌ، يَضَعُونَ الرَّجاءَ في موضعِ الخوفِ إذا كان معه جحدٌ. ومن ذلك قول الله: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]؛ أي: لا تخافون له عظمةً، وأنشدني بعضهم (¬1): لا تَرْتَجِي حين تُلاقِي الذَّائِدا ... أَسَبْعَةً لاقتْ مَعاً أَمْ واحِدا يريد: لا تخاف ولا تبالي. وقال الآخر (¬2): إذا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَها ... وَحَالَفَهَا في بيتِ نُوبٍ عَوَامِلِ يقال: نَوب ونُوب، ويقال: أَوب وأُوب: من الرجوع. وقال الفرّاء: والنُّوبُ: ذَكَرُ النَّحْلِ» (¬3). 2 - وقال أبو عبيدة (ت:210) ـ في قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا} [النبأ: 24]ـ: «نوماً ولا شراباً، وقال الكندي (¬4): ¬
.. فَصَدَّني ... • عنها وعن قُبْلَتِها ـ البَرْدُ أي: النُّعاس» (¬1). 3 - وقال الأخفش (ت:215): «وقوله: {أَوْ نَذَرْتُمْ} [البقرة: 270]، تقول: نَذَرَ يَنْذُرُ على نفسه نَذْراً، ونَذَرْتُ مالي، فأنا أَنْذُرُهُ نَذْراً، أخبرنا بذلك يونس (¬2) عن العرب. وفي كتاب الله: {لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35]، وقال الشَّاعرُ (¬3): هُمْ يَنْذُرُونَ دَمِي وَأَنْـ ... ـذُرُ إِنْ لَقِيتُ بأنْ أَشُدَّا وقال غيرُه (¬4): الشَّاتِمِي عِرْضِي ولم أَشْتُمْهُمَا ... والنَّاذِرِينَ إذا لم أَلْقَهُمَا دَمِي» (¬5) 4 - وقال ابن قتيبة (ت:276) ـ في غريب القرآن، في قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11]؛ «أي: عُظْمَهُ، وقال الشاعرُ (¬6) ـ يَصِفُ امرأةً ـ: تنامُ عن كِبْرِ شَأنِها فإذا ... قامتْ رُوَيداً تكادُ تنغرفُ أي: تنامُ عن عُظْمِ شأنها؛ لأنها مُنَعَّمَةٌ» (¬7). وقال في تأويل مشكل القرآن: «... ومن ذلك قوله: {وَلَكِنْ لاَ ¬
رابعا: بيان الأساليب العربية الواردة في القرآن
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235]؛ أي: نكاحاً؛ لأنَّ النكاحَ يكونُ سِرّاً ولا يظهرُ، فاستُعيرَ له السِّرُّ. قال رؤبةُ (¬1): فَعَفَّ عن أَسْرَارِها بعد العَسَقِ والعَسَقُ: الملازمةُ» (¬2). رابعاً: بيانُ الأساليبِ العربيَّةِ الواردةِ في القرآنِ: اعتنى اللُّغويُّونَ ببيانِ الأساليبِ العربيَّةِ الواردةِ في القرآنِ: من حذفٍ واختصارٍ، وذكرٍ للسَّببِ وتركِ المسببِ، وعكسِه، وذكرٍ للواحدِ بلفظِ الجمعِ، وعكسِه، وذكرٍ للإجابة على خاصٍّ بلفظِ العامِّ، وعكسِه، وغيرِها. وقد كان لاهتمامهم هذا أسبابٌ؛ كالنَّصِّ على عربيَّة القرآن؛ كما عند أبي عبيدة (ت:210) في مجاز القرآن، والردِّ على الطَّاعنين فيه؛ كما عند ابن قتيبة (ت:276) في تأويل مشكل القرآن. ومن الأمثلة الواردة في كتبهم: 1 - قال الفراء (ت:207) ـ في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]ـ: «فإن قال قائلٌ: فأين جواب {أَمَّنْ هُوَ} فقد تبين في الكلام أنه مضمر، قد جرى معناه في أوَّل الكلمة، إذ ذكر الضالَّ، ثمَّ ذكر المهتدي بالاستفهام، فهو دليل على أنه يريد: أهذا مثل هذا، أو هذا أفضل أم هذا. ومن لم يعرف مذاهب العرب ويتبين له المعنى في هذا وشبهه لم يكتفِ ولم يشتفِ، ألا ترى قول الشاعر (¬3): ¬
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ، وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا أنَّ معناه: لو أتانا رسولُ غيرك لدفعناه، فَعُلِمَ المعنى ولم يُظْهِرْ. وجَرَى قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} [الزمر: 22] على مثلِ هذا» (¬1). 2 - وقال أبو عبيدة (ت:210) ـ في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]ـ: «العربُ تؤكِّدُ الشيءَ وقد فُرِغَ منه، فتقيدُهُ بلفظِ غيرِه تفهيماً وتوكيداً» (¬2). 3 - وفي قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2]، قال الأخفشُ (ت:215): «وقال في أوَّل هذه السورةِ: كتابٌ أُنزلَ إليك لتنذرَ به فلا يكنْ في صدرِكَ حَرَجٌ منه، هكذا تأويلُها على التَّقديمِ والتَّأخيرِ. وفي كتابِ اللهِ مثلُ ذلكَ كثيرٌ، وقال: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] والمعنى ـ واللهُ أعلمُ ـ: فانظرْ ماذا يرجعون، ثمَّ تولَّ عنهم ... ومثلُ هذا في كلامِ العربِ وفي الشِّعرِ كثيرٌ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ. يَكتبُ الرَّجلُ: أما بعدُ ـ حفظكَ اللهُ وعافاك ـ فإني كتبتُ إليك. فقوله: «فإني»: محمولٌ على «أما بعد»، إنما هو: أمَّا بعدُ، فإنِّي، وبينهما ـ كما ترى ـ كلامٌ. قال الشَّاعرُ (¬3): خيرٌ من القومِ العصاةِ أميرَهم ... يا قومِ فاستحيوا، النساءُ الجُلَّسُ والمعنى: خيرٌ من القومِ العُصَاةِ أميرَهم النساءُ الجُلَّسُ، فاستحيوا يا قوم ...» (¬4). ¬
التفسير على المعنى
4 - وقال ابن قتيبة (ت:276): «... وتبينَ له ـ أيضاً ـ أنَّ أفعالَ المجازِ لا تَخْرُجُ منها المصادرُ ولا تؤكَّدُ بالتَّكرارِ، فتقولُ: أرادَ الحائطُ أن يسقطَ، ولا تقولُ: أرادَ الحائطُ أن يسقطَ إرادةً شديدةً، واللهُ تعالى يقولُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] فوكَّدَ بالمصدرِ معنى الكلامِ، ونفى عنه المجازَ. وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] فوكَّدَ القولَ بالتَّكرارِ، ووكَّد المعنى بإنما» (¬1). ولو تُتُبِّعَتِ الأساليبُ العربيَّةُ التي نزلَ بها القرآنُ لشكَّلتْ بحثاً مستقلًّا، واللهُ الموفقُ. وبعد، فهذه أظهرُ الموضوعات التي أبدعَها اللُّغويُّون في التَّفسيرِ زيادةً عن الَّذي جاءَ عنِ السَّلفِ رضي الله عنهم، أمَّا ما وردَ عن السَّلفِ من موضوعاتِ التفسيرِ اللُّغويِّ فهي متفاوتةٌ عند اللُّغويين، وهي كالآتي. أوَّلاً: التَّفسيرُ على المعنى عند اللُّغويِّين: أمَّا التَّفسيرُ على المعنى، فكان قليلاً عند اللُّغويِّينَ، وإنْ كانَ لا يمكنُ أنْ ينفكَّ عنه المفسِّرُ، ومن ذلكَ تفسيرُ أبي عُبَيدَةَ (ت:210) قولَ الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 202]، قال: «هذا القرآنُ ما يُتْلَى عليكم، فلذلك ذَكَّره، والعربُ تفعلُ ذلكَ، قال (¬2): قَبَائلُنا سبعٌ وأنتم ثلاثةٌ، ولَلسَّبعُ أَزْكَى من ثَلاثٍ وأكثرُ ذكَّرَ «ثلاثة» ذهبَ به إلى «بطنٍ»، ثُمَّ أَنَّثَهُ لأنَّه ذهبَ به إلى «قبيلة». ومجاز بصائر؛ أي: حُجَجٌ وبيانٌ وبرهانٌ» (¬3). ¬
علم الوجوه والنظائر عند اللغويين
فأبو عبيدة (ت:210) في هذا المثالِ تراه فسَّرَ المراد بالبصائرِ في الآيةِ، وهذا هو التَّفسيرُ على المعنى، ثمَّ ذكرَ وجهَ التَّذكيرِ فيه، ثمَّ ذكرَ التَّفسيرَ اللَّفظيَّ لبصائر. ثانياً: علم الوجوه والنَّظائر عند اللُّغويِّين: أمَّا علمُ الوجوهِ والنَّظائرِ، فلمْ أجدْ لأحدٍ من أهلِ اللُّغةِ كتاباً خاصًّا فيه، وقد خصَّ ابن قتيبة (ت:276) هذا العلمَ بمبحثٍ من كتابه: «تأويل مشكل القرآن» تحتَ بابٍ بعنوانِ: (اللَّفظُ الواحدُ للمعاني المختلفةِ) (¬1)، ومن الأمثلةِ التي ذكرها في ذلك: قال: «الحَرَجُ: أصلُه الضِّيقُ (¬2). ومن الضِّيقِ: الشَّكُّ؛ كقول الله تعالى: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2]؛ أي: شكٌّ؛ لأنَّ الشَّاكَّ في الشَّيءِ يضيقُ صدراً به. ومنَ الحرجِ الإثمُ، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61]؛ أي: إثمٌ، {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91]؛ أي: إثمٌ. وأمَّا الضِّيقُ بعينِه، فقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ¬
78]؛ أي: ضيقٍ، و {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، و {حَرِجَا} (¬1). ومنه الحَرَجَةُ، وهي: الشَّجرُ المُلْتَفُّ» (¬2). أمَّا كتابُ المبرد (ت:285): (ما اتفقَ لفظُه: واختلفَ معناه من القرآنِ المجيدِ)، فإنَّ عنوانَه يوحي بعلاقتِه بعلمِ الوجوه والنَّظائرِ، إلا أنَّه لم يقتصرْ فيه على هذا العلمِ، بل حَوَى ـ مع صِغَرِ حجمِهِ ـ موضوعات أخرى؛ كالحذفِ، والاختصارِ، والتَّحويلِ في القرآنِ وكلامِ العربِ، ومما ذكره في هذا الموضوع، قوله: «فمما اتفقَ لفظهُ واختلفَ معناه، قوله تعالى: {إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، هذا لِمَنْ شكَّ، ثُمَّ قالَ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، فهذا يقين؛ لأنهم لو لم يكونوا مُستيقنينَ، لكانوا ضُلاَّلاً شُكَّاكاً في توحيد الله تعالى. ومثلُه في اليقينِ قولُ المؤمنِ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]؛ أي: أيقنتُ. ومثلُه قوله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]؛ أي: أيقنوا ...» (¬3). والمنثورُ من هذا العلمِ في كتبِ اللُّغويِّينَ ليسَ كثيراً إذا ما قِيسَ بما كتبَهُ أتباعُ التَّابعينَ، وقد كان أكثرُ اللُّغويِّينَ اهتماماً به ـ بعد ابن قتيبة (ت:276) ـ ابنُ عُزَيزٍ السِّجِسْتَانِيُّ (ت:330) (¬4) في كتابِه: غريبِ القرآنِ، كما سيأتي في الحديث عنه (¬5). ¬
أسلوب التفسير اللفظي عند اللغويين
ثالثاً: أسلوبُ التَّفسير اللَّفظيِّ عند اللُّغويِّين: وأمَّا أسلوبُ التفسيرِ اللَّفظيِّ، فإنه بارزٌ بروزاً لا يخفى على منْ يقرأُ في كتبِ اللُّغويِّينَ، بل كانَ هذا منْ أصولِ بحثهم في القرآنِ. وقد كانتْ طريقةُ إيرادِهم له كطريقةِ السَّلفِ، وإليك بيانُ ذلك بالأمثلةِ: الأول: أنْ يُفسِّروا اللَّفظَ، دونَ أنْ يستشهدوا لهذا التَّفسيرِ: منْ خلالِ ما كتبَهُ اللُّغويُّونَ في هذا، فإنَّه يظهرُ أنه كانَ الأغلبَ على تفسيرِهم اللُّغويِّ، حيث كانوا يُورِدُونَ معنى اللَّفظِ دونَ ذِكْرِ الشَّواهدِ على ذلك، وقد كان هذا الأسلوبُ غالباً على كتبِ غريبِ القرآنِ. ومن أمثلةِ ذلك في كتبِ اللُّغويِّينَ: 1 - في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]، قال الفرَّاءُ (ت:207): «وقوله: {صَعِيدًا}؛ الصَّعيدُ: التُّرابُ. والجُرُزُ: أنْ تكونَ الأرضُ لا نباتَ فيها، يقال: جُرِزَتِ الأرضُ، وهي مَجْرُوزَةٌ، وجَرَزَهَا الجرادُ أو الشَّاءُ أو الإبلُ، فَأَكَلْنَ ما عليها» (¬1). 2 - وفي تفسير لفظِ المهادِ من قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]، قال أبو عبيدةَ (ت:210): «الفراش» (¬2). 3 - وفي تفسير لفظِ يؤوده، قال الأخفشُ (ت:215): «وقال: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]؛ لأنه من آدهُ يؤودُه أوْداً، وتفسيرُه: لا يُثْقِلُهُ» (¬3). ¬
ثانيا: أن يستشهدوا لتفسيرهم
4 - وفي تفسيرِ لفظِ الغشاوةِ، من قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، قال ابنُ قتيبةَ (ت:276): «والغِشاوةُ: الغِطاءُ. ومنه يقال: غَشِّهِ بثوبٍ؛ أي: غَطِّهِ. ومنه قيل: غاشيةُ السِّراجِ؛ لأنها غطاءٌ له، ومثلُه قولُه: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]» (¬1). الثاني: أنْ يستشهدوا لتفسيرِهم: قد مضى أمثلةٌ لاستشهادِ اللُّغويِّينَ بأشعارِ العربِ (¬2)، أمَّا استشهادُهم بالنَّثْرِ، فكانَ على قسمين: الأوَّلُ: أن ينصُّوا على أنَّ ذلكَ لغةُ العربِ، وغالباً ما تكونُ عبارتُهم: تقولُ العربُ، وهذا قولُ العربِ، ثُمَّ يذكرونَ شيئاً من نَثْرِها، ومنْ ذلكَ: 1 - قال الفرَّاءُ (ت:207) في تفسيرِ لفظِ مثبوراً: «وقولُه: {يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]: ممنوعاً من الخيرِ. والعربُ تقولُ: ما ثَبَرَكَ عن ذا؟ أي: ما منعَك عنه وصرفَك عنه» (¬3). 2 - وفي قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107]، قال أبو عبيدة (ت:210): «أي: فإن ظهرَ عليه وَوَقَعَ، وهو منْ قولِهم: عَثَرَتْ على أغزلَ بأخرةٍ، فلمْ تَدَعْ بِنَجْدٍ قَرَدَةً» (¬4). 3 - وقال الأخفشُ (ت:215): «وقال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود: 74]: وهو الفزعُ، يقال: أَفْرَخَ رَوْعُكَ، وأُلْقِيَ في رُوعِي؛ أي: في خَلَدِي. الرُّوعُ: القلبُ والعقلُ، والرَّوعُ: الفزعُ» (¬5). 4 - وفي تفسيرِ لفظِ ظهريًّا من قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} ¬
[هود: 92]، قال ابن قتيبة (ت:276): «أي: لم تلتفتوا إلى ما جئتكم به عنه، تقولُ العربُ: جعلتني ظِهريًّا، وجعلتَ حاجتي منك بظهرٍ: إذا أعرضتَ عنه وعن حاجته» (¬1). الثاني: أن ينصُّوا على لغة القبيلة التي نزل بها القرآن، وهذا من أقلِّ ما ورد عنهم في التَّفسيرِ اللُّغويِّ. ومن الأمثلة على ذلك: 1 - قال الفرَّاءُ (ت:207): «وقوله: {أَوَّاهٌ} [هود: 75] دعَّاءٌ، ويقالُ: هو الذي يتأوَّهُ من الذُّنوبِ، فإذا كانت مِن: يتأوَّهُ من الذُّنوبِ، فهي من: أوِّهْ له، وهي لغةُ بني عَامِرٍ (¬2) ...» (¬3). 2 - وفي تفسيرِ قوله تعالى: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]، قال ابن قتيبة (ت:276): «أي: افعلْ بهم فعلاً منَ العقوبةِ والتنكيلِ يتفرقُ به من وراءهم من أعدائك. ويقالُ: شرِّدْ بهم: سَمِّعْ بهم، لغةُ قريشٍ ...» (¬4). وأخيراً، فإن غالب اللُّغويِّين والمفسِّرين الذين جاؤوا بعد هؤلاءِ لم يضيفوا جديداً على الأسلوبِ التَّفسيريِّ اللُّغويِّ، بل اعتمدوا ما ورد عن أعلامِ المفسِّرين واللُّغويِّينَ في هذه الفترةِ، وإن كانَ ثَمَّت زيادةٌ، فإنها في الأوجه التَّفسيريَّةِ للمفرداتِ أو الأساليبِ، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث: مسائل في نشأة التفسير اللغوي
الفصل الثالث مسائل في نشأة التفسير اللغوي المسألة الأولى: في سَبْقِ السلفِ في علمِ التَّفسيرِ. المسألة الثانية: شمولُ التَّفسيرِ بين السَّلفِ واللُّغويِّين. المسألة الثالثة: في الاعتمادِ على اللُّغةِ. المسألة الرابعة: في الشَّاهِدِ الشِّعريِّ. المسألة الخامسة: في علمِ الوجوهِ والنَّظائرِ. المسألة السادسة: التَّفسيرُ اللُّغويُّ بين البصرةِ والكوفةِ.
المسألة الأولى: في سبق السلف في علم التفسير
المسألة الأولى في سَبْقِ السَّلفِ في علمِ التَّفسيرِ كان علم التَّفسير علماً مستقلًّا قائماً بذاته منذ عهد الصَّحابة رضي الله عنهم، وكان لهذا العِلْمِ أعلامُه البارزون؛ كعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ الهُذَليِّ (ت:35)، وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسِ (ت:68). ثمَّ حمله من بعدِهم جَمْعٌ من أعلامِ جيلِ التَّابعين؛ كأبي العالية الرِّيَاحِيِّ (ت:93)، وسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94)، وعامرٍ الشَّعبيِّ (ت:103)، ومجاهدِ بنِ جبرٍ (ت:104)، والضَّحَّاكِ بنِ مزاحمٍ (ت:105)، وعكرمةَ (ت:105)، والحسنِ البَصْرِيِّ (ت:110)، وقتادةَ بنِ دِعَامَةَ السَّدُوسِيِّ (ت:117)، ومحمدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ (ت:120) (¬1)، وزيدِ بنِ أَسْلَمَ (ت:136) (¬2)، وغيرِهم. وكان مفسِّرو التَّابعينَ أكثرَ طبقاتِ السَّلفِ مشاركةً في التَّفسيرِ. ثمَّ حملَه في جيلِ أتباعِ التَّابعين أمثالُ: إسماعيلَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ ¬
السُّدِّيِّ (ت:128)، والرَّبيعِ بنِ أنسٍ البكريِّ (ت:139) (¬1)، ومحمدِ بنِ السَّائبِ الكَلْبِيِّ (ت:146) (¬2)، ومقاتلِ بن حيَّانٍ البلخيِّ (ت:150) (¬3)، ومقاتلِ بنِ سليمانَ البَلْخِيِّ (ت:150)، وعبدِ الملكِ بنِ جُرَيجٍ المَكِّيِّ (ت:150)، وسُفيانَ بنِ سعيدٍ الثَّوريِّ (ت:161)، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ زيدِ المدنِيِّ (ت:182)، ويحيى بنِ سلامٍ البصريِّ (ت:200)، وغيرِهم. هذا، وقد برزتْ كتابةُ التَّفسيرِ وتدوينُهُ في عهدِ التَّابعينِ وأتباعِهم، وكانَ لهم في ذلك صحائفُ وكتبٌ، مع ما كانَ لبعضِهم منْ رواياتٍ شفويةٍ، ومِمَّنْ كتبَ التَّفسير، أو أملاه على تلاميذِه: 1 - سعيدُ بنُ جبيرٍ (ت:94) الذي كتبَ جملةً منَ التَّفسيرِ لعبدِ الملكِ بنِ مروانَ (ت:86) (¬4). وعن وِقاءِ بنِ إياس (¬5)، قال: «رأيتُ عَزْرةَ (¬6) يختلفُ إلى سعيدِ بنِ ¬
جبيرٍ، ومعه التَّفسيرُ في كتابٍ، ومعه الدَّواةُ يُغَيِّرُ» (¬1). 2 - ومجاهد بنُ جبرٍ (ت:104) الذي كتبَ تفسير شيخِه عبد الله بنِ عباسٍ (ت:68) (¬2). وأملى مجاهدٌ (ت:104) التَّفسير على القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ (ت:115) (¬3)، فكتبه. وقدْ أُخِذَ تفسيرُ مجاهدٍ (ت:104) من إملائه للقاسمِ (ت:115) (¬4). 3 - وأملى الحسنُ البصريُّ (ت:110) التَّفسيرَ على تلاميذِهِ (¬5). 4 - وكتبَ عليُّ بنُ أبي طلحةَ الوَالِبيُّ (ت:143) (¬6) صحيفتَهُ المشهورةَ ¬
التي فيها تفسيرُ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ (ت:68) (¬1). 5 - وكتبَ سعيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ (ت:156) (¬2) تفسيرَ قتادةَ بنِ دِعَامَةَ السَّدُوسِيِّ (ت:117) (¬3). 6 - وألَّفَ عبدُ الملكِ بنُ جُرَيجٍ المكيُّ (ت:150) كتاباً في التَّفسيرِ (¬4). 7 - وألَّفَ مقاتلُ بنُ سليمانَ (ت:150) كتاباً في التَّفسيرِ (¬5)، وآخرَ في الوجوهِ والنَّظائرِ (¬6). 8 - وألَّف سفيانُ الثَّوريُّ (ت:161) كتاباً في التَّفسيرِ (¬7). ¬
9 - وألَّفَ وكيعُ بنُ الجَرَّاحِ (ت:197) كتاباً في التَّفسيرِ (¬1). 10 - وألَّفَ يحيى بنُ سلامٍ البصريُّ (ت:200) كتاباً في التَّفسيرِ (¬2)، وآخرَ في الوجوهِ والنَّظائرِ (¬3). وهناك غيرهم كثيرٌ، وليس ما ذكرتُه منهم على سبيل الحصر، واللهُ الموفقُ (¬4). ¬
وفي عهد أتباعِ التابعينَ ظهرَ اللُّغويُّونَ الذين شاركوا في التَّفسيرِ من خلالِ الكتابة في علمي: معاني القرآنِ وغريبِ القرآن؛ كأبانَ بنِ تغلبٍ الجريريِّ (ت:141)، وعلي بنِ حمزةَ الكسائيِّ (ت:183)، ويحيى بنِ زيادٍ الفرَّاءِ (ت:207)، وأبي عبيدةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَى (ت:210)، وغيرِهم. وينتجُ عن ذلكَ: * أنَّ السَّلفَ قد سبقوا اللُّغويِّينَ في التَّفسيرِ تعلُّماً، وتعليماً، وتدويناً. * ومنْ ثَمَّ، فإنَّ السَّلفَ قد سبقوا اللُّغويينَ ـ أيضاً ـ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ؛ لأن التَّفسيرَ اللُّغويَّ جزءٌ من علمِ التَّفسيرِ، لا يمكنُ أنْ ينفكَّ عنه. * أنَّ كُتب السَّلفِ ورواياتِهم في التَّفسيرِ كانت متيسِّرَةً للُّغويِّينَ الذينَ دوَّنوا اللُّغةَ (¬1)، وكانَ من المتوقَّعِ أنْ يستفيدوا منها في تدوينِ ألفاظِ اللُّغةِ وثبوتِها، ولكنَ الحاصلَ غيرُ ذلكَ كما سيأتي. ¬
المسألة الثانية: شمول التفسير بين السلف واللغويين
المسألة الثانية شمولُ التَّفسيرِ بين السَّلفِ واللُّغويِّين لقد كان تفسيرُ السَّلفِ شاملاً للقرآنِ (¬1)، كما أنَّه يشملُ كلَّ ما يتعلَّقُ ببيانِ القرآنِ من تفسيرِ القرآن بقرآنٍ، أو بسُنَّةٍ، أو بلغةٍ، أو بسببِ نزولٍ، أو ببيانِ حُكْمٍ، أو غيرِها من أنواعِ البيانِ التي تدخلُ في مصطلحِ التَّفسيرِ. والمقصودُ أنَّ السَّلفَ لم يقتصروا فيه على نوعٍ واحدٍ من البيانِ، بل اشتملَ بيانُهم للقرآنِ على جملةِ مصادرِ التَّفسيرِ. أمَّا اللُّغويُّونَ، فغلبَ التَّفسيرُ اللُّغَوِيُّ (¬2) على مشاركتِهم في التَّفسيرِ، ولعلَّ سببَ ذلك أنَّ أصلَ بحثِ اللُّغويِّين كانَ في اللُّغةِ؛ لذا كان النَّظرُ اللُّغويُّ أسبقَ إلى ذهنِ اللُّغويِّين عند تفسيرِهم القرآنَ، أمَّا السَّلفُ، فكانَ أصل بحثِهم بيان القرآنِ؛ لذا كانَ يكثرُ في تفسيرِهم بيانُ المعنى المرادِ، وكان التَّفسيرُ على المعنى سِمَةً بارزةً في تفسيرِ السلف. ولقد أوقع سبقُ النَّظرِ اللُّغويِّ بعضَ اللُّغويِّيَن في ذِكْرِ أقوالٍ تعتمدُ على معنى قليلٍ أو شاذٍّ أو مشكوكٍ في صِحَّته. ومن أمثلة ذلك: 1 - قال قطربُ: (ت:206) ـ في تفسير قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي ¬
الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]ـ: «سمعْنا العربَ تقولُ: أَهْجَرَ النَّاقَةَ بالهِجَارِ، وهو حَبْلٌ يُجْعَلُ في أنفِها تُعْطَفُ به على ولدِ غيرِها ـ وقال أبو محمد (¬1): الهجر: حبلٌ يوضع في الرُّسْغِ إلى السَّاقِ ـ، فإنْ كانَ قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]؛ أي: اعطفُوهنَّ إليكم، فهو ضدٌّ للهجرِ (¬2)، إلاَّ أنَّ ابنَ عباسٍ كانَ يقولُ: الهَجْرُ: السَّبُّ (¬3)، اهجروهن: سُبُّوهُنَّ» (¬4). إنَّ هذا المعنى الذي حَمَلَ قطرب (ت:206) معنى الآيةِ عليه معنىً غيرُ مُسْتَعْمَلٍ في النَّاسِ ولا مشهور في اللُّغةِ؛ لأنه إنما يُطلقُ على النُّوقِ، أمَّا إطلاقُه على النِّساءِ في مثلِ هذه الحالِ فلم يردْ عنِ العربِ. وقد اعترضَ على هذا الاحتمال التفسيريِّ أبو بكر محمد بن القاسم بنُ الأنباريِّ (ت:328) (¬5)، فقال: «وهذا القولُ عندي بعيدٌ؛ لأنَّ المعنى الثاني لم يُستعملْ في النَّاسِ. ¬
والمفسرونَ يقولونَ: هِجْرَانُهُنَّ: تركُ مضاجعتهنَّ» (¬1). ولا يُتركُ المعنى المشهورُ والمتبادرُ للَّفظةِ إلى معنىً غامضٍ غريبٍ إلاَّ بدليلٍ يدلُّ عليه، ولا يوجدُ هاهنا إلاَّ الاحتمالُ واستعمالُ اللُّغةِ، وليس ذلك كافياً في تركِ المشهورِ، إذ لو أُورِدتْ على الآيةِ كلَّ المحتملاتِ لاتَّسَعَ التَّفسير، ودخلَه كثيرٌ منَ الأقوالِ المرذولةِ. 2 - وقالَ الأزهريُّ (ت:370): «... عنِ ابنِ الأعرابيِّ في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] قالَ: النَّاقُورُ: القَلْبُ» (¬2). وهذا التَّفسيرُ الذي قاله ابنُ الأعرابيِّ (ت:231) غريبٌ جداً، ولم أجدْ منْ قالَ به غيرَه، والواردُ عن السَّلفِ أنَّ النَّاقورَ: البُوقُ الذي يَنْفُخُ فيه إسرافيلُ عليه السلام (¬3). 3 - فسَّرَ بعضُ اللُّغويِّين (¬4) لفظَ «عجل» في قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ ¬
مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37]، فقال: من عجل: من طينٍ، وأنشدَ: والنَّبْعُ في الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ ... وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَينَ المَاءِ وَالعَجَلِ (¬1) وقدِ اعترضَ بعضُ العلماءِ على حملِ الآيةِ على هذا المعنى (¬2). وهذا المعنى ليس في اللُّغةِ دلالةٌ عليه سوى هذا البيتِ الذي حكمَ عليه بعضُ العلماء، فقال فيه: «ولا يبعدُ عنِ الصُّنْعِ» (¬3). ¬
ومن أجلِ هذا فإنَّ حملَ الآيةِ عليه ـ مع افتراضِ صِحَّةِ هذا الإطلاقِ في اللغةِ ـ فيه تركٌ للمشهورِ من معنى اللَّفظِ إلى معنى قليلٍ، ولا يصِحُّ أنْ يُترَكَ المعنى المشهورُ لأجلِ معنى قليلٍ في اللَّفظِ. واللهُ أعلمُ. ¬
المسألة الثالثة: في الاعتماد على اللغة
المسألة الثالثة في الاعتمادِ على اللُّغةِ برز من خلال الأمثلةِ التي ذكرتُها عنِ السَّلفِ واللُّغويِّينَ أنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ مصدرٌ أصيلٌ، وأنَّه لا بدَّ من الاعتمادِ عليها، شعراً كانَتْ أم نثراً. ويظهرُ أنَّ اللُّغة من أوسعِ المصادرِ التي كان يعتمدُ عليها الفريقانِ، وذلك ظاهرٌ بتتبُّع تفاسيرِهم. ولقد كان في عملِ مُفَسِّري السَّلفِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم بالأخذِ بلغةِ العربِ في التَّفسيرِ = إجماعٌ فِعْلِيٌّ منهم (¬1)، وهذا العملُ حُجَّةٌ في صحَّةِ الاستدلالِ للتَّفسيرِ بشيءٍ من كلامِ العربِ: نثرِه وشعرِه. وإنْ لمْ يُقَلْ بالأخذِ بلغةِ العربِ في التَّفسيرِ، فكيفَ سَيُفَسَّرُ القرآنُ دونَ الرجوعِ إليها؟! وقدْ نَصَّ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ (ت:224) على الاحتجاجِ بلغةِ العربِ في التَّفسيرِ عند تعليقِه على أثرِ أبي وائلٍ شقيقِ بن سَلَمَةَ (¬2) في تفسيرِه دلوك الشَّمسِ، قال أبو وائل: «دُلُوكُهَا: غُرُوبُهَا. قال: وهو في كلام العرب: ¬
دلكت براح» (¬1). قال أبو عبيدٍ (ت:224): «وفي هذا الحديثِ (¬2) حُجَّةٌ لمن ذهب بالقرآنِ إلى كلامِ العربِ، إذا لم يكنْ فيه حلالٌ ولا حرامٌ (¬3)، ألا تراهُ يقولُ: هو في كلامِ العربِ: دَلَكَتْ بَراحِ. وقد رُوِيَ مثلُ هذا عن ابنِ عباسٍ. قال: حدثني يحيى (¬4)، عنْ سفيانَ (¬5)، عن إبراهيمَ بنِ المهاجرِ (¬6)، عنْ مجاهدٍ، عنِ ابنِ عباسٍ، قال: كنتُ لا أدري ما فاطرُ السَّماوات؟ حتى أتاني ¬
أعرابيانِ يختصمانِ في بئرٍ، فقالَ أحدُهما: أنا فَطَرْتُها؛ يعني: أنا ابتدأتها (¬1). قال: وحدَّثنا هُشَيمٌ (¬2)، عنْ حُصَينٍ (¬3)، عن عبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ (¬4)، عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّه كانَ يُسألُ عنِ القرآنِ، فينشدُ الشِّعرَ» (¬5). والمسألةُ التي ذكرَها أبو عبيدٍ (ت:224) من الاستشهادِ بلغةِ العربِ شعرِها ونثرِها واضحةٌ، وقد مضى ذِكرُ أمثلةٍ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ لأهلِ الحُجَّةِ من السَّلفِ في التَّفسيرِ. وإذا تأمَّلتَ الأمثلةَ السابقةَ الواردةَ عنهم في الاستشهادِ بنثرِ العربِ تبيَّنَ ما يأتي: * أنَّ السَّلفَ كانوا يَكْتَفُونَ بسماعِ معنى اللَّفظةِ من عربيٍّ ينطقُ بها، أو يخبِرُ أنَّها لغةُ قومِه؛ كالمثال السَّابقِ عن ابنِ عبَّاسٍ (ت:68) في تفسيرِ لفظِ «البعل»، ولفظِ «فاطر»، وما وردَ عنِ الحسنِ (ت:110) في تفسيرِ لفظِ «الأرائك». ¬
ويبدو من هذه الأمثلةِ أنهم لا يشترطونَ أكثرَ منْ هذا؛ أي أنهم يَكْتَفُونَ بهذا النَّقلِ أو السَّماعِ من العربيِّ الواحدِ. * وفيما يتعلقُ بالنَّصِّ على لغاتِ العربِ الواردة في القرآن، يلاحظ: أنَّ الواردَ عنِ السَّلفِ أكثرُ منَ الواردِ عنِ اللُّغويِّينَ، مع أنَّ هذا المجالَ مما كانوا يعتنون به. * كما يظهرُ منَ الأمثلةِ الواردةِ عنِ السَّلفِ أنَّهم يُعْنَونَ بصحَّةِ المعنى في السِّياقِ، وأنَّه لا يلزمُ منْ صِحَّتِهِ لُغَةً صِحَّةُ التَّفسيرِ به، وهذا الأمرُ بَيِّنٌ وظاهرٌ في المثالِ الواردِ عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:35) في قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]، حيثُ نفى أنْ يكونَ المرادُ بالخِتَامِ الخاتمَ الذي يَخْتِمُ، مع صِحَّةِ إطلاقِ هذا المعنى المنفيِّ لغةً. وكذا ما وردَ من استدراكِ خالدِ بنِ صفوان، واستدراكِ حُمَيدٍ الحِمْيَرِيِّ (¬1) على الحسنِ البصريِّ (ت:110) في تفسيره لفظَ «سريًّا» بأن المقصودَ به عيسى؛ أي أنه سيدٌ شريفٌ. فقالا للحسنِ: إنَّ العربَ تُسمِّي الجَدْوَلَ: السَّريَّ، فأجابَ الحسنُ (ت:110) بقوله: «صدقت»، وهذا يُشْعِرُ بعدمِ قبولهما تفسير الحسنِ (ت:110)، وإنْ كانَ ما قالَهُ منْ حيثُ اللُّغةِ صحيحاً، إلاَّ أنَّ تفسيرَهما أنسبُ لسياقِ الآيةِ؛ لقوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي} [مريم: 26]؛ أي: كُلِي منَ الرُّطَبِ واشربي من السَّرِيِّ؛ أي: النَّهْر، والله أعلم. * أنَّ السَّلفَ كانوا يجتهدونَ في اختيارِ المعنى اللُّغويِّ المناسبِ إذا كانَ للَّفظِ المفسَّرِ أكثرُ منْ دلالةٍ، وهذا ظاهرٌ في الأمثلةِ السَّابقةِ. ويلاحظ أنَّ هذا الاجتهادَ في التَّفسيرِ كانَ في طبقاتِ السَّلفِ الثَّلاثِ: الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِ التَّابعينَ، ولو كانوا أخذوا ما عند الصَّحابةِ ولم يتعدَّوه، لتوقَّفَ الاجتهادُ في علمِ التَّفسيرِ، والله أعلم. ¬
أمَّا اللُّغويُّونَ، فإنهم مع سلوكِهم هذا المنهجَ الواردَ عن السَّلفِ، إلاَّ أنَّهم توسَّعوا في حَمْلِ بعضِ الآياتِ على المحتملاتِ اللُّغويَّةِ التي ظهرتْ لهم منْ خلالِ جمعِهم لِلُغَةِ العربِ، والتي لم تكنْ واردةً عن السَّلفِ، ولذا ظهرتْ عندَهم بعضُ الأقوالِ الشَّاذَّةِ في التَّفسيرِ؛ كالتَّفسيرِ الذي سبقَ ذكْرُهُ في لفظ «واهْجُرُوهُنَّ»، ولفظ «النَّاقُورِ»، ولفظ «مِنْ عَجَلٍ»، والله أعلم. حكم الاستشهادِ بالشِّعرِ: وأمَّا الشِّعرُ، فهو كما وصفهُ الخطيبُ البغداديُّ (ت:463) (¬1)، فقال: «في الشِّعرِ الحِكمةُ النَّادرةُ، والأمثالُ السائرةُ، وشواهدُ التَّفسيرِ، ودلائلُ التأويلِ، فهو ديوانُ العربِ، والمقيِّدُ للغاتها، ووجوه خطابِها، فلزِمَ كَتُبهُ للحاجَةِ إلى ذلكَ» (¬2). والاستشهادُ بالشِّعرِ، حكُمُه كالنَّثرِ؛ إلاَّ أنَّه قد اعتُرضَ عليه كما سيأتي، والصَّوابُ أنَّ الاستشهادَ بالشِّعرِ جائزٌ في التَّفسيرِ، وقد نصَّ على هذا المنهجِ ابن عباس (ت:68)، فقال: «إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب» (¬3). ¬
وقد حُكِيَ عن بعضِهم إنكارُ الاستشهادِ بالشِّعْرِ في تفسيرِ القرآنِ، وقالوا: «إذا فعلتم ذلك، جعلتم الشِّعْرَ أصلاً للقرآنِ. وقالوا أيضاً: وكيفَ يجوزُ أن يُحْتَجَّ بالشِّعْرِ على القرآنِ، وقد قالَ اللهُ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، وقالَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: لأنْ يَمْتَلِئَ جَوفُ أحدِكم قيحاً حتى يَرِيَهُ، خيرٌ له منْ أنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً؟» (¬1). وهذا قولٌ ضعيفٌ، وقد ردَّ عليه ابنُ الأنباريِّ (ت:328) فقال: «فأمَّا ما ادَّعوه على النَّحويِّينَ مِنْ أنَّهم جعلوا الشِّعْرَ أصلاً للقرآنِ، فليس كذلك، إنَّمَا أرادوا أنْ يَتَبَيَّنُوا الحرفَ الغريبَ منَ القرآنِ بالشِّعْرِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، وقالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]. وقال ابن عباس: «الشعر ديوان العرب». فإذا خَفِيَ عليهم الحَرْفُ من القرآنِ الذي أنزلَه اللهُ بلغةِ العربِ، رجعوا إلى ديوانها فالتمسُوا معرفةَ ذلك منه ...» (¬2). وهذا الإنكارُ ـ كما ترى ـ لا دلالةَ عليه من نقلٍ ولا عقلٍ، وهو يدلُّ على عدمِ فَهْمِ قائِله، وعَمَلُ السَّلفِ ونَصُّ حبرِ الأمَّةِ ابنِ عباسٍ (ت:68) حجةٌ يستندُ إليها في هذه المسألةِ. ¬
قول الإمام أحمد في الاحتجاج بالشعر: وأمَّا ما وردَ عنِ الإمامِ أحمدٍ (ت:242) لما سئلَ عنِ القرآنِ يَتَمَثَّلُ له الرجلُ بشيءٍ من الشِّعْرِ؟ قال: «لا يعجبني» (¬1). فإنه قولٌ مُجْمَلٌ غيرُ مُبَيَّنٍ، ولذا اختلفَ أصحابُه في تخريجِ قوله: «فقال بعضُهم: ظاهرُهُ المنعُ. وقال غيرُهم: بل يفيدُ الكراهةَ. وقال آخرونَ: بلْ يُحْمَلُ على من يصرفُ الآيةَ عن ظاهرِها إلى معانٍ صالحةٍ محتملةٍ يدلُّ عليها القليلُ منْ كلامِ العربِ، ولا يُوجَدُ ـ غالباً ـ إلا في الشِّعْرِ ونحوِه، ويكونُ المتبادرُ خلافَهُ» (¬2). هذا، وإنْ كانَ مرادُه أنه لا يعجبُه الاحتجاجُ بالشِّعْرِ مطلقاً في تفسيرِ القرآنِ، فإنَّ ذلك اجتهادٌ مخالفٌ لما عليه عَمَلُ مفسري السَّلفِ المتقدمينَ العالمينَ بكتابِ اللهِ؛ كابنِ عبَّاسٍ (ت:68)، وسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:95)، وعامرٍ الشَّعبيِّ (ت:103)، ومجاهدٍ (ت:104)، والضَّحَّاكِ (ت:105)، وعكرمةَ (ت:105)، وغيرِهم مِمَّنْ مَرَّ ذِكْرُ أمثلةٍ عنهم فيها الاحتجاجُ بالشِّعْرِ في التَّفسيرِ، والله أعلم. تنبيهٌ يتعلَّقُ بالاحتجاجِ بقولِ السَّلفِ في اللُّغةِ: وقبلَ أن أختمَ هذه المسألةَ أسوقُ هاهنا ملاحظَةً تتعلقُ بزمنِ الاحتجاجِ ونقلِ اللُّغةِ، وإليك بيانُها: ¬
كانَ الصَّحابةُ والتَّابعونَ في زمنِ الاحتجاجِ اللُّغويِّ؛ لذا، فإنَّ الأصلَ أن يُحتجَّ بكلامِهم، وكذا تفسيرُهم لألفاظِهم التي يتداولونَها، ويدخل في ذلك تفسيرُهم لعربيَّةِ القرآنِ. أمَّا أتباعُ التابِعينَ، فإنْ لم تُدخِلهُم في من يُحتجُّ بكلامِهم، فلا يخرجُونَ عن كونهم نَقَلَةً للُّغةِ، كحالِ اللُّغويِّينَ الَّذِين عاصروهم، وإنما الفرقُ بينهم في هذا: أنَّ أتباعَ التَّابعينَ اعتنوا بتفسيرِ القرآنِ، واللُّغويُّون اعتنوا مع ذلكَ بجمعِ لغةِ العربِ والتَّدوينِ فيها. ومن هنا، فإنَّ اللُّغويَّ إذا فسَّرَ عربيَّةَ آيةٍ إمَّا أن يكونَ سَمِعها من العربِ الذينَ يُحتَجُّ بلغتهم، وإمَّا أن يكونَ نقلَها عن غيرِه ممَّن سمعها من العربِ. فإنْ كانَ نقلَها عن العربِ، فهو ناقلٌ لما سمِعَه، ويرجعُ الأمرُ إلى توثيقِه في نَقْلِهِ، وغالبُ اللُّغويِّينَ الذينَ عاصروا أتباعَ التابعينَ لم يُعرفْ عنهم الكذبَ في سماعِهم للعربِ ونقلِهم عنهم، بل كانوا موثَّقين في نقلهم. وإنْ كانَ نقلَ عمَّن سمِعَ من العربِ ـ وهذا هو الأكثرُ في نقلِهم للغةِ العربِ ـ فإنَّ في النَّقلِ إبهاماً؛ أي أنَّه لا يوجدُ سندٌ متصلٌ من اللُّغويِّ إلى من سُمِعَ كلامُه من العربِ، وهذا يُبنى عليه أنَّ تفسيرَ السَّلفِ مُقدَّمُ على تفسيرِ اللُّغويِّينَ، وسيأتي مزيدُ إيضاحٍ لذلكَ (¬1)، واللهُ الموفقُ. ¬
المسألة الرابعة: في الشاهد الشعري
المسألة الرابعة في الشَّاهِد الشِّعريّ كانتْ ظاهرةُ الاستشهادِ بالشِّعرِ بارزةً عند مفسِّري السَّلفِ (¬1)، وهي عند اللُّغويِّين أكثرُ، وقدْ كانتْ كتبُ غريبِ القرآنِ من أكثرِ كتبِ اللُّغويِّينَ إيراداً للشَّواهد اللُّغويَّةِ (¬2)؛ كمجازِ القرآنِ، لأبي عبيدةَ (ت:210)، وغريبِ القرآنِ، لأبي عبدِ الرَّحمنِ عبدِ اللهِ بنِ يحيى اليزيديِّ (ت:237) الذي قال عنه القفطي (ت:624) (¬3): «وصنَّف كتاباً في غريب القرآن حسناً في بابه، ورأيته في ستة مجلدات، يستشهد على كلِّ كلمة من القرآن بأبيات من الشعر، ملكته بخطِّهِ ...» (¬4). ¬
صور الاستفادة من الشِّعرِ في تفسيرِ القرآنِ: الشَّاهدُ الشِّعريُّ وعلاقتُه بتفسيرِ القرآنِ من المباحثِ التي لم تلقَ عنايةً، حسبَ علمي، وهو من المباحثِ المليئةِ التي تحتاجُ إلى دراسةٍ مُستقلَّةٍ (¬1)، وسأذكرُ هنا بعضَ ما يتعلَّقُ به على سبيلِ الإيجازِ. * صورُ الاستشهادِ بالشعر: ظهرَ لي من خلالِ استقراءِ الشَّواهدِ الشِّعريَّةِ التي يستدلُّ بها مفسِّرو السَّلفِ واللُّغويُّون صورتان: الصُّورةُ الأولى: أنْ يُورِدَ المفسِّرُ الشِّعرَ المُسْتَشْهَدَ به مُكتفياً فيه بورودِ اللَّفظِ المُسْتَشْهَدِ له، وإن لم يتضحْ معناه في بيتِ الشِّعر الذي استُعينَ به على فَهْمِ معنى اللَّفظِ. وأكثرُ الشَّواهدِ الشِّعريَّةِ المستشهَدِ بها جاءت على هذه الصُّورةِ (¬2)، ومنْ أمثلةِ ذلك: قال أبو عبيدةَ (ت:210): {عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]: العَاقِرُ: التي لا تَلِدُ، ¬
والرَّجُلُ العاقرُ: الذي لا يُولدُ له، قالَ عَامِرُ بنُ الطُّفَيلِ (¬1): لَبِئْسَ الفَتَى إِنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِراً جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ» (¬2) وإذا تأمَّلتَ هذا التَّفسيرَ، وجدتَ أنَّ أبا عبيدةَ (ت:210) قد فسَّرَ العَاقِرَ في الآيةِ بأنها التي لا تَلِدُ، ثمَّ استدلَّ لذلكَ التَّفسيرِ بهذا البيتِ، غيرَ أنَّ اللَّفظَ في البيتِ غيرُ مفسَّرٍ، بل هو محتاجٌ إلى تفسيرٍ؛ أي: لو قرأتَ البيتَ مُفْرَداً عنِ الآيةِ، فإنَّك لا تَصِلُ به إلى دلالةِ لفظِ العَاقِرِ. وقُصَارَى الأمرِ في ذلك أنَّه جعلَ معنى اللَّفظِ في الآيةِ هو معناه في البيتِ المستشهَدِ به، وبهذا يظهرُ أن المُسْتَشْهِدَ لا يَلتزمُ في الشَّاهدِ الشِّعريِّ أنْ يكونَ مُفَسَّراً بذاته في البيتِ، بل يكتفي بورودِ لفظِهِ فقط. الصُّورةُ الثَّانيةُ: أنْ يكونَ سياقُ الشَّاهدِ الشِّعريِّ مُبيناً عن معنى اللَّفظِ، ويكون الشَّاهدُ بذلك موضِّحاً لمعنى اللَّفظِ القرآنيِّ بذاته، وهو بهذا غيرُ محتاجٍ لبيانٍ، ومن ذلك: قالَ أبو عبيدةَ: (ت:210) في قولِه تعالى: {فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3]: «أي: مجاعة. قال الأعشى (¬3): تَبِيتُونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ سُغْبٌ يَبِتْنَ خَمَائِصاً أي: جياعاً» (¬4). ¬
في هذا البيتِ ـ كما ترى ـ يَتَبَيَّنُ معنى الخَمَائصِ بسببِ مقابلةِ الشَّاعرِ لها بقولِه: مِلاءً بطونُكم، فَيُفْهَمُ منه أنهما على التَّضادِّ؛ لأن سياقَ البيتِ يدلُّ على أنَّه يذمُّهم، وأنهم لا يُعطونَ جاراتِهم مما يملكونَه. وقد يَرِدُ بيانُ مدلولِ اللَّفظِ عن الشَّاعرِ نفسهِ في البيتِ المُسْتَشَهَدِ به، وهذا قليلٌ جداً، ومن ذلك ما وردَ في تفسيرِ قولِه تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. قالَ ابنُ قتيبةَ (ت:276): «أي: يضعَ أهلُ الحربِ السِّلاحَ، قالَ الأعشى (¬1): وأعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طِوالاً، وَخَيلاً ذُكُوراً ومِنْ نَسْجِ داود يُحْدَى بِهَا ... عَلَى أَثَرِ الحَيِّ، عِيراً فَعِيراً» (¬2) إنَّ الأعشى في هذا البيتِ يُبَيِّنُ مدلولَ اللَّفظِ الذي ذَكَرَهُ، فَأَوزَارُ الحربِ: عُدَّتُّهُ من السِّلاحِ: الرِّماحُ والخيلُ الذُّكورُ والدُّروعُ. ولكنَّ هذا الأسلوبَ في الشِّعرِ العربيِّ قليلٌ جداً. وهذا المبحث يتعلَّقُ بمسألةٍ كبيرةٍ في اللُّغةِ، وهي: كَيفِيَّةُ الوصولِ إلى معرفةِ مدلولِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ (¬3)؟. والألفاظُ العربيَّةُ من حيثُ وضوح الدلالةِ على قسمين: ¬
الأوَّلُ: ما هو واضحٌ مدلولُه لكلِّ أحدٍ؛ كالسَّماءِ والأرضِ والأكلِ والشُّربِ والنَّومِ، وغيرِها من الألفاظِ الواضحةِ المدلولِ عند النَّاطقين بلغةِ العربِ. الثاني: ما في دلالتِه خفاءٌ، إمَّا بسببِ غرابةِ اللَّفظِ؛ كالألفاظ الآتية: لفظ «المَورِ»، ولفظ «الكفات» ولفظِ «دَيَّاراً»، ولفظِ «الحافرة»، ولفظِ «الهُمَزَةِ»، ولفظِ «اللُّمَزَةِ»، وغيرِها. وإمَّا لوجودِ أكثرَ من مدلولٍ له، وهو ما يُسَمَّى بالمشتركِ اللُّغويِّ؛ كلفظِ «عَسْعَسَ»، ولفظِ «سَجَى»، ولفظِ «المُعْصِرَاتِ»، وغيرِها. وهذا النوعُ قد يكونُ في السِّياقِ ما يدلُّ على المرادِ به؛ كمعنى لفظ «الفلاحِ» في قولِ الشَّاعرِ (¬1): نَحُلُّ بِلاداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا وَنَرْجُو الفَلاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ فيكونُ المعنى: نرجو البَقَاءَ، بدلالةِ مجيءِ عَادٍ وحِمْيَرَ الهالكين، ولم يُفسَّرَ بالفوزِ والظَّفرِ بإصابةِ ما يريدُ ـ وهو الدلالةُ الأخرى للفلاحِ ـ؛ لأنَّ السياقَ لا يُنَاسِبُ هذا المعنى، واللهُ أعلمُ. فإنْ لم يكنْ في السِّياقِ ما يدلُّ على المدلولِ المرادِ، فإنَّك تعتمدُ تفسيرَ منْ هو موثوقٌ في فهمِه ونَقْلِهِ لِلُغَةِ العربِ؛ كالكسائيِّ (ت:183)، والفرَّاءِ (ت:207)، وأبي عبيدةَ (ت:210)، والأصمعيِّ (ت:215)، وأبي زيدٍ الأنصاريِّ (ت:215)، وغيرِهم. * ومِمَّا يجمُلُ ذكره هاهنا أنه لا يلزم أنْ يكون لِكُلِّ لفظٍ قرآنيٍّ شاهدٌ عربيٌّ؛ لأنَّ القرآنَ عربيٌ بذاته، كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيًّا} [الأحقاف: 12]. ¬
فورودُ اللَّفظِ في القرآنِ كافٍ في الحكمِ على عَرَبِيَّتِهِ، والقرآنُ في هذا يُحْتَجُّ به، ولا يُحْتَجُّ له أو عليه، وإنما يُستفادُ من الشِّعرِ في بيانِ ما خَفِي منْ معاني القرآنِ. وقد وَرَدَتْ بعضُ الألفاظِ القرآنيَّةِ التي ليس لها شاهدٌ عربيٌّ، ولم يَعْرِفْ مدلولَها أهلُ اللُّغةِ، وإنما أخذوها عن المفسرين؛ كلفظ «التَّفَثِ» في قولِه تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، قال الزَّجَّاجُ (ت:311): «والتَّفثُ في التَّفسيرِ جاءَ، وأهلُ اللُّغةِ لا يعرفونَه إلا من التَّفسيرِ» (¬1). وقال ابنُ دريدٍ (ت:321): «قالَ أبو عبيدةَ: هو قَصُّ الأظافرِ، وأخذُ الشَّاربِ، وكلُّ ما يحرمُ على المحرمِ، إلا النِّكاحَ. ولم يجئ فيه شعر يُحْتَجُّ به» (¬2). * ولقدْ حدثَ عندي تساؤلٌ، وهو: هل الاستشهادُ بالشِّعْرِ لإثباتِ صِحَّةِ التَّفسيرِ؟ أي أنَّ المفسِّرَ يُورِدُ الشَّاهدَ من الشِّعْرِ لِيُثْبِتَ أنَّ تفسيرَهُ صحيحٌ، ومثالُ ذلكَ: ما يُورِدُهُ الأزهريُّ (ت:370) في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52]، فيقول: «وقال أبو عبيدة: الموبق: الموعد في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52]، واحتجَّ بقوله (¬3): ¬
وَجَادَ شَرَورَى والسِّتَارَ، فَلَمْ يَدَعْ ... يَعَاراً لَهُ، وَالوَادِيَينِ بِمَوبِقِ يعني: بموعد» (¬1). فهلِ احتجاجُ أبي عبيدةَ (ت:210) لأجلِ أن يُدَلِّلَ على صِحَّةِ تفسيرِهِ واختيارِهِ؛ لأنَّ اللَّفظةَ تحتملُ غيرَ ما قالَ، أمْ ماذا؟. لقد وردَ التَّفسيرُ بغيرِ ما قالَه أبو عبيدة (ت:210)، فقد قال ابنُ عباسٍ (ت:68) والضَّحَّاكُ (ت:105) وقتادة (ت:117) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت:182): «مهلكاً» (¬2). وكذا قال الفرَّاءُ (ت:207) (¬3). وقالَ الحسنُ (ت:110): «جعل بينهم عداوة يوم القيامة» (¬4). وقالَ ابنُ الأعرابيِّ (ت:231): «حاجزاً، قال: وكلُّ حاجزٍ بين شيئينِ فهو مَوبِقٌ» (¬5). قال الطبري: «وأولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ، القولُ الذي ذكرْنَا عن ابنِ عبَّاسٍ ومنْ وافقَهُ في تأويلِ المَوبِقِ أنَّه المهلكُ، وذلكَ أنَّ العربَ تقولُ في كلامِها: قد أَوْبَقْتُ فلاناً: إذا أهلكتُه، ومنه قولُ اللهِ عزّ وجل: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا ¬
كَسَبُوا} [الشورى: 34] بمعنى: يُهْلِكْهُنَّ، ويقالُ للمُهْلِكِ نفسَه: قد وَبَقَ فلانٌ، فهو يَوبَقُ وَبَقاً ...» (¬1). فهل استشهدَ أبو عبيدةَ (ت:210) للمعنى الذي ذكرَهَ لِيُثْبِتَ صِحَّةَ تفسيرِهِ؟ فالتَّفسيرُ الذي ذَكَرَهُ ليس مشهوراً من معنى اللَّفظِ، والمعنى المشهورُ ما فسَّرَ به ابنُ عبَّاسٍ (ت:68) وغيره، واختاره الطبريُّ (ت:310)، واللهُ أعلمُ. * وقدْ يختلفُ اللُّغويُّونَ في دلالةِ لفظٍ في البيتِ المُسْتَشْهَدِ به، كما وردَ في تفسيرِ آية: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَناً} [النحل: 67]، فقدْ قال أبو عبيدةَ (ت:210): «أي: طُعْماً، ويقال: جعلوا لك هذا سَكَراً؛ أي: طُعْماً، وهذا سَكَرٌ؛ أي: طُعْمٌ، وقال جندل (¬2): جَعَلْتَ عَيبَ الأكْرَمِينَ سَكَراً» (¬3) وقد اعترض عليه الزَّجَّاجُ (ت:311) في دلالةِ اللَّفظِ، فقال: «وقالوا في تفسيرِ قوله: {سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَناً} [النحل: 67]: إنه الخمرُ قبلَ أنْ تُحرَّمَ، والرِّزقُ الحَسَنُ يؤكلُ من الأعنابِ والتُّمورِ (¬4). وقيلَ: إنَّ معنى السَّكَرِ: الطُعْم، وأنشدوا: ¬
جَعَلْتَ عَيبَ الأكْرَمِينَ سَكَراً أيْ: جعلتَ دمهم (¬1) طُعْماً لكَ، وهذا بالتَّفسيرِ الأوَّلِ أشبهُ، والمعنى: جعلتَ تَتَخَمَّرُ بأعراضِ الكرامِ، وهو أبينُ فيما يقالُ: الذي يتبركُ (¬2) في أعراضِ النَّاسِ» (¬3). وفي لسانِ العربِ: «وقيلَ: السَّكَرُ ـ بالتحريكِ ـ: الطَّعامُ، وأنكرَ أهلُ اللُّغةِ هذا، والعربُ لا تعرفُهُ» (¬4). وهذا الذي قالهُ أبو عبيدةَ (ت:210) في دلالةِ اللَّفظِ، وأُنكِرَ عليه، جعله الطَّبريُّ (ت:310) أحدَ معاني السَّكرِ، فقال: «... إذ كان السَّكَرُ أحد معانيه عند العربِ، ومنْ نزلَ بلسانِه القرآنُ: هو كلُّ ما طُعِمَ» (¬5). فإذا تأمَّلتَ هذا المثالَ، وجدتَ أنَّ هذا المدلولَ مُخْتَلَفٌ فيه بينَ أنْ يكونَ منَ اللُّغةِ أو لا يكون، ثمَّ لو كان، فإنه مُخْتَلَفٌ في كونِه هو المرادَ ببيتِ الشِّعرِ، أو غيرَ مرادٍ، وكونُه أن لا يكونَ مراداً في الآيةِ أَولى، ومثل هذا الخلافِ في دلالةِ اللَّفظةِ في البيتِ وحملِها على اللَّفظِ في الآيةِ كثيرٌ (¬6)، والله الموفق. * استِفَادَةُ اللُّغويِّين من الشِّعرِ في بيانِ الأساليبِ القرآنيَّةِ: اهتمَّ اللغويونُ بالشَّاهدِ الشِّعريِّ في بيانِ الأساليبِ العربيَّةِ التي نزلَ بها ¬
القرآنُ، وحرصوا عليه لإبرازِ الأسلوبِ القرآنيِّ الذي يفسِّرونه، وكان ذلك مما تميَّزوا به عن تفسيرِ السلفِ، ومثالُ ذلكَ: قال ابنُ قتيبةَ (ت:276): «وأمَّا قوله سبحانه: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ففيه تأويلان: أحدُهما: أنْ تكونَ المخاطبةُ لرسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، والمرادُ غيرُه من الشُّكَّاك؛ لأنَّ القرآنَ نزلَ عليه بمذاهبِ العربِ كلِّهم، وهمْ قد يخاطبونَ الرَّجلَ بالشَّيءِ ويريدونَ غيرَهُ، ولذلك يقولُ مُتَمَثِّلُهم: «إيَّاك أعني واسمعي يا جارة» (¬1). ومثلُه قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1] ... ومثلُ هذا قولُ الكُمَيتِ (¬2) في مَدْحِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم: إلى السِّرَاجِ المُنِيرِ أحْمَدَ، لا ... يَعْدِلُنِي رَغْبَةٌ وَلا رَهَبُ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ، وَلَوْ رَفَعَ النَّـ ... ـاسُ إليَّ العُيونَ وَارْتَقَبُوا وَقِيلَ: أفْرَطْتَ، بَلْ قَصَدْتُ، ... وَلَوْ عَنَّفَنِي القَائِلُونَ أوْ ثَلَبُوا لَجَّ بِتَفْضِيلكَ اللِّسَانُ، وَلَوْ ... أُكثِرَ فِيكَ اللِّجَاجُ واللَّجَبُ ¬
أنْتَ المصطفى المَحْضُ المُهَذَّبُ في النِّسـ ... ـبَةِ وَإِنْ نَصَّ قَومَكَ النَّسَبُ فالخطابُ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، والمرادُ أهل بيتِه، فَوَرَّى عن ذكرِهم به، وأرادَ بالعائبين اللائمينَ: بني أُمَيَّةَ. وليسَ يجوزُ أنْ يكونَ هذا للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه ليسَ أحدٌ من المسلمينَ يسوءه مدحُ الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يُعنِّفُ قائلاً عليه، ومن ذا يساوى به، ويفضَّلُ عليه؟!، حتى يُكثِرَ في مدحِه الضِّجَاجُ واللَّجَبُ ... ولكنه أراد أهل بيته ...» (¬1). هذا، وتتبع طرائقِ الاستشهادِ بالشِّعر في تفسيرِ القرآنِ تحتاجُ إلى بحثٍ أوسعَ من هذا، والمرادُ هنا ذكرُ شيءٍ من صُورِ الاستشهادِ، والله الموفق. ¬
المسألة الخامسة: في علم الوجوه والنظائر
المسألة الخامسة في علمِ الوجوهِ والنَّظائرِ * ظهرتْ كتبُ الوجوهِ والنَّظائرِ في القرنِ الثاني الذي بدأ فيه تدوينُ كتبِ اللُّغةِ التي تناولت مدلول ألفاظِ العربِ، وكان بروزها على يد مفسِّري أتباعِ التَّابعين من السَّلفِ: مقاتلِ بن سليمانَ (ت:150)، والحسينِ بنِ واقدٍ (ت:159)، وهارونَ الأعورَ (ت:170)، ويحيى بنِ سلامٍ (ت:200)، وكانوا بهذا قد سبقوا اللُّغويِّين الذين لم يظهرْ علمُ الوجوهِ والنَّظائرِ في كتابتهم إلاَّ عند ابنِ قتيبةَ (ت:276) في كتابه تأويلِ مشكلِ القرآنِ، تحت عنوان: (اللفظ الواحد للمعاني المختلفة). ثُمَّ ظهرَ عند المبردِّ (ت:285) في كتابِه: ما اتفقَ لفظُه واختلفَ معناه في القرآنِ المجيدِ، وهو مع صِغَرِ حجمِه لم يكنْ خالصاً لهذا الموضوعِ، بل شملَ موضوعاتٍ أخرى. ثُمَّ برزَ في أمثلةٍ كثيرةٍ عندَ ابنِ عُزَيزٍ السِّجستانيِّ (ت:330)، ثمَّ كتب فيه ابنُ فارسٍ (ت:395) كتاباً أسمَاه: الأفراد (¬1). وكانَ من الممكنِ أن يستفيدَ اللُّغويونَ من كتب الوجوهِ والنَّظائرِ في معرفةِ مدلولِ الألفاظِ العربيَّةِ التي وردتْ في القرآنِ كما استفادوا من كتب غريبِ القرآنِ والحديثِ ومعاني القرآنِ، غيرَ أنَّ هذا لم يقعْ في كتبِ المعاجمِ اللغويةِ، حيث لم تتمَّ الاستفادةُ مما كتبه أتباع التَّابعين في هذا العلم. ¬
وأظُنُّ أنه لو كتبَ فيه أحدُ اللُّغويِّين الذين عاصروا أتباع التَّابعين؛ لنُقِلَ عنه في معاجمِ اللُّغةِ، كما نقلوا عنهم ما دونوه في غريبِ القرآنِ ومعانيهِ وغريبِ الحديثِ، وقد يكون إهمالُ ما كتبَه أتباعُ التَّابعين في هذا العلمِ ناتجاً عن غفلةِ اللُّغويِّين عمَّا كتبَهُ مفسرو السَّلفِ في التَّفسيرِ وعلومِه، أو يكونُون لا يعتدُّونَ في نقل اللُّغة بما ورد عن السَّلف في التَّفسير، وفي كلا الاحتمالين قصورٌ من أهلِ اللُّغةِ في الاستفادةِ من تفاسيرِ السَّلفِ. والله الموفق. * يلاحظ أن كتبَ الوجوهِ والنَّظائرِ لا تعتمد في معاني الوجوه على شواهدَ عربيَّةٍ من شعرٍ أو نثرٍ، بل يعمدُ أصحابُها إلى النصِّ مباشرةً لاستنباطِ المعنى من سياقِه. ولذا كَثُرَتِ الوجوهُ التي يذكرونها؛ لأنَّهم يريدونَ تفسيرَ معنى اللَّفظةِ في هذا السِّياقِ الذي يفسِّرونه، دونَ النَّظرِ منهم إلى الأصلِ اللُّغويِّ للَّفظةِ. وقدَ ظهرَ عند ابن قتيبةَ في حديثه عن (باب اللَّفظِ الواحدِ للمعاني المختلفةِ) النظرُ إلى أصلِ معنى اللفظِ، وقد ذكر أربعةً وأربعينَ لفظاً، وذكرَ الأصلَ اللُّغويَّ والشَّواهدَ لأغلبِها، ومن الأمثلةِ التي ذكرها: قال: «السَّببُ أصلُه الحبلُ، ثُمَّ قيلَ لكلِّ شيءٍ وَصَلْتَ به إلى موضعٍ أو حاجةٍ تريدها: سببٌ. تقولُ: فلانٌ سببي إليكَ؛ أي: وصلني إليكَ. وما بيني وبينك سببٌ؛ أي: آصِرَة رَحِمٍ، أو عاطفةُ مودَّةٍ، ومنه قيلَ للطريقِ سببٌ؛ لأنكَ بسلوكِه تصلُ إلى الموضِع الذي تريدُه، قال عزّ وجل: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]؛ أي: طريقاً. وأسبابُ السماءِ: أبوابها؛ لأنَّ الوصولَ إلى السماءِ يكونُ بدخولها، قال اللهُ حكايةً عن فرعونَ: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36، 37]، وقال زهير (¬1): ¬
وَمَنْ هَابَ أسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَو نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وكذلكَ الحبلُ، قال اللهُ عزّ وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103]؛ أي: بعهدِ اللهِ، أو بكتابِه؛ يريد: تمسَّكوا به؛ لأنه وصلة لكم إليه وإلى جنَّته. ويقال للأمانِ أيضاً: حبلٌ؛ لأنَّ الخائفَ مستترٌ مقموعٌ، والآمِنُ منبسطٌ بالأمانِ متصرِّفٌ، فهو له حبلٌ إلى كلِّ موضعٍ يريده، قال اللهُ تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]؛ أي: بأمان ...» (¬1). ولم يبرزِ الاهتمامُ بتحرير مدلولِ اللفظةِ عربيًّا في كُتبِ الوجوهِ والنَّظائرِ إلاَّ متأخراً، وكانَ ذلكَ عندَ أبي الفرجِ عبدِ الرحمنِ بنِ الجوزيِّ (ت:597) في كتابِهِ: نزهة الأعينِ النَّواظرِ في علمِ الوجوهِ والنَّظائرِ، وكان يُقدِّمُ الكلامَ على مدلولِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ، ثمَّ يذكرُ الوجوهَ معتمداً على المفسِّرين في ذلك. ومن ذلك ما ذكر من الوجوه في لفظِ الاتِّباع، فقال: «الأصلُ في الاتباعِ: أنْ يقفوَ المتَّبِعُ أثرَ المتَّبِعِ بالسَّعي في طريقهِ، وقدْ يُستعارُ في الدِّينِ والعقلِ والفعلِ. وقدَ ذكرَ أهل التَّفسيرِ أنَّه في القرآن على هذينِ الوجهينِ. فمن الأوَّلِ: قولُه تعالى في طه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه: 78]، وفي الشُّعراء: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. ¬
ومن الثاني: قولُه تعالى في البقرةِ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: 166، 167]، وفي الأعرافِ: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 90]، وفي إبراهيم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} [إبراهيم: 21]، وفي الشعراء: {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]. ولا يصحُّ هذا التَّقسيم إلاَّ أن تقولَ: إنَّ الإتْبَاعَ بالتَّخفيفِ والتَّشديدِ بمعنًى واحدٍ» (¬1). ¬
المسألة السادسة: التفسير اللغوي بين البصرة والكوفة
المسألة السادسة التَّفسيرُ اللُّغويُّ بين البصرةِ والكوفةِ إذا تأمَّلتَ المؤلفاتِ التي كَتَبَهَا اللُّغويُّون في البحثِ اللُّغويِّ والقرآنيِّ، وجدتَ أنها ظهرتْ في البصرةِ والكوفةِ (¬1)، وهاتان القريتانِ كانتا منشأ البحثِ النَّحويِّ الذي كان قد سبق البحثَ اللُّغويَّ. وإذا قرأتَ في تراجمِ علماءِ العربيَّةِ في هاتين المدينتين، وجدتَ بينهم منافسةً علميةً في البحثِ والكتابةِ، ووجدتَ أنَّ علماءَ البصرةِ كانوا السَّابقينَ في التَّأليفِ النَّحويِّ بكتابِ سيبويه (ت:180) (¬2)، وفي التَّأليفِ اللُّغويِّ بكتابِ النَّوادرِ، لأبي عمرِو بنِ العلاءِ (ت:145)، وفي البحثِ اللُّغويِّ القرآنيِّ بكتابِ مجازِ القرآنِ، لأبي عبيدةَ (ت:210) (¬3). وقدْ كانَ لعلماءِ هاتين المدينتين منهجُهم في البحثِ النَّحويِّ، ولا يبعدُ ¬
أنْ يكونَ له أثرٌ في البَّحث اللُّغويِّ، خاصةً أنَّ كثيراً منْ علمائهما نحويٌّ لغويٌّ في آنٍ واحدٍ. وهذا الاختلافُ بينهم قد يفسرُ نَقْدَ الفرَّاءِ الكوفيِّ (ت:207) لأبي عبيدةَ البصريِّ (ت:210)، حيثُ قالَ: «لو حُمِلَ إليَّ أبو عبيدةَ، لضربتُه عشرين في كتابِ المجازِ» (¬1). ويظهرُ أنَّ هذا القولَ إنما خرجَ بسببِ المنافسةِ التي كانت بين الفريقين، وهذا النَّقد ـ كما ترى ـ مجملٌ، ولم يتبينْ فيه سببِ نقدِ الفرَّاءِ (ت:207) لكتابِ مجازِ القرآنِ، وهو لما ألَّفَ كتابه في معاني القرآنِ كانَ فيه أكثرَ بُعْداً عن التَّفسيرِ من أبي عبيدةَ (ت:210)، والله أعلم. ¬
الباب الثاني مصادر التفسير اللغوي وفيه: المصدرُ الأوَّلُ: كتبُ التَّفسيرِ. المصدرُ الثاني: كتبُ معاني القرآنِ. المصدرُ الثالثُ: كتبُ غريبِ القرآنِ. المصدرُ الرابعُ: كتبُ معاجمِ اللُّغةِ. المصدرُ الخامسُ: كتبٌ أخرى لها علاقة بالتفسير اللغوي.
المصدرُ الأوَّلُ كتبُ التَّفسيرِ وفيه: أولاً: جَامِعُ البَيَانِ عَن تَأوِيلِ آيِ القُرآنِ، للطبري. ثانياً: الجامع لعلم القرآن، للرماني. ثالثاً: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية.
الباب الثاني: مصادر التفسير اللغوي
مصادر التفسير اللغوي المصَادِرُ: جمعُ مصدرٍ، والمصدرُ: ما يصدرُ عنه الشَّيءُ (¬1)، ويسمَّى الموضعُ: المصدر (¬2)؛ لأنَّ الشَّيءَ يصدر عنه؛ أي: يخرج منه إلى غيره. ومصادرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ: الكتبُ التي هي موضعٌ له، وعنها يصدرُ. ويمكنُ تقسيمُ مصادرِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ إلى عِدَّةِ مصادرَ: 1 - المصدرُ الأوَّلُ: كتبُ التَّفسيرِ. 2 - المصدرُ الثاني: كتبُ معاني القرآنِ. 3 - المصدرُ الثالثُ: كتبُ غريبِ القرآنِ. 4 - المصدرُ الرابعُ: كتبُ معاجمِ اللُّغةِ. 5 - المصدرُ الخامسُ: كتبٌ أخرى لها علاقة بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ. وتختلفُ هذه المصادرُ في عرضِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ، كما سيظهرُ من استعراضِه فيها، وقد انتهجتُ في بحثِ هذه المصادرِ النَّهج الآتي: * سأذكرُ في كلِّ مصدرٍ ثلاثةَ أمثلةٍ من الكتبِ. * سأُبَيِّنُ في هذه الكتبِ صُوراً من التَّفسيرِ اللُّغويِّ الذي سارَ عليه مؤلفُ الكتابِ، وسأحرصُ على أن تكونَ الأمثلةُ المذكورةُ لها أثرٌ في المعنى والتَّفسيرِ. * سيكون سَيرُ هذه المباحثِ في أغلبِ هذا البابِ على المنهجِ الوصفيِّ؛ لأنَّ المنهجَ التحليليَّ يحتاجُ إلى أكثرَ من هذا البابِ، والله الموفقُ. ¬
المصدر الأول: كتب التفسير
المصدرُ الأول كتب التفسير كتبُ التَّفسيرِ أكبرُ من أنْ تُحْصَرَ في هذه الجزئيةِ من البحثِ، وإنَّما المرادُ هنا التَّمثيلُ للتَّفسيرِ اللُّغويِّ في بعضِها. وقدْ كتبَ في التَّفسيرِ أعلامٌ من القرنِ الأوَّلِ؛ كسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94) ومجاهدِ بنِ جبرٍ (ت:104). وكتبه من أعلامِ القرنِ الثّاني: إسماعيلُ السُّدِّيُّ (ت:128)، مقاتلُ بنُ سليمانَ البلخيُّ (ت:150)، وعبدُ الملكِ بنُ جُرَيجٍ (ت:150)، ومالكُ بنُ أنسٍ الأصبحيُّ (ت:179)، ويحيى بنُ سلامٍ (ت:200). ومنْ أعلامِ القرنِ الثَّالثِ: عبدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ (ت:210)، وآدمُ بنُ أبي إياسٍ (ت:220) (¬1)، وأحمدُ بنُ حنبلٍ (ت:241)، وعبدُ بنُ حميدٍ الكشيُّ (ت:249) (¬2). ومنْ أعلامِ القرنِ الرَّابعِ: محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ (ت:310)، ومحمدُ بنُ ¬
إبراهيمَ بنُ المنذرِ (ت:319)، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي حاتم (ت:327)، وغيرهم. وكانَ يغلبُ على هذه الكتاباتِ الاهتمامُ بنقلِ ما رُوِيَ عنِ السَّلفِ الكرامِ، دونَ العنايةِ بنقدِ الأقوالِ المذكورةِ في التَّفسيرِ، سوى ما كتبه يحيى بنُ سلامٍ (ت:200) (¬1)، وابنُ جريرٍ الطبريُّ (ت:310). ولَمَّا شاركَ في علمِ التَّفسيرِ علماءُ برزوا في علمٍ من العلومِ التي تحدَّدتْ معالِمُها؛ كعلمِ النحوِ، وعلمِ البلاغةِ، وعلمِ الفقهِ، وغيرِها، صَبَغُوا تفاسيرَهم بهذهِ العلومِ التي برزوا فيها؛ كما فعلَ الزمخشريُ (ت:538) في تفسيرِه: (الكشافِ عنْ حقائقِ التَّنْزِيلِ وعيونِ الأقاويلِ في وجوهِ التَّأويلِ)، الذي صبغَهُ بالاتجاهِ البلاغيِ. وكُتُبُ التَّفسيرِ لا يمكنُ أنْ تخلوَ من التَّفسيرِ اللُّغويِّ، وإنما التَّمَايُزُ بينها في طريقةِ عرضهِ، وقِلَّتِهِ وكثرتِهِ، ومدى استفادةِ المفسِّرِ من لغةِ العربِ في بيانِ معانِي كلامِ اللهِ سبحانَهُ. وسأذكر ثلاثة أمثلة من كتب التَّفسير، وهي: جامع البيان عن تأويل آي القرآنِ، للطبري (ت:310)، والجامع لعلم القرآنِ، للرُّمَّانيِّ (ت:382)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (ت:542)، وسأُبيِّن فيها صُوَرَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ الذي سلكَهُ المُفَسِّرُ في تفسيرِهِ. ¬
أولا: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري
أولاً جَامِعُ البَيَانِ عَن تَأوِيلِ آيِ القُرآنِ أملى الإمامُ أبو جعفرٍ محمدُ بنُ يزيدٍ الطبري (ت:310) على تلاميذِه كتابَ التفسيرِ من سنةِ ثلاثٍ وثمانينَ ومائتينِ إلى سنةِ تسعينَ ومائتينِ (¬1)، ثمَّ قُرِئَ عليه في سنةِ ستٍّ وثلاثِمائةٍ، كما جاءَ ذلكَ في أوَّلِ التفسيرِ: «قُرِئ على أبي جعفرَ في سنةِ ستٍ وثلاثِمائةٍ» (¬2). وقدْ نَصَّ رحمه الله في مقدمتِه على وجوهِ تأويلِ القرآنِ، وهي: ما لا سبيلَ للوصولِ إليه، وهو الذي استأثرَ اللهُ بعلمِهِ ... ما خَصَّ اللهُ بعلمِ تأويلِه نبيَهُ صلّى الله عليه وسلّم دونَ سائرِ أمتِهِ ... ما كانَ علمُهُ عندَ أهلِ اللسانِ الذي نزلَ به القرآنُ، وذلك علمُ تأويلِ عربيتِهِ وإعرابِهِ، لا يُوصَلُ إلى علمِ ذلكَ إلاَّ مِنْ قِبَلِهِم (¬3). ثمَّ قالَ: «فإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، فَأَحَقُّ المفسرينَ بإصابةِ الحقِّ ـ في تأويلِ القرآنِ الذي إلى عِلْمِ تأويلِه للعبادِ السبيلُ ـ أوضحُهم حُجَّةً فيما تأوَّلَ ¬
ضابط التفسير اللغوي عند ابن جرير
وفسَّرَ، ممَّا كانَ تأويلُه إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم دونَ سائرِ أمَّتِه من أخبارِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الثابتَةِ عنه: إمَّا منْ جهةِ النقلِ المستفيضِ، فيما وُجِدَ فيه من ذلك عنه النقلُ المستفيضُ، وإمَّا منْ جهةِ نقلِ العدولِ الأثباتِ، فيما لم يكن فيه عنه النقلُ المستفيضُ، أو منْ جهةِ الدلالةِ المنصوبةِ على صحتِهِ؛ وأصَحُّهُم برهاناً ـ فيما ترجمَ وبيَّنَ من ذلك ـ مِمَّا كان مُدرَكاً عِلْمُهُ من جهةِ اللسانِ: إمَّا بالشواهدِ منْ أشعارِهِم السائرةِ، وإمَّا منْ منطقِهم ولغاتِهم المستفيضةِ المعروفةِ، كائناً منْ كانَ ذلكَ المتأوِّلُ والمفسِّرُ، بعدَ أنْ لا يكونَ خارجاً تأويلُه وتفسيرُه ما تأوَّلَ وفَسَّرَ منْ ذلك، عنْ أقوالِ السلفِ من الصحابةِ والأئمةِ، والخلفِ من التابعينَ وعلماءِ الأمةِ» (¬1). في هذا النَّصِّ ذَكَرَ ابنُ جريرٍ (ت:310) ضابطَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ عندَهُ، وهو عدمُ خروجِ المفسِّرِ باللُّغةِ عنْ أقوالِ السَّلفِ من الصَّحابةِ والأئمَّةِ، والخلفِ من التَّابعينَ وعلماءِ الأمَّةِ، ويظهرُ من استقراءِ كتابِهِ أنَّ هؤلاءِ الذينَ ذكرَهم بِهذا الوصفِ هم: الصَّحابةُ والتَّابعونَ وأتباعُهم. أمَّا اللُّغويُّونَ الذين عاصروا أتباعَ التَّابعينَ فإنه كانَ يَرُدُّ أقوالَهم، وإن كانتْ تحتملُها الآية، ويُعَلِّلُ ذلك بخروجها عنْ أقوالِ أهلِ التَّأويلِ، ويعني بهم هؤلاءِ الطَّبقاتِ الثلاث منْ علماءِ الأمَّةِ (¬2)، ومثالُ ذلكَ ما أوردَهُ في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [ن: 25]، فقد ذكرَ أقوالَ السلفِ، وهي: الأول: على قدرةٍ في أنفسِهِم وجِدٍّ، وبه قال ابنُ عباسٍ (ت:68)، ومجاهدٌ بن جبرٍ (ت:104)، والحسنُ البصريُّ (ت:110)، وقتادةُ (ت:117)، وابن زيدٍ (ت:182). ¬
الثاني: وغدوا على أمرِهِم قدْ أجمعوا عليه بينَهم، واسْتَسَرُّوه، وأَسَرُّوه في أنفسِهم، وهو قول مجاهد (ت:104)، وعكرمة (ت:105). الثالث: وغدوا على فاقةٍ وحاجةٍ، وهو قولُ الحسنِ (ت:110). الرابع: على حَنَقٍ، وهو قولُ سفيانَ الثوريِ (ت:161) (¬1). ثمَّ قالَ بعدَ هذهِ الأقوالِ: «وكانَ بعضُ أهلِ المعرفةِ بكلامِ العربِ من البصرةِ يتأوَّلُ ذلك: وغدوا على منعٍ (¬2). ويوجِّهه إلى أنه من قولهم: حَارَدَت السَّنَةُ: إذا لم يكنْ فيها مطرٌ، وحَارَدَت الناقةُ: إذا لم يكنْ فيها لَبَنٌ، كما قالَ الشَّاعرُ (¬3): فإذا ما حَارَدَتْ أو بَكَأَتْ، فُتَّ عن حَاجِبِ أخرى طِينُهَا وهذا قولٌ لا نعلمُ له قائلاً من متقدمي العلمِ قالَه، وإنْ كانَ لهُ وجهٌ، فإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، وكانَ غيرُ جائزٍ عندنا أنْ يُتَعَدَّى ما أجمعتْ عليه الحُجَّةُ، فما صَحَّ منْ الأقوالِ في ذلك إلا أحدُ الأقوالِ التي ذكرنَاها عنْ أهلِ العلمِ. وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، وكانَ المعروفُ منْ معنى الحرْدِ في كلامِ العربِ: القصدُ، من قولِهم: قدْ حَرَدَ فلانٌ حرْدَ فلانٍ: إذا قَصَدَ قصْدَه، ومنه قول الشاعر (¬4): ¬
وَجَاءَ سَيلٌ كانْ منْ أَمْرِ اللهْ ... يَحْرُدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ يعني: يقصدُ قصدَها = صحَّ (¬1) أنَّ الذي هو أولى بتأويلِ الآيةِ قولُ من قالَ: معنى قوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [ن: 25] وغدوا على أمرٍ قد قصدوه واعتمدوه واستَسَرُّوهُ بينهم، قادرين عليه في أنفسهم» (¬2). وهذا القولُ الذي انتقدَه، إنما انتقدَه ورَدَّهُ لعدمِ وُرُودِهِ عن السَّلفِ، وجعلَ ما حكاهُ عنهم ـ مع اختلافهم ـ إجماعاً، وبنى عليه أنَّ ما لم يقولوه فإنَّه خارج عن الإجماع ولا يُعْتَدُّ به. هذا مع أنه قال عن القول الذي اعترض عليه: «وإن كان له وجهٌ»، ويظهر أنه يقصد بالوجه: الشاهد الشعري، وصحَّة المعنى في الآية إذا ما حُمِلَتْ عليه، واللهُ أعلمُ. هذا، وقدْ أخذَ التَّفسيرُ اللُّغويُّ في تفسيرِ الطَّبريِّ (ت:310) مساحةً واسعةً، حتى إنه لا يكادُ أنْ يَمُرَّ به لفظٌ قرآنيٌّ دونَ أن يتعرَّضَ لبيانِه اللغويِّ، ويمكنُ بذلكَ أنْ يُخْرَجَ منْ تفسيرِه كتابٌ في تفسيرِ ألفاظِ القرآنِ، وهو ما يسمى بعلمِ «غريبِ القرآنِ» (¬3). ومنْ صورِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ التي كانَ ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ (ت:310) يستخدمُهَا في تفسيرِهِ ما يأتي: ¬
صور التفسير اللغوي عند ابن جرير
أولاً: تفسيرُ الألفاظِ دونَ ذكر الشاهدِ: كانَ ذلكَ يجيءُ ـ في الغالبِ ـ في تفسيرِه الجمليِ الذي يوردُهُ بعدَ الآيةِ مباشرةً، أو قد يوردُهُ في ترجيحاتِهِ بعد ذِكْرِ أقوالِ المفسرينَ، ومنْ أمثلةِ ذلكَ: 1 - قال: «وقوله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] يقولُ: هذهِ السكرةُ التي جاءتكَ ـ أيها الإنسانُ ـ بالحقِّ، هو الشيءُ الذي كنتَ تهربُ منهُ، وعنهُ تَرُوغُ» (¬1). والحَيدُ: المَيلُ والعدولُ، يقال: حادَ عن الشَّيء يحيدُ حَيدَةً وحُيوداً (¬2). وهو معنى الروغانِ الذي فَسَّرَ به، إذ الروغانُ: مَيلٌ، يقال: رَاغَ الرجلُ والثعلبُ رَوغاً ورَوَغَاناً: مالَ وحادَ عن الشَّيءِ (¬3). 2 - وفي قولِه تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] قالَ: «يقول تعالى ذكره: أَلَمْ يَكُ هذا المنكرُ قدرةَ اللهِ على إحيائِه من بعدِ مماتِه، وإيجادِه من بعدِ فنائِه (نُطْفَةً) يعني: ماءً قليلاً في صلبِ الرجلِ (مِنْ مَنِيٍّ)؟» (¬4). والنُّطْفَةُ: الماءُ القليلُ، قالَ الأزهريُ (ت:370): «والعربُ تقولُ للمُوَيهَةِ القليلةِ: نُطْفَةٌ، وللماءِ الكثيرِ نُطْفَةٌ» (¬5). وقال رضيُّ الدِّينِ الصَّغَانِيُّ (ت:650): «النُّطْفَةُ: الماءُ الصافي، قليلاً كانَ ¬
أو كثيراً، فمن القليلِ: نطفةُ الإنسانِ» (¬1). والأمثلة من هذا النوع كثيرة جداً يصعبُ حصرُها. ومن الملاحظ أنَّ الطبريَ (ت:310) يَعْمَدُ إلى تحليلِ الألفاظِ تحليلاً معجمياً، وذلك بتوجيه الكلمةِ إلى أصلِها، أو مفارقتِها عن شبيهِها، أو غير ذلك من الأساليبِ التي اتخذها أصحابُ معاجمِ اللغةِ في بيانِ دلالةِ الألفاظِ العربيةِ، ومنْ ذلكَ: 1 - قال في تفسيرِ المقاليد من قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 63]: «يقولُ تعالى ذِكْرُهُ: له مفاتيحُ خزائنِ السَّماواتِ والأرضِ، يفتحُ منها على من يشاءُ، ويمسكُها عمَّنْ أحبَّ منْ خلقِهِ. واحدها: مِقْلِيدٌ، وأمَّا الإقْلِيدُ: فواحدُ الأقالِيدِ» (¬2). 2 - وقالَ: «وقولُه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، يقول تعالى ذِكرُه: ما حادَ صاحبُكُم أيها الناسُ عن الحقِّ ولا زالَ عنه، ولكنه على استقامةٍ وسدادٍ. ويعني بقوله: {وَمَا غَوَى}: وما صارَ غَوِيّاً، ولكنه رشيدٌ سديدٌ، يقال: غَوَى يَغْوَى: من الغَيِّ، وهو غاوٍ. وغَوِيَ يَغْوَى من اللَّبن: إذا بَشِمَ» (¬3). 3 - وقال في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]: «يقول تعالى ذِكره: ومن يعرض عن ذكر الله فلم يخفْ سطوته، ولم يخش عقابه، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] يقول: نجعلُ لهُ شيطاناً يُغْوِيهِ فهو له قرينٌ، يقول: فهو للشيطانِ قرينٌ؛ أي: يصيرُ كذلكِ. وأصلُ العَشْوِ: النَّظَرُ بغيرِ ثَبْتٍ لِعِلَّةٍ في العينِ، يقالُ منه: عَشَا فلانٌ ¬
يَعْشُو عَشْوَا وَعُشُوًّا: إذا ضَعُفَ بصرُهُ وأظلمتْ عينُه كأنَّ عليهِ غشاوةً؛ كما قالَ الشاعرُ (¬1): مَتَى تَاتِهِ تَعْشُو إلى ضَوءِ نَارِهِ ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا يعني: متى تفتقرْ فتأتِهِ يُعِنْكَ. وأمَّا إذا ذهب البصر ولم يُبصرْ، فإنَّه يقال فيه: عَشِيَ فلانٌ يَعْشَى عَشىً منقوصٌ، ومنه قول الأعشى (¬2): رَأَتْ رَجُلاً غَائِبَ الوافِدَينِ ... مُخْتَلِفَ الخَلْقِ أعْشى ضَرِيراً يقال منه: رجلٌ أعشى وامرأة عشواء. وإنما معنى الكلام: ومن لا ينظر في حجج الله بالإعراض منه عنه، إلاَّ نظراً ضعيفاً، كنظر من قد عَشِيَ بصرُه، نقيض له شيطاناً» (¬3). وهذا النَّمط في كتابه كثيرٌ، وهو يُعَدُّ بهذا النَّمطِ الَّذي سلكه في التَّفسيرِ اللُّغويِّ من أصحاب المعاجم الذين دَوَّنوا ألفاظَ اللُّغةِ؛ كعَصْرِيِّه ابن دريد ¬
(ت:321) الذي ألَّف كتاب «جمهرة اللغة»، أو من جاء بعده كالأزهري (ت:370) الذي ألَّف كتاب «تهذيب اللغة». غير أنَّك لا تجد لهذا العَلَمِ الجَهْبَذِ أثراً في نقلِ اللُّغةِ عندَ أصحابِ المعاجمِ ممنْ جاءَ بعدَهُ (¬1)، مع أنَّ كتابَه مليءٌ بالتَّحقيقاتِ اللُّغويةِ وببيانِ المفرداتِ وذكر شواهدها من لغة العرب. ومما يدلُّ على تقدُّمه في علمِ لغةِ العربِ أنَّه لما دخلَ مصرَ طُلِبَ منه أنْ يُمْلِيَ شعرَ الطِّرِمَّاحِ (¬2)، فأملاهُ حفظاً، وشرحَ غريبَه (¬3)، ولا يقومُ بمثلِ هذا إلاَّ من تمكَّنَ في لغةِ العربِ. ثانياً: تفسير الألفاظ مع ذكر الشاهد: تكثرُ الشَّواهدُ الشِّعريةُ في تفسيرِ الطَّبريِّ (ت:310)، وهو كغيرِه من المفسِّرينَ الذين يتعرَّضونَ لمسائلِ النَّحْوِ، حيثُ يكثرُ عندَه الشَّاهدُ النَّحْوِيُّ، ولا يخلو كتابُه منْ ذِكْرِ شواهدِ اللُّغةِ، غيرَ أنَّ الأوَّلَ أكثرُ. ومن الشَّواهد اللُّغويَّة التي ذكرها ما يأتي: ¬
1 - قالَ في قولِه تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2]: «يقولُ تعالى ذِكرُه: يعلمُ ما يدخلُ في الأرضِ وما يغيبُ فيها من شيءٍ، منْ قولهم: وَلَجْتُ في كذا: إذا دخلتُ فيه، كما قال الشاعر (¬1): رَأَيْتُ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً ... تَضَايَقُ عَنْهَا أَنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ يعني بقوله: «يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً»: يدخلن مداخل» (¬2). 2 - وقال: «وقوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 59]، يقول تعالى ذِكرُه: فإنَّ للذينَ أشركُوا باللهِ منْ قريشٍ وغيرِهم ذَنُوباً، وهي الدَّلْوُ العظيمةُ، وهو السَّجْلُ أيضاً، إذا مُلئت أو قاربتْ الملء، وإنما يريدُ بالذَّنوبِ في هذا الموضعِ: الحَظَّ والنَّصيبَ، ومنه قول عَلْقَمَةَ بنِ عَبْدَةَ (¬3): وَفِي كُلِّ قَومٍ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ، ... فَحُقَّ لِشَأسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ أي: نصيب، وأصله ما ذكرتُ، ومنه قول الراجز (¬4): لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ فَإنْ أَبَيتُمْ فَلَنَا القَلِيبُ ¬
ومعنى الكلامِ: فإنَّ للذينَ ظلموا منْ عذابِ اللهِ نصيباً وحظاً نازلاً بهم، مثلَ نصيبِ أصحابِهم الذين مضوا من قبلِهم من الأممِ على منهاجِهم، من العذابِ، فلا يستعجلون» (¬1). ويظهرُ عنده الجانبُ اللغويُ في تفسيرِ الألفاظِ في توجيهِ القراءاتِ، وهو في هذا التوجيهِ يُفسرُ اللفظَ ويذكرُ شواهدَه ليرجِّحَ القراءةَ التي يختارُها، إن اختارَ، أو ليبينَ صحةَ القراءتينِ معتمداً على الشواهدِ اللغويةِ، والأمثلة في هذا كثيرة في تفسيره، ومنَ الأمثلةِ التي تتعلق بتوجيه المعنى مع الاختلاف في القراءة ما يأتي: في قوله تعالى: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15] ذكر القراءتين في لفظ «سُكِّرَتْ» (¬2)، ثُمَّ ذكرَ أقوالَ السَّلفِ في تفسيرِ هذا اللَّفظِ، ثمَّ عقَّبَ بقوله: «وأولى هذه الأقوالِ بالصَّوابِ عندي، قولُ من قالَ: معنى ذلك: أُخِذَت أبصارنا وسُحِرَت، فلا تُبْصِرُ الشَّيءَ على ما هو به، وذهب حَدُّ إبصارها، وانطفأ نورُه، كما يقالُ للشَّيءِ الحَارِّ إذا ذهبتْ فورتُهُ وسكنَ حَدُّ حرِّه: قد سَكَرَ يَسْكُرُ. قال المثنى بن جندل الطُّهَوِي (¬3): جَاء الشِّتَاءُ وَاجْثَألَّ القُبَّرُ وَاسْتَخْفَتِ الأفْعَى وَكَانَتْ تَظْهَرُ ¬
الأولى: الاستشهاد بأقوال السلف في التفسير اللغوي
وَجَعَلَتْ عَينُ الحَرُورِ تَسْكُرُ أي: تسكن وتذهب وتنطفئ. وقال ذو الرُّمَّةِ (¬1): قَبْلَ انْصِدَاعِ الفَجْرِ وَالتَّهَجُّرِ ... وَخَوضُهُنَّ اللَّيلَ حِينَ يَسْكُرُ يعني: حينَ تسكنُ فورتُه. وذُكِرَ عن قيسٍ أنها تقول: سَكَرَتِ الريحُ تَسْكُرُ سُكُوراً؛ بمعنى: سكنتْ؛ وإذا كانَ ذلك عنها صحيحاً، فإنَّ معنى سُكِرَت وسُكِّرَت بالتخفيف والتشديد متقاربان. غير أنَّ القراءة التي لا أستجيزُ غيرَها في القرآنِ {سُكِّرَتْ} بالتشديدِ، لإجماعِ الحُجَّةِ من القراءِ عليها، وغيرُ جائزٍ خِلافُها فيما جاءتْ به مجتمعةً عليه» (¬2). ظواهر في التَّفسير اللُّغويِّ عند ابن جرير برزتْ بعضُ الظَّواهرِ التي تميَّزَ بها ابنُ جريرٍ الطبريُّ (ت:310) في تفسيرِه اللُّغويِّ، وهي: الأولى: الاستشهادُ بأقوالِ السَّلفِ في التَّفسير اللُّغويِّ: لقد كان اعتمادُ ابنِ جريرٍ الطبريِّ (ت:310) على المأثورِ عن السَّلفِ مما يتميَّزُ به عموماً في تفسيرِه، وقد ساقَه ذلكَ إلى الاعتمادِ عليه في التَّفسيرِ اللُّغويِّ في بيانِ القرآنِ، ولقد سبقَ ذِكرُ الضَّابطِ الذي ذكرَه في التَّفسيرِ المُعْتَمِدِ على اللُّغةِ، وهو أن لا يكونَ التَّفسيرُ خارجاً عن ما قالَهُ أهلُ التَّأويلِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعهم، وقدْ سارَ على هذا المنهجِ في كتابِه، ولم يخرجْ عن هذا الضابطِ إلاَّ في النَّادرِ القليلِ جدًّا (¬3). ¬
ولذا كان يعتمدُ ما جاءَ عنهم كاعتمادِه على الشَّاهدِ العربِيِّ، فهو يسوقُ أقوالَهم في بيانِ المفرداتِ سياقَ من يُبيِّنُ اللُّغةَ بشواهدِها من كلامِ العربِ، فيجعلُ تفسيرَهم حجَّةً في معنى اللَّفظِ، وهذا الأسلوبُ ظاهرٌ من استقراءِ كتابه، وطريقتِه في عرضِ أقوالِهم، وإنْ كانَ قد اعترضَ على بعضِها من حيثُ اللُّغةِ، وهو قليلٌ، فهو لا يخرجُ عن الإطارِ الذي انتهجَه. كما أنه قد يرجِّحُ أحدَ أقوالِ السَّلفِ، ويختارُ ما يراهُ راجِحاً من بينِ أقوالِ طبقاتِهم، دون اعتبارٍ لتقدُّمِ طبقةٍ عن طبقةٍ (¬1). ولا يلزمُ من ترجيحِه قولاً إبطالُ ما سواه، وهو قد ينبِّه على ذلك نصًّا في بعضِ المواطنِ. ومنْ الأمثلةِ التي اعتمدَ فيها على بيانِ السَّلفِ، ما ذكره في تفسيرِه لقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]. قال: «وقوله تعالى: {أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، يعني: وجدنا، كما قال الشاعر (¬2): فَألْفَيتُهُ غَيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلا ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً يعني: وجدته. وكما حدَّثنا بشر بن معاذ (¬3)، قال: حدَّثنا يزيد (¬4)، قال: حدَّثنا ¬
سعيد (¬1)، عن قتادة: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، أي: ما وجدنا عليه آباءنا. حدَّثني المثنى (¬2)، قال: حدَّثنا إسحاق (¬3)، قال: حدَّثنا ابن أبي جعفر (¬4)، عن أبيه (¬5)، عن الربيع: مثله. قالَ أبو جعفر: فمعنى الآيةِ: إذا قيلَ لهؤلاءِ الكفارِ: كُلُو مِمَّا أحَلَّ اللهُ لكم، ودعوا خطواتِ الشيطانِ وطريقَه، واعملوا بما أنزلَ اللهُ على نبيه صلّى الله عليه وسلّم في كتابِه، استكبروا عن الإذعانِ للحقِّ، وقالوا: بلْ نَاتَمُّ بآبائنا فنتَّبِعُ ما وجدنَاهم عليه من تحليلِ ما كانوا يُحِلُّونَ، وتحريمِ ما كانوا يحرِّمون» (¬6). ففي هذا المثالِ تَجِدُهُ ذكرَ الشَّاهدَ اللغويَّ منْ كلامِ العربِ، ثُمَّ ثَنَّى بقولِ قتادةَ (ت:117) والربيعِ بنِ أنسٍ (ت:139)، وجعلَ قولَهما حجةً لغويةً في معنى لفظِ «ألفينا» في الآيةِ. ¬
الثانية: قبول المحتملات اللغوية الواردة عن السلف
الثَّانية: قَبُولُ المحتملاتِ اللُّغويةِ الواردةِ عنِ السَّلفِ: لقدْ كانَ رحمَهُ اللهُ تعالى يَقِفُ معَ تفسيرِ السلفِ ولا يكادُ يخرجُ عنه، وإذا وردَ عنهم أكثرُ منْ قولٍ في الآيةِ فإنَّه: إمَّا أنْ يُرَجِّحَ بينها إذا كانَ أحدُها أقوى في الاحتمالِ من الآخرِ، وإمَّا أنْ يقبلَها جميعاً ما دامتْ الآيةُ تحتملُها منْ غيرِ تَضَادٍّ. ومنْ أمثلةِ قبولِه المحتملاتِ اللغويةِ الواردةِ عن السلفِ ما يأتي: ذَكَرَ في قولِه تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] أربعةَ أقوالٍ في تفسيرِ «الإلِّ» عنِ السلفِ: الأولُ: الإلُّ: اللهُ سبحانه وتعالى، وهو قول مجاهد (ت:104) (¬1)، وأبي مِجْلَزٍ (ت:106) (¬2). الثَّاني: الإلُّ: القَرابَةُ، وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ (ت:68)، والضَّحَّاكِ (ت:105)، والسُّدِّيِّ (ت:128). الثالث: الإلُّ: الحِلْفُ (¬3)، وبه قالَ قتادةُ (ت:117). الرابع: الإلُّ: العهدُ، وبه قالَ مجاهدٌ (ت:104) (¬4)، وعبد الرحمن بن زيد (ت:182) (¬5)، وهو معنى ما روي عن قتادة (ت:117). ثمَّ قال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنَّ الله تعالى ¬
ذِكْرُه أخبرَ عنْ هؤلاءِ المشركينَ الذينَ أمرَ نبيَّه والمؤمنينَ بقتْلِهم بعدَ انسلاخِ الأشهرِ الحُرُمِ، وحصرِهِم، والقعودِ لهم على كلِّ مَرْصَدٍ: أنَّهم لو ظهروا على المؤمنينَ لمْ يرقُبُوا فيهم «إِلًّا». و «الإلُّ» اسمٌ يشتملُ على معانٍ ثلاثةٍ، وهي: العهدُ والعقدُ والحِلْفُ، والقرابةُ، وهو أيضاً بمعنى: الله. فإذا كانتِ الكلمةُ تشملُ هذهِ المعانيَ الثَّلاثةَ، ولمْ يكنِ اللهُ خصَّ منْ ذلكَ معنىً دونَ معنى، فالصَّوابُ أنْ يَعُمَّ ذلك كما عَمَّ بها ـ جلَّ ثناؤه ـ معانيَها الثلاثةَ، فيقالُ: لا يرقبونَ في مؤمنٍ اللهَ ولا قرابةً ولا عهداً ولا ميثاقاً ...» (¬1). أمَّا المحتمَلُ اللُّغويُّ الذي لم يقلْ به السَّلفُ، ويذكرُه أحدُ اللُّغويِّينَ، فإنه ـ وإن كان له وجه ـ يعترضُ عليه، ولا يقبله مع قولِ السَّلفِ، كما سبق بيانه، ومن ذلك: في قوله تعالى: {لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] قال: «يقول: لا تَسْمَعُ هذه الوجوهُ، المعنى لأهلِها، فيها: في الجنةِ العاليةِ، لاغيةً. يعني باللاغيةِ: كلمةَ لَغْوٍ، واللَّغوُ: الباطلُ، فقيلَ للكلمةِ التي هي لَغْوٌ: لاغيةٌ، كما قيلَ لصاحبِ الدرعِ: دَارِعٌ، ولصاحبِ الفَرَسِ: فارسٌ، ولقائلِ الشِّعْرِ: شاعرٌ، وكما قال الحطيئةُ (¬2): أغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّـ ... ـكَ لابِنٌ بِالصَّيفِ تَامِرْ يعني: صاحبَ لَبَنٍ وصاحبَ تَمْرٍ» (¬3). ثمَّ قالَ: «وبنحوِ الذي قُلْنا في ذلك قالَ أهلُ التأويلِ»، وذكرَ الروايةَ عن ابن عباسٍ (ت:68): «لا تَسمعُ أَذَىً وَلاَ بَاطِلاً»، وعن مجاهد بن جبر ¬
الثالثة: استعمال اللغة في الترجيح
(ت:104): «شَتْماً»، وعن قتادة (ت:117): «لا تسمعُ فيها بَاطِلاً ولا شَاتِماً» (¬1). ثَمَّ ذَكرَ عنِ الفرَّاءِ (ت:207) احتمالاً لُغويًّا لكنه لم يقبل قوله، مع أنَّه ذكر أنَّ لقوله وجهاً، وإنما لم يعتدَّ به لعدم وروده عن السَّلف، فقال: «وزعمَ بعضُ الكوفيين أنَّ معنى ذلكَ: لا تسمعُ فيها حالفةً على الكَذِبِ (¬2)، ولذلك قيل: لاغية. ولهذا الذي قاله مذهبٌ ووجهٌ، لولا أنَّ أهلَ التأويلِ منَ الصحابةِ والتابعين على خلافِهِ، وغيرُ جائزٍ لأحدٍ خلافهم فيما كانوا عليه مجمعين» (¬3). الثالثةُ: استعمالُ اللُّغةِ في التَّرجيحِ: أبدعَ الطبري (ت:310) في استخدام اللُّغةِ حالَ ترجيحِه لقولٍ من أقوالِ المفسِّرينَ، وكانَ في هذا دلالةٌ على تمكُّنِهِ ومعرفتِه بلغةِ العربِ، وهذه القضيَّةُ بحاجةٍ إلى دراسةٍ مستقلَّةٍ تبيِّنُ طريقتَه في اعتمادِه اللغةَ في التفسير. والأمثلةُ في اعتماده اللُّغةَ في التَّرجيحِ بين أقوالِ المفسِّرينَ كثيرةٌ، وسأذكرُ بعضَها، ومنها: 1 - في قوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52]، ذكرَ أقوالَ السلفِ في معنى «تبدَّل» وهي: الأول: أنْ تُطلِّقَهنَّ وتتزوجَ غيرهنَّ، وهو قول أبي رَزِين (ت:85) (¬4)، ومجاهد (ت:104)، والضحاك (ت:105)، على اختلافٍ بينهم في توجيهِ التبديلِ. ¬
الثاني: أنْ تُبَادِلَ بهنَّ غيرهنَّ، فتأخذَ زوجتَه ويأخذَ زوجتَك، وهو قولُ ابنِ زيدٍ (ت:182) (¬1). ثمَّ رجَّحَ أحدَ القولينِ قائلاً: «وأولى الأقوالِ في ذلكَ بالصَّوابِ، قولُ منْ قالَ: معنى ذلكَ: ولا أنْ تُطَلِّقَ أزواجَك فتستبدِلَ بهنَّ غيرَهُنَّ أزواجاً ... وأمَّا ما قالَه ابنُ زيدٍ في ذلكَ أيضاً، فقولٌ لا معنى له؛ لأنه لو كانَ بمعنى المُبَادَلَةِ، لكانتِ القراءةُ والتَّنْزيلُ: ولا أن تُبَادِلَ بهنَّ من أزواجٍ، أو: ولا أن تُبَدِّلَ بِهنَّ بضمِّ التاء، لكنَّ القراءةَ المجمعَ عليها: {وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} بفتح التاءِ، بمعنى: ولا أن تستبدل بهنَّ ...» (¬2). ففي هذا المثالِ ترى أنَّ ترجيحَه اعتمدَ على اشتقاقِ لفظِ «تَبَدَّلَ»، وأنَّه لو كانَ من المبادلةِ، لكان اللفظُ: تُبَادِلَ، أو: تُبَدِّلَ. 2 - في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ} [البقرة: 248]، ذكرَ قولينِ في معنى حَمْلِ الملائكةِ للتابوتِ: الأول: أنَّ الملائكةَ كانت تباشِرُ حَمْلَهُ، وأورد الرِّواية في ذلكَ عنِ ابن عباس (ت:68)، وقتادة (ت:117)، وابن زيد (ت:182). الثاني: تسوقُ الملائكةُ الدَّوابَّ التي تحملُه، قاله وَهْبُ بنُ مُنَبِّه الصَّنعانيُّ (ت:114) (¬3)، وقد رواهُ سفيانُ الثَّوريُّ عن بعضِ أشياخِه (¬4). ¬
ثمَّ قالَ معلِّقاً: «وأولى القولينِ في ذلك بالصَّوابِ، قول من قال: حملت التَّابوتَ الملائكةُ، حتى وضعتْهُ لها في دار طالوت قائماً بين أظهر بني إسرائيل، وذلك أنَّ الله تعالى ذِكْرُه قال: {تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ}، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرَّتْهُ البقرُ على عَجَلٍ، وإنْ كانتِ الملائكةُ هي سائقتُها، فهي غيرُ حامِلَتِه؛ لأنَّ الحملَ المعروفَ هو مباشرةُ الحاملِ بنفسِه حملَ ما حملَ، فأمَّا ما حملَه على غيرِه، وإن كانَ جائزاً في اللُّغةِ أنْ يُقال: حملَه؛ بمعنى: معونتِه الحاملَ، وبأنَّ حملَه كانَ عن سببِه، فليسَ سبيلُه سبيلَ ما باشرَ حملَه بنفسه في تعارفِ الناسِ إيَّاه بينهم. وتوجيهُ تأويلِ القرآنِ على الأشهرِ من اللُّغاتِ، أولى من توجيهِه إلى الأنكرِ، ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل» (¬1). 3 - وفي قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، قال: «وقال بعضُهم: إنَّما قيل ذلك، من أجلِ أنَّ العربَ تضعُ العلمَ مكانَ الرُّؤيةِ، والرُّؤيةَ مكانَ العلمِ؛ كما قالَ جَلَّ ذِكْرُه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، فزعمَ أنَّ معنى (ألم تر): ألم تعلم؟ وزعم أنَّ معنى قولِهِ: (إلاَّ لِنَعْلَمَ)، بمعنى: إلاَّ لنرى من يتَّبِع الرسول. وزعم أنَّ قول القائل: (رأيتُ، وعلمتُ، وشهدتُ) حروفٌ تتعاقب، فيوضَع بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية (¬2): ¬
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطاً وَحَاجِباً ... وَعَمْرَو بَنَ عَمْرٍو إذَا دَعَا يَالَ دَارِمِ بمعنى: كأنَّك لم تَعْلَمْ لَقِيطاً؛ لأنَّ بين هُلْكِ لَقِيطٍ وحاجبٍ وزمانِ جريرٍ، ما لا يخفى بُعْدُهُ من المدَّةِ، وذلك أنَّ الذين ذَكَرَهُم هلكوا في الجاهليَّة، وجرير كان بعد بُرْهَةٍ مضت من الإسلام. قال أبو جعفر: وهذا تأويلٌ بعيدٌ، من أجلِ أنَّ «الرُّؤيَةَ» وإن استعمِلت في موضع (العلم)، من أجل أنَّه مستحيلٌ أنْ يرى أحدٌ شيئاً فلا توجبُ رؤيتُهُ إيَّاه علماً بأنَّه قد رآه، إذ كانَ صحيحَ الفطرةِ. فجازَ مِنَ الوجهِ الذي أثبته رؤيةً، أن يُضافَ إليه إثباتُه إيَّاه عِلْماً، وصَحَّ أن يدلَّ بذكرِ الرؤيةِ على معنى العلمِ منْ أجلِ ذلكَ. فليسَ ذلكَ ـ وإنْ كانَ ذلكَ جائزاً في الرُّؤيةِ؛ لما وصفنا ـ بجائزٍ في العلمِ، فيدل بذكرِ الخبرِ عن (العلمِ) على (الرُّؤيةِ)؛ لأنَّ المرءَ قد يعلمُ أشياءَ كثيرةً لم يرَهَا ولا يراها، ويستحيل أن يرى شيئاً إلاَّ عِلمَهُ، كما قدَّمنا البيان عنه. مع أنَّه غيرُ موجودٍ في كلامِ العربِ أن يُقالَ: علمتُ كذا؛ بمعنى: رأيتُه. وإنَّما يجوزُ توجيهُ معاني ما في كتابِ اللهِ الذي أنزلَه على محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الكلامِ، إلى ما كانَ موجوداً مثلُه في كلامِ العربِ، دونَ ما لم يكنْ موجوداً في كلامِها. فموجودٌ في كلامِها: رأيتُ، بمعنى: علمتُ، وغيرُ موجودٍ في كلامِها: علمتُ، بمعنى: رأيتُ، فيجوزُ توجيهُ {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} إلى معنى: إلاَّ لنرى» (¬1). وموضوعُ اللُّغةِ في تفسيرِ الطَّبريِّ (ت:310) طويلٌ جداً، وهو محتاجٌ إلى من يُجلِّي كنوزَه، وسأختمُ هذا المبحثَ بذكرِ بعضِ ما يتعلَّقُ بالقواعدِ اللُّغويَّةِ التي اعتمدَها، وهي من دلائلِ تميُّزِه في هذا الشَّأنِ، ومن ذلك: * ¬
بعض القواعد اللغوية التي اعتمدها في الترجيح
غيرُ مستحيلٍ اجتماعُ المعاني الكثيرةِ للكلمةِ الواحدةِ، باللَّفظِ الواحدِ، في كلامٍ واحدٍ (¬1). * غيرُ جائزٌ إبطالُ حرفٍ كان دليلاً على معنًى في الكلامِ (¬2). * إذا كان الكلامُ مفهوماً على اتِّساقِه على كلامٍ واحدٍ، فلا وجهَ لصرفه إلى كلامين (¬3). * كلُّ كلامٍ نُطِقَ به، مفهومٌ به معنى ما أُريدَ، ففيه الكفايةُ عن غيره (¬4). * زيادة ما لا يُفيدُ من الكلامِ معنًى في الكلامِ، غيرُ جائزٍ إضافتُه إلى اللهِ جلَّ ثناؤه (¬5). أو: غيرُ جائزٍ أن يكونَ في كتابِ اللهِ حرفٌ لا معنى له (¬6). * تأويلُ القرآنِ على المفهومِ الظاهرِ من الخطابِ ـ دونَ الخفي الباطنِ منه، حتى تأتي دلالةٌ من الوجه الذي يجبُ التَّسليمُ له، بمعنًى خلافَ دليله الظاهرِ المتعارفَ في أهلِ اللِّسانِ الذين بلسانهم نزلَ القرآنُ ـ أولى (¬7). * غيرُ جائزٍ حذفُ حرفٍ من كلامِ اللهِ ـ في حالِ وقفٍ أو وصلٍ ـ لإثباتِه وجهٌ معروفٌ في كلامها (¬8). * لا يجوزُ أنْ يُحملَ تأويلُ القرآنِ إلاَّ على الأظهرِ الأكثرِ من الكلامِ المستعملِ في ألسنِ العربِ، دونَ الأقلِّ، ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل، ولم ¬
تضطرنا حاجةٌ إلى صرفِ ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلبِ المخرج بالخفي من الكلام والمعاني (¬1). أو: كتابُ اللهِ عزّ وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيانِ إلى الشَّواذِّ من الكلامِ والمعاني، وله في الفصيحِ من المنطقِ والظاهرِ من المعاني المفهوم، وجهٌ صحيحٌ (¬2). والكتابُ مليءٌ بأمثالِ هذه الدُّرَرِ، ولعلَّ فيما ذكرتُه إشارةً تُغني في بيانِ هذا الموضوعِ، والله الموفِّقُ. ¬
ثانيا: الجامع لعلم القرآن، للرماني
ثانياً الجامع لعلم القرآن ألَّفَه أبو الحسنِ عليُّ بنُ عيسى الرُّمَّانيُّ، النحويُّ، اللُّغويُّ، المعتزليُّ (ت:384). وقد ظهرتْ في هذا الكتابِ الصِّبغةُ النَّحويَّةُ واللُّغويَّةُ والاعتزاليَّةُ بوضوحٍ تامٍّ، كما أنَّ له في كلِّ فنٍّ منها مؤلفاتٍ (¬1). وهذا المؤلَّفُ مخطوطٌ، وقدْ ظفرتُ بجزءٍ صغيرٍ من تفسيرِه (¬2)، يبدأ بالآية (98) من سورة آل عمران، وينتهي بنهايةِ السورةِ، وهو في أربعٍ وخمسينَ وثلاثِمائةِ صفحةٍ، ولم أظفرْ بسواه، إلاَّ نسخةً تبيَّنَ لي أنها لا يمكن أن تكونَ له (¬3). ¬
مميزات هذا التفسير
ولقد تردَّدتُ كثيراً في دراستِه؛ لصِغَرِ حجمِه، غيرَ أنِّي لما نظرتُ فيه وجدتُه يدلُّ على غزارةِ مؤلِّفِه وامتلائه بعلمِ اللغةِ، ووجدته متشبعاً بعقائد المعتزلة، وهو من أقدم مؤلفاتهمِ الموجودة في التفسير، فلما كان ذلك، رأيت أن أدرسه. وهذا التَّفسيرُ يتميَّزُ بمميِّزاتٍ، منها: * كثرةُ استخدامِه لأسلوبِ السؤالِ والجوابِ. في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]، قال: «يقال: ما الفديةُ؟ الجواب: البدلُ منَ الشَّيء في إزالةِ الأذيَّةِ، ومنه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]؛ لأنه بدلٌ منه في إزالةِ الذَّبحِ عنه. ومنه: فداءُ الأسيرِ بغيرِه؛ لأنه بدلٌ منه في إزالةِ القتلِ والأسرِ عنه ... ويقال: ما معنى ذكر الافتداءِ هنا؟ الجوابُ: البيانُ عن أنَّ ما كُلِّفَهُ في الدنيا يسيرٌ في جنبِ ما يبذله في الآخرةِ من الفداءِ الكثيرِ، لو وُجِدَ إليه السَّبيلُ. قال قتادةُ: يُجاءُ بالكافرِ يوم القيامةِ، فيقالُ له: أرأيتَ لو كانَ لك ملءُ الأرضِ ذهباً، أكنتَ مفتدياً به؟ فيقول: نعم. فيقالُ له: لقدْ سُئلتَ أيسرَ من ذلك (¬1). ¬
ذكر المناسبات بين بعض الآي
وجوابٌ آخرُ: أنه لو افتدى به في دارِ الدُّنيا مع الإقامةِ على الكفرِ، لم يُقبل منه، حكاه الزَّجَّاجُ (¬1)». * ذكره المناسباتِ بين بعضِ الآياتِ؛ أي: وجهُ اتِّصالِ الآيةِ بما قبلها. في قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، قال: «ويقال: ما وجهُ اتِّصالِ الآيةِ بما قَبْلَها؟ الجوابُ: أنَّه لما ذكرَ في الآيةِ الأولى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] وصلَ ذلك بـ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]؛ لئلاَّ يؤدِّي امتناعُ غناءِ الفديةِ إلى الفتورِ عن الصَّدقةِ، وما يجري مجراها من وجوهِ الطَّاعاتِ» (¬2). * تذييلُه لكلِّ تفسيرِ آيةٍ بما تتضمَّنُه من أحكامٍ، سواءً أكانت حكماً فقهيًّا، أمْ أدباً تشريعيًّا، أم عقديًّا على مذهبِه المعتزليِّ. في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [آل عمران: 109]، قال: «وقد تضمَّنتِ الآيةُ البيانَ عن عظيمِ مُلكِ اللهِ الذي لا مُلكَ لأحدٍ في عاجلٍ ولا آجلٍ إلاَّ بتمليكِه، ولا تصريفَ إلاَّ بتمكينِه، وأنَّه إليه ترجع الأمور؛ لئلاَّ يكون العبدُ في الذَّهابِ عنه في تعبٍ وغرورٍ». * كثرةُ ذكرِه للفروقِ اللُّغويَّةِ بين الألفاظِ، وقد جمعتُ له في الجزءِ الذي رجعتُ إليه ثمانيةً وثلاثينَ فرقاً بين الألفاظِ المتقاربةِ؛ كالفرق بين المِلءِ ¬
حرصه على بيان معنى أصل اللفظ
والمَلءِ، والفرق بين الظُّلمِ والجورِ، والفرق بين الصِّدقِ والحقِّ، والفرقِ بينَ العَوَجِ والعِوَجِ، والفرقِ بين الاقتصارِ والحذفِ، وغيرها، ومن ذلك: في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114]، قال: «ويقال: ما الفرق بينَ السُّرعةِ والعَجَلةِ؟ الجوابُ: أنَّ السُّرعةَ: التَّقدُّمُ فيما ينبغي أنْ يُتقدَّمَ فيه، وهي محمودةٌ، ونقيضُها مذمومٌ، وهو الإبطاءُ. وأمَّا العَجَلةُ: فالتَّقدُّمُ فيما لا ينبغي أنْ يُتقدَّمَ فيه، وهي مذمومةٌ، ونقيضُها محمودٌ، وهو الأناةُ». * حرصُه ـ في كثيرٍ من الألفاظِ ـ على بيانِ معنى أصلِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ (¬1)، مع بيانِه معاني اللَّفظِ في اللُّغةِ والاستعمالِ. في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، قال: «ويقالُ: ما بكَّةُ؟ قيل: فيه ثلاثةُ أقوالٍ: قيلَ: بكَّةُ: المسجدُ، ومكَّةُ: الحرمُ كُلُّه، يدخلُ فيه البيوتُ، عن ابنِ شهابٍ (¬2)، وضمرةَ بن ربيعةَ (¬3). ¬
وقيل: بكَّةُ: هي مكَّةُ، عن مجاهد (¬1). وقيل: بطنُ مكَّةَ، عن أبي عُبيدةَ (¬2). ويقالُ: ما أصلُ بكَّةَ؟ الجوابُ: البكُّ: الزَّحمُ، من قوله: بَكَّهُ يَبُكُّه بَكًّا: إذا زحمَهُ. وتَبَاكَّ الناسُ: إذا ازدحموا. فبكَّةُ مزدحمُ النَّاسِ للطَّوافِ، وهو ما حولَ الكعبةِ من داخلِ المسجدِ الحرامِ (¬3). ومنهُ: البكُّ: دقُّ العُنقِ؛ لأنَّه فَكُّهُ بِشدَّةِ زَحْمِهِ. وقيلَ: سُمِّيتْ بكَّة؛ لأنها تَبُكُّ أعناقَ الجبابرةِ (¬4)، إذا ألحدوا فيها بظلمٍ، لمْ يُمهَلوا». * يُعتبرُ مرجِعاً لبعضِ آراءِ المعتزلةِ (¬5)؛ لأنَّه أحدُهم، فيكونُ نقلُ آرائهم من كتابِه أوثقَ، وهذا يفيدُ من يدرسُ مذهبَهم، ويحتاجُ معرفةَ أقوالِهم منهم (¬6). ¬
صور التفسير اللغوي في الجامع لعلم القرآن
صور التَّفسير اللُّغويِّ في كتاب الجامع لعلم القرآن: لقد ذكرتُ فيما مضى بعضَ صورِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ التي ظهرتْ في كتاب الرُّمَّانيِّ (ت:384)، وسأذكرُ ما بقي منها، وهي: * الشَّواهد الشِّعريَّةِ: لقد تتبَّعتُ الشَّواهدَ الشِّعريَّةَ في هذا الجزءِ، وقد بلغ ما يتعلَّقُ بشواهدِ الألفاظِ منها أربعةً وثلاثينَ شاهداً شِعريًّا (¬1)، ومن ذلك قوله: «ويقال: ما معنى سبحانك؟ الجواب: تنْزيهاً هو لك (¬2) مما لا يجوز في صفتك، وقال الشاعرُ (¬3): أقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ وقال الآخرُ (¬4): سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً يَعُودُ لَهُ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ فهو تعظيمٌ لله جَلَّ وعَزَّ من الشَّرِّ وصفاتِ النَّقصِ». ¬
الأساليب العربية
* الأساليبُ العربيَّةُ: لقد كتبَ الرُّمَّانيُّ (ت:384) في علمِ بلاغةِ القرآنِ كتابَه (النُّكت في إعجاز القرآنِ)، وقد تحدَّثَ فيه عن بعضِ أساليبِ العربِ في الخطابِ، واستشهدَ لما وردَ منها في القرآنِ، أمَّا في تفسيرِه، فقد ظهرَ بعضُها، وكان يأتي على أسلوبِ القاعدةِ العلميَّةِ (¬1)، ومن الأساليبِ التي ذكرها: 1 - أسلوبُ الحذفِ: عرَّف الرُّمَّانيُّ الحذفَ فقال: «إسقاطُ كلمةٍ للاجتزاء عنها بدلالةِ غيرها من الحالِ أو فحوى الكلامِ» (¬2). وقال في أسلوب الحذفِ أيضاً: «... والحذفُ: لا بدَّ فيه من خَلَفٍ يُستغنى به عن المحذوفِ» (¬3). وهذا يعني أنَّه يرى وجودَ الحذفِ (¬4)، إلاَّ أنَّه لا يرى أنَّ كلَّ ما قيل فيه: إنَّه محذوفٌ، أنَّه يكونُ كذلكَ، ولهذا استفادَ بهذا القيدِ في أسلوبِ الحذف في ردِّ بعضِ ما ادُّعي أنه كذلكَ (¬5). ومما وردَ في تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ¬
أثر المعتقد في التفسير اللغوي عند الرماني
اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] قوله: «فإن قيلَ: هل يجوزُ أن يكونَ التَّقديرُ: ففي ثواب رحمة اللهِ هم فيها خالدونَ، فحذفَ كما حذفَ {اسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. الجواب: لا، من قِبَلِ أنَّ الرَّحمةَ هنا: هي ثوابُ اللهِ للمطيعينَ، وإذا صحَّ الكلامُ من غيرِ حذفٍ، لمْ يَجُزْ أنْ نُقدِّرَ على الحذفِ؛ لاستغنائه عن المحذوفِ، وتمامِه على صِحَّةِ معناه، وإنما هو غلطٌ ممن قدَّره هذا التقديرَ». 2 - أسلوبُ التَّغليبِ: ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى: {كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 112]، قال: «ويقال: كيفَ جازَ عقابُهم على ما لم يفعلوه من قتلِ الأنبياءِ ـ صلواتُ الله عليهم ـ وإنما فعله أسلافُهم دونهم؟ الجوابُ: فيه وجهانِ: الأولُ: أن يكونَ العقابُ إنما هو على رضاهم بذلك، إلاَّ أنَّه أجرى عليهم صفةَ القتلِ لِعِظَمِ الجُرمِ في رضاهُم به، فكأنهم قد فعلوه، على نحو {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4]، وإنما أمرَ به. الثاني: أن تكونَ الصِّفةُ تعمُّ الجميعَ، فدخلوا في الجملةِ، وتُجرى عليهم الصِّفةُ على التَّغليبِ، كما تُغلِّبُ المذكَّرَ على المؤنَّثِ، وكذلكَ تُغلِّبُ القاتلَ على الرَّاضي» (¬1). أثر المعتقد في التَّفسير اللُّغويِّ عند الرُّمَّانيِّ: لقد نصَّ من ترجمَ للرُّمَّانيِّ على أنَّه معتزليٌّ، وقد كانَ كذلكَ كما هو ظاهرٌ من كتابِه (الجامعِ لعلمِ القرآنِ)، وفي هذا الجزءِ المخطوطِ ذكرَ مسائلَ من معتقداتِه الاعتزاليَّةِ؛ كالمنْزلةِ بين المنْزلتينِ (¬2)، والأمرِ بالمعروفِ والنهي ¬
عن المنكرِ (¬1)، وأفعالِ العبادِ (¬2)، وتأويلِ الشَّفاعةِ الواردةِ في أهلِ الكبائرِ (¬3)، وحملِ صفاتِ اللهِ على المجازِ (¬4)، وغيرِها من المباحثِ العقديَّةِ الاعتزاليَّةِ. وسأذكر أمثلةً لأثرِ بعضِ هذه العقائدِ على التَّفسيرِ اللُّغويِّ عنده، واللهُ الموفِّقُ: * في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101]، قال: «ويقالُ: ما التَّعجُّبُ؟ الجوابُ: حدوثُ إدراكِ ما لم يكنْ يُقدَّرُ لِخَفاءِ سببِه، وخروجِه عن العادةِ في مثلِه، ولذا لمْ يَجُزْ في صفاتِ القديمِ (¬5)، ولكنْ يجوزُ في صفتِه تعجيبُ العبادِ من بعضِ الأمورِ، وصيغتُه التي تدلُّ عليه في لغة العربِ: ما أفعلَهُ، وأفعِلْ به، إلاَّ أنَّه قد يجيءُ كلامٌ مُضمَّنٌ معنى التَّعجُّبِ، وإنْ لم يكنْ في الأصلِ له». لقد أنكرَ الرُّمَّانيُّ (ت:384) صفةَ العُجْبِ للهِ سبحانَه، وهي من الصِّفاتِ الاختياريَّةِ التي أخبرَ اللهُ عن نفسِه أنَّه يتَّصفُ بها، وأخبرَ بها عنه أعلمُ الخلقِ به محمد صلّى الله عليه وسلّم. لذا فالصَّوابُ أنْ يُثبتَ معنى هذه الصِّفةِ للهِ على الحقيقةِ، ولكن يُعلمُ قطعاً أنَّ اتِّصافَ اللهِ بها غيرُ اتِّصافِ المخلوقينَ، أمَّا أنْ تُحملَ على هذا المجازِ الذي حملَه عليه، فلا يصحُّ، مع إمكانِ الحقيقةِ، واللهُ أعلمُ. ¬
* في قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: «ويقالُ: ما معنى {عِنْدَ رَبِّهِمْ} هنا؟ الجوابُ: فيه قولانِ: الأول: بحيثُ لا يملكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرًّا إلاَّ ربُّهم، وليسَ ذلكَ على قُربِ المسافةِ؛ لأنَّه من صفةِ الأجْسامِ. والوجهُ الآخرُ: عند ربِّهم أحياءُ، من حيثُ يعلمُهم كذلكَ دون النَّاسِ، عن أبي عليٍّ (¬1)». إذا تأمَّلتَ هذينِ التَّوجيهينِ للعنديَّةِ، تبيَّنَ لكَ حملُها على المجازِ، وليسَ ذلك بصوابٍ، بل تُحملُ العنديَّةُ على الحقيقةِ، والقاعدةُ في صفاتِ اللهِ حملُها على الحقيقةِ، دونَ تمثيلٍ ولا تعطيلٍ ولا تأويلٍ، وليس يلزمُ هذا الإشكالُ الَّذي أورَدَه إلاَّ على من وقعَ في التَّشبيهِ، ففرَّ إلى التَّأويلِ، بل التَّحريفِ، وهذا يتضمَّنُ إنكارَ صفةِ العُلُوِّ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فسَّرَ معنى حياةِ الشُّهداء في هذه الآية، فقال: «أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تسرحُ من الجنَّةِ حيثُ شاءتْ ...» (¬2)، فإذا كانتْ معلَّقةً بالعرشِ الذي استوى عليه الرَّحمنُ، فهي عنده، وهي أقربُ من غيرِها إليه، وإلا لما كانَ لهم مزيَّةٌ بهذه العنديَّةِ، واللهُ أعلمُ. * في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]، قال: «ويقال: ما معنى {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}؟ ¬
الجوابُ: إنَّما نُمْلِي لهم على أنَّ عاقبةَ أمرِهم ازديادُ الإثمِ، وهذه لام العاقبةِ، والدَّليلُ عليها: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8] (¬1). قال الشَّاعرُ (¬2): وَأُمَّ سِمَاكٍ لا تَجْزَعِي ... فَلِلْمَوتِ مَا تَلِدُ الوَالِدَه فَأقْسِمُ لَو قَتَلُوا مَالِكاً ... لَكُنْتُ لَهُم حَيَّةً رَاصِدَه وقال آخرُ (¬3): أمْوَالُنَا لِذَوِي المِيرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا وقال آخرُ (¬4): وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَلِلْخَرَابِ يُجِدُّ النَّاسُ بُنْيَانَا وقال (¬5): ........ ... لِدُوا لِلْمَوتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ ويقولُ: ما تزيدُك موعظتي إلاَّ شرًّا، وما أراها عليكَ إلاَّ وبالاً. ويُقالُ: لِمَ لا يجوزُ أن تُحملَ {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} على الأظهرِ من معنى اللامِ، وهو الإرادةُ لازديادِ الآثامِ. ¬
الجوابُ: لأنَّه لو أرادَه منهم؛ لكانوا مُطيعينَ له بفعله، ولأنَّ إرادةَ القبيحِ عبثٌ، وقد نفى اللهُ ذلك لقوله عزّ وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115]، ولأنَّه يُردُّ إلى المحكمِ في قوله عزّ وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]». انظرْ، كَمْ حشدَ في هذا المثالِ من الأشعارِ لإثباتِ أنَّ اللاَّمَ في الآية هي لامُ العاقبةِ، وقد نصَّ صراحةً على مخالفةِ الظَّاهرِ من معنى اللاَّم، وسببُ مخالفتِه، فَهْمُه الاعتزاليُّ الخطأُ في الإرادةِ الإلهيَّةِ، فجعلَ كلَّ ما يريدُه اللهُ، محبوباً له، ويُبنى عليه أن يكونَ مريداً لزيادةِ الإثمِ لهمْ، وهذا قبيحٌ عنده، ولذا حَرَفَ معنى اللاَّمِ الدَّالِّ عليها هنا إلى لامِ العاقبةِ (¬1)، وليسَ ذلكَ بصوابٍ، بل اللهُ يفعلُ ما يريدُ، وفعلُه محمودٌ، وهو كمالٌ لا يلحقُه قبحٌ ولا نقصٌ كما يتوهَّمُه المعتزلةُ أو غيرُهم الَّذينَ لم ينتبهوا للفرقِ بين الإرادةِ الكونيَّةِ والإرادةِ الشَّرعيَّةِ، ولذا يؤوِّلُ كلَّ إرادةِ كونيَّةٍ بسببِ سوءِ فهمِه لها؛ كتفسيرِه لقوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176]، قال: «ويقالُ: ما معنى {يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ}؟ الجوابُ: يريدُ أنْ يُحبِطَ أعمالَهم بما استحقُّوه من إجرامِهم، عن ابن إسحاقَ (¬2). ويجوزُ أن يكونَ بمعنى: يريدُ اللهُ أن يحكمَ بحرمانِ ثوابِهم الَّذي ¬
عرضوا له بتكليفهم»، وذكر جواباً لأبي عليِّ الجُبَّائيِّ، وهو: «سيريدُ في الآخرةِ حرمانهم الثوابَ إحباطِهم إيمانَهم بكفرِهم». والإرادةُ الكونيَّةُ فيها جانبانِ: الأول: لا يلزمُ فيها أنْ تكونَ من محبوباتِ الله، ولذا قد يقعُ بها إرادةُ الشَّرِّ؛ كقوله تعالى: {وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34]. الثَّاني: أنَّها تقعُ كما أرادَ اللهُ سبحانَه، وهي لا تتخلَّفُ أبداً؛ لارتباطِها بفعلِه ـ سبحانَه ـ وهو الفعَّالُ لما يريدُ، لا يردُّه أحدٌ عما أرادَ وقضى. والإرادةُ الشَّرعيَّةُ فيها جانبان: الأول: أنَّها لا تكونُ إلاَّ فيما يُحبُّه اللهُ؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فالتَّخفيفُ على العبادِ في الطَّاعةِ في حالِ المرضِ أو السَّفرِ محبوبٌ للهِ سبحانه. الثَّاني: أنَّه لا يلزمُ وقوعُها، لتعلُّقِها بفعلِ العبدِ، فقدْ يفعلُ ما يريدُه اللهُ منه شرعاً، وقد لا يفعلُ؛ كإباحةِ الفِطْرِ للمسافرِ والمريضِ، قد يقعُ منهما، وقد يصومانِ، وهو عليهما شاقٌّ، واللهُ يريدُ؛ أي: يُحبُّ التَّخفيفَ عليهما؛ لكنْ لم يقع بصومهما (¬1). وبهذا يزولُ الإشكالُ الواردُ على هذه العقولِ، واللهُ الموفِّقُ، والهادي إلى سواءِ السَّبيلِ. وقبل أن أختِمَ الحديث عن كتاب (الجامع لعلم القرآن)، أُشيرُ إلى كثرةِ ¬
نقلِ الرُّمَّانيِّ (ت:384) للتَّفسيرِ الواردِ عن السَّلفِ (¬1)، وهذا مما يحسبُ له، وإن كان يؤخذُ عليه عدم اعتمادِ عقيدتِهم، وأخذُه بما خالَفها، وأكتفي بهذا القدرِ، واللهُ الموفِّقُ. ¬
ثالثا: المحرر الوجيز، لابن عطية
ثالثاً المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ألَّفَ ابنُ عطية (ت:542) (¬1) كتابه المحرر الوجيز جامعاً فيه علوم التَّفسيرِ، معتمداً على مصادر التفسيرِ الأصيلة، فقال: «... ففزعتُ إلى تعليقِ ما يَتَنخَّل (¬2) لي في المناظرةِ من علم التَّفسيرِ، وترتيبِ المعاني. وقصدتُ أن يكونَ جامعاً وجيزاً، لا أذكر فيه من القصص إلاَّ ما لا تنفكُّ الآية إلاَّ به. وأثبتُّ أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم، على ما تلقَّى السَّلفُ الصالحُ ـ رضوانُ اللهِ عليهم ـ كتابَ اللهِ تعالى من مقاصدِ العربيةِ، السليمةِ من إلحادِ أهلِ القولِ بالرُّموزِ، وأهلِ القولِ بالباطنِ وغيرهم، فمتى وقع لأحد من العلماءِ الذين حازوا حسن الظنِّ بهم لفظٌ ينحو إلى شيءٍ من أغراضِ الملحدين، نبَّهتُ عليه. وسردتُ التَّفسيرَ في هذا التَّعليقِ بحسبِ رُتبةِ ألفاظِ الآيةِ: من حُكْمٍ، أو نَحْوٍ، أو لُغَةٍ، أو قراءةٍ. ¬
ما تميز به التفسير اللغوي عند ابن عطية
وقصدتُ تتبُّع الألفاظ حتى لا يقعَ طَفَرٌ (¬1) كما في كثير من كتب المفسرين» (¬2). وبهذا الكلامِ أبانَ ابنُ عطية (ت:542) عن شيءٍ من منهجه، وفيه ما أنا بصددِه، وهو التَّفسيرُ اللُّغويُّ، وقد عَقَدَ فصلاً في تفسيرِ القرآنِ والكلامِ على لغتِه والنَّظرِ في إعرابِه ودقائقِ معانيه (¬3). وبتتبُّع التَّفسيرِ اللُّغويِّ عند ابن عطية (ت:542) وغيرِه منَ المفسِّرينَ، لا يظهرُ اختلافٌ بينهم في أصولِ مسائِله: من الاستفادةِ من اللُّغةِ وشواهدِها، غير أنَّ التَّميّزَ قد يقع في كثرةِ الاعتمادِ وقِلَّتِه، وطريقةِ الأخذِ باللَّغةِ والتَّرجيحِ بها، وطريقةِ أداءِ معاني القرآن بما يطابقها من لغة العربِ، وهو ما يسميه ابنُ عطيةَ (ت:452) ـ أحياناً ـ بتحريرِ معنى اللَّفظِ في لغةِ العربِ. وقد سلك ابن عطيَّةَ (ت:542) الطَّريق نفسه الذي سلكه من كان قبله، من تفسير ألفاظ القرآن بدون ذكر الشَّاهدِ اللُّغويِّ، وبذكرِ الشَّاهدِ اللُّغويِّ، وبذكر المحتملات اللُّغويَّةِ، وتوجيه القراءات مختلفاتِ المعنى، والتَّرجيحِ باللُّغةِ. وسأذكر لهذه الأنواع أمثلةً، مع ذكر ما تميَّز به ابن عطيَّة (542) في تفسيره، واللهُ الموفِّقُ. أوَّلاً: مفردات ألفاظ القرآن: يظهرُ في تفسيرِ الألفاظِ عندَ ابن عطية (ت:542)، حرصُه على تحريرِ معنى اللَّفظِ في اللُّغةِ، خصوصاً إذا وردَ تفسيرُ السَّلفِ بغيرِ مطابقِ اللَّفظِ، وله في ذلك براعةٌ وإبداعٌ عجيبٌ. ¬
ومن ذلك: 1 - تفسيرُه للفظ «الغيب» في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، قال: «والغيب في اللغةِ: ما غاب عنكَ من أمرٍ، ومن مطمئنِّ الأرضِ الذي يغيبُ فيه داخلُه» (¬1). وقد ذكر قبل ذلك أقوالَ المفسرينَ، ثمَّ ختمها بهذا البيانِ، فقال: «وقوله: {بِالْغَيْبِ}، قالت طائفةٌ: معناه: يصدِّقونَ إذا غابوا وخَلَوا، لا كالمنافقينَ الذينَ يؤمنونَ إذا حضروا، ويكفرونَ إذا غابوا. وقال آخرونَ: يصدقونَ بما غابَ عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ. واختلفتْ عباراتُ المفسرينَ في تمثيلِ ذلك، فقالت فرقةٌ: الغيبُ في هذه الآيةِ: اللهُ عزّ وجل. وقال آخرونَ: القضاءُ والقدرُ. وقالَ آخرونَ: القرآنُ وما فيه من الغيوبِ. وقال آخرونَ: الحشرُ والصِّراطُ والميزانُ والجنَّةُ والنَّارُ. وهذه الأقوالُ لا تتعارضُ، بل يقعُ الغيبُ على جميعِها. والغيب في اللغةِ: ما غاب عنكَ من أمرٍ، ومن مطمئنِّ الأرضِ الذي يغيبُ فيه داخلُه» (¬2). فتراه في هذا المثالِ بيَّنَ المعنى اللُّغويَّ للغيبِ، وبيَّنَ أن تفسيرَ المفسرينَ له بما ذكرَه عنهم إنما هو على سبيلِ المثالِ لنوعٍ من أنواعِ الغيبِ. 2 - وفي تفسيرِه للفظِ «تفكَّهون» من قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]، قال: «و {تَفَكَّهُونَ}، قال ابن عباسٍ، ومجاهد، وقتادة: معناه: تعجبونَ. ¬
وقال عكرمةُ: تلاومونَ. وقال الحسنُ: تندمونَ. وقال ابن زيدٍ: تتفجَّعونَ. وهذا كله تفسيرٌ لا يخصُّ اللفظةَ، والذي يخصُّ اللَّفظَةَ هو: تطرحونَ الفكاهة عن أنفسكم، وهي المسرَّةُ والجَذَلُ (¬1). ورجلٌ فَكِهٌ: إذا كانَ منبسطَ النَّفسِ، غيرَ مكترثٍ بشيءٍ. وتَفَكَّهَ، من أخواتِ تَحَرَّجَ وَتَحَوَّبَ» (¬2). 3 - وفي قوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَياتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]، قال في تفسيرِ لفظِ {فَوْرِهِمْ}: «والفورُ: النهوضُ المسرعُ إلى الشيءِ، مأخوذٌ من فَورِ القِدْرِ والماءِ ونحوِه، ومنه قوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]، فالمعنى: ويأتوكم في نهضتِهم هذه. قال ابن عباس: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}: معناه: من سفرهم هذا. وقال الحسن، والسُّدِّيُّ: معناه: من وجههم هذا، وقاله قتادة. ¬
وقال مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح مولى أمِّ هانئ (¬1): من غضبِهِم هذا. قال القاضي أبو محمد رحمه الله تعالى: وهذا تفسيرٌ لا يخصُّ اللَّفظةَ، وقد يكونُ الفورُ لغضبٍ ولطمعٍ ولرغبةٍ في أجرٍ، ومنه الفورُ في الحجِّ والوضوءِ» (¬2). فبيَّن هنا أصل لفظِ الفورِ في اللُّغة، ثم بين أنَّ تفسيره بالغضبِ ليس مطابقاً، وإنما هو تفسيرٌ بالسببِ. وقد يذكر الشَّاهدَ الشِّعريَّ للَّفظِ الَّذي يفسِّره، ومن ذلك: 1 - في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57]، قال: «و {تَثْقَفَنَّهُمْ}، معناه: تأسرهم، وتحصلهم في ثقافك، أو تلقاهم في حالِ ضعفٍ تقدِرُ عليهم فيها وتغلبهم، وهذا من لازم اللفظِ؛ لقوله: {فِي الْحَرْبِ}. وقيلَ: ثقف: أخذ بسرعةٍ، ومن ذلك قولهم: رجلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ (¬3). وقال بعضُ الناسِ: معناه: تُصادِفنَّهم، إلى نحو هذا من الأقوالِ التي لا ترتبطُ في المعنى، وذلك أن المصادَفَ قد يُغْلَبُ، فيمكنُ التَّشريدُ به، وقد لا يُغلب. ¬
والثقافُ في اللُّغةِ: ما تُشدُّ به القناةُ ونحوُها، ومنه قول الشاعرِ (¬1): إنَّ قَنَاتِي لَنَبْعٌ مَا يُؤَيِّسُهَا ... عَضُّ الثِّقَافِ ولاَ دُهْنٌ ولاَ نَارُ وقال آخر (¬2): تَدْعُو قُعَيناً وَقَدْ عَضَّ الحَدِيدُ بِهَا ... عَضَّ الثِّقَافِ عَلَى صُمِّ الأنَابِيبِ» (¬3) 2 - وفي قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]، قال: «واستهوته: استفعلته، بمعنى: استدعت هواه وأمالته. قال أبو عبيدة: ويحتمل هُوِيُّه وهو جِدُّه وركوب رأسه في النزوع إليهم (¬4). والهُوِيُّ، من هَوَى يَهْوِي، يُستعملُ في السقوطِ من عُلوٍ إلى أسفلَ، ومنه بيت الشاعر (¬5): ¬
هَوَى ابْنِي مِنْ ذَرَى شَرَفٍ ... فَزَلَّتْ رِجْلُهُ وَيَدُهُ وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآيةِ، إلاَّ أن تُتَأوَّلُ اللَّفظةُ بمعنى: ألقته الشياطينُ في هُوَّةٍ، وقد ذهب إليه أبو عليٍّ (¬1)، وقال: هو بمعنى أهوى، كما أنَّ استزلَّ، بمعنى أزلَّ (¬2). قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتحرير أن العربَ تقولُ: هَوِيَ، وأهواه غيره، واستهواه، بمعنى: طلب منه أن يهويَ هو، أو طلبَ منه أن يُهوِي شيئاً. ويُستعمل الهُوِيُ أيضاً في ركوبِ الرأسِ في النُّزوعِ إلى الشيءِ، ومنه قوله تبارك وتعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، ومن قول شاعرِ الجنِّ (¬3): تَهْوِي إلَى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدَى ... مَا مُؤْمِنُ الجِنِّ كَأنْجَاسِهَا وهذا هو المعنى الذي يليقُ بالآيةِ» (¬4). 3 - وفي قوله: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 16]، قال: «والشَّوى: جِلدُ ¬
الإنسانِ، وقيل: جِلدُ الرأسِ والهَامَةِ، قاله الحسنُ، ومنه قول الأعشى (¬1): قَالَتْ قُتَيلَةُ مَا لَهُ قّدْ ... جُلِّلَتْ شَيباً شَوَاتُهُ؟ ورواه أبو عمرو بن العلاء: سَرَاتُهُ، فلا شاهدَ في البيت على هذه الرواية (¬2). قال أبو عبيدة: سمعتُ أعرابياً يقول: اقشعرَّت شواتي (¬3). والشوى أيضاً: قوائم الحيوان، ومنه: عَبْلُ الشَّوى (¬4). والشَّوى أيضاً: كلُّ عضوٍ ليس بمقتلٍ، ومنه: رمى، فأشوى، إذا لم يُصِبْ المقتلَ. وقال ابن جبير: الشَّوى: العصبُ والعَقِبُ. فنار لظى تُذهِبُ هذا من ابن آدمَ وتنْزعه» (¬5). ¬
والأمثلةُ التي فيها الاستشهادُ بأشعارِ العربِ كثيرةٌ (¬1)، والمقصود هنا الاستشهادُ لبعضها. وبمناسبةِ ما ذكره من روايةِ أبي عمرو بن العلاءِ لبيتِ الأعشى، فإنه مما يحسنُ دَرْسُه في بيانِ استشهاداتِ المفسِّرينَ بأشعارِ العربِ: رصدُ آرائهم في بعضِ الشَّواهِدِ الشِّعريَّةِ، وأثرها في تفسيرِ ألفاظِ القرآن الكريم، ومن ذلك: 1 - ما ذكر في تفسيرِ السَّلوى من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57]. قال ابن عطية (542): «والسَّلوى طيرٌ، بإجماعٍ من المفسِّرينَ» (¬2)، ثمَّ قال: «وقد غلطَ الهذليُّ، فقال (¬3): وَقَاسَمَهَا بِاللهِ عَهْداً لأنْتُم ... ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا ظنَّ السَّلوى العسلَ» (¬4). ¬
وقدْ دلَّ الشَّاعرُ بقولِه: «نَشُورُهَا» على أنَّ المرادَ به العسلُ؛ لأنه هو الذي يُشَارُ، فكلمة «شَارَ» مختصَّةٌ بِجَنْيِ العسلِ. وهذا من تغليطِ العربِ، وهو مذهبٌ لبعضِ اللُّغويِّين، وفي هذا المذهبِ نظرٌ ودراسةٌ ليسَ هذا محلُّها، وإنما المراد هنا ذكرُ ما ذهب إليه ابن عطيَّةَ (ت:542) (¬1). 2 - وما ذكره في قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، قال: «الخطابُ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، والمرادُ أمته. وامترى في الشَّيءِ إذا شكَّ فيه، ومنه المراء؛ لأنَّ هذا يشكُّ في قولِ هذا. وأنشدَ الطَّبريُّ (¬2) شاهداً على أنَّ الممترينَ شاكُّونَ قولَ الأعشى (¬3): تَدُرُّ عَلَى أسْؤُقِ المُمْتَرِيـ ... ـنَ رَكْضاً إذا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ ووهِم في ذلك؛ لأنَّ أبا عبيدةَ وغيره قالوا: الممترين في البيت: هم الذينَ يَمْرُونَ الخيلَ بأرجلِهم هَمْزاً لتجري (¬4)؛ كأنهم يحتلبون الجريَ منها، فليس في البيت معنًى من الشَّكِّ كما قال الطبريُّ» (¬5). ¬
ثانيا: كثرة المحتملات اللغوية
وهذا من المشكلات التي تحتاجُ إلى دراسةٍ في الشَّاهدِ الشِّعريِّ الذي يستشهدُ به المفسِّرونَ، ويكونُ ما استشهدوا به في غير محلِّه، كما في هذا المثالِ عند ابن عطيَّةَ (ت:542) (¬1). ثانياً: المحتملاتُ اللُّغويَّة: يُكثِرُ ابن عطيَّةَ (542) من إيرادِ الاحتمالاتِ التَّفسيريَّةِ في الآيةِ، ومن تلكَ الاحتمالاتِ ما يكونُ بسببِ اللُّغةِ، وهو في أغلبِها ينقلُ ما فسَّرَه المفسِّرونَ أو أهلُ اللُّغةِ (¬2)، ومن ذلكَ: 1 - قال في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَاتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28]: «واضطربَ المتأوِّلون في معنى قوله: {عَنِ الْيَمِينِ}، وعبَّر ابن زيد عنه بطريق الجنَّةِ، ونحو هذا من العبارات التي تُفسِّرُ بالمعنى، ولا تختصُّ بنفسِ اللفظِ. وبعضهم نحا في تفسيرِ اللفظةِ إلى ما يختصُّها، والذي يتحصَّلُ من ذلك معانٍ؛ منها: أن يُريدَ باليمينِ القوَّة والشِّدَّةُ، فكأنهم قالوا: إنكم كنتم تُغوُوننا بقوَّةٍ منكم، وتحملوننا على طريقِ الضلالةِ بمتابعةٍ منكم في شِدَّةٍ، فعبَّر عن هذه المعاني باليمينِ؛ كقولِ العربِ: بيدينِ ما أوردَ، وكما قالوا: اليد ـ في غير هذا الموضع ـ عن القوة (¬3). ¬
وقد ذهب بعض الناس ببيت الشَّمَّاخِ (¬1) هذا المذهب، وهو قوله (¬2): إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّهَا عَرَابَةُ بِاليَمِينِ فقالوا: معناه: بقوة وعزيمة، وإلاَّ، فكلُّ أحدٍ يتلقَّاها بيمينه، لو كانت الجارحة، وأيضاً: لما استعار الرايةَ للمجدِ، فكذا لم يُرِدْ باليمينِ الجارحة. ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يُريدوا: إنكم كنتم تأتوننا من الجِهةِ التي يُحسِّنها تمويهُكم وإغواؤكم، ويظهر فيها أنها جهةُ الرشد والصواب، فتصير عندنا كاليمين الذي يتيمَّنُ بالسانح الذي يجيئنا من قِبَلِها، فكأنهم شبَّهوا أقوال هؤلاء المُغوِينَ بالسَّوانحِ التي هي عندهم محمودة؛ كأن التمويه في هذه الغويات قد أُظهِرَ فيها ما يُوشِكُ أن يُحمدَ به ...» (¬3). 2 - في قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]، قال: «قوله تعالى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ}، قال أبو سعيد الخدري، وقتادة، ومجاهد: معناه: بيَّنها لهم؛ أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها. وفي نحو هذا المعنى قولُ النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأحدكم بمنْزله في الجنة أعرف منه بمنْزله في الدنيا» (¬4). ¬
ثالثا: الترجيح باللغة
وقالت فرقةٌ: معناه: سمَّاها لهم، ووَسَمَهَا، كلُّ منْزلٍ باسمِ صاحبِهِ، فهذا نَحْوٌ منَ التَّعريفِ. وقالت فرقةٌ: معناه: شرَّفها لهم، ورفعَها وعلاَّها، وهذا من الأعرافِ التي هي الجبالُ وما أشبهَها، ومنه: أعرافُ الخيلِ. وقال مؤرجٌ وغيرُه: معناه: طيَّبَها، مأخوذ من العَرْفِ، ومنه: طعامٌ مُعَرَّفٌ؛ أي: مطيَّبٌ، وعرَّفتُ القِدْرَ؛ أي طيَّبتُها بالملحِ والتوابلِ» (¬1). ثالثاً: الترجيح باللغة: يكثرُ في ترجيحاتِ ابن عطيَّةَ (ت:542) أنْ لا يذكُرَ فيها مستندَ الترجيحِ، بل يضعِّفُ بعضَ الأقوالِ أو يقوِّيها دونَ أن يذكرَ سببَ ذلكَ، ومن ذلك ترجيحُه لبعضِ الأقوالِ بسببِ اللُّغة، ومما صرَّحَ فيه بالاعتمادِ على اللُّغةِ في الترجيحِ: 1 - في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، قال: «والجوارحُ: الكواسبُ، على ما تقدَّم. وحكى ابن المنذرِ (¬2) عن قومٍ أنهم قالوا: الجوارِحُ، مأخوذٌ من الجِراحِ؛ أي: الحيوانُ الذي له نابٌ، أو ظُفُرٌ، أو مِخلبٌ به صيدُه. قال القاضي أبو محمد رحمه الله تعالى: وهذا قولٌ ضعيفٌ، وأهلُ اللُّغةِ على خلافِه» (¬3). ¬
2 - وفي قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3] قال: «وقرأ جمهورُ النَّاسِ: «صُوَرَكُمْ» بضمِّ الصَّادِ. وقرأ أبو رزين «صِوركم» بكسرِ الصَّادِ (¬1). وهذا تعديدُ النِّعمةِ في حُسْنِ الخِلقَةِ؛ لأنَّ أعضاءَ ابن آدمَ متصرِّفةٌ في جميعِ ما تتصرَّفُ به أعضاءُ الحيوانِ وبزيادات كثيرةٍ فُضِّلَ بها، ثمَّ هو مُفضَّلٌ بحُسنِ الوجهِ، وجمالِ الجوارحِ. وحُجَّةُ هذا، قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. وقالَ بعضُ العلماءِ: النِّعمةُ المُعدَّدةُ هنا إنما هي صورةُ الإنسانِ من حيثُ هو إنسانٌ مُدرِكٌ عاقلٌ، فهذا هو الذي حَسُنَ له حتَّى لَحِقَ ذلك كمالاتٌ كثيرةٌ. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والقول الأول أجرى على لغة العربِ؛ لأنها لا تعرفُ الصُّورةَ إلاَّ الشَّكلَ» (¬2). ويظهرُ اعتمادُ ابن عطيَّةَ (ت:542) على اللُّغةِ في بيانِ التَّفسيرِ في مواطنَ كثيرةٍ؛ كتوجيهِ القراءاتِ، أو بيانِ ضعفِ قولٍ، أو ترجيحِ معنًى على غيرِه، أو بيان خروجِ القولِ إلى رموزٍ وباطنٍ ليسَ من معهودِ ألفاظِ القرآن، أو تفسيرِه بمصطلحاتٍ حادثةٍ، أو غيرِ هذه من التطبيقاتِ التي اعتمدَ فيها على اللُّغةِ كثيراً. ¬
ومن الأمثلةِ التي تبيِّنُ ذلك: 1 - في قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137] بيَّن القراءاتِ، ووجَّه معانيها، فقال: «واختلف القراءُ في ذلكَ، فقرأ نافع (¬1) وعاصم (¬2) وحمزة (¬3) والكسائيُّ وابن عامرٍ (¬4) {خُلُقُ} بضمِّ اللامِ (¬5). فالإشارةُ بـ (هذا) إلى دينهم وعبادتهم وتصرُّفِهم في المصانِعِ؛ أي: هذا الذي نحن عليه خُلُقُ الناسِ وعادتُهم، وما بعدَ ذلكَ بعثٌ ولا تعذيبٌ كما تزعم أنت. وقرأ ابن كثير (¬6) وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو قِلابة «خُلْق» بضمِّ الخاءِ وسكونِ اللامِ، ورواها الأصمعيُّ (¬7). ¬
عن نافعٍ (¬1). وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو: «خَلْقُ الأوَّلِينَ» بفتحِ الخاء وسكونِ اللام، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ، وعلقمةَ (¬2)، والحسنِ (¬3)، وهذا يحتمل وجهينِ: أحدهما: ما هذا الذي تزعمه إلاَّ اختلاقُ الأولين من الكَذَبَةِ قبلك، فأنت على منهاجهم. والثاني أن يريدوا: ما هذه البِنيةُ التي نحنُ عليها، إلاَّ البِنيةُ التي عليها الأوَّلونَ: حياةٌ وموتٌ، وما ثَمَّ بعثٌ ولا تعذيبٌ. وكلُّ معنى مِمَّا ذكرتُه تحتملُه قراءةُ «خُلْق». وروى علقمةُ عن ابن مسعودٍ: (إلاَّ اختلاقُ الأوَّلينَ) (¬4)» (¬5). 2 - في قوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]، استخدمَ اشتقاقَ اللَّفظِ لبيانِ ضعفِ قولٍ في التَّفسيرِ، فقال: «وقالت فِرقةٌ: التنُّور: هو الفجرُ، والمعنى: إذا طلعَ الفجرُ، فاركب السفينةَ. ¬
وهذا قولٌ رُويَ عن عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، إلاَّ أنَّ التَّصريفَ يضعفُه، وكان يلزمُ أن يكونَ من التنوير» (¬1). 3 - وفي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، قال: «وقال السُّدِّيُّ، وقتادةُ، وجمهورُ المفسِّرينَ: الظُّلماتُ: اللَّيلُ، والنُّورُ: النَّهارُ (¬2). وقالت فرقةٌ: الظُّلماتُ: الكفرُ، والنُّورُ: الإيمانُ (¬3). قال القاضي أبو محمدٍ رحمه الله: وهذا غيرُ جيِّدٍ؛ لأنه إخراجُ لفظٍ بيِّنٍ في اللُّغةِ، عن ظاهرِه الحقيقي إلى باطنٍ، لغيرِ ضرورةٍ. وهذا هو طريقُ اللُّغزِ الَّذي بَرِئَ القرآنُ منه» (¬4). فجعلَ هذا القولَ غيرَ مُعتدٍّ به، لخروجه عن معنى لغةِ العربِ في دلالة اللَّفظِ، ونحوِه نحوَ الرَّمزِ. 4 - وأشارَ في قول الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 81] إلى أنَّ القرآن لا يُحملُ على المصطلحاتِ الحادثةِ، فقال: «والوكيلُ القائمُ بالأمورِ، المصلحُ لما يُخافُ من فسادِها. وليس ما غلبَ عليه الاستعمالُ في الوكيل في عصرنا بأصلٍ في كلامِ العربِ، وهي لفظةٌ رفيعةٌ وضعها الاستعمالُ العامِّيُّ كالعريفِ والنَّقيبِ وغيرِه» (¬5). ¬
5 - ولذا اعترضَ على تعريفِ التوبةِ عندَ أبي المعالِي الجوينِي (ت:478) (¬1): «وقال أبو المعالي في (الإرشادِ): التوبةُ في اصطلاحِ المتكلمينَ هي النَّدمُ (¬2)، بعد أن قال: إنها في اللُّغةِ: الرجوعُ (¬3)، ثُمَّ ركَّبَ على هذا أن قالَ: إنَّ الكافرَ إذا آمنَ ليسَ إيمانُه توبةً، وإنما توبتُه نَدَمُهُ بَعْدُ (¬4). قال القاضي أبو محمدٍ رحمه الله: والذي أقول: إنَّ التوبةَ عقدٌ في تركِ متوبٍ منه، يتقدَّمُها عِلْمٌ بفسادِ المتوبِ منه، وصلاحِ ما يرجعُ إليه، ويقترنُ بها ندمٌ على فارطِ المتوبِ منه لا ينفكُّ منه، وهو من شروطها. فأقول: إنَّ إيمانَ الكافرِ هو التوبةُ من كفره؛ لأنه هو نفسُهُ رجوعُه. وتابَ في كلامِ العربِ، معناه: رجعَ إلى الطَّاعةِ والأمثلِ من الأمورِ. وتصرُّفُ اللَّفظةِ في القرآنِ بـ (إلى)، يقتضي أنها الرجوعُ لا الندم. وإنما الندمُ لاحِقٌ لازِمٌ للتَّوبةِ كما قلنا. وحقيقةُ التَّوبةِ تركُ مثلِ ما تِيبَ منه عن عزْمَةٍ مُعتَقَدَةٍ على ما فسَّرناه، والله المستعانُ» (¬5). ¬
أثر الاعتقاد على تفسير ابن عطية
هذا، وتتبُّع أمثلةِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في مثلِ كتابِه تطولُ، وأظنُّ في ما نقلتُه الكفايةَ لبيانِ هذه المسألةِ، واللهُ الموفِّقُ. أثر الاعتقاد على تفسيره: لقد كانَ ابن عطيَّةَ (ت:542) أشعريَّ المعتقدِ، ويظهر ذلك من تتبُّع مسائل الاعتقادِ التي طرحها في تفسيرِه، حيث سارَ فيها على هذا المعتقدِ، كما تجد في تفسيرِه نقولاً عن بعضِ كُتبِ الأشاعرةِ؛ ككتاب الإرشادِ إلى قواعد الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي الجويني (ت:478) (¬1). ومن المسائل الاعتقاديَّةِ التي ذكرَها: 1 - التوحيد؛ كدليلِ العقلِ على الصانعِ (¬2)، ودليل التمانع (¬3)، وأنَّ أولَ واجبٍ على المكلفِ النَّظرُ (¬4). 2 - تقديم العقلِ على النَّقل (¬5). 3 - التَّحسينُ والتَّقبيحُ (¬6). ¬
4 - مسائلُ الإيمانِ، كالمرادِ به (¬1)، وخَلْقِهِ (¬2)، وزيادتِه (¬3). ويدخلُ في ذلكَ المسائلُ المتعلِّقةُ بالكفرِ، ومن أغربِ المسائلِ التي تبنَّاها في ذلكَ أنه استبعدَ وجودَ كفرِ العنادِ والجحودِ (¬4)، وفي هذا مخالفةٌ لظاهِرِ الآياتِ الدَّالةِ على ذلكَ؛ كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. 5 - مسألة الكسبِ الأشعري (¬5)، وهي ترجعُ إلى مفهومِ القدرِ وعلاقته بأفعالِ العبادِ، ومن ذلكَ ما أوردَه في تفسيرِ قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ...} [الأنفال: 17]، قال: «هذه مخاطبةٌ للمؤمنينَ، أعلمَ اللهُ بها أنَّ القتلة من المؤمنينَ ليسوا هم مستبدِّينَ بالقتلِ؛ (لأنَّ القتلَ) (¬6) بالإقدارِ عليه. والخلقُ والاختراعُ في جميعِ حالات القاتلِ إنما هيَ للهِ تعالى، ليسَ للقاتلِ فيها شيءٌ، وإنما يُشاركُه بتكسُّبِه وقصدِهِ، وهذه الألفاظُ تَرُدُّ على من يقولُ بأنَّ أفعال العبادِ خلقٌ لهم» (¬7). وموضوعُ الكسبِ الأشعريِّ طويلٌ، وفيه فلسفةٌ ليسَ هذا محلُّ عرضها، ¬
وإنما نهايةُ هذه النَّظريةِ إلى الجبرِ؛ لأنَّ الفاعلَ عندهم على الحقيقةِ هو اللهُ، وهذا غيرُ صوابٍ، وإنما الصواب في ذلك: أنَّ الله خالقُ أفعالِ العبادِ، والعبادُ هم الفاعلونَ حقيقةً بما خلقَ اللهُ فيهم من المشيئةِ والاختيارِ والقدرةِ التي بها يفعلونَ (¬1)، واللهُ أعلمُ. 6 - التَّأويلُ، وقد نصَّ على قاعدةٍ في التأويلِ، فقال: «التَّأويل لا يضطر إليه إلا في ألفاظ النَّبيِّ عليه السلام، وفي كتاب الله، وأمَّا في عبارة مفسِّر فلا» (¬2). ولم يذكرْ ضابطاً فيما يُأوَّلُ وما لا يُأوَّلُ من النُّصوصِ، وإنما يرجعُ الأمرُ عنده إلى عقلِه الذي يحكمُ بالتَّأويلِ هنا ولا يحكمُ به هناك، وإلاَّ فلمَ أنكر على من قال بالتَّأويلِ في أمورِ المعادِ ما دام أنَّه فتحَ البابَ للتَّأويلِ وصحَّحَهُ، ولم يقولُ: «... أنَّ القولَ في الميزانِ هو من عقائدِ الشَّرعِ الذي لم يُعرفْ إلاَّ سمعاً، وإن فتحنا فيه باب المجازِ (¬3) غمرتنا أقوالُ الملحدة ¬
والزَّنادقةِ في أنَّ الميزانَ والسِّراطَ والجنَّة والنَّار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظٌ يرادُ بها غيرُ الظَّاهرِ. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فينبغي أن يُجرى في هذه الألفاظِ إلى حملها على حقائقها ...» (¬1). وهذا الذي حَذِرَ منه قد وقعَ، وقد اعتمدَ بعضُ الفلاسفةِ الذينَ عاشوا في ظلِّ الإسلامِ على مبدَئِه في التَّأويلِ (¬2)، وليسَ له أن يقولَ: هذه الأمورُ ¬
إنما تُعلمُ من جهةِ السَّمعِ فقط؛ لأنَّ من يؤوِّلُ نصوص المعادِ يمكنُ أن يقولَ: للعقلِ فيها مدخلٌ. وبهذا تضطربُ الأمورُ ولا يسلمُ في الشَّريعةِ بابٌ؛ لأنَّه يمكنُ أن يُحملَ على المجازِ العقليِّ، وهذا الموضوعُ يطولُ ذكره، وفيه خروجٌ عن المقصودِ، واللهُ الموفِّقُ. ومما وقعَ عندَهُ في بابِ التأويلِ، تأويلُ الصفاتِ الإلهيَّةِ، ومنها: صفةُ الغضبِ (¬1)، والاستهزاءِ (¬2)، والاستحياءِ (¬3)، والاستواءِ (¬4)، والكلامِ (¬5)، والوجهِ (¬6)، والعلمِ (¬7)، والعجبِ (¬8)، والمحبةِ (¬9)، والعلوِّ (¬10)، وغيرها مما يطول ذكره. وكما هو الحالُ في الجدلِ العقديِّ الدائرِ بين المعتزلةِ والأشعريَّةِ، فإنَّكَ تجد أنَّ ابنَ عطيَّةَ (ت:542) يورد آراءَ المعتزلةِ ويفنِّدها، وهي كثيرةٌ في كتابِه؛ ¬
كمسألة الرزق؛ أي: كون الحرامِ رزقاً (¬1)، ومسألةِ أفعالِ العبادِ وما يتعلق بها من نفي إضلالِ اللهِ للعبدِ، وتزيينِ الشهواتِ له، وغيرِها من المسائلِ المتعلقةِ بهذا (¬2)، ومسألةِ التحسينِ والتقبيحِ العقليينِ (¬3). وهناك غيرُها من المسائلِ، ولو كان البحث فيها لسردتُها كاملةً. هذا، ولم يسلمِ ابنُ عطيَّةَ (ت:542) من إيرادِ أقوالٍ للمعتزلةِ دونَ أن يردَّها، بلْ تراهُ يحكيها على أنها أحدُ الاحتمالاتِ في الآيةِ، دونَ أن يُنبِّهَ على خطئها (¬4)، ويبدو أنَّ هذا الصَّنيعَ جعلَ ابنَ عرفةَ التُّونسيَّ (ت:803) ـ وهو أشعريٌّ ـ يُوجِّه له نقداً شديداً، قال ابن حجر (ت:852): «ومن هؤلاءِ منْ يدسُّ البِدعَ والتفاسيرَ الباطلة في كلامه، فيَرُوجُ على أكثرِ أهلِ السُّنَّةِ؛ كصاحبِ الكشَّافِ، ويقربُ من هؤلاءِ تفسيرُ ابن عطيَّةَ، بلْ كانَ الإمامُ ابنُ العرفةِ المالكي (¬5) يُبالغُ في الحطِّ عليه، ويقول: إنه أقبحُ من صاحبِ الكشَّافِ؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ اعتزالَ ذلكَ فيتجنَّبُهُ، بخلافِ هذا، فإنه يُوهِمُ الناسَ أنه من أهلِ السُّنَّةِ» (¬6). والمقصودُ هنا بيانُ أثرِ المعتقدِ على تفسيرِه اللُّغويِّ، ذلك أنَّه يختارُ من ¬
معاني اللغةِ وتوسُّعها ما يناسِبُ معتقده، وسأكتفي بذكرِ بعضِ الأمثلةِ، لئلاَّ يطولَ المقامُ، واللهُ الموفِّقُ: 1 - في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، قال ابن عطيَّةَ (ت:542): «لننظر، معناه: لنبيَّنَ في الوجودِ ما علمناه أزلاً، لكنْ جَرَى القولُ على طريقِ الإيجازِ والفصاحةِ» (¬1). ففسَّرَ النَّظرَ هنا بما ترى، وفيه خروجٌ عن معنى النَّظرِ المعروفِ في لغةِ العربِ، وإنما قال ذلكَ لأنَّ العلمَ عنده علمٌ واحدٌ أزليٌّ، ولم يفرِّق بين العلمِ بالشَّيء قبلَ وقوعِه، والعلم به بعد الوقوعِ، وكأنه يلزم من قوله أنه علمه أزلاً وانتهى. وهو بهذا لم يثبتِ الرُّؤيةَ المدلولَ عليها بالنَّظرِ، ولم يُثبتِ علمَ اللهِ بهم بعد أن جعلهم خلائفَ، فتأمَّل كيفَ جرَّه نفيُ وقوع العلمِ بالمعلومِ بعد وقوعه إلى هذا الذي قال. 2 - وفي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، قال: «والإنزال، إما بمعنى الإثبات، وإما أن تتصف به التِّلاوة والعبارة» (¬2). وفي قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء: 50]، قال: «أنزلناه، إما أن يكونَ بمعنى أثبتناهُ، كما تقول: أنزل السُّلطان (¬3) فلاناً بمكان كذا: إذا أثبته، وإما أن يتعلق النُّزولُ بالمَلكَ» (¬4). وتفسيرُ الإنزال بالإثباتِ ليس معروفاً في لغة العربِ، وإنما المعروفُ: نزل بالمكانِ إذا حلَّ فيه؛ كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ ¬
الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29]، وغيرها من الآياتِ، وهذا المعنى لا يُحملُ عليه معنى نزولِ القرآنِ، كما أنَّ الحلولَ في المكانِ لا يخلو من معنى الهبوطِ من علو إلى سفلٍ، قال ابن فارس (ت:395): «النون والزاء واللام كلمةٌ صحيحةٌ تدلُّ على هبوطِ شيءٍ ووقوعِه ...» (¬1). وقال الزَّبيديُّ في تاج العروس: «(النُّزولُ) بالضمِّ (الحلولُ)، وهو في الأصلِ انحطاطٌ من علوٍّ» (¬2). وإنما قَادَهُ إلى ذلكَ إنكارُه تَكَلُّمَ اللهِ بوحيه إلى جبريلَ، وسماعَ جبريلَ ذلك من اللهِ (¬3)، وإنكارَه علوَّ اللهِ على خلقِه (¬4)، وما يتبعُه من صفةِ استوائه ¬
على عرشِه استواءً يليقُ بجلالهِ وعظمتِه (¬1)، ولو كانَ يُثبتُ هذه الأوصافَ الإلهيَّةَ كما أخبرَ اللهُ بها من دونِ أن يؤوِّلها، لما قالَ في معنى نزولِ القرآنِ هذا القولَ الذي هو بعيدٌ عن ظاهرِ معنى النُّزولِ. ولما أرادَ أن يحملَ النُّزولَ على ظاهرِه جعلَهُ من صفةِ التِّلاوةِ أو العبارةِ (¬2) أو ¬
الملكِ (¬1)؛ لأنَّ هذه عنده يمكنُ أن تنْزلَ. واللهُ الموفِّقُ. 3 - وفي قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، قال: «وقوله عزّ وجل: {ثُمَّ قَالَ} ترتيبٌ للأخبارِ لمحمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: خلقَه من ترابٍ، ثمَّ كان من أمره في الأزلِ أن قالَ له: كنْ وقتَ كذا ...» (¬2). وقال في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]: «وقوله: {كُنْ} أمرٌ للشَّيءِ المخترَعِ عند تعلُّقِ القدرةِ به، لا قبلَ ذلكَ ولا بعدَه (¬3). ¬
وإنما يؤمرُ تأكيداً وإشارةً بها، وهي أوامرُ دونَ حروفٍ وأصواتٍ، بلِ الكلامُ القائمُ بالذاتِ» (¬1). وهذا الكلامُ مبنيُّ على أنَّ اللهَ لهُ كلامٌ نفسيٌ قائمٌ بذاتِه، وهو لا يتكلَّمُ بمشيئتِه وإرادتِه، وهذا مخالفٌ لتنْزيهِ اللهِ الفعَّالِ لما يريدُ، فهو متَّصفٌ بصفةِ الكلامِ أزلاً، وهو أيضاً يتكلمُ متى شاء، كما أنَّه متى شاء سخِطَ، ومتى شاءَ رضِيَ إلى غيرِ ذلك من الأفعالِ الاختياريَّةِ التي يفعلها الفعَّالُ لما يريدُ متى ما أرادَ لا رادَّ لمشيئتِه، ولا حاجبَ له سبحانه وتعالى عن فعلِه. ولما كانت هذه عقيدتُه في كلامِ اللهِ، ألغى دلالةَ عطفِ التراخي في «ثُمَّ»، ودلالةَ التعقيبِ في «الفاء»؛ لأنهما تدلانِ على تكلُّمه سبحانه عند حدوثِ هذه الأشياءِ، وهذا يخالفُ معتقدَه؛ لذا لم يمنعه هذا من مخالفةِ المعروفِ من اللغةِ من أجلِ رأيه الذي يعتقدُه. 4 - وفِي قول الله تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]، قال: «وَدُودٌ، معناه: أنَّ أفعالَه ولطفَه بعبادِه لما كانت في غايةِ الإحسانِ إليهم، كانتْ كَفِعْلِ منْ يتودَّدُ ويَوَدُّ المصنوعَ له» (¬2). وما ذكرَه ليسَ معنًى لاسمِ اللهِ الوَدُودِ، بلْ هو من لازمِ معنى هذا ¬
الاسمِ الحسنِ، وليسَ تفسيرُه هذا من التفسيرِ باللازِمِ الذي يُحتملُ في التفسيرِ؛ لأنَّه لا يصلحُ التفسيرُ باللازمِ إلاَّ مع إثباتِ الأصلِ، وتفسيرُهُ هذا مبنيٌّ على إنكارِ معنى ما يتضمَّنُه هذا الاسمُ الحسنُ من الصِّفةِ التي تدلُّ على المحبةِ (¬1)، ولذا عدل إلى لازمِ الصِّفةِ، لا إلى تفسيرِ معناها في أصلِ اللغةِ. ¬
والودودُ اسمٌ حسنٌ يتضمَّنُ صفةَ المودَّةِ، وهي بمعنى المحبَّةِ في أصل الوضعِ اللُّغويِّ لمعنى هذا اللفظِ، قال ابن فارسٍ (ت:395): «الواو والدال: كلمةٌ تدلُّ على محبَّةٍ» (¬1). وقال الزَّجَّاجُ (ت:311): «الودودُ: هذا يجوزُ أن يكونَ فعولاً بمعنى فاعلٍ. ويجوزُ أن يكونَ فعولاً بمعنى مفعولٍ، واللهُ قد وصف نفسه في مواضعَ بأنه يُحِبُّ، ولا يُحِبُّ إلا وهو أيضاً محبوبٌ مودودٌ عند أوليائه، فهو بمعنى مودودٍ» (¬2). مشكلةُ الاعتقادِ ثمَّ الاستدلالُ لهذا المعتقد، وأثرهُ عند ابن عطيَّةَ: ولقدْ كانت قضيَّةُ تأصيلِ المعتقدِ أوَّلاً، ثُمَّ الاستدلالُ له من السِّماتِ البارزةِ لأهلِ البدعِ، ولذا تراهم يدفعونَ ظاهرَ النصوصِ، ويُسلِّطونَ عليها التأويلَ بكلِّ ما يستطيعونَ ليسلمَ لهم ما اعتقدوه، وهذا منهجٌ واضحُ الخطأ، بل العقيدةُ تؤخذُ من نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ بلا تحريفٍ ولا تأويلٍ. ومن أوضحِ الأمثلةِ التي وقعَ فيها ابن عطيَّةَ (ت:542) ـ مع ما تقدَّمَ من الأمثلةِ ـ رأيُهُ في كفرِ العنادِ والجحودِ، ومن ذلك ما ذكرَ في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، قال: «وظاهر قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} حصولُ الكفرِ عناداً، وهي مسألةٌ قولينِ (¬3)، هل يجوزُ أن يقعَ أم لا؟ ¬
فجوَّزت ذلك فرقةٌ، وقالتْ: يجوزُ أن يكونَ الرجلُ عارفاً، إلاَّ أنَّه يجحدُ عناداً ويموتُ على معرفتِهِ وجحودِه، فهو بذلك في حكمِ الكافرِ المخلَّدِ، قالوا: وهذا حُكمُ إبليسَ، وحكمُ حييِّ بنِ أخطبٍ وأخيه، حسبَما رُوِيَ عنهما. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإن عُورِضَ هذا المثالُ، فُرِضَ إنسانٌ ويجوزُ (¬1) فيه ذلك. وقالت فرقةٌ: لا يصِحُّ لوجهينِ: أحدهما: أنَّ هذا لا يجوزُ وقوعُه من عاقلٍ. والوجهُ الآخر: أنَّ المعرفةَ تقتضي أنْ يَحِلَّ في القلبِ، وذلكَ إيمانٌ، وحكمُ الكافرِ لا يلحقُه، إلاَّ بأن يَحِلَّ في القلبِ كفرٌ، ولا يصحُّ اجتماعُ الضِّدينِ في محلٍّ. قالوا: ويشبهُ في هذا العارفُ الجاحدُ أن يُسلبَ عندَ الموافاةِ تلك المعرفة، ويحل بدلَها الكفرُ. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهرُ عندي في هذه الآيةِ وكلِّ ما جرى مجراها: أنَّ الكفرةَ كانوا إذا نظروا في آياتِ موسى أعطتهم عقولُهم أنَّها ليست تحت قدرةِ البشرِ، حصلَ لهم اليقينُ أنها من عند اللهِ تعالى، فيغلبُهم أثناء ذلك الحسدُ، ويتمسَّكونَ بالظنونِ في أنه سِحرٌ وغير ذلك مما يختلجُ في الظَّنِّ بحسبِ كلِّ آيةٍ، ويلجون في ذلك، حتى يُستلبَ ذلك اليقين أو يدوم كذلك مضطرباً. وحُكمه حكمُ المستلَبِ في وجوه عذابهم» (¬2). ¬
وقال في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]: «و {يَجْحَدُونَ}، حقيقته في كلام العربِ: الإنكارُ بعد المعرفةِ، وهو ضدُّ الإقرار ...» (¬1). ثمَّ قال: «وكفر العناد جائزُ الوقوعِ بمقتضى النَّظرِ، وظواهرُ القرآنِ تعطيه؛ كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وغيرها ...» (¬2)، ثُمَّ قالَ: «وأنا أستبعدُ العنادَ مع المعرفةِ التامَّةِ» (¬3). وكيف يستبعد هذا مع قولِ الله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}، وإلاَّ فما معنى اليقين، أليسَ هذا هو تمامُ العلمِ والمعرفةِ بالشيءِ؟! وهذا الموضوع مرتبطٌ بأصلٍ من أصولِ العقائد عنده، وهو مفهومُ الإيمانِ، أنه التَّصديقُ، ولذا لا يرى فيه الزيادة ولا النقصانَ، مخالفاً بذلك صريحَ النصوصِ التي تدلُّ على ذلك، ومن ذلك قوله: «وقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران: 173]؛ أي: ثبوتاً واستعداداً، فزيادةُ الإيمانِ في هذا هي في الأعمالِ. وقد أطلقَ العلماءُ عبارةَ: إنَّ الإيمانَ يزيدُ وينقصُ، والعقيدةُ في هذا أنَّ نفسَ الإيمانِ الذي هو تصديقٌ واحدٌ بشيءٍ ما، إنما هو معنى فردٌ، لا تدخلهُ زيادةٌ إذا حصلَ، ولا يبقى منه شيءٌ إذا زالَ ...» (¬4). وهذا المفهوم الخاطئ في المرادِ بالإيمانِ الشَّرعيِّ (¬5)، هو الذي جعله يستبعدُ وقوع كفر العنادِ مع المعرفةِ التَّامَّةِ؛ لأنَّ مجرَّدَ استيقانِه بالنُّبوَّةِ تصديقٌ، ¬
والتَّصديقُ إيمانٌ، ومن عقيدته أنه لا يمكنُ اجتماعُ الضِّدينِ في القلبِ (¬1)، فلا بدَّ أن يكون: إمَّا هذا، وإمَّا هذا. وهذه العقيدةُ المقرَّرةُ من غيرِ القرآنِ، السَّابقةُ لتفسيرِه له، جعلته يدخلُ إلى تفسيرِ القرآنِ بمعتقداتٍ سابقةٍ، فما وجد من ظواهرِ النُّصوصِ يخالفُها، سلَّطَ عليها التَّأويلَ والمجازَ؛ ليسلمَ له ما أصَّله قبلُ من العقائدِ، والله المستعانُ والموفقُ. ¬
المصدر الثاني: كتب معاني القرآن
المصدر الثاني كتب معاني القرآن وفيه: أولاً: المراد بمعاني القرآن. ثانياً: لماذا كتب اللغويون في معاني القرآن؟ أولاً: معاني القرآن، للفراء. ثانياً: معاني القرآن، للأخفش. ثالثاً: معاني القرآن، للزجاج.
المصدر الثاني كتب معاني القرآن تُعتبرُ كتبُ (معاني القرآنِ) منْ أوائلِ كتبِ اللغويينَ التي كانَ فيها مشاركةٌ مباشرةٌ في علمِ التَّفسيرِ. وقد نُسِبَ إلى أَبَانَ بنِ تَغْلِب (ت:141) كتاب (معاني القرآن) (¬1)، فإن صحَّت هذه النِّسْبَةُ، وجعلتَ سنةَ الوفاةِ دليلاً على التَّقَدُّمِ في التأليفِ، فإنَّه يعدُّ أوَّلَ كتابٍ في معاني القرآنِ، وقد سبقَ ذِكْرُ من ألَّفَ في هذا العلمِ منَ اللغويينَ (¬2). وظهر من استقراء تراجم اللغويين وفهارس كتبهم التي سبق ذِكرها ما يأتي: 1 - أنَّ الدرسَ النَّحوي سابقٌ للدَّرسِ اللُّغويِّ، وقد تبينَ ذلكَ بأنَّ تعلُّمَ النَّحوِ وتعليمَه والكتابةَ فيه كانتْ في أوَّلِ عهدِ التَّابعينَ؛ لأنَّ الباحثينَ يكادونَ يجمعونَ على أنَّ أبا الأسودَ الدؤليَ (ت:96) كتبَ فيه، وعلَّمَه بعضَ تلاميذِه. أمَّا البحثُ اللُّغويُّ، فلمْ يظهرْ إلاَّ في عهدِ أتباعِ التَّابعينَ، وكانَ في طليعةِ منْ ذُكِر له كتابٌ في علمِ اللُّغةِ أبانُ بنُ تغلبَ (ت:141)، وأبو عمرو بنُ العلاءِ (ت:145)، والخليلُ بن أحمدَ (ت:175)، وغيرهم. 2 - أنَّ السَّبقَ في التَّأليفِ اللُّغويِّ العامِّ، وكذا المتعلِّق بالقرآنِ، كان لأهلِ البصرةِ، كما كان لهم السَّبقُ في علم النَّحوِ. ¬
3 - أنَّ كتبَ المعاني، وغيرَها منَ البحثِ اللُّغويِّ، ظهرتْ في عصرِ أتباعِ التَّابعينَ. ويَرِدُ هاهنا سؤالانِ قبلَ استعراضِ بعض كتبِ المعاني: الأول: المراد بمعاني القرآن؟ الثاني: لماذا كتب اللُّغويُّون في معاني القرآن؟
أولا المراد بمعاني القرآن
أوَّلاً المراد بمعاني القرآن المعاني في اللُّغةِ: قالَ الرَّاغبُ (ت: بعد400): «المعنى: إظهارُ ما تضمَّنَهُ اللَّفظ ... والمعنى يُقَارنُ التَّفسيرَ، وإنْ كان بينهما فرقٌ» (¬1). وقال الزَّبيديُّ في شرح القاموس: «وعنَى بالقول كذا، يعني: أراد وقصد. قال الزَّمخشريُّ: ومنه المعنى» (¬2). وقال الكَفَوِيُّ (ت:1094) (¬3) في كتابه الكُلِّيَّاتِ: «والمعنى: ما يُفْهَمُ من اللَّفظ» (¬4). وينتج عن هذه النُّقولِ أن المعنى: مَقصُودُ المتكلِّم من كَلاَمِهِ، وما يُفْهَمُ عَنهُ منهُ. ¬
المعاني في الاصطلاح: إذا تَأَمَّلْتَ كُتُبَ مَعَاني القُرْآنِ؛ كَمَعَانِي القرآنِ للفرَّاءِ (ت:207)، والأَخْفَشِ (ت:215)، والزَّجَّاجِ (ت:311)، فَإِنَّكَ سَتَجِدُ مَبَاحِثَ فِي العربيَّة تَخْرُجُ عَنْ مَفْهُومِ (المعاني) اللُّغويِّ؛ كَكَثِيرٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ النَّحويَّة التي تَكَادُ تَطغى على بعض الكتب، والمباحثِ الصَّرفيَّةِ، والاشْتِقَاقِيَّةِ، وغيرها. وإذا فرزتَ هذه الكتبَ، فإنك ستجدُ بعضَهَا قدْ نُصَّ في عنوانها على الإعرابِ؛ ففي مقدمةِ كتابِ الفرَّاءِ (ت:207) بروايةِ (¬1) تلميذِه محمدِ بنِ الجَهْمِ السِّمَّريِّ (ت:277) (¬2)، قال: «حدثنا الفراءُ، قال: تفسيرُ مُشْكِلِ إعرابِ القرآنِ ومعانيه» (¬3). وقد يكونُ اشتهارُ الكتابِ باسمِ معاني القرآن من بابِ الاختصارِ في العنوانِ، حتى اشتهرَ بهذا الاسمِ، دون العنوانِ الذي ذكرَه مؤلفُهُ الفرَّاء (ت:207). والله أعلم. أمَّا كتابُ الأخفشِ (ت:215)، فإنَّ مقدمتَه غيرُ موجودةٍ، كما أشارَ إلى ذلك منْ حقَّقَهُ (¬4)، ولذا فإنَّه من المحتملِ أنْ يكونَ عنوانُه الذي عَنْوَنَهُ المؤلفُ: (معاني القرآن). وأمَّا كتابُ الزَّجَّاجِ (ت:311)، فجاء في مقدمته: «قال أبو إسحاقَ ¬
إبراهيمُ بنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ: هذا كتابٌ مختصرٌ في إعرابِ القرآنِ ومعانيه» (¬1). فإذا اعتمدتَ ما جاءَ في مقدمةِ الفرَّاءِ (ت:207) والزَّجَّاجِ (ت:311) لكتابيهما، وجدتَ أنَّ علمَ (إعرابِ القرآنِ) مقصودٌ بالتَّأليفِ، وهو ضميمٌ لعلم (معاني القرآنِ) عندهم، وأنَّ إطلاقَ مصطلحِ (معاني القرآن) عليها دونَ ذكرِ الإعرابِ، إنما هو اختصارٌ في العنوانِ، ويدلُّ على ذلكَ أنَّ محمدَ بنَ الجهمِ (ت:277) الذي روى العبارةَ السَّابقةَ عن الفرَّاء (ت:207)، يقول قبلها: «هذا كتابٌ فيه معاني القرآن، أملاهُ علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء» (¬2). ولعلَّ هذا يشيرُ إلى أنَّ أغلب منْ كتبَ في علم (معاني القرآن) كانَ يضُمُّ إليه علم (إعرابِ القرآنِ) إنْ لم يفردْهُ بمؤلفٍ؛ كما فعلَ النَّحَّاسُ (¬3)، حيث جعلَ كتاباً لمعاني القرآنِ، قال فيه: «قصدتُ في هذا الكتابِ تفسيرَ المعاني، والغريبِ، وأحكام القرآنِ، والنَّاسخِ والمنسوخِ عن المتقدِّمينَ مِنَ الأئمَّةِ، وأذكرُ من قَوْلِ الجِّلَّةِ (¬4) من العلماءِ باللُّغةِ، وأهلِ النَّظَرِ ما حضرني، وأبينُ تصريفَ الكلمةِ واشتقاقَها ـ إنْ عَلِمْتُ ذلك ـ وآتي مِنَ القراءاتِ بما يَحتاجُ إلى تفسيرِ معناه، وما احتاجَ إليه المعنى من الإعرابِ، وبما احتجَّ به العلماءُ في مسائلَ سألَ عنها المجادلونَ، وأُبَيِّن ما فيه حذفٌ، أو اختصارٌ، أو إطالةٌ لإفهامِه، وما كان فيه تقديمٌ أو تأخيرٌ، وأشرحُ ذلك حتى يتبينَه ¬
المتعلمُ، وينتفعَ به، كما ينتفعُ به العالِمُ ...» (¬1). وجعلَ كتاباً آخر لإعرابِ القرآنِ، قال في مقدمتِه: «هذا كتابٌ أذكرُ فيه ـ إن شاء الله ـ: إعرابَ القرآنِ، والقراءاتِ التي تحتاجُ أن يَبينَ إعرابُها والعِلَلُ فيها، ولا أُخْلِيهِ من اختلافِ النَّحويينَ، وما يُحْتَاجُ إليه منَ المعاني، وما أجازَه بعضُهم ومنعَه بعضُهم، وزياداتٍ في المعاني وشرحٍ لها، ومنَ الجموعِ واللُّغاتِ، وسوقِ كُلِّ لغةٍ إلى أصحابِها ...» (¬2). ففصلَ النَّحاسُ (ت:338) بين العلمين، وجعلَ كلَّ واحدٍ منهما في مؤلَّفٍ مستقلٍّ، وقد يكونُ أوَّلَ من فصلَهما، واللهُ أعلمُ. ولاستجلاءِ هذا المصطلحِ يلزمُ الرجوعُ إلى كتبِ (معاني القرآنِ) كي تُعِينَ في المرادِ بِهِ، ومنها: 1 - تجد في كتابِ معاني القرآنِ للأخفشِ (ت:215) قوله: «ومن معاني القرآنِ قولُ اللهِ عزّ وجل: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، فليسَ المعنى: انكحوا ما قدْ سلفَ، وهذا لا يجوزُ في الكلامِ، والمعنى ـ واللهُ أعلمُ ـ: لا تنكحوا ما نكحَ آباؤكم من النساءِ، فإنكم تعذبونَ به، إلا ما قدْ سلفَ، فقدْ وضعَه اللهُ عنكم. وكذلكَ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}، ثمَّ قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، والمعنى ـ والله أعلم ـ: إنَّكم تؤْخَذُون بذلكَ إلاَّ ما قد سلفَ، فقد وضعَه اللهُ عنكم ... وقوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] يعني: غيرَها في النُّضجِ؛ لأنَّ الله عزّ وجل يُجَدِّدُهَا فيكونُ أشدَّ للعذابِ عليهم، وهي تلكَ الجلودُ بعينِها التي عَصَتِ اللهَ سبحانه وتعالى، ولكنْ أذهبَ عنها النُّضجَ؛ كما يقولُ الرجلُ للرَّجلِ: ¬
أنتَ اليومَ غيرُ أمسِ، وهو ذلكَ بعينِه، لا أنَّه نقصَ منهُ شيءٌ أو زادَ فيه ...» (¬1). 2 - وقال الزَّجَّاج (ت:311): «وقولُه جلَّ وعزَّ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] القراءةُ: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، والمعنى: فَلَهُ عشرُ حسناتٍ أمثالِها ... فأمَّا معنى الآيةِ؛ فإنَّه منْ غامضِ المعاني عندَ أهلِ اللغةِ؛ لأنَّ المجازاةَ على الحسنةِ منَ اللهِ جلَّ ثناؤه بدخولِ الجنةِ شيءٌ لا يُبلغُ وصفُ مقدارِه، فإذا قال: {عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، أو قالَ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] معَ قولِه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فمعنى هذا كلِّه: أنَّ جزاءَ الله جَلَّ ثناؤه على الحسناتِ على التَّضْعِيفِ للمثلِ الواحدِ الذي هو النهايةُ في التقديرِ في النفوسِ، ويضاعفُ اللهُ ذلكَ بما بين عشرةِ أضعافٍ إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ» (¬2). 3 - وقال النَّحَّاسُ (ت:338) ـ في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]ـ: «فأُنزلوا منْزلةَ منِ اتَّجَر؛ لأنَّ الرِّبحَ والخُسرانَ إنما يكونانِ في التجارةِ، والمعنى: فما ربحوا في تجارتِهم، ومثلُه قولُ العربِ: خَسِرَ بيعُهُ؛ لأنَّه قدْ عُرِفَ المعنى» (¬3). وإذا تأمَّلتَ هذهِ الأقوالَ، وجدتَ أنَّ منحَاهَا لغويٌّ، مما يُشْعِرُ أنَّ معاني القرآنِ بحثٌ لغويٌّ في بيانِ المرادِ في القرآنِ، ويتأكَّدُ هذا بما يأتي: * أنَّ أصحابَ كتبِ معاني القرآنِ يذكرونَ أقوالَ المفسِّرينَ من السَّلفِ مصدِّرين ذلك بقولهم: «قال أهل التَّفسير»، «قال المفسِّرون»، «وجاء في ¬
التَّفسير» ـ وهذه العبارات كثيرة جداً في كتابي الفرَّاء (ت:207) والزَّجَّاج (ت:311) ـ مما يُشعرُ بأنَّ ما يؤخذُ عنْ هؤلاءِ المفسِّرين شيءٌ لا يمكنُ أخذُه عنْ طريقِ اللُّغةِ، وأنَّ ما كانَ طريقُه اللُّغةَ، فإنَّه معاني القرآنِ، ومِنَ النُّصوصِ الدَّالةِ على ذلكَ ما يأتي: 1 - قال الفرَّاء (ت:207): «وقوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] يقولُ: ما دمت له متقاضياً. والتفسيرُ في ذلك: أنَّ أهلَ الكتابِ كانوا إذا بايعهم أهل الإسلامِ أدَّى بعضُهم الأمانةَ، وقالَ بعضُهم: ليس علينا في الأميينَ ـ وهم العرب ـ حرمةٌ كحرمةِ أهلِ ديننا ...» (¬1). 2 - في قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، قال الزَّجَّاج (ت:311): ««حتى» موصولة بالقتلِ والأسرِ، والمعنى: فقاتلوهم وأسِرُوهم حتى تضعَ الحربُ أوزارَها. والتَّفسيرُ: حتى يؤمنوا ويسلموا، فلا يجبُ أنْ تُحَاربوهم، فما دام الكفرُ، فالجهادُ والحربُ قائمةٌ أبداً» (¬2). وفي قوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، قال الزَّجَّاج (ت:311): «ومعنى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}؛ أي: استمعَ ولم يَشْغَلْ قلبَه بغيرِ ما يسمعُ، والعربُ تقولُ: ألْقِ إليَّ سمعَك؛ أي: استمعْ منِّي. ومعنى {وَهُوَ شَهِيدٌ}؛ أي: وقلبُه فيما يسمع. وجاء في التَّفسيرِ أنه يعني به أهلَ الكتابِ الذي كانتْ عندَهم صفةُ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم (¬3)، فالمعنى على هذا التَّفسيرِ: أو ألقى السَّمعَ وهو شهيدٌ أنَّ صفةَ ¬
النَّبي صلّى الله عليه وسلّم في كتابه» (¬1). إذا تأملت هذه النُّصوصَ وجدتَ أنَّ الفرَّاء (ت:207) والزَّجَّاج (ت:311) قد فَرَّقا بين (المعنى) و (التَّفسير) في المثالين. وأنَّ المعنى يُدرك باللُّغةِ، أمَّا التَّفسيرُ فلا يُدْرَكُ إلاَّ بالرِّوايةِ. وزاد الزَّجَّاجُ (ت:311) في المثالِ الثالثِ بيانَ أثرِ التَّفسيرِ على المعنى. والتَّفسير هاهنا قول قتادة (ت:117)، وهذا يُؤَيِّدُ ما قُلْتُهُ في أوَّلِ الكلام. * أنَّ التَّخصُّصَ العلميَّ لهؤلاء اللُّغويِّين قد طغى على بحوثهم، ولو قُمتَ بفرزِ موضوعاتِ كتب معاني القرآنِ، فإنك ستجدُ أنَّ أغلبَها يقومُ على البحثِ النَّحويِّ والبحثِ اللُّغويِّ، وأنها لا تخلو منْ ذكرِ أسبابِ النُّزولِ، وقَصَصِ الآي، وأقوالِ المفسِّرينَ، على تفاوتٍ بينها في ذلك. أمَّا الإعرابُ، فهو أكثرُ وأشهرُ في كتابِ الأخفشِ (ت:215)، ثُمَّ الفرَّاءِ (ت:207)، ثُمَّ الزَّجَّاجِ (ت:311). أمَّا النَّحاسُ (ت:338)، فقدْ أفردَهُ في كتابٍ مُسْتَقِلٍّ عن المعاني. وأمَّا المعنى، فهو أكثرُ عندَ النَّحاسِ (ت:338)؛ لأنه خصَّه بكتابٍ مستقلٍ، ولم يُدخلْ فيه الإعرابَ، ثمَّ عند الزَّجَّاجِ (ت:311)، ثُمَّ عند الفرَّاءِ (ت:207)، ثُمَّ عند الأخفشِ (ت:215)، وهو قليلٌ جداً في كتابه. وأمَّا التَّفسير [أي: أقوال السلف في مصطلح أصحاب معاني القرآن]، فأكثرُهم ذكراً له النَّحاسُ (ت:338)، بل يكاد أنْ يكونَ ذكرُه لأقوالِ السَّلفِ أكثرَ منْ ذكرِه لأقوالِ أهلِ اللُّغةِ والمعاني، وذلك لأنَّه نصَّ في منهجهِ في مقدمةِ كتابِه على اعتمادِ النَّقلِ عنهم في ما وردَ لهم في التَّفسيرِ. ¬
ثُمَّ يتلوه في ذلك الزَّجَّاجُ (ت:311)، ثُمَّ الفرَّاء (ت:207)، ثُمَّ الأخفشُ (ت:215)، وهو أقلُّهم ذكراً لأقوالِ المفسِّرين، وروايتُه عنهم لا تكاد تُذكرُ لِقِلَّتِهَا. وإذا نظرتَ إلى نسبةِ التَّفسيرِ في كتبِ معاني القرآنِ للفرَّاءِ (ت:207) والأخفش (ت:215) والزَّجَّاج (ت:311)، فإنَّك ستجدُها أقلَّ بكثيرٍ من البحثِ اللُّغويِّ والنَّحويِّ، مِمَّا يُشْعِرُ بغلبةِ هذا الاتجاهِ عليهم في تأليفِهم كتب معاني القرآن. أمَّا النَّحَّاسُ (ت:338)، فإنه يختلف عنهم في هذا، إذ تجد الروايةَ عنده عن السَّلفِ أكثرَ من الرِّوايةِ عن اللُّغويِّين. وبعدَ هذا، فإنَّ معانيَ القرآنِ مصطلحٌ يرادُ به: البيانُ اللُّغويُّ لألفاظِ وأساليبِ العربيَّةِ الواردةِ في القرآنِ (¬1). ويبينُ ذلكَ باستقراءِ كتبِ معاني القرآنِ التي يظهرُ فيها بوضوحٍ أنَّ المعانيَ عندهم: المنحى اللُّغويُّ للتَّفسيرِ، وذلك ببيانِ غريبِ الألفاظِ، أو تقديرِ المحذوفِ والمضمرِ، أو تخريجِ مشكلِ الخطابِ القرآني على الأسلوبِ العربيِّ، أو تحليلِ تركيبِ الجملةِ لبيانِ المعنى، وغير ذلك من المباحث اللُّغويَّة الواردة في هذه الكتب. ومنَ الأمثلةِ الواردةِ في بيانِ غريبِ الألفاظِ ما يأتي: 1 - في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، قال الفرَّاء (ت:207): «والأمنيَّةُ في المعنى: التِّلاوةُ؛ كقولِ اللهِ عزّ وجل: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]؛ أي: تلاوته. والأمانيُ أيضاً: أنْ يفتعلَ الرجلُ الأحاديثَ المفتعلةَ، قالَ بعضُ العربِ ¬
لابن دأب (¬1) ـ وهو يحدث الناس ـ: أهذا شيءٌ رويتَه أمْ شيءٌ تمنَّيتَه؟ يريد: افتعلتَه. وكانتْ أحاديثَ يسمعونها منْ كبرائِهم ليستْ منْ كتابِ اللهِ، هذا أبينُ الوجهينِ» (¬2). 2 - وفي قوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24]، قال الزَّجَّاجُ (ت:311): «معناه: إنَّا إذاً لفي ضلالٍ وجنونٍ، يقالُ: ناقةٌ مسعورةٌ، إذا كانَ بها جنونٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ على معنى: إن اتَّبعناهُ فنحنُ في ضلالٍ وعذابٍ» (¬3). ومن أمثلةِ تخريجِ مُشكلِ الخطابِ القرآني على الأسلوبِ العربي ما ذكرَهُ الفرَّاءُ (ت:207) عند قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، قال: «وأضافَ المَثَلَ إلى الذينَ كفروا، ثم شبههم بالراعي ولم يقل: كالغنم، والمعنى ـ والله أعلم ـ مَثَلُ الذينَ كفروا كمثلِ البهائم التي لا تفقَهُ ما يقولُ الرَّاعي منَ الصوتِ، فلو قال لها: ارْعِي أو اشْرَبي، لم تدرِ ما يقولُ لها، فكذلكَ مَثَلُ الذينَ كفروا فيما يأتيهم منَ القرآنِ وإنذارِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأضيفَ التشبيهُ إلى الراعي، والمعنى ـ واللهُ أعلم ـ في المَرْعِي، وهو ظاهرٌ في كلامِ العربِ أنْ يقولوا: فلان يخافُكَ كخوف الأسدِ، والمعنى: كخوفه الأسد؛ لأنَّ الأسدَ هو المعروفُ بأنه المُخَوِّفُ ... وفيها معنىً آخرٌ: تضيفُ الْمَثَلَ إلى الذينَ كفروا، وإضافتُه في المعنى ¬
إلى الوعظِ؛ كقولك: مثلُ وعظِ الذينَ كفروا وواعِظِهمْ مَثَلُ النَّاعقِ؛ كما تقولُ: إذا لقيتَ فلاناً فسلِّمْ عليه تسليمَ الأميرِ. وإنما المرادُ به: كما تسلِّمُ على الأميرِ ... وكُلٌّ صَوابٌ» (¬1). ولو تتبَّعتُ الأمثلةَ اللُّغويَّة التي في كتبِ معاني القرآنِ لطالَ بي المقامُ، ولخرجتُ عنِ المقصودِ. ¬
ثانيا لماذا كتب اللغويون في معاني القرآن
ثانياً لِمَاذَا كَتَبَ اللُّغَوِيُّونَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ؟ لمَّا كانَ القرآنُ كتَاباً مقدَّساً؛ لكونِه كلامَ اللهِ، فإنَّهُ قدْ صارَ له أكبرُ الأثرِ على دارسي العلومِ الإسلاميَّةِ منْ شَرعيِّينَ، ولغويِّينَ، ونحاةٍ، وأدباءَ، وبلغاءَ، وغيرهم. ولقدْ كانَ الاتصالُ بالقرآنِ شرفاً يتقربُ بهِ العلماءُ، ويحرصونَ عليه، حتى قالَ سفيانُ الثَّوري (ت:161): «يا ليتني اقتصرت على القرآن» (¬1). ولا غَرْوَ أنْ يحرصَ علماءُ اللُّغةِ على ذلكَ. غيرَ أنَّ هذا سببٌ عامٌّ عندَ العلماءِ، لا يكادُ يَنْفَكُّ عنه أحدٌ منهم. وإذا بحثتَ عن كتابةِ اللغويِّينَ في معاني القرآنِ، فإنكَ ستجدُ أسباباً عامَّةً وأسباباً خاصَّةً، منها: السببُ الأولُ: التَّخصُّصُ العلميُّ: لقدْ كان للتخصُّصِ العلميِّ في علومِ العربيَّةِ أثرٌ كبيرٌ في إيجادِ كتبِ معاني القرآنِ، وبالنَّظرِ إلى الطَّرحِ اللُّغويِّ في كتبهم تَشْعُرُ أنَّهم يريدونَ ملءَ فراغٍ في بحوثٍ لا تجدها عند مفسِّريِّ السَّلفِ (¬2)، فخاضوا غمارَ البحثِ القرآنيِّ من منظورٍ لغويٍّ. ¬
ويدلُّ على ذلكَ أمرانِ يظهرانِ باستقراءِ كتبِ معاني القرآنِ: الأول: جِدَّةُ كثيرٍ من المباحثِ اللُّغويِّةِ التي طرقَهَا اللُّغويُّون، وطريقةُ عرضِها على ما ذكرَه السَّلفُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، مما يجعلُكَ تشعرُ أنَّ اللُّغويِّينَ يَرَوْنَ نقصاً في هذا البابِ، فاجتهدوا في إتمامِه لمكانِ تخصصهم. الثاني: أن اللُّغويِّينَ لم يعتبِروا ما جاء عن السَّلفِ من تفسيرٍ لغويٍّ، حتى جعلوا أقوالَهم مقابلَ أقوالِ السَّلفِ، ويدلُّ على ذلك: أن الرِّواياتِ المنقولةَ عن السَّلفِ التي تتعلقُ بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ في كتبِ معاني القرآنِ قليلة، سوى ابن قتيبة (ت:276) في غريب القرآنِ، النَّحَّاس (ت:338) في معاني القرآنِ؛ لأنهما قصدا نقل أقوال السَّلف. وطريقة عرض اللُّغويِّين للموجود من الرِّوايات يدلُّ على أن المفسِّرينَ إنما يؤخذ عنهم ما لا علاقة له باللُّغة، ذلك أنك إذا تأمَّلتَ التَّفسيرَ الذي يحكيه اللُّغويُّونَ عن السَّلفِ ويصدرونه بعبارة: «قال المفسرون»، وعبارة «وجاء في التفسير» وأشباههما، وجدتها ـ في الغالب ـ مما لا يؤخذ عن اللُّغةِ، ومثالُ ذلكَ ما ذكرَه الفرَّاءُ (ت:207) في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] حيث قال: «في التَّأويل: في اللَّوحِ المحفوظِ، ومعناه: أنتم خيرُ أمَّةٍ؛ كقولِه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 76] و {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 26]، فإضمارُ (كان) في مثلِ هذا وإظهارُها سواء» (¬1). فتراهُ جعلَ المعنى والتَّأويلَ ـ أي: التَّفسيرَ ـ متغايرينِ، لِما ذَكَرْتُ لكَ منْ أنَّ المعنى: ما كانَ مأخذُه من طريقِ اللُّغةِ، والتَّفسيرَ: ما لا يتأتَّى ـ في الغالبِ ـ منْ طريقِ اللُّغةِ، ويَنْسِبُونَهُ للمُفسِّرينَ. ونتجَ عنْ ذلكَ أنْ أعرضَ اللُّغويُّون ـ في بعضِ المواطنِ ـ عن تفسيرِ ¬
السَّلفِ اللُّغويِّ، كمَا وقعَ للفرَّاءِ (ت:207) في قولِه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] حيثُ قالَ: «الاستواءُ في كلامِ العربِ على جهتينِ: إحداهُمَا أن يَسْتَوِي الرَّجُلُ وينتهِي شبابُه. أو يَسْتَوِيَ عنِ اعْوِجَاجٍ، فهذان وجهانِ. ووجهُ ثالثٌ أنْ تقولَ: كانَ مُقْبِلاً عَلَى فلانٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيَّ يُشَاتِمُنِي، و (إليَّ) سواءٌ، على معنى: أقبل إليَّ وعليَّ، فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]؛ والله أعلم. وقال ابن عباس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] صَعِدَ، وهذا كقولك للرجلِ: كانَ قائماً فاستوى قاعداً، وكانَ قاعداً فاستوى قائماً، وكُلٌّ في كلامِ العربِ جائزٌ» (¬1). في هذا النصِّ ترى الفَرَّاءَ (ت:207) قدْ ذكرَ معانيَ (استوى) في لغةِ العرب، ثُمَّ ذكرَ قولَ ابنِ عبَّاسٍ (ت:68)، وجوَّزَهُ عربيًّا، ومع ذلكَ اختارَ قولاً آخرَ غيرَ قولِه. ويشعرُ هذا النَّصُّ وغيرُه باعتدادِ بعضِ اللُّغويِّينَ بعلمِهم، وعدمِ حرصِهم على ما يُؤثَرُ عن مفسِّري الصَّحابةِ والتَّابعين، حتى إنهم يردُّون قولاً وارداً عنهم ولا يَعْتَدُّونَ به، ومنْ ذلكَ ما وردَ في تفسيرِ قولِه تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسْ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد: 21] حيث وردَ عنْ بعضِ السَّلفِ أنَّ معنى ييأس: يعلم (¬2)، وقال الكسائي (ت:183) معلقاً على هذا التفسيرِ: «لا أعرفُ هذه اللغةَ، ولا سمعتُ مَنْ يقولُ: يَئِسْتُ: عَلِمْتُ، ولكنَّه عندي مِنَ اليأسِ بعينه، والمعنى: إنَّ الكفارَ لمَّا سألوا تسييرَ الجبال بالقرآنِ، وتقطيعَ الأرضِ، وتكليمَ ¬
الموتى، اشْرَأَبَّ لذلك المؤمنون وطَمِعُوا في أنْ يُعْطَى الكفارُ ذلك فيؤمنوا، فقال اللهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسْ الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد: 21] أي: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانِ هؤلاء لعلمِهم أنَّ الله لو أرادَ أن يهديَهم لهداهُم، كما تقولُ: يَئِسْتُ من فلانٍ أنْ يُفْلِحَ، والمعنى: لِعِلْمِي به» (¬1). وقد تبعَه في ذلكَ تلميذُه الفرَّاءُ (ت:207)، فقال: «قال المفسِّرون: ييأس: يعلمْ. وهو في المعنى على تفسيرهِم؛ لأنَّ الله قدْ أوقعَ إلى المؤمنين أنَّه لو يشاءُ الله لهدى النَّاسَ جميعاً، فقالَ: أفلم ييأسوا علماً، يقولُ: يُؤَيِّسُهُم العلمُ، فكان فيهم العلمُ مُضْمَراً، كما تقول في الكلامِ: قدْ يَئِسْتُ منك ألا تفلحَ علماً؛ كأنك قلتَ: عَلِمْتُهُ عِلْماً. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬2) قال: ييأس في معنى يعلم لغة للنخع (¬3). قال الفرَّاءُ: ولم نجدْها في العربيةِ إلاَّ على ما فَسَّرْتُ ...» (¬4). وهذا منهجٌ غيرُ صحيحٍ، إذ الواردُ عنِ السَّلفِ في تفسيرِ لغةِ القرآنِ حُجَّةٌ يجبُ قبولُه. وعدمُ العلمِ بالشَّيءِ لا يلزم منه إنكارُه، كيف وقد روى الفرَّاء (ت:207) هذا عن ابن عبَّاس (ت:68)، ولو كان اعتبرَ عربيَّتَه لما قال: «ولم نجدها في العربيَّةِ إلاَّ على ما فسَّرتُ». وقد اعترضَ عليه أبو حيَّان الأندلسيُّ (ت:745)، فقال: «وأنكرَ الفرَّاءُ أن ¬
يكونَ يئسَ بمعنى علمَ، وزعمَ أنَّه لم يسمعْ أحداً من العربِ يقولُ: يئستُ، بمعنى: علمتُ. انتهى. وقد حفظَ ذلكَ غيرُه، وهذا القاسمُ بنُ مَعْنٍ (¬1)، مِنْ ثقاتِ الكوفيِّين وأجلائهم، نقل أنها لغةُ هوازنَ (¬2)، وابنُ الكلبيِّ نقلَ أنَّها لغةٌ لِحَيٍّ منَ النَّخَعِ، ومنْ حَفِظَ حُجَّةٌ على مَنْ لم يحفظْ» (¬3). السببُ الثاني: المنافسة العلميَّة بين البصريِّين والكوفيِّين: إذا سَبَرْتَ المؤلفاتِ في (معاني القرآن) فإنكَ ستجدُها منْ نتاجِ علماءِ البصرةِ والكوفةِ، وكانت هاتان المدينتان موطنَ البحثِ النحويِّ. ومعلومٌ ما كان بينهما من خلاف وتنافسٍ عِلميٍّ في هذا المجالِ الَّذي لا يبعدُ أنْ يكونَ قدِ انتقلَ إلى البحثِ اللُّغويِّ، وقد كانَ السَّبقُ في الكتابةِ في هذين العلمينِ للبصريِّينَ، ففي علمِ النَّحْوِ، سبقوا بكتابِ سِيبَوَيهِ (ت:180)، وفي علمِ اللُّغةِ، بكتابِ (النَّوادِرِ) لأبي عمرِو بنِ العلاءِ (ت:145). وإذا تأملت كتبَ (معاني القرآن) التي أدخلت فيه إعراب القرآن؛ ككتاب الفرَّاء (ت:207) والأخفشِ (ت:215) والزَّجَّاجِ (ت:311)، فإنك تكادُ تجزمُ بأنَّ البحثَ النَّحويَّ هو الأصلُ في هذه الكتبِ، وأنَّ البحثَ اللُّغويَّ تابعٌ له، ¬
ويدلُّ على ذلك: أنَّ البحوثَ والمناقشاتِ النَّحويَّة كثيرةٌ جداً، وهي تَطْغَى على البحوثِ اللُّغويَّةِ. ويُسْتَنْبَطُ منْ هذا أنَّ هؤلاءِ العلماء كأَنهم أرادوا بالتَّأليفِ في (معاني القرآن) إبرازَ مذهبِهم النَّحويِّ الذي ينتمونَ إليه، وهذا واضحٌ جداً في كتبِهم. وبعد هذا، فإنِّي سأستعرضُ من المطبوعِ من كتبِ (معاني القرآن) ثلاثةً، وهي: كتابُ الفرَّاءِ (ت:207)، وكتابُ الأخفشِ (ت:215)، وكتابُ الزَّجَّاج (ت:311).
أولا: معاني القرآن، للفراء
أولاً معاني القرآن، للفراء أملى أبو زكريا يحيى بنُ زيادٍ الفرَّاءُ (ت:207) كتابه من حفظِه، وكانت مُدَّةُ إملائه سنتين تقريباً، وقد ابتدأ به في شهرِ رمضانَ منْ سنةِ ثنتين ومائتين، وانتهى منه سنةَ أربعٍ ومئتين. وقد صدَّر إملاءه بقوله: «تفسيرُ مشكلِ إعراب القرآن ومعانيه» (¬1). وحشدَ فيه علوماً هي: الإعرابُ والمعاني وعللُ القراءاتِ والصَّرْفُ وغيرُها منْ مباحثِ العربيَّةِ. ولا يخفى على المطَّلِعِ على هذا الكتابِ ما للتَّخصُّصِ العلميِّ لدى الفرَّاءِ (ت:207) منْ أثرٍ عليه، حتى إنه ليكادُ أنْ يكونَ قدِ اتَّجَهَ إلى تفسيرِ النَّصِّ القرآنيِّ وجهةً عربيَّةً لإبرازِ مذهبهِ الكوفِيِّ في علومِ العربيَّةِ. ويمكن الاستشهاد على ذلك بما يأتي: * أنَّ جُلَّ مباحثِ الكتابِ تتعلقُ بعلمِ النَّحوِ، وقدْ أبرزَ الفرَّاءُ (ت:207) المذهبَ الكوفيَّ في كتابِه هذا، وحَرَصَ على ذكرِ مصطلحاتِ النَّحوِ الكوفيِّ، وإبرازِ مسائله، والاستطرادِ فيها. ومنْ ذلكَ: استطرادُهُ في ذكرِ أحكامِ الاسمِ المُعَرَّفِ بأل بَعْدَ اسمِ ¬
أثر الاهتمام بعلوم العربية في تفسيراته
الإشارةِ (هذا) (¬1)، وحكم (بئس ونِعْمَ) (¬2)، وحكم (أَمْ) الاستفهاميَّة (¬3)، وغيرها كثيرٌ (¬4). * لما كان هذا المنحى العربيُّ مؤثراً على الفرَّاءِ (ت:207) في كتابِه، فإنك تجدُه كثيراً ما يفترضُ على النَّصِّ القرآنيِّ ليبيِّن صحَّةَ هذا الأسلوبِ الذي افترضَه، وقَصْدُهُ بهذا ـ والله أعلم ـ الاستطرادَ في المباحثِ العربيَّةِ التي كانتْ نَصْبَ عينيه وهو يملي كتابَه، ومنْ ذلكَ: 1 - قال: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] يقول: هذه الأصنامُ قدْ ضَلَّ بها قومٌ كثيرٌ. ولو قيلَ: وقدْ أضلتْ كثيراً، أو: أضْلَلْنَ، كان صواباً» (¬5). 2 - وقالَ: «قولُه: {اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] (¬6)، ولم يقلْ: اختصما؛ لأنها جَمْعَانِ ليسا برجلينِ، ولو قيل: اختصما، كان صواباً. ومثله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، يذهب إلى الجمع، ولو قيل: اقتتلتا لجاز، يذهب إلى الطائفتين» (¬7). أثرُ الاهتمامِ بعلومِ العربيَّةِ في تفسيراتِه: لقد كانَ لاهتمامِ الفراءِ بالعربيَّةِ، والغفلةِ عن غيرِها من المصادرِ، أثرٌ في ذكرِ بعضِ الأوجهِ التي خُولِفَ فيها، كما كانَ له أثرٌ في عدمِ اعتمادِ قولِ المفسِّرينَ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ. ¬
ومنْ أمثلةِ ما خُولِفَ فيه: * اعتمادُه أسلوب الحذف في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، قال: «وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ولمْ يقلْ: البردَ، وهي تَقِي الحَرَّ والبَرْدَ، فتركَهُ لأنَّ معناهُ معلومٌ ـ والله أعلم ـ كقولِ الشاعرِ (¬1): وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ وَجْهاً ... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي يريدُ: أيَّ الخيرِ والشرِّ يليني؛ لأنه إذا أرادَ الخيرَ فهو يتقي الشرَّ» (¬2). لقدِ اعتمدَ الفراءُ (ت:207) في هذا المثالِ على قاعدةِ حَذْفِ ما هو معلومٌ للسامعِ، والأصلُ أنَّ الكلامَ يكونُ تامًّا، ولا يُدَّعى الحذفُ فيه إلاَّ إذا دَلَّ الدليلُ عليه. وفي هذا المثال يمكنُ حملُ الكلامِ على تمامِه دونَ ادِّعاءِ الحذف، قال الإمامُ أحمدُ بنُ تيميةَ (ت:728): «وأما تمثيلهم بقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: وتقيكم البردَ، فعنه جوابان الأول: .... والثاني: أن قوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} على بابِه، وليس في الآيةِ ذكرُ البردِ، وإنما يقول: إنَّ المعطوفَ محذوفٌ، هو الفراءُ وأمثالُه ممنْ أنكرَ عليهم الأئمةُ، حيث يفسرونَ القرآنَ بمجردِ ظنِّهم وفهمهمِ لنوعٍ منْ علمِ العربيةِ عندهم، وكثيراً لا يكونُ ما فسروهُ مطابقاً. وليسَ في الكلامِ ما يدلُّ على ذِكْرِ البرد، ولكنَّ الله ذكرَ في هذه السورةِ إنعامَه على عبادِه، وتُسمَّى سورةُ النِّعَمِ، فذكرَ في أولِها أصولَ النِّعَمِ التي لا بدَّ منها ولا تقومُ الحياةُ إلا بها، وذكرَ في أثنائِها تمامَ النِّعَمِ. ¬
وكانَ ما يَقِي البردَ منْ أصولِ النِّعَمِ ذُكِرَ في أوَّلِ السُّورةِ في قوله: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5]، فالدفءُ ما يُدْفِئُ ويدفعُ البردَ ...» (¬1). والمقصود: أنه مع كونِ أسلوبِ الحذفِ أسلوباً عربيًّا شائع الاستعمالِ عندهم، إلا أنَّه لا يلزمُ أنْ يكونَ مراداً هنا، ما دامَ الكلامُ مفهوماً بدونِ ادِّعاء الحذف وتقديرِه. ثُمَّ إنَّ في تقديرِ المحذوفِ تَقَوُّلاً على اللهِ في أنَّه مرادٌ للهِ في خطابِه، والكَفُّ عن القولِ به أسلمُ، لأنه وقوفٌ عند الظاهرِ منْ كلامِ اللهِ سبحانه وتعالى. * وقال في تثنيةِ «جنَّتان» من قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن؛ 46]: وقولُه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ذَكَرَ المفسِّرونَ أنَّهما بستانانِ منْ بساتينِ الجنَّةِ (¬2). وقدْ يكونُ في العربيَّةِ: جنَّة، تُثَنِّيها العربُ في أشعارِها، أنشدني بعضُهم (¬3): ¬
وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ ... قَطَّعْتُهُ بَالأَمِّ (¬1) لاَ بِالسَّمْتَيْنِ يريد: مهمهاً وسمتاً واحداً، وأنشدني آخر (¬2): يَسْعَى بِكَيْدَاءَ وَلَهْذَمَيْنِ ... قَدْ جَعَلَ الأَرْطَاةَ جَنَّتَيْنِ وذلكَ أنَّ الشِّعرَ قوافٍ يقيمها الزِّيادةُ والنُّقصانُ، فيحتملُ مالا يحتمِلُه الكلامُ. قال الفرَّاء: الكَيْدَاءُ (¬3): القوس، ويقال: لَهْذِمْ ولَهْذَم» (¬4). لمَّا ذكرَ الفرَّاءُ (ت:207) في هذا المثالِ قولَ المفسِّرينَ أتبعَه بما يجوزُ ¬
في العربيَّةِ، وفي هذا تركٌ للظَّاهِرِ من تثنيةِ الجنَّتينِ دونَ دليلٍ يَدُلُّ عليه سوى جوازِ العربيَّةِ في هذا المثالِ، وقدِ اعترضَ عليه ابنُ قتيبةَ (ت:276) وشَنَّعَ، فقال: «وهذا منْ أعجبِ ما حُمِلَ عليه كتابُ اللهِ، ونحنُ نعوذُ باللهِ منْ أنْ نتعسَّفَ هذا التَّعسُّفَ، ونجيزَ على اللهِ ـ جلَّ ثناؤه ـ الزِّيادةَ والنَّقصَ في الكلامِ لرأسِ آيةٍ. وإنَّما يجوزُ في رؤوسِ الآي أنْ يَزِيدَ هاءً للسَّكتِ؛ كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه} [القارعة: 10]، وألِفاً؛ كقولِه: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، أو يحذفَ همزةً منَ الحرفِ؛ كقوله: {أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74]، أو ياءً؛ كقولِه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 5] لتستويَ رؤوسُ الآيِ، على مذاهبِ العربِ في الكلامِ إذا تَمَّ فآذَنَتْ بانقطاعِه وابتداءِ غيرِه؛ لأنَّ هذا لا يُزِيلَ معنىً عن جهتِهِ، ولا يزيدُ ولا ينقصُ. فأمَّا أنْ يكونَ اللهُ عزّ وجل وَعَدَ جنَّتينِ، فيجعلُهما جنَّةً واحدةً من أجلِ رؤوسِ الآيِ، فمعاذَ الله! وكيفَ يكونُ هذا؟! وهو ـ تباركَ اسمُهُ ـ يَصِفُها بصفاتِ الاثنينِ، فقال: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48]، ثم قال: {فِيهِمَا} [الرحمن: 50]، {فِيهِمَا} [الرحمن: 52]. ولوْ أنَّ قائلاً قالَ في خزنةِ النَّارِ: إنهم عشرونَ، وإنما جعلهمْ تسعةَ عشرَ لرأسِ الآيةِ ـ كما قال الشاعرُ (¬1): نَحْنُ بَنُو أُمِّ البَنِينُ الأَرْبَعَه ... ....... وإنما همْ خمسةٌ، فجعلهم للقافية أربعةً (¬2) ـ ما كان في هذا القول إلا ¬
كالفراء» (¬1). ومن أمثلةِ ما كان له أثرٌ في عدمِ اعتمادِ قولِ السَّلفِ: * وقال: «وقولُه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] ضمَّ الصَّادَ العامَّةُ. وكان أصحابُ عبدِ اللهِ يكسرونَ الصَّاد (¬2). وهما لغتانِ، فأمَّا الضَّمُّ فكثيرٌ، وأمَّا ¬
الكسرُ ففي هُذَيلٍ وسُلَيمٍ (¬1). وأنشدني الكسائيُ عنْ بعضِ بني سليم (¬2): وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ ... على اللِّيتِ قِنْوانُ الكُرُومِ الدَّوَالِحِ ويفسَّر معناه: قطِّعهن (¬3)، ويقالُ: وجِّهْهُنَّ. ولم نجدْ قطِّعهنَّ معروفةً من هذينِ الوجهينِ، ولكني أرى ـ والله أعلم ـ أنها إنْ كانتْ منْ ذلكَ أنها من صَريْتَ تَصْرِي، قُدِّمت ياؤها، كما قالوا: عِثْتُ وَعَثَيْتُ، وقال الشاعر (¬4): ¬
صَرَتْ نَظْرَةً، لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ ... غَدَا وَالْعوَاصِي مِنْ دَمِ الْجَوْفِ تَنْعَرُ والعربُ تقولُ: باتَ يَصْرِي في حوضِه، إذا استقى ثمَّ قَطَعَ واستقى، فلعلَّه من ذلك ..» (¬1). في هذا المثالِ يرى الفراءُ (ت:207) أنَّ معنى «صرْهُنَّ» (بالضَّمِّ أو الكسر) ليسَ القطعَ إلا على القلبِ. والأصلُ بقاءُ اللَّفظِ على ترتيبِ حروفِه وعدمُ ادعاءِ القلبِ فيه، إلا إذا لم يُفْهَمْ إلا على وجهِ القلبِ، وقدْ فَسَّرَ السَّلفُ هذا اللَّفظ بوجهيه المقروءينِ على أنه بمعنى التَّقطيعَ، دونَ أن يَدَّعُوا فيه قَلْباً، وهذا يدلُّ على صحتِه في اللُّغةِ، وعلى أنَّ ما لم يعرفه الفراءُ (ت:207) قدْ عرفَهُ غيرُه، وبهذا جاء تفسيرُ اللُّغويِّين البصريِّين (¬2) كما ذكر عنهم ذلك الطَّبريُّ (ت:310) ذلك، حيث قال: «وهذا القولُ الذي ذكرناه عن البصريين (¬3) ـ منْ أنَّ معنى الضَّمِّ في الصَّادِ من قولِه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} والكسرَ سواءٌ بمعنى واحدٍ، وأنهما لغتان معناهما في هذا الموضع: فقطِّعْهُنَّ، وأنَّ معنى إليك: تقديمُها قبلَ فصُرْهُنَّ منْ أجلِ أنها صلةُ قولِه: {فَخُذْ} ـ أولى بالصَّوابِ منْ قولِ الذين حكينا قولَهم منْ نحويِّي الكوفةِ (¬4) الذين أنكروا أن يكونَ للتَّقطيعِ في ذلكَ وجهٌ مفهومٌ إلا على معنى ¬
القلبِ الذي ذكرتُ، لإجماعِ أهلِ التَّأويلِ على أنَّ معنى قولِه: {فَصُرْهُنَّ} غير خارجٍ منْ أحدِ معنيين: إمَّا قطعهنَّ، وإمَّا ضمهنَّ إليك، بالكسرِ قُرِئَ ذلك أو بالضَّمِّ. ففي إجماعِ جميعِهِم على ذلك ـ على غيرِ مراعاةٍ منهم كَسْرَ الصَّادِ وضمَّهَا ـ أوضحُ الدليلِ على صِحَّةِ قولِ القائلينَ منْ نحويِّي البصرةِ في ذلكَ ما حكينا عنهم من القولِ، وخطإِ قولِ نحويي الكوفيين، لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قولَه: {فَصُرْهُنَّ} بمعنى: فقطِّعهن، على أنَّ أصلَ الكلامِ فأصرهن، ثم قُلِبَتْ، فقيل: فصِرهن بكسرِ الصَّادِ، لتحوَّلَ ياءُ فاصِرهن مكانَ رائِه، وانتقالُ رائِه مكان يائِه، لكانَ لا شكَّ ـ مع معرفتهم بلغتهم، وعلمهم بمنطقهم ـ وقدْ فصلوا بينَ معنى ذلك إذا قُرِئَ بكسرِ صادِهِ، وبيْنَهُ إذا قُرئَ بضَمِّها، إذ كانَ غيرُ جائزٍ لمنْ قَلَبَ فأصرهنَّ إلى فصرهنَّ أنْ يقرأهُ: (فصُرهن) فضم الصادِ، وهم ـ معَ اختلافِ قراءتهم ذلك ـ قدْ تأولوه تأوُّلاً واحداً على أحدِ الوجهين اللَّذَيْنِ ذكرنا، ففي ذلك أوضحُ الدَّليلِ على خطَأ قولِ منْ قالَ: إنَّ ذلكَ إذا قُرئَ بكسرِ الصادِ بتأويلِ التَّقْطِيعِ مقلوبٌ منْ صَرَى يَصْرِي إلى صَارَ يَصِيرُ، وجهلِ منْ زعمَ أنَّ قولَ القائلِ: صَارَ يَصُور، وصَارَ يَصِيرُ غيرُ معروفٍ في كلامِ العربِ بمعنى: قَطَعَ» (¬1). ثُمَّ ذكرَ أقوالَ السلفِ، ثُمَّ قالَ: «ففيما ذكرْنَا مِنْ أقوالِ مَنْ روينا قولَه في تأويلِ قولِه: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أنه بمعنى: فقطعهن إليك، دلالةٌ واضحةٌ على صحةِ ما قلنا في ذلكَ، وفسادِ قولِ مَنْ خَالَفَنَا فيه» (¬2). والمقصودُ أنَّ اعتمادَ الفراءِ (ت:207) على العربيَّةِ وتقديمِها ـ أحياناً ـ على ما جاءَ في التَّفسيرِ أوقَعه في هذه الأخطاءِ التي احتسبَها عليه العلماءُ الذين جاؤوا بعدَه، وسأذكر ثَمَّتَ صوراً منَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في كتابِه (معاني القرآن). ¬
صور التفسير اللغوي في كتاب معاني القرآن
صُوَر التَّفْسِير اللُّغويِ في كِتابِ مَعَاني القُرْآنِ: لقد طغتِ البحوثُ ذات الصِّبغةِ العربيَّةِ على كتابِ الفراءِ (ت:207)، وكان البحث النَّحويُّ أكثرَ بحوثِه في علمِ العربيَّةِ، وقد فاقَ جانبَ المعاني والتَّفسيرِ، وسأذكُرُ هاهنا ما حضَرني من صورِ التفسيرِ اللغويِّ في كتابِ معاني القرآنِ، ومنها: 1 - بيان دلالة الألفاظ: حرصَ الفراءُ (ت:207) على بيانِ معاني ألفاظِ القرآنِ، وكانَ الاستشهادُ لها قليلاً، بخلافِ المسائلِ النحويةِ التي قَلَّ أنْ لا يستشهدَ لها. ومن أمثلةِ الألفاظِ التي لم يستشهدْ لها ما يأتي: * قالَ الفرَّاءُ (ت:207): وقولُه: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] يريدُ: نَحوَهُ وتِلْقَاءه، ومثلُه في الكلامِ: وَلِّ وجهَكَ شطرَهُ، وتلقاءه، وتجاهَهُ» (¬1). * وفي قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، قال: «الزَّلقُ: التُّرابُ الذي لا نباتَ فيه، محترقٌ رميمٌ» (¬2). * وقال: «قولُ اللهِ عزّ وجل: {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2]، الأمشاجُ: الأخلاطُ: ماءُ الرَّجلِ وماءُ المرأةِ، والدَّمُ، والعلقةُ، ويقالُ للشيءِ منْ هذا إذا خُلِطَ: مَشِيجٌ؛ كقولِك: خَلِيطٌ، ومَمْشُوجٌ؛ كقولك: مَخْلُوطٌ» (¬3). ومنْ أمثلةِ الألفاظِ التي استشهدَ لها بالشعرِ أو النَّثرِ ما يأتي: * قالَ الفراءُ (ت:207): وقولُه: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] يقولُ: لا رَادَّ لحكمِه إذا حكمَ شيئاً، والمُعَقِّبُ: الذي يَكِرُّ على الشيءِ، وقولُ لبيدٍ (¬4): ¬
حَتَى تَهَجَّرَ فِي الرَّوَاحِ وَهَاجَهُ ... طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّهُ الْمَظْلُومُ مِنْ ذلكَ؛ لأنَّ الْمُعَقِّبَ صاحبُ الدَّينِ، يرجعُ على صاحبِه فيأخذُهُ منه، أو مَنْ أُخِذَ منه شَيءٌ فهو راجعٌ ليأخذَه» (¬1). * وقالَ: «وقولُه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]، فيه وجهانِ: أحدُهما: معناه: فما الذي أصبرَهم على النارِ؟ والوجهُ الآخرُ: فما أجرأهم على النارِ! قال الكسائيُ: سألني قاضي اليمنِ، وهو بمكةَ، فقالَ: اختصمَ إليَّ رجلانِ من العرب، فحلفَ أحدُهما على حقِّ صاحبِه، فقالَ له: ما أصبرك على اللهِ! وفي هذه أنْ يُرادَ بها: ما أصبرك على عذابِ اللهِ، ثُمَّ تُلْقِي العذابَ، فيكونُ كلاماً؛ كما تقولُ: ما أشبهَ سخاءك بحاتم» (¬2). هذا، وقدْ كانَ الفرَّاءُ (ت:207) مَرْجِعاً في بيانِ معاني مفرداتِ اللُّغةِ، وقد اعتمدَ عليه الأزهريُّ (ت:375) في كتابِه الكبيرِ (تهذيبِ اللُّغةِ)، وأسندَ إليه كثيراً من بيانِ معاني الألفاظِ، وستأتي الإشارةُ إلى ذلك (¬3). 2 - بيان لغات العرب وقولها: حرصَ الفرَّاءُ (ت:207) على بيانِ لغاتِ العربِ، كما حَرِصَ على بيانِ طريقةِ نُطقِها لبعضِ الكلماتِ، وما بينها من تغايُرِ الحركاتِ، ومن ذلكَ قولُه: ¬
«وقولُه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} [الأنبياء: 42] مهموزٌ، ولو تركتَ همزَ مثلِه في غيرِ القرآنِ، قلتَ: يَكْلُوكُم بواوٍ ساكنةٍ، أو يَكْلاَكُم بألفٍ ساكنةِ، مثلَ يخشاكم، ومن جعلَها واواً ساكنةً قال: كَلاَن بالألفِ، تتركُ منها النَّبْرَةَ (¬1). ومَنْ قالَ: يَكْلاكُم، قالَ: كَلَيتُ؛ مثلَ: قَضَيتُ، وهي لغةُ قريشٍ، وكُلٌ حسنٌ، إلا أنهم يقولون في الوجهين: مَكْلُوَّةٌ بغيرِ همزٍ، ومَكْلُوٌّ بغيرِ همزٍ أكثر مما يقولون: مَكْلِيةٌ. ولو قيلَ: مَكْلِيٌّ في قول الذين يقولون: كَلَيتُ كان صواباً» (¬2). وهذا الأسلوبُ في بيانِ لغاتِ العربِ كثيرٌ عند الفرَّاء (ت:207)، والمقصودُ بالحديثِ هنا، ما كان له أثرٌ في التَّفسيرِ لا في التَّعبيرِ. وتجده في هذا الموضوعِ: إمَّا أن يجعلَ التمثيلَ الذي يذكرُه من قولِ العربِ دونَ تخصيصٍ لقبيلةٍ بعينها، وإمَّا أنْ ينصَّ على قبيلةٍ بعينِها، ومنْ ذلكَ: * قال الفرَّاءُ (ت:207) في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]: «العرب تقول ـ للذي يمنعه من الوصول إلى إتمامه حَجِّهِ أو عمرتِه خوفٌ أو مرضٌ، وكلِّ ما لم يكنْ مقهوراً؛ كالحبس والسِّجن، يقالُ للمريضِ ـ: قدْ أُحْصِرَ، وفي الحَبْسِ والقَهْرِ: قدْ حُصِرَ. فهذا فرقُ بينهما. ولو نَوَيتَ في قهرِ السُّلطانِ أنها عِلَّةٌ مانعةٌ، ولم تذهبْ إلى فِعْلِ الفَاعِلِ، جازَ لكَ أنْ تقولَ: قدْ أُحْصِرَ الرجلُ. ولو قلتَ في المرضِ وشبهِهِ: إن المرضَ قدْ حَصَرَهُ أو الخوفَ، جازَ أنْ تقولَ: حُصِرتُمْ» (¬3). ¬
* وقال: «وقولُه: {يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]: ممنوعاً مِنَ الخيرِ، والعربُ تقولُ: ما ثَبَرَكَ عنْ ذَا؛ أيْ: ما منعَكَ منه وصرفَكَ عنه» (¬1). * وقالَ: «وأمَّا قولُه: {وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61] فإنَّ الفُومَ ـ فيما ذكر ـ لغةٌ قديمةٌ، وهيَ الحِنْطَةُ والخُبْزُ جميعاً قد ذكرا. قالَ بعضُهم: سمعْنَا العربَ منْ أهلِ هذه اللُّغةِ يقولونَ: فَوِّمُوا لنا، بالتَّشديدِ لا غيرَ، يريدونَ: اخْتَبِزُوا، وهيَ في قراءةِ عبدِ اللهِ: «وثُومِهَا» بالثاءِ (¬2)، فكأنَّه أشبهُ المعنيينِ بالصَّوابِ، لأنَّه معَ ما يشاكلُه من العدسِ والبصلِ وشبهِهِ. والعربُ تُبْدِلُ الفاءَ بالثاءِ، فيقولونَ: جَدَثٌ وجَدَفٌ، ووقعوا في عَاثُورِ وعَافُورِ شَرٍّ، والأثَاثِي والأثَافِي، وسمعتُ كثيراً من بني أسدٍ يُسَمِّيَ المَغَافِيرَ: المَغَاثِيرَ» (¬3). * وقالَ: «وقولُه: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]: ذُكِرَ أنَّ الحَصَبَ في لغةِ أهلِ اليمنِ: الحَطَبُ ... وأمَّا الحَصَبُ فهو في معنى لغةِ نجدٍ: ما رميتَ به في النَّارِ؛ كقولِك: حَصَبْتُ الرجلَ؛ أي: رَمَيْتُهُ» (¬4). وفي هذه الأمثلةِ يظهرُ نَصُّ الفراءِ (ت:207) على أن هذا ما تقوله العربِ، أو أنَّه من لغةِ قبيلةٍ معينةٍ. ¬
3 - ذِكْرُ الْمُحْتَمَلاَتِ اللُّغَوِيَّةِ للنَّصِّ القرآنيِ: لَمَّا كانتِ المباحثُ العربيةُ هي الوجهةُ التي سَلَكَهَا الفراءُ (ت:207) في كتابِه (معاني القرآن)، فإنَّ اهتمامه بالمحتملاتِ اللغويةِ للنَّصِّ القرآني كانَ أحدَ هذه المباحثِ التي رَكَّزَ عليها في البيانِ. ويظهرُ في مثلِ هذه المحتملاتِ ـ إذا كانتْ مشكلةً في التعبيرِ ـ حِرْصَهُ على إيرادِ الشواهدِ والأساليبِ الكلاميةِ التي تُبَيِّنُ النَّصَّ القرآنيَ، ومنْ ذلكَ: * ما ذكره في تفسيرِ قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، قال: «أضافَ المثلَ إلى الذينَ كفروا، ثمَّ شبَّهَهم بالرَّاعي، ولم يقلْ: كالغنمِ، والمعنى ـ واللهُ أعلمْ ـ: مثلُ الذي كفروا كمثلِ البهائمِ التي لا تَفْقَهُ ما يقولُ الراعي أكثرَ من الصوتِ، فلو قالَ لها: ارعِيْ أو اشربي، لم تدْرِ ما يقولُ لها، فكذلكَ مثلُ الذينَ كفروا فيما يأتيهم منْ القرآنِ وإنذارِ الرسولِ. فأضيفَ التَّشبيهُ إلى الرَّاعي، والمعنى ـ والله أعلمُ ـ في المرعيِّ، وهو ظاهرٌ في كلامِ العربِ أنْ يقولوا: فلانٌ يخافُكَ كخوفِ الأسدِ، والمعنى: كخوفِه الأسدَ؛ لأنَّ الأسدَ هو المعروفُ بأنَّه المخوفُ، وقال الشاعرُ (¬1): لَقَدْ خِفْتُ حَتَى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعْلٍ في ذِي المَطَارَةِ عَاقِلُ والمعنى: حتى ما تزيدُ مخافَةَ وَعْلٍ على مخافتي، وقالَ الآخرُ (¬2): كَانَتْ فَرِيضَةَ مَا تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ والمعنى كما كان الرَّجم فريضة الزِّنَى، فيتهاون الشَّاعر بوضع الكلمة ¬
على صحتها لاتضاح المعنى عند العرب. وأنشدني بعضهم (¬1): إنَّ سِرَاجاً لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهُ ... تَحْلَى بِهِ الْعَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهُ والعينُ لا تَحْلَى به، إنما يَحْلَى هو بها. وفيها معنىً آخرُ: تضيفُ الْمَثَلَ إلى الذين كفروا، وإضافتُه في المعنى إلى الوعظِ؛ كقولِك: مَثَلُ وَعْظِ الذينَ كفروا وواعظِهِم كمثلِ النَّاعِقِ؛ كما تقولُ: إذا لقيتَ فلاناً فَسَلِّمْ عليه تسليمَ الأميرِ، وإنما تريدُ به: كما تُسِلِّمُ على الأميرِ. وقالَ الشاعرُ (¬2): فَلَسْتُ مُسَلِّماً مَا دُمْتُ حَيًّا ... عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأَمِيرِ وكُلٌّ صوابٌ» (¬3). * وفي قولِه تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، قال: «والأُمْنِيَّةُ في المعنى: التلاوةُ؛ كقولِ اللهِ عزّ وجل: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]؛ أي: في تلاوتِه. والأمَانيُّ ـ أيضاً ـ: أن يفتعِلَ الرَّجلُ الأحاديثَ المفتعلَةَ، قال بعضُ العربِ لابن دَابٍ ـ وهو يُحَدِّثُ الناسَ ـ: أهذا شيءٌ رَوَيْتَهُ أمْ شيء تَمَنَّيْتَهُ؟ يريدُ: افتعلتَهُ، وكانتْ أحاديثَ يسمعونها من كبرائهمْ ليستْ منْ كتابِ اللهِ، وهذا أبينُ الوجهينِ» (¬4). ¬
* وقالَ: «قولُه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54] معناه: أنهار، وهو في مذهبِه كقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. وزعمَ الكسائيُّ أنَّه سمعَ العربَ يقولونَ: أتينا فلاناً، فكنَّا في لَحْمَةٍ ونَبِيذَةٍ، فَوَحَّدَ، ومعناه الكثيرُ. ويقالُ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54] في ضياءٍ وسَعَةٍ، وسمعتُ بعضَ العربِ ينشدُ (¬1): إنْ تَكُ لَيْلِياً فإنِّي نَهِرُ ... مَتَى أَرَى الصُّبْحَ فَلاَ أَنْتَظِرُ ومعنى نَهِرُ: صاحبُ نهارٍ» (¬2). وفي هذه الأمثلةِ السابقةِ يظهرُ إيرادُ الفراءِ (ت:207) للمحتملاتِ اللغويةِ الواردةِ على النَّصِّ القرآنيِّ، كما يظهرُ حرصُهُ على إيرادِ الشَّواهدِ على هذه المحتملاتِ. وفي بعض المواطن يحكي مثلَ هذه المحتملات دون أن يبين رأيَهُ ¬
فيها، ومنْ ذلكَ ما وردَ عنه في قولِه تعالى: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3]، قال: «والثَّاقبُ: المضيءُ، والعربُ تقولُ: اثْقُبْ نارَكَ: للمُوقِدِ. ويقال: إنَّ الثَّاقبَ: هو النَّجْمُ الذي يقال: له زُحَلْ. والثَّاقبُ الذي قدِ ارتفعَ عن النُّجومِ. والعربُ تقولُ للطائرِ إذا لحقَ ببطنِ السماءِ ارتفاعاً: قَدْ ثَقَبَ. كلُّ ذلكَ جاءَ في التفسيرِ» (¬1). 4 - تَوْجِيهُ القِرَاءَاتِ: اتخذتِ القراءاتُ: شاذُّها ومتواترُها مكاناً كبيراً في كتاب (معاني القرآن)، وهو في ذلك يذكرُ توجيهها في لغةِ العربِ، ويبينُ ما بينها من الفروقِ، إنْ وُجِدَ، سواءً أكانَ اختلافاً في معنًى أم في غيرِه مما لا أثرَ له في المعنى؛ كالاختلافِ في الحركاتِ (¬2)، أو اللَّهجاتِ، أو التَّصريفِ، ومن أمثلةِ ذلكَ قولُه: «وقولُه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب: 21] كانَ عاصمُ بنُ أبي النَّجُودِ يقرأُ: «أسوة» برفع الألفِ في كلِّ القرآنِ. وكان يحيى بنُ وثَّابٍ (¬3) يرفعُ بعضاً ويكسر بعضاً، وهما لغتان، الضَّمُّ في قيسٍ. والحسنُ وأهلُ الحجازِ يقرؤون: «إسوة» بالكسرِ في كلِّ القرآنِ لا يختلفون ...» (¬4). ومنْ أمثلةِ ما يختلفُ بهِ المعنى باختلافِ القراءةِ ما يأتي: قال: «وقولُه: {لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} [الواقعة: 19]: عنِ الخمرِ. {وَلاَ يُنْزِفُونَ}؛ ¬
أي: لا تذهبُ عقولُهم، يقالُ للرجلِ إذا سَكِرَ: قد نُزِفَ عقلُهُ، وإذا ذهبَ دمُهُ وغُشِيَ عليه أو ماتَ، قيل: منْزوف. ومن قرأ: «يُنْزِفُونَ» يقول: لا تفنى خمرُهم، والعرب تقول للقوم إذا فَنِيَ زادُهم: قد أَنْزَفُوا، وأَقْتَرُوا، وأَنْفَضُوا، وأَرْقَلُوا، وأَمْلَقُوا» (¬1). * وقالَ: «وقولُه عزّ وجل: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7] قرأها الأعمشُ (¬2) وعاصمٌ «فَعَدَلَكَ» مخففةً، وقرأها أهل الحجاز «فعدَّلك» مشدَّدة. فمنْ قرأها بالتَّخفيفِ، فوجهُهُ ـ والله أعلم ـ: فصَرَفَكَ إلى أيِّ صورةٍ شاءَ، إمَّا: حَسَنٍ، أو قبيحٍ، أو طويلٍ، أو قصيرٍ ... ومنْ قرأ: «فعدَّلَكَ» مشدَّدةً، فإنه أرادَ ـ واللهُ أعلمُ ـ جعلكَ مُعْتَدِلاً مُعَدَّلَ الخَلْقِ، وهو أعجبُ الوجهينِ إليَّ، وأجودُها في العربيةِ؛ لأنك تقولُ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، فتجعلُ (في) للتَّركيبِ، أقوى في العربيَّةِ مِنْ أنْ يكونَ (في) للعَدْلِ؛ لأنَّك تقولُ: عَدَلْتُكَ إلى كذا وكذا، وصَرَفْتُكَ إلى كذا وكذا، أجودُ منْ أنْ تقولَ: عَدَلْتُكَ فيه، وصَرَفْتُكَ فيه» (¬3). 5 - الأُسْلُوبُ العَرَبِيُّ فِي الخِطَابِ القُرْآنِيِّ: بيَّنَ الفرَّاءُ (ت:207) كثيراً منَ الأساليبِ العربيَّةِ النَّحويَّةِ، واستشهدَ لها ¬
بأمثلةٍ تُوضِّحُها، وقدْ كانَ للمعاني نصيبٌ في هذا البيانِ، فقدْ أولاهُ الفرَّاءُ (ت:207) عنايَتَه، ووضَّح منه جملةً كثيرةً، وإن كان البيانُ النحويُّ لأساليب العرب أكثر، ومن الأساليب التي بينها في الخطاب القرآنيِّ، ما يأتي: * الخِطَابُ بِالْمُسْتَقْبَلِ لأَمْرٍ قَدْ مَضَى: قالَ الفرَّاءُ (ت:207): «وقولُه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] يقول القائل: إنما (تقتلونَ) للمستقبلِ، فكيفَ قالَ: (من قبل)؟، ونحنُ لا نجيزُ في الكلامِ: أنَا أضربُك أمسِ، وذلكَ جائزٌ إذا أردتَ بـ (تفعلون) الماضيَ، ألا تَرى أنَّكَ تُعَنِّفُ الرجلَ بما سلفَ من فعلِه، فتقولُ: ويحكَ لِمَ تكذبْ؟ لم تُبَغِّضْ نفسَكَ إلى النَاسِ؟! ومثلُه قولُ اللهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، ولَمْ يَقُلْ: ما تلتِ الشياطينُ. وذلكَ عربيٌّ كثيرٌ في الكلامِ، أنشدني بعضُ العربِ (¬1): إذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ وَلَمْ تَجدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهَا بُدَّا فالجزاءُ للمستقبل، والولادة كلها قد مضت (¬2)، وذلكَ أَنَّ المعنى معروفٌ. ومثلُه في الكلامِ: إذا نظرتَ في سِيرِ عمر (¬3) رحمه الله لم يسئْ، والمعنى؛ لم تجدْهُ أساءَ، فلمَّا كانَ أمرُ عمرَ لا يُشَكُّ في مُضِيِّه، لم يقعْ في الوهمِ أنه مستقبلٌ، فلذلكَ صلحَتْ {مِنْ قَبْلُ} مع قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ}، وليس الذين خوطبوا بالقتلِ همُ القَتَلَةُ، إنَّما قَتَلَ الأنبياءَ أسلافُهُم الذين مضوا، فتولَّوهم على ذلك ورضوا به فَنُسِبَ القتلُ إليهم» (¬4). ¬
بيَّن الفراءُ (ت:207) في هذا النَّصِّ أنَّه جازَ الحديثُ عَنِ الماضي بفعلٍ دالٍ على الاستقبالِ؛ لأنَّ في الكلامِ دليلاً على إرادةِ المُضِي. قال الزجاجُ (ت:311): «وإنما جازَ أنْ يُذكَرَ هاهنا لفظُ الاستقبالِ والمعنى المُضِي؛ لقوله: {مِنْ قَبْلُ}» (¬1). كما بين الفرَّاء (ت:207) أنَّه جازَ خطابُ الحاضرينَ بما فعلَه الأسلافُ منهم لرضاهم بهذا العملِ، حتى صاروا كأنهم فعلُوه بأنفسِهِم، إذ الراضي كالفاعلِ، وما ذكره مِنْ نَسْبِ القتلِ إلى حاضري التَّنْزيلِ أسلوبٌ عربيٌّ عريقٌ. وقد شرحَ الطبريُّ (ت:310) ذلكَ الأسلوب، فقالَ: «وإنما جازَ أنْ يُقالَ: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49]، والخطابُ بهِ لِمَنْ لَمْ يدركْ فرعونَ ولا الْمُنَجَّينَ منه؛ لأنَّ المخاطَبينَ بذلكَ كانوا أبناءَ من نجَّاهم مِن فرعونَ وقومِه، فأضافَ ما كانَ منْ نِعَمِهِ على آبائهم إليهم، وكذلكَ ما كانَ منْ كُفْرَانِ آبائهم على وجهِ الإضافةِ؛ كما يقولُ القائلُ لآخر: فعلنا بكم كذا، وقتلناكم، وسبيناكم، والمُخْبِرُ: إمَّا أنْ يكونَ يعني قومَه وعشيرتَه بذلكَ، أو أهلَ بلدِهِ ووطنِهِ، كانَ المَقُولُ له ذلكَ أدرك ما فُعِلَ بهم من ذلك أوْ لَمْ يدركْه؛ كما قالَ الأخْطَلُ (¬2) يهاجي جريرَ بنَ عَطِيَّة: وَلَقَدْ سَمَا لَكُمُ الهُذَيلُ فَنَالَكُمْ ... بِإرَابَ، حَيْثُ يُقَسِّمُ الأنْفَالاَ في فَيلَقٍ، يَدْعُو الأَرَاقِمَ، لَمْ تَكُنْ ... فُرْسَانُهُ عُزْلاً وَلاَ أَكْفَالاَ ولم يلحقْ جريرٌ هذيلاً ولا أدركَه ولا أدركَ إرابَ ولا شهده. ولكنه لما ¬
كان يوماً من أيامِ قومِ الأخطلِ على قومِ جريرٍ (¬1)، أضافَ الخطابَ إليه وإلى قومِه. فكذلكَ خطابُ اللهِ عزّ وجل مَنْ خاطبَهُ بقولِه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49]، لما كانَ فعلُه ما فعلَ منْ ذلكَ بقوم مَنْ خاطبَه بالآيةِ وآبائهم، أضافَ فعلَه ذلكَ الذي فعلَه بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومِهم» (¬2). * الجَزَاءُ عَنِ الفِعْلِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ (¬3): قالَ الفرَّاءُ (ت:207): وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا} [البقرة: 192]، فلم يبدءوكم {فَلاَ عُدْوَانَ} على الذين انتهوا، إنما العدوانُ على مَنْ ظَلَمَ: على من بدأكم ولَمْ يَنْتَهِ. فإنْ قالَ قَائِلٌ: أرأيتَ قولَهُ: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} أعدوانٌ هو، وقدْ أباحَهُ اللهُ لهم؟! قلنا: ليسَ بعدوانٍ في المعنى، إنما هو لفظٌ على مِثلِ ما سبقَ قبلَهُ، ألا ¬
تَرَى أنه قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فالعدوانُ مِنَ المشركينَ في اللَّفظِ ظُلْمٌ في المعنى، والعدوانُ الذي أباحَهُ اللهُ وأمرَ بهِ المسلمينَ إنما هو قصاصٌ. فلا يكونُ القصاصُ ظلماً، وإنْ كانَ لفظُه واحداً. ومثلُه قولُ اللهِ تباركَ وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وليستْ منَ اللهِ مثلُ معناها منَ المسيءِ؛ لأنها جزاءٌ» (¬1). وهذا يعني أنَّ ما يصدر من المسلمين إنما هو مقابلٌ وجزاءٌ لما صدر من الكفار، وإنما سمِّيَ باسمه على سبيل المجازاة، فاتَّفق اللفظ واختلف المعنى المراد به في كل موضع، وهذا ما يُسمَّى في علم البلاغة «باب المشاكلة». قال الطبري (ت:310): «فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}؟ قيل: إن المعنى في ذلك غيرَ الوجهِ الذي إليه ذهبت. وإنما ذلك على وجه المجازاةِ، لِمَا كان من المشركين من الاعتداءِ. يقولُ: افعلوا بهم مثلَ الذي فعلوا بكم، كما قال: إن تعاطيتَ مني ظلماً تعاطيتُه منك. والثاني ليس بظلمٍ؛ كما قالَ عمرُو بنُ شأسٍ الأسديِّ (¬2). جَزَينَا ذَوِي العُدْوَانِ بِالامْسِ قَرْضَهُمُ ... قِصَاصاً، سَوَاءً حَذْوَك النَّعْلَ بِالنَّعْلِ (¬3) ¬
* الاسْمَانِ المُصْطَحِبَانِ: يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَيُسَمَّيَانِ جَمِيعاً بِهِ (¬1): قالَ الفراءُ (ت:207): «وقولُه: {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 38] يريدُ: ما بينَ مشرقِ الشتاءِ، ومشرقِ الصيفِ. ويقالُ: إنه أرادَ المشرقَ والمغربَ، فقال: {الْمَشْرِقَيْنِ} وهو أشبهُ الوجهينِ بالصوابِ؛ لأن العربَ قدْ تجمعُ الاسمينِ على تسميةِ أشْهَرِها، فيقال: قدْ جاءكَ الزَّهْدَمَان (¬2)، وإنما أحدُهما زَهْدَمٌ. قالَ الشاعرُ (¬3): أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُم ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوالِعُ يريدُ: الشمسَ والقمرَ. وقال الآخر (¬4): قَسَمُوا البِلاَدَ فَمَا بِهَا لِمَقِيلِهِم ... تَضْغِيثُ مُفْتَصِلٍ يُبَاعُ فَصِيلُهُ فِقُرَى العِرَاقِ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَاحِدٍ ... فَالبَصْرَتَانِ فَوَاسِطٌ تَكْمِيلُهُ يريدُ: البصرةَ والكوفةَ. قال: وأنشدني رجلٌ من طَيِّء (¬5): ¬
أثر المعتقد في التفسير اللغوي عند الفراء
فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنَّا، والعِرَاقُ لَنَا ... وَالمَوْصِلاَنِ وَمِنَّا مِصْرُ وَالْحَرَمُ يريدُ: الجزيرةَ، والموصل» (¬1). وفي هذا المثال صوَّب الفراءُ (ت:207) أنَّ المشرقينِ: المشرقُ والمغربُ، وغلَّبَ اسمَ المشرقِ عليها كما هو سبيلُ العربِ في تغليبِ الشيئينِ المتصاحبينِ. وهناك أساليبُ أخرى تعرَّضَ لها الفرَّاءُ (ت:207) غيرَ هذه؛ كالحذفِ (¬2)، والإضمارِ (¬3)، والتَّكنيةِ عن الشَّيءِ الذي عُرف اسمه وإن لم يَجُرِ له ذِكْرٌ (¬4)، والتَّقديمِ والتَّأخيرِ (¬5)، وغيْرِها، والمقصودُ هنا التَّمثيلُ لبعضِ هذه الأساليبِ، وقدْ يَمُرُّ غيرُها في ثنايا البحثِ، واللهُ الموفِّقُ. أثرُ المعتقدِ في التفسير اللُّغويِّ عند الفرَّاءِ: إنَّ كتبَ التراجمِ قدْ تذكرُ بعض التُّهَمِ التي يُرمَى بها عالمٌ دون التَّثَبُّتِ من تلك الروايةِ؛ لأنَّ الغالب على التصنيفِ في هذه التراجمِ جمعُ ما وردَ من أخبارِ العالِم، دونَ التَّحقُّقِ من صحَّتِهِ، وإنْ كانَ لا يخلو فيها النقدُ، وهو قليلٌ، لكنَّه ليسَ الأصلَ. وقد يرد في ما رُوِيَ عن العالِمِ المتَّهمِ ما يردُّ هذا الزعمَ؛ كالتُّهمة التي ¬
نُسِبت إلى عكرمة (ت:105)، حتى شنأهُ بها الناس، فلم يشهد جنازته كبير أحدٍ (¬1)، فقد قيل إنه يرى رأيَ الخوارج (¬2). وإذا عرضت هذه التُّهمةَ على ما رواه البخاري (ت:256) عن محمد بن عبد الرحمن الأسدي (¬3)، قال: «قُطعَ على أهلِ المدينة بعثٌ، فاكْتُتِبَتُ فيه، فلقيتُ عكرمةَ مولى ابنِ عباسٍ، فأخبرتُهُ، فنهاني عن ذلك أشدَّ النهي، ثمَّ قال: أخبرني ابنُ عباسٍ أنَّ ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِرون سوادَ المشركينَ على رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، يأتي السَّهمُ فيُرمَى به، فيصيبُ أحدهم، فيقتله، أو يُضرَبَ فيُقتَل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]» (¬4). قال ابن حجر (ت:852): «وفي هذه القصَّةِ دلالةٌ على براءةِ عكرمةَ مما نُسِبَ إليه من رأي الخوارجِ؛ لأنه بالغَ في النَّهي عن قتالِ المسلمينَ، وتكثيرِ سوادِ من يقاتلُهم. وغرضُ عكرمةَ: أنَّ الله ذمَّ من كثَّرَ سوادَ المشركين مع أنهم كانوا لا يريدونَ بقلوبِهم موافقَتَهم، قال: فكذلك أنت لا تكثرْ سوادَ هذا الجيشِ، وإن كنت لا تريد موافقتَهم؛ لأنهم لا يقاتلونَ في سبيلِ الله» (¬5). والفرَّاءُ (ت:207) قد نُسِبَ إلى الاعتزالِ (¬6)، فذكرَه المَرْزُبَانيُّ المعتزليُّ ¬
(ت:384) (¬1) في كتابِه، وقال: «كان يميلُ إلى الاعتزالِ» (¬2). وقال ياقوتُ الحمويُّ (ت:626) (¬3): «وكان الفرَّاءُ فقيهاً، عالماً بالخلافِ وبأيامِ العربِ وأخبارِها وأشعارِها، عارفاً بالطِّبِّ والنجومِ، متكلِّماً يميل إلى الاعتزالِ» (¬4). ويظهرُ أنَّ هذه التُّهمةَ لم تنشأ من فراغٍ؛ لأنَّه جالسَ الخليفةَ العبَّاسيَّ المأمونَ (ت:218) وألَّفَ له (¬5)، وكان المعتزلةُ ندماءَ الخليفةِ، وكانتْ صوْلتُهم وقوَّةُ شوكتِهم في عصرِه، فهل تأثَّرَ بهم؟ قال الجاحظ (ت:255) (¬6): «دخلت بغداد حين قَدِمَها المأمونُ سنة أربعٍ ومائتين، وكان بها الفرَّاء، فاشتهى أن يتعلم الكلام، ولم يكن له طبع فيه» (¬7). ¬
وعندَ تمحيصِ هذا الاتهامِ، تجدُ أنه قال عن نفسِه: «كنت أنا وبشرٌ المريسيُّ (¬1) في بيت واحدٍ عشرين سنةً، ما تعلَّمَ مني شيئاً، ولا تعلَّمتُ منه شيئاً» (¬2). وهذا يعني أنَّه لم يستفِدْ منه في علمِ الكلامِ، ولكنَّ مخالطَةَ القومِ قد يكونُ لها أثرٌ من حيثُ لا يشعرُ المرءُ، فقدْ يقعُ في كلامِه من آرائهِم ما لم يحتسب له، ولا أدركَهُ، ويفسِّرُ هذا ما أوردَه الشَّريفُ المرتضى المعتزليُّ (ت:436) (¬3)، وهو يوجِّه قولَ اللهِ تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] على ما يوافقُ مذهبَ المعتزلةِ، قال: «... أن نجعلَ حرفَ الشرطِ الذي هو «إن» متعلقاً بما يليه، وبما هو متعلقٌ به في الظاهرِ، من غيرِ تقديرِ محذوفٍ، ويكون التقديرُ: ولا تقولن إنكَ تفعلُ إلاَّ ما يريد اللهُ. وهذا الجواب ذكره الفرَّاء (¬4)، وما رأيته إلاَّ له، ومن العجبِ تغلغُلُهُ إلى ¬
مثلِ هذا، مع أنه لم يكنْ متظاهراً بالقولِ بالعدلِ ...» (¬1). وهذا الكلامُ من الفرَّاءِ (ت:207)، لو حُمِلَ على ما قاله الشَّريفُ المرتضى (ت:436)، لما كانَ دليلاً على اعتزالِه، وإنما فيه دليلٌ على تأثُّرِه بالاعتزالِ، وممَّا يمكنُ أن يُستدلَّ به من كتابه (معاني القرآن) على براءتِه من الاعتزالِ ما يأتي: 1 - أنَّه قدْ نصَّ في كتابِه على الردِّ على أهلِ القَدَرِ، فقال: «وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]: إلاَّ ليوحدوني، وهذه خاصة، يقول: وما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلاَّ ليوحدوني. وقال بعضهم: خلقهم ليفعلوا، ففعل بعضهم وترك بعضٌ. وليسَ فيه لأهلِ القَدَرِ حجةٌ» (¬2). أي: وليس في القولِ الثاني حجةٌ لأهلِ القدرِ، لأنَّه قال: ففعل بعضهم وترك بعضٌ، فنسب الفعل إليهم. 2 - ومن ذلك تفسيرِه لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فقد ذكرَ فيها أثراً عن أبي بكر الصِّديق، أنّ الزيادةَ: النَّظرُ إلى وجه الرَّبِّ تباركَ وتعالى (¬3). ولم يعترضْ عليه، والمعتزلةُ ينكرونَ الرُّؤيةَ، ولا يحتجُّونَ بمثلِ هذه الآثارِ. 3 - وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، قال: «... ¬
ويقال: ما كانوا يستطيعونَ السَّمعَ وما كانوا يبصرون؛ أي: أضلَّهم اللهُ عن ذلكَ في اللَّوحِ المحفوظِ» (¬1). وقد حكى نسبةَ الإضلالِ إلى اللهِ سبحانَهُ، والمعتزلةُ يخالفونَ في ذلكَ، ولو كان الفرَّاءُ (ت:207) منهم لما ذكرَ هذا القولَ، أو لَرَدَّ عليه، ويشبهُ هذا ما وردَ عنه في: * قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، قال: «وقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، يقال: بلا إله إلاَّ الله، فهذه في الدنيا، وإذا سئلَ عنها في القبرِ بعدَ موته، قالها إذا كان من أهل السعادةِ، وإذا كانَ من أهل الشَّقاوةِ لم يقلْها، فذلك قوله عزّ وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} عنها؛ أي: عن قولِ لا إله إلا الله، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}؛ أي: لا تُنكرُ له قدرةٌ، ولا يُسألُ عمَّا يفعلُ» (¬2). * وقوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، قال: «يقولُ: ومن يُشْقِهِ اللهُ فما له من مُسْعِدٍ» (¬3). 4 - وفي قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]، ذكرَ أثرينِ في تفسيرِها (¬4)، أحدهما عن ابن عباس (ت:68)، والآخر عن سعيد بن جبير (94)، وهذان الأثران يدلاَّن على وقوعِ البكاءِ حقيقةً (¬5)، وأهلُ الاعتزال لا يقولون بهذا القولِ، بل يحملُون مثلَ هذه الآيةِ على المجازِ (¬6). وهذه النُّصوصُ وغيرها تدلُّ على أنَّ الفراءَ (ت:210) لم يكنْ معتزليَّاً، وإن كانَ وقع منه شيءٌ، فبسببِ قُربِه منهم، ومخالطته لهم، والله أعلمُ. ¬
ثانيا: معاني القرآن، للأخفش
ثانياً مَعَانِي القُرْآنِ لِلاخْفَشِ أبو الحسنِ سعيدُ بنُ مَسْعَدَةَ (ت:215)، نحويُّ بصريٌّ، أخذَ النَّحْوَ عن علماءِ البصرةِ، وقرأه على سيبويه (ت:182)، وقد ألَّفَ الأخفشُ (ت:215) كتاب (معاني القرآن)، كما ألَّفَ في ذلك معاصرُوه، من البصرةِ: محمدُ بنُ المستنيرِ (ت: 206) المعروفُ بـ (قطرب)، ومِنَ الكُوفةِ: أبو الحسنِ عليُ بنُ حمزةَ الكسائي (ت:183)، أبو زكريا يحيى بنُ زيادٍ الفراء (ت:207)، وغيرهم. وقدْ وردتْ روايةٌ في ترجمةِ أبي الحسنِ الأخفشِ (ت:215) تفيدُ أنَّهُ ألَّفَ كتابَه قبلَ الكسائيِّ (ت:183) والفرَّاء (ت:207)، قال الأخفش (ت:215): «... فلمَّا اتَّصَلَتِ الأيامُ بالاجتماعِ، سألني [يعني: الكسائي] أنْ أؤلِّفَ كتاباً في معاني القرآنِ، فألَّفْتُ كتابي في المعاني، فجعلَه إماماً، وعَمِلَ عليه كتاباً في المعاني، وعَمِلَ الفرَّاءُ كتابَه في المعاني عليهما» (¬1). ويُشْعِرُ هذا النَّصُّ أنَّ الأخفشَ (ت:215) قدِ اطَّلَعَ على كتابيْ الكسائيِّ (ت:183) والفراءِ (ت:207)، فظهرتْ له هذه الموازَنَةُ التي ذكرَها. وكتابُ الأخفشِ (ت:215) كتابُ نَحْوٍ، ويبدو أنَّهُ أرادَ إظهارَ مذهبِه النَّحويِّ أكثرَ من إرادتِه بيانَ معاني القرآنِ، ولا يخفى على من يطَّلعُ على ¬
كتابِه أدنى اطِّلاعٍ أنَّه كتابُ نَحْوٍ وصَرْفٍ (¬1)، ولذا تجدُه نَصَّ على بعضِ الأبوابِ النَّحويَّةِ عندَ حديثِه عن بعضِ الآياتِ؛ كبابِ الفاءِ (¬2)، وبابِ الإضافةِ (¬3)، وبابِ الواوِ (¬4)، وبابِ اسمِ الفاعلِ (¬5)، وبابِ إضافةِ أسماءِ الزمانِ إلى الفعلِ (¬6)، وغيرِها. أمَّا المعاني، فلمْ تكنْ في كتابِه كثيرةً، بلْ كانتْ قليلةً جداً بالنَّسبةِ للكتابِ، وقدْ يُصَدِّقُ هذا ما وردَ عنْ تلميذِه أبي حاتم السِّجسْتَانيِّ (ت:255) وغيرِهِ مِنْ أنَّ الأخفشَ (ت:215) كانَ عَالِمَ نَحْوٍ ولم يكنْ عَالِمَ لُغَةٍ (¬7). وقد وردتْ روايةٌ تدلُّ على أنه ألَّفَ في غريبِ القرآنِ، قالَ تلميذُه أبو حاتمٍ السِّجستانيِّ (ت:225): «كانَ الأخفشُ قد أخذَ كتابَ أبي عبيدةَ في القرآنِ (¬8)، فأسقطَ منه شيئاً، وزادَ شيئاً، وأبدلَ منه شيئاً. قال أبو حاتمٍ: فقلتُ له: أيُّ شيءٍ هذا الذي تصنعُ؟! من أعرفُ بالغريبِ، أنت أو أبو عبيدة؟ فقال: أبو عبيدة. ¬
صور التفسير اللغوي عند الأخفش
فقلت له: هذا الذي تصنعُ ليس بشيءٍ. فقال: الكتابُ لمنْ أصلحَهُ، وليسَ لمنْ أفسدَهُ. قال أبو حاتم: فلمْ يُلتَفَت إلى كتابِهِ، وصارَ مُطَّرَحاً» (¬1). وقد وردتْ نسبتُه له في الكتبِ التي اعتمدها الثَّعلبيُّ (ت:427) (¬2) في مقدمةِ تفسيرِه، باسمِ «غريبِ القرآنِ» (¬3)، وهذا يدلُّ على أمرينِ: الأول: أنَّ الأخفشَ (ت:215) له كتابٌ آخرُ غير كتاب «معاني القرآنِ»، وهو في «غريب القرآنِ». والثاني: أنه اعتمدَ في كتابه «غريب القرآنِ» على كتاب «مجازِ القرآنِ» لأبي عبيدةَ (ت:210). وبموازنة كتاب «معاني القرآنِ» بكتابِ «مجازِ القرآنِ»، تلحظُ البونَ الشَّاسعَ بين منهجيهما: فكتابُ معاني القرآنِ نحوٌ وتصريفٌ، وكتابُ مجاز القرآنِ تفسيرُ ألفاظٍ وذكرُ شواهدٍ لها، وليس بينهما أدنى اتفاقٍ، وهذا يدلُّ على أنَّ الكتابَ الذي استفادَ فيه الأخفشُ غيرُ كتابه المعاني. هذا، وقدِ اجتهدتُ أنْ أُخرِجَ صورَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ الموجودةَ في كتاب «معاني القرآنِ»، فظهرَ لي منها مادةٌ قليلةٌ جداً، وسأذكُرها ثَمَّ. أولاً: دَلاَلَةُ الألْفَاظِ: سبقتِ الإشارةُ إلى أنَّ الأخفشَ (ت:215) لم يكنْ عِلمُه باللُّغةِ كعلمِهِ ¬
بالنَّحوِ، وقدْ حصرتُ الألفاظَ التي بيَّنَ دلالاتِها، فبلغتْ سبعينَ لفظاً تقريباً (¬1)، ومن أمثلتِها: 1 - قال: «وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فيقول: عرِّفنا، وأهلُ الحجازِ يقولونَ: هَدَيتُهُ الطريقَ؛ أي: عَرَّفْتُهُ، وكذَلِكَ: هَدَيتُهُ البيتَ؛ في لُغتِهم. وغَيرهم يُلحِقُ فيه: إلى» (¬2). 2 - وقال: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]؛ لأنه من آدَهُ يَؤُودُهُ أَوْداً، وتفسيرُه: لا يُثْقِلُهُ» (¬3). 3 - وقال: «قال: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]، يقولُ: الطريقَ هدَاه؛ أي: هداهُ الطريقَ» (¬4). ويلاحظ هاهنا أنه لم يتعدَّ المدلولَ اللُّغويَّ إلى المدلولِ السِّياقيِّ، فلم يُبَيِّنِ الطَّريقَ المرادَ بالآيةِ. أمَّا استشهادُه لتفسيرِ الألفاظِ فإنه كان قليلاً جداً، ومن ذلك: 1 - قال: «{سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32]، فنصبَ {سُبْحَانَكَ}؛ لأنه أرادَ: نُسَبِّحُكَ، جعلَه بدلاً منَ اللفظِ بالفعلِ؛ كأنَّه قالَ: نُسَبِّحُكَ بِسُبْحَانَكَ، ولكنَّ سبحانَ مصدرٌ لا ينصرفُ. وسبحانَ في التَّفسيرِ: براءةٌ وتنْزيهٌ، قالَ الشَّاعرُ (¬5): ¬
أَقُولُ لَمَّا جَاءنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مَنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ يقولُ: براءةً منه» (¬1). 2 - وقال: «وليسَ قولُه: {يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245] لحاجةٍ بالله، ولكنَّ هذا كقولِ العربِ: لكَ عندي قرضُ صدقٍ، وقرضُ سوءٍ؛ لأمر تأتي فيه مسرَّتُه أو مساءته، قال الشاعر (¬2): لاَ تَخْلِطَنَّ خَبِيثَاتٍ بِطَيِّبَةٍ ... واخْلَعْ ثِيَابَكَ مِنْهَا وَانْجُ عُرْيَاناً كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرَضَهُ حَسَناً ... أَوْ سَيِّئاً أَوْ مَدِيناً مِثْلَ مَا دَانَا فالقرضُ: ما سلفَ من صالحٍ أو منْ سيئ» (¬3). ثانياً: تَوْجِيهُ القِرَاءَاتِ: القراءاتُ في (معاني القرآن) للأخفشِ (ت:215) كثيرةٌ جداً، غيرَ أنَّ غالِبَهَا يتعلَّقُ بالخلافِ النَّحْوِيِّ، ثُمَّ التَّصريفِ (¬4)، وكان ما يتعلقُ منها بالمعاني قليلاً، وسأذكرُ من توجيهه لهذه القراءاتِ أمثلةً: 1 - قال: «وقالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]، وقالَ بعضُهم: «يُغَلَّ» (¬5)، وكلٌ صواب ـ والله أعلم ـ لأنَّ المعنى: أن يَخُونَ، أو يُخَانَ» (¬6). 2 - وقال: «... ثُمَّ استأنف، فقال: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32]؛ ¬
أي: كالقصور، وقالَ بعضُهم: «كَالْقَصَرِ» (¬1)؛ أي: كأعناقِ الإبلِ» (¬2). ثالثاً: الأُسْلُوبُ العَرَبِيُّ فِي الخِطَابِ القُرْآنِيِّ: لقدْ كانتِ الأساليبُ العربيَّةُ في الخطابِ القرآنيِّ في كتابِ (معاني القرآن) قليلةً، كغيرها ممَّا يتعلقُ بمعاني القرآنِ، وسأذكرُ بعضَ الأمثلةِ التي أوردَها في كتابِه، وهي: 1 - التَّقْدِيمُ وَالتَّاخِيرُ: الأصلُ في تفسير الكلامِ أنْ يُفسَّر على ترتيبهِ في النَّظْمِ، غيرَ أنَّ هذا الأصلَ قدْ يُتجاوزُ، فيقدَّمُ ما حقُّهُ التأخيرُ في ترتيبِ النَّظْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ قدْ يكونُ لهذا التَّقديمِ والتَّأخيرِ أثرٌ في اختلافِ المعنى، ومنَ الأمثلةِ التي ذكرَها في موضوعِ التَّقديمِ والتَّأخيرِ ولها أثرٌ في المعنى: ما وردَ في قولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43، 44]، حيث قال: «... والمعنى ـ والله أعلم ـ: وما أرسلنا منْ قبلِكَ إلاَّ رجالاً يُوحَى (¬3) إليهم بالبيناتِ والزُّبرِ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (¬4). ¬
فجعل {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} يتعلقُ بقوله: {نُوحِي إِلَيْهِمْ}. ولو كان الكلام على ترتيبه في النظم، لكان قوله: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} متعلقاً بـ {لاَ تَعْلَمُونَ}، ويكون المعنى: إنْ كنتمْ لا تعلمونَ بالبيناتِ والزبرِ التي نزلتْ على رسولي فاسألوا أهلَ الذكرِ يخبروكم عنْ صِحَّتِهَا، وواضح هاهنا أنَّ بينَ المعنيينِ فرقاً، والله أعلم. 2 - أُسْلُوبُ الحَذْفِ وَالاخْتِصَارِ: ومنْ ذلكَ أن تَحْذِفَ المضافَ وتقيمَ المضافَ إليه مقامَه، وتجعلَ الفعلَ له (¬1). وقدْ ذكرَ الأخفشُ (ت:215) من ذلك قولَه تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59]، قال: «يعني: أهلَها؛ كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. ولم يَجِئْ بلفظِ القُرَى، ولكنْ أجرى اللَّفظَ على القومِ، وأجرى اللَّفظ في القريةِ عليها إلى قوله: {الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]. وقال: {أَهْلَكْنَاهَا}، ولم يقل: أهلكناهم، حملَه على القومِ؛ كما قال: وجاءت تميم، وجعلَ الفعلَ لبني تميمٍ، ولم يجعلْهُ لتميمٍ، ولو فعلَ ذلك لقالَ: جاءَ تميمٌ، وهذا لا يحسنُ في نحوِ هذا؛ لأنَّه قدْ أرادَ غيرَ تميمٍ في نحوِ هذا الموضعِ، فجعلَه اسماً، ولم يحتملْ إذا اعْتَلَّ أنْ يحذفَ ما قبلَه كلَّه، يعني: التاءَ من (جاءتْ) مع (بني) وتركَ الفعلَ على ما كان؛ ليدلَّ على أنَّه قدْ حذف شيئاً قبلَ تميمٍ» (¬2). وهذا يعني أنَّ العذابَ نزلَ على القومِ لا على مجردِ المساكنِ، وأسلوبَ إيقاع الفعلِ على المضافِ إليه، وإرادةُ المضافِ، معروفٌ في لغةِ العربِ. ¬
أثر المعتقد على التفسير اللغوي عند الأخفش
أثرُ المعتقدِ على التَّفسير اللُّغويِّ عند الأخفشِ: لقد كان الأخفشُ (ت:215) ينسب إلى القولِ بالقَدَرِ، وهو مذهب المعتزلة، قال تلميذه المازنيُ (ت:248) (¬1): «وكان الأخفشُ أعلمَ الناسِ بالكلامِ، وأحذقَهم بالجدلِ، وكانَ غلامَ أبي شِمْرٍ (¬2) وعلى مذهبِهِ» (¬3). وهذا المعتقدُ الذي نُسِبَ إليه كانَ ظاهراً في كتابِه في عدَّةِ مواضعَ (¬4)، وقد كانَ له أثرٌ على التَّفسيرِ اللُّغويِّ عندَه. ومن الأمثلةِ التي ظهرَ فيها أثرُ الاعتزالِ عليه في دلالةِ اللفظِ: 1 - في قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، قال: «يعني ـ والله أعلم ـ بالنظرِ إلى اللهِ: إلى ما يأتيهم منْ نِعَمِهِ ورزقِهِ، وقد تقولُ: واللهِ ما أنظرُ إلا إلى اللهِ وإليك؛ أي: أنتظرُ ما عندَ اللهِ، وما عندك» (¬5). إن الأخفش (ت:215) حَرَّفَ في معنى (نظر إلى) التي لا تكون إلا بالعينِ إلى معنى الانتظارِ، وسببُ ذلكَ اعتقادُه بأنَّ الباريَ لا يُرَى، وقدْ صَرَّحَ بهذا في موضعٍ آخرَ، فقال: «وقولُه: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، ¬
يقول: تَنْظُرُ في رزقِها وما يأتيها من اللهِ؛ كما يقولُ الرجلُ: ما أنظرُ إلا إليك. ولو كان نَظَرَ البصرِ كما يقول بعضُ النَّاسِ، كانَ في الآية التي بعدها بيانُ ذلكَ، ألا ترى أنَّه قالَ: {وَوَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ *تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24، 25]، ولم يقلْ: ووجوهٌ لا تنظرُ ولا تَرَى. وقولُه: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] يدلّ الظَّنُّ هاهنا على أنَّ النظرَ ثَمَّ: الثقةُ بالله وحُسْنُ اليقينِ، ولا يدلُّ على ما قالوا. وكيفَ يكونُ ذلكَ، واللهُ يقولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]» (¬1). والمقصود هاهنا أن مذهبَه الاعتزاليَّ قدْ أثَّرَ في تفسيره لمعنى النَّظَرِ إلى الباري سبحانه، وجاءَ بما يخالفُ اللُّغةَ. وقد ردَّ الأزهريُّ (ت:370) ما فسَّرَ به الأخفشُ (ت:215)، فقال: «ومنْ قالَ: إنَّ معنى قولِه: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]؛ بمعنى: مُنْتَظِرَة، فقد أخطأَ؛ لأنَّ العربَ لا تقولُ: نَظَرْتُ إلى الشيءِ؛ بمعنى: انْتَظَرْتُهُ، إنما تقولُ: نَظَرْتُ فلاناً؛ أي: انْتَظَرْتُهُ، ومنه قولُ الحطيئةِ (¬2): وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أَبْنَاءَ صَادِرَةٍ ... لِلْوِرْدِ طَالَ بِهَا حَوْزِي وَتَنْسَاسِي فإذا قلتَ: نَظَرْتُ إِليه، لَمْ يكنْ إلاَّ بالعينِ. وإذا قلتَ: نَظَرْتُ في الأمرِ، احتملَ أنْ يكونَ تَفَكُّراً وتَدَبُّراً بالقلبِ» (¬3). 2 - وقال الأخفش (ت:215): «... وكذلكَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 63]، كما تقولُ: إنَّ لفلانٍ عندي يداً؛ أي: نِعْمَةً. وقال: {أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45]؛ أي: أولي النِّعَمِ، وقدْ تكونُ اليدُ في وجوهٍ، تقول: بين يدي الدارِ؛ يعني: قُدَّامَهَا، وليستْ للدارِ يدانِ» (¬4). ¬
إنَّ الأخفشَ (ت:215) صرفَ مدلولَ اليَدِ في هذه الآيةِ إلى أحدِ المحتملاتِ اللغويةِ التي تناسبُ معتقدَهُ في نفي الصفةِ عنِ اللهِ، ولمْ يراعِ السِّياقَ في تفسيرِهِ هذا؛ لأنَّ السِّياقَ على تفسيرِهِ: بلْ نعمتاه مبسوطتانِ، والنِّعْمَةُ لا تُوصَفُ بالغَلِّ كي يقال: إنها مبسوطةٌ، وإنما دعاه إلى ذلك اعتزاليَّتُه في فَهْمِ الصِّفاتِ، فتركَ دلالةَ ظاهر معنى اللَّفظ، ودلالة السِّياقِ التي تدلُّ على المحتملِ المرادِ بهذه اللَّفظةِ في هذا النَّصِّ، وهذا ديدنُ أهلِ البدعِ في مثلِ هذه الألفاظِ المجرَّدَةِ التي يكون لها أكثر من مدلول، فيتركون ما يدلُّ عليه السياق، ويذهبون باللفظ إلى ما يناسب معتقدهم، وقد أشارَ إلى ذلك سعيدُ بنُ عثمانَ الدَّارميُّ (ت:282) (¬1) في كلامٍ نَفِيسٍ؛ فقالَ: «... فإذا ادَّعَيتَ أنَّ اليدَ قدْ عُرِفَتْ في كلامِ العربِ أنها نعمة، وقوة. قلنا لكَ: أجلْ، ولسنا بتفسيرِها منك بأجهلْ، غيرَ أنَّ تفسيرَ ذلك يستبينُ في سياقِ كلامِ المتكلمِ حتى لا يُحتَاجُ له من مثلك (¬2) إلى تفسيرٍ. إذا قالَ الرجلُ: لفلانٍ عندي يدٌ أكافئه عليها، عَلِمَ كلُّ عالمٍ بالكلامِ أنَّ يدَ فلانٍ ليست بائنةً منه موضوعةً عندَ المتكلمِ، وإنما يرادُ بها النعمةُ التي يَشْكُرُ عليها. وكذلك إذا قالَ: فلانٌ لي يدٌ، أو عَضُدٌ، أو ناصرٌ، علمنا أنَّ فلاناً لا يمكنُه أنْ يكونَ نَفْسَ يَدِهِ: عضوِهِ، ولا عَضُدِهِ، فإنما عنى به النُّصْرَةَ والمعونَة والتَّقْوِيَةَ. فإذا قالَ: ضربني فلانٌ بيدِهِ، وأعطاني الشيءَ بيدِهِ، وكتبَ لي بيدِهِ. استحالَ أنْ يُقالَ: ضربني بنعمته، وعَلِمَ كُلُّ عالِمٍ بالكلامِ أنها اليَدُ التي بها يضربُ، وبها يكتبُ وبها يعطي، لا النعمة ...» (¬3). ¬
ثالثا: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج
ثالثاً مَعَانِي القُرْآنِ وَإعْرَابُهُ للزَّجَّاجِ بدأ أبو إسحاقَ الزَّجَّاجُ (ت:311)، إملاء كتابه في صفر، سنة خمسٍ وثمانينَ ومائتين، وأتمَّه في شهرِ ربيعٍ الأولِ، سنة إحدى وثلاثمائة (¬1). ولقدْ كانَ الزَّجَّاجُ (ت:311) نحويًّا لغويًّا بصريَّ المذهبِ، فكتبَ كتابه في معاني القرآنِ وإعرابِه، وقال في أوَّلِه: «هذا كتابٌ مختصرٌ في إعرابِ القرآنِ ومعانيهِ» (¬2). وقالَ في موطنٍ من كتابِه: «وهذا البابُ فيه صعوبةٌ، إلاَّ أنَّ كتابَنا هذا يتضمَّنُ شرحَ الإعرابِ والمعاني، فلا بدَّ من استقصائِها على حسبِ ما يُعلمُ» (¬3). وهذا يعني أنَّه سيتعرَّضُ لعلمَي المعاني والإعرابِ كسابقَيه، وقدْ كانتْ أصولُه في الإعرابِ على مذهبِ البصريِّينَ، حتى إنَّه شدَّدَ في نقدِه الكوفيِّينَ، فقال ـ عند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]ـ: «و {ذَلِكَ}: الكافُ فيه للمخاطبةِ، واللام في {ذَلِكَ} كُسِرَتْ لالتقاءِ الساكنينِ، ولم يذكرِ الكوفيونَ كَسْرَ هذه اللامِ في شيءٍ منْ كتبِهم ولا عرفوه، وهذه منَ الأشياءِ التي ينبغي أنْ يتكلَّمُوا فيها، إذ كان {ذَلِكَ} إشارةٌ إلى كُلِّ ¬
صور التفسير اللغوي عند الزجاج
متراخٍ عنك، إلاَّ أنَّ تركَهُم الكلامَ أَعْوَدُ عليهم منْ تَكَلُّمِهِم، إذْ كانَ أوَّلَ ما نطقوا به في «فَعِلَ» قد نقضَ سائرَ العربيةِ، وقد بيَّنا ذلكَ قديماً» (¬1). وكانَ علمُ الإعرابِ في كتابِه كثيراً، كما كان عند الفراء (ت:207) والأخفش (ت:215)، غير أنَّه أكثرَ من التفسيرِ وبيانِ المعاني، فكان بذلك متقدِّماً عليهما. وهناك نصٌّ يشيرُ إلى أنَّ الإعرابَ هو المقصودُ الأوَّلُ الذي أرادهُ بكتابِه هذا، فقد قالَ: «وإنَّما نذكرُ مع الإعراب المعنى والتفسيرَ؛ لأنَّ كتابَ اللهِ ينبغي أنْ يتبيَّنَ، ألا ترى أنَّ الله يقولُ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82، محمد: 24]، فحُضِضْنا على التَّدبرِ والنَّظَرِ» (¬2)، فجعل التَّفسيرَ والمعنى مع الإعرابِ على سبيلِ التَّبعيَّةِ في البحثِ، لا الأصل. ويمكنُ لمطَّلعٍ على الكتابِ أنْ يرى اهتمامه الفائقَ بالإعرابِ منْ خلالِ سورةِ الفاتحةِ وأوائلِ سورةِ البقرةِ. ولا يختلفُ الزَّجَّاجُ (ت:311) في ذكرِهِ لمسائلِ اللُّغةِ عنِ الذينَ سبقوه من اللُّغويَّينَ، وسأذكرُ بعضَ الصُّورِ اللُّغويَّةِ التي ذكرَهَا: أوَّلاً: بَيَانُ دَلاَلَةِ الأَلْفَاظِ: كانَ الزَّجَّاجُ (ت:311) يحرصُ على بيانِ دلالةِ الألفاظ وتحريرِ معناها في لغةِ العربِ وبيانِ أصلِ اشتقاقِها، كما كان يستشهدُ لبعضِها من لغةِ العربِ ومن أمثلةِ الألفاظِ التي بيَّنَهَا بدونِ استشهادٍ: 1 - في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]: «قالَ أبو عبيدةَ: معناه: «لأهلكَكُم» (¬3). وحقيقتُه: ولو شاءَ اللهُ لَكَلَّفَكُمْ ما يَشْتَدُّ ¬
عليكم فَتَعْنَتُونَ. وأصلُ العنتِ في اللغةِ مِنْ قولِهم: عَنِتَ البَعِيرُ: إذا حَدَثَ في رجلِه كَسْرٌ بعد جَبْرٍ لا يمكنه معه تصريفُها، ويقالُ: أَكَمَةٌ عَنُوتٌ: إذا كانَ لا يمكنُ أن يُجَازيَهَا (¬1) إلاَّ بمشقةٍ عنيفةٍ» (¬2). 2 - وفي قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، قال: «النقيبُ في اللغةِ كالأميرِ والكفيلِ، ونحنُ نبينُ حقيقتَه واشتقاقَه إنْ شاءَ اللهُ. يقالُ: نَقَبَ الرَّجلُ على القوم يَنْقُبُ: إذا صارَ نَقِيباً عليهم، وما كانَ نقِيباً، ولقد نَقُبَ، وصناعته: النَّقَابَةُ، وكذلكَ: عَرَفَ عليهم: إذا صارَ عَرِيفاً، ولقد عَرُفَ. ويقالُ لأَوَّلِ ما يبدو من الجَرَبِ (¬3): النُّقْبَةُ، ويُجمعُ: النُّقُبُ، قال الشاعر (¬4): مُتَبَذِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الهِناءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ والنُّقْبَةُ، وجمعُها نُقُبٌ: سراويلُ تلبسُها المرأةُ بلا رجلين. ويقالُ: فلانَةٌ حسنَةُ النُّقْبَةِ والنِّقَابِ. ويقال: في فلانٍ مَنَاقِبُ جميلةٌ، وهو حسنُ النَّقِيبَةِ؛ أي: حسنُ الخَلِيقَةِ. ويقالُ: كَلْبٌ نَقِيبٌ: وهو أنْ تُنْقَبَ حَنْجَرَةُ الكلبِ لئلاَّ يطرقهم ضيفٌ بسماعِ نُبَاحِ الكلابِ. ¬
وهذا البابُ كلُّه يجمعُه التَّأثيرُ الذي له عُمْقٌ ودُخُولٌ، فمنْ ذلكَ: نَقَبْتُ الحائطَ؛ أي: بَلَغْتُ في الثَّقْبِ آخرَهُ، ومنْ ذلك: النُّقْبَةُ منَ الجربِ؛ لأنَّه دَاءٌ شديدُ الدُّخُولِ، والدليلُ على ذلكَ: أنَّ البعيرَ يُطْلَى بالهِنَاءِ، فيوجدُ طعمُ القَطِرَانِ في لحمِه. والنُّقْبَةُ: هذه السراويلُ التي لا رجلينَ لها، قد بُولِغ في فتحِها ونقبِها. ونِقَابُ المرأةِ: وهو ما ظهرَ من تَلَثُّمِها من العينين والمَحَاجِرِ. والنَّقْبُ: الطريقُ في الجبلِ. وإنَّما قيل: نَقِيبٌ؛ لأنَّه يعلمُ دخيلةَ القومِ ويعرفُ مَنَاقِبَهُمْ، وهو الطريقُ إلى معرفةِ أمورِهِم» (¬1). 3 - وفي قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94]: «أي: في الجحيمِ، ومعنى {فَكُبْكِبُوا}: طُرِحَ بعضُهم على بعضٍ. وقال أهلُ اللُّغةِ: معناه: هُوِّرُوا (¬2). وحقيقةُ ذلكَ في اللُّغةِ تكريرُ الانكبابِ؛ كأنَّه إذا أُلقِيَ، يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مَرَّةٍ حتى يستقرَّ فيها» (¬3). أمَّا جانب الاستشهاد، فقدْ بلغتِ الشواهدُ الشعريةُ مع عَدِّ المكرر منها في الاستشهادِ في كتابِ (معاني القرآن وإعرابه) قرابةَ سِتَّةٍ وتسعينَ وخمسمائةِ شاهدٍ شعريٍّ، وكثيرٌ من هذه الشَّواهدِ في مسائلِ النَّحْوِ والصَّرْفِ، وفيها ما هو في بيانِ دلالةِ الألفاظِ، إلاَّ أنَّه الأقلُّ، كما هي العادةُ في الكتبِ التي تجمعُ بين الإعرابِ والمعاني، ومنْ أمثلةِ هذه الشَّواهدِ الشِّعريةِ: 1 - في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]، قال: «ومعنى {يُوفِضُونَ}: يُسْرِعُونَ، قال الشاعر (¬4): ¬
لأنْعِتَنْ نَعَامَةً مِيفَاضا ... خَرْجَاءَ تَعْدُو تَطْلُبُ الأضَاضا المِيفَاضُ: السَّرِيعَةُ. وخَرْجَاءُ: ذَاتُ لونينِ: سوادٍ وبياضٍ. ومعنى الأَضَاضِ: الموضعُ الذي يُلجَأُ إليه، يقال: أضَّتْنِي إليك الحاجةُ أَضَاضاً» (¬1). 2 - في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37]، قالَ: «والمحرابُ: أشرفُ المجالسِ، والمُقَدَّمُ فيها. وقدْ قيلَ أنَّ مساجدَهم كانت تُسمَّى المحاريبَ. والمحرابُ في اللغةِ: الموضعُ العالي الشريفُ، قال الشاعر (¬2): رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا جِئْتُهَا ... لَمْ أَلْقَهَا أوْ أَرْتَقِي سُلَّمَا ومنه قولُه تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]» (¬3). 3 - وفي تفسيرِ قوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]، قال: «ومعنى {يَخْصِفَانِ}: يجعلانِ ورقةً على ورقةٍ، ومنه قيلَ للخَصَّافِ الذي يرقعُ النَّعْلَ: هو يَخْصِفُ، قال الشاعر (¬4): ¬
... ... أوْ يَخْصِفُ النَّعْلَ لَهْفِي أيَّةً صَنَعَا ويجوزُ: يَخْصِفَانِ ويَخِصِّفَانِ، والأصلُ الكسرُ في الخاءِ، وفتحُها وتشديدُ الصادِ، ويكون المعنى: يختصفان» (¬1). ثانياً: المُحْتَمَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ: إذا احتملَ اللَّفظُ أكثرَ منْ دلالةٍ بسببِ الاشتراكِ أو غيرِه، فإنَّه يبيِّنُ ذلك، ومن ذلك: 1 - تفسيره لقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153]، قال: «أي: مِمَّن له سَحْرٌ، والسَّحْرُ: الرِئةُ؛ أي: إنما أنت بشرٌ مثلنا. وجائزٌ أن يكون من المسحَّرين: من المُفَعَّلِينَ، من السِّحْرِ؛ أي: مِمَّنْ قد سُحِرَ مرَّةً بعد مرَّةٍ» (¬2). 2 - في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، قال: «فمن قرأ {تَوَلَّيْتُمْ} بالفتح، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى: لعلكمْ إنْ تولَّيتم عن ما جاءكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنْ تعودوا إلى أمرِ الجاهليةِ، فَتفْسِدُوا، ويَقْتُلُ بعضكمْ بعضاً. {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}؛ أي: تَئدُوا البناتِ؛ أي: تدفنونهنَّ أحياء. ويجوزُ أنْ يكونَ: فِعلُكمْ إذا تولَّيتمْ الأمرَ أنْ تُفسِدوا في الأرضِ وتقطعوا أرحامَكم، ويقتُلُ قريشٌ بني هاشمٍ، وبنو هاشمٍ قريشاً، وكذلك إن توليتم» (¬3). 3 - وفي قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، قال: «قال أهل اللغة وأكثرُ أهلِ التفسيرِ: النجمُ: كلُّ ما نبتَ على وجهِ الأرضِ ممَّا ليسَ لهُ ساقٌ. والشجرُ: كلُّ ما كانَ لهُ ساقٌ. ¬
ومعنى سجودِهما: دورانُ الظِّلِّ معهما؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48]. وقدْ قيلَ: إنَّ النجمَ أيضاً يرادُ به النجومُ، وهذا جائزٌ أنْ يكونَ؛ لأنَّ الله عزّ وجل قدْ أعلمَنَا أنَّ النجمَ يسجدُ، فقالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج: 18]. ويجوزُ أنْ يكونَ النَّجمُ ههنا، يعني به ما نبت على وجهِ الأرضِ، وما طلعَ من نجومِ السماءِ، يقالُ لكلِّ ما طلعَ: قدْ نَجَمَ» (¬1). ثَالِثاً: تَوْجِيهُ القِرَاءاتِ: إذا اختلفَ مدلولُ اللفظِ بسببِ اختلافِ القراءةِ، فإنَّه يبينُ هذا الاختلافَ، ومن ذلكَ تفسيرُه لقولِه تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137]، قال: «ويُقرأ: «خَلْقَ»، فمن قرأ «خُلُقَ»: بضمِّ الخاءِ، فمعناه: عادةُ الأوَّلينَ. ومن قرأ «خَلْقُ» بفتحِ الخاءِ، فمعناه: اختلاقُهم وكَذِبُهم (¬2). وفي {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} وجهٌ آخرُ؛ أي: خُلِقْنَا كما خُلِقَ منْ كانَ قَبْلَنَا، نَحْيَا كما حَيَوا، ونموت كما ماتوا ولا نُبْعَثُ؛ لأنهم أنكروا البعثَ» (¬3). 2 - وقال: «وقولُه عزّ وجل: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12] و «أفَتُمَارُونَهُ»، وقُرِئت بالوجهين جميعاً (¬4). ¬
فمن قرأ: «أَفَتَمْرُونَهُ»، فالمعنى: أفتجحدونه. ومن قرأ: «أَفَتُمَارُونَهُ»، فمعناه: أتجادلونه في أنه رأى الله عزّ وجل بقلبه، وأنه رأى الكبرى من آيات ربه» (¬1). 3 - وفي قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، قال: «{وَمَا هُوَ عَلَى الغَيبِ بِظَنِينٍ}، ويُقرأ: «بِضَنِينٍ» (¬2). فمن قرأ: «بظنِينٍ»، فمعناه: ما هو على الغيبِ بمتَّهمٍ، وهو الثقةُ فيما أدَّاهُ عن اللهِ عزّ وجل، يقالُ: ظَنَنْتُ زيداً في معنى: اتَّهمتُ زيداً. ومن قرأ: «بِضَنِينٍ»، فمعناه: ما هو على الغيبِ ببخيلٍ؛ أي: هو صلّى الله عليه وسلّم يؤدِّي عن الله، ويعلِّمُ كتاب الله» (¬3). رَابِعاً: بَيَانُ الأُسْلُوبِ العَرَبي: مما كانت كتب معاني القرآن تحرص عليه وتورده: الأسلوبُ العربيُّ الذي نزل به القرآن، وقد بين الزَّجَّاج (ت:311) كغيره ممن كتب في هذا العلم بعضاً من الأساليب التي نزل بها القرآن موافقاً لأساليب العرب، ومن ذلك: 1 - في قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، قال: «وقال: {خَاضِعِينَ}، وذَكَّرَ الأعناقَ؛ لأنَّ خضوعَ الأعناقِ هو خضوعُ أصحابِ الأعناقِ، لَمَّا لم يكنِ الخضوعُ إلاَّ لخضوعِ الأعناقِ (¬4) جازَ أن يُعبِّرَ (¬5) عن ¬
المضافِ إليه، كما قالَ الشاعرُ (¬1): رَأتْ مَرَّ السِّنِين أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السَّرَارُ مِنَ الهِلالِ لمَّا كانتِ السِّنُونُ لا تكونُ إلاَّ بِمَرٍّ، أخبرَ عن السِّنِينِ، وإنْ كانَ أضافَ إليها المُرُورَ ...» (¬2). 2 - وفي قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] قال: «المعنى: كان ما بينه وبينَ رسولِ اللهِ مقدارَ قوسينِ مِنَ القَسِيِّ العربيَّةِ أو أقربَ. وهذا الموضعُ يحتاجُ إلى شرحٍ؛ لأنَّ القائلَ قد يقولُ: ليسَ تخلو «أو» منْ أنْ تكونَ للشَّكِّ أوْ لغيرِ الشَّكِّ، فإنْ كانتْ للشَّكِّ، فمُحَالٌ أنْ يكونَ موضعَ شكٍّ. وإنْ كانَ معناها: بلْ أدنى، بلْ أقرب، فما كانتِ الحاجةُ إلى أنْ يقولَ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9]، كانَ ينبغي أنْ يكونَ: كانَ أدنى منْ قابِ قوسينِ؟ والجوابُ في هذا ـ واللهُ أعلمُ ـ: أنَّ العبادَ خُوطبوا على لغتِهم ومقدارِ فهمِهم، وقيلَ لهم في هذا ما يقالُ للذي يَحْرِزُ، فالمعنى: فكانَ على ما تُقدِّرونَه أنتم، قَدْرَ قوسينِ أو أقلَّ منْ ذلكَ، كما تقولُ في الذي تُقَدِّرُهُ: هذا قَدْرُ رمحينِ أو أنقصُ من رمحينِ أو أرجَحُ، وقد مَرَّ مثل هذا (¬3) في قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]» (¬4). ¬
أثر المعتقد على التفسير اللغوي عند الزجاج
أثر المعتقد على التفسير اللُّغوي عند الزَّجَّاج: لقد وصِفَ الزَّجَّاجُ (ت:311) بأنَّه من أهلِ الفضلِ والدينِ، وأنَّه كانَ حسنَ الاعتقادِ، جميلَ المذهبِ (¬1). ولما حضرتْهُ الوفاةُ، كانَ آخرَ ما سُمِعَ منه: «اللَّهُمَّ احشرني على مذهبِ أحمد بنِ حنبلٍ» (¬2)، وقد كانَ روى عن ابنِ أحمدَ؛ أعني: عبدَ اللهِ، شيئاً من كُتبِ والدِه، منها كتاب التَّفسير، للإمامِ أحمدَ (¬3)، ومن كانَ على هذا الوصفِ فإنَّ في هذا دلالةً على حُسنِ اعتقادِه، واللهُ أعلمُ. غيرَ أنَّكَ سَتَجِدُ له في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]، قولَه: «أي: لو شاء لأنزل آيةً تضطرُّ الخلقَ إلى الإيمانِ به، لكنَّه عزّ وجل يهدي من يشاءُ، ويدعو إلى صراطٍ مستقيمٍ» (¬4). قال ابن عطية (ت:542): «معناه: «لخلقَ الهدايةَ في قلوبِ جميعِكم، ولم يَضِلَّ أحدٌ. وقال الزجاجُ: معناه: لو شاء لعرضَ عليكم آيةً تضطركم إلى الإيمانِ والاهتداء. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قولُ سوءٍ لأهلِ البدع الذين يرونَ الله لا يخلقُ أفعالَ العبادِ، لم يحصِّلْه الزَّجَّاج، ووقع فيه رحمة اللهِ من غيرِ قصدٍ» (¬5). وقال أبو حيان الأندلسيُّ (ت:745) ـ معلقاً على هذا ـ: «ولم يعرف ابنُ ¬
عطيةَ أنَّ الزَّجَّاجَ معتزليٌّ، فلذلك تأوَّل أنه لم يحصِّلْه، وأنه وقعَ فيه من غيرِ قصدٍ» (¬1). فهلْ صحيحٌ أنَّ الزَّجَّاجَ (ت:311) كانَ معتزليًّا؟ لا يظهرُ أنَّ الزَّجَّاجَ (ت:311) كانَ معتزليًّا أبداً، ولا أدري من أينَ أخذَ أبو حيَّانٍ (ت:745) عليه هذا المعتقدَ. ولقد تتبَّعتُ بعض المسائلِ التي للمعتزلةِ فيها قولٌ واضحٌ؛ كمسألةِ الرُّؤيةِ والكلامِ الإلهيِّ والنَّظرِ إلى وجه الباري ـ لا حرَمَنا الله منها ـ والاستواءِ، فألفيتُه يقولُ بقولِ أهلِ السُّنَّةِ صراحةً، مما يدلُّ على أنَّ وقوعَه في هذا التَّفسيرِ الذي انتقدَه عليه ابن عطيَّةَ (ت:542) كان من غيرِ قصدٍ، وإليكَ هذه المواطنُ: * قال: «وقالوا في معنى {اسْتَوَى}: استولى ـ والله أعلم ـ، والذي يدل عليه استوى في اللغة على ما فعله من معنى الاستواء» (¬2). * وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]: كَلَّمَ اللهُ موسى تكليماً، خَصَّهُ اللهُ أنَّه لم يكنْ بينه وبين اللهِ ـ جلَّ ثناؤه ـ وفيما (¬3) سَمِعَ أَحَدٌ، ولا مَلكٌ أسمعَهُ اللهُ كلامَه، فلما سَمِعَ الكلامَ، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؛ أي: قد خاطبتني من حيثُ لا أراك، والمعنى: أرني نفسك. وقوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ}: مجزوم، جواب الأمرِ. {قَالَ لَنْ تَرَانِي}: ولن نفي لما يُستقبل. {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}؛ أي: ظهرَ وبانَ» (¬4). ¬
* وقال: «قوله: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]: نُضِّرتْ بنعيمِ الجنَّةِ، والنَّظرِ إلى ربِّها، قال الله عزّ وجل: {تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24]» (¬1). * وقال: «وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]؛ الحسنى: الجنَّةُ، و «زيادة» في التَّفسيرِ: النَّظرُ إلى وجه اللهِ ـ جلَّ وعزَّ ـ. ويجوزُ أن تكونَ تضعيفَ الحسناتِ؛ لأنه قال جلَّ وعزَّ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. والقول في النَّظرِ إلى وجهِ اللهِ كثيرٌ في التَّفسيرِ، وهو مرويٌّ بالأسانيدِ الصِّحاحِ، لا يُشكُّ في ذلكَ» (¬2). فهذه النُّقولُ تُظهِرُ بُعْدَه عن المعتزلةِ في أخصِّ المسائلِ التي اشتهروا بالقول بها، ولو تتبَّعتَ المسائلَ الأخرى التي للمعتزلةِ فيها رأيٌ، لوجدته يخالفُهم فيها (¬3). كما أنَّ له كتاباً في تفسيرِ أسماءِ الله الحسنى (¬4)، ولا تجدُ فيه ما يوافقُ مذهب المعتزلةِ، فهو بريءٌ مما وصفه به أبو حيان (ت:745) عفا اللهُ عنه. ومما وردَ له في تفسيرِ صفاتِ اللهِ، تفسيرُ لقوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]، على قراءة ضَمِّ التاء من «عجبتُ» (¬5)، قال: «ومن قرأ {عَجِبْتُ}، فهو إخبارٌ عن اللهِ. ¬
وقدْ أنكرَ قومٌ هذه القراءةَ، وقالوا: الله عزّ وجل لا يعجبُ. وإنكارُهم هذا غلطٌ؛ لأنَّ القراءةَ والرِّوايةَ كثيرةٌ، والعجبُ من اللهِ عزّ وجل خلافُه من الآدميِّينَ؛ كما قال: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30]، و {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، والمكرُ من اللهِ والخداعُ خلافُه من الآدميِّينَ. وأصلُ العُجبِ في اللُّغةِ: أنَّ الإنسانَ إذا رأى ما ينكرُه، ويقلُّ مثلُه، قال: عَجِبْتُ من كذا وكذا، وكذا إذا فعلَ الآدميونَ ما ينكرُه اللهُ، جازَ أن يقولَ فيه: عَجِبْتُ، واللهُ قد علِمَ الشَّيء قبلَ كونِه، ولكن الإنكار إنما يقع والعجب الذي يلزم به الحجةُ عند وقوع الشيء» (¬1). وكذا ما وردَ عنه في تفسيرِ صفةِ العلمِ في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، قال: «وهو عزّ وجل قدْ علِمَ ـ قبلَ خلقِهم ـ المجاهدينَ منهم والصابرينَ، ولكَّنه أرادَ العلمَ الذي يقعُ به الجزاءُ؛ لأنه يجازيهم على أعمالهم، فتأويلُه: حتى يعلمَ المجاهدينَ عِلْمَ شهادةٍ، وقد عَلِمَ عزّ وجل الغيبَ، ولكنَّ الجزاءَ بالثوابِ والعقابِ يقعُ على علمِ الشهادةِ» (¬2). ومن قرأ في كتابِه وجده معظِّماً للسُّنَّةِ ولسلفِ الأمَّةِ، بخلافِ المعتزلةِ الذينَ لا يعرفونَ لهما حقَّهما، ووقوعُه في أفرادٍ من المسائلِ ـ لو كان ـ لا يُخرِجُه عن أهل السُّنَّةِ والجماعةِ، واللهُ الموفقُ. ¬
المصدر الثالث كتب غريب القرآن
المصدر الثالث كتب غريب القرآن وفيه: أولاً: مجاز القرآن، لأبي عبيدة. ثانياً: تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة. ثالثاً: غريب القرآن، لابن عُزيز السجستاني.
الغريب في اللغة
المصدر الثالث كتب غريب القرآن الغريبُ لغةً: قال في كتابِ العينِ: «الغريبُ: الغامضُ من الكلامِ» (¬1). وفي مدلولِ مادةِ (غَرَبَ) معنى البُعْدِ، فالغامضُ مِنَ الكلامِ يكونُ بعيداً عن الفَهْمِ والإدراكِ. الغريبُ اصطلاحاً: ولا يقتصرُ غريبُ القرآنِ على هذا المعنى اللُّغويِّ، بلْ هو أوسعُ منْ ذلكَ في اصطلاح كتبِ غريبِ القرآنِ، إذ يرادُ به: تفسيرُ ألفاظِ القرآنِ تفسيراً لغويًّا، وقد يكونُ هذا التَّفسيرُ مدعوماً بالشَّواهدِ العربيَّةِ، وقد يكونُ مجرَّداً من الشَّواهدِ، وهو الأكثرُ. وألفاظُ القرآنِ على قسمينِ: قسمٍ يعرفُه العامَّةُ والخاصَّةُ؛ كالسماءِ، والأرضِ، والماءِ، وغيرِها من المعاني المتدَاولةِ بين عامَّةِ الناسِ. وقسمٍ يُحتاجُ في بيانِهِ إلى أهلِ العِلْمِ؛ كالدُّلُوكِ، والسَّرْمَدِ، والأغْلاَلِ والضريعِ، وغيرِها. وقدْ تتجاوزُ بعضُ كتبِ غريبِ القرآنِ إلى غيرِ الألفاظِ، فتبيِّنُها؛ ¬
العلاقة بين كتب غريب القرآن ومعاني القرآن
كالمبهماتِ من الأعلامِ في الآي، وأسبابِ النُّزولِ، وغيرِها؛ ومن ذلكَ ما وردَ في تفسيرِ قولِه تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26]، قال ابن قتيبة (ت:276): «يعني: عائشة» (¬1). مسألة: ما العلاقةُ بينَ كتبِ غريبِ القرآنِ وكتبِ معاني القرآنِ؟ يظهرُ مما سبقَ في عرضِ مصطلحِ (معاني القرآنِ) وكتبِه أن (غريبَ القرآنِ) جُزْءٌ من عِلْمِ (معاني القرآنِ) لا ينفكُّ عنه؛ لأنه لا يمكنُ بيانُ المعنى دونَ معرفةِ مدلولِ الألفاظِ، وبهذا تكونُ كتبُ (غريب القرآنِ) ـ وإن استقلَّتْ بالتأليفِ ـ جزءاً من علمِ (معاني القرآنِ) وهي تُعنَى بمدلولِ الألفاظِ خاصةً. وكتب (غريب القرآن) قدْ تجرَّدتْ لتفسيرِ الألفاظِ القرآنيَّةِ تفسيراً لغوياً، إلاَّ قليلاً منها قد تبين بعضَ ما يتعلقُ بالآيةِ من المعاني. أوَّلُ كُتُبِ غَرِيبِ القُرْآنِ: لَمْ يَظهرْ كتابٌ مجردٌ لـ (غريبِ القرآنِ) في عهدِ الصَّحابِة والتَّابعينَ، وإنما ظهرَ في عهدِ أتباعِ التَّابعينَ. وقدْ نَسَبَ بعضُ الباحثينَ الذين ذكروا كتبَ (غريب القرآن) كتابةً في غريبِ القرآنِ لابنِ عباسٍ (ت:68) (¬2)، وهذه الكتاباتُ ليستْ من صُنْعِهِ، بلْ هي من صُنْعِ من جاءَ بعدَه، وهذه الكتاباتُ كما يأتي: 1 - غريبُ القرآنِ، لابنِ عباسٍ (ت:68) بتنقيحِ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ (ت:114) (¬3)، وهو عِدَّةُ ورقاتٍ (من 102أـ 108) من مجموع برقم (2815/ 8) بمكتبةِ عاطفْ أَفَنْدِي بتركيا، وقد كُتِبَتْ في القرنِ الثَّامنِ (¬4). ¬
2 - مسائلُ نافعِ بنِ الأزرقِ (¬1)، وقدْ جاوزتْ هذه المسائلُ المائتين وخمسين مسألةً (¬2)، وقدْ وردتْ منْ طرقٍ غيرِ مَرْضِيَّةٍ (¬3)، فضلاً عما يدورُ حولَ كثرتِها من الشَّكِّ. ¬
ولذا فإنَّ هذه المسائلَ، وإنْ استُفِيدَ منها في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، لا يَصِحُّ نسبتُها إلى ابنِ عباسٍ (ت:68)، وفي الصَّحيحِ الواردِ عنه غُنْيَةٌ عنْ هذه الأسئلةِ. والعجيبُ أنَّ هذه الرِّوايةَ قد احتضنتها بعضُ كتبِ الأدبِ والحديثِ، ولم يكنْ لها ذِكرٌ في كتبِ التَّفسيرِ المتقدِّمَةِ ولا في كتبِ اللُّغةِ، مع أنها ألصقُ بهذين العِلْمَينِ منْ غيرِهما. ولا يبعدُ أنْ يكونَ لهذه الأسئلةِ أصلٌ، إلاَّ أنها لم تكن بهذه الكثرةِ التي أوردَها الرُّواةُ، وهذه المسائلُ تحتاجُ إلى نقدِ المتونِ بعد نقدِ الأسانيدِ، للنَّظرِ في هذِ الأشعارِ التي زُعِمَ أنَّ حبرَ الأمةِ قد استشهدَ بها، ولا يبعدُ أنْ يكونَ منها ما هو من شعراء كانوا بعده، أو ما هو مختلفٌ في نسبتِه. 3 - رواية عليِّ بن أبي طلحةَ (ت:143)، وقد عَنْوَنَ لها محمودُ السَّيدُ الدُّغَيم بـ (غريب القرآن)، ولم أرَ منْ سمَّى هذه الروايةَ بهذا الاسمِ قبلَهُ، ويظهرُ أنَّ هذا منْ تَصَرُّفِهِ، اعتماداً على ما أوردَهُ عن السيوطي (ت:911) (¬1) في حديثِهِ عن علم (غريبِ القرآنِ)، حيثُ قال: «أَوْلَى ما يُرجَعُ إليه في ذلك ما ثَبَتَ عن ابنِ عباسٍ وأصحابِه الآخذينَ عنه ... وها أنا أسوقُ ما ورد في ذلكَ عن ابنِ عباسٍ من طريقِ ابنِ أبي طلحةَ خاصةً ...» (¬2). ¬
وروايةُ عليِّ بنِ أبي طلحةَ (ت:143) ليستْ خاصَّةً بتفسيرِ الغريبِ، بل هي في التَّفسيرِ عموماً. كما نقل محمودُ السيِّد الدغيم عن فؤاد سزكين ما قاله في هذه الرِّواية، قال: «والمؤكَّد أنَّ التفسيرَ الذي رواهُ عليُّ بنُ أبي طلحةَ الهاشميُّ (ت:120هـ/737م) (¬1) منسوباً إلى ابن عباسٍ، هو من تأليفِ ابن عباسٍ نفسِه، وذلك لأنَّ عليَّ بنَ أبي طلحةَ قد جُرِحَ لروايتِه هذا التَّفسيرَ دونَ أنْ يكونَ أخذَهُ سماعاً عن ابن عباس (¬2) ...» (¬3). وهذا الاستدلالُ من فؤاد سزكين غريبٌ جداً، ولا يَعْتَمِدُ على حُجَّة تُسلَّمُ له. وقد كان ابتداءُ التَّأليفِ في علمِ غريبِ القرآنِ في النِّصفِ الثَّاني من القرن الثَّاني؛ أي: في عهدِ أتباعِ التَّابعينَ. وممن ذُكِرَ له تدوينٌ فيه: زيد بن علي (ت:120) (¬4)، وأبان بن تغلب (ت:141)، وفي النَّفسِ شيءٌ من هذين الكتابين (¬5). ¬
وقد حرصت على تتبُّعِ أقوالِهما في كتب التَّفسيرِ، فظفرتُ بنقلٍ قليلٍ عنهما، وما وجدته منقولاً عن زيد بن عليٍّ (ت:120) يخالفُ ما وردَ في غريب القرآن المطبوعِ المنسوبِ إليه (¬1). ¬
هذا، ويُعَدُّ كتابُ (مجازِ القرآنِ) لأبي عبيدةَ معمرِ بنِ المثنَّى البصريِّ (ت:210) أوَّلَ كتابٍ مطبوعٍ من كتبِ غريبِ القرآنِ؛ بلْ لا يبعدُ أنْ يكونَ أوَّلَ كتابٍ للُّغويِّين يتعلَّقُ بتفسيرِ القرآنِ، نظراً للحملةِ الاستنكاريَّةِ التي قامتْ عليه، مما يدل على أنه بِدْعٌ في التأليفِ في هذا المجال (¬1). واللهُ أعلمُ. وسأبسطُ القولَ في ثلاثةٍ من كتبِ غريبِ القرآنِ، وهي مجاز القرآن، لأبي عبيدة (ت:210)، وغريب القرآن، لابن قتيبة (ت:276)، وغريب القرآن، لابن عُزَيزٍ السِّجستانيِّ. ¬
أولا: مجاز القرآن، لأبي عبيدة
أولاً مَجَازُ القُرْآنِ لأبِي عُبَيْدَةَ ذُكِرَ لأبي عبيدة (ت:210) أسماءُ كتبٍ، وهي: غريبُ القرآنِ، ومعاني القرآنِ، وإعرابُ القرآن، ومجازُ القرآن. ويظهرُ أنَّ هذه العناوينَ اسمٌ لكتابٍ واحدٍ، وعُبِّرَ عنه بما فيه من هذه الموادِّ العلميَّةِ، وأشهرُ هذه التَّسمياتِ: (مجازُ القرآنِ). وليسَ في مقدِّمتِه نَصٌّ من أبي عبيدةَ (ت:210) على تسميتِه، ولكنَّه أشهرُ هذه التَّسمياتِ لكثرة استعماله لفظةَ «مجازٍ» في كتابه. وإذا تأمَّلتَ كتابَ (مجازِ القرآنِ)، وجدتَه كتاباً في تفسيرِ ألفاظِ القرآنِ؛ أي: غريب القرآن. وقدْ وردَ عن مَرْوَانَ بنِ عبدِ الملكِ (¬1) تلميذ أبي حاتمٍ السجستاني (ت:255)، قال: «سألتُ أبا حاتمٍ عنْ غريبِ القرآنِ لأبي عبيدةَ، والذي يقالُ له: المجاز ...» (¬2). وهذه الأسماءُ يظهرُ أنها منْ غيرِ أبي عبيدةَ (ت:210) فوصفَ كُلُّ واحدٍ منهم الكتابَ بما فيه من المعلوماتِ، إذ فيه غريبٌ كثيرٌ، وشيءٌ منَ علم المعاني وعلم النَّحْوِ. ومما يُستأنسُ به في هذا: أنَّ النُّقُولَ عنه فيما يتَّصِلُ بغريبِ القرآنِ وشواهدِهِ موجودةٌ في كتابِه (مجازِ القرآنِ)، ويندرُ أنْ يُوجَدَ نقلٌ يتعلَّقُ بغريبِ القرآن دونَ أنْ يكونَ فيه. ¬
مفهوم المجاز عند أبي عبيدة
مفهومُ المجازِ عند أبي عبيدة: والمجازُ عندَ أبي عبيدةَ (ت:210): ما يجوزُ في لغةِ العربِ من التَّعبيرِ عن الألفاظِ والأساليبِ، وليسَ المجازَ الاصطلاحيَّ عندَ البلاغيِّينَ (¬1)، وهذا ظاهرٌ منْ كتابِهِ. مراده من تأليفِ المجازِ: لقدْ كانتْ وِجْهَةُ أبي عبيدةَ (ت:210) في كتابِهِ (مجازِ القرآنِ) واضحةً، حيثُ أرادَ تفسيرَ القرآنِ تفسيراً عربيًّا، لذا اعتمدَ الشواهدَ الشِّعريةَ في بيانِ معاني القرآنِ في كثيرٍ من المواطنِ. وقدْ يكونُ سببُ هذا الاتجاه عندَهُ ما يُحكَى من وجودِ المُعَرَّبِ (¬2)، فأراد أن يُبينَ أنَّ القرآنَ عربيٌّ، وليسَ فيه مدخلٌ لِلُغَةٍ غيرِها. ومما يُستأنسُ به في هذا ما عُرِفَ عنه من تشدُّده في نفيِ وجودِ ألفاظٍ بغيرِ لغةِ العربِ في القرآنِ، حيث قالَ: «أُنْزِلَ القرآنُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، فمنْ زعمَ أنَّ فيه غيرَ العربيةِ فقدْ أعظمَ القولَ، ومن زعمَ أنَّ «طه» بالنبطيةِ، فقدْ أَكْبَرَ، وإنْ لم يعلمْ ما هو، فهو افتتاحُ كلامٍ، وهو اسمٌ للسُّورةِ وشعارٌ لها. وقدْ يُوَافِقُ اللَّفظُ اللَّفظَ ويقاربُهُ، ومعناهما واحدٌ، وأحدُهما بالعربيَّةِ والآخرُ بالفارسيَّةِ أو غيرِها؛ فمنْ ذلكَ الإستبرقُ بالعربيَّةِ، وهو الغليظُ من الديباجِ، والفِرِنْدُ، وهو بالفارسيَّةِ: إسْتَبْرَهْ، وكَوْز، وهو بالعربيَّةِ: جَوْزٌ، وأشباهُ هذا كثيرٌ. ومنْ زعمَ أنَّ {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82] بالفارسيَّةِ، فقدْ أعظمَ من قال: إنه «سنك» و «كل»، إنما السِّجِّيلُ: الشديدُ ... ففي القرآنِ ما في الكلامِ ¬
العربي منَ الغريبِ والمعاني، ومنْ مجازِ ما اختُصِرَ، ومجازِ ما حُذِفَ، ومجازِ ما كُفَّ عنْ خَبَرِهِ، ومجازِ ما جاءَ لفظُهُ لفظ الواحدِ ووقَعَ على الجميعِ ...» (¬1). وهناكَ وجهٌ آخرُ يُفْهَمُ من قولِه: «قالوا: إنما أنزلَ القرآنُ بلسانٍ عربيٍ مبينٍ، وتصْدَاقُ ذلكَ في آيةٍ منَ القرآنِ، وفي آيةٍ أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، فلمْ يَحْتَجِ السَّلفُ ولا الذينَ أدركوا وحيَهُ إلى النَّبي صلّى الله عليه وسلّم أنْ يسألوا عنْ معانيه؛ لأنَّهمْ كانوا عَرَبَ الألسنِ، فاستغنوا بعلمِهِم به عن المسألةِ عنْ معانيه، وعمَّا فيه مما في كلامِ العربِ مثلُه منَ الوجوهِ والتَّلخيصِ. وفي القرآنِ مِثْلُ ما في الكلامِ العربي منْ وجوهِ الإعرابِ، ومن الغريبِ والمعاني، ومنَ المحتملِ: منْ مجازِ ما اخْتُصِرَ وفيه مضمرٌ ...» (¬2). وكأنه يريدُ أنْ يقولَ: إنَّ مَنْ في زمانِه بحاجةٍ إلى بيانِ عربيَّتِهِ، بخلافِ منْ سَلَفهم مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ الذينَ كانوا عرباً يعلمونَ معانيه. وإذا صَحَّ هذانِ الاستنتاجانِ، فإنهما يكونان سبباً واضحاً لتأليفِ أبي عبيدةَ (ت:210) مجازَ القرآنِ (¬3)، وأنَّه نَحَى بهِ النَّحْوَ العربيَّ. ¬
صور التفسير اللغوي في مجاز القرآن
أمَّا كَونُه قَصَدَ بيانَ عربيَّةِ القرآنِ، فإنه ظاهرٌ عندَ أدنى تَأَمُّلٍ في كتابِه، وسأذكرُ بعضَ صور التَّفسيرِ اللُّغويِّ الواردةِ في كتابِ مجازِ القرآنِ: أولاً: بَيَانُ المُفْرَدَاتِ وَشَوَاهِدُهَا: يظهرُ من موازنة كتاب (مجازِ القرآن) بغيره من كتب المعاني والغريبِ أنه أكثرُها استدلالاً بالشِّعرِ في معاني القرآنِ، وهذا ظاهرٌ لمن ينظرُ إلى ترقيمِ محقِّقِ كتاب المجازِ، حيثُ بلغتْ بتعدادِه اثنين وخمسينَ وتسعِمائةِ شاهدٍ (¬1). ومن أمثلةِ تفسيرِه بالشَّاهد الشِّعريِّ: ¬
1 - قال: «{رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]؛ أي: المخلوقين، قال لبيد بن ربيعة (¬1): مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلاَ سَمِعْـ ... ـتُ بِمِثْلِهِمْ فِي العَالَمِينَ وواحدهم: عَالَم ...» (¬2). 2 - وقال: {الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 6]: الطريق، المنهاجُ الواضحُ، قال (¬3): ........ ... فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ القَاصِدِ وقال جَرِير (¬4): أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إذَا اعْوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ والمواردُ: الطُرُقُ: ما وردتَ عليه من ماءٍ، وكذلك القرى. وقال (¬5): ¬
وَطِئْنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ» (¬1) 3 - وقال: {الْمُفْلِحُونَ}: كلُّ منْ أصابَ شيئاً فهو مُفلحٌ، ومصدره: الفلاحُ، وهو البقاء، وكلُّ خيرٍ. قال لبيد بن ربيعة (¬2): نَحُلُّ بِلاداً كُلُّها حُلَّ قَبْلَنَا ... وَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ الفَلاَحُ؛ أي: البقاء. وقال عَبيدُ بن الأبرص (¬3): أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ، فَقَدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ... ـعْفِ، وَقْدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ والفَلاَحُ في موضعٍ آخرَ: السَّحُورُ أيضاً. وفي الأذان: حيَّ على الفلاَحِ، وحيَّ على الفَلَحِ جميعاً. والفلاَّحُ: الأكَّارُ، وإنما اشتُقَّ من: يَفْلَحُ الأرضَ؛ أي: يَشُقُّها ويُثِيرُها. ومن ذلك قولهم: إنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ (¬4)؛ أي: يُفلَقُ. والفلاَّح: هو المُكَاري، في قول ابن أحمر (¬5) أيضاً (¬6): لَهَا رِطْلٌ تَكِيلُ الزَّيتَ فِيهِ ... وَفَلاَّحٌ يَسُوقُ لَهَا حِمَاراً ¬
فلاَّح: مُكَارٍ. وقال لبيد (¬1): اعْقِلي إنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ ذَا عَقَلْ أي: ظَفِرَ، وأصاب خيراً» (¬2). وأمَّا تفسيره للألفاظ بدون ذكر الشَّواهد فهو كثير، وعلى ذلك أغلبُ مادَّةِ الكتاب، ومن ذلك: {يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (¬3): مجازه: يبنون، ويَعْرِشُ ويَعْرُشُ لغتانِ، وعريشُ مكَّةَ: خيامُها. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}: مجازه: قَطَعْنَا. {يَعْكُفُونَ}: أي: يقيمونَ، ويَعْكِفُونَ: لغتان» (¬4). ثانياً: الأسَالِيبُ العَرَبِيَّةُ في الخِطَابِ: يلحظ القارئُ لكتابِ المجازِ كثرةَ بيانِ الأساليبِ العربيَّةِ التي نزلَ بها القرآنُ (¬5)، ويجدُ في هذا كثرةَ قولِه: تقولُ العربُ، والعربُ تفعلُ ذلكَ، والعربُ تجعلُ، والعربُ تصنعُ ... إلخ. وهذه الأساليبُ منها ما له أثرٌ في تَغَيُّرِ المعنى، ومنها ما أثرُهُ في جمالِ الكلامِ وبلاغتِه ومقتضى حالِه، وسأذكرُ من الأمثلةِ ما لهُ أثرٌ في التفسيرِ: 1 - قال: «{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، فخرجَ هذا مخرجَ ¬
فِعْلِ الآدميين، وفي آيةٍ أخرى: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وفي آيةٍ أخرى {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فخرجَ على تقديرِ فِعْلِ الآدميين، والعرب قدْ تفعلُ ذلك، وقال (¬1): شَرِبْتُ إذَا مَا الدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ ... إذَا مَا بَنُو نَعْشٍ دَنَوا فَتَصَوَّبُوا وزعم يونس (¬2) عن أبي عمرو (¬3): أنَّ {خَاضِعِينَ} ليست من صفةِ الأعناقِ، وإنما هي من صفةِ الكنايةِ عن القومِ التي في آخر الأعناقِ، فكأنَّه في التمثيلِ: فظلَّتْ أعناقُ القومِ، في موضع «هم». والعربُ قدْ تتركُ الخبرَ عن الأولِ، وتجعلُ الخبرَ للآخرِ منهما، وقال (¬4): طُولُ اللَّيَالي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَينَ طُولِي وَطَوَينَ عَرْضِي فتركَ طولَ اللَّيالي، وحَوَّلَ الخبرَ على اللَّيالي، فقال: أسرعتْ، ثُمَّ قال: طوينَ. وقال جرير (¬5): ¬
رَأتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السَّرَارُ مِنَ الهِلاَلِ رجعَ إلى «السنين» وترك «مرَّ». وقال الفرزدقُ (¬1): تَرَى أَرْبَاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا ... إذَا صَدَئُ الحَدِيد على الكماةِ فلم يجعل الخبرَ للأرباقِ، ولكن جعله للذين في آخرها من كنايتهم، ولو كان للأرباقِ لقال: متقلدات، ولكن مجازه: تراهم متقلدين أرباقَهم» (¬2). ذكرَ أبو عبيدةَ (ت:210) في هذه الآية احتمالين في معنى {خَاضِعِينَ}: الأول: أن تكونَ من صفةِ الأعناقِ، وهي بذاتها تكونُ خاضعةً، وإنما جاء التَّعبيرُ عنها بالجمعِ الذي يُعبَّرُ به عن الآدميين (¬3)؛ أي: جمع المذكر السالم؛ لأنه مما يظهر فيهم. الثاني: أن تكون من صفةِ الضَّميرِ «هم»، في {أَعْنَاقِهِمْ}، العائدِ على النَّاسِ، وعلى هذا القولِ ـ وهو قول أبي عمرو ـ لا يكون في اللفظِ خروجٌ عن أصلِه؛ لأنَّ الآدميين يُخبر عنهم بالواو والنون، أو الياء والنون، بخلافه المواتُ الذي لا يُخبرُ عنه بذلك، وإنْ أُخبرَ عنه به، فهو خروجٌ عن أصل الخطاب لمعنى يريده القائلُ. ¬
2 - وقال: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] مجازُه مجازُ المكفوفِ عن خبرِه، ثُمَّ استُؤنِفَ، فقال: {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، فمجازُه: لو سُيِّرتْ به الجبالُ لسارتْ، أو قُطِّعتْ به الأرضُ لتقطَّعتْ، ولو كُلِّمَ به الموتى لنُشِرتْ. والعربُ تفعلُ مثلَ هذا، لعلمِ المستمعِ به، استغناءً عنه، واستخفافاً في كلامهم، قال (¬1): خَلا أَنَّ حَيّاً مِنْ قُرَيْشٍ تَفَضَّلُوا ... عَلَى النَّاسِ أَوْ أَنَّ الأَكَارِم نَهْشَلا وهو آخرُ قَصِيدةٍ، ونصبه وكفَّ عن خبره واختصره، وقال (¬2): الطَّعْنُ شَغْشَةٌ، والضَّرْبُ هَيْقَعَةٌ ... ضَرْبَ المُعَوِّلِ تَحْتَ الدِّيمَةِ العَضَدا وَلِلْقِسِيِّ أَزَامِيلٌ وَغَمْغَمَةٌ: ... حِسَّ الجَنُوبِ، تَسُوقُ المَاءَ والبَرَدا حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدَا وهو آخر قصيدةٍ، وكُفَّ عن خبره» (¬3). ¬
وعلى هذا القول يكون جواب «لو» محذوفاً، وهذا أسلوبٌ عربيٌّ شائعٌ، وقد ذكرَ له شواهدَ من الشِّعرِ، وإنما يختلف التَّفسيرُ هنا في أمرين: الأوَّلُ: في زَعْمِ أنَّ الجوابِ متقدِّمٌ عليها، وهو قولُه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ} [الرعد: 30] (¬1). وعلى هذا لا يكونُ في الآية حذفٌ. الثاني: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديرِه، ويُبنَى على هذا الاختلافِ اختلافُ التَّفسيرِ، ومن هذه التَّقديراتِ: * ولو أنَّ قرآناً سُيِّرتْ به الجبالُ، أو قُطِّعَتْ به الأرضُ، أو كُلِّمَ به الموتى = لكانَ هذا القرآنُ. وهذا قولُ أكثرِ أهلِ اللُّغةِ (¬2). * ولو أنَّ قرآناً سُيِّرَتْ به الجبالُ، أو قُطِّعَتْ به الأرضُ، أو كُلِّمَ به الموتى = لما آمنوا (¬3). * ومنها ما قدَّره أبو عبيدةَ (ت:210). وظاهرٌ اختلافُ المعنى والتَّفسيرِ بسببِ الحذفِ هنا، واللهُ أعلم. وظاهرةُ أساليبِ الخطابِ العربيِّ التي نزل بها القرآنُ مما يحتاجُ إلى دراسةٍ مستقلَّةٍ، وفيها معلوماتٌ كثيرةٌ، والله الموفِّقُ. ثالثاً: تَوجِيهُ القِرَاءَاتِ: وهو أحدُ الميادينِ التي وَلَجَهَا اللُّغويُّونَ لبيانِ ما في القراءاتِ واختلافِها منْ وجوهِ العربيَّةِ، وقد كانَ نصيبُ التَّوجيهِ فيما يخصُّ تَغيُّرَ المعنى في كتابِ المجازِ قليلاً قياساً على كثرتِها في غيره، ومنْ أمثلةِ ذلك: 1 - قال أبو عبيدة (ت:210): «{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] القافُ مكسورةٌ؛ لأنها منْ: وَقَرَتْ تَقِرُ، تقديرُه: وَزَنَتْ تَزِنُ، ومعناه: من الوَقَارِ. ¬
ومَنْ فَتَحَ القافَ (¬1)، فإنَّ مجازَها من: قَرَّتْ تَقِرُّ، تقديره: قَرَرَتْ تَقِرُّ، فحذف الثانية فَخَفَّفها ...» (¬2). 2 - وقال: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55] (¬3)، الفَكِهُ: الذي يتفكَّهُ، تقولُ العربُ للرجلِ إذ كانَ يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراضِ الناسِ: إنَّ فلاناً لفكِهٌ بأعراض (¬4). قالت خنساء (¬5) أو عمرة بنتها (¬6): فَكِهٌ عَلِى حِينِ العشَاءِ إِذا ... حَضَرَ الشِّتَاءُ وَعَزَّتِ الجُزُرُ ¬
انتقاد منهج أبي عبيدة
ومنْ قرأها: {فَاكِهُونَ} جعلَهُ: كثيرَ الفواكِه، صاحبَ فاكهةٍ، قال الحطيئة (¬1): وَدَعَوتَنِي وَزعَمْتَ أَنَّـ ... ـكَ لاَبِنٌ بِالصَّيْفِ تَامِرُ أي: ذا لبن وتمرٍ؛ أي: عنده لبنٌ كثيرٌ وتمرٌ كثيرٌ، وكذلك: عاسِلٌ ولاحمٌ وشاحمٌ» (¬2). تعرُّض أبي عبيدة للنَّقد بسبب منهجه اللُّغويِّ: لقد كان المنهجُ اللُّغويُّ الذي سَلَكَهُ أبو عبيدةَ (ت:210) عُرْضَةً للنَّقدِ، كما أوقعَه في شيءٍ من المخالفاتِ في التَّفسيرِ؛ لأنَّ للتَّفسيرِ مصادرَ غير اللُّغةِ يجب على المفسِّرِ الرُّجوعُ إليها، ولا يعني هذا أنَّ كتابَه يخلو من التَّأثُرِ بالمصادرِ الأخرى (¬3)، لكنَّ المرادَ أنَّ اعتمادَه على المنقولِ مِنَ التَّفسيرِ؛ كالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ، وآثارِ السَّلفِ، وأسبابِ النُزُولِ، وقصصِ الآيِ = كان قليلاً جِدًّا. ومن أمثلةِ اعتمادِهِ على السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، قال: «مجازُه: إنَّ ملائكَة اللَّيلِ تشهدُه، إذا صُلِّيَتْ الغَدَاةُ أعقبتْهَا ملائكةُ النَّهارِ» (¬4). وهذا مأخوذٌ من قولِ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، قال: «.... وتجتمعُ ملائكةُ اللَّيلِ وملائكةُ النَّهارِ في صلاةِ الصُّبحِ. ¬
يقولُ أبو هريرةَ: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]» (¬1). ويظهرُ في كتابِ مجازِ القرآن أنَّ أبا عبيدة (ت:210) كانَ يعتمِدُ على المخزونِ اللُّغويِّ الذي كانَ يحفظُهُ، سواءً أكانَ تفسيرَ ألفاظٍ، أم كانَ شواهدَ شعريَّةً. ويبدو أنَّ ثقافتَهُ اللُّغويَّةَ الثَّرِيَّةَ أحدثتْ عنده اعتداداً بعلمِهِ، وجعلتْه يُقِلُّ من النَّقْلِ عن غيرِه، حتى إنَّكَ لا ترى أثراً للنَّقلِ عن المتقدِّمين من علماءِ السَّلفِ واللُّغويِّينَ: أمَّا نقله عن السَّلفِ، فقليلٌ جداً، ولا يكادُ يُذكرُ، وأمَّا اللُّغويُّونَ، فهو يُعَدُّ في الطبقةِ الثَّانيةِ من طبقاتِ القرنِ الثاني، إذ سبقَهُ طبقةُ شيوخِهِ، أمثالُ: أبي عمرو بنِ العلاءِ (ت:154)، والخَليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، ويونسَ النَّحويِّ (ت:182)، ونقله عنهم أكثر من نقله عن السَّلفِ، لكنه قليلٌ أيضاً. ومما يدلُّ على هذا ما وردَ عن تلميذِه أبي عمر الجَرْمِيِّ (ت:225) (¬2)، قال: «أتيتُ أبا عبيدةَ بشيءٍ منه [يعني: مجاز القرآن]، فقلت له: عمَّنْ أخذتَ هذا يا أبا عبيدة؟ فإنَّ هذا خلاف تفسيرِ الفقهاءِ (¬3). فقال لي: هذا تفسيرُ الأعرابِ البوَّالينَ على أعقابهم، فإنْ شِئتَ فخذْهُ، وإنْ شئتَ فَذَرْهُ» (¬4). ¬
مما انتقد عليه من جهة اللغة
فالجرميُّ (ت:225) ينتقدُ أبا عبيدة (ت:210) بأنَّه قد خالفَ المفسِّرينَ في كتابِه هذا، ويردُّ عليه بهذا الرَّدِّ الذي يدلُّ على الاعتدادِ بالنَّفسِ، وكأنَّه لا يَعني له هذا الانتقادُ شيئاً. وهذا المنهجُ اللُّغويُّ الذي سلكَه أبو عبيدة (ت:210)، أوقعَهُ في بعضِ التَّفسيراتِ التي لا تَصِحُّ، كما أوقعه في ردِّ بعضِ الواردِ عن السَّلفِ، وكأنه لا يحتجُّ بتفسيرِهم في نقلِ اللُّغةِ (¬1)، ولقد كانَ بسببِ هذه التَّفسيراتِ عُرْضةً للنَّقدِ. * ومنَ الأمثلةِ التي انتُقِدَت عليه من جهةِ اللُّغةِ: 1 - قوله: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] بعض يكونُ شيئاً منَ الشيء، ويكونُ كلَّ الشيءِ، قالَ لبيدُ بن ربيعة (¬2): تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إَذَا لَمْ أَرْضَهَا أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا فلا يكونُ الحِمامُ ينْزلُ ببعضِ النفوسِ، فيُذهِبُ البعضَ، ولكنه يأتي على الجميعِ» (¬3). وهذا الذي قاله في معنى «بعض» قد انتُقِد عليه (¬4)، قال أبو جعفر النحاس (ت:338): «وهذا القولُ غلطٌ عند أهل النَّظرِ منْ أهلِ اللُّغةِ؛ لأنَّ ¬
البعضَ والجزءَ لا يكونانِ بمعنى الكُلِّ (¬1). قال أبو العباس (¬2): معنى «أو يرتبط بعضَ النفوسِ»: أو يرتبطْ نفسي، كما يقولُ: بعضُنا يعرفه؛ أي: أنا أعرفُهُ، ومعنى الآيةِ على البعضِ؛ لأنَّ عيسى صلّى الله عليه وسلّم إنما أحلَّ لهم أشياء مما حرَّمها عليهم موسى: من أكل الشحومِ وغيرها، ولم يُحِلَّ لهم القتلَ، ولا السَّرقةَ، ولا الفاحشةَ» (¬3). وهذا المذهبُ قد حُكِيَ عن غيرِه، وقد أُنْكِرَ أيضاً، كما قال الأزهريُّ (ت:370): «وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: أجمع أهلُ النَّحوِ على أنَّ البعضَ شيءٌ من أشياءَ، أو شيءٌ من شيءٍ إلاَّ هشاماً (¬4)، فإنه زعمَ أنَّ قول لبيد: ........ ... أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا فادَّعى وأخطأ: أنَّ البعضَ هاهنا جمعٌ (¬5). ولمْ يكنْ هذا منْ عمله، وإنما أراد لبيد ببعض النفوس: نفسه» (¬6). ¬
2 - وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34]، معناه: وقلنا للملائكةِ، و «إذ» منْ حروفِ الزوائدِ (¬1)، وقال الأسودُ بن يَعْفُر (¬2): فَإذَا وَذَلِكَ لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحاً بِفَسَادِ ومعناه: وذلك لا مَهَاهَ لذكرِهِ، ولا طَعْمَ ولا فَضْلَ، وقال عبد مناف بن رِبع الهذلي (¬3)، وهو آخرُ قصيدة (¬4): حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الجَمَّالةُ الشُّرُدَا معناه: حتى أسلكوهم» (¬5). وهذا المذهبُ الذي ذهبَ إليه في الزِّيادةِ في هذا الموضعِ وغيرِه، قد انتقده عليه بعضُ العلماءِ، وخطَّؤه بهذا، ومِمَّن ردَّ عليه هذا الموضعَ الطبريُّ (ت:310)، قال: «زعمَ بعض المنسوبين إلى العلمِ بلغاتِ العربِ منْ أهلِ ¬
مما رده من تفسير السلف
البصرةِ أنَّ تأويل قولِه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}: وقال ربُّكَ، وأنَّ «إذ» من أحرفِ الزَّوائدِ، وأنَّ معناها الحذفُ. واعتلَّ لقولِه الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُرَ: فَإِذَا وَذَلِكَ لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحاً بِفَسَادِ ثُمَّ قال: ومعناها: وذلك لا مهاه لذكره، وبيت عبد مناف بن رِبْع الهذلي: حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلًّا كَمَا تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدا وقال: معناه: حتى أسلكوهم. قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أنَّ «إذ» حرفٌ يأتي بمعنى الجزاءِ، ويدلُّ على مجهولٍ من الوقتِ. وغير جائز إبطالُ حرفٍ كانَ دليلاً على معنى في الكلامِ. إذْ سواءٌ قِيلُ قائلٍ: هو بمعنى التَّطَوُّلِ، وهو في الكلام دليلٌ على معنىً مفهوم، وقِيلُ آخرُ، في جميعِ الكلامِ الذي نطقَ به دليلاً على ما أريدَ به: هو بمعنى التَّطَوُّلِ ...» (¬1). * ومما ردَّه من قول السَّلف، تفسير قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]، قال: «أفْعَلَتْ من العتادِ، ومعناه: أعدَّتْ له [كذا] متكأً؛ أي: نُمْرُقاً تَتَّكِئُ عليه. وزعم قومٌ أنه الأُتْرُجُّ، وهذا من أبطلِ باطلٍ في الأرضِ، ولكنْ عسى أنْ يكونَ مع المتكَإِ أُتْرُجٌ يأكلونه» (¬2). ¬
وقد ورد تفسير المتكَإِ بالأُتْرُجِّ عن ابن عباس (ت:68) من طريق مجاهد (ت:104) (¬1) وعطية العوفيِّ (ت:111) (¬2)، وعن الضَّحَّاك (ت:105) من طريق أبي روق (¬3)، وعن سلمة بن تمام (¬4). وفسَّره بعضُ السَّلفِ بأعمَّ من الأُتْرُجِّ، فقالوا: طعاماً، ورد ذلك عن ابن عبَّاس (ت:68)، وسعيد بن جبير (ت:94)، ومجاهد (ت:104)، وعكرمة (ت:105)، والحسن البصريِّ (ت:110)، وعطية العوفي (ت:111)، وقتادة (ت:117)، وابن إسحاق (ت:150) (¬5)، وابن زيد (ت:182) (¬6). وفسَّره آخرونَ، فقالوا: كلُّ شيءٍ يُقْطَعُ بالسِّكينِ، ورد ذلك عن الضَّحَّاك (ت:105) (¬7)، وعكرمة (ت:105) (¬8). وورد عن مجاهدٍ (ت:104) ما يفيد أنَّ سببَ الاختلاف في التَّفسيرِ ¬
اختلافُ القراءةِ وتوجيهها في اللُّغةِ، فقال: «من قرأ: {مُتَّكَأً}، فهو الطعام. ومن قرأها: «مُتْكاً»، فخفَّفها (¬1)، فهو الأتْرُجُّ» (¬2). وعلى هذا يمكنُ حملُ تفسيرِ منْ فسَّرَ المُتَّكأَ بالأترجِّ أنه أرادَ تفسيرَ هذه القراءةِ، ومن فسَّرَهُ بالطعامِ، أرادَ القراءةَ المتواترةَ. ويكون في القراءةِ المتواترةِ وجهانِ من التَّفسيرِ: الأول: أنَّ المُتَّكَأَ: ما يُتَّكَأُ عليه من الوسائدِ وغيرها. وهذا هو القول الذي نصرَه أبو عبيدة (ت:210)، والطبريُ (ت:310) (¬3)، وهو قول أهل اللغة (¬4). الثاني: أنَّ المُتَّكَأَ: الطعام، وهو قول جمهور السَّلف. والقول الثاني محكيٌ في اللُّغةِ، قال ابن قتيبة (ت:276): «{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]؛ أي) طعاماً، يقال: اتَّكَانَا عندَ فلانٍ؛ أي: طَعِمْنَا. وقال جميل (¬5): فَظَلِلْنَا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَانَا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قِلَلِهْ ¬
والأصل: أنَّ من دَعَوْتَهُ لِيَطْعَمَ، أَعْدَدْتَ له التكأة للمُقَامِ والطُّمأنينة، فيسمَّى الطعامُ متكأً على الاستعارةِ» (¬1). وبهذا يَبِينُ تقصيرُ أبي عبيدةَ (ت:210) وتسرُّعه في ردِّ هذا المعنى، وقد أنكر عليه ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام (ت:224)، فيما حكاه عنه الطبري (ت:310)، قال: «وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام قول أبي عبيدة، ثمَّ قال: والفقهاء أعلم بالتَّأويلِ منه. ثمَّ قال: ولعله بعضُ ما ذهبَ من كلامِ العربِ، فإنَّ الكسائيَّ كان يقولُ: قد ذهبَ من كلامِ العربِ شيءٌ كثيرٌ انقرضَ أهلُهُ» (¬2). وقد ذكرَ جمعٌ من أهلِ اللُّغةِ أنَّ لفظَ المُتْكِ يعني الأتْرُجَّ، كما ذكرَ بعضُ اللُّغوييِّنَ القراءةَ الشَّاذَّةَ «مُتْكاً» في البيانِ عن ورودِ هذا المعنى في لغةِ العربِ. قال الزَّبيديُّ (ت:1205): «(و) المُتْكُ بالضَّمِّ ... (الأُتْرُجُّ)، حكاه الأخفشُ (¬3)، ونقله الجوهريُّ (¬4)، وقال الفرَّاء (¬5): الواحدة مُتْكَةٌ مثل: بُسْر ¬
وبُسْرَة (ويُكسر) قال الشاعر (¬1): نَشْرَبُ الإثْمَ بِالكُؤوسِ جِهَاراً ... وَنَرَى المُتْكَ بَيْننا مُسْتَعَاراً وقيل: سُمِّيَتْ الأترجَّةُ مُتْكَةً؛ لأنها تُقْطَعُ. (و) قال الجوهريُّ (¬2): قال الفرَّاء (¬3): حدَّثني شيخٌ من ثقات أهل البصرةِ أنه (الزُّمَاوَرْدُ) (¬4). وبكلٍّ منهما فُسِّرَ قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31] بضمِّ فسكونٍ، وهي قراءةُ ابنِ عباسٍ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وابنِ جبيرٍ، ومجاهدٍ، وابنِ يعمرَ (¬5)، والجحدريِّ (¬6)، والكلبيِّ (¬7)، ونصرِ بنِ عاصمٍ، كذا في العباب. وفي كتابِ الشَّواذِّ لابن جني (¬8): هي قراءةُ ابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، والجحدريِّ، وقتادةَ، والضَّحَّاكِ، والكلبيِّ، وأبانِ بنِ تغلبَ، ورُويتْ عن الأعمش (¬9). ¬
أثر المعتقد على دلالة الألفاظ عند أبي عبيدة
قلتُ: ورواه عنِ الضَّحَّاكِ أبو روقٍ، وفسَّره بزماورد (¬1)، ورواه الأعمشُ عنْ أبي رجاءَ العطارديِّ (¬2)، وقال: هو الأترج» (¬3). وبهذا يظهرُ أنَّ هذا المعنى الذي فُسِّرَ به صحيحٌ من حيثُ اللُّغةِ، ولا يَصِحُّ ردُّه، ويكفي في ذلكَ حكايةُ السَّلفِ له (¬4)، والله أعلم. أثر المعتقد على دلالة الألفاظ عند أبي عبيدة: لقد كان أبو عبيدة (ت:210) متهماً في معتقده، فنُسِبَ إلى الخوارجِ (¬5)، ونُسِبَ إلى المعتزلة (¬6)، فهل ظهر منه في كتابه مجاز القرآن ما يعضد هذا الاتهام؟ أمَّا الخوارجُ، فلمْ يكنْ لهم في عهدِه تراثٌ يمكنُ أنْ تُعرفَ به قضايا العقيدةِ عندهم، وهي لم تظهرْ إلاَّ متأخِّرةً، وقد قرأتُ أخبارَهم في كتابِ الكامِلِ في الأدبِ، للمبرد (ت:285)، وأغلبُ ما فيه أخبارُ قتالِهم للمسلمينَ وشجاعتهمْ في ذلكَ، ومن أكبرِ المسائلِ التي ذكرتها كتبُ الفرقِ عنهم مسألةُ الإيمانِ، وما نشأ عنه من حكمِ مرتكبِ الكبيرةِ، وتكفيرهم له، وأنه مخلَّدٌ في النارِ، وغيرها من الأحكام. ¬
وقد تفحَّصتُ كتاب أبي عبيدةَ (ت:210)، فلمْ أجدْ فيه شيئاً من هذه العقائدِ، فهل كانَ يتَّقي المجاهرةَ بذلكَ، كما وردت الرِّوايةُ عن تلميذه التَّوَّزيِّ (¬1)، قال: «دخلتُ على أبي عبيدة، وهو جالسٌ في مجلسِ مسجدِهِ وحده، ينكتُ في الأرضِ، فرفع رأسه إليَّ، وقال: من القائلُ (¬2): أقُولُ لَهَا ـ وقَدْ جَشَأتْ وَجَشَاتْ ... مِنَ الأطْمَاعِ ـ: وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي فَإِنَّكِ لَو سَأَلْتِ بَقَاءَ يَوْمٍ، ... عَلَى الأجَلِ الَّذي لَكِ لَنْ تُطَاعِي فقلتُ: قُطْريُّ بنُ الفُجَاءة الخارجيُّ (¬3). قال: فضَّ اللهُ فاكَ، هلاَّ قُلتَ: لأميرِ المؤمنينَ أبي نعامةَ. قال لي: اجلسْ، واكتُمْ عليَّ ما سَمِعتَ مِنِّي. قال: فما ذكرتُه حتَّى ماتَ» (¬4). واللهُ أعلمُ. فإن صحَّتْ هذه الروايةُ، فإنها تدلُّ على إبطانه لمعتقدِ الخوارجِ، ولذا لم يظهرْ في كتابِه ما يدلُّ على اعتقادِه مذهبَهم، واللهُ أعلم. أمَّا تُهْمةُ الاعتزالِ، فيقول عنها الخُشَنِيُّ (¬5): «كان أبو عبيدةَ مُسَّ ببعضِ ¬
الاعتزالِ، إلاَّ أنه قد بَرِئَ منْ ذلك بما ظهرَ في روايته وكتبه» (¬1). وقال مروانُ بنُ عبدِ الملكِ: «قلت لأبي حاتم: يقال: إنَّ أبا عبيدةَ كانَ يقول بالقدرِ، فقال: لا، وأنكرَ ذلك. قال: كان يثبتُ القَدَرَ» (¬2). وهذا المنهج الذي نصَّ عليه الخُشَنِي منهجٌ صحيحٌ قويمٌ، فهل ظهر في كتبه ما يدلُّ على ما نُسِبَ إليه؟ لقد اجتهدتُ في تتبعِ الكتابِ لإظهارِ ما يتعلقُ بهذه المسألةِ فظهر لي من الأمثلة ما يأتي: 1 - في قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، قال: «مجازه: ظَهَرَ على العرشِ، وعلا عليه، ويقالُ: استويتُ على ظَهْرِ الفرسِ، وعلى ظَهْرِ البيتِ» (¬3). وهذا القولُ في الآية هو قولُ أهلِ السُّنةِ، أمَّا المعتزلةُ فيرون أنَّ معنى: استوى: استولى، ولهم أقوالٌ أخرى فيها تحريفٌ لمعنى الاستواءِ (¬4). 2 - في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، قال: «مجازه أنه خلقَهُ ولمْ يكنْ منَ البَدْءِ شيئاً، ثمَّ يُحييه بعدَ موتِه {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، فجازَ مجازُهُ: وذلك هَيِّنٌ عليه؛ لأنَّ «أفْعَل» يوضعُ موضعَ الفاعلِ، قال (¬5): ¬
لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي، وَإنِّي لأَوْجِلُ ... عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ أي: إني لواجلٌ؛ أي: لَوَجِلٌ، وقال (¬1): ........ ... فَتِلْكَ سَبيلٌ لَسْتَ فِيهَا بِأَوْحَدِ أي: بواحدٍ، وفي الأذانِ: اللهُ أكبرُ؛ أي: كبيرٌ. وقال الشاعرُ (¬2): أصْبَحْتُ أَمْنَحُكِ الصُّدُودَ، وَإِنَّنِي ... - قَسَماً - إِلَيْكِ مَعَ الصُّدُودِ لأَمْيَلُ وقال الفرزدقُ (¬3): إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ أي: عزيزة طويلة. فإن احتجَّ محتجٌّ، فقال: إنَّ الله لا يوصفُ بهذا، وإنما يوصف به الخلقُ، فزعمَ أنه: وهو أهونُ على الخلقِ. وإنَّ الحجَّة عليه (¬4): قوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} ¬
[الأحزاب: 19]، وفي آيةٍ أخرى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]؛ أي: لا يُثقلُهُ» (¬1). وهذا المعنى الذي ذكرَه هو أحد قولي السَّلفِ في معنى الآية (¬2)، والقول الآخر: أنها على بابها، والمعنى: الإعادة بعد البدءِ أهونُ عليه (¬3)، كما هو في نظرِكم أنَّ الإعادة أهونُ من البدءِ، وهذا من بابِ قياسِ الأَولى. 3 - في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99]، قال: «واحدتُها صورةٌ، خرجتْ مخرجَ سورةِ المدينةِ، والجميعُ: سورٌ، ومجازُهُ مجازُ المختصرِ المضمرِ فيه؛ أي: نُفِخَ فيها أرواحُها» (¬4). خالف أبو عبيدة (ت:210) في هذا التَّفسيرِ الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في معنى الصُّورِ، ويحتملُ أنه كان يجهلُ هذا المعنى الشرعيَّ؛ لأنَّه لم يورده، فينكره، والله أعلم، وأيّاً ما كان الأمر، فإنَّ هذا التَّفسيرَ غيرُ مقبولٍ البتَّةَ، لكن المرادَ هنا أنه لا يمكنُ الجزمُ بأنَّ أبا عبيدةَ ينكرُ الصُّورَ الواردَ في الحديثِ، كما هو شأنُ بعضِ المعتزلةِ في الغيبيَّاتِ، ولكن الذي وقعَ أنَّهم وغيرهم ممن ينكره قد اعتمد على قول أبي عبيدة، وسيأتي الحديث عن ذلك لاحقاً (¬5). ¬
4 - وفي قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]، قال: «يخادعون في معنى يخدعون، ومعناها يُظهِرون غيرَ ما في أنفسهم، ولا يكادُ يجيءُ «يُفَاعِلُ» إلاَّ من اثنينِ، إلاَّ في حروفٍ هذا أحدها. قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 30]، معناه: قتلهم الله» (¬1). يُشعِرُ اختيارُه هنا بعدمِ وقوعِ المخادعةِ من اللهِ تعالى، حيث صرف معنى المفاعلةِ في هذه الآيةِ إلى أنها تقعُ من الواحدِ، وهذه الصِّيغة ـ وإن كانت ترد لهذا المعنى ـ يصحُ حملها في هذه الآية على المفاعلةِ من الاثنين الذي هو أصلُ معنى هذه الصِّيغةِ، بدليلِ وصفِ الله بها في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، لكنَّ مخادعةَ اللهِ لا تكونُ منه ابتداءً، بلْ هو يخادِعُ من يخادِعُهُ، لذا لمْ تردْ هذه الصفةُ مفردةً إثباتاً، بلْ وردتْ مقابلَ مخادعةِ المنافقينَ، والمخادعةُ منه بخلافِ المخادعة من البشرِ، على القاعدةِ المعروفةِ في الأوصافِ المنسوبةِ إلى اللهِ. وهذه الأمثلة التي وقع فيها خطأٌ من أبي عبيدة (ت:210) لا تكفي في الحكم عليه بانتهاجه مذهبَ المعتزلةِ، خاصةً إذا تأملتَ تفسيره الصريح للاستواءِ بالعلوِ، وهذا يخالفُ مذهبَ المعتزلةِ. ولذا فإنَّ الحالَ في الحكمِ على مثله لا يصلحُ أنْ يكونَ مطلقاً، بلْ يُنبَّه على الأخطاءِ التي وقعَ فيها، ولستَ مُلزماً بِنَسْبِهِ إلى طائفةٍ منْ طوائفِ البدعِ، بل تبقى في الحكم على الأصلِ، وهو السَّلامة من البدعِ، والله أعلم. ¬
ثانيا: تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة
ثانياً تَفْسِيرُ غَريبِ القُرآنِ، لابن قُتَيْبَةَ ألَّفَ ابن قتيبة (ت:276) كتابه (غريب القرآن) مُتَمِّماً به كتابه «تأويل مشكل القرآن) حيث قال في نهايةِ مقدمتِه ـ بعد أنْ ذَكَرَ شُبَهَ الطَّاعنينَ في القرآنِ ـ: «وقدْ ذكرتُ الحُجَّةُ عليهم في جميعِ ما ذكروا، وغيرِه مما تركوا، وهو يُشْبِهُ ما أنكروا، ليكونَ الكتابُ جامعاً لِلفَنِّ الذي قصدتُ له. وأفردتُ للغريبِ كتاباً؛ كي لا يطولَ هذا الكتابُ، وليكونَ مقصوراً على معناه، خفيفاً على من قرأه إن شاء الله» (¬1). وقد ذكرَ غرضَه من تأليفِ كتابِ (غريبِ القرآنِ)، فقال: «وغرضُنا الذي امتثلنَاه في كتابنا هذا: أن نختصرَ ونكملَ، وأن نوضِّح ونُجْمِلَ، وأنْ لا نستشهدَ على اللَّفظِ المبتذَلِ، ولا نُكثرَ الدلالةَ على الحرفِ المستعمَلِ، وأنْ لا نحشوَ كتابَنا بالنَّحوِ وبالحديث والأسانيدِ». ثُمَّ قَالَ: «وكتابُنا هذا مستنبطٌ منْ كتبِ المفسِّرينَ، وكتبِ أصحابِ اللّغةِ العالمينَ، ولم نخرجْ فيه عن مذاهِبهم، لا تكلَّفنا في شيءٍ منه بآرائنا غيرَ معانيهم، بعد اختيارِنا في الحرف أَوْلَى الأقاويلِ في اللُّغةِ، أشبهُها بقصةِ الآيةِ (¬2) ...» (¬3). ¬
ويتبيَّنُ منْ هذا ما يأتي: 1 - أنَّ ابنَ قتيبةَ (ت:276) خَصَّ معاني القرآنِ بكتابِه (تأويل مشكلِ القرآنِ)، وخصَّ الغريبَ بكتابِه (تفسيرِ غريبِ القرآنِ)، وإنْ كانَ يُعرِّجُ في كتابِه في الغريبِ على شيءٍ من معاني القرآنِ وإعرابِه، لكنَّه قليلٌ جداً. 2 - أنه اعتمدَ في كتابِه على من سبقَه من مفسِّري السَّلفِ وأهلِ اللُّغةِ، وهو في كثيرٍ من نقلِهِ لا يبينُ عمَّنْ نقلَ، ومما ظهرَ من أسماءِ هؤلاءِ عنده تجدُ أن ابنَ عباسٍ (ت:68) (¬1)، وقتادةَ (ت:117) (¬2) أكثرُ المفسِّرينَ وروداً، ثمَّ مجاهداً (ت:104) (¬3)، ثمَّ الحسنَ البصريَّ (ت:110) (¬4). أمَّا أهل اللغة، فقد اعتمدَ على أبي عبيدة (ت:210)، آخذاً من كتابِه (مجازِ القرآن) (¬5)، وعلى الفراءِ (ت:207)، آخذاً من كتابِه (معاني القرآن) (¬6). وقد أكثرَ الأخذَ عنهما دونَ أنْ يَنُصَّ على ذكرِهما. ولم يكنْ في نقلِه مجرداً عن النقدِ، بل أبانَ في مقدمةِ كتابِه رأيَهُ فيما ينقلُ، فقال: «... بعد اختيارِنا في الحرفِ أولى الأقاويلِ في اللغةِ، أشبهها ¬
بقصةِ الآية» (¬1). وهذا يَنِمُّ عن رأيٍ في الاختيارِ، وأنَّ ما اختارَه فقد ارتضاه قولاً له. وإذا كانَ في معنى اللَّفظِ أكثرُ من قولٍ فإنَّ منهجَه: * أنْ يذكرَ أحدَ الأقوالِ، دونَ ذكرِ غيرِها، وهذا هو الغالبُ على كتابِه. * أن يذكُر الاحتمالاتِ بلا ترجيحٍ (¬2)، وهو قليلٌ، ومن ذلكَ: 1 - قال: {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي: خرجوا. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81]؛ أي: قدَّروا ليلاً غيرَ ما أعطوك نهاراً. قال الشاعرُ (¬3): أتَونِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا ... وَكَانُوا أَتَونِي بِشَيْءٍ نُكُرْ والعربُ تقولُ: هذا أمرٌ قُدِّرَ بليلٍ، وفُرِغَ منه بليلٍ، ومنه قولُ الحارثِ بن حِلِّزَةَ (¬4): أجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عِشَاءً، فَلَمَّا ... أَصْبَحُوا، أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوضَاءُ ¬
وقال بعضهم: بيَّتَ طائفةٌ؛ أي: بَدَّلَ، وأنشد (¬1): وَبَيَّتَ قَوْلِي عَبْدُ المَلِيـ ... ـكِ، قَاتَلَكَ اللهُ عَبْداً كَفُوراً (¬2) * أن يُرجِّح بين المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردةِ في تفسيرِ النَّصِّ، وهذا قليلٌ كذلك (¬3)، ومنه ما وردَ في تفسيرِ قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، قال: «{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}: غروبها، ويقالُ: زوالها، والأولُ أحبُّ إليَّ؛ لأنَّ العربَ تقولُ: دَلَكَ النَّجمُ: إذا غابَ. قال ذو الرُّمَّةِ (¬4): مَصَابِيحُ، لَيْسَتْ باللَّواتِي تَقُودُهَا ... نُجُومٌ، وَلاَ بِالآفِلاتِ الدَّوَالِكِ وتقولُ في الشَّمسِ: دَلَكَتْ بَرَاحِ (¬5)؛ يُريدونَ: غربتْ. والنَّاظِرُ قد وضعَ كفَّه على حاجِبِهِ ينظُرُ إليها، قال الشاعرُ (¬6): وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تَكُونَ دَنَفاً أدْفَعُهَا بالرَّاحِ كيْ تَزَحْلَفَا ¬
فشبَّهَها بالمريضِ في الدَّنَفِ؛ لأنها قد همَّتْ بالغروبِ، كما قارب الدَّنِفُ الموتَ، وإنما ينظرُ إليها من تحت الكفِّ؛ ليعلمَ كم بقيَ لها إلى أن تغيبَ، ويتوقَّى الشُعَاعَ بِكفِّهِ» (¬1). * وكان في بعضِ الأحيانِ ينصُّ على النَّقدِ؛ كنقدِه التَّفاسيرَ التي ذكرَها في مقدمةِ كتابِه (¬2)، وقد نصَّ على نقدِهِ الفرَّاءَ (ت:207) وأبا عبيدةَ (ت:210) (¬3)؛ لأنَّه ينقلُ عنهما، ومما وردَ عنه: في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]، قال: «{حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}، يذهبُ بعضُ المفسِّرينَ إلى أنها (سَنْكِ وَكِلْ) بالفارسيَّةِ، ويعتبرُه بقوله عزّ وجل: {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]؛ يعني: الآجُرَّ، كذا قال ابن عباسٍ (¬4). وقال أبو عبيدةَ: السِّجيلُ: الشَّديدُ، وأنشدَ لابن مُقبلٍ (¬5): ....... ... ضَرْباً تَوَاصى به الأبْطَالُ سِجِّيناً وقال: يريد ضرباً شديداً (¬6). ولستُ أدري ما سجِّيل من سجِّين، وذلك باللام، وهذا بالنون، وإنما سجِّينٌ في بيتِ ابن مقبلٍ (فِعِّيلٌ) من سَجَنْتُ؛ أي: حَبَسْتُ؛ كأنَّه قال: ضربٌ يُثَبِّتُ صاحِبه بمكانِه؛ أي: يحبسه مقتولاً، أو مقارباً للقتلِ. ¬
وفِعِّيلٌ، لما دامَ منه العملُ؛ كقولِك: رجلٌ فِسِّيقٌ، وسِكِّيرٌ، وسِكِّيتٌ: إذا دام منه الفسقُ، والسُّكرُ، والسُّكوتُ. وكذلك (سِجِّين)، وهو ضربٌ يدومُ منه الإثباتُ والحَبْسُ. وبعضُ الرُّواةِ يرويه: (سِخِّين) مِنَ السُّخونَةِ (¬1)؛ أي؛ ضرباً سُخْناً» (¬2). ومع هذا النَّقدِ، فإنَّه قد يقعُ في قولٍ ضعيفٍ لا تحتمِلُه الآيةُ (¬3)، وممَّا يُنقَدُ عليه في هذا، ما وردَ في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 89، 90]، قال: «{إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ}؛ أي: يتَّصِلُونَ بقومٍ، {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}؛ أي: عهد. ويتَّصِلونَ: ينتسِبونَ، وقال الأعشى ـ وذكرَ امرأةً سُبِيتْ ـ (¬4): إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أبَكْرَ بْنَ وَائِلٍ، ... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا، والأُنُوفُ رُوَاغِمُ أي: انتسبتْ ...» (¬5). ¬
مميزات كتاب ابن قتيبة
وهذا القولُ فيه نظرٌ، قال النَّحَّاسُ (ت:338): «وهذا غلطٌ عظيمٌ؛ لأنه يذهبُ إلى أنَّ الله تعالى حَظَرَ أنْ يُقَاتِلَ أحدٌ بينه وبينَ المسلمينَ نسبٌ، والمشركونَ قد كان بينهم وبين السابقينَ الأوَّلينَ أنسابٌ ...» (¬1). هذا، ولا يخلو كتابُ ابن قتيبةَ مما طرحَه اللُّغويُّونَ في غريب القرآنِ من مباحثِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ، ومن ذلك مبحثُ توجيه القراءاتِ القرآنيَّةِ، ومن الأمثلةِ في ذلكَ: ما ورد عنه في قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، قال: «يَضِجُّونَ يقالُ: صَدَدْتُ أصُدُّ صَدّاً: إذا ضَجَجْتُ. والتَّصْدِيَةُ منه، وهو: التَّصْفِيقُ، والياء فيه مبدلةٌ من دالٍ؛ كأنَّ الأصلَ فيه: صَدَّدْتُ بثلاثِ دالاتٍ، فقُلِبَتْ الأخرى ياءً، فقالوا: صَدَّيْتُ؛ كما قالوا: قَصَّيْتُ أظافري، والأصلُ: قَصَّصْتُ. ومن قرأ: {يَصُدُّونَ} أراد: يعدلون ويعرضون» (¬2). كما يمكنُ ملاحظةُ تميُّزِه ببعضِ الأمورِ، وهي: * استفادتُه من تفسيرِ السَّلفِ في بيانِ غريبِ القرآنِ، والإكثارُ منه، ولا أعرفُ أحداً من اللُّغويِّين سبقه إلى فعلِ ذلك، غير أنَّه في كثيرٍ من المواضعِ لا ينصُّ على المنقولِ عنهم، مما يضطرُ من أرادَ معرفةَ ذلك أن يتابعَ ويوازنَ نقولَه بأقوالِ السَّلفِ. وهذا جعلَ في كتابِه مادَّةً من غيرِ مصدرِ اللُّغةِ؛ كالنُّزولِ، وقصص ¬
بيان الأصل اللغوي للفظ
الآي، وغيرِها مما مصدرُه النَّقلُ (¬1)، ومن ذلك: تفسيرُه لقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، قال: «كانتْ قريشٌ لا تخرجُ من الحرمِ، وتقولُ: لسنا كسائرِ الناسِ، نحنُ أهلُ اللهِ وقُطَّانُ حَرَمِه، فلا نخرجُ منه. وكان النَّاس يقفونَ خارجَ الحرمِ ويفيضونَ منه، فأمرهم اللهُ أن يقفوا حيثُ يقفُ الناسُ، ويفيضونَ من حيثُ أفاضَ الناسُ» (¬2). * بيان الأصلِ اللغويِّ للَّفظِ: يظهرُ في كثيرٍ من الألفاظِ حرصُ ابنِ قتيبةَ (ت:276) على بيانِ أصلِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ، ولذا تراه يفسِّرُ معنى اللَّفظِ في سياقِه، ثُمَّ يُبَيِّنُ أصلَه الَّذي اشتُقَّ منه، وقد كانتْ هذه الظاهرةُ اللُّغويَّةُ واضحةً عنده، تراها في كتابِه (تأويلِ مشكلِ القرآنِ) (¬3)، كما تراها في غريبِ القرآنِ (¬4)، ومن ذلكَ تفسيرُه لقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، وقوله: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19]، قال: «{فَهُمْ يُوزَعُونَ}؛ أي: يُدفعونَ. وأصلُ الوَزْعِ: الكفُّ والمنعُ، يقالُ: وزعتُ الرجلَ إذا كففتُه، ووازعُ الجيشِ: هو الذي يكفُّهم عن التَّفرُّقِ، ويردُّ مَنْ شذَّ منهم. ¬
كثرة الشواهد الشعرية
وقوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل: 19]؛ أي: ألهمني، وأصلُ الإيزاع: الإغراءُ بالشيء، يقال: أوزعتُه بكذا؛ أي: أغريتُه، وهو موزوعٌ بكذا: مولعٌ بكذا، ومنه قولُ أبي ذُؤيبٍ (¬1) في الكلاب (¬2): ...... ... أولَى سَوَابِقَهَا قَرِيباً تُوزَعُ أي: تُغْرَى بالصَّيدِ» (¬3). * كثرةُ الشَّواهدِ الشِّعريَّةِ: كَثُرَتِ الشَّواهدُ الشِّعريَّةُ لمعاني الألفاظِ القرآنيَّةِ في كتابِ تفسيرِ غريبِ القرآنِ عند ابنِ قتيبة (ت:276)، وقد استفادَ في إيرادِ الشَّواهدِ (¬4) من مجازِ القرآنِ لأبي عبيدةَ (ت:210) الذي هو من أهمِّ مصادرِه. وقد بلغتْ أكثرَ من مائةِ شاهدٍ (¬5). ومن الأمثلة ما يأتي: 1 - قال: «{بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6]؛ أي: قاتلٌ نفسَك ومُهلكٌ نفسكَ، قال ذو الرُّمَّةِ (¬6): ¬
ألا أيُّها البَاخِعُ الوجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقَادِرُ» (¬1) 2 - وقال: «{الصَمَدُ}: السيدُ الذي انتهى في سُؤدَده؛ لأنَّ الناسَ يَصْمُدُونَه في حوائجهم، قال الشاعر (¬2): .......... ... خُذْهَا حُذَيْفُ فَأنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ وقال عكرمةُ ومجاهدٌ: هو الذي لا جوفَ له (¬3). وهو ـ على هذا التَّفسير ـ كأن الدال فيه مبدلةٌ من تاء. والمصمتُ من هذا» (¬4). * كثرةُ الاعتمادِ على الشواهدِ النَّثريةِ عن العربِ (¬5)، وكثيراً ما تكونُ عبارتُه: تقولُ العربُ (¬6). ومن الأمثلة: قال: «{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [ص: 12]: ذو البناءِ المُحْكَمِ، والعربُ تقولُ: ¬
أثر المعتقد على التفسير اللغوي عند ابن قتيبة
همْ في عِزٍّ ثابتِ الأوتادِ، وملكٍ ثابتِ الأوتادِ. يريدونَ أنه دائمٌ شديدٌ ...» (¬1). أثر المعتقد على التَّفسير اللُّغويِّ عند ابن قتيبة: لا يخفى على من يقرأ تراثَ ابنِ قتيبة (ت:276) إتباعُه للسُّنَّةِ، والتزامُه بما ورد عن السَّلفِ في المعتقدِ، فقد كتبَ في ذلك كتابَه (اختلاف اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة)، وكتاب (تأويل مشكل القرآن)، وكتاب (تأويل مشكل الحديث). ولقد كان يواجه موجةَ التَّأويل الفاسدِ التي كانت تقومُ بها زمرةٌ من المعتزلةِ والملاحدةِ فردَّ عليهم، وبين الصَّواب من المعتقد في ذلك، سواءٌ أكانَ ذلك في الأسماءِ والصِّفاتِ (¬2)، أم كان في الغيبيَّاتِ؛ كالكرسيِّ والعرشِ، أم كانَ في عصمةِ الأنبياءِ، وغيرها من مسائلِ الاعتقادِ (¬3). ¬
وسأذكر بعضَ الأمثلة المتعلقة بدلالة الألفاظ. 1 - تفسيرُ الصُّورِ، قال: «{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87]، قال أبو عبيدة (¬1): هو جمع صورة، يقال: صُورَة وصُوَر وصُوْر. قال: ومثله: سُورَةُ البناءِ وسُورُه. وأنشدَ (¬2): ....... ... سُرْتُ إلَيهِ في أعَالِي السُّورِ وقال غيره: الصُّورُ: القرنُ بلغةِ قومٍ من أهل اليمنِ (¬3)، وأنشدَ (¬4): ¬
نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الجَمْعَينِ بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَينِ نَطْحاً شَديداً لاَ كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ وهذا أعجبُ إليَّ من القولِ الأولِ؛ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله: كيف أنعم؟! وصاحب القرن قد التقمه، وحنى جبهته، ينتظرُ متى يُؤمرُ، فينفُخ» (¬1). في هذا المثالِ حملَ معنى الصُّورِ على الواردِ في الأحاديثِ، وترك المعنى اللُّغويَّ الذي رواه عن أبي عبيدة (ت:210). 2 - وقال: «ومن صفاتِه المؤمنُ. وأصلُ الإيمانِ: التصديقُ، قال: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، أي: وما أنت بمصدِّق ولو كنا صادقين. ويقال في الكلام: ما أومِنُ بشيءٍ مما تقولُ؛ أي: ما أصدِّقُ بذلكَ. فإيمان العبدِ باللهِ: تصديقه قولاً وعملاً وعقداً، وقد سمَّى اللهُ الصلاةَ في كتابهِ إيماناً، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أي: صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ. فالعبدُ مؤمنٌ؛ أي: مصدقٌ محقِّقٌ. واللهُ مؤمنٌ؛ أي: مصدِّقٌ ما وعده ومحقِّقُهُ، أو قابلٌ إيمانَه. وقدْ يكونُ المؤمنُ من الأمانِ؛ أي: لا يأمنُ إلاَّ من أمَّنه اللهُ. وقد ¬
ذكرتُ الإيمانَ ووجوهه في كتابِ تأويل مشكل القرآن (¬1). وهذه الصفةُ من صفاتِ اللهِ جلَّ وعزَّ لا تتصرَّفُ تصرُّفَ غيرها، لا يقال: أمِنَ اللهُ؛ كما يقالُ: تقدَّسَ اللهُ، ولا يقالُ: يؤمنُ الله، كما يقالُ: يتقدَّسُ اللهُ. وكذلك يقال: تعالى اللهُ، وهو تفاعُلٌ من العلو. وتباركَ اللهُ، هو تفاعلٌ من البركةِ، واللهُ متعالٍ، ولا يقالُ: متباركٌ، لمْ نسمعْهُ. وإنما ننتهي في صفاتِهِ إلى حيثُ انتهى، فإنْ كانَ قد جاءَ من هذا شيءٌ عن الرسولِ صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ، أو عن الأئمَّةِ (¬2): جازَ أنْ يُطلقَ كما أُطلِقَ غيره» (¬3). في هذا المثالِ بينَ المعنى اللغويَّ للإيمان، وبيَّنَ المعنى الشرعيَ له، وذكر دليلاً على ذلك، ولم يعتمد على المعنى اللغوي فقط في إثبات المرادِ بالإيمانِ، كما هو حال المرجئةِ الذين يجعلونه مجردَ التصديقِ، ولا يدخلون الأعمالَ في مسمى الإيمانِ. ¬
ثالثا: غريب القرآن لابن عزيز السجستاني
ثالثاً غريب القرآن، لأبي بكر محمد بن عُزَيز السجستاني لقي كتابُ ابنِ عُزَيزٍ (على زِنَةِ: زُبَير) (¬1) شهرةً واسعةً، وحَظِيَ بقبولِه الحسنِ عندَ العلماءِ (¬2). وكان ابن عُزَيز (ت:330) قد قرأ جزءاً من كتابِه على شيخِه أبي بكرٍ محمدِ بنِ القاسمِ بنِ بشارٍ الأنباري (ت:328) (¬3). ولقدْ كانَ من قبلَه ممن كتبَ في (غريبِ القرآنِ) يتَتَبَّعُ ألفاظَ كُلِّ سورةٍ منَ القرآنِ على ترتيبِ المصحفِ. أمَّا ابنُ عُزَيزٍ (ت:330)، فيتمثَّلُ منهجُه فيما يأتي: 1 - أنه رتَبه على حروفِ المعجمِ ألفبائياً، ويعتبرُ أوَّلَ من فعلَ ذلك من كتبِ غريبِ القرآنِ؛ لأنَّ غالبَ من سبقهُ يُرتِّبُه على سورِ القرآنِ، ويذكرُ تحت كلِّ سورةٍ الألفاظَ التي سيفسِّرها حسب ترتيبها في السُّورةِ (¬4). 2 - أنه جعلَ كُلَّ حرفٍ على ثلاثةِ أقسامٍ، فبدأ بالمفتوحِ، ثُمَّ المضمومِ، ثُمَّ المكسورِ. ¬
اهتمامه بالوجوه والنظائر
3 - أنه أدخلَ حروفَ الزوائدِ في موادِ الكلماتِ، دونَ إرجاعِها إلى أصلِ اشتقاقِها، فكلمةُ: «أدبار» تجدها في باب: الهمزةِ المفتوحةِ، ولو كان يسيرُ على الأصلِ الاشتقاقي لكانت تحتَ مادةِ: «دَبَرَ» من حرفِ الدالِ. كما تجدُ كلمةَ: «يذرؤكم» في باب: الياء المفتوحة، ولو كانتْ على الأصلِ الاشتقاقيِّ، لكانتْ تحتَ مادةِ: «ذَرَأَ» من حرفِ الذَّالِ. وهذا المنهجُ لم يُسْبَقْ إليه، كما لم يُلْحَقْ به، واللهُ أعلم. ولمَّا كانَ ابنُ عُزَيْزٍ (ت:330) قدْ سُبِقَ في التَّأليف في (غريب القرآن)، فإنه قد استفادَ من سابقيه، خاصةً أبو عبيدةَ معمر بن المثنى (ت:210) في كتابِه (مجازِ القرآنِ)، حيث كانَ معتمدَه الأولَ في غريبِ القرآنِ، وهذا ظاهرٌ بالموازنةِ بين أقوالِ أبي عبيدةَ (ت:210) وأقوال ابن عُزَيز (ت:330)، وهو لا يصرِّحُ بذكرِه في كُلِّ موضعٍ، ومع ذلك تجد أن أبا عبيدةَ (ت:210) أكثرُ الأعلامِ الذين صرحَ بذكرِهم في كتابِه هذا، حيثُ ذكرَه ثلاثَ عشرةَ مرةً (¬1). ثمَّ يتلوه الفراءُ (ت:207) وكان اعتمادُه على كتابِه (معاني القرآن)، وقدْ وردَ ذكرُه تسعَ مراتٍ (¬2)، ثم ابنُ عباسٍ (ت:68) حيثُ وردَ ذكرُه خمسَ مراتٍ (¬3). ويلاحظ أنه في نقله أقوالَ هؤلاءِ وغيرِهم لا يعترضُ عليهم ولا يُرجِّحُ بين أقوالِهم عند الاختلافِ، بل يكتفي بحكايةِ الخلافِ عنهم، وليس في كتابِ ابنِ عُزَيزٍ (ت:330) ما يمكنُ إضافتُه إلى الظواهرِ اللغويَّةِ في التَّفسيرِ التي وُجِدَتْ عندَ سابقيه منْ كتبِ (غريب القرآن) سوى اهتمامِه بالوجوه والنَّظائر في بعض الألفاظ القرآنيَّةِ (¬4)، ومن ذلك: ¬
1 - قال ابن عُزيز (ت:330): أمَّة على ثمانيةِ أوجهٍ: أُمَّة؛ جماعة؛ كقوله جَلَّ ثناؤه: {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]. وأُمَّة: أتباعُ الأنبياءِ عليهم السلام؛ كما تقولُ: نحنُ منْ أُمَّة محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم. وأُمَّة: رجلٌ جامعٌ للخيرِ يُقتدَى به؛ كقولِه جل ثناؤه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120]. وأُمَّة: دِينٌ ومِلَّةٌ؛ كقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 43]، أي: على مِلَّةٍ. وأُمَّة: حينٌ وزمانٌ؛ كقولِه عزّ وجل: {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 11]، وقوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 54]؛ أي: بعدَ حينٍ. ومن قرأ: «بعد أمْه» (¬1) و «أمَهٍ» (¬2)؛ أي: بعد نسيانٍ ....» (¬3). 2 - وقال: {جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]: أقوياء، عظام الأجسام، والجبَّارُ القهارُ. والجبَّارُ: المتسلطُ. والجبَّارُ: المتكبِّرُ؛ كقوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. والجبَّارُ: القتَّالُ؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]؛ أي: قتَّالين» (¬4). ¬
صور التفسير اللغوي عند ابن عزيز
ومنَ الظَّواهرِ اللُّغويَّةِ الأخرى ما يأتي: أولاً: توجيهُ القراءاتِ: كان لتوجيه القراءات التي لها أثر في المعنى، نصيبٌ لا بأس به (¬1)، ومن ذلك: * قال في قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260]: «ضُمَّهُنَّ إليك، ويقال: أَمِلْهُنَّ إليك. و «صِرهن» ـ بكسر الصاد ـ (¬2): قَطِّعهُنَّ، والمعنى: فخذْ أربعةً منَ الطيرِ إليكَ، فَصِرْهُنَّ؛ أي: قَطِّعْهُنَّ» (¬3). * وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، قالَ: «غُلْفٌ: جمع أغلفْ، وهو كُلُّ شيءٍ جعلتَه في غلافٍ؛ أي: قلوبُنا محجوبةٌ عمَّا تقولُ: كأنَّها في غُلْفٍ. ومن قرأ غُلُف بضمِّ اللامِ (¬4)، أرادَ: جمعَ غلافٍ، وتسكينُ اللامِ فيه جائزٌ أيضاً، مثلَ كُتُبٍ وكُتْبٍ؛ أي: قلوبُنا أوعيةٌ للعلمِ، فكيفَ تجيئنا بما ليس عندنا؟» (¬5). * وفي قوله: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] قال: «يسرعونَ، يقال: جاءَ الرَّجلُ يَزِفُّ زَفِيفَ النعامةِ، وهو أوَّلُ عَدْوِهَا وآخرُ مَشْيِهَا. ¬
وتُقرأ: «يُزِفُّونَ»؛ أي: يصيرونَ إلى الزَّفِيفِ ... ويقرأ أيضاً: «يَزِفُونَ» بالتخفيف (¬1) من وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى: أسرعَ. ولم يعرفْها الفرَّاءُ ولا الكسائيُّ (¬2)، قال الزَّجَّاجُ (¬3): وعرفَها غيرُهما» (¬4). ثانياً: الاستشهادُ بالشِّعرِ: كانَ حظُّ الاستشهاد بالشِّعرِ عند ابنِ عُزَيزٍ (ت:330) في بيانِ الألفاظِ القرآنيَّةِ قليلاً (¬5)، ولم يكنْ في ذلك مثلُ أبي عبيدةَ (ت:210) الذي تميزَ بكثرةِ شواهدِه الشِّعريَّةِ، مع أنه اعتمدَ على كتابه (مجاز القرآنِ) واستفادَ منه بعضَ الشَّواهدِ، كما لم يبلغْ نصفَ شواهدِ ابنِ قتيبةَ (ت:276). أمَّا استشهاد ابن عزيز (ت:330) بمنثورِ كلامِ العربِ من جاهليينَ وإسلاميِّينَ، وكذا استشهادُه بأقوالِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، فكان قليلاً، كما هي العادةُ عند علماءِ اللُّغةِ والنَّحوِ في الاستشهادِ بالمنثورِ من كلامِ العربِ ومن الحديثِ النَّبويِّ. ومن الأمثلةِ في استخدامِ الشَّواهدِ الشِّعْريَّةِ: * في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] قال: «أعلمتكم، فاستوينا في العلمِ، قال الحارث بن حِلِّزَة (¬6): ¬
آذَنَتْنَا بِبَينِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ آذنتنا: أعلمتنا» (¬1). * وفي قوله تعالى: {ارْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12]، قال: «... ويقال: نرتعْ (¬2): نأكلْ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬3): وَيُحَيِّيني إذَا لاَقَيْتُهُ ... وَإِذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ أي: أكل ...» (¬4). ومن أمثلةِ الاستشهاد بالمنثورِ: * قال ابن عُزَيزٍ (ت:330): {ثَجَّاجًا} [النبأ: 14]: متدفِّقاً، ويقال: ثجَّاجاً: سَيَّالاً، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: أحب العمل إلى الله تعالى العَجُّ والثَجُّ (¬5). فالعَجُّ: التلبية، والثَجُّ: إسالة الدماء عند الذبح والنحر» (¬6). ¬
منهج كتب غريب القرآن في ترتيبها
* وقال: «... والأمانيُّ: الأكاذيب، أيضاً، ومنه قول عثمان (¬1): ما تمنَّيتُ منذ أسلمتُ: أي: ما كذبت. وقولُ بعضِ العربِ لابن دَابِ (¬2) ـ وهو يُحَدِّث ـ أهذا شيء رويتَهُ، أم شيء تمنَّيتَهُ؛ أي: افتعلته ...» (¬3). * وقال في قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] (¬4): «أي: نَنْعَمُ ونَلْهُو، ومنه: القيدُ والرَّتْعَةُ (¬5)، تضربُ مثلاً في الخِصْبِ والجَدْبِ» (¬6). وبعد هذا الحديث عن هذه الكتبِ الثلاثةِ أذكرُ ملحوظاتٍ تتعلَّقُ بعلمِ غريبِ القرآنِ، وهي: * أنَّ ترتيبَ هذه الكُتبِ سارَ على أسلوبينِ: الأولُ: أنْ يسلُكَ المؤلِّفُ ترتيبَ ألفاظِ القرآنِ حسبَ ورودِها في السُّورِ، فيذكرُ ألفاظَ الآياتِ مرتَّبةً، وهذا كما سبقَ في كتابِ مجازِ القرآنِ، وتفسيرِ غريب القرآنِ. الثاني: أن يرتِّبها على الحروفِ، وعلى هذا سارَ ابن عُزيزٍ (ت:330)، غير أنَّه سلكَ بها طريقاً لم يُتَّبعْ عليه كما سبق بيانُه. ثمَّ كتبَ من بعدَه مرتِّباً على الحروفِ الألفبائِيَّةِ حسبَ أصلِ الكلمةِ، كما هو معروفٌ في معاجمِ اللُّغةِ، ومن أمثلِ من كتبَ على هذه الطَّريقةِ ¬
الراغبُ الأصفهانيُّ (ت: بعد:400)، وكتابُه من أوسعِ كتبِ غريبِ القرآنِ وأحسنِها (¬1). وهذه الطَّريقةُ أتاحتْ للرَّاغب (ت: بعد:400) ـ لتوسِعه في عرضِ المفرداتِ ومواطِنها في القرآنِ ـ ذكرَ معاني اللَّفظِ في مواردِه من القرآنِ، مع بيانِ أصلِ معناه في كثيرٍ من الألفاظِ (¬2). وهي أنفعُ من حيثُ جمع المتناظرِ من مادَّةِ اللَّفظِ، وهي أقربُ إلى فكرةِ الوجوهِ والنَّظائرِ التي كتبَ فيها مفسِّرُو السَّلفِ، فتجد ـ مثلاً ـ في مادَّةِ صلبَ: تفسيرَ الصُّلبِ والأصلابِ، والصَّلبِ (¬3)، وموادُّ هذه الألفاظِ في سورٍ شتَّى، فمن يكتبُ على ترتيب الآياتِ في السُّورِ يُفرِّقُ تفسيرَها حسبَ مواضِعها في السُّورِ. ومن يكتبُ حسب أصل الكلمة وترتيبها على حروف المعجمِ يجعلها تحت مادَّةٍ واحدةٍ، وهذه أكثرُ فائدةً في تقريبِ الألفاظِ إلى بعضِها وجمعِ النَّظيرِ إلى نظيرِه، إذ قد لا يخطرُ ببالكَ أنَّ لفظَ «وسق» و «اتَّسق» من أصل واحدٍ، وهو الجمعُ (¬4)، أو قد تبحثُ عن مادَّةِ «سطر»، فتجدُ فيها من الألفاظِ: «يسطرون»، و «مسطور»، و «أساطير»، فهلْ تكونُ لفظةُ «المسيطرون»، و «مسيطر» من هذه المادَّةِ، أمْ هي من مادَّةِ «صيطر»، وقُلِبَتْ الصَّادُ فيها إلى السِّينِ، وهل بينهما تقاربٌ في المعنى (¬5)؟ ¬
ملاحظات عامة على كتب غريب القرآن
وهكذا غيرها من اللَّطائفِ والفوائدِ التي ستجدُها في هذه الطَّريقةِ، واللهُ المُوفِّقُ. * يلاحظُ أنَّ بعضَ العلماءِ قصدَ جمعَ غريبِ القرآنِ وغريبِ الحديثِ في تدوينٍ واحدٍ، كأبي عبيد أحمد بن محمد الهرويِّ (ت:401) (¬1) في كتابه المسمَّى بالغريبين (¬2)، كما أنَّ من ألَّفَ في غريبِ الحديثِ مفرداً لا يخلو من تفسير ألفاظِ القرآنِ، كما سيأتي التَّمثيلُ لكتبِ غريبِ الحديثِ في المصدر الخامسِ. * أنَّ من كتبَ بعد استقرارِ تدوينِ اللُّغةِ لم يأتِ بجديدٍ يُذكرُ في المعاني، وإنْ كانَ ثمَّةَ ما يُذكرُ، فإنَّ الراغبَ الأصفهانيَّ (ت: بعد 400) قد أدخلَ في كتابِه شيئاً من أقوالِ الحكماءِ، ويعني بهم الفلاسفةَ (¬3)، وهذا خارجٌ عن التَّفسيرِ بلغةِ العربِ. * أنه لم يَسْلَمْ غالبُ المتأخرينَ من تأثيرِ المعتقداتِ المخالفةِ لأهلِ السُّنَّةِ على تفسيراتهم اللُّغويَّةِ، وهذا يتضحُ لمن يقرأُ في كتب (غريبِ القرآنِ)، والله أعلم (¬4). ¬
المصدر الرابع: كتب معاجم اللغة
المصدرُ الرابع كتب معاجم اللغة وفيه: أولاً: كتاب العين، للخليل. ثانياً: جمهرة اللغة، لابن دريد. ثالثاً: تهذيب اللغة، للأزهري.
المصدرُ الرابع كتب المعاجم اللغوية سبقتِ الإشارةُ إلى (المعاجمِ اللغويةِ)، وأنها على قسمين: الأولُ: كُتُبٌ اعتمدتْ على الموضوعاتِ اللُّغويَّةِ؛ أي: جمع الألفاظِ اللُّغويَّةِ التي تتعلقُ بموضوعٍ واحدٍ من الموضوعاتِ اللُّغويَّةِ؛ ككتابِ (الأضدادِ) لأبي حاتمٍ السِّجستانِيِّ (ت:255)، وكتابِ (الأنواءِ) لابن قتيبةَ (ت:276)، وغيرِها. وقدِ اجتهدَ بعضُ علماءِ اللُّغةِ في جمعِ عِدَّةِ موضوعاتٍ في كتابٍ واحدٍ؛ كأبي عبيدٍ القاسمِ بنِ سلامٍ (ت:224) في كتابِهِ (الغريب المصنف)، وعلي بنِ إسماعيلَ المعروفِ بابنِ سِيدَه (ت:458) (¬1) في كتابِهِ (المخصص). الثاني: كُتُبٌ اعتمدتْ على الحروفِ الهجائيَّةِ في ترتيبِ أبوابِها، وإن اختلفتْ في طريقةِ ترتيبِها؛ ككتاب (العينِ) للخليلِ بن أحمدَ (ت:175)، وكتابِ (الجيمِ) لأبي عمرو الشَّيبانيِّ (ت:220)، وكتابِ (تهذيبِ اللُّغةِ) لأبي منصور الأزهريِّ (ت:370)، وغيرها. وهذا القسمُ هو الذي ستكونُ الدراسةُ فيه؛ لأنه أكثرُ تعرُّضاً لألفاظِ القرآنِ من سابقِه، فضلاً عنْ أنَّ أغلبَ كتبِ الموضوعاتِ قد احتوتْهُ كتبُ معاجمِ الألفاظِ التي رُتِّبَتْ على الحروفِ. ¬
وسأتحدث في هذا الشأنِ عن ثلاثةِ كتبٍ من كتبِ المعاجمِ التي سارتْ في ترتيبِها على الحروفِ، وهي: كتابُ (العينِ)، وكتابُ (جمهرةِ اللغة)، وكتابُ (تهذيبِ اللغةِ). وقد قرأتها، وقمتُ بإخراجِ كلِّ المواضعِ التي فيها تفسيرٌ لألفاظِ القرآنِ أو آياته، وسأذكرُ في كلِّ كتابٍ صورَ التفسيرِ اللغوي كما وردتْ فيه، والله الموفق.
أولا كتاب العين، للخليل بن أحمد
أولاً كتاب العين يُنسَبُ كتابُ (العينِ) لإمامِ اللُّغةِ الخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، رواهُ عنه تلميذُه اللَّيثُ بنُ المظفرِ بنِ نصرٍ بنُ سيَّارٍ، وقدْ شَكَّكَ بعضُ العلماءِ في صِحَّةِ هذه النِّسبةِ (*)؛ كالنَّضْرِ بنِ شُمَيلٍ (ت:203) (¬1)، وأبي حاتمٍ السِّجستانيِّ (ت:255) (¬2)، وأبي عليٍّ القاليِّ (ت:356) (¬3)، والأزهريِّ (ت:370) (¬4)، والزُّبيديِّ (ت:379) (¬5). وبِتصفُّحِ الكتابِ ظهرَ لي ما يأتي: 1 - أنَّ فيه إبداعاً يُناسبُ عقلَ الخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175). ¬
2 - أنَّ اللَّيثَ قد أدخلَ عليه تعليقاتٍ وسماعاتٍ سَمِعَهَا من الأعرابِ، وقد كانَ يَنُصُّ عليها أحياناً؛ كقوله: «قلتُ لأبي الدُّقَيش (¬1): هلْ لَكَ في زُبْدٍ ورُطَبٍ؟» (¬2). 3 - أنَّ هناكَ تعليقاتٌ أُدخِلَتْ على نصِّ كتابِ العينِ من غيرِ اللَّيثِ، مثلَ ما وردَ من تعليقٍ على لفظةِ «يد» حيثُ وردَ ما يأتي: «قال أبو أحمد حمزةُ بنُ زرعةَ (¬3): قوله: «يد» دخلَها التَّنوينُ، وذكر أنَّ التنوينَ إعرابٌ» (¬4). ولهذا تجدُ في كتابِ (العينِ) أسماءَ أشخاصٍ كانوا بعد الخليلِ (ت:175) بزمنٍ (¬5)، وليس في هذا تضعيفٌ لصحَّةِ نسبةِ الكتابِ؛ لأنَّ بعضَ النُّسَّاخِ كانَ يُدخِلُ تعليقاتِ العلماءِ في نَصِّ الكتابِ؛ لظهور ذلك عنده، ولثقتِه بعدم خفاء ذلك على من يَطَّلِعُ عليه من العلماء (¬6). ويبدو ـ واللهُ أعلمُ ـ أنَّ أصلَ الكتابِ للخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، وأنَّ عليه زياداتٍ زادَهَا تلميذُه اللَّيثُ بنُ المظفَّرِ، ثم زِيدَ على بعضِ نُسَخِهِ أقوالٌ لبعضِ المتأخرين. وسواءٌ أكانَ كتابُ (العينِ) للخليلِ بنِ أحمدَ (ت:175)، أمْ كانَ لتلميذِهِ اللَّيثِ بنِ المظفَّرِ، فإنه يُعَدُّ أوَّلَ مؤلَّفٍ معجميٍّ رُتِّبَ على الحروفِ الهجائيَّةِ. ¬
صور التفسير اللغوي في كتاب العين
والعجيبُ أنَّ ناقدي كتابِ (العين) من معاصريه ومنْ بعدهم، لم يشيروا إلى إمامةِ كتابِ (العينِ) في التَّصنيفِ على حروفِ المعجمِ، ومحاولتِه جمعَ ما جاء عن العربِ في هذا المؤلَّفِ، وهذا إبداعٌ كانَ يلزمُ له الإذعانُ والقبولُ. ووقوعُ الخطأ فيه ـ إنْ صحَّ ذلكَ ـ لا يجعلُهُ منبوذاً لا تصحُّ الاستفادةُ منه! إذ كان يكفي في ذلك بيانُ مواطنِ الخطأ فيه من هؤلاءِ العلماءِ؛ لأنَّ ذلك هو دأبُهم مع غيرِه من الكتبِ التي انتقدوها، حيثُ كانَ لهم تعليقاتٌ وردودٌ على كثيرٍ من الكتبِ، ولم يكنْ في ذلكَ غَضٌّ وانتقاصٌ من الكتابِ المردود عليه، ولا من مؤلِّفِهِ. ولمَّا كانَ كتابُ (العين) معجماً يسيرُ على الحروفِ، فإنَّ منهجَه في التَّفسيرِ له شَبَهٌ بكتبِ (غريب القرآن) التي تذكرُ اللَّفظَ القرآنيَّ ثمَّ تبينُ معناهُ. وكتبُ معاجم الحروف تفعلُ ذلكَ، حيثُ تذكرُ اللَّفظَ القرآنيَّ، ثمَّ تبينُ معناهُ في لغةِ العربِ، وقدْ تستشهدُ على ذلكَ بأشعارِ العربِ. ومن صور تفسير ألفاظ القرآن في كتاب (العين)، ما يأتي: أولاً: بيانُ معنى اللفظةِ القرآنيةِ دونَ ذكر شاهدٍ عليها: وهذا عليه أغلبُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في كتابِ (العين)، ومنْ ذلكَ: 1 - قولُه: «والمُهْطِعُ: المقبلُ ببصرِهِ على الشيءِ لا يرفعُهُ عنه، قال اللهُ عزّ وجل: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43]» (¬1). 2 - وقال: «الجَنَفُ: الميلُ في الكلامِ وفي الأمورِ كلِّها، تقولُ: جَنَفَ فلانٌ علينا، وأجنفَ في حكمِهِ، وهو شبيهٌ بالحَيفِ، إلاَّ أنَّ الحيفَ من الحاكمِ خاصَّةً، والجَنَفُ عامٌّ، ومنه قولُ الله عزّ وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ ¬
جَنَفًا} [البقرة: 182]، وقوله جلَّ وعزَّ: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3]؛ أي: متمايلٍ متعمِّدٍ» (¬1). وقدْ يُتبعُ تفسيرَه اللُّغويَّ للَّفظةِ بذكرِ معناها في الآيةِ على جهةِ تفسيرِ المعنى المرادِ بها في الآيةِ، لكنه قليلٌ جداً، ومنْ ذلكَ قوله: «الدَّعُّ: دفعٌ في جفوةٍ، وفي التَّنْزيلِ العزيزِ: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2]؛ أي: يُعَنِّفُ به عنفاً شديداً ودفعاً وانتهاراً؛ أي: يدفعُه حَقَّهُ وصِلَتَهُ» (¬2). ففي هذا المثال تراه بينَ المعنى المرادَ بالآيةِ بعد ذِكْرِه المعنى اللُّغويَّ للَّفظةِ، وكأنه يريدُ أنْ يقولَ: إن الدَّعَّ ـ وإنْ كانَ في اللُّغةِ بمعنى الدفعِ ـ يدخلُ فيه منعُ حقِّ اليتيمِ وصلتِهِ، والله أعلم. ثانياً: الاستشهاد بالشعر على معنى اللفظة القرآنية: لقدْ كانَ الاستشهادُ بالشعرِ قليلاً في كتابِ العينِ، إذا ما قِيسَ بالكلماتِ القرآنيَّةِ التي أوردَ بيانَ معناها في لغةِ العربِ، ومن أمثلةِ الاستشهادِ بالشِّعرِ ما يأتي: 1 - قال: «وكُبْرُ كلِّ شيءٍ: عُظْمُه، وقولُه عزّ وجل: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] يعني عُظْمَ هذا القَذْفِ. ومن قرأ: «كِبْرَهُ» (¬3) يعني: إثمَه وخِطْأَهُ. قال علقمة (¬4): ¬
بَدَتْ سَوابِقُ مِنْ أُولاَهُ نَعْرِفُهَا ... وَكُبْرُهُ فِي سَوَادِ اللَّيلِ مَسْتُورُ» (¬1) 2 - قال: «والرَّجْوُ: المبالاةُ، يقال: ما أرجو؛ أي: ما أُبالي، من قولِ اللهِ عزّ وجل: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]؛ أي: لا تخافون ولا تبالون، وقال أبو ذؤيب (¬2): إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيتِ نُوبٍ عَوَاسِلُ أي: لم يكترث» (¬3). ثالثاً: تفسير ألفاظ قرآنية دون ذكر الآية: يكثرُ في كتبِ المعاجمِ بيان معاني ألفاظٍ قرآنيةٍ دونَ ذكرِ الآيةِ التي ورد فيها هذا اللفظُ، وفي كتابِ العينِ من هذا القبيلِ كثيرٌ (¬4)، ومنْ أمثلتِهِ: 1 - قال: «وعُقْدَةُ النكاحِ: وجوبه» (¬5). وفي القرآنِ قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]. 2 - وقال: «وبئرٌ معطلةٌ؛ أي: لا تُورَدُ ولا يُسْقَى منها» (¬6). وفي القرآنِ قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45]. ¬
3 - وقال: «وقَطَعَ اللهُ دَابرهم، أي: آخرُ منْ بقيَ منهم» (¬1). وفي القرآنِ قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 45] وغيرها. رابعاً: توجيه القراءات: لا يخلو كتابٌ في مفرداتِ اللغةِ العربيَّةِ ـ ككتابِ العينِ وجمهرةِ اللغةِ وغيرِها ـ من توجيه القراءاتِ، وإن كان الاختلاف إنما يكونُ في القلَّةِ والكثرةِ في إيرادِ القراءاتِ المختلفةِ وبيانِ معانيها. ومما وردَ في كتابِ (العين): «وتقرأ الآية: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56]؛ أي: مستعدُّون، ومنْ قرأ «حذرون» (¬2)؛ فمعناه: إنا نخافُ شرَّهُم» (¬3). هذا، ولا يخلو كتابُ (العين) من تفسيرِ شيءٍ من الأساليبِ العربيَّةِ، أو ذِكْرِ شيءٍ منْ أسبابِ النُّزولِ وقَصَصِ الآي، أو بيانِ معنى الآيةِ، غير أنَّ ذلكَ قليلٌ جداً، إذ أنَّ جُلَّهُ ـ كما سبق ـ في بيانِ معاني المفرداتِ. ومنْ أمثلةِ ذلكَ ما يأتي: 1 - وقال: «وقولُ اللهِ تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]؛ أي: جماعتُهم، ولو كانتْ للأعناقِ خاصةً، لكانتْ خاضعةً وخاضعاتٍ. ومنْ قالَ هي الأعناقُ، والمعنى على الرجالِ، رَدَّ نُونَ خاضعين على أسمائِهم المضمرةِ» (¬4). ¬
2 - وقال: «والله يَكْنِي عن الأفعالِ، قال اللهُ عزّ وجل: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]: كَنَى عنِ النِّكاحِ» (¬1). ومما يتعلق بقصص الآية قوله: «ونتقتِ الملائكةُ جبلَ الطورِ؛ أي: اقتلعوه من أصلِه حتى أطلعوه على عسكرِ بني إسرائيلَ، فقال موسى عليه السلام: خذوا التوراةَ بما فيها، وإلاَّ أُلقِيَ عليكمْ هذا الجبلُ، فأخذوها، فقال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171]» (¬2). ¬
ثانيا: كتاب جمهرة اللغة، لابن دريد
ثانياً كتاب جمهرة اللغة ألَّفَ أبو بكرٍ محمدُ بنُ الحسنِ بنُ دُرَيدٍ (ت:321) كتابَه (جمهرة اللغة) إملاءً (¬1)، وكان إملاؤه في مراتٍ ثلاثٍ، في فارسَ، ثُمَّ البصرةَ، ثُمَّ بغدادَ (¬2). وهذا الإملاءُ لألفاظِ اللُّغةِ يدلُّ على سَعَةِ حفظِهِ واستيعابِهِ لهذه الألفاظِ اللُّغويَّةِ. ولقد كان ابنُ دريدٍ (ت:321) بصريًّا، ومع تأخُّرِ زمنِه، فإنك لا تكادُ تجِدُ في كتابِه نقلاً عن عالمِ لغةٍ كوفيٍّ؛ كالكسائيِّ (ت:183)، والفراء (ت:207)، وابن الأعرابيِّ (ت:231)، وأبي العباس ثعلب (ت:291)، وغيرِهم من الكوفيِّينَ المكثرينَ في نقلِ اللُّغةِ، وقد يكونُ إهمالُه النقَّلَ عنهم سبباً من أسبابِ نقدِ معاصِرِه نفطويه الكوفيِّ (ت:323) (¬3)، وتلميذِه الأزهريِّ (ت:370). قال الأزهريُّ (ت:370): «وممن ألَّف في عصرنا، ووُسِمَ بافتعال العربيَّة، ¬
صور التفسير اللغوي عند ابن دريد
وتوليد الألفاظ التي ليس لها أصول، وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامهم: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، صاحب كتاب جمهرة اللغة ... فسألت إبراهيم بن محمد الملقب بنفطويه عنه، فاستخفَّ به، ولم يوثِّقه في روايته ... وتصفَّحتُ كتاب الجمهرة له، فلم أره دالاً على معرفةٍ ثاقبةٍ، وعثرتُ منه على حروفٍ كثيرةٍ أزالها عن وجوهها، وأوقع في تضاعيف الكتاب حروفاً كثيرةً أنكرتُها، ولم أعرفْ مخارجها، فأثبتُّها من كتابي في مواقعِها منه؛ لأبحث عنها أنا وغيري ممن ينظرُ فيه، فإن صحَّتْ لبعضِ الأئمَّةِ اعتُمِدت، وإن لم توجد لغيرِه وُقِفَت» (¬1). هذا، وكتابُ (جمهرة اللغة) مثلُ أيِّ معجمٍ منْ معاجمِ اللُّغةِ التي سارتْ في ترتيبها على الحروفِ، أيْ أنَّه سيتعرضُ لبيانِ الألفاظِ القرآنيَّةِ؛ لذا فإنَّ ظواهرَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ لا تكادُ تختلفُ في هذه المعاجمِ، ومنْ هذه الظواهرِ: أولاً: أن يستشهد للَّفظ القرآنيِّ بالشِّعر: كانَ الاستشهادُ بالشِّعرِ في تفسير ألفاظِ القرآنِ قليلاً جداً (¬2) في كتابِ (جمهرةِ اللغةِ)، ومنْ ذلكَ: ¬
1 - قال ابن دُريد (ت:321): «والمُقِيتُ على الشيءِ: القادِرُ عليه، هكذا فُسِّرَ في التَّنْزِيلِ في قولِ اللهِ عزّ وجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 58]، والله أعلم. قالَ الشَّاعرُ (¬1): وَذِي ظَغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ، ... وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتاً أي: قادراً» (¬2). 2 - وقال: «وفلانٌ خَلَفٌ صالحٌ، وخَلْفُ سُوءٍ، هكذا يقولُ بعض أهلِ اللغةِ. وفي التنْزيلِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169]، قال لبيد (¬3): ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ، وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ» (¬4) ثانياً: أن يفسِّر اللَّفظة القرآنيَّة في الآية دون الاستشهاد بالشِّعر: وهذا القسمُ كثيرٌ في كتاب (جمهرةِ اللغةِ)، غيرَ أنَّه يُكثرُ فيه النقلَ والاعتمادَ على غيرِه، وقد يُبْهِمُ المنقولَ عنه، فلا يذكر اسمه، وأكثرُ منْ وقعَ التَّصريحُ باسمِه: أبو عبيدة (ت:210) (¬5). ¬
ومما فَسَّرَ منْ ألفاظِ القرآنِ منْ غيرَ استشهادٍ بالشِّعرِ: 1 - قال: «غَوَى الرجلُ يَغْوَي غَيًّا: منَ الغَيِّ، وهو خلافُ الرُّشْدِ. وفي التَّنْزِيلِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]» (¬1). 2 - وقال: «صَكَّ الشيءَ، يَصُكُّه صَكًّا: إذا ضربَهُ بيدهِ أو بحجرٍ. وفي التَّنْزيلِ: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات: 29]؛ أي: ضربتْ وجهَها بيدِها» (¬2). ومنَ الأمثلةِ التي نقلَها عنْ أبي عبيدةَ (ت:210) قولُه: «والغابرُ: الماضي، والباقي. هكذا يقولُ بعضُ أهلِ اللُّغةِ، وكأنَّه عندَهُم منَ الأضدادِ. وفَسَّرَ أبو عبيدةَ قولَه: {إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 171]: في الباقينَ، والله أعلم» (¬3). ومنْ أمثلةِ اعتمادِهِ على غيرِ أبي عبيدةَ (ت:210)، مع إبهامِ المنقولِ عنهم، ما يأتي: ¬
وهم ابن دريد في نسبة بعض الأقوال إلى أبي عبيدة
قال: «تلَّهُ يتُلُّه تلًّا: إذا صَرَعَهُ. وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]. والله أعلم بكتابه» (¬1). ولما كانَ ابنُ دريدٍ (ت:321) قدْ أَمْلَى كتابَه حفظاً، فإنه قدْ وقعَ منه في بعضِ ما نسبهُ إلى أبي عبيدةَ (ت:210) وَهْمٌ، ومن ذلك: 1 - قال: «وذكرَ أبو عبيدةَ في قولِه عزّ وجل: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8]؛ أي: شاخصونَ بعيونِهم رافعو رؤوسِهم. والإبلُ قِمَاحٌ: إذا قَامَحَتْ عنِ الماءِ، قالَ الشاعرُ (¬2): وَنَحْنُ عَنْ جَوَانِبِهَا قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالإبِلِ القِمَاحِ وهذا يخالفُ قولَ أبي عبيدةَ؛ لأنه قالَ: نَغُضُّ الطَّرْفَ، فكأنَّ المُقْمَحَ ـ واللهُ أعلمُ ـ: الرافعُ رأسَه، شاخصاً كان أو مُغْضِياً» (¬3). والذي جاءَ في (مجازِ القرآنِ): «المُقْمَحُ والمُقْنَعُ: واحدٌ تفسيرُه؛ أي: يجذبُ الذَّقْنَ حتى يصيرَ في الصدرِ، ثمَّ يرفعُ رأسَه، قالَ بِشْرُ بنُ أبي خَازِمٍ الأسدي (¬4): وَنَحْنُ عَنْ جَوَانِبِهَا قُعُودٌ، نَغُضُّ الطَّرْفَ كَالإبِلِ القِمَاحِ» (¬5) ¬
وقالَ في موضعٍ آخرَ: «... والإحْبَابُ في الإبلِ؛ كالحِرانِ في الخيلِ. قالَ أبو عبيدةَ: ومنه قولُه عزّ وجل: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]؛ أي: لَصِقْتُ بالأرضِ لِحُبِّ الخيرِ حتى فاتتني الصلاة، والله أعلم» (¬1). والذي وردَ في (مجازِ القرآنِ): «{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] مجازه: أحببته حباً، ثمَّ أضافَ الحُبَّ إلى الخيرِ» (¬2). وهذا يخالفُ ما رواهُ عن أبي عبيدةَ (ت:210)، وهذا الذي قالَه منسوبٌ إلى شيخه أبي حاتم السِّجستانيِّ (ت:255)، وقد يكون اختلطَ عليه، فَوَهِمَ في النَّسْبِ، وقد جاءَ في حاشيةِ نسخةِ (S) من نُسَخِ (مجازِ القرآنِ) التي اعتمدَ عليها المُحَقِّقُ ما نصُّه: «قالَ أبو حاتم: ليسَ الأمرُ كما ظَنَّ أبو عبيدةَ، وإنما معنى «أحببت»: لَزِمْتُ الأرضَ، يقالُ: بعيرٌ مُحِبُّ: إذا لَزِقَ بالأرضِ منْ مرضٍ به، قالَ الهُذليُّ (¬3): دَعَتْكَ إلَيهَا مُقْلَتَاهَا وجِيدُهَا، ... فَمِلْتَ، كَمَا مَالَ المُحِبُّ عَلَى عَمْدِ المُحِبُّ: اللازمُ للأرضِ لا يقومُ، والعَمْدُ: مَرَضٌ به، يقالَ: رجلٌ عميدٌ ومعمودٌ. أمَّا {حُبَّ الْخَيْرِ} فأرادَ ـ إنْ شاءَ اللهُ ـ حُبَّ الخيلِ؛ لأنه تشاغلَ بها عن الصلاةِ ... والمعنى: إني لَزِمْتُ الأرضَ وتشاغلتُ عنْ ذكرِ اللهِ؛ يعني: الصلاةَ، حُباً للخيلِ» (¬4). ¬
ثالثاً: أن يفسر ألفاظاً قرآنية دون ذكر الآيات: لقدْ كانَ عددُ الألفاظِ المفسَّرَةِ على هذه الصورةِ كثيراً (¬1)، حيثُ يذكرُ اللفظَ ومعناهُ في لغةِ العربِ، دونَ الإشارةِ إلى كونِه في التَّنْزيلِ أو ذكرِ آيةٍ وردَ فيها كما هي عادتُه في الأمثلةِ السَّابقةِ. ومن أمثلة ذلك: 1 - قال: «اللُّجَّةُ: لُجَّةُ البحرِ، وهو مُعظمُ مائِهِ، والجمعُ: لُجٌّ ولُجَجٌ ... والْتَجَّ البحر: إذا اضطربتْ أمواجُه» (¬2). وقد ورد في القرآن قوله تعالى: {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44]، وقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40]. 2 - وقال: «ويقالُ: في أمرِهِ دَخَلٌ؛ أي: فسادٌ؛ دَخِلَ أمرُهُ يَدْخَلُ دَخَلاً: إذا فسد» (¬3). وقد ورد في القرآنِ قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} [النحل: 92]، وقوله: {وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} [النحل: 94]. رابعاً: توجيه القراءات: كانتِ القراءاتُ التي وجَّهَها ابنُ دريدٍ (ت:321) قليلةً (¬4)، وكانَ بعضُها لا ¬
تحرز ابن دريد في التفسير
أثرَ له في المعنى واختلافِه. ومنْ أمثلةِ القراءاتِ التي وجهَها ما يأتي: 1 - قالَ: «ونَخِرَ العَظْمُ يَنْخَرُ نَخْراً: بَلِيَ، وهو عَظْمٌ نَاخِرٌ ونَخِرٌ، وقد قُرِئَ: {عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 11]، و «نَاخِرَةً» (¬1)، فمن قرأ: {نَخِرَةً} أراد: باليةً، والله أعلم. ومن قرأ: «نَاخِرَةً» أرادَ: أنَّ الريحَ تَنْخِرُ فيها، فيما يقال، لأنه قد بقيَ منها بقيةٌ» (¬2). 2 - وقال: «والنَّزِيفُ: السكرانُ أيضاً، وهو المُنْزَفُ، وفِي التنزيلِ: {لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19]؛ أي: لا يسكَرُونَ، هكذا يقولُ أبو عبيدةَ (¬3). وقد قُرِئَ: «يُنْزِفُونَ» (¬4)؛ أي: يُنفِدُونَها والله أعلم ...» (¬5). تَحَرُّزُ ابنِ دريدٍ في التفسير: لقدْ برزتْ لي أثناءَ قراءةِ كتابِ (جمهرةِ اللغةِ) ظاهرةُ تَحَرُّزِ ابنِ دريدٍ (ت:321) في التَّفسيرِ، بل في نقلِ اللُّغةِ كذلك، ومما يُثبِتُ تَحَرُّزَه ما يأتي: الأول: أنه قَلَّ أنْ يوردَ تفسيراً مقروناً بآيةٍ دونَ أنْ يَذكرَ عبارةَ: «واللهُ أعلمُ» (¬6)، أو ما شابهها؛ كقوله: «والله أعلم بكتابه» (¬7). ¬
ومن أمثلة ذلك: * قال: «وقوله عزّ وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]؛ أي: ناقصٍ، واللهُ أعلمُ» (¬1). * وقال: «الدَّرْكُ: المنْزلةُ، وكذا جاءَ في التَّنْزيلِ: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، فالنَّارُ دَرَكَاتٌ، والجنةُ درجاتٌ، واللهُ أعلمُ بكتابِه» (¬2). الثاني: كثرةُ نَسْبِهِ التَّفسيرَ لغيرِه: لقدْ كانَ ابنُ دريدٍ (ت:321) ـ على سَعَةِ اطِّلاعِهِ على معاني الألفاظِ في لغةِ العربِ ـ مُكثراً في نسبِ التَّفسيرِ لغيره على سبيل الإبهامِ في المفسِّرِ، مما يُشعِرُ بتهيُّبه من التَّفسيرِ، ولذا يوردُ مثلَ عبارةِ: «وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ» (¬1) وما شابهها، ولا ينسبُ التَّفسيرَ إلى نفسِه. ومن أمثلةِ ذلكَ: * قال: «والصُّدْفَانِ: جانبا الشِّعْبِ من الجَبَلِ، وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ» (¬2). * وقال: «والفرشُ من الإبلِ: صغارُها التي لا يُحْمَلُ عليها، والواحدُ والجمعُ فيه سواءٌ، وكذا فُسِّرَ في التَّنْزيلِ في قوله جلَّ وعزَّ: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142]، والله أعلم» (¬3). كما تجده ينسبُ إلى أبي عبيدة (ت:210) كثيراً من تفسيرِ ألفاظِ القرآنِ، إلاَّ أنه يُشعرُك في بعض ما ينقله عنه عدم الرضا بتفسيرِه، ويصرحُ لك حيناً بعدم قبوله، ومن ذلك: ¬
اتباعه اعتراضه على أبي عبيدة منهج شيخه أبي حاتم
قالَ: «وفي التَّنْزيلِ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات: 1]، ولا أُقْدِمُ على تفسيرِه، إلا أنَّ أبا عبيدةَ ذكرَ أنَّها النجومُ تنْزِعُ؛ أي: تطلعُ (¬1)، والله أعلم» (¬2). في هذا المثالِ تراه قد توقَّفَ في معنى «النازعات»، مع أنه ذكرَ تفسيرَ أبي عبيدةَ (ت:210)، وكأنَّ ذلك ـ والله أعلم ـ يَنِمُّ عنْ عدمِ رضاهُ بهذا التفسيرِ. وله مما يدلُّ على عدمِ تقليدِه أبا عبيدةَ (ت:210) في كُلِّ أقواله، قولُه: «... ويقال: العَنَتُ، أيضاً، من الإثمِ، عَنِتَ يَعْنَتُ عَنَتاً: إذا اكتسب مَأثماً. ولستُ أذكرُ قولَ أبي عبيدةَ في تفسيرِه في التَّنْزيلِ (¬3) فأُقَلِّدُهُ إياه» (¬4). وقالَ: «والرَّحْقُ: أصلُ بناءِ الرَّحيقِ، قالوا: وهو الصَّافي، والله أعلم. وفي التَّنْزيلِ: {مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25]. وخلَّطَ فيه أبو عبيدةَ، فلا أحبُّ أن أتكلمَ فيه» (¬5). وقدْ يكونُ سببُ ذلكَ التَّتَبُّعِ تأثُّرَه بشيخِهِ أبي حاتمٍ (ت:255) الذي كانَ ينتقدُ أبا عبيدةَ (ت:210) ويُشَنِّعُ عليه من أجلِ كتابِهِ مجازِ القرآنِ. ومنْ أمثلةِ ما نقده شيخُه أبو حاتم السجستاني (ت:255) على مجازِ القرآنِ ما يأتي: ¬
1 - قال أبو حاتم (ت:255): «وقالَ أبو عبيدةَ: أسْرَرْتُ الشَّيءَ: أخْفَيتُهُ وأظْهَرْتُهُ أيضاً. وكانَ يقولُ في هذه الآيةِ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 10]: أظهروها (¬1). ولا أثقُ بقولِه في هذا، والله أعلم» (¬2). 2 - وقال أبو حاتم (ت:255): «وكانَ أبو عبيدةَ يقولُ: خافَ: منَ الخوفِ ومنَ اليقينِ. وكانَ يقولُ في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا} [النساء: 3]؛ يريد: أيقنتم (¬3). ولا عِلْمَ لي بهذا؛ لأنَّه قرآنٌ، فإنما تحكيه عنْ ربِّ العالمينَ، ولا تدري لعله ليس كما يظُنُّ» (¬4). الثالث: توقُّفُه في بعض التَّفسيرِ: تجدُ في منهجِ ابن دريدٍ (ت:321) أنه يتوقَّفُ في المعنى المرادِ ببعضِ الألفاظِ في الآياتِ (¬5)، ولا يُقْدِمُ على تفسيرِها تورُّعاً منه في ذلك، ومنَ الأمثلةِ الواردةِ في ذلك ما يأتي: * قوله: «وأما قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أي: خَلَتْ من الماء، وزعموا أنه من الأضدادِ، ولا أحبُّ أن أتكلم فيه» (¬6). * وقال: «والحين: حقبة من الدَّهر، وقد جاء في التَّنْزيل، واختلف فيه المفسِّرون، ولا أحب أن أتكلم فيه» (¬7). سلسلة التَّورُّع في التَّفسير من ابن دريد إلى الأصمعيِّ: ولا يخفى على منْ يقرأُ كتبَ ابنِ دريدٍ (ت:321) ما كانَ لأبي حاتمٍ ¬
السِّجستاني (ت:255) من منزلةٍ وأثرٍ عليه، وقد كانَ مكثراً من النقلِ عنه، والاعتمادِ عليه (¬1)، وجائزٌ أنْ يكونَ تأثَّرَ به في هذا التَّورُّعِ في التَّفسيرِ، والله أعلم، حيث ورد عنه مثل هذا، ومن ذلك: * قال أبو حاتم (ت:255): «قال: أبو عبيدةَ (¬2): {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]: أقبلَ، ويقالُ: أدبرَ». ثُمَّ ذكرَ شواهدَ أبي عبيدةَ (ت:210) على ذلك، ثمَّ قالَ: «قدْ تقلَّدَ أبو عبيدةَ أمراً عظيماً، ولا أظنُّ هاهنا معنىً أكثرَ من الاسودادِ. عَسْعَسَ: أظلمَ واسوَّدَ في جميعِ ما ذكرَ، وكلُّ شيءٍ من هذا البابِ في القرآن يُتَّقَى، وما لم يكنْ في القرآنِ، فهو أيسرُ خطباً» (¬3). * وقال أبو حاتم (ت:255): «وقالوا: المسجورُ: المملوءُ ... وقالَ بعضهم: المسجورُ: الفارغُ. بَلَغَني ذاك، ولا أدري ما الصَّوابُ، ولا أقولُ في قولِه تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] شيئاً، ولا أقولُ في قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]؛ لأنه قرآن، فأنا أتقيه» (¬4). هذا، ولا يبعدُ أنْ يكونَ أبو حاتم (ت:255) ـ كذلك ـ متأثراً في هذا بمذهبِ شيخِهِ الأصمعيِّ (ت:215) الذي اشتهرَ عنه أنه كان يَتَّقِي تفسيرَ القرآنِ، ولا يُفَسِّرُ لفظةً واردةً في القرآنِ (¬5). والله أعلم. ¬
والمقصودُ أنَّ هذا المذهبَ في التَّورعِ في النَّقلِ والتَّفسيرِ مما يُحسبُ لابن دريدٍ (ت:321)، والله أعلم. ¬
ثالثا: كتاب تهذيب اللغة، للأزهري
ثالثاً كتاب تهذيب اللغة ألَّفَ أبو منصورٍ محمدُ بنُ أحمدَ الأزهريُّ (ت:370) كتابَه «تهذيبَ اللغةِ» بعدَ بلوغِهِ سبعينَ سنةً؛ كما يُفهمُ منْ قولِهِ: «وكنتُ منذُ تعاطيتُ هذا الفنَّ في حداثتِي إلى أن بلغتُ السَّبعينَ، مولعاً بالبحثِ عن المعاني والاستقصاءِ فيها، وأخذِها من مظانِّهَا، وإحكامِ الكتبِ التي تأتَّى لي سماعُها منْ أهلِ الثَّبْتِ والأمانةِ للأئمةِ المشهَّرين، وأهلِ العربيةِ المعروفين» (¬1). ولا شكَّ أنَّ هذا البلوغَ في السِّنِّ يُعطي التأليفَ قوةً ورَويَّةً تخالفُ ما عليه شِرَّةُ الشبابِ منَ العجلةِ وعدمِ الاستيعابِ. ومِمَّا يتميَّزُ به هذا الكتابُ عنْ كتابِ العينِ وكتابِ جمهرةِ اللُّغةِ، ما يأتي: 1 - كثرةُ موادِّهِ اللُّغويَّةِ وكثرةُ مراجعِهِ. وقدْ أتاحَ لهُ ذلكَ تأخُّرُ وفاتِهِ، وتَوسُّعُهُ في الروايةِ عن البصريِّينَ والكوفيِّينَ والبغداديِّينَ، وهذا الجمعُ في الرِّوايةِ لا تجدُه في كتابِ العينِ ولا في كتابِ جمهرةِ اللُّغةِ. 2 - أنَّه أوسعُ مِمَّنْ تقدمه في عَرْضِ التَّفسيرِ، وقد كانَ التَّفسيرُ أحدَ مقاصدِ الكتابِ، وقدْ قالَ بشأنِ ذلك: «وكتابي هذا، وإنْ لم يكنْ جامعاً لمعاني التَّنْزيلِ وألفاظِ السُّنَنِ كلِّها، فإنَّه يَحُوزُ جُمَلاً منْ فوائدِهَا، ونُكَتاً من ¬
اعتماده في المادة التفسيرية على معاني الفراء والزجاج
غريبِها ومعانيها، غيرُ خارجٍ فيه عن مذاهبِ المفسِّرينَ، ومسالكِ الأئمَّةِ المأمونينَ من أهلِ العِلْمِ وأعلامِ اللُّغويِّينَ، المعروفينَ بالمعرفةِ الثَّاقبةِ والدِّينِ والاستقامةِ» (¬1). وقدْ تَتَبَّعتُ الأقوالَ التَّفسيريَّةَ التي ذكرَها في كتابِه كلِّه، ما نقله من التَّفسيرِ أو قالَ به، فظهر لي ما يأتي: 1 - أنَّ أغلبَ اعتمادِهِ في تفسيرِ الألفاظِ وبيانِ المعاني القرآنيَّةِ كان على الفرَّاءِ (ت:207) من كتابِهِ (معاني القرآن)، والزَّجَّاجِ (ت:311) من كتابِه (معاني القرآن وإعرابه). وقد روى هذينِ الكتابينِ بالسندِ إلى مؤلفَيهما. أمَّا الفراءُ (ت:207)، فقال عنه: «ومنْ مؤلفاتِهِ: كتابُه معاني القرآنِ وإعرابِه، أخبرنِي به أبو الفضلِ بنُ أبي جعفرَ المنذري، عن أبي طالبٍ بنِ سلمةَ، عن أبيه، عن الفراءِ، لم يَفُتْهُ من الكتاب كله إلا مقدارُ ثلاثةِ أوراقٍ في سورةِ الزُّخرفِ. فما وقعَ في كتابِي للفراءِ في تفسيرِ القرآنِ وإعرابِه فهو مما صحَّ روايتُهُ منْ هذهِ الجهةِ» (¬2). وقد بلغتِ الأقوالُ التَّفسيريَّة التي أحصيتها منقولةً عن الفرَّاءِ (ت:207) من كتابه (معاني القرآن) قرابةَ خمسينَ وستِّمائةِ قولٍ. وأمَّا الزَّجَّاجِ (ت:311)، فقال عنه: «ويتلو هذه الطبقةَ طبقةٌ أخرى أدركناهم في عصرِنا؛ منهم: أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ النَّحْويُّ صاحبُ كتابِ المعاني في القرآنِ ... وما وقعَ في كتابي له منْ تفسيرٍ فهوَ منْ كتابِهِ ...» (¬3). ¬
نقوله التفسيرية أكثر من أقواله الخاصة في التفسير
وقد بلغتِ الأقوالُ التَّفسيريَّةُ مما أحصيتُه منقولاً عن الزَّجَّاجِ (ت:311) من كتابه (معاني القرآن وإعرابه) قرابةَ ستينَ وستِّمائةِ قولٍ. أما النَّقلُ عنْ غيرِهما في التَّفسيرِ فهو أقلُّ بكثيرٍ من النَّقلِ عنهما، وقد نقلَ عن ابن عباسٍ (ت:68) (¬1)، ومجاهدِ بن جبرٍ (ت:104) (¬2)، وغيرِهما من المفسِّرين. ونقلَ تفسيراتٍ لابن الأعرابيِّ (ت:231) (¬3)، وثعلبَ (ت:291) (¬4)، وغيرِهما من اللُّغويِّين. 2 - كما ظهرَ لي أنَّ الأقوالَ التي نقلَهَا في التَّفسيرِ أكثرُ من أقوالِهِ التَّفسيرية (¬5)، وكان له في بعضِ الأحيانِ اجتهادُهُ الخَاصُّ به، يظهرُ ذلك في ترجيحاتِهِ في بعضِ الاختلافاتِ التَّفسيريَّةِ. ومِنْ ذلكَ: قوله: «وقولُ الله جلَّ وعزَّ: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، قالَ الفرَّاءُ: هذا مما أُضيفَ إلى نفسهِ، وهو ¬
مثلُ قولِهِ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]، ومثلُه قولُه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، والحَبْلُ: هو الوريدُ نفسُهُ، فأضيفَ إلى نفسه لاختلافِ لفظِ الاسمينِ (¬1). وقالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ قولُهُ: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}؛ أي: وأنبتنا فيها حَبَّ الحصيدِ، فجمعَ بذلكَ جميعَ ما يُقتاتُ: منْ حَبِّ الحِنطةِ والشَّعيرِ وكلِّ ما حُصِدَ؛ كأنَّه قالَ: وحَبَّ النَّبتِ الحصيدِ (¬2). وقالَ اللَّيثُ: أرادَ حَبَّ البُرِّ المحصودِ (¬3). وقولُ الزَّجَّاجِ أصَحُّ؛ لأنَّه أعَمُّ» (¬4). 3 - كما ظهرَ اجتهادُه في بيانِ المحتملِ اللُّغويِّ للَّفظِ القرآنيِّ، ومن ذلك قولُه: «قلتُ: وأكثرُ النَّاسِ ذهبوا في تفسيرِ قولِه: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] أنه بمعنى: الرَّهْبَةِ. ولو وجدتُ إماماً منَ السَّلفِ يجعل الرَّهْبَ كُمًّا، لذهبتُ إليه؛ لأنَّه صحيحٌ في العربيَّةِ، وهو أشبه بسياقِ الكلامِ والتَّفسيرِ، واللهُ أعلمُ بما أرادَ» (¬5). ¬
4 - ومعَ حرصِ الأزهريِّ (ت:370) على إيرادِ الآياتِ وتفسيرِ ألفاظِها، إلاَّ أنه قد فاتَه في بعضِ الموادِّ اللُّغويَّةِ ذكرُ بعضِ الألفاظِ القرآنيَّةِ؛ مثل مادةِ: عبس (¬1)، ونفع (¬2)، وحاد (¬3)، وكهن (¬4)، وخمد (¬5)، وفتر (¬6)، وغيرها (¬7). وقدْ ظهَرَ في كتابِهِ، وهو معجمٌ لغويٌّ في مفرداتِ الألفاظِ، ظهرَ اهتمامُهُ بالمعاني، فتراه يشرح معنى الآية متعدياً بذلك دلالةَ اللَّفظ (¬8)، ويظهرُ أنَّ سببَ ذلكَ أنَّ منْ مصادرِه التي اعتمدَها بعضُ كُتُبِ معاني القرآنِ، فتوسَّعَ في ذلك بسببِ النَّقلِ عنها والإفادةِ من طريقتِها، واللهُ أعلمُ. ومنْ أمثلةِ ذلك قوله: «قال جلَّ وعزَّ: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: 15]، أجمعَ المفسِّرونَ على أنَّ تأويلَ قوله: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}: ثمَّ ليختنق (¬9). وهو محتاجٌ إلى شرحٍ يزيدُ في بيانِه، والمعنى ـ والله أعلم ـ: من كانَ ¬
تعرضه لبعض المشكلات التفسيرية
يظُنُّ منَ الكفَّارِ أنَّ اللهَ لا ينصرُ محمَّداً حتى يُظهِرَهُ على المِلَلِ كلِّها فَلْيَمُتْ غيظاً، وهو تفسيرُ قولِه: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}. والسببُ: الحبلُ يَشُدُّه المختنقُ إلى سقفِ بيته. وسماءُ كلِّ شيءٍ: سقفُهُ. {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}؛ أي: ليَمُدَّ الحبلَ مشدوداً، يوتِّره حتى يقطعَ حياتَهُ ونَفَسَهُ خنقاً. وقال الفرَّاءُ: أرادَ: ثمَّ ليجعل في سماءِ بيته حبلاً، ثمَّ ليختنق به، فذلك قوله: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} اختناقاً. قال: وفي قراءةِ عبد اللهِ (¬1): ثُمَّ لِيَقْطَعْهُ، يعني: السبب، وهو الحبلُ المشدودُ في عنقِهِ (¬2)، حتى تنقطِعَ نفسُهُ، فيموتَ» (¬3). في هذا المثالِ بين الأزهريُّ (ت:370) معاني المفرداتِ، وبيَّنَ معها المعنى المرادَ بالآيةِ. 6 - كما أنه قدْ يتعرَّضُ لبعضِ المشكلاتِ الواردةِ في التَّفسيرِ، ويجتهدُ في بيانِ المعنى المرادِ، وحَلِّ ما أشكلَ من معاني بعضِ الآياتِ، ومنْ ذلكَ قولُهُ: «وقالَ أبو حاتم (¬4): قالوا: قبلُ وبعدُ منَ الأضدادِ. وقالَ في قولِ اللهِ تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]؛ أي: قبلَ ذلك (¬5). قلتُ: والذي حكاه أبو حاتم عمَّنْ قاله خطأٌ. قبلُ وبعدُ كلُّ واحدٍ منهما نقيضُ صاحبِهِ، فلا يكونُ أحدُهُما بمعنى صاحبِهِ، وهو كلامٌ فاسدٌ. ¬
صور التفسير اللغوي في كتابه
وأمَّا قولُ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فإن السائلَ يسألُ عنه فيقولُ: كيفَ قالَ: {بَعْدَ ذَلِكَ}، والأرضُ أُنشِئَ خلقُهَا قبلَ السماءِ، والدليلُ على ذلكَ قولُ اللهِ تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]، فلمَّا فرغَ منْ ذِكْرِ الأرضِ وما خلقَ فيها قالَ اللهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11]، و «ثُمَّ» لا يكونُ إلاَّ بعدَ الأولِ الذي ذُكِر قبلَهُ، ولم يختلفِ المفسرونُ أنَّ خلقَ الأرضِ سبقَ خلقَ السماءِ. والجوابُ فيما سألَ السائلُ: أنَّ الدَّحْوَ غيرُ الخلقِ، وإنما هو البسطُ. والخلقُ هو الإنشاءُ الأولُ. فاللهُ ـ جلَّ وعزَّ ـ خلقَ الأرضَ أولاً غيرَ مَدْحُوَّةٍ، ثمَّ خلقَ السماءَ، ثمَّ دحا الأرضَ؛ أي: بسطها. والآياتُ فيها مؤتلفةٌ ولا تَنَاقُضَ ـ بحمدِ اللهِ ـ فيها عندَ منْ يفهَمُهَا. وإنَّما أُتِيَ الملحدُ الطَّاعنُ فيما شَاكَلَهَا منَ الآياتِ منْ جِهَةِ غباوتِهِ، وغِلَظِ فَهْمِه، وقِلَّةِ عِلْمِهِ بكلامِ العربِ» (¬1). وهذه الأمثلةُ السَّابقةُ منْ أمثلةِ معاني القرآنِ التي ذكرَها في كتابِه تُظهِرُ أنَّها قد أخذتْ حيِّزاً لا بأس به، أمَّا ما يتعلقُ بالجانبِ الأكبرِ منَ التَّفسيرِ اللُّغويِّ، وهو دلالة الألفاظِ، فقد أوردَه على الصُّوَرِ الآتية: 1 - تفسيرُ الألفاظِ مع ذكرِ الشَّاهدِ: كانَ الاستشهادُ للألفاظِ القرآنيَّةِ عندَ الأزهريِّ (ت:370) قليلاً، وقدْ كانَ أغلبُ تفسيرِهِ للألفاظِ بدونِ ذكرِ الشَّاهدِ. ومنْ أمثلةِ ما استشهدَ لهُ، قولُهُ: «وأمَّا قولُه جلَّ وعزَّ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ ¬
الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]، فالمعنى: أفنُعرضُ عنْ تذكيرِكم إعراضاً منْ أجلِ إسرافِكم على أنفسِكم في كفرِكم، يقالُ: صَفَحَ عنْ فلانٍ؛ أي: أعرضَ عنه مولِّياً، ومنه قولُ كُثَيِّرٍ ـ يصفُ امرأةً أعرضتْ عنه ـ (¬1): صَفُوحاً فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بَخِيلَةً، ... فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ» (¬2) 2 - تفسيرُ الألفاظِ بدونِ ذكرِ الشَّاهدِ: وهذا هو الغالبُ على الألفاظِ القرآنيَّةِ المفسَّرَةِ في (تهذيبِ اللُّغةِ)، ومن أمثلةِ ذلكَ: * قوله: «قالَ اللهُ جلَّ وعزَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقالَ في موضعٍ آخرَ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]. وروى سفيانُ الثَّوريُّ، عن عَمَّارٍ الدُّهْنيِّ (¬3)، عن مسلمِ بنِ البَطِينِ (¬4)، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، أنه قال: الكرسيُّ موضعُ القدمينِ، والعرشُ لا يُقدَرُ قَدْرُهُ (¬5). ¬
وروى أبو العباسِ (¬1)، عن ابنِ الأعرابيِّ (¬2) أنه قال: قال ابنُ عباسٍ: العرشُ مجلسُ الرحمنِ (¬3). أرسله ابنُ الأعرابيِّ إرسالاً، ولم يُسنده. وحديث الثَّوريِّ متَّصلٌ صحيحٌ. والعرشُ في كلامِ العربِ: سريرُ الملكِ، يدلُّكَ على ذلك سريرُ مَلِكَةِ سبأ، سمَّاه اللهُ ـ جلَّ وعزَّ ـ عرشاً، فقال: {إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. قلتُ: والعرشُ في كلامِ العربِ أيضاً: سقفُ البيتِ، وجمعُه: عروشٌ، ومنه قولُه جلَّ وعزَّ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]. قال الكسائيُّ في قولِه: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]: على أركانها. وقالَ غيرُه من أهلِ اللُّغةِ: على سُقُوفِها؛ أرادَ: أنَّ حيطانها قائمةٌ، وقدْ تهدَّمتْ سقوفُها، فصارتْ في قرارِها، وانقعرتْ الحيطانُ من قواعدِها، فتساقطت على السُّقوفِ المتهدِّمة قبلها. ومعنى الخاويةِ والمنقعرةِ واحدٌ، يدلُّكَ على ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ في قصةِ قومِ عادٍ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وقال في موضعٍ آخرَ يذكرُ هلاكهم أيضاً: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، فمعنى الخاويةِ ¬
والمنقعرِ في الآيتينِ واحدٌ، وهي المنقلعةُ من أصولِها، حتى خَوَى منبتُها. ويقال: انقعرت الشجرةُ: إذا انقلعت. وانقعر البيتُ: إذا انقلعَ من أصلِه فانهدمَ. وهذه الصِّفَةُ في خرابِ المنازلِ من أبلغِ الصِّفاتِ. وقدْ ذكر اللهُ جَلَّ وعزَّ في موضعٍ آخرَ من كتابِه ما دلَّ على ما ذكرته، وهو قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]؛ أي: قَلَعَ أبنيَتَهم من أساسها، وهي القواعدُ، فتساقطت سقوفها، وعلتها القواعدُ وحيطانها، وهم فيها، وإنما قيلَ للمنقعرِ: خاوٍ؛ لأنَّ الحائط إذا انقلعَ من أُسِّهِ خَوَى مكانُه؛ أي: خَلاَ، ودارٌ خاويةٌ؛ أي: خاليةٌ. وقال بعضهم في قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42]؛ أي: خاويةٌ عن عروشها لتهدُّمها. جعل على بمعنى عن، كما قالَ اللهُ تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2]؛ أي: اكتالوا عنهم لأنفسهم» (¬1). 3 - توجيهُ القراءات: لا يخفى على المطَّلعِ على (تهذيب اللُّغة) اهتمام الأزهريِّ (ت:370) بالقراءاتِ القرآنيَّةِ وتوجيهِهَا، كيف لا؟ وقدْ خصَّها بكتابٍ سمَّاه: (القراءات وعلل النَّحويِّين فيها) (¬2)، وقدْ أكثرَ الأزهريُّ (ت:370) من توجيهِ القراءاتِ في ¬
كتابِهِ، ومنْ ذلكَ قولُهُ: «وقالَ اللهُ: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، قال الفَرَّاءُ: الْجَمَلُ: هو زوجُ النَّاقةِ، وقدْ ذُكِر عن ابنِ عباسٍ أنه قرأ: «الجُمَّلُ» (¬1)؛ يعني: الجمال (¬2) المجموعة (¬3). وأخبرني المنذريُّ (¬4)، عن أبي طالب (¬5) أنه قال: رواه الفرَّاءُ: «الجُمَّلُ» بتشديدِ الميمِ (¬6)، ونحنُ نَظُنُّ أنه أرادَ التخفيفَ. قالَ أبو طالب: وهذا لأنَّ الأسماءَ إنما تأتي على (فُعَل) فَخَفَّفَ، والجماعةُ على (فُعَّل)؛ مثل: صُوَّم ونُوَّم. وقالَ (¬7) ـ فيما وجدتُ بِخَطِّ أبي الهيثم (¬8) ـ: قرأ أبو عمرو والحسن (¬9)، ¬
وهي قراءة ابن مسعود: «حَتَّى يَلِجَ الجُمَلُ» (¬1) مثل: النُّفَر في التقدير. قلت (¬2): والصَّحيحُ لأبي عمرو: {الْجَمَلُ} وعليه القُرَّاءُ (¬3)، وأبو الهيثم ما أراهُ حَفِظَ لأبي عمرو: «الجُمَل»، اتفق قُرَّاءُ الأمصارِ على {الْجَمَلُ}، وهو زوجُ النَّاقةِ. ورُوي عن ابن عباسٍ: «الجُمَّل» بالتَّثقيلِ والتَّخفيفِ أيضاً (¬4). فأمَّا التَّخفيفُ، فهو الحبل الغليظ، وكذلك الجُمَّل مشدَّداً. وحُكِيَ عن عبدِ اللهِ وأُبَيٍّ (¬5): «حَتَّى يَلِجَ الجُمَلُ»» (¬6). هذا، ولا يختلفُ المنهجُ في البحثِ اللُّغويِّ في التَّفسيرِ عند الأزهريِّ (ت:370) عن غيرِه من علماءِ اللُّغةِ، واللهُ أعلمُ. ¬
أثر المعتقد في التفسير اللغوي عند الأزهري
أثرُ المعتقدِ في التَّفسير اللُّغويِّ في كتابِ تهذيبِ اللُّغةِ: لقدْ رسمَ الأزهريُّ (ت:370) لنفسِه في تدوينِ اللُّغةِ منهجاً يتَّسِمُ بالحيطةِ في النَّقلِ، والاعتمادِ على الموثوقِ بهم من أهلِ اللُّغةِ عنده، ولا غَرْوَ أنْ يكونَ احتياطُه في نقلِ اللُّغةِ التي يكونُ لها أثرٌ في المعتقد محطَّ اهتمامِه، وهو كما يظهرُ من كتابِه يسيرُ على منهجِ السَّلفِ في الاعتقادِ، ومما جاءَ في ذلكَ، قولُه: «قالَ (¬1): وتقولُ العربُ: سَمِعَتْ أُذُني زيداً يفعلُ كذا؛ أي: أبصرْتُهُ بعيني يفعلُ ذاكَ (¬2). قلتُ: لا أدري من أين جاءَ اللَّيثُ بهذا الحرفِ، وليسَ منْ مذاهبِ العربِ أنْ يقولَ الرجلُ: سَمِعَتْ أُذُني، بمعنى: أبصرتْ عيني، وهو عندي كلامٌ فاسدٌ، ولا آمنُ أنْ يكون ممَّا ولَّده أهلُ البدعِ والأهواءِ، وكأنه من كلامِ الجَهْمِيَّةِ» (¬3). ولقدْ كانَ أثرُ اعتقادِ الأزهريِّ (ت:370) المتَّبِعِ للسَّلفِ الصَّالحِ ظاهراً في كتابِه، سواءٌ أكانَ ذلكَ في تقريرِه لمعتقدهم في الأسماءِ والصِّفاتِ (¬4)، ¬
والقرآن (¬1)، والإيمانِ (¬2)، والقدرِ (¬3)، والغيبياتِ؛ كالميزانِ والسِّراطِ وسجودِ المَوَاتِ (¬4)، وغيرها. أم في ردِّه على مُخالفِهم (¬5). وليس يُشكلُ على هذا وقوعُ المخالفةِ منه في مثالٍ أو مثالين؛ لأنَّ النَّظرَ في مثلِ هذا إلى القاعدةِ العامَّةِ التي سارَ عليها في الاعتقادِ، ومن ذلك: * قولُه: «وخادعتُ الرجلَ، بمعنى: خدعتُه. وعلى هذا يوجَّهُ قولُ الله جَلَّ وعَزَّ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]؛ معناه: أنهم يُقدِّرون في أنفسهم أنهم يخدعونَ اللهَ، واللهُ هو الخادعُ لهم؛ أي: المُجازِي لهم جزاءَ خداعِهم» (¬6). إنَّ تفسيرَه صفةَ المخادَعةِ بهذا التَّفسيرِ فيه قصورٌ؛ لأنَّ المجازاةَ إنما هي نتيجةُ المخادعةِ ولازمُها، لا المخادعةَ ذاتها، وهذه الصِّفةُ مما لا تُطلَقُ على اللهِ ابتداءً، بلْ تُطلقُ معَ مقابلها، كما وردتْ في القرآنِ، فلا يصحُّ أن يقالَ: إنَّ اللهَ هو الخادعُ، وإنما يقال: اللهُ يخادعُ من يخادعُه، كما وردَ في النَّصِّ القرآنيِّ، والله أعلم. * أنَّه نقلَ تفسيرَ صفةِ الاستواءِ عن ثعلبَ (ت:291)، وهو قولُه: «{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قال: الاستواء: الإقبالُ على الشيءِ» (¬7). ونقل عن الزَّجَّاجِ (ت:311) قولَه: «وقولُ ابن عباسٍ في قولِه ¬
تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]؛ أي: صَعِدَ، معنى قولِ ابن عباسٍ: أي صَعِدَ أمرُه إلى السماء (¬1)» (¬2). ولمْ يَرُدَّ هذه الأقوالَ المخالفةَ لمذهبِ السَّلفِ في الاستواءِ، فلو حُكِمَ عليه من خلال هذين المثالين بأنه يخالفُ مذهب السَّلف في الصِّفاتِ، لكانَ في ذلكَ قصورٌ في البحثِ، وتَجَنٍّ على الأزهريِّ (ت:370)، ولكانَ مفترياً على هذا العالمِ الذي ذَكَرَ قاعدتَهُ في ذلك في مواطنَ من كتابه، مثلَ قولِه: «قال (¬3): واللهُ هو النَّفَّاحَ المنعم على عباده (¬4). قلتُ: لم أسمعِ النَّفَّاحَ في صفاتِ اللهِ التي جاءتْ في القرآنِ، ثُمَّ في سنَّةِ المصطفى عليه السلام، ولا يجوزُ عندَ أهلِ العلمِ أنْ يُوصَفَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ بصفةٍ لمْ يُنزِلْها في كتابِه، ولمْ يُبيِّنْها على لسانِ نبيِّه عليه السلام» (¬5). وليست عقيدةُ العالمِ تُؤخذُ من كلامه في الأسماءِ والصفاتِ فقطُ، فيُحكمُ عليه من خلالها، بلِ العقيدةُ أعمُّ من ذلكَ؛ كمسائل القدرِ والإيمانِ ¬
والإمامة والغيبياتِ وغيرها، فمن رامَ الحُكمَ على عالمٍ في مُعْتَقَدِه من خلالِ مثالٍ أو مثالين، وقعَ في الزَّللِ، وهذا بحثٌ يحتاجُ إلى تفصيلٍ ليسَ هذا محلُّه، واللهُ الموفقُ. أمَّا ما وردَ عنه في إثبات معتقدِ السَّلفِ، فمنه: 1 - قالَ: «والسَّميعُ من صفاتِ اللهِ وأسمائِه. وهو الَّذي وسِعَ سمعُهُ كُلَّ شيءٍ؛ كما قالَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم (¬1). قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، وقالَ في موضعٍ آخرَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} [الزخرف: 80]. قلتُ: والعَجَبُ من قومٍ فسَّرُوا السَّميعَ بمعنى المُسمِعِ، فراراً منْ وصفِ اللهِ بأنَّ له سمعاً. وقدْ ذكرَ اللهُ الفعلَ في غيرِ موضعٍ من كتابِه، فهو سميعٌ: ذو سَمْع، بلا تكييفٍ ولا تشبيهٍ بالسَّميعِ من خلقِهِ، ولا سمعُهُ كسمعِ خلقِهِ. ونحنُ نَصِفُهُ بما وصفَ به نفسَهُ بلا تحديدٍ ولا تكييفٍ. ولستُ أُنكِرُ في كلامِ العربِ أنْ يكونَ السَّميعُ سامعاً، ويكونَ مُسمِعاً، وقد قالَ عمرو بن مَعْدِي كَرِبَ (¬2): أَمِنْ رَيَحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ ¬
وهو في البيتِ بمعنى: المُسْمِعِ، وهو شاذٌّ، والظَّاهرُ الأكثرُ منْ كلامِ العربِ أنْ يكونَ السَّميعُ بمعنى السَّامعِ؛ مثلَ: عليمٍ وعالمٍ، وقديرٍ وقادرٍ» (¬1). في هذا المثالِ أثبتَ الأزهريُّ (ت:370) اسمَ السَّميعِ والصِّفةَ التي يتضمَّنُها هذا الاسم، وهي السَّمعُ، وهذا هو الحقُّ الموافقُ لما كانَ عليه السَّلفُ، ثمَّ ردَّ على من أنكرَ صفة السَّمعِ. 2 - وقالَ: «وأمَّا قولُ اللهِ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وقالَ (¬2) أبو إسحاق (¬3): قيلَ: إنَّ كُلَّ ما خلقَ اللهُ يُسبِّحُ بحمدِه، وإنَّ صريرَ السَّقفِ وصريرَ البابِ منَ التَّسبيحِ، فيكونُ ـ على هذا ـ الخطابُ للمشركينَ وحدهم في {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. وجائزٌ أن يكونَ تسبيحُ هذه الأشياءُ بما اللهُ به أَعْلَمُ لا يُفْقَهُ منه إلاَّ ما عُلِّمنا. قال: وقال قومٌ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي: ما من شيءٍ إلاَّ وفيه دليلُ أنَّ اللهَ ـ جلَّ وعزَّ ـ خالِقُهُ، وأنَّ خالقَهُ حكيمٌ مُبرَّأٌ منَ الأسْوَاءِ، ولكِنَّكم أيها الكفارُ لا تفقهونَ أثرَ الصَّنعةِ في هذه المخلوقاتِ. قالَ أبو إسحاق: وليس هذا بشيءٍ؛ لأنَّ الَّذينَ خوطِبوا بهذا كانوا مُقرِّين بأنَّ اللهَ خالِقُهم، وخالقُ السماءِ والأرضِ ومنْ فيهنَّ، فكيفَ يجهلونَ الخِلْقَةَ، وهم عارفونَ بها؟! (¬4). ¬
قلتُ (¬1): ومِمَّا يدلُّكَ على أنَّ تسبيحَ هذه المخلوقاتِ تسبيحٌ تُعُبِّدَتْ به، قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ للجبالِ: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، ومعنى: أوِّبي؛ أي: سبِّحي مع داودَ النَّهارَ كُلَّهُ إلى اللَّيلِ. ولا يجوزُ أن يكونَ معنى أمرِ اللهِ جلَّ وعزَّ للجبالِ بالتأويبِ إلاَّ تَعَبُّداً لها. وكذلك قوله جلَّ وعزَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ} إلى قولِه: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، فسجودُ المخلوقاتِ عبادةٌ منها لخالقِها لا نَفْقَهُها عنها، كما لا نفقهُ تسبيحَها. وكذلكَ قولُه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وقد علم اللهُ هبوطَها منْ خشيتِهِ، ولمْ يُعرِّفنا ذلكَ، فنحنُ نؤمنُ بما أعْلَمَنا، ولا نَدَّعِيَ بما لمْ نُكَلَّفْ بأفْهَامِنَا من عِلْمِ فِعْلِهَا كيفيَّةً نَحُدُّها» (¬2). في هذا المثالِ أثبتَ الأزهريُّ (ت:370) عبوديَّةَ هذه المخلوقاتِ، وأنه يقعُ منها فِعْلٌ على الحقيقةِ، وهذا هو الحقُّ الموافقُ لمذهبِ السَّلفِ الصالحِ، وهو ما تَدُلُّ عليه ظاهرُ النُّصوصِ التي لا يجوزُ أن يُتَعَدَّى ظاهرها إلى غيرِه إلاَّ بحُجَّةٍ يجبُ التَّسليمُ لها، وما سوى الظَّاهرِ من التَّأويلِ باطلٌ، والله أعلم. 3 - وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]، قال: «وقولُ اللهِ جَلَّ وعزَّ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، حدَّثني المنذريُّ (¬3)، عن أبي بكرٍ الخطَّابيِّ (¬4)، عن هُدْبَة (¬5)، ¬
عن حمَّاد (¬1)، عن ثابت (¬2)، عن أنس (¬3)، قال: قرأ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}، قال: وَضَعَ إبهامه على قريبٍ من طَرَفِ أُنْمُلَةِ خِنْصَرِهِ، فساخَ الجبلُ (¬4). قالَ حمَّادُ: قلتُ لثابت: تقولُ هذا؟ فقالَ: يقوله رسولُ اللهِ، ويقولُهُ أنسٌ، وأنا أكْتُمُه! وقالَ الزَّجَّاجُ في قولِه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}: أي ظهر وبان (¬5). وهو قولُ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ» (¬6). في هذا المثالِ يظهرُ أخذُ الأزهريِّ (ت:370) بظاهرِ النَّصِّ، وتفسيرُه على المعروفِ والمشهورِ من معانيه في اللُّغةِ، دونَ البعدِ به إلى تأويلاتٍ تعتمدُ على شواذِّ اللُّغةِ وقَلِيلِهَا، بسببِ شُبْهَةٍ تَرِدُ على عقلِ فلانٍ أو عَلاَّنٍ. ¬
4 - وقال: «وقولُه جلَّ وعزَّ: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، قالَ الزَّجَّاجُ: هو كما قالَ جَلَّ وعَزَّ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] (¬1). قلت: والإضلالُ في كلامِ العربِ ضدُّ الهدايةِ والإرشادِ، يقالُ: أضْلَلْتُ فلاناً عن الطَّريقِ، وإياه أرادَ لَبِيدُ (¬2): مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الخَيرِ اهْتَدى ... نَاعِمَ البَالِ وَمَنْ شَاء أضَلْ وقالَ لَبِيدُ هذا في جاهليتِه، فوافقَ قولُه التَّنْزيلَ، يُضِلُّ من يشاءُ» (¬3). وما ذكر هنا هو الحقُّ، لأنَّ اللهَ سبحانه قد ذكرَ أنه يهدي ويُضِلُّ، ولا يجوزُ أن يُعْتَبَطَ في هذا شذوذٌ من التَّأويلات والتَّحريفاتِ التي أخرجتها عقولٌ مؤوِّلةٌ مأفونةٌ. وهذه الأمثلة، وغيرها مما لم أنقلْه، تبيِّنُ صِحَّةَ معتقدِ الأزهريِّ (ت:370)، وأنه كان على منهجِ السَّلفِ، لذا لم تظهرْ عنده تلك الانحرافاتُ التي تعتمدُ على سَعَةِ اللُّغةِ لإثباتِ صحَّتها، والله الموفق. ¬
المصدر الخامس: كتب أخرى لها علاقة بالتفسير اللغوي
المصدرُ الخامس كتب أخرى لها علاقة بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ وفيه: أولاً: كتب غريب الحديث. ثانياً: كتب الاحتجاج للقراءات. ثالثاً: كتب شروح دواوين الشعر. رابعاً: كتب الأدب.
المصدرُ الخامس كتب أخرى لها علاقة بالتَّفسيرِ اللُّغويِّ العلومُ الإسلاميَّةُ علومٌ مترابطةٌ في البحثِ، ولا يمكنُ البحثُ في علمٍ منها دونَ الاستفادةِ منْ غيرِهِ من العلومِ التي تَخدِمُهُ؛ فالفَقِيهُ ـ مثلاً ـ يحتاجُ معَ الإلْمَامِ بالقضايا الفقهيَّةِ إلى علمِ السُّنَّةِ وإلى معرفةِ تفسيرِ القرآنِ، ومعرفةِ اللُّغةِ العربيَّةِ. وكذا منْ يكتبُ في علمِ الوقفِ والابتداءِ في القرآنِ، يحتاجُ إلى معرفةِ علمِ التَّفسيرِ وعلمِ النَّحْوِ، وهكذا. ولَمَّا كانَ الأمرُ كذلك، فإنَّك سَتَجِدُ بعضَ الكتبِ، وإنْ كانتْ في الظاهرِ لا تَمُتُّ إلى علمِ اللُّغةِ العربيَّةِ بصلةٍ واضحةٍ، ستجدُها تتعرَّضُ لمسائلَ في علمِ اللُّغةِ. ولما كانَ البحثُ هنا منصبًّا على البحثِ اللُّغويِّ القرآنيِّ، فإني سأذكرُ مثالاً لهذا الأمرِ، وهو كتابُ «السيرةِ النَّبويَّةِ» لابن هشام (¬1) (ت:218)، وقد لاحظتُ فيه اهتمامَ مؤلِّفِه بتفسيرِ ألفاظِ الآياتِ التي يُورِدُها، وبذِكْرِ الشواهدِ ¬
الشِّعريَّةِ لها، وقدْ أحصيتُ له أكثرَ منْ مائةِ مفردةٍ قرآنيَّةٍ قامَ ببيانِ معناها واستشهدَ لكثيرٍ منها بأشعارِ العربِ. وقدِ استفادَ ابنُ هشامٍ (ت:218) من شيوخِه البصريِّين في اللُّغة، وحدث عنهم في كتابه؛ كيونسَ النَّحويِّ (ت:182) (¬1)، وأبي زيدٍ الأنصاريِّ (ت:215) (¬2)، وكانَ منْ أكثرِهم وروداً عنده: أبو عبيدةَ مَعْمَرُ بنُ المثنَّى (ت:210) (¬3)، ويظهرُ أنَّ إفادتَهُ منه فيما يتعلَّقُ بتفسيرِ ألفاظِ القرآنِ كانتْ منْ كتابِ (مجازِ القرآنِ). ومنْ أمثلةِ هذه الاستفادةِ: قولُه: «العَرِمُ: السَّدُّ، واحدتُه عَرِمَةٌ، فيما حدَّثني أبو عبيدةَ. قال الأعشى (¬4): وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ ... وَمَارِبُ عَفَى عَلَيهَا العَرِمْ رُخَامُ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ ... إذا جَاءَ مَوَّارُهُ لَمْ يَرِمْ فَأَرْوَى الزُّورعَ وَأعْنَابَهَا ... عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُمْ إذْ قُسِمْ فَصَارُوا أَيَادِيَ مَا يَقْدِرُو ... نَ مِنْهُ على شُرْبِ طِفْلٍ فُطِمْ وهذه الأبياتُ في قصيدةٍ له. وقالَ أُمَيَّةُ بنُ أبي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ ... (¬5): مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَارِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِهِ سَيْلَهُ العَرِمَا ¬
وهذا البيتُ في قصيدةٍ له، وتُروى للنابغةِ الجَعْدِيِّ» (¬1). ومنْ أمثلةِ تفسيرِه لمفرداتِ ألفاظِ القرآنِ: «قالَ ابنُ هشام: حَصَبُ جَهَنَّمَ: كُلُّ ما أُوقِدَتْ به. قال أبو ذُؤَيب الْهُذَلِي، واسمه: خُويلِدُ بنُ خالد (¬2): فَأَطْفِئْ، وَلاَ تُوقِدْ، وَلاَ تَكُ مِحْضَأً ... لِنَارِ العُدَاةِ أَنْ تَطِيرَ شَكَاتُهَا وهذا البيتُ في أبياتٍ له ...» (¬3). ولا شكَّ أنَّ وجودَ هذه التفسيراتِ اللُّغويةِ كانتَ أثراً من آثارِ دراستِه اللُّغويةِ التي كانتْ بارزةً في كتابِهِ. وقد ظهرَ لي أنَّ بعضَ الكُتبِ التي كُتبت في علومٍ أخرى لها علاقةٌ بالبحثِ اللُّغويِّ من قريبٍ أو بعيدٍ، ومنْ ثَمَّ فإنها قدْ تتطرَّقُ للتَّفسيرِ اللُّغويِّ، وبعد الاطلاعِ عليها ظهرَ لي أنَّ ما تطرَّقَ للتَّفسيرِ اللُّغويِّ منها هي: 1 - كتب غريب الحديث. 2 - كتب الاحتجاج للقراءات. 3 - كتب شروح دواوين الشعر. 4 - كتب الأدب. وسأذكر أمثلة من كتبِ هذه العلومِ. ¬
أولا: كتب غريب الحديث
أولاً كتب غريب الحديث كتبَ العلماءُ في غريبِ الحديثِ كما كتبوا في غريبِ القرآنِ، وممن كتب فيه: النَّضرُ بن شُميل (ت:203)، وقُطْرُبُ (ت:206)، والفرَّاءُ (ت:207)، وأبو عبيدةَ (ت:210)، وغيرهم من علماء اللُّغةِ (¬1). وقدْ طُبِعَ في هذا العلمِ، كتابُ أبي عبيد القاسم بن سلام (ت:224)، وكتاب ابن قتيبة (ت:276)، وكتاب إبراهيم الحربي (ت:285) (¬2)، وكتاب الخَطَّابيِّ (ت:388)، وغيرها (¬3). وقد كان البحثُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ فيها، كما هو في معاجمِ كتبِ اللُّغةِ، أي: أنها تبحثُ في دلالةِ الكلمةِ، والاستشهادِ لها بكلامِ العربِ من شعرٍ أو نثرٍ، إنْ وُجِدَ (¬4). ¬
كما تُورِدُ هذه الكتبُ القراءاتِ القرآنيةَ: شاذَّها ومتواترَها، وتوجِّه كلَّ قراءةٍ مع نسبها إلى من قرأ بها (¬1)، ومن ذلك: في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، قال الحربي (ت:285): «أخبرني أبو عمر (¬2)، عن الكسائيِّ: قرأ ابن عباس: حَضَبُ (¬3)، وقرأ عليُّ: حَطَبُ (¬4)، والقراءُ حَصَبُ، ويقال: حَصَبُ جهنَّمَ وحَضَبُ. والحَضَبُ والحَصَبُ: ما حُصِبت به النارُ. وأخبرنا سلمةُ (¬5) عن الفراء (¬6): الحَضَبُ: كلُّ ما هَيَّجْتَ به النَّارَ، وأوقدتَّها به، فهو حَضَبٌ» (¬7). وكانَ النَّقلُ عن اللُّغويِّين ظاهراً في هذه الكتبِ، كما نقلُوا عن السَّلفِ تفسيراتهم، وكان أكثرَهم اهتماماً بنقلِ تفسيرِ السَّلفِ وإسنادِها إليهم إبراهيمُ ¬
الحربيُّ (ت:285)، بل كانت نقولُه عنهم أكثرَ من نقولِه عن اللُّغويِّين (¬1)، وهذا مما يتميَّزُ به عن غيره من كتب غريب الحديث (¬2). وسأذكرُ أمثلةً للتَّفسيرِ اللُّغويِّ من كتابِ غريبِ الحديثِ، لأبي عبيدٍ القاسمِ بنِ سلامٍ (ت:224)، وكتابِ غريبِ الحديثِ، لأبي إسحاقَ إبراهيمَ بنِ إسحاقَ الحربيِّ (ت:285) 1 - قالَ أبو عُبَيد (ت:224): «... فالقواعدُ: هي أصولُها المعترِضَةُ في آفاقِ السَّماءِ. وأحسِبُها مُشبَّهةً بقواعدِ البيتِ، وهي حيطَانُهُ، الواحدةُ مِنْهَا: قاعدةٌ. قالَ اللهُ عزّ وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127]. وأما البواسِقُ: ففروعُها المستطيلَةُ إلى وسطِ السَّماءِ، وإلى الأفقِ الآخرِ. وكذلكَ كُلُّ طويلٍ، فهو باسقٌ، قال اللهُ تباركَ وتعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10]» (¬3). ¬
2 - وقالَ: «قولُه: ما تجانَفْنا فيه لإثمٍ، يقول: ما مِلْنَا إليه، ولا تَعَمَّدْناه ونحن نعلمُه، وكلَّ مائلٍ فهو مُتَجَانفٌ، وجَنِفٌ. ومنه قولُه عزّ وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182]. قالَ: ميلاً. قالَ أبو عبيدٍ: حدثناه هُشَيمٌ (¬1)، عن عبدِ المَلِكِ (¬2)، عن عَطَاء (¬3). وقالَ لَبِيدُ (¬4): إنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيمِي، وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ» (¬5) 3 - وقال أبو إسحاق الحربيُّ (ت:285): «قوله: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] هو الموزُ، وهو لا شوكَ له. والطَّلحُ غيرُ منضودٍ، وإنما ذلكَ الموزُ، نُضِدَ بعضُه على بعضٍ. حَدَّثَنَا عُبيدُ اللهِ (¬6)، عنْ يَزِيدَ بنِ زُرَيعٍ، عن التَّيمِيِّ (¬7)، عنْ أبي سعيدٍ ¬
الرُّقَاشِيِّ (¬1)، سألتُ ابن عبَّاسٍ عن الطَّلْحِ، فقالَ: هو الموزُ (¬2). وهو قولُ عليٍّ، وأبي سعيدٍ (¬3)، وأبي هريرةَ، ومجاهدٍ، وعكرمةَ، والحسنِ، وقسامةَ، وقتادةَ (¬4). أخبرنا سلمة عن الفرَّاءِ: {وَطَلْحٍ}، قال: زعم المفسِّرونَ أنه الموزُ (¬5). أخبرنا الأثرمُ (¬6) عن أبي عبيدةَ: زعمَ المفسِّرونَ أنه الموزُ (¬7). قال إبراهيم (¬8): والذينَ قالوا: هو الموزُ، هو غيرُ معنى الحديثِ؛ ¬
لقولِه: بشوكِ الطَّلْحِ (¬1)، فلعلَّه اسمٌ لشجرِ شوكٍ، وللموزِ» (¬2). ¬
ثانيا: كتب الاحتجاج للقراءات
ثانياً كتب الاحتجاج للقراءات الاحتجاجُ للقراءةِ (¬1): تخريجُ ما جاءَ في القرآنِ، وبيانُ وجهِه في كلامِ العربِ، وقدْ يكونُ بيانَ طريقةِ أداءٍ، أو تصريفِ كلمةٍ، أو إعرابٍ، أو بيانَ معنىً. والذي يخصُّ التَّفسيرَ اللُّغويَّ من علمِ الاحتجاجِ للقراءةِ، ما يتعلَّقُ ببَيان المعنى، ويقعُ ذلكَ ـ في الغالب ـ حينما يَرِدُ في الآيةِ قراءتانِ مختلفتانِ في النُّطقِ، ويكونُ لِكُلِّ واحدةٍ منهما معنىً يخالفُ معنى القراءة الأخرى (¬2). ولقد كان الاحتجاجُ للقراءةِ قديماً، وهو منثورٌ في كتبِ التَّفسيرِ ومعاني القرآنِ وغريبِه وغيرِها، ثمَّ ألَّفَ جمعٌ من العلماء فيه استقلالاً؛ منهم: أبو منصور الأزهريُّ (ت:370)، وابن خالويه (ت:370)، وأبو عليٍّ الفارسي (ت:377)، وابن جني (ت:392)، وغيرهم. وسأذكرُ أمثلةً من اختلافِ القراءاتِ التي يختلفُ بها المعنى، ومنْ ذلكَ: ¬
1 - قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، حيثُ قرئت بالضَّادِ وبالظَّاءِ، قال ابنُ خَالَوَيه (ت:370): «قرأ ابنُ كَثِيرٍ وأبو عمرو والكسائي: «بِظَنِينٍ» بالظَّاءِ؛ أي: بِمُتَّهَمٍ، يقالُ: بئرٌ ظنينٌ: إذا كانَ لا يوثقُ بها. وقرأ الباقون: {بِضَنِينٍ} بالضَّادِ؛ أي: ببخيل؛ أي: ليسَ بخيل (¬1) بالوحي بما أنزلَ اللهُ منَ القرآنِ فلا يكتُمُهُ أحداً، تقولُ العربُ: ضَنَنْتُ بالشيءِ أَضِنُّ به: إذا بَخِلْتُ به، وينشد (¬2): مَهْلاً أَعَاذِلُ قَدْ جَرَّبْتَ مِنْ خُلُقِي ... إنِّي أَجُودُ لأَقْوَامٍ وَإنْ ضَنُّوا» (¬3) 2 - وفي قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة: 259]، قالَ أبو منصورٍ الأزهريُّ (ت:370): «من قرأ: {نُنْشِزُهَا} بالزاي، فالمعنى: نجعلُها بعدَ بِلاَهَا وهُمُودها ناشزةً تَنْشُزُ بعضُها إلى بعضٍ؛ أي: ترتفعُ، مأخوذةٌ منْ نَشَزَ، والنَّشْزُ: وهو ما ارتفعَ من الأرضِ (¬4). ومنْ قرأ: «نُنْشِرُهَا» بالراء، فمعناه: نُحْيِيهَا، يقال: أنْشَرَ اللهُ الموتى؛ أي: أحياهم فَنَشَرُوا؛ أي: حَيَوا. ¬
ومن قرأ: «نَنْشُرُهَا»، فهو مأخوذٌ منَ النَّشْرِ بعد الطَّيِّ ...» (¬1). وقد يقعُ في كتب توجيه القراءاتِ تفسيرٌ لبعضِ الألفاظِ القرآنيَّةِ وإن لم يكنْ فيه خلافٌ في القراءةِ، وإنما يكونُ ذلكَ على سبيل الاستطراد، ومثل ذلك ما ورد عند ابن خَالَوَيه (ت:370) من تفسيرِ قولِه تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات: 4]، قال: «أَثَرْنَ بالوادي غباراً» (¬2). وليس في هذا الحرفِ خلافٌ بينَ القُرَّاءِ، وإنما ذُكِرَ هذا التَّفسيرُ استطراداً. والمقصودُ أنَّ كتبَ الاحتجاجِ للقراءاتِ تُدرِجُ شيئاً من التَّفسيراتِ اللُّغويةِ التي تتناسبُ مع طبيعةِ بحثِها، والله أعلم. ¬
ثالثا: شروح دواوين الشعر
ثالثاً شروح دواوين الشعر تعتبرُ شروحُ دواوينِ الشِّعْرِ أحدَ المصادرِ اللُّغويَّةِ في بيانِ معاني الألفاظِ؛ لأنَّ الشَّارحَ يَعْمَدُ إلى ألفاظِ شِعْرِ الشَّاعرِ ويبين معانيها، ولو جُمِعَتْ شروحُ هذه الألفاظِ لكوَّنَتْ معجماً يُرادفُ المعاجمَ الموجودةَ (¬1). وقدْ قُمْتُ بقراءةِ عِدَّةِ شروحٍ من شروحِ الأشعارِ (¬2)، فظهرَ لي منْ خلالِ هذا التتبُّعِ أنَّ طريقتَهم لا تخرجُ ـ في الغالب ـ عنْ طريقةِ أصحابِ المعاجمِ، كما أنَّ الألفاظَ القرآنيَّةَ المشروحةَ قليلةٌ؛ لأنها ليستِ الأصلَ في الشَّرحِ، بل تَرِدُ استطراداً عندَ ذِكْرِ لفظِ الشَّاعرِ المشروحِ، وسأذكر أمثلةً من بعضِها؛ لاتفاقِ منهجِها ـ في الغالب ـ؛ ومنْ أمثلةِ ذلكَ: 1 - في قولِ ذي الرُّمَّةِ (ت:117) (¬3): ¬
هَلْ تَعْرِفُ الْمَنْزِلَ بِالْوَحِيدِ ... ثَغْراً عَفَاهُ أَبِدَ الأَبِيدِ قال شارحُ الديوانِ: أحمدُ بنُ نصرٍ الباهليُّ (ت:231) (¬1): «الوحيد: مكانٌ. والأبد: الدَّهر، قال: دَهْرُ الدُّهورِ. عَفَاهُ: دَرَسَهُ. وعَفَا ـ في غيرِ هذا الموضعِ ـ: زَادَ، قَالَ تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]؛ أي: كَثُرُوا» (¬2). 2 - وقال في قولِ ذي الرُّمَّةِ (ت:117): وَلَبَّسَ بَينَ أَقْوَامٍ، فَكُلٌ ... أَعَدَّ لَهُ السِّفَارَةَ الْمِحَالاَ قال: «اللَّبسُ: الاختلاطُ. والسِّفارة: الصُّلحُ بين القومِ، يقالُ: سَفَرَ يَسْفُرُ سِفَارَةً. ويروى: الشَّغَازِبَ؛ أي: الكيدَ والخصومةَ. والمِحَالُ: الجدالُ، قالَ اللهُ: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13]، وأصلُهُ: المُكَاظَّةُ والأخذُ بالنَّفْسِ» (¬3). 3 - وفي بيت الحُطَيئَةِ: أَبْلِغْ سَرَاةَ بَنِي سَعْدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرِّسَالَةِ لاَ أَلْتاً وَلاَ كَذِباً ¬
قال ابنُ السِّكِّيتِ (ت:246): «مُغَلْغَلَةً: رسالةً تَتَغَلْغَلُ إليهم حتى تَصِلَ؛ أي: تَخَلَّلُ. والأَلْتُ: النُّقصانُ، يقالُ: أَلَتَهُ يَالِتُهُ أَلْتاً، وَلاَتَهُ لَيتاً، وأَلاتَهُ، يُلِيتُهُ إِلاَتَةً. قال الله تعالى: {لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} [الحجرات: 14]؛ أي: يَنْقُصُكُم، وقال في موضع آخر: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} [الطور: 21]» (¬1). 4 - وقالَ عندَ قولِ الحُطَيئَةِ: لهم سُورَةٌ في المجدِ لَوْ تُرْتَدَى بها ... بَرَاطِيلُ جَوَّابٍ، نَبَتْ، ومَنَاقِرُه قال: «وقوله: لو يُرتدَى بها براطيلُ؛ أرادَ: لو يُرتدَى ببراطيل جوَّابٍ نَبَتْ البراطيلُ والمناقرُ. والبراطيلُ: جمع بِرْطِيل، وهو المِعْولُ، والبِرْطِيلُ أيضاً: حَجَرٌ طويلٌ قَدْرَ الذِّراع. والمنقار: الذي يُنْقَرُ به الحجرُ. والجوَّاب: الذي يجوبُ الرَّكَايَا؛ أي: يحفرُها ويخرقُها، قالَ اللهُ تعالَى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]؛ أي: خَرَقُوا» (¬2). 5 - قالت الخنساءُ: إنَّ أخِي لَيسَ بِتَرْعِيَّةٍ ... نِكْسٍ هَوَاءِ القَلْبِ ذِي مَاشِيهْ قال ثعلب (ت:291) في شرحه: «وقوله (¬3): هواء القلب؛ أي لا فؤادَ ¬
له، قلبُه خالٍ، قال اللهُ عزّ وجل: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]؛ أي: خاليةٌ، لا تعي شيئاً» (¬1). وعلى هذا الأسلوبِ سارتْ أكثرُ الأمثلةِ التي أوردَها شُرَّاحُ الدواوينِ الشعريَّةِ، وهي أقربُ إلى أسلوب كتبِ معاجمِ اللُّغةِ وكتبِ غريبِ القرآنِ. ¬
رابعا: كتب الأدب
رابعاً كُتُبُ الأدَبِ تشتملُ كتبُ الأدبِ على عِدَّةِ مصنفاتٍ؛ ككتبِ الأمالي، وكتب مجالسِ العلماءِ، وغيرِها، وقد قمت بقراءةِ بعضٍ منها؛ ككتابِ البيانِ والتبيينِ، لأبي عُثْمَانَ عَمْرِو بنِ بَحْرٍ الجَاحِظِ (ت:255)، والكَامِلِ في الأدبِ، لمحمد بن يزيد المُبَرِّدِ (ت:285)، ومجالسِ ثعلب (ت:291)، والزاهر في معاني كلمات الناس، لابن الأنباري (ت:328)، وأمالي أبي عليٍّ القالِّي (ت:356)، وغيرِها (¬1). وسأذكرُ أمثلةً للتفسيرِ اللُّغويِّ منْ بعضِ هذه الكتبِ: 1 - قال عمرو بن بحرٍ الجاحظ (ت:255): «وأنشدَ للحارثِ بن حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيِّ (¬2): لاَ أَعْرِفَنَّكَ إنْ أَرْسَلْتَ قَافِيَةً ... تُلْقِي المَعَاذِيرَ إنْ لَمْ تَنْفَعِ العِذَرُ إنَّ السَّعِيدَ لَهُ فِي غَيرِهِ عِظَةٌ ... وَفِي التَّجَارُبِ تَحْكِيمٌ وَمُعْتَبَرُ ومعنى المعاذيرِ هنا غيرُ معنى قول اللهِ تباركَ وتعالى في القرآنِ: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14، 15]، والمعاذيرُ هنا: السُّتورُ» (¬3). ¬
2 - وقال المُبَرِّدُ (ت:285): «والودْقُ: المَطَرُ، يقالُ: وَدَقَتِ السماءُ يا فتى وَدْقاً، قالَ عزّ وجل: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43، الروم: 48] ...» (¬1). 3 - وقال: «... فإذا قلت: اِنْجَابَ، فمعناهُ: اِنْشَقَ، يقال: المِجْوَبُ، للحديدةِ التي يُثْقَبُ بها العسيبُ. ويقال: جُبْتُ البلادَ؛ أي: دخلتُها وطوفتُها. وفي القرآنِ: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]؛ أي: شَقُّوهُ» (¬2). 4 - وقال أبو العباسِ ثعلبُ (ت:291): «وفي قوله تعالى: {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2]، قال: أخلاط» (¬3). 5 - وقال في قوله تعالى: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]: «النَّسْيُ: خِرَقُ الحَيضِ التي يُرْمَى بها؛ أي: وكنتُ هذا فيُرمى بِي» (¬4). 6 - وقال ابن الأنباري (ت:328): «ومن الحسيبِ قول اللهِ عزّ وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]، قال أبو بكر: فيه أربعةُ أقوالٍ، يقال: عالماً، ويقال: مقتدراً، ويقالُ: كافياً، ويقالُ: محاسباً. قال أبو بكر: سمعتُ أبا العباس أحمد بن يحيى (¬5) يقولُ في قول الله عزّ وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]: ¬
يجوزُ في (مَنْ) الرَّفع والنَّصبُ (¬1). فالرَّفعُ على النَّسَقِ على اللهِ (¬2). والنَّصبُ على معنى: يكفيكَ اللهُ، ويكفي من اتَّبعكَ من المؤمنينَ» (¬3). وهذا الأسلوبُ الذي ذكرته في التفسيرِ اللُّغويِّ كثيرٌ في كتبِ الأدبِ، ولكنه على تفاوتٍ بينها في القِلَّةِ والكثرةِ، واللهُ الموفقُ. ¬
الباب الثالث: آثار التفسير اللغوي وقواعده
الباب الثالث آثار التفسير اللغوي وقواعده وفيه ثلاثة فصولٍ: الفصل الأول: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ. الفصل الثاني: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في انحرافِ المفسرينَ. الفصل الثالث: قواعدُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ.
الفصل الأول: أثر التفسير اللغوي في اختلاف المفسرين
الفصل الأول أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ وفيه: أولاً: الاختلافُ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في اللَّفظِ. ثانياً: الاختلافُ بسببِ التَّضادِّ في دلالةِ اللَّفظِ. ثالثاً: الاختلافُ بسببِ مخالفةِ المعنى الأشهرِ في اللَّفظِ. رابعاً: الاختلافُ بسببِ أصلِ اللَّفظِ واشتقاقِهِ. خامساً: الاختلافُ بسببِ النظرِ إلى المعنى القريبِ المتبادرِ للذهنِ والمعنى البعيدِ لِلَّفظِ.
تمهيد لمَّا كان التَّفسيرُ اللُّغويُّ من أكبر المصادر التفسيريَّة، فإنَّه سيكونُ له أثرٌ كبيرٌ في التَّفسيرِ، ولا شَكَّ. وقد تأمَّلتُ الألفاظَ القرآنيَّةَ، فوجدتُ أنَّ الألفاظَ على قسمين: القسمُ الأولُ: اللَّفظُ الذي لا يحتملُ إلاَّ معنًى واحداً، وهو إمَّا ألاَّ يخفى على أحدٍ من العربِ؛ كالأرضِ، والسَّماءِ، والضَّحِكِ، والْحَثِّ، والأساسِ، والنَّبأ، وغيرِها من الألفاظِ العامَّةِ التي لا يجهَلُهَا العربِيُّ. وإمَّا أنْ يكونَ فيه غرابةٌ على بعضِ النَّاسِ، ولكنَّه ـ كذلك ـ لا يحتملُ إلاَّ معنًى واحداً؛ كالتَّبَابِ، والأحْقَافِ، والشَّانِئ، وغيرِها. القسمُ الثاني: اللَّفظُ الذي يحتملُ أكثرَ من معنًى في وَضْعِ اللُّغةِ؛ كالقُرْءِ، وعَسْعَسَ، والعَتِيقِ، والحَرْدِ، والمَمْنُونِ، وغيرِها. وهذا القسمُ هو الذي تَبْرُزُ فيه آثارُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ: لأنَّ اللَّفظَ الذي لا يحتملُ إلاَّ معنًى واحداً لا يمكنُ أنْ يُتَصَوَّرَ فيه وقوعُ الخلافِ. وقدْ صار هذا الاحتمالُ اللُّغويُّ ذا جانبين في أثرِه في التَّفسيرِ: أمَّا أوَّلُهما، فيمكنُ أنْ يُوصَفَ بأنَّه سلبيٌّ؛ لأنَّ فيه استعمالاً لهذا الاحتمالِ في الانحرافِ بالتَّفسيرِ إلى غيرِ المعنى المرادِ والصَّحيحِ، وسببُ ذلك ـ في الغالبِ ـ: أنَّ المرءَ يعتقدُ، ثمَّ يبحثُ في الاستدلالِ لهذا المعتقَدِ، فيجدُ في مجازِ اللُّغةِ وقليلِها وشاذِّها ما يكونُ دليلاً له، فيتمسَّكُ به، ويتركُ القولَ الذي هو أقربُ منه ظاهراً وحقيقةً.
وأمَّا الثاني، فيمكنُ أنْ يُوصَفَ بأنَّه الجانبُ الإيجابيُّ، وهو هذه الاحتمالاتُ اللُّغويَّةُ التي أثْرَتْ التَّفسيرَ بسببِ اختلافِ فُهُومِ المفسِّرينَ فيها. وهذه الاحتمالاتُ قدْ تكونُ الآيةُ قابلةً لها بلا تضادٍّ، وقد لا تكونُ كذلك، ولكُلٍّ حُكْمُهُ من حيثُ القبولُ والرَّدُّ، وسيأتي شيءٌ منْ هذا إنْ شاءَ اللهُ. وسأجعلُ هذين الجانبينِ في فصلينِ، ثمَّ أُتبِعُهُمَا بفصلٍ فيه شيءٌ من قواعدِ التَّفسيرِ اللُّغويِّ التي ظهرتْ من خلالِ هذا البحثِ. وسيكونُ تقسيمُ هذه الفصولِ كالآتي: الفصل الأول: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ. الفصل الثاني: أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في انحرافِ المفسرينَ. الفصل الثالث: قواعدُ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ.
الفصل الأول أثرُ التَّفسيرِ اللُّغويِّ في اختلافِ المفسرينَ نشأ الخلافُ في التَّفسيرِ نتيجةً للاجتهادِ فيه، وقد يكونُ الخلافُ بسببِ الاختلافِ في اعتمادِ المصدرِ، فهذا يفسِّرُ معتمداً على حديثٍ نبويٍّ، وذاك يفسِّر معتمداً على اللُّغةِ. كما قدْ يحدثُ الخلافُ في الاعتمادِ على المصدرِ الواحدِ، وأكثرُ ما يقعُ ذلك في مصدرِ اللُّغةِ، وذلك راجعٌ إلى الاحتمالِ اللُّغويِّ الذي يَرِدُ على النَّصِّ القرآنِيِّ. وسأبيِّنُ هنا الخلافَ الذي نشأ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ بسببِ اختلافِ دلالةِ اللَّفظِ في اللُّغةِ. وقدْ ظهرَ لي من خلالِ الاستقراءِ ما يأتي: أولاً: الاختلافُ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في اللَّفظِ. ثانياً: الاختلافُ بسببِ التَّضادِّ في دلالةِ اللَّفظِ. ثالثاً: الاختلافُ بسببِ مخالفةِ المعنى الأشهرِ في اللَّفظِ. رابعاً: الاختلافُ بسببِ أصلِ اللَّفظِ واشتقاقِهِ. خامساً: الاختلافُ بسببِ النظرِ إلى المعنى القريبِ المتبادرِ للذهنِ والمعنى البعيدِ لِلَّفظِ. وهناكَ اختلافٌ بسببِ الاختلافِ في القراءةِ، ولم أَرَهُ يدخلُ في هذا البابِ، وإن كانَ يعتمدُ على الدلالةِ اللُّغويَّةِ؛ لأنَّ هذا الاختلافَ واقعٌ في لفظينِ: لكلِّ لَفْظٍ منهما معنى يغايرُ المعنى الآخرَ، بخلافِ ما أنا بصددِهِ هنا، إذ للَّفْظِ الواحدِ أكثرُ من معنًى.
ومنْ أمثلةِ الاختلافِ بسببِ القراءةِ: قولُه تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] حيثُ وَرَدَ في لفظِ «تبلوا» قراءتانِ: تتلوا بالتاء، وتبلوا بالباء. قال الأزهري (ت:370): «فمنْ قرأ: تبلوا، فمعناه: تَخْبُرُ؛ أي: تَعْلَمُ كلُّ نفسٍ ما قدَّمت. ومنْ قرأ: تتلوا بتاءين، فهو منَ التِّلاوةِ؛ أي: تَقْرَأُ كلُّ نفسٍ، ودليل ذلك قولُه: {اقْرَا كِتَابَكَ} [الإسراء: 14]. وقالَ بعضُ المفسرينَ ـ في قوله: تتلوا ـ: تَتْبَعُ كلُّ نفسٍ ما أسلفتْ؛ أي: قدمتْ منْ خَيرٍ أو شَرٍّ» (¬1). إنَّ القراءتينِ في هذا المثالِ مختلفتانِ في النُّطْقِ، وتبعَهُ اختلافُ تفسيرِهما، ولذا صارتْ كُلُّ قراءةٍ كأنَّها آية مستقلَّةٌ عن أختها. وهي بهذا خارجةٌ عن المقصودِ في هذا البحثِ (¬2). أمَّا ما وردَ من اختلافِهِم في مدلولِ: تَتْلُوا، بأنه: تَتْبَعُ أو تَقْرَأُ، فهو داخلٌ في هذا البحثِ؛ لأنه اختلافٌ في دلالةِ لفظٍ واحدٍ في صورةٍ واحدةٍ. وسأشرحُ هذه الأسبابَ، وأذكرُ لكلِّ سببٍ ما يوضِّحه منَ الأمثلةِ. ¬
أولا: الاختلاف بسبب الاشتراك اللغوي في اللفظ
أوَّلاً الاختلافُ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في اللَّفظِ ألفاظُ العربِ تردُ على ثلاثةِ أقسامٍ: الأوَّلُ: اختلافُ اللَّفظينِ لاخْتِلافِ المعنيينِ، وهذا هو الأعمُّ الأغلبُ في ألفاظِ العربِ؛ كقولك: الرَّجُلُ والمَرْأَةُ، واليَومُ واللَّيلَةُ، اختلفَ اللَّفظانِ لاختلافِ المعنيينِ. الثاني: اختلافُ اللَّفظينِ والمعنى واحدٌ؛ مثلُ: عَيرٍ وحِمَارٍ، وأتَى وجَاءَ، وفي هذا توسُّعٌ في الكلامِ وزيادةٌ في التصرُّفِ بالألفاظِ. الثالث: أنْ يَتَّفِقَ اللَّفظُ ويختلفَ المعنى، فيكونُ اللَّفظُ الواحدُ على معنيينِ فصاعداً (¬1). وهذا القسم أُطلِقَ عليه مصطلح: المشتَرَك اللَّفظي (¬2). ¬
وأمثلةُ المشتَرَكِ اللُّغويِّ الذي وقع خلافٌ في تفسيرِه في القرآنِ كثيرةٌ، ومنها ـ على سبيل المثال ـ: 1 - اختلفَ المفسِّرونَ في تفسيرِ لفظِ «النَّجْمِ» من قولِه تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] على قولينِ: القول الأوَّلُ: النَّجمُ: ما نَبَتَ على وجهِ الأرضِ مما ليسَ له ساقٌ. وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬1)، وابن جبيرٍ (ت:94) (¬2)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (¬3)، والكَلْبِيِّ (ت:146) (¬4)، وسُفْيان الثَّورِيُّ (ت:161) (¬5). وأمَّا اللُّغويُّونَ، فقد حكى عنهم الأزهريُّ (ت:370) قولَهم، فقال: «وأمَّا قولُه جَلَّ وَعَزَّ: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، فإنَّ أهلَ اللُّغةِ وأكثرَ أهلِ التَّفسيرِ قالوا: النَّجْمُ: كلُّ ما نَبَتَ على وجهِ الأرضِ مما ليسَ له ساقٌ» (¬6). ومِمَّنْ نصَّ من اللُّغويِّينَ على تفسيرِ النَّجمِ بأنه ما لا ساق له من النبات: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬7)، وأبو عُبَيدَةَ (ت:210) (¬8)، وابن قُتَيبَةَ (ت:276) (¬9)، ¬
والمُبَرِّدُ (ت:285) (¬1)، وكُرَاعُ (ت:310) (¬2)، والجَوهَرِيُّ (ت:398) (¬3)، وغيرُهم. القولُ الثاني: النَّجْمُ: نَجْمُ السَّماءِ. وبه قال: مُجَاهِدٌ (ت:104) (¬4)، والحَسَنُ البَصْرِيُّ (ت:110) (¬5)، وقَتَادَةُ (ت:117) (¬6). ولم أجدْ من اللُّغويينَ منْ قالَ به، سوى حكايةِ بعضهم له. قال الزَّجَّاجُ (ت:311): «وقد قيل: إنَّ النجم ـ أيضاً ـ: يراد به النُّجُومُ. وهذا جائز أن يكون؛ لأن الله عزّ وجل قد أعلمنا أن النَّجْمَ يسجدُ، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج: 18]. ويجوزُ أن يكونَ النَّجْمُ ههنا، يعني به: ما نبتَ على وجهِ الأرضِ، وما طَلَعَ من نجومِ السماءِ، يقالُ لِكُلِّ ما طَلَعَ: قد نَجَمَ» (¬7). وهذا المثالُ يوضِّحُ أنَّ الخلافَ الذي وقعَ، إنما كانَ بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ في دَلالةِ لفظِ النَّجْمِ، حيثُ يطلقُ النَّجمُ في لغةِ العربِ ويراد به ما نَجَمَ من الأرضِ، ويطلقُ ويرادُ به نَجْم السَّمَاءِ. ¬
وإذا تأمَّلتَ هذين الوجهينِ التَّفسيريَّن، وجدتَ أنَّ لكلِّ وجهٍ منهما حَظًّا من النَّظَرِ: من حيثُ صحةُ الإطلاقِ في اللُّغةِ أوَّلاً، ثمَّ بصحة حملِهما في سياقِ الآيةِ، فالآيةُ تقبلُ هذه وتقبلُ ذاك على جهةِ التَّفسيرينِ، وهما من باب اختلافِ التَّنوُّعِ الذي تحتملُه الآيةُ بلا تضادٍّ. قالَ الطَّاهِرُ بنُ عَاشُورَ (ت:1393): «وجُعِلَ لَفْظُ النَّجْمِ واسطةَ الانتقالِ لصلاحيتِه؛ لأنَّه يُرادُ منه: نُجُومُ السَّماءِ، وما يسمى نجماً من نباتِ الأرضِ» (¬1). ومن ثَمَّ، فتفسيره بأنه ما لا ساق له يناسبُ ما بعده في الآيةِ ـ أي: الشَّجَر ـ لهذا قالَ أصحابُ هذا القولِ: النَّجْمُ: الذي ليسَ له ساقٌ، والشَّجَرُ: الذي له سَاقٌ (¬2). وتفسيره بنجمِ السماءِ يناسبُ ما قبله من الآياتِ الكونيَّةِ العلويَّةِ، وهو قولُه تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]. 2 - اختلفَ المفسِّرونَ في تفسيرِ لفظِ «الرَّيحَانِ» من قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12] على أقوالٍ، منها: القول الأول: الرَّيحانُ: الرِّزْقُ. وبه قال من السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬3)، ومُجَاهِدُ (ت:104) (¬4)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (¬5). ¬
وقال به من اللُّغويين: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬1)، وأبو عُبَيدَةَ (ت:210) (¬2)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (¬3). القولُ الثاني: الرَّيحَانُ: نَبْتُ الرَّيحَانِ الَّذي يُشَمُّ. وقالَ به من السَّلف: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬4)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (¬5)، والحَسَنُ البَصْرِيُّ (ت:110) (¬6)، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدٍ (ت:182) (¬7). وقد حكاه بعضُ اللُّغويِّينَ (¬8)، ولم أجد منهم من نصَّ على ذلكَ المعنى، والمقصودُ أنَّ هذا الاختلافَ وَقَعَ بسببِ احتمالِ هذا اللَّفظِ لِلْمَعْنَيَينِ على سبيلِ الاشتراكِ اللُّغويِّ. 3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «تتلوا» من قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] على قولينِ: القول الأولُ: تتلوا: تقرأ. وقال به من السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬9)، ومُجَاهِدٌ (ت:104) (¬10)، ¬
وعَطَاءُ بُنُ أبي رَبَاحٍ (ت:114) (¬1)، وقَتَادَةُ (ت:117) (¬2). ومن اللُّغويين: أبو عبيدة (ت:210) (¬3)، وابن قتيبة (ت:276) (¬4). القول الثاني: تتلوا: تتبع. وبه قال من السَّلف: ابن عبَّاس (ت:68) (¬5)، وأبو رَزِين الأسديُّ (ت:85) (¬6). وقد بيَّنَ أبو جعفر الطبري (ت:310) هذا الاشتراك في هذا اللفظ، فقال: «ولِقَولِ القائلِ: هو يتلو كذا. في كلامِ العربِ معنيانِ: أحدُهما: الاتِّبَاعُ؛ كما يقالُ: تَلَوتَ فلاناً؛ إذا مشيتَ خلفَه وتَبِعْتَ أثرَهُ، كما قالَ جَلَّ ثناؤه: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] (¬7)؛ يعني بذلك: تتبع. والآخرُ: القراءةُ والدِّراسةُ؛ كما تقولُ: فلانٌ يتلوا القرآنَ؛ بمعنى: أنه يقرؤه ويدرسُه؛ كما قال حَسَّانُ بُنُ ثَابِتٍ: نَبِيٌ يَرَى ما لا يَرَى النَّاسُ حَولَهُ ... ويَتلُو كتابَ اللهِ في كلِّ مَشهَدِ ولم يخبرْنا الله جلَّ ثناؤه ـ بأي معنى التِّلاوةِ كانت تلاوةُ الشَّياطينِ الذين تَلَوا ما تَلَوه من السِّحْرِ على عهدِ سُلَيمَانَ ـ بخبرٍ يقطعُ العذرَ. ¬
وقدْ يجوزُ أنْ تكونَ الشياطينُ تَلَتْ ذلك دراسةً وروايةً وعملاً، فتكونَ كانتْ متَّبِعَتَهُ بالعملِ، ودارسَتَهُ بالروايةِ. فاتَّبعَ اليهودُ منهاجَها في ذلك، وعَمِلَتْ به، وروته» (¬1). 4 - واختلفوا في لفظِ «التَّأوِيلِ» منْ قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] على قولينِ: القولُ الأولُ: تَاوِيلُهُ: حَقِيقتُه التي يصيرُ إليها. ويَدخلُ في ذلك المتشابهُ الذي لا يعلمُهُ إلاَّ اللهُ، وقال بهذا التَّفسيرِ أكثرُ أهلِ العلمِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومن جاء بعدهم من العلماءِ. والمرادُ بالمتشابهُ هنا: كلَّ ما لم يدركه البشرُ مما ذكرَ في القرآنِ، وهو ما يتعلَّقُ بالغيبيَّاتِ: حقائِقها وكيفيَّاتِها، ووقتَ وقوعِها، دونَ المعنى الذي يمكنُهم علمُه. ومِمَّنْ قالَ به منَ السَّلفِ: عَائِشَةُ بنت الصِّديقِ (ت:58) (¬2)، وعُرْوَةُ بُنُ الزُّبَيرِ (ت:94)، وعُمَرُ بُنُ عَبْدِ العَزِيزِ (ت:101)، ومَالِكُ بُنُ أَنَسٍ (ت:179) (¬3)، وغيرُهم. وقال به من اللُّغويِّين: عليُّ بن حمزة الكِسَائِيُّ (ت:183) (¬4)، وأبو زكريَّا الفَرَّاءُ (ت:207) (¬5)، والأخْفشُ (ت:215) (¬6)، وأبو عُبَيدٍ القاسم بن سلام ¬
(ت:224) (¬1)، وأبو حَاتِم السجستانيُّ (ت:255) (¬2)، وأبو إسحاق الزَّجَّاجُ (ت:311) (¬3)، وأبو بكر بن الأنباريِّ (ت:328) (¬4)، وغيرُهم (¬5). القولُ الثاني: تأويله: تفسيره، ومعرفةُ معناه. وقال به من السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬6)، ومجاهد (ت:104) (¬7)، والرَّبيعُ بن أنس البكريُّ (ت:139) (¬8). ومن اللُّغويِّين: ابنُ قتيبة (ت:276) (¬9)، وعليُّ بنُ سليمانَ الأخفشُ (ت:315) (¬10)، وغيرهم. وقد اختارَ ابن جريرٍ الطبري هذا القولَ (ت:310) (¬11). وسببُ الاختلافِ في هذا احتمالُ لفظِ التَّأويلِ في لغةِ العربِ لهذين المعنيينِ، بسببِ الاشتراكِ اللُّغويِّ فيه (¬12)، واللهُ أعلمُ. ¬
ثانيا: الاختلاف بسبب التضاد في دلالة اللفظ
ثانياً الاختلافُ بسببِ التَّضادِّ في دلالةِ اللَّفظِ الأضدادُ: الألفاظُ التي تأتي للمعنى وضِدِّهِ؛ كلفظِ «جَلَلٍ»: للشَّيءِ العظيمِ والشَّيءِ الحقيرِ (¬1). والتَّضَاد نوعٌ من المشتركِ اللَّفظيِّ، قال قُطْرُبُ (ت:206): «الوجهُ الثالثُ: أن يتَّفقَ اللَّفظُ ويختلفَ المعنى، فيكونُ اللَّفظُ الواحدُ على معنيينِ فصاعداً ... ومن هذا: اللَّفظُ الواحدُ الذي يجيءُ على معنيينِ فصاعداً، ما يكون متضادًّا في الشَّيءِ وضِدِّهِ» (¬2). وقد اعتنى علماءُ اللَّغةِ بهذه الظَّاهرةِ اللُّغويَّة في كلامِ العربِ، فألَّفوا فيها المؤلفاتِ، منهم: قُطْرُبُ (ت:206)، وأبو عبيدة (ت:210)، والتَّوَّزِيُّ (ت:233)، وابنُ السِّكِّيتِ (ت:244)، وأبو حاتم (ت:255)، وابنُ الأنباريِّ (ت:328)، وغيرُهم. ولم تَخْلُ هذه المؤلَّفاتُ من الأمثلةِ القرآنيَّةِ التي فُسِّرَت على هذه الظَّاهرةِ اللُّغويَّةِ، ولكنَّ الملاحظَ أنَّ بعضَ الأمثلةِ التي ذكرُوها من الأضدادِ لم يقعْ فيها خلافٌ بين المفسِّرينَ، وإنْ كانَ اللَّفظُ يأتي للمعنى وضِدِّهِ، لكن ¬
أحد معانيه جاءَ في غيرِ القرآنِ، أو يجيءُ في موضعين من القرآنِ، ولكلِّ موضعٍ معنى يخالفُ الآخرَ ويُضادُّه، ومنْ ذلكَ: لفظُ «الظَّنِّ»، حيثُ يُستعملُ عندَ العربِ للشَّكِّ واليقينِ. وقدْ وردَ في القرآن بالمعنيين، في موضعينِ مختلفينِ، قال ابنُ الأنباريِّ (ت:328): «فأمَّا معنى الشَّكِّ فأكثرُ من أن تُحصَى شواهدُه. وأمَّا معنى اليقين، فمنه قولُ اللهِ عزّ وجل: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12]، معناه: عَلِمْنَا. وقالَ جَلَّ اسمُهُ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]، معناه: فَعَلِمُوا بغيرِ شَكٍّ ...» (¬1). والمقصودُ أنَّ هذا اللَّفظَ، وإنْ كانَ من الأضدادِ، لم يقعْ بين المفسِّرينَ خلافٌ فيه في موضعٍ واحدٍ. أمَّا أمثلةُ أحرفِ الأضدادِ التي وقعَ فيها خلافٌ، فمنها: 1 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «القُرْءِ» في قولِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، على قولينِ: القولُ الأولُ: الحَيضُ. وبه قالَ عُمَرُ بن الخَطَّابِ (ت:23)، وعَلِيُّ بن أبي طالبٍ (ت:40)، وعبد اللهِ بنُ مسعود (ت:35)، وأبو مُوسَى الأشعريُّ (ت:44)، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ (ت:32)، وابنُ عباس (ت:68)، وسعيدُ بن جبيرٍ (ت:94)، ومجاهدٌ (ت:104)، والضَّحَّاكُ (ت:105)، وعكرمةُ (ت:105)، وقتادةُ (ت:117)، والسُّدِّيُّ (ت:128)، وغيرهم (¬2). ¬
القولُ الثاني: الطهر. وبه قالَ زيدُ بنُ ثابتٍ (ت:45)، وعائشةُ بنت الصِّدِّيقِ (ت:58)، ومعاويةُ بنُ أبي سفيانَ (ت:60)، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ بن الخطاب (ت:74)، وأبانُ بنُ عثمانَ بنِ عفانَ (ت:105) (¬1)، وسالمُ بنُ عبدِ اللهِ (ت:106) (¬2)، والزهريُّ (ت:124)، وغيرُهم (¬3). وقدْ حكى اللُّغويُّونُ الذينَ كتبوا في معاني القرآنِ وغريبِهِ القولينِ، وممنْ حكاهُما: أبو عبيدة (ت:210) (¬4)، وابن قتيبة (ت:276) (¬5)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (¬6)، وابنُ عُزَيزٍ (ت:330) (¬7)، كما حكاهما ـ أيضاً ـ أصحابُ كُتُبِ الأضدادِ (¬8)، وكتبُ المعاجمِ اللُّغويةِ (¬9). وسببُ الاختلافِ ـ كما هو ظاهرٌ هنا ـ التَّضادُّ في كلمةِ القُرءِ، وهي من الألفاظِ اللُّغويَّةِ التي لها أثرٌ في الحُكْمِ الشَّرعيِّ (علم الفقه) (¬10)؛ لأنَّ ¬
المطلوبَ من المرأةِ المطلَّقَةِ أنْ تتربَّصَ ثلاثةَ أطهارٍ، أو ثلاثَ حِيَضٍ. ولما كانت المسألةُ متعلِّقةً بحُكْمٍ شرعيٍّ كَثُرَ ورودُ أعيانِ العلماءِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ في هذه المسألةِ، وهذا ظاهرٌ في الآياتِ المتعلِّقةِ بالأحكامِ، حيث تجدُ أقوالَ الفقهاء منهم مذكورةً مع أقوالِ المفسِّرينَ، والله أعلم. 2 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «عَسْعَسَ» من قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] على قولينِ: القولُ الأولُ: أدبرَ. وممنْ قالَ به منَ السَّلفِ: عليٌّ (ت:40) (¬1)، وابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬2)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (¬3)، وقتادةُ (ت:117) (¬4)، وابنُ زيدٍ (ت:182) (¬5)، واختاره الطبريُّ (ت:310) (¬6)، وزعمَ الفَرَّاءُ (ت:207) أنَّ المفسرينَ أجمعُوا على هذا القولِ (¬7)!، وهو كما ترى. القول الثاني: أقبلَ. وممن قال به من السَّلف: مجاهدُ (ت:104) (¬8)، والحسنُ (ت:110) (¬9)، وعطيَّةُ العوفيُّ (ت:111) (¬10). ¬
وقدْ حَكَى هذينِ القولينِ أصحابُ كتبِ معاني القرآنِ وغريبِهِ؛ كأبي عبيدةَ (ت:210) (¬1)، وابنِ قُتَيبةَ (ت:276) (¬2)، والزَّجَّاجِ (ت:311) (¬3)، وابنِ عُزَيزٍ (¬4). كما حكاهما أصحابُ كتبِ الأضدادِ؛ كابنِ السِّكيتِ (ت:244) (¬5)، وأبي حاتم (ت:255) (¬6)، وابنِ الأنباريِّ (ت:328) (¬7). وكذا حكاهما بعض أصحابِ معاجمِ اللُّغةِ؛ كابنِ دُرَيدٍ (ت:321) (¬8)، والأزهريِّ (ت:370) (¬9)، وابنِ فارسَ (ت:395) (¬10)، وغيرِهم (¬11). 3 - اختلفَ المفسرونُ في لفظِ «سُجِّرَتْ» (¬12) من قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] على أقوالٍ، ومنها قولانِ متضادَّانِ، وهما: القولُ الأول: مُلِئت (¬13) وفاضتْ. وبه قالَ: الرَّبِيعُ بنُ خُثَيم (ت:61) (¬14)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (¬15)، ¬
ومحمد بنُ السَّائبِ الكَلْبِيُّ (ت:146) (¬1). ومن اللُّغويِّينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬2)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (¬3)، وثعلب (ت:291) (¬4). القولُ الثاني: يبستْ، وذهبَ ماؤهَا. وبه قالَ: الحسنُ البصري (ت:110) (¬5)، وقتادةُ (ت:117) (¬6). وقدْ حكى بعضُ علماءِ اللُّغةِ الذين كتبوا في الأضدادِ هذين القولينِ (¬7)، كما حكاهما أصحابُ المعاجمِ اللغوية (¬8). قال أبو زيدٍ الأنصاريُّ (ت:215): «المسجورُ: يكونُ المملوءَ، ويكون الذي ليس فيه شيءٌ» (¬9). وبهذا يظهر أنَّ مادَّة «سجر» ذات دلالتين متضادَّتين في لغةِ العربِ، والآيةُ تحتملُ هاتين الدِّلالتين، فقال مفسِّرٌ بأحدهما، وقال الآخرُ بالدِّلالة الأخرى، اجتهاداً منهما في اختيارِ إحدى الدِّلالتينِ، والله أعلم. والمقصودُ: أنَّ التَّضادَّ الذي في دلالةِ الكلمةِ الواحدةِ كان سبباً في ¬
الخلافِ بينَ المفسِّرينَ. ويمكنُ بالرجوعِ إلى كتبِ الأضدادِ لمعرفةُ ما حُكِيَ من أحرفِ الأضدادِ التي وقعَ فيها خلافٌ بينَ المفسرينَ (¬1). ومما ينبغي أن يُذكَر: أنَّه ليس كلُّ حرفٍ ادُّعي فيه التَّضادُّ أنَّ هذا يقبلُ على إطلاقِه؛ بلْ لا بُدَّ من تحريرِ هذا التَّضادِّ، فإنْ ثبتَ، قيلَ به، وإلاَّ فَلا، واللهُ أعلمُ. ومنْ ذلكَ ادَّعاءُ التَّضَادِّ في دلالةِ «بعد» منْ قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. قال أبو حاتم (ت:255): «وقالوا: قَبْلُ وبَعْدُ منَ الأضدادِ، وقالوا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105]: منْ قَبْلِ الذِّكرِ. ¬
وقالوا في قوله سبحانه وتعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، قالوا: قبل ذلك؛ ألا ترى أنَّه قال: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]، ثمَّ قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] (¬1)، فخَلْقُ الأرضِ قبلَ السَّماءِ، فلما قال: {بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، كانَ المعنى: قبلَ ذلكَ؛ لأنَّ قبلها: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27، 28]، ثمَّ قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. قال أبو حاتم: وقدْ قالوا غيرَ هذا التفسيرِ» (¬2). وفي تفسيرِ لفظِ قبل بلفظِ بعد = خروجٌ باللَّفظِ عن الأصلِ الذي جُعِلَ له، ولا يصِحُّ هذا إلاَّ إذا لم يُفهَمِ الكلامُ إلاَّ على معنى الضِّدِّ، والآيةُ مفهومةٌ على بقاءِ «بعد» على ظاهرِها، لذا لا حاجةَ لادِّعاءِ التَّضَادِّ في دلالتها. وسأذكرُ أقوال المفسِّرينَ في آيةِ سورةِ الأنبياءِ (¬3)؛ ليتبيَّنَ أنَّ الآيةَ لها معنًى على الأصلِ منْ دلالةِ «بعد»، وأنَّه لا حاجَة إلى هذا التَّأويلِ الذي يُخرِجُها عن أصلِها اللُّغويِّ من معنى البعديَّةِ. أوردَ الإمامُ الطبريُّ (ت:310) ثلاثةَ أقوالٍ للسَّلفِ في معنى هذه الآيةِ، وكُلُّ هذه الأقوالِ تجعلُ لفظةَ «بعد» على دلالتِها اللُّغويَّةِ المعروفةِ في البعديَّةِ. القول الأولُ: الزَّبُورُ: كتبُ الأنبياءِ، والذِّكْرُ: أُمُّ الكتابِ؛ أي: اللَّوحُ المحفوظُ. ¬
وبه قال: سعيدُ بنُ جبيرٍ (ت:94)، ومجاهدُ (ت:104)، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زيدٍ (ت:182) (¬1)، واختارَه الطبريُّ (ت:310) (¬2). القولُ الثاني: الزَّبُورُ: الكتبُ التي أنزلَها اللهُ على مَنْ بعدَ موسى من الأنبياءِ، والذِّكْرُ: التَّورَاةُ. وبه قالَ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (¬3). القولُ الثالثُ: الزَّبُورُ: زَبُورُ دَاوُدَ عليه السلام، والذِّكْرُ: التَّورَاةُ، وهو قول عامرٍ الشَّعْبِيِّ (ت:103) (¬4). وهذه الأقوالُ ـ كما ترى ـ ليسَ فيها إخراجٌ لدلالةِ «بعد» اللُّغويَّةِ عن أصلِها في البَعْدِيَّةِ المضَادَّةِ لمعنى القَبليَّةِ، وبقاءُ اللَّفظِ على معناه المعروف أولى من إخراجِه عنه بلا دلالةٍ سوى الاحتمالِ والتَّوَهُّمِ، واللهُ أعلمُ. ¬
ثالثا: الاختلاف بسبب مخالفة المعنى الأشهر في اللفظ
ثالثاً الاختلافُ بسببِ مخالفةِ المعنى الأشهر في اللَّفظ يَرِدُ على اللَّفظِ في لغةِ العربِ احتمالُ الاشتراكِ، كما سبقَ، وقدْ تكونُ دلالةُ اللَّفظِ على المعنيينِ في درجةٍ قويَّةٍ من الاحتمالِ، وقبولِ السياقِ لهما، وقدْ تتفاوتُ هذه المعاني في هذا الاحتمالِ، فيكون اللَّفظُ دائراً بين معنيينِ أحدهُما أشهرُ وأظهرُ في معنى اللَّفظِ من الآخرِ. وإذا دارَ الكلامُ بينَ هذينِ، قُدِّمَ الأشهرُ والأظهرُ من معاني اللَّفظِ، ومنْ أمثلةِ ذلك: ذكرَ الطبريُّ (ت:310) في قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] أقوالاً عنِ السَّلفِ: القول الأول: وتَرْجَمَهُ بقوله: اجعلوا بيوتَكم مساجدَ تُصَلُّونَ فيها، وذكر ذلك عن ابنِ عباسِ (ت:68)، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ (ت:96) (¬1)، ومجاهدٍ (ت:104)، والضَّحَّاكِ (ت:105)، وزيدِ بنِ أسلمَ (ت:136)، وأبي مالك غزوانِ الغِفَارِيِّ الكوفيِّ (¬2)، والربيعِ بن أنس (ت:139) (¬3). ¬
الثاني: اجعلوا مساجدكم قِبَلَ الكعبة، وذكر ذلك عن ابن عباس (ت:68)، ومجاهد (ت:104)، والضحاك (ت:105)، وقتادة (ت:117) (¬1). الثالث: وتَرْجَمَهُ بقوله: اجعلوا بيوتكم يُقَابِلُ بعضُها بعضاً، وذكر ذلك عن سعيد بن جبير (ت:94) (¬2). وقد اختار الطبريُّ (ت:310) البيوتَ المسكونةَ، فقالَ: «وأولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ، القولُ الذي قدَّمْنَا بيانه، وذلك أنَّ الأغلبَ منْ معاني البيوتِ ـ وإنْ كانتْ المساجدُ بيوتاً ـ البُيُوتُ المسكونةُ، إذا ذُكِرَتْ باسمِها المطلقِ، دونَ المساجدِ، لأنَّ المساجدَ لها اسمٌ هي به معروفةٌ، خاصٌّ لها، وذلكَ: المساجدُ. فأمَّا البُيُوتُ المطلَقَةُ بغيرِ وصلِها بشيءٍ، ولا إضافتِها إلى شيءٍ، فالبُيُوتُ المسكونةُ. وكذلكَ القبلةُ، الأغلبُ من استعمالِ النَّاسِ إيَّاها في قِبَلِ المساجدِ للصَّلواتِ. فإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، وكانَ غيرَ جائزٍ توجيهُ معاني كلامِ اللهِ إلاَّ إلى الأغلبِ من وجوهِهَا، المستعملِ بين أهلِ اللِّسانِ الذي نزلَ به، دونَ الخفيِّ المجهولِ، ما لم تأتِ دلالةٌ تدلُّ على غيرِ ذلكَ ـ ولم يكنْ على قولِه: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} دلالةٌ تَقْطَعُ العُذْرَ بأنَّ معناه غيرُ الظَّاهرِ المستعملِ في كلامِ العربِ ـ لم يَجُزْ لنا توجيهُهُ إلى غيرِ الظَّاهرِ الذي وصفْنَا، وكذلك القولُ في: قِبْلَةً» (¬3). والمقصودُ هاهنا أنَّ ورودَ هذه المعاني المخالفةِ للمعنى الأشهرِ في مدلولِ اللَّفظِ عندَ العربِ كانتْ سبباً في حَمْلِ بعضِ المفسرينَ الآياتِ عليها. وسأذكرُ بعضَ الأمثلةِ على ذلكَ: ¬
1 - اختلف المفسرونَ في لفظِ «ضَحِكَتْ» من قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] على قولين: القولُ الأولُ: أنَّ معنى ضَحِكَتْ: الضَّحِكُ المعروفُ. وهو قولُ الجمهورِ. فمنْ أهلِ التَّفسيرِ من السَّلَفِ: عبد الله بنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬1)، ووَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ الصَّنْعَاني (ت:114) (¬2)، وقتادةُ بن دعامة السَّدوسيُّ (ت:117) (¬3)، وإسماعيلُ السُّدِّيُّ (ت:128) (¬4)، ومحمد بن السائب الكلبيُّ (ت:146) (¬5). ومن أهل اللُّغةِ: أبو زكريَّا الفَرَّاءُ (ت:207) (¬6)، وأبو العباس ثَعْلَبٌ (ت:291) (¬7)، وأبو إسحاق الزَّجَّاجُ (ت:311) (¬8)، وأبو جعفر النَّحَّاسُ (ت:338) (¬9). القولُ الثاني: ضَحِكَتْ: حَاضَتْ. وقدْ وردَ عنْ بعضِ السَّلفِ منهم: ابنُ عبَّاسٍ (ت:68) (¬10)، ومجاهدُ (ت:104) (¬11)، وعكرمةُ (ت:105) (¬12). ¬
ومن اللُّغويِّينَ: صاحبُ كتابِ العينِ (¬1)، ونقل ابن قتيبة (ت:276) القولينِ ولم يعترضْ على هذا القولِ (¬2)، ونقل الطبريُّ هذا المعنى عنْ بعضِ البصريِّينَ مع شواهدِهِم عليه (¬3). وقال أبو بكر بن دريد (ت:321): «وفي التَّنْزِيلِ: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] ذكرَ المفسِّرونَ أنَّها حَاضَتْ، واللهُ أعلمُ. قالَ أبو بكرٍ: ليسَ في كلامِهِم: ضَحِكَتْ في معنى حَاضَتْ إلاَّ في هذا» (¬4). وقال أبو بكر بن الأنباريِّ (ت:328): «أنكرَ الفَرَّاءُ، وأبو عبيدةَ، وأبو عبيدٍ أنْ يكون «ضحكت» بمعنى حَاضَتْ. وَعَرَفَهُ غيرُهم، قالَ الشَّاعِرُ (¬5): تَضْحَكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ قال بعضُ أهلِ اللُّغةِ: معناه: تحيضُ» (¬6). وسببُ هذا الخلافِ أنَّ المعنى الأوَّلَ ـ أي: الضحكَ ـ هو المشهورُ في دلالةِ اللَّفظِ، أمَّا الثاني فقليلٌ، ولذا أنكرَهُ بعضُ اللُّغويينَ، ولكَّنه إنكارٌ مردودٌ، إذ المُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النَّافي، ومنْ حفظَ حُجَّةٌ على منْ لم يحفظْ (¬7). ¬
وهذا القولُ، فضلاً عن ورودِهِ عنِ السَّلفِ، فإنه مُدعَّمٌ بالشَّواهدِ الشِّعريَّةِ التي تُثْبِتُهُ لغةً (¬1)، وهو مع ثبوتِه لغةً، أضعفُ في التَّفسير منَ القولِ الأوَّلِ (¬2)؛ لأنَّ المعنى المشهورَ مُقدَّمٌ على المعنى القليلِ. 2 - اختلفَ المفسرونَ في لفظِ «بَرْداً» منْ قولِهِ تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا} [النبأ: 24] على أقوالٍ، منها: القولُ الأولُ: البَرْدُ: الهواءُ الباردُ الذي يُبَرِّدُ حرارةَ الجسمِ، ونُسِبَ إلى مقاتلِ بنِ سليمانَ (ت:150) (¬3)، واختارَه الطَّبريُّ (ت:310) (¬4)، وأبو جعفر النَّحَّاسُ (ت:338) (¬5). وقال المَاوَرْدِيُّ (ت:450) (¬6): «أنه بردُ الماءِ وبردُ الهواءِ، وهو قول كثيرٍ من المفسرين» (¬7). القولُ الثاني: البَرْدُ: النَّومُ، وقد نُسِبَ هذا القول إلى بعضِ السَّلفِ، ¬
وهم: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬1)، ومجاهدُ بنُ جبر (ت:104) (¬2)، والسُّدِّيُّ (ت:128) (¬3). وهو اختيارُ أبي عبيدةَ (ت:210) (¬4)، وابنِ قُتَيبَةَ (ت:276) (¬5)، وثعلب (ت:291) من اللُّغويِّين (¬6)، وقد نُسِبَ هذا القول إلى غيرهم (¬7). وإذا نظرتَ إلى هذين المدلولينِ، فإنَّكَ ستجدُ أنَّ المدلولَ الأولَ الذي فُسِّرَ به لفظِ «البَرْدِ» أشهرُ في إطلاقِ اللُّغةِ من المدلولِ الثاني. قال النَّحَّاسُ (ت:338)؛ «وأصَحُّ هذه الأقوالِ القولُ الأوَّلُ؛ لأنَّ البَرْدَ ليسَ باسمٍ من أسماءِ النَّومِ، وإنَّما يُحتَالُ فيه، فيقال للنَّومِ بَرْدٌ؛ لأنَّه يُهَدِّي العَطَشَ. والواجبُ أن يُحْمَلَ كتابُ اللهِ جلَّ وعَزَّ على الظَّاهِرِ والمعروفِ من المعاني، إلاَّ أنْ يَقَعَ دَليلٌ على غيرِ ذلكَ» (¬8). ¬
والمقصودُ أنَّ هذا الخلافَ كان بسببِ حَمْلِ اللَّفظِ على المعنيينِ: الأشهرِ المعروفِ، والأقلِ المنكورِ، واللهُ أعلمُ. 3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «يَنْصُرَهُ» مِنْ قولِه تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] على قولينِ: القولُ الأوَّلُ: ينصره: يعينُهُ في الغَلَبَةِ على عدوِّهِ. وقال به من السَّلفِ: قتادةُ (ت:117)، وابنُ زيد (ت:182) (¬1). وقال به من اللُّغويينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬2)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (¬3)، والنَّحَّاسُ (ت:338) (¬4)، والأزْهَرِيُّ (ت:370) (¬5). القول الثاني: ينصره: يرزقه، وفي معنى الآية احتمالان: الاحتمال الأول: ما قاله ابنُ عبَّاسٍ (ت:68) من أنَّ المعنى: منْ كانَ يَظُنُّ أنَّ اللهَ لَنْ يَرْزُقَ محمداً صلّى الله عليه وسلّم (¬6). الاحتمال الثاني: ما قاله مجاهدٌ بن جبر (ت:104) من أنَّ المعنى: منْ كانَ مِنَ النَّاسِ يظنُّ أنَّ الله لنْ يرزقه، فالضَّميرُ يعودُ على «مَنْ» (¬7). ومن اللُّغوييِّنَ من فسَّر النَّصرَ بالرِّزقِ؛ كأبي عبيدةَ (ت:210) (¬8)، وقد رجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ (¬9). ¬
وسببُ هذا الخلافِ أنَّ المعنيينِ واردانِ في هذه اللَّفظةِ، غيرَ أنَّ الأوَّلَ هو المعنى المشهورُ في اللَّفظةِ، لذا لم يردْ هذا الخلافُ في مدلولِ هذه اللَّفظةِ في القرآنِ إلاَّ في هذا الموضعِ؛ أي أنَّ الغالبَ في مدلولِها في القرآن: معنى التأييدِ والإعانةِ، وهو المعروفُ من معنى اللَّفظِ. قال ابنُ عَطِيَّة (ت:542): «والنَّصْرُ: معروفٌ، إلاَّ أنَّ أبا عُبَيدَةَ ذَهَبَ به إلى معنى الرِّزْقِ» (¬1). ¬
رابعا: بسبب أصل اللفظ واشتقاقه
رابعاً الاختلاف بسبب أصل اللَّفظ واشتقاقه الاشتقاقُ: أَخْذُ صِيغَةٍ مِنْ أخرى مع اتفاقِهما معنًى، ومادةً أصليةً، وهيئةَ تركيب لها؛ ليُدلَّ بالثانيةِ على معنى الأصلِ، بزيادةٍ مفيدةٍ؛ لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئةً؛ كضاربِ من ضَرَبَ، وحَذِرٌ من حَذِرَ، وهذا هو الاشتقاقُ الأصْغَرُ (¬1)، وهو المقصود هنا. والاشتقاقُ عَوْدٌ باللَّفظِ إلى أصلِه لِيُنْبِئَ عن معناه. وبما أنه مفيدٌ في معرفةِ أصلِ الكلمةِ، فإنه يفيدُ كذلك في معرفةِ خطأ بعضِ التَّفاسيرِ الشَّاذَّةِ التي خرجَ بها قائلوها عن المعنى المعروفِ بسببِ دعوى باطلةٍ، ومن ذلك: 1 - ما وردَ عن بعضِهم في تفسيرِ قولِ الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] بأنَّ إماماً: جمعُ أُمٍّ. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ (ت:538): «ومِنْ بِدَعِ التَّفاسِيرِ أنَّ الإمامَ جمعُ أُمٍّ، وأنَّ الناسَ يُدعونَ يومَ القيامةِ بأمهاتِهم، وأنَّ الحكمةَ في الدعاءِ بالأمهاتِ دونَ الآباءِ رعايةُ حَقِّ عيسى عليه السلام، وإظهارُ شَرَفِ الحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وأنْ لاَ يَفْتَضِحَ أولادُ الزِّنَى. وليتَ شِعْرِي، أيُّهما أبدعُ: أصِحَّةُ لفظِهِ، أمْ بَهَاءُ حِكْمَتِهِ!» (¬2). ¬
2 - وفَسَّرَ الزَّجَّاجَ (ت:311) قولَ الله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، فقال: «وهذا موضعٌ لطيفٌ يحتاجُ أنْ يُشْرَحَ، وهو أنَّ الحُسْبَانَ في اللُّغةِ هو الحِسَابُ، قالَ تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]، المعنى: بِحِسَابٍ. فالمعنى في هذه الآيةِ: أنْ يُرسِلَ عليها عذابَ حُسْبَانٍ، وذلك الحُسْبَانُ هو حِسَابُ ما كسبتْ يداكَ» (¬1). وقد تعقَّبَ الأزْهَرِيُّ (ت:370) هذا القولَ، فقال: «والذي قاله الزَّجَّاجُ في تفسيرِ هذه الآيةِ بعيدٌ، والقولُ ما قاله الأخْفَشُ وابنُ الأعْرَابِيِّ وابنُ شُمَيْل (¬2)، والمعنى ـ والله أعلم ـ: أنَّ اللهَ يُرْسِلُ على جَنَّةِ الكافرِ مَرَامِيَ مِنْ عَذابٍ، إما بَرَدٌ، وإمَّا حِجَارَةٌ، أوْ غيرُها مما شاءَ، فَيُهْلِكُهَا ويُبْطِلُ غَلَّتَهَا» (¬3). في هذا المثال جعل الزَّجَّاجُ (ت:311) الحُسْبَانَ: جمع الحِسَابِ، والصَّحيحُ أنَّه جمعٌ، واحدتُه: حُسبانة، وهي المرامي. ويلاحظُ في هذا المثالِ أنَّ لفظَ «حِسَاب» ولفظَ «حُسْبَانَة» مفترقان في الرسمِ، وقد اتفقا في الجمعِ على صيغةٍ واحدةٍ، وهي الحُسْبَانُ، وهذا ما أحدثَ ذلك الخلافَ في تفسيرِ هذه اللَّفظةِ، وهذا يعني أنَّ هذا المبحثَ مرتبطٌ بمبحثِ المشتركِ اللَّفظيِّ من هذه الجِهَةِ، واللهُ أعلمُ. والأمثلةُ لهذا المبحثِ كثيرةٌ (¬4)، وسأذكرُ منها ما يلي: ¬
1 - اختلفَ المفسِّرونَ في تفسيرِ لفظِ «عِضِينَ» من قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] على قولين: القول الأول: عِضِين: فرَّقُوه فِرَقاً، وجعلوه أعضاءَ كأعضاءِ الجَزُورِ [أي: الجمل]، فهو من العضو. وقالَ به منَ السَّلفِ: حبرُ الأمَّةِ ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬1)، وسعيد بنُ جُبَير (ت:94) (¬2)، ومجاهدٌ بن جبر (ت:104) (¬3)، والضَّحَّاكُ بنُ مزاحم (ت:105) (¬4)، وعِكْرِمَةُ (ت:105) (¬5)، وعطاءُ بنُ أبي رَبَاح (ت:114) (¬6)، وقَتَادَةُ (ت:117) (¬7)، وعبد الرحمن بنُ زَيد (ت:182) (¬8). وممن قال به منَ اللُّغويينَ: الخَلِيلُ بنُ أحمدَ (ت:175) (¬9)، والفَرَّاءُ (ت:207) (¬10)، وأبو عُبَيدَةَ (ت:210) (¬11)، والأخفشُ (ت:215) (¬12)، وابنُ الأعرابيِّ (ت:231) (¬13)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (¬14). ¬
القولُ الثاني: عِضِين: سِحْرٌ. ووردَ هذا التَّفسيرُ عن مجاهدٍ (ت:104) (¬1)، وعِكْرِمَةَ (ت:105) (¬2). وقد أشارَ إلى هذا القولِ جَمْعٌ منْ أهلِ اللُّغةِ (¬3). وسببُ هذا الخلافِ: اختلافُ النَّظرِ إلى أصلِ هذا اللَّفظِ واشتقاقِهِ، قالَ الأزهريُّ (ت:370) مبيناً ذلك: «وأمَّا قولُ اللهِ جلَّ وعزَّ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، فقدِ اختلفَ أهلُ العربيَّةِ في اشتقاقِ أصلِهِ وتفسيرِه، فمنهم من قالَ: واحدُها عِضَةٌ، وأصلُها عَضْوَةٌ، من عَضَّيْتُ الشَّيءَ: إذا فَرَّقتُهُ، جعلوا النُّقصانَ الواو [كذا]، والمعنى: أنَّهم فرَّقوا ـ يعني: المشركون ـ أقاويلَهم في القرآنِ؛ أي: فجعلوه مَرَّةً كَذِباً، ومَرَّةً سِحْراً، ومَرَّةً شِعْراً، ومَرَّةً كِهَانَةً. ومنهم منْ قالَ: أصل العِضَةِ عِضِهَةٌ، فاستثقلُوا الجمعَ بينَ هاءينِ، فقالوا: عِضَةٌ، كما قالوا: شفةٌ، والأصلح شَفَهَةٌ، وكذلك سَنَةٌ، وأصلُها: سَنَهَةٌ. وقالَ الفَرَّاءُ: العِضُونَ في كلامِ العربِ: السِّحْرُ (¬4)، وذلكَ أنَّه جعلَه من العِضْهِ، وَرُوِيَ عنْ عِكْرِمَةَ أنَّه قالَ: العِضْهُ: السِّحْرُ بلسانِ قُرَيشٍ. وهم يقولون للسَّاحِرِ: عَاضِهٌ (¬5). والكِسَائِيُّ (¬6) ذهبَ إلى هذا» (¬7). ¬
2 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «صلصال» منْ قولِه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] على قولين: القولُ الأولُ: الصِّلْصَالُ: الطِّينُ اليابسُ الَّذي إذا نَقَرْتَهُ صَلَّ؛ أي: أصدرَ صوتاً. وبه قالَ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬1)، وقتادةُ (ت:117) (¬2). ومِنَ اللُّغويينَ: أبو عبيدةَ (ت:210) (¬3)، وابنُ قتيبةَ (ت:276) (¬4)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (¬5). القولُ الثاني: الصَّلْصَالُ: المُنْتِنُ. وبه قالَ مجاهد (ت:104) (¬6). ولم أجدْ أحداً مِنَ اللُّغويينَ قالَ به، وإنْ كانَ بعضُهم قدْ ذَكَرَهُ عنْ مجاهد (ت:104) (¬7). والقولُ الأوَّلُ جعلَ أصلَ الكلمةِ مِنَ الصَّلْصَلةِ؛ أي: الصَّوتُ، ومنه: صَلْصَلَةُ اللِّجَامِ، والحُلْيِ؛ أي: صوتُهُما، والصَّلْصَلَةُ: صَوتُ الرَّعْدِ إذا كانَ صَافِياً، ويقالُ لِلْفَرَسِ إذا كانَ حَادَّ الصَّوتِ: فَرَسٌ صَلْصَالٌ (¬8). وأمَّا القولُ الثاني، فجعلَ أصلَه مِن صَلَّ الشَيءُ، إذا تغيَّرَ وأنْتَنَ. ¬
قالَ الطَّبريُّ (ت:310): «وقالَ آخرونُ: الصَّلْصَالُ: المُنْتِنُ، وكأنَّهم وجَّهوا ذلكَ إلى أنَّه مِنْ قولِهم: صَلَّ اللَّحْمُ، وأَصَلَّ: إذا أَنْتَنَ» (¬1). 3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ «مُسْتَمِرٌّ» من قولِه تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] على أقوالٍ، منها: القولُ الأوَّلُ: مُسْتَمِرٌّ، ذاهبٌ وزائلٌ. وقالَ به منَ السَّلفِ: مجاهدُ بن جبرٍ (ت:104) (¬2)، وقتادةُ بن دعامة السدوسي (ت:117) (¬3). ومِنَ اللُّغويِّينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬4)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (¬5). القولُ الثاني: مُسْتَمِرٌّ: شَدِيدٌ قَوِيٌّ. وقدْ نُسِبَ إلى أبي العَالِيَةِ (93)، والضَّحَّاكِ بنِ مُزَاحِمٍ (ت:105) (¬6). وممن قال به من أهلِ اللُّغةِ: أبو عبيدةَ (ت:210) (¬7)، وابنُ قتيبةَ (ت:276) (¬8)، وابنُ عُزَيزٍ السِّجسْتَانِيُّ (ت:330) (¬9). ¬
ومن ثَمَّ، فإنَّ أصلَ اللَّفظِ على التَّفسيرِ الأوَّلِ: مَرَّ يَمُرُّ: إذا ذَهَبَ (¬1). وأصلُه على التَّفسير الثَّاني: أنَّه مُسْتَفعِلٌ مِنَ الإمْرَارِ، مِنْ قولِهم: قدْ مَرَّ الحَبْلُ: إذا صَلُبَ وَقَوِيَ واشْتَدَّ (¬2). وبهذه الأمثلةِ يظهرُ أنَّ التَّفسيرِ يختلفُ باختلافِ النَّظرِ إلى أصلِ اللَّفظةِ، وإنْ كانتْ صُورةُ اللَّفظِ في الأصلينِ تنتهي إلى صيغةٍ واحدةٍ (¬3). ¬
خامسا: الاختلاف بسبب المعنى القريب المتبادر للذهن وضده
خامساً الاختلاف بسبب المعنى القريب المتبادر للذهن والمعنى البعيد لِلَّفظِ إذا كان للفظِ مدلولانِ، أحدهما قريبٌ متبادرٌ للذِّهنِ، والآخرُ بعيدٌ، وسمعْتَ متكلِّماً يتكلَّم بهذا اللَّفظِ، فإنَّ الغالبَ أن يتبادرَ إلى ذهنِكَ المعنى الظَّاهِرُ القريبُ، دون المعنى البعيدِ الذي لا يُوصَلُ إليه إلاَّ بتقليبِ النَّظرِ في المعاني المحتملةِ. فلو قالَ قائلٌ: اهْجُرْ فلاناً، لذهبَ الذِّهنُ إلى معنى التَّرْكِ، أي: اتركُهُ وصحبتَهُ، لأنَّ هذه الدِّلالةَ هي المعنى المتبادرُ القريبُ من الذِّهنِ في مدلولِ هذا اللَّفظِ. وقدْ لا يَخْطُرُ ببالِكَ أنَّ المرادَ هاهنا السَّبُ، وهو معنى آخرُ مُحْتَمَلٌ في دلالةِ هذا اللَّفظِ. والتَّفريقُ بينَ المعنى القريبِ والمعنى البعيدِ يمكنُ أنْ تكونَ كثرةُ الاستعمالِ هي المرجعَ في معرفتِهِ، فكثرةُ استعمالِ العربِ لهذا اللَّفظِ في هذا المعنى دونَ ذاكَ يجعلُه أقربُ إلى الذِّهْنِ مِنْ غيرِه عندَ وُرُودِ الاحتمالِ عليه في سياقٍ مِنْ سِياقاتِ الكلامِ. وقدْ وَرَدَتْ ألفاظٌ في القرآنِ حملَها المفسِّرونَ على معانٍ محتملةٍ فيها، غيرَ أنَّ بعضَها يكونُ أقربَ إلى الذِّهنِ مِنْ بعضٍ، لشهرتِه وكثرة استعمالِه في أحدِ معاني اللفظِ. ومِنْ هذه الأمثلةِ التي وقعَ خلافٌ فيها بينَ المُتَأَوِّلينَ لكتابِ الله، ما يأتي:
1 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ الأعناقِ مِنْ قوله تعالى: {إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، على أقوالٍ: القولُ الأول: أعناقهم: الأَعْنَاقُ المعروفَةُ؛ أي: الرِّقَاب. ومِمنْ قالَ بهِ مِنَ السَّلفِ: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬1)، ومجاهدُ بنُ جبرٍ (ت:104) (¬2)، وقُتادةُ (ت:117) (¬3). ومن اللُّغويِّينَ: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬4)، وأبو عبيدةَ (ت:210) (¬5)، ونَسَبَهُ المُبَرِّدُ (ت:285) إلى عَامَّةِ النَّحويِّينَ (¬6)، ورجَّحَهُ الطبريُّ (ت:310) (¬7). القولُ الثَّاني: أعناقهم: كُبَرَاؤهم وأشرافُهم. وقدْ نَسَبَهُ الفَرَّاءُ (ت:207) إلى مجاهد (ن:104) (¬8). وقالَ به: قُطْرُبُ (ت:206) (¬9)، وابنُ عُزَيْزَ (ت:330) (¬10). القولُ الثَّالثُ: أعناقهم: جَمَاعَتُهُمْ. وقالَ به بعضُ اللُّغويِّينَ: صاحبُ كتابِ العينِ (¬11)، وأبو زيدٍ الأنصاريُّ ¬
(ت:215) (¬1)، وابنُ فَارِسَ (ت:395) (¬2). وقد نَسَبَهُ النَّحَّاس (ت:338) إلى الأخفشُ (ت:215) (¬3)، كما نَسَبَهُ الأزهريُّ (ت:370) إلى أكثرِ المفسِّرين (¬4). إذا تأملتَ هذه الأقوالَ، وجدتَ أنَّ القولَ الأوَّلَ الذي قال به السَّلفُ وجمعٌ من اللغويِّينَ أقربُ إلى الذِّهنِ مِنَ المعنيينِ الآخَرَيْنِ، وهما ـ مع كونهما محتملينِ ـ مرجوحانِ بسبب أنَّ القولَ الأوَّلَ هو الأقربُ المتبادرُ للذِّهنِ، واللهُ أعلمُ (¬5). 2 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظِ الثِّيابِ مِنْ قَوْلِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] على أقوالٍ، منها: القولُ الأوَّلُ: ثيابك: الثيابُ الملبوسةُ، ويكونُ ذلك بإبعادِ النجاسةِ عنها. ¬
وبه قال: ابنُ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬1)، والضَّحَّاكُ (ت:105) (¬2)، وعِكْرِمَةُ (ت:105) (¬3)، وطَاوُسُ بنُ كَيسَانَ اليمانيُّ (ت:106) (¬4)، ومحمدُ بنُ سِيرينَ (ت:110) (¬5)، وعبدُ الرحمن بن زيد (ت:182) (¬6)، وسُفْيَانُ بنُ عُيَينَةَ (ت:198) (¬7)، والشافعيُّ (ت:204) (¬8). القولُ الثَّاني: أنَّ الثيابَ: النَّفْسُ، ويكونُ ذلك بتزكيَتِها، وعبَّرَ عنها بعضُهم بقولِه: «عَمَلَكَ فَأَصْلِحْهُ، وكانَ الرَّجُلُ إذا كانَ خبيثَ العمل، قالوا: فلانٌ خبيثُ الثِّيابِ، وإذا كانَ حَسَنَ العملِ، قالوا: فلانٌ طاهرُ الثِّيابِ» (¬9). وورد هذا المعنى عن ابنِ عبَّاسٍ (ت:68) (¬10)، والنَّخَعِيِّ (ت:96) (¬11)، وعامرٍ الشَّعْبِيِّ (ت:103) (¬12)، ومجاهدِ بنِ جبرٍ (ت:104) (¬13)، وعَطَاءِ بنِ أبي رباحٍ (ت:114) (¬14)، وقتادةَ (ت:117) (¬15). ¬
وقال به منَ اللُّغويِّين: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬1)، وابنُ قُتَيْبَةَ (ت:276) (¬2)، والزَّجَّاجُ (ت:311) (¬3). وإذا تأملتَ هذه الأقوالَ، وجدتَ أنَّ القولَ الأوَّلَ هو القريبُ المتبادرُ للذِّهنِ، بخلافِه القولُ الثَّاني الذي هو أبعدُ منه، إذ لا يتبادرُ إلى الذهنِ إرادته، وكلا القولينِ محتملٌ في الآيةِ (¬4)، والله أعلم. 3 - اختلفَ المفسِّرونَ في لفظ «حَمَّالَةَ الحَطَبِ» مِنْ قولِه تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] على قولين: القولُ الأوَّلُ: حَمَّالَةَ الحَطَبِ: تحملُ الشَّوكَ، وتلقيه في طريقِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم. وهذا قولُ ابنِ عَبَّاسٍ (ت:68) (¬5)، ومجاهدَ (ت:104) (¬6)، والضَّحَّاكِ (ت:105) (¬7)، والحَسَنِ (ت:110) (¬8)، وابنِ زيدٍ (ت:182) (¬9)، وعَطِيَّةَ العَوفِيِّ الجَدَلِيِّ (ت:111) (¬10)، واختارَه الطَّبَرِيُّ (ت:310) (¬11). ¬
القولُ الثاني: حَمَّالَةَ الحَطَبِ: تمشي بالنَّميمةِ. وهو قولُ مجاهد (ت:104) (¬1)، وعِكْرِمَةَ (ت:105) (¬2)، والحَسَنِ البصريِّ (ت:110) (¬3)، وقتادةَ (117) (¬4)، وسفيان الثوريِّ (ت:164) (¬5). وبه قال: الفَرَّاءُ (ت:207) (¬6)، وابنُ قُتَيبَةَ (ت:276) (¬7). والقولُ الأوَّلُ هو القولُ المتبادرُ الأقربُ إلى الذِّهنِ، وهو المعنى الظاهرُ مِنَ اللَّفظِ، قالَ الطَّبَريُّ (ت:310): «وأولى القولينِ عندي، قولُ مَنْ قالَ: كانتْ تَحْمِلُ الشَّوكُ، فتطرحُه في طريقِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنَّ ذلكَ هو أظهرُ معنى ذلكَ» (¬8). والمرادُ بالشَّوكِ هنا: الشَّجرُ الذي فيه شوكٌ، قالَ عَطِيَّةُ العَوفِيُّ (ت:111): «كانتْ تَضَعُ العَضَاةَ (¬9) على طريقِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فكأنما يَطَأُ به كثيباً» (¬10)، وقالَ ابنُ زَيدٍ (ت:182): «كانتْ تأتي بأغصانِ الشَّوكِ، فتطرحُها باللَّيلِ في طريقِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم» (¬11)، وعلى هذا فمنْ عَبَّرَ بالشَّوكِ فإنَّه فَسَّرَ بالجزءِ الذي هو المقصودُ في الإيذاءِ، واللهُ أعلمُ. ¬
والمعنى الثاني أبعدُ عن الذِّهنِ مِنَ المعنى الأوَّلِ، غيرَ أنَّه معروفٌ في اللُّغةِ، قالَ ابنُ قُتَيْبَةَ (ت:276): «قالَ ابنُ عَبَّاسٍ ـ في رواية أبي صالحٍ عنه ـ: الحَطَبُ: النَّمِيمَةُ، وكانتْ تُوَرِّشُ (¬1) بين النَّاسِ. ومنْ هذا قيل: فلانٌ يَحْطِبُ عَلَيَّ: إذا أغرى به، شَبَّهُوا النَّمِيمَةَ بالحَطَبِ، والعَدَاوَةَ والشَّحْنَاءِ بالنَّارِ؛ لأنَّهما يقعانِ بالنَّمِيمَةِ، كما تُلْهِبُ النَّارُ الحَطَبَ، ويقالُ: نارُ الحِقْدِ لا تَخْبُو. فاستعاروا الحَطَبَ في موضعِ النَّمِيمَةِ. وقالَ الشَّاعِر (¬2) ـ وذَكَرَ امْرَأةً ـ: مِنَ البِيضِ لَمْ تَصْطَدْ عَلَى حَبْلِ سَوْأَةً ... وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بالحَظْرِ الرَّطْبِ أي: لم تُوجَدَ على أمرٍ قبيحٍ، ولم تَمْشِ بالنَّمائمِ والكذبِ. والحَظْرُ: الشَّجَرُ ذو الشَّوكِ. وقالَ آخرُ (¬3): فَلَسْنَا كَمَنْ تُزْجَى المَقَالَةُ شَطْرَهُ بِقَرْفِ العَضَاةِ الرِّطْبِ والعَبَلِ اليَبْسِ» (¬4). وبهذا يظهرُ أنَّ المعنيينِ محتملانِ في الآيةِ، غيرَ أنَّ أحدَهما أسبقُ إلى الذِّهنِ منَ الثاني. وهكذا كلُّ ما شاكلَ هذه الأمثلةَ (¬5). ¬
وقبلَ أنْ أختمَ هذا الفصلَ، أنبِّه على أمورٍ: الأول: أنه قد تتفقُ الصيغةُ، ويختلفُ الأصلُ اللفظي المأخوذةُ منه، فما كانَ الأصلُ فيه مختلفاً، جعلتُ سببَ الاختلافِ فيه: النظر إلى أصل الاشتقاقِ، وما كان غير ذلك، جعلته من المشتركِ اللغويِّ، مثلُ لفظِ «مستمر»، هل هو من مرَّ يمرُّ، أو أمرَّ الحبلُ: إذا اشتدَّ وقوي. فهما، وإن كانا اتفقا في صيغةِ المصدرِ إلاَّ أنَّ معناهما مختلفانِ، لذا قد يُحكمُ على التفسيرِ بهما أنهما من المشتركِ اللَّفظيِّ باعتبارِ اشتراكِ هذه الصيغةِ في الدلالةِ على هذا المعنى، ولكن إذا اعتبرتَ أصلِ اللفظِ جعلتَ الاختلافَ بسببِ النظرِ إلى أصلِ اللفظِ، وهو الأصحُّ، واللهُ أعلمُ. أمَّا إذا اتفقت الصيغة والأصلُ كلفظِ «نجم»، فإنه من المشترك اللَّفظيِّ، ولا يدخلُه احتمالُ الاختلافُ بسبب أصل اللفظِ واشتقاقِه، لأنَّ أصله واحدٌ، والله أعلمُ. الثاني: الفرقُ بين المعنى المشهورِ وضدِّه، والمعنى القريبِ وضدِّه. لما جمعت الأمثلةَ من هذا البابِ وقسمتُها، جعلتُ كلَّ ما وقعَ عليه اعتراضٌ من العلماءِ في القسمِ المقابلِ للمشهورِ، أمَّا إذا لم يقعْ منهم اعتراضٌ على المعنى المذكورِ فإني جعلتُه من القسمِ المقابلِ للمعنى القريبِ. الثالث: أنَّه يدخلُ في هذا البابِ ما كان الخلافُ فيه بسببِ حملِ اللَّفظِ على الحقيقةِ والمجازِ، عند من يقولُ به، لذا حملَ بعضُهم بعضَ هذه الأمثلةِ المذكورةِ على المجازِ، كالخلافِ في قولِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، قال ابنُ العَرَبِيِّ (ت:543): «ليس يمتنعُ أنْ تُحْمَلَ الآيةُ على عمومِ المرادِ فيها بالحقيقةِ والمجازِ ...» (¬1). وعوداً على بدءِ فإنَّ هذا الاختلافَ الكائنَ بسببَ اللُّغةِ كانَ له أثرٌ في تَعَدُّدِ المحتملاتِ التَّفسيريَّةِ، وكانتْ هذه المحتملاتُ متراجحةً بين القبولِ وعدمِه، وليس هاهنا محلُّ بحثِ هذه المسألةِ، وإنما المرادُ إبرازُ الأثرِ الذي أفرزَهُ هذا الاحتمالُ اللُّغويُّ في التَّفسيرِ، واللهُ الموفِّقُ. ¬
الفصل الثاني: أثر التفسير اللغوي في انحراف المفسرين
الفصل الثاني أثر التفسير اللغوي في انحراف المفسرين
بدايات الانحراف في الأمة
تمهيد في تاريخ الانحراف لا شكَّ أنَّ الانحرافَ يرتبطُ بعضُه ببعضٍ، ولا يأتي دَفْعَةً واحدةً، وقد كانَ للانحرافِ عنِ الإسلامِ أثرٌ واضحٌ في عقائدِ المسلمينَ، وبرصدِ ظاهرةِ الانحرافِ تَجِدُ أنَّ السَّبئِيَّةَ (¬1) ـ التي أفرزت الرَّفْضَ (¬2) فيما بعدُ ـ منْ أوائلِ الانحرافاتِ التي كانتْ تَنْخُرُ في جسمِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ. وكانت مزامنةً لها بدعةُ الخوارجِ (¬3)، ثمَّ ظَهرتْ بدعةُ القَدَرِيَّةِ (¬4)، وكانتْ ¬
هذه الانحرافاتُ في عهدِ الصَّحابةِ، ثمَّ ظهرتْ في عهدِ التَّابعينَ بدعةُ الجَهْمِيَّةِ (¬1)، ثمَّ المُعْتَزِلَةِ والمُرْجِئَةِ (¬2). وليس المرادُ هاهنا رصدَ هذه الحركاتِ، وإنما المرادُ التَّنبيه على أن هذه الحركاتِ كانَ لها آثارٌ في تفسيرِ القرآنِ، وكانتْ قدْ بَنَتْ تفسيرَه على ما تعتقدُه، فأظهرَ ذلكَ انحرافاً في التَّفسيرِ، وكانَ من جملتِهِ التَّفسيرُ اللُّغويُّ. ويمكنُ للدَّارسِ لهذه الحركاتِ أنْ يَلْحَظَ بعضَ الأسبابِ في ظهورِها، ومنها: 1 - دخولُ بعضِ الكفَّارِ في الإسلامِ ظاهراً، والكيدُ له في الباطنِ؛ كعبدِ اللهِ بنِ سَبَإٍ اليهوديِّ (¬3)، الذي كانَ له أثرٌ واضحٌ في الأُمَّةِ، وكانَ منْ آثارِهِ التي بقيتْ: عقيدةُ الرَّفْضِ، التي صارتْ تُلقَّبُ بالشِّيعَةِ. وقدْ سلكَ هذا السبيلَ الزَّنادقةُ (¬4) الذين عاشوا في ظِلِّ الإسلامِ وتظاهروا به، وكانوا فريقين: ¬
فريقٌ غلبتْ عليه الشَّهواتُ، وإنْ لم يَخْلُ حالُهم من الشُّبَهِ، فهم يريدونَ الانفلاتَ منْ أوامرِ الدِّينِ، وعدمِ التَّقيُّدِ به، ويغلبُ على هؤلاءِ أنهم من الشُّعراءِ؛ كحَمَّاد عَجْرَدَ (161) (¬1)، وغيرِه ممن اتُّهِمَ منهم بالزَّنْدَقَةِ (¬2). وفريقٌ أصحابُ شبهاتٍ ومناقشاتٍ وجدلٍ وإن كانَ لا يَخْلُو منْ شَهْوَةٍ في زَنْدَقَتِهِ، لكنْ غلبَ عليه جانبُ الجدلِ والمناظرةِ، وكانَ هذا الفريقُ أكثرَ أثراً من فريقِ الشَّهَوَاتِ. وممن ذُكِر له مناظراتٌ من الفريقِ الأوَّلِ: الشاعرُ صالحُ بنُ عبدِ القدوسِ (ت:167) (¬3)، الذي قتله الخليفةُ العبَّاسيُّ المهديُّ (ت:169) (¬4) بتهمة الزَّندقة، وقد ¬
نُسِبَ له كتابُ الشُّكُوك (¬1). وكانَ منَ الزَّنادقةِ الملحدينَ أصحابِ الشَّبَهِ الذينَ فَشَا أمرُهُم وكتبوا الكتبَ في النَّقْضِ على الإسلامِ والمرسلينَ أبو الحسين أحمد بن يحيى، المعروف بابنِ الرَّاونْدِيِّ (ت:298) (¬2)، وقد حفظتْ بعضُ الكتبِ شيئاً من زندقتِه وضلالته (¬3)، ككتابِ (الانتصار والرَّدِّ على ابن الرَّاوَنْدي الملحدِ) (¬4) لشيخِ المعتزلةِ البغداديين عبدِ الرَّحيمِ بنِ محمدٍ الخيَّاطِ (ت:300) (¬5). وهذا الرجلُ وإنْ كانَ متأخراً إلاَّ أنه يُوَضِّحُ صورةً منْ صُوَرِ ما كانَ ¬
الملاحدةُ عليه في تلكَ الأزمانِ، وما كانتْ مناقشاتُهم تدورُ في فَلَكِهِ. 2 - ترجمةُ آثارِ الأممِ السابقةِ: منَ الفُرْسِ، والْهِنْدِ، واليُونَانِ، وغيرهم، وقدْ كانتْ بداياتُ ترجمتِها في عهد بني أُمَيَّةَ (¬1)؛ أيْ: في القرنِ الأوَّلِ منَ الهجرةِ النَّبَوِيَّةِ. وقدْ أفرزَ هذانِ السَّببانِ نَتَاجاً عقلياً ظهرَ في آثارِ الجَهْمِيَّةِ والمعتزلةِ ومنْ جاءَ بعدهم من أهل البدعِ الذين نهلوا من علومِ الأوائِل (¬2)، وناقشوا الزَّنادِقَةَ الذينَ انتحلوا الإسلامَ، والملاحدةَ ممن لم يدخلْ في الإسلامِ (¬3). ¬
اعتماد العقل في التصدي للزندقة
اعتماد العقلِ المجرَّدِ في التَّصدِّي للزَّندقةِ: من الملاحظِ من خلالِ تراجمِ الكتبِ أو المؤلفاتِ أنَّ بعض المعتزلةِ قد تصدّوا لهذا الانحرافِ المتزندقِ، لكنَّهم ناقشوه بعقلٍ مجردٍ غير معتمد على الشَّرعِ، أو بعقلٍ متأثرٍ بآراءٍ فلسفيَّةٍ، فأوقعَهم ذلك في مخالفاتٍ نَتَجَ عنها اعتقاداتٌ باطلةُ، وقد كان ذلك بسببِ بعضِ الإلزاماتِ التي كانتْ نتيجةً لهذه المناقشاتِ التي لا يوجد فيها مرجعٌ يُحتَكم إليه في النِّزاعِ سوى العقلِ المُجَرَّدِ (¬1). والعقلُ يختلفُ باختلافِ الثقافاتِ التي كوَّنته، لذا، فليسَ من الغريب أنْ تنشأ انحرافاتٌ عندَ المعتزلةِ بسبب الإلزاماتِ التي كانتْ تصدرُ عن النِّقاشاتِ الجدليَّةِ بين المتزندقةِ والمعتزلةِ، أو بين معتزليٍّ ومعتزليٍّ آخر، فتنشأُ لهم بسببِ تلكَ الإلزاماتِ عقيدةٌ يعتقدونَها ويدافعونَ عنها. والمعتزلةُ من أوَّلِ الفرقِ التي أعطتِ العقلَ المجرَّدَ حريَّةَ التَّسلُّطِ على النُّصوصِ، فلم يجعلوها من الثَّوابتِ التي يقيسونَ عليها. لذا لا تجدُ لهم اتفاقاً في المسائلِ، وإن زعموا الاتفاقَ على الأصول الخمسةِ، إذ هم في فروعها ومباحثها فرقٌ شتَّى. وهم وإن كان بينهم ثباتٌ ¬
في أصولهم الخمسةِ، إلاَّ أنَّه ثباتٌ مستندٌ إلى العقلِ المجرَّدِ أوَّلاً، ثمَّ هم يردُّونَ كلَّ ما خالفَ ما أصَّلوه، ولو كانَ ظاهرَ الكتابِ أو السنَّةِ، أو إجماعَ الصحابةِ. ومنْ نظرَ في مناقشاتِ المعتزلةِ فيما بينهم، ظهرَ له بُعْدُهُمْ عن الكتابِ والسُّنَّةِ وأقوالِ السَّلفِ الصالِحِ، كما يظهرُ له اعتدادُهم بالعقلِ، وأنَّ هَمَّ الواحدِ منهم أنْ يظفرَ بالمناقشةِ، وأن تكونَ له الصَّولَةُ، ولهم في ذلك عجائبُ (¬1). لذا تجد أنه يتردَّدُ عندَهم قولُهم: «فإن قلتَ، قلتُ»، وليس تحت هذه المناقشاتِ طائلٌ ولا نائلٌ، بل إنهم يتجادلون لأجل الجدل، لا للوصول إلى الحقِّ (¬2). ¬
وربما أُلزِم المناظِر منهم بأشياء باطلة في ذاتها، جرَّه إليها هذا الجدل العقيم، فالتزمها، وصارت له عقيدة يدافع عنها (¬1). ومن الإلزامات الباطلة في هذه المناظرات، ما حُكِيَ عن أبي الهذيل العلاف (ت:235) (¬2) في انقطاعِ حركةِ أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ، وأنهم يصيرونَ إلى سكونٍ دائمٍ، قال الشَّهْرَسْتَاني (ت:548) (¬3): «قوله: إنَّ حركاتِ أهلِ الخُلدَينِ تنقطعُ، وأنَّهم يصيرونَ إلى سكونٍ دائمٍ خموداً، وتجتمعُ اللَّذاتُ في ذلك السُّكونِ لأهلِ الجنَّةِ، وتجتمعُ الآلامُ في ذلك السُّكونِ لأهلِ النَّارِ. وهذا قريبٌ منْ مذهبِ جَهْمٍ (¬4)، إذ حكمَ بفناءِ الجنَّةِ والنَّارِ. وإنما التزم بذلك المذهبِ لأنَّه لما أُلْزِمَ في مسألةِ حدوثِ العَالَمِ: أنَّ الحوادثَ التي لا أوَّلَ لها كالحوادثِ التي لا آخرَ لها، إذْ كُلُّ واحدةٍ لا تتناهى. ¬
قال: إنِّي لا أقولُ بحركاتٍ لا تتناهى آخِراً، كما لا أقولُ بحركاتٍ لا تتناهى أوَّلاً، بلْ يصيرونَ إلى سكونٍ دائمٍ. وكأنه ظنَّ أنَّ ما لَزِمَهُ في الحركةِ لا يلزمُه في السُّكونِ» (¬1). وقد خالف بقوله هذا ظاهر قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقد كفَّره بعضُ المعتزلةِ بسببِ هذا القولِ وغيره، وكانَ بعضُهم يؤاخذُه بهذا القولِ خاصَّةً، ففي طبقاتِ المعتزلةِ ما نصُّه: «كانَ في قلوبِ معتزلةِ بغدادَ مَوجِدَةٌ عليه [يعني: أبا الهذيل] في قولِه بالحركات، فساءهم عضمداً (¬2). فقالَ: كيفَ أقولُ ذلكَ واللهُ يقولُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}؟. وقال أبو علي (¬3): إنما كانَ ذهبَ في ذلكَ إلى أنَّ الحركاتِ لا تنقطعُ، ثمَّ تابَ منْ ذلكَ» (¬4). ومن كانت هذه طريقته في الجدل، فأحرى أن لا يناقش الملحدة المتزندقة؛ لأنه قد ينخذل أمامهم، فيلتزم بشيء من باطلهم، فيكون له عقيدة يعتقدها ويدافع عنها، والعياذ بالله. فانظرْ، كيفَ جَرَّتْ هذه المناقشاتُ العقيمةُ إلى مثلِ هذه الأقوالِ الكُفريةِ التي تخالفُ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ؟! وقدِ استمرَّ هذا النِّقاشُ العقيمُ بينَ المعتزلةِ وغيرها من الفرق التي اعتمدتِ العقلَ المجرَّدَ في النِّقاشِ؛ كالأشعريةِ التي كانتْ من أكبرِ الفِرَقِ ¬
الإسلاميَّةِ مجادلةً معَ المعتزلةِ، حتى يكادُ يُخَيَّلُ للقارئ في هذه المناقشاتِ أنَّه لا يوجدُ في الفِرَقَ الإسلاميَّةِ إلاَّ هاتانِ الفِرْقَتَانِ. وليسَ المرادُ هاهنا الحديثُ عن الفِرَقِ، وإنما ذِكْرُ بعضِ أمثلةٍ لِمَا وَقَعَ منها بسببِ البُعْدِ عن القرآنِ والسنَّةِ وآثارِ السَّلفِ الصَّالحِ، والاتجاهِ إلى العَقْلِ وجعْلِهِ الحُجَّة في الحكمِ على المسائلِ العقديَّةِ والنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ. وبتتبع بعض أسماء المنحرفين (¬1) يتبين أنَّ الانحرافَ بدأ قديماً، ثمَّ إنَّه نَمَا شيئاً فشيئاً حتى تكوَّنَتْ منه فِرَقٌ وعقائدٌ. وقدْ كانَ لنُشُوءِ الفِرَقِ في الإسلامِ أثرٌ كبيرٌ في هذا الانحرافِ، وكانَ اتِّسَاعُ اللُّغةِ أحدَ مُعْتَمدَاتِهم في إثباتِ بعضِ بِدَعِهِمْ في بعضِ الأحيانِ. وقدْ ظَهَرَ لي منْ تَتَبُّعِ هذه الانحرافاتِ أنَّ سببَها ـ في الغالب ـ الاعتمادُ على العقلِ؛ أي أنَّ المفسِّرَ يعتقدُ رأياً بمحضِ عقلِهِ ثُمَّ يتأوَّلُ كلامَ اللهِ عليه، مستعيناً على هذا باتِّسَاعِ اللُّغةِ. ومنْ نتائجِ ذلك أنَّك لا ترى عندَهم حكايةَ أقوالِ علماءِ التَّفْسِيرِ من السَّلَفِ، بلْ أعرضَ عنها جمهورُ المبتدعةِ، وعارضُوها في بعضِ الأحيانِ، واعتمدوا النَّقلَ عن أكابرِهِم، والاعتدادَ برأيهم دونَ غيرِهم. وليس هذا محلاً لطرحِ هذه المسائلِ، وإنما جرَّ إليها التَّقْدُمَةُ للانحرافِ الكائنِ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، فاستطردتُ بما أراه ممهِّداً لموضوعي (¬2). ¬
قد اجتهدتُ في تتبُّعِ بعضِ التَّفاسيرِ المنحرفةِ التي كانت في القرونِ الأولى، فظهرَ لي بعضُ الأمثلةِ التي سأعرضُ لها في هذا البحثِ. وقد كادت تخلو تفاسير السَّلفِ من الأخطاءِ التي وُجِدت عند من بعدَهم (¬1)، إلاَّ أنَّ هناك نزرٌ يسيرٌ منها عند إمامِ التَّابعينَ مجاهدُ (ت:104) لا يمكنُ لباحثٍ في مثلِ هذا الموضوعِ أنْ يغفلَ عن ذكرِها (¬2). وهذه الأخطاءُ التي سجَّلَها العلماءُ عليه ليستْ كثيرةً بحيثُ يتكوَّنُ منها منهجٌ يُحسبُ على مجاهدٍ (ت:104). وهي أخطاء فردية، لم تُذكرْ إلاَّ عنه، ولذا لا يمكنُ عَدُّهَا منْ منهجِ السَّلفِ رضي الله عنهم، لأنَّه خالفَ فيها أشياخَه وأقرانَه. والمسألةُ التي كانتْ تُلِحُّ عليَّ في بحثِ هذه الملاحظاتِ في تفسيراتِ مجاهدٍ (ت:104) هي: هلْ كانتْ هذهِ الأخطاءُ من اجتهادِهِ المباشِرِ، أو أنَّه تأثَّرَ بغيرِه؟. وإنْ كانَ تأثَّرَ بغيرِه، فمنْ يكونُ؟. ¬
أسباب الانحراف في التفسير
ذلك ما لم أجدْ له جواباً حتى الآن! هذا، وقدْ تبينَ لي بعدَ جمعِ مادَّةِ هذا الموضوعِ: أنَّ الانحرافَ في التَّفسيرِ كانَ له أسبابٌ؛ منها: 1 - اعتمادُ العقلِ في الاعتقادِ والاستدلالِ (¬1). 2 - اعتمادُ اللُّغةِ مجرَّدَةً عن غيرِها منَ المصادرِ. 3 - البعدُ عنْ تفسيرِ السَّلفِ، وعدمُ الأخذِ به. وقدْ ساعدَ على هذا اتِّساعُ لغةِ العربِ، ولا خلافَ في أنَّ تفسيرَ القرآنِ بلغةِ العربِ أصلٌ أصيلٌ في التَّفسيرِ، غيرَ أنَّ المرادَ هنا أنْ يكونَ تفسيرُه بمجرَّدِ ما يحتمله اللفظُ المجرَّدُ عن سائرِ ما يبين معناه، منْ نَظَرٍ إلى: المتكلِّمِ به، والمنَزَّلِ عليه، والمخاطَبِ به، وسياقِ الكلام (¬2). والسَّالكُ لهذا السَّبيلِ صنفانِ: الأوَّلُ: بعضُ أهلِ اللُّغةِ الذينَ يفسِّرونَ القرآنَ بحسبِ ما بلغَهم منْ لغةِ العربِ. الثاني: أهلُ البِدَعِ الذين يريدونَ إثباتَ بِدَعِهم باعتمادِهم على مجازِ اللُّغةِ وسَعَتِها. ¬
الصنف الأول: بعض اللغويين
وسأذكر أمثلةً لما وردَ عند هذين الصِّنفينِ مما فيه مخالفةٌ لتفسير السَّلفِ، واللهُ الموفقُ. الصِّنفُ الأوَّلُ: اللُّغويُّونَ: لقد دخلَ بسببِ بعضِ هؤلاءِ اللُّغويينِ نوعانِ منَ الأقوالِ في التفسير: الأولُ: أقوالٌ فيها خلافٌ لأقوالِ السَّلفِ، وهي أقوالٌ فيها نظرٌ (¬1)، لا يمكن قبولُها معه. الثاني: أقوالٌ فيها شذوذٌ في التَّفسيرِ. وسبب ذلكَ اعتمادُ مجرَّد اللُّغة دونَ غيرها من المصادرِ؛ أي أنَّ هذه الاختياراتِ ليس لها عِمَادٌ سوى أنها حُكِيت على أنها من لغةِ العربِ. وشأنُ هذه الأقوالِ أنها أقوالٌ مردودةٌ، وإنْ لم يُبْنَ على اختياراتِهم لها قولٌ باطلٌ في المعتقدِ؛ لأنَّه لا يلزمُ من كونِها صحيحةً في اللُّغةِ أن تكونَ صحيحةً في التَّفسيرِ. ومنْ تلكَ الأقوالِ التَّفسيريَّةِ: 1 - ما حكاه الأزهريُّ (ت:370) عنْ شَمِرِ بنِ حَمْدُويَه (ت:255) (¬2) أنه قال: «ورُوِيَ لنا عنِ ابنِ المُظَفَّرِ (¬3) ـ ولم أسمعْهُ لغيرِهِ ـ ذَكَرَ أنَّه يقال: أدركَ الشيءُ: إذا فَنِيَ (¬4). ¬
وإن صحَّ، فهو في التَّأويل (¬1): فَنِيَ عِلمُهم في معرفةِ الآخرةِ» (¬2). وليس لشَمِرٍ (ت:255) في صحةِ هذا التَّأويلِ سوى حكايةِ هذا المعنى في اللُّغةِ، وهذا غير كافٍ في إثباته، إذ لا يلزم من صحةِ المعنى لغةً صِحَّتُه في التَّفسير. 2 - وما فسَّرَ به أبو عبيدةَ (ت:210) قولَ الله تعالى: {ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} [يوسف: 49]، قال: «أيْ: به ينجونَ، وهو من العَصَرِ، وهي العُصْرَةُ أيضاً، وهي المنجاةُ، قال (¬3): ........ ... ولقد كان عُصْرَةَ المنجودِ أي: المقهورُ والمغلوبُ» (¬4). وتفسير السَّلف على خلافه، فقد فسَّروه على معنى العَصْرِ؛ أي: عصر العنب وغيره، ورد ذلك عن ابن عباس (ت:68)، ومجاهد (ت:104)، والضَّحَّاك (ت:105)، وقتادة (ت:117)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (¬5). وقولُ السَّلفِ أقربُ إلى سياقِ القصةِ؛ لأن العَصْرَ كانَ منْ شأنهم؛ لذا كانتْ رؤيا السَّاقي أنه يعصرُ خمراً، ثمَّ إنَّ في قوله تعالى: {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} إشارةً إلى هذا المعنى الذي ذكرَه أبو عبيدةَ (ت:210)، ومن ثَمَّ، يكون تفسيره من باب تأكيد المعنى، وقولُ السَّلفِ فيه تأسيسُ معنى آخرَ، وإذا دارَ الكلامُ ¬
بين التأسيسِ والتأكيدِ، فالتأسيسُ أولى من التأكيدِ، وهو مقدَّمٌ عليه، والله أعلمُ. قال الطبريُّ (ت:310): «وكانَ بعضُ منْ لا علمَ له بأقوالِ السَّلفِ منْ أهلِ التَّأويلِ، مِمن يُفسِّرُ القرآنَ برأيه على مذهبِ كلامِ العربِ، يُوَجِّهُ معنى قولِه: {وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} إلى: وفيه ينجونَ منَ الجَدْبِ والقَحْطِ بالغَيْثِ، ويزعمُ أنَّه منَ العَصَرِ والعُصْرَةِ التي بمعنى المنجاةِ ... وذلكَ تأويلٌ يكفي منَ الشَّهادةِ على خطئه، خلافُهُ قولَ أهلِ العلمِ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ» (¬1). 3 - وفي قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57]، السَّلْوَى: طير، بإجماعٍ منْ مفسِّري السَّلفِ (¬2). وقال مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ (ت:195)، أحدُ علماءِ اللُّغةِ: أنه العسلُ، واستدلَّ له بقول الهذلي: وَقَاسَمَهَا باللهِ جَهْداً لأنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، وسُمِّيَ العسل به؛ لأنه يُسْلَى به (¬3). وكَوْنُ السَّلوى في لغةِ العربِ: العسلَ، لا يلزمُ منه صِحَّةُ حملِه على معنى السَّلوى في الآيةِ؛ لذا قالَ ابنُ الأعرابيِّ (ت:231): «والسَّلوى: طائرٌ، وهو في غيرِ القرآنِ: العسلُ» (¬4). وهذا هو الحقُّ، والله أعلم. ¬
4 - وفسَّرَ أبو عبيدةَ (ت:210) قولَ اللهِ تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، فقال: «أي اطلبوا البِرَّ منْ أهلِه ووجهِه، ولا تطلبوه عندَ الجهلةِ المشركينَ» (¬1). وفسَّرَه بعضهم على «أنَّ البيوتَ كنايةٌ عنِ النِّسَاءِ، ويكونُ المعنى: وأتوا النِّسَاءَ منْ حيثُ أمرَكم اللهُ، والعربُ تُسَمِّي المرأةَ بيتاً، قالَ الشاعرُ (¬2): مَا لِي إذَا أنْزِعُهَا صَأيتُ ... أكِبَرٌ غَيَّرَنِي أمْ بَيتُ أراد بالبيتِ المرأةَ» (¬3). وهذانِ التفسيرانِ لا يحملانِ لفظَ البيوتِ على الحقيقةِ، بل يجعلانه من اتساعِ العربية في المجازِ والكنايةِ، وهذا مخالفٌ لما وردَ عن السَّلفِ من حملهم البيوت على الحقيقة اعتماداً على سببِ نزول الآيةِ (¬4). وكلا هذينِ القولينِ يَظْهَرُ منهما عدمُ العملِ بسببِ النزولِ الواردِ في الآيةِ الذي يدلُّ على أنَّ المرادَ بالبيوتِ البيوتُ المسكونةُ، ولو لم يكنِ السَّبَبُ وارداً لاحتملَ ما قالوا، وإنما ذهبوا إلى ذلكَ التَّفسيرِ لعدمِ العملِ بما وردَ من التَّفسيرِ عنِ السَّلفِ الذي يجعلُ اللَّفظَ على حقيقتِهِ. ¬
الصنف الثاني: أهل البدع
والقول الثاني: وهو أنَّ المرادَ بالبيوتِ المرأةَ، فيه بُعْدٌ في التَّأويلِ، وليس لقائلِ هذا القولِ مُعْتَمَدٌ سوى أنَّ العربَ تُطلقُ لفظ البيتُ، وتريد به المرأةِ، منْ غيرِ أنْ ينظرَ إلى صحةِ هذا الإطلاقِ في هذا السِّياقِ. وهذه الأقوالُ وأشباهُها في التَّفسيرِ فيها ضعفٌ؛ لأنها تعتمدُ اللُّغةَ فقط، دونَ النَّظرِ في المصادر الأخرى التي هي مقدَّمةٌ على مجرَّدِ اللُّغةِ. وهذا لا يعني أنَّ الأقوالَ الصَّحيحةَ في فهم الآيةِ ليست من التَّفسيرِ اللُّغويِّ، بل قد تكون منه، لكنها اعتمدت مصدراً آخرَ معه؛ كسبب النُّزولِ، وإجماعِ الحُجَّةِ من أهلِ التَّأويلِ، وسياقِ الآياتِ، وهذه هي التي رجَّحَتِ المعنى اللُّغويَّ المقبولَ دونَ غيرِه، واللهُ أعلمُ. الصنف الثاني: أهل البدع: لقدْ كانَ نظرُ أهلِ البدَعِ إلى اللُّغةِ تابعاً للمُعْتَقَدِ الذي يعتقدونَه. والأصلُ عندَهم بدعتُهم، ثمَّ يبحثونَ في سَعَةِ لغةِ العربِ عمَّا يدعمُها، وإنْ كانوا يحرصونَ على إبرازِ أنَّ تأويلاتِهم لا تخرجُ عن اللُّغةِ، كما قالَ الخَيَّاطُ المعتزليُّ (ت: بعد300) في ردِّه على ابنِ الرَّاونْدِيِّ الملحدِ (ت:298): «فهذه تأويلاتُ المعتزلةِ لِمَا تَلا منَ الآياتِ (¬1)، وكلُّها واضحٌ قريبٌ غيرُ خارجٍ منَ اللُّغةِ ولا مُسْتَكْرَهُ المعنى» (¬2). وقال القاضي عبدُ الجَبَّارِ (ت:415) (¬3): «وهكذا طريقتُنا في سائرِ ¬
المتشابهِ: أنه لا بُدَّ منْ أنْ يكونَ لهُ تأويلٌ صحيحٌ يخرجُ على مذهبِ العربِ، منْ غيرِ تكلُّفٍ وتعسُّفٍ» (¬1). وهذا يدلُّ على حرصِهم على إظهارِ مساعدةِ اللُّغةِ لمذاهبِهِم، بل جعلَ ابنُ جِنِّي (ت:392) في كتابه (الخصائص) باباً يخدمُ هذهِ المذاهبَ الباطلةَ، وسمَّاه: (باب ما يُؤْمِنُهُ علمُ العربيَّةِ منَ الاعتقاداتِ الدينيَّةِ) (¬2)، وأدخلَ فيه نفيَ الظاهرِ والحقيقةِ مما أثبتَه اللهُ لنفسِه من الصِّفاتِ، وعَمَدَ فيها إلى المجازِ، وجعلَ هذه التأويلاتِ من سَعَةِ العربيَّةِ، فقالَ: «ولو كانَ لهمْ أُنْسٌ بهذه اللُّغةِ الشَّريفةِ، أو تَصرُّفٌ فيها، أو مُزَاوَلَةٌ لها، لَحَمَتْهُمْ السعادةُ بها، وما أصارتْهُم الشِّقْوَةُ إليه بالبُعْدِ عنها (¬3)، وسنقولُ في هذا ونحوه ما يجب مثلُه ... وطريقُ ذلكَ أنَّ هذه اللُّغة أكثرُها جارٍ على المجازِ، وقلَّما يخرجُ الشَّيءُ منها على الحقيقةِ، وقدْ قدَّمنَا ذِكْرَ ذلكَ في كتابِنا هذا (¬4) وفي غيرِه. فلمَّا كانتْ كذلكَ، وكانَ القومُ الذينَ خوطبوا بها أعرفَ النَّاسِ بِسَعَةِ مذاهبِها، وانتشارِ أنحائها، جرى خطابُهم بها مجرى ما يألفونَهُ، ويعتادونَهُ منها، وفَهِمُوا أغراضَ المخاطِبِ لهم بها على حَسْبِ عُرْفِهم وعادتِهم في استعمالِها ...» (¬5). ¬
ومن الأمثلةِ التَّطبيقيَّةِ التي ذكرَها لهذه المسألةِ التي نظَّرَ لها، قولُه: «وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، إنْ شئتَ جعلتَ اليَمِينَ هنا الجارحةَ، فيكونُ على ما ذهبنَا إليه منَ المجازِ والتَّشبيهِ؛ أي: حصلتِ السَّمَاواتُ تحتَ قَدرتِهِ حصولَ ما تُحيطُ اليدُ به في يمينِ القابضِ عليه، وذُكِرتِ اليمينُ هنا دونَ الشِّمَالِ؛ لأنها أقوى اليدينِ، وهو منْ مواضِعِ ذِكْرِ الاشتمالِ والقُوَّةِ. وإن شئتَ جعلتَ اليمينَ هنا القُوَّةُ؛ كقولِهِ (¬1): إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أي: بِقُوَّتِهِ وقُدْرتِهِ. ويجوزُ أنْ يكونَ أرادَ بيدِ عَرَابَةَ (¬2): اليُمْنَى. على ما مَضَى» (¬3). والمقصودُ أنَّ الأصلَ عندهم بدعتُهم، فإنْ وجدوا ما يدعمُهم منْ لغةِ العرب قالوا به، وإلاَّ استنكرُوه، ومنْ ذلكَ ما رُويَ في سؤالِ عمرِو بنِ عُبيدٍ المعتزليِّ (ت:144) أبا عمرِو بنِ العلاءِ (ت:145) في الوعدِ والوعيدِ (¬4). ¬
قال الأصمعيُّ (ت:215): «جاءَ عمرُو بنُ عُبَيدٍ إلى أبي عمرِو بنِ العلاءِ، فقالَ: يا أبا عمرو، يُخلِفُ اللهُ وَعْدَهُ؟ قالَ: لا! قال: أفرأيتَ إنْ وَعَدَهُ على عملٍ عقاباً، يُخلِفُ وَعْدَهُ؟ فقال أبو عمرٍو: منَ العُجمةِ أُتِيتَ يا أبا عثمانَ. إنَّ الوعدَ غيرُ الوعيدِ، إنَّ العربَ لا تَعُدُّ خُلفاً ولا عاراً أن تَعِدَ شراً ثمَّ لا تفعلُه، ترى ذلكَ كرماً وفضلاً، وإنما الخُلْفُ أنْ تَعِدَ خيراً ثُمَّ لا تفعَلُهُ. قالَ: فأوجدني هذا في كلامِ العربِ. قالَ: أما سمعتَ إلى قولِ الأوَّلِ: لا يَرْهَبُ ابنُ العَمِّ ما عِشْتُ صَولَتِي ... وَلاَ أخْتَشِي مِنْ خِشْيَةِ المُتَهَدِّدِ وإنِّي إذَا أَوْعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي» (¬1) ووردتْ هذه الحادثةُ في (طبقاتِ المعتزلةِ) وجاء فيها بعد ذلك: «قال ¬
أبو علي (¬1) لأبي خليفة (¬2): أجابه بالمسكت، قال له: إنَّ الشَّاعر قد يكذب ويصدق» (¬3). فهذا عمرُو بنُ عبيدٍ (ت:144) لم يجدْ بعدَ الاستدلالِ عليه بلغةِ العربِ إلاَّ هذه الحجَّةَ التي ذكرَها أبو عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303)، وليستْ هذه غريبةً على منهجه، إنْ صحَّ النقلُ عنه، إذ رُوِيَ عنه ما هو أشنعُ منْ ذلكَ (¬4). والعقلُ هو الأصلُ المقدَّمُ عند أهلِ البدعِ من المتكلِّمينَ، فما رأوه بعقولِهم ذهبوا إلى لغةِ العربِ واستنطقوها لإثباتِ بدعتِهم، واستخدموا في ذلكَ مجازاتِ اللُّغةِ. قال ابن تيميةَ (ت:728): «... ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات ...» (¬5). وقال: «... والذي اقتضى شهرةَ القولِ عنْ أهلِ السُّنَّةِ بأنَّ المتشابهَ: لا يعلمُ تأويلَه إلاَّ اللهُ، ظهورُ التَّأويلاتِ الباطلةِ منْ أهلِ البدعِ؛ كالجهميَّةِ، والقدريَّةِ من المعتزلةِ وغيرِهم، فصارَ أولئكَ يتكلمونَ في تأويلِ القرآنِ برأيهم ¬
الفاسدِ، وهذا أصلٌ معروفٌ لأهل البدعِ: أنهم يفسرونَ القرآنَ برأيهم العقليِّ، وتأويلِهم اللُّغويِّ ...» (¬1). وقال الدَّارميُّ (ت:280) في ردِّه على بِشرٍ المِرِّيسيِّ (ت:219): «ونحنُ قد عرفنا ـ بحمد اللهِ ـ منْ لُغَاتِ العربِ هذه المجازاتِ التي اتخذتُمُوها دُلْسَةً وأغلوطةً على الجُهَّالِ، تنفونَ بها عن اللهِ تعالى حقائقَ الصِّفاتِ بِعِلَلِ المجازاتِ، غيرَ أنَّا نقولُ: لا يُحكَمُ للأغربِ منْ كلامِ العربِ على الأغلبِ، ولكنْ نصرفُ معانيها إلى الأغلبِ، حتى يأتوا ببرهانٍ أنه عَنَى بها الأغرب، وهذا هو المذهبُ الذي إلى الإنصافِ والعدلِ أقربُ، لا أنْ نعترضَ صفات اللهِ المعروفةَ المقبولةَ عندَ أهلِ البَصَرِ فنصرفَ معانيَهَا بِعِلَّةِ المجازاتِ إلى ما هو أنكرُ، وتُرَدُّ على الله بداحضِ الحججِ وبالتي هي أعوجِ» (¬2). ومنِ اطَّلعَ ـ على سبيلِ المثالِ ـ على كتابِ (تلخيص البيانِ في مجازاتِ القرآنِ) للشَّريف الرَّضِيِّ (ت:406) (¬3)، وكتابِ (متشابهِ القرآنِ) للقاضي عبدِ الجبارِ الهمذانيِّ المعتزليِّ (ت:415) وكتاب (غرر الفوائدِ ودرر القلائد) المسمى: أمالي الشَّريفِ المُرْتَضَى (ت:436)، وغيرِها منْ تفاسيرِ المعتزلةِ = ظهرَ له أنَّ الأصلَ عند هؤلاءِ ما تقرَّرَ لهم في عقولِهم، وأنَّ النصوصَ تؤوَّلُ إذا خالفت أصلهُم العقليَّ. ومن ذلكَ: 1 - قولُ القاضي عبدِ الجبارِ (ت:415) ـ في التعليقِ على من أثبتَ الاستواءَ بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ¬
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]ـ: «قد بينا أنَّ المرادَ بالاستواء: هو الاستيلاءُ والاقتدارُ، وبيَّنَا شواهدَ ذلك في اللُّغةِ والشِّعْرِ، وبيَّنا أنَّ القولَ إذا احتملَ هذا والاستواءَ الذي هو بمعنى الانتصاب، وجبَ حملُه عليه؛ لأنَّ العقلَ قد اقتضاه، منْ حيثُ دَلَّ على أنَّه تعالى قديمٌ ...» (¬1). 2 - وتجدُه في قولِه تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101، 102] يذكرُ قولَ المخالفينَ له في أنَّ هذه الآيةِ تدلُّ على خَلْقِ أفعالِ العبادِ، ثُمَّ يجيبُ بقولِه: «والجوابُ عن ذلك: أنَّ ظاهرَ {وَخَلَقَ} يقتضي أنَّه قدَّر ودبَّر، ولا يُوجِب في اللغةِ أنَّه فعلَ ذلكَ وأحدثَهُ، ولذلك قالَ الشاعرُ (¬2): ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ـضُ القَومِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي فأثبته خالقاً من حيثُ قدَّر ودبَّر، وإن لم يَفْرِ الأديمَ، ومتى حُمِلَ الكلامُ على هذا الوجهِ كانَ حقيقتُهُ: أنَّه تعالى، وإن لم يُحْدِثْ أفعالَ العبادِ فقدْ قدَّرها ودبَّرها، وبين أحوالها ...» (¬3). ثُمَّ ذكرَ أجوبةً أخرى غيرَه، ثمَّ عقَّبَ بقوله: «وبعد، فلو كانَ ظاهرُه يقتضي ما قالوه، لوجبَ بدلالةِ العقلِ صرفُه إلى ما ذكرناه؛ لأنه يختص بالحُسْنِ، ولأنه تعالى لا يجوزُ أنْ يكونَ خالقاً لِسَبِّ نفسِه وسوءِ الثَّناء عليه ...» (¬4). فتراه في هذا نفى دلالةَ لفظِ الخَلْقِ على الإبداعِ والتقديرِ والإحداثِ، الذي هو المعنى المرادُ هنا، وحملَ الآيةَ على المعنى الآخر من معانيه في ¬
اللُّغةِ؛ لأنه يوافقُ مذهبَه في أنَّ أفعالَ العبادِ غيرُ مخلوقةٍ للهِ. ثمَّ إنَّ هذا الظاهرَ من دلالةِ اللَّفظِ، لو صحَّ عنده، فإنه سيصرفُه عنْ ظاهرِهِ لأجل دلالةِ عقلِهِ. 3 - وفي تفسيرِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، قالَ الشَّريفُ المُرْتَضَى الرَّافِضِيُّ المعتزليُّ (ت:436) ـ بعدَ أن نفى دلالةَ ظاهرِ الآيةِ على خَلْقِ اللهِ لأفعالِ العبادِ ـ: «ولو لم يكنْ في الآيةِ شيءٌ مما ذكرناه مما يوجبُ العدولَ عنْ حَمْلِ قولِه: {وَمَا تَعْمَلُونَ} على خَلْقِ نفسِ الأعمالِ لوجبَ أن نَعْدِلَ بها عن ذلك، ونحملَها على ما ذكرناه بالأدلةِ العقليَّةِ الدَّالَّةِ على أنه تعالى لا يجوزُ أنْ يكونَ خالقاً لأعمالِنا، وإن تصرُّفَنا مُحْدَثٌ بنا، ولا فاعلَ له سِوَانا» (¬1). 4 - وقالَ في موضعٍ آخرَ: «مسألةٌ: ما وردَ في القرآنِ منْ معاتباتِ الرسولِ عليه السلام مع عصمتِه وطهارتِه، وكونه الحجةُ على الخلقِ أجمعينَ. الجوابُ: أنه إذا ثبتَ بالدليلِ عصمةُ الأنبياءِ عليهم السلام (¬2) فكلُّ ما وردَ في القرآنِ مما له ظاهرٌ ينافي العِصْمَةَ، ويقتضي وقوعَ الخطأ منهم، فلا بدَّ من صرفِ الكلامِ عن ظاهرِه، وحملِه على ما يليقُ بأدلةِ العقولِ؛ لأنَّ الكلامَ يدخلُه الحقيقةُ والمجاز، ويعدِلُ المتكلمُ به عن ظاهرِه، وأدلةُ العقولِ لا يصحُّ فيها ذلك، ألا ترى أنَّ القرآنَ قد ورد بما لا يجوزُ على الله تعالى من الحركةِ والانتقالِ؛ كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقولِه ¬
الأمور التي ظهر فيها انحراف المبتدعة
تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ} [البقرة: 210]. ولا بدَّ ـ مع وضوحِ الأدلةِ على أنَّ الله تعالى ليس بجسمٍ، واستحالةِ الانتقالِ عليه، الذي لا يجوزُ إلاَّ على الأجسامِ ـ من تأوُّلِ هذه الظواهرِ والعدولِ عما يقتضيه صريحُ ألفاظِها؛ قَرُبَ التأويلُ أو بَعُدَ» (¬1). إذاً، فالمسألةُ عندَ هؤلاءِ مبنيةٌ على دلالةِ العقلِ، ولا حُجَّةَ في اللُّغةِ إذا دلَّت على ما يخالفُ مذهبَهم. وقد ظَهَرَ انحرافُ المبتدعةِ في التَّفسيرِ اللُّغويِّ في ثلاثةِ أمورٍ، هي: 1 - ما يتعلقُ باللهِ تعالى وصفاتِه. 2 - ما يتعلقُ ببعضِ المغيباتِ؛ كبعضِ أمورِ الآخرةِ، وما نُسِبَ للمخلوقاتِ الغيبيةِ والجماداتِ منْ إحساسٍ أو غيرِه من الأمورِ التي وُصِفَ بها العقلاءُ. 3 - ما يتعلقُ بعصمةِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ. وقدْ كانتْ آلَتُهُمُ اللُّغويةُ في إثباتِ بدعتِهم دلالةَ الألفاظِ، وأساليبَ الخطابِ، ودلالةَ الصيغِ، وقد طوَّعُوا اللُّغةَ لهم، حتى كأنَّها لا تخدمُ إلاَّ مذهبَهم، وإنْ لم يجدوا في قريبِ اللُّغةِ ومُتبَادرها ما يسعفُهم، عَمَدُوا إلى غريبها وشاذِّها لإثباتِ بدعتِهم، والتَّدليلِ بها على صِحَّةِ ما ذهبوا إليه. أمَّا ما يتعلق بالألفاظ، فإن كان للَّفظِ أكثرُ من مدلولٍ أخذوا بما يوافقُ مذهبَهم، وإنْ لم يسعفْهم في ذلك السِّياق والمعنى. فإن لم يجدوا في اللَّفظِ دلالات متعددةً، حَرَفُوه إلى مدلولِ ما يشابهه في الرَّسم، وإن خالفه في المعنى، فإن لم يجدوا ذلك، أحدثوا له دلالة غيرَ معروفةٍ في لغةِ العربِ. ¬
الأول: في دلالات الألفاظ
وأمَّا ما يتعلق بالأساليب، فإنها كثيرة، ومنها: المجاز، والحذف والإضمار، والكناية، وغيرها. وأمَّا ما يتعلقُ بدلالةِ الصيغِ، فمنها دلالةُ صيغةِ (أَفْعَل). وقد يدَّعون في المثالِ الواحدِ: تَعَدُّدَ الدلالةِ، والمجازِ، وغيرِها؛ أي: أنهم يستدلونَ لمذهبِهم بأكثرَ من دليلٍ لغويٍّ، بزعمِهِمْ، وسأذكرُ أمثلةً لهذه الأمورِ التي أوردتها: الأول: دلالةُ الألفاظِ: لهم في دلالةِ الألفاظِ ثلاثةُ تدرجاتٍ، وهي: أولاً: أنْ يكونَ للَّفظِ في لغةِ العربِ أكثرُ من استعمالٍ؛ كاليدِ، تطلقُ على: اليدِ الجارحةِ، والنعمةِ، والقدرةِ، والنُّصرَةِ، فيختارونَ منها ما يوافقُ مذهبَهم المقرَّرَ عندَهم، ولا ينظرونَ إلى صحةِ إطلاقِه في هذا السِّياقِ من عدمِه، بل يتمحَّلونَ له أيَّما تمحُّل، مكتفين في ذلك التَّفسيرِ بهذا الورودِ عن العربِ. ومن أمثلتِه ما يأتي: 1 - ذَكَرَ ابنُ قتيبةَ (ت:276) عنْ بعضِ المؤولة الذين فسَّروا القرآن بأعجبِ تفسيرٍ، يريدون رَدَّهُ إلى مذاهبِهم، وحَمْلَ التأويلِ على نِحَلِهم = بعضَ الأمثلةِ، ومنها: «وقالوا في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]؛ أي: فقيراً (¬1)، وجعلوه من الخَلَّةِ ـ بفتحِ الخاءِ ـ استيحاشاً منْ أن يكونَ اللهُ تعالى خليلاً لأحدٍ منْ خلقِهِ، واحتجوا بقولِ زُهَيرٍ (¬2): وإِنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَومَ مَسْأَلَةٍ، ... يَقُولُ: لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِمُ ¬
أي: إن أتاه فقيرٌ» (¬1). والخُلَّةُ: كمالُ المحبةِ التي لا خللَ فيها، وهي المرادةُ هنا، أمَّا الخَلَّةُ بمعنى: الفقرِ، فلا محلَّ لها في هذا الآية. وإنما ذهبوا لذلك؛ لأنه تقرَّرَ عندهم في عقولِهم التي هي الحَكَمُ على ألفاظِ الشَّرْعِ، أنَّ الباريَ سبحانَهُ منزَّهٌ عن هذه الصفاتِ التي تدلُّ على الحدوثِ، بزعمهم، فلما كان هذا ثابتاً عندهم، تأوَّلوا هذا اللفظَ على ذلك المعنى فِرَاراً من إثباتِ ما أثبتَهُ اللهُ لنفسِه، وأكرمَ به نبيَّهُ إبراهيمَ عليه السلام. 2 - وفي قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، فسَّروا اليدين بأنهما: نِعْمَتَاهُ، قال القاضي عبدُ الجبَّارِ (ت:415): «والمرادُ بذلك: أنَّ نعمتيه مبسوطتانِ على العبادِ، وأراد به نعمةَ الدينِ والدنيا، والنَّعمةَ الظاهرةَ والنَّعمةَ الباطنةَ، وقد يُعبَّرُ باليَدِ عن النِّعمةِ، فيقالُ: لفلانٍ عندي يدٌ وأيادٍ ويدٌ جسيمةٌ» (¬2). وإنَّما دعاهُ إلى ذلك تنْزيهُ اللهِ عنِ الجِسْمِيَّةِ (¬3)، بزعمِهِ، وساعدَه في ذلك سَعَةُ إطلاق اليدِ في العربيَّةِ على معانٍ، منها ما ذَكَرَهُ. وقدْ رَدَّ هذا التأويلَ الذي يذهبُ باللَّفظِ إلى غيرِ حقيقتِهِ أعلامُ السُّنَّةِ؛ ¬
كالدَّارمِيِّ (ت:280) الذي قالَ: «قد عَلِمتَ أيها المريسي أنَّ هذه تفاسيرُ مقلوبةٌ، خارجةٌ عن كُلِّ معقولٍ، لا يعقِلُهُ إلاَّ كلُّ جهولٍ. فإذا ادَّعَيتَ: أن اليَدَ قد عُرِفتْ في كلامِ العربِ أنها نعمةٌ وقُوَّةٌ. قلنا لكَ: أجلْ، ولسنا بتفسيرِها منك أجهلَ، غيرَ أنَّ تفسيرَ ذلك يستبينُ في سياقِ كلامِ المتكلمِ حتى لا يحتاجُ له من مثلِكِ إلى تفسيرٍ. إذا قالَ الرَّجُلُ: لفلانٍ عندي يَدٌ أكافئه عليها. عَلِمَ كُلُّ عالمٍ بالكلامِ أنَّ يَدَ فلانٍ ليستْ ببائنةٍ منه موضوعةً عند المتكلمِ، وإنما يرادُ بها النِّعْمَةُ التي يشكرُ عليها. وكذلكَ إذا قالَ: فلان له يدٌ أو عَضُدٌ أو ناصرٌ، عَلِمْنَا أنَّ فلاناً لا يمكنُه أنْ يكونَ نفسَ يَدِهِ عُضْوُهُ أو عَضُدُهُ، فإنما عَنَى به النُّصْرَةَ والمعونة والتَّقويةَ. فإذا قالَ: ضربني فلانٌ بيدِهِ، وأعطاني الشَّيءَ بيدِه، وكتبَ لي بيدِهِ، استحالَ أنْ يقالَ: ضربني بنعمتِهِ. وعَلِمَ كُلُّ عالمٍ بالكلامِ أنها اليَدُ التي بها يضربُ، وبها يكتبُ، وبها يُعْطِي، لا النِّعمةُ ... ولا يجوزُ لك أيها المريسي أن تَنْفِيَ اليَدَ التي هي اليَدُ، لما أنَّه وُجِدَ في كلامِ العربِ أنَّ اليَدَ قدْ تكونُ نعمةً وقوَّةً» (¬1). 3 - وفي قولِه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، حُكِيَ عن بعضِ المعتزلةِ أنَّه منَ الكلْمِ، ويكون المعنى: «وجَرَّح اللهُ موسى بأظافرِ المِحَنِ ومخالبِ الفتنِ» (¬2). وإنما جَعَلَ هذا المحرِّفُ اللَّفظ من مادة الكَلْمِ لا الكلامِ، هروباً من ¬
إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ سبحانَهُ، وقدْ قالَ عنه الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزليُّ (ت:538): «ومنْ بِدَعِ التفاسيرِ: أنه من الكَلْمِ، وأن معناه: وجَرَّحَ اللهُ موسى بأظفارِ المِحَنِ ومخالبِ الفِتَنِ» (¬1). 4 - وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، أخرجَ قومٌ هَمَّ يوسف عليه السلام إلى غرائب لا يَقْبَلُهَا سياقُ الآية، وما حَمَلَهُمْ على ذلكَ إلاَّ دعوى العِصْمَةِ التي أثبتوا أمورَها بعقولِهم، فأوَّلوا كلَّ ما يخالفُ ما قرَّروه مما أثبته الله عليهم، فقال بعضُهم: هَمَّ بالفرارِ منها، وقال بعضُهم: همَّ بضربها، وَحَمَلَهُ آخرونَ على التَّقديمِ والتَّأخيرِ، وقالوا: لم يَهِمَّ أصلاً؛ لأنَّ المعنى: لولا أنْ رأى برهانَ ربه لهمَّ بها. وقدْ أشارَ ابنُ قتيبةَ (ت:276) إلى أصحابِ هذه التَّأويلاتِ الغريبةِ، فقال: «يستوحشُ كثيرٌ من النَّاسِ منْ أنْ يُلحِقُوا بالأنبياءِ ذُنُوباً، ويحمِلُهُم التَّنْزِيهُ لهم صلواتُ اللهِ عليهم على مخالفةِ كتاب اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، واستكرَاهِ التَّأويلِ، وعلى أن يَلْتَمِسُوا لألفاظِهِ المخارجَ البعيدةَ بالحِيَلِ الضعيفةِ التي لا تُخِيلُ عليهم أو على من عَلِمَ منهم أنها ليستْ لتلك الألفاظِ بشَكْلٍ، ولا لتلكَ المعانِي بِلفْقٍ» (¬2). وقدْ نصَّ على قاعدةِ المبتدعةِ في التَّأوِيلِ في مسألةِ العصمةِ الشَّريفُ المُرْتَضَى (ت:436)، فقالَ: «إذا ثبتَ بأدلَّةِ العقولِ التي لا يدخلُها الاحتمالُ والمجازُ ووجوهُ التَّأويلاتِ: أنَّ المعاصي لا تجوزُ على الأنبياءِ عليهم السلام، صَرَفْنَا كُلَّ ما وردَ ظاهرُهُ بخلافِ ذلك منْ كتابٍ أو سُنَّةٍ إلى ما يطابقُ الأدلَّةَ ويوافقُها ...» (¬3). ¬
وهذا الذي ذهبَ إليه غيرُ سديدٍ، بلِ القاعدةُ في ذلك أنْ يُثْبَتَ ما أثبتَهُ اللهُ، فلا يُخَالَفُ ذلكَ بسببِ أدلَّةِ العقولِ التي يزعمها المبتدعةُ، وهي أدلة لا ثباتَ فيها، ولا اتفاق، والله أعلم. وليسَ في وقوعِ الهَمِّ منه عليه السلام ما يوجبُ التَّشْنِيعَ عليه في نُبُوَّتِهِ ولا أنَّ في ذلك خَلَلاً منه، بلْ كانَ ذلكَ منه حَسْبَ الطبيعةِ البشريَّةِ التي هي جُزْءٌ منَ النَّبيِ صلّى الله عليه وسلّم لا تنفكُّ عنه، ولكنَّ الله عَصَمَهُ منَ الوقوعِ في المعصيةِ، لا مِنَ الهَمِّ بها (¬1). والحديثُ في هذه الآيةِ يَطُولُ، ويكفي ذِكْرُ بعضِ أقوالِ أهلِ العلمِ في ردِّ مثلِ هذه التأويلاتِ، فمنْ ذلكَ قولُ أبي عبيدِ (ت:224): «وقدْ زَعَمَ منْ يَتَكَلَّمُ في القرآن برأيه أنَّ يوسفَ صلّى الله عليه وسلّم لم يَهِمَّ بِها، يذهبُ إلى أنَّ الكلامَ انقطعَ عند قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، قال: ثمَّ استأنفَ فقال: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، بمعنى: لولا أنْ رَأَى برهانَ ربِّهِ لَهَمَّ بها، واحتجَّ بقوله: {ذَلِكَ ¬
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52]، وبقوله: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25]. وابنُ عباسٍ ومنْ دونَهُ لا يختلفونَ في أنَّه هَمَّ بها، وهُم أعلمُ باللهَ، وبتأويلِ كتابِهِ، وأشدُّ تعظيماً للأنبياءِ، منْ أنْ يتكلَّمُوا فيهم بغيرِ علمٍ» (¬1). وقالَ أبو جعفرَ النَّحَّاسُ (ت:338): «وكلامُ أبي عبيدٍ هذا كلامٌ حَسَنٌ بيِّنٌ لمنْ لَمْ يَمِلْ إلى الهَوَى ...» (¬2). وقال أبو بكرٍ بنِ الأنباريِّ (ت:328): «والذي نذهبُ إليه ما أجمعَ عليه أصحابُ الحديثِ وأهلِ العلمِ، وَصَحَّتْ به الروايةُ عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضوانُ اللهِ عليه، وابنِ عباس رحمه الله، وسعيدِ بنِ جبيرٍ، وعكرمةَ، والحسنِ، وأبي صالحٍ، ومحمدِ بنِ كعبٍ القُرَظَيِّ، وقتادةَ، وغيرِهم، منْ أنَّ يوسفَ عليه السلام هَمَّ هَمًّا صحيحاً على ما نَصَّ اللهُ عليه في كتابِهِ، فيكونُ الهَمُّ خطيئةً من الخطايا وقعت من يوسف عليه السلام كما وقعتِ الخطايا من غيرِه منَ الأنبياءِ. ولا وَجْهَ لأنْ نُؤَخِّرَ ما قَدَّمَ اللهُ، ونُقَدِّمَ ما أخَّرَ الله، فيقالُ: معنى: وَهَمَّ بها: التأخيرُ مَعَهُ (¬3) قولُ اللهِ عزّ وجل: {لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، إذ كانَ الواجبُ علينا واللازمُ لنا أنْ نَحْمِلَ القرآنَ على لفظِهِ، وألاَّ نُزِيلَهُ عنْ نَظْمِهِ، إذا لم تَدْعُنَا إلى ذلكَ ضَرُورَةٌ، وما دَعَتْنَا إليه في هذه الآيةِ ضَرُورَةٌ. فإذا حَمَلْنَا الآيةَ على ظاهرِها ونَظْمِهَا كانَ {وَهَمَّ بِهَا} معطوفاً على {هَمَّتْ بِهِ} و {لَوْلاَ} حرفٌ مبتدأٌ، جوابُهُ محذوفٌ بعدَهُ، يُرادُ به: لولا أنْ رأى برهانَ ربِّه لَزَنَا بها بعد الهَمِّ، فلمَّا رأى البرهانَ زَالَ الهَمُّ وَوَقَعَ الانصرافُ عنِ العَزْمِ. ¬
تفسير اللفظ بمدلول ما يشابهه في الرسم
وقدْ خبَّرَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ عنْ أنبيائِهِ بالمعاصي التي غفرَهَا وتجاوزَ عنهم فيها، فقالَ تباركَ وتعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وقال لِنَبِيِّه محمدٍ عليه السلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 1 - 3]، وخبَّر بمثلِ هذا عنْ يُونُسَ وَدَاوُدَ عليهما السلام، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما من نبي إلاَّ قد عصى الله، إلاَّ يحيى بن زكريا (¬1). وقال أبو عبيدٍ: قال الحسنُ: إنَّ الله جلَّ وعزَّ لم يقصصْ عليكم ذنوبَ الأنبياء تعييراً منه لهم، ولكنه قصَّها عليكم لئلا تقنطوا من رحمتِه. قال أبو عبيدٍ: يذهبُ الحسنُ إلى أنَّ الحُجَجَ من اللهِ جلَّ وعزَّ على أنبيائه أوكدُ، ولهم ألزمُ، فإذا قَبِلَ التوبةَ منهم، كان إلى قبولِها منكم أسرعُ. وإلى مذهبِنا هذا كان يذهبُ علماءِ اللُّغةِ: الفرَّاءُ، وأبو عبيدٍ، وغيرُهما» (¬2). ثانياً: إنْ لم يُسْعِفْهُمْ في اللَّفظِ تعدُّدُ استعمالِه، عَمَدُوا إلى تفسيرِه ¬
بمدلولِ لفظٍ يشابهه في الرَّسمِ، وإنْ اختلفَ عنه في الحركاتِ، التي ينتجُ عنها اختلافُ المدلولِ، وهذه الطَّريقةُ قليلةٌ، ولكَّنها واردةٌ في بعضِ الأمثلةِ، ومنها: 1 - في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] قالوا: «أي: بَشِمَ منْ أَكْلِ الشَّجرةِ، وذهبوا إلى قَولِ العربِ: غَوِيَ الفَصِيلُ: إذا أكثرَ منَ اللَّبَنِ حتى يَبْشَمَ» (¬1). فانظرْ، كيفَ حرَّفوا اللفظَ، وجعلوه من غَوِيَ، ونَصُّ القرآنِ «غَوَى»؟! وإنما دعاهم إلى هذا التَّحريفِ مفهومُ العِصْمَةِ عندهم، وأنَّ النَّبِيَّ لا يجوزُ عليه الخطأُ، وقد يكونُ هذا القولُ بالعصمةِ مبنيًّا على مسألةِ أصحابِ الكبائرِ والقولِ بتخليدِهم في النَّارِ عندَ المعتزلةِ، فيحرِّفون أيَّ نصٍّ وردَ فيه خطأٌ من نبيٍّ؛ لئلاَّ يَخْرِمُوا ما قرَّرُوهُ في هذا المبدأ، فَيُخَرِّجُونَ أخطاءَ الأنبياءِ بأسمجِ التَّخْرِيجَاتِ؛ كهذا التخريجِ. ولو وجدوا أيضاً في «عَصَى» مثلَ هذا السَّنَنِ لَرَكِبُوه، وليسَ في «غَوَى» شيءٌ إلاَّ ما في «عَصَى» منْ معنى الذَّنْبِ؛ لأنَّ العاصي للهِ التَّاركِ لأمرِهِ غاوٍ في حالِهِ تلكَ، والغاوي: عاصٍ. والغَيُّ ضِدُّ الرَّشَدِ، كما المعصيةُ ضِدُّ الطاعةِ (¬2). قالَ ابنُ قتيبةَ (ت:276): «وقدْ أكلَ آدمُ صلّى الله عليه وسلّم منَ الشَّجرةِ التي نُهِيَ عنها، باستزلالِ إبليسَ وخدائعِهِ إياه باللهِ، والقَسَمِ به إنه لمنَ النَّاصحينَ، حتى دَلاَّه بغرورٍ. ولم يكنْ ذنبُهُ عن إرصادٍ وعداوةٍ وإرهاصٍ كذنوبِ أعداءِ اللهِ. ¬
فنحن نقولُ: عصى وغَوَى، كما قالَ اللهُ تعالى، ولا نقولُ: آدمُ عاصٍ وغاوٍ؛ لأن ذلك لم يكنْ عن اعتقادٍ مُقَدَّمٍ ولا نيَّةٍ صحيحةٍ. كما تقولُ لرجلٍ قَطَعَ ثَوباً وخَاطَهُ: قدْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ، ولا تقلْ: خائطٌ ولا خَيَّاطٌ، حتى يكونَ مُعَاوِداً لذلكَ الفعلِ، معروفاً به» (¬1). 2 - وفي تفسيرِ لفظِ الصُّورِ في مثلِ قولِه تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99]. قالوا: الصُّورُ: جمعُ صُورَةٍ (¬2). وهذا فيه إنكارٌ لتفسيرِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم الذي فَسَّرَ الصُّورَ بأنه: البوقُ الذي يَنْفُخُ فيه إسرافيل عليه السلام، كما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم في عدَّةِ أحاديثَ رواها عنه أهل الحديث (¬3). وإذا عورضَ حديثُ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، ودلالاتُ الشَّرعِ التي جاء بها، رُدَّ هذا الاعتراضُ ولمْ يُقبلْ، كائناً من كانَ قائلُه. ¬
والأصلُ في ذلك: أنه إذا ثبتَ النَّصُّ، طاحَ ما دونَه، فلا يُحكمُ باللغةِ على اصطلاحِ الشَّريعةِ. قال أبو الهيثم (¬1): «اعترضَ قومٌ فأنكروا أنْ يكونَ الصُّورُ قَرْناً، كما أنكروا العَرْشَ والميزانَ والصِّراط (¬2): وادَّعوا أنَّ الصُّورَ: جمعُ الصُّورَةِ (¬3)، كما أن الصُّوفَ جمعُ الصُّوفَةِ، والثُّومَ جمعُ الثُّومَةِ، ورَوَوا ذلكَ عنْ أبي عُبَيدَةَ. قالَ أبو الهيثمِ: وهذا خَطأٌ وتحريفٌ لكَلِمِ الله عن مواضِعِها؛ لأنَّ الله جلَّ وعزَّ قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] بفتْح الواوِ، ولا نعلمُ أحداً من القُرَّاءِ قرأها: فأحسنَ صُورَكم. وكذلك قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99، وغيرها] فمنْ قَرَأها: ونُفِخَ فِي الصُّوَرِ، أو قرأ: فأحسن صُوْرَكم، فقدِ افترى الكذبَ وبَدَّلَ كتابَ اللهِ، وكانَ أبو عبيدةَ صاحبَ أخبارٍ وغريبٍ، ولم يكنْ له معرفةٌ بالنَّحْوِ» (¬4). ¬
في هذا المثالِ تراهم جعلوا الصُّورَ جمعاً مُفْرَدُهُ الصُّورَةُ، والصحيحُ أنه اسمٌ مفردٌ للقَرْنِ الذي يُنْفَخُ فيه، لا جمعاً للصُّورةِ التي يأتي جمعُها متحرِّكَ الواوِ، فيقالُ: الصُّوَر. ثُمَّ لو صَحَّ أنَّ الصُّوْرَ جمعُ صُورَةٍ، وأنَّ فتحَ الواوِ فيه سُهِّل إلى السُّكُونِ، فإنَّ ذلك مخالفٌ لمعناهُ المرادِ في النُّصُوصِ، ولذا لا يصحُّ حَمْلُ هذا المعنى على هذه الآياتِ الواردةِ في الصُّورِ، والله أعلم. 3 - في قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ذُكِرَ تفسيرٌ عجيبٌ فيه تحريفٌ للفظِ {نَاظِرَةٌ}، قالَ الشَّرِيفُ المُرْتَضَى (ت:436): «وهاهنا وجهٌ غريبٌ في الآيةِ ـ حُكِيَ عنْ بعضِ المتأخرينَ (¬1) ـ لا يفتقرُ مُعْتَمِدُهُ عنِ العدولِ عنِ الظاهرِ، أو إلى تقديرِ محذوف، ولا يحتاجُ إلى منازعتِهم في أنَّ النَّظَرَ يحتملُ الرؤيةَ أو لا يحتملُها، بلْ يَصِحُّ الاعتمادُ عليه، سواءٌ كانَ النَّظَرُ المذكورُ في الآيةِ هو الانتظارُ بالقلبِ، أو الرؤيةُ بالعينِ، وهو أنْ يُحْمَلَ قولُه تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على أنَّه أرادَ به: نِعْمَةَ رَبِّهَا؛ لأنَّ الآلاءَ النِّعَمُ، وفي واحدِها أربعُ لغاتٍ: ألاَ، مثلُ: قَفَا، وأَلْيٌ، مثلُ: رَمْيٌ، وإلَىً، مثلُ: مِعَىً، وإِلْيٌ، مثلُ: حِسْيٌ، قال أعشى بكرِ بنِ وائلٍ (¬2): ¬
إحداث مدلول مبتدع للفظ
أبْيَضٌ، لا يَرْهَبُ الهُزَالَ، وَلا ... يَقْطَعُ رَحِماً، ولا يَخُونُ إلَى أرادَ أنه لا يخونُ نعمةً، فأراد بـ {إِلَى رَبِّهَا}: نعمةَ رَبِّهَا، وأسقطَ التنوينَ للإضافةِ ...» (¬1). فانظرْ إلى هذا التَّحريفِ العجيبِ الذي يسلكُهُ هؤلاءِ لإثباتِ مذهبِهم الذي ذهبوا إليه في أنَّ الله لا يُرَى، فذهبوا إلى كُلِّ عجيبٍ منَ القَولِ لِنَفْيِ ما ثبتَ من ظاهرِ النُّصوصِ الشَّرعيةِ، فجعلوا حرف الجرِّ في الآية اسماً، وفسَّروه على الاسمية بما رأيت، وقد عزَّز الشَّريفُ المرتضى (ت:436) تفسيرَه بموافقته الظاهرَ، مما يدلك على أنَّ التفسيرات الأخرى فيها خروج عن هذا الظاهر (¬2)، وإنما كان ذلك هروباً من أنَّ اللهَ سبحانَه يُرَى يوم القيامةِ بالأبصارِ. ثالثاً: فإنْ لم يجدوا إلى ذلكَ سبيلاً، أحدثوا للَّفظِ مدلولاً جديداً (¬3)، وقد يستحدثون له شاهداً ينسبونَه للغةِ العربِ (¬4). ومن الأمثلة التي ذُكِرَتْ في هذا الباب: تفسيرُ الاستواءِ في مثلِ قولِه تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بأنَّ معناه: استولى (¬5)، ¬
ويستشهدون لصحَّةِ ما ذهبوا إليه ببيتٍ من الشعر، وهو: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ وقالوا: استوى في هذا البيتِ: استولى. وقد قال بهذا التفسير الجهمية (¬1)، والحرورية (¬2)، والمعتزلة (¬3)، وتبعهم عليه جملة من المتكلمين من متأخري الأشاعرة (¬4)، والرافضة، والزيدية، وغيرهم ممن تأثر بهم في هذا التفسير (¬5). وقدْ سأل ابن أبي دؤاد المعتزليِّ (ت:240) (¬6) ابنَ الأعرابيِّ اللغويِّ (ت:231)، فقالَ: «أتعرفُ في اللُّغةِ استوى بمعنى: استولى؟ فقالَ: لا أعرفُ» (¬7). كما وقعَ لابنِ الأعرابيِّ (ت:231) مناظرةٌ معَ رجلٍ سألَه: «ما معنى قولِ الله عزّ وجل: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؟ فقالَ: هو على عرشِهِ كما أخبرَ. فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ، ليسَ هذا معناه، إنما معناه: استولى. ¬
قال: أُسْكُتْ. ما أنت وهذا؟ لا يقالُ: استولى على الشَّيءِ إلاَّ أنْ يكونَ له مُضَادٌّ، فإذا غَلَبَ أحدُهما، قيل: استولى، أما سمعتَ النَّابغةَ (¬1): ألا لِمِثْلِكَ أوْ مَنْ أنْتَ سَابِقُهُ سَبْقَ الجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمَدِ» (¬2) وهذا احتجاجٌ عقليٌّ يَرُدُّ به ابنُ الأعرابيِّ (ت:231) على هذا الذي زعمَ أنَّ معنى استوى: استولى. والمقصودُ أنَّ هذا المعنى الذي اخترعَه مخترعٌ ليسَ من لغةِ العربِ، ولا يجوزُ أنْ يُفَسَّرَ به القرآنُ. ولذا أنكرَ العلماءُ العارفونَ هذا المعنى، ونَصَّ بَعضُهم على أنَّ البيتَ مما لا يصحُّ الاحتجاجُ به؛ كالخطابي (ت:388) الذي قالَ: «وزعم بعضُهم: أنَّ استوى هاهنا بمعنى: الاستيلاءِ، ونَزَعَ إلى بيتٍ مجهولٍ لم يقلْه شاعرٌ معروفٌ يصحُّ الاحتجاجُ بقولِه. ولو كانَ الاستواءُ هاهنا بمعنى: الاستيلاءِ، لكانَ الكلامُ عديمَ الفائدةِ؛ لأنَّ الله تعالى قد أحاطَ علمُه وقدرتُه بكلِّ شيءٍ وكلِّ قُطْرٍ وبقعةٍ من السَّموات والأرضينَ وتحتَ العرشِ، فما معنى تخصيصُه العرشَ بالذِّكرِ. ثمَّ إنَّ الاستيلاء إنما يتحقَّقُ معناه عندَ المنعِ منَ الشَّيءِ، فإذا وقعَ الظَّفَرُ به قيل: استولى عليه، فأيُّ منعٍ كانَ هناكَ حتى يُوصَفَ الاستيلاءُ بعدَه؟» (¬3). ¬
وقالَ ابنُ تيميَّةَ (ت:728): «لم يثبتْ أنَّ لفظَ استوى في اللُّغةِ بمعنى: استولى، إذِ الذينَ قالوا ذلكَ عمدتُهم البيتُ المشهورُ: ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَلاَ دَمٍ مِهْرَاقِ ولم يثبتْ نقلٌ صحيحٌ أنَّه شعرٌ عربيٌّ، وكانَ غيرُ واحدٍ من أئمةِ اللُّغةِ أنكروه، وقالوا: إنَّه بيتٌ مصنوعٌ، لا يُعْرَفُ في اللُّغةِ، وقدْ عُلِمَ أنَّه لو احتجَّ بحديثِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لاحتاجَ إلى صِحَّتِهِ، فكيفَ ببيتٍ منَ الشِّعرِ لا يُعْرَفُ إسنادُهُ؟! وقدْ طعنَ فيه أئمةُ اللُّغةِ، وذُكِرَ عنِ الخَلِيلِ (¬1)، كما ذكرَهُ أبو المظَفَّرِ (¬2) في كتابِه: الإفصاحِ، قالَ: سُئِلَ الخليلُ: هلْ وجدتَ في اللُّغةِ استوى بمعنى: استولى؟ فقالَ: هذا ما لا تعرفُهُ العربُ، ولا هو جائزٌ في لغتِها. وهو إمامٌ في اللُّغةِ على ما عُرِفَ من حالِه، فحينئذٍ: حملُه على ما لا يُعْرَفُ حَمْلٌ باطلٌ» (¬3). وقالَ ابنُ القَيِّمِ (ت:751): «هذا البيتُ مُحَرَّفٌ، وإنما هو هكذا: بِشْرٌ قَدِ اسْتَوَلى عَلَى العِرَاقِ ... ........ هكذا لو كانَ البيت معروفاً منْ قائلٍ معروفٍ، فكيفَ وهو غيرُ معروفٍ في شيءٍ منْ دواوينِ العربِ وأشعارِها التي يُرجَع إليها» (¬4). 2 - وفي قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] = ذُكِرَ ¬
عن أبي عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303) أنَّه فسَّرَ الحجارةَ بالبردِ الذي يهبطُ من السحابِ تخويفاً من الله تعالى لعباده، ليزجُرَهم به (¬1). قال الإمامُ ابن كثيرٍ (ت:774): «قال القاضي الباقلاَّنيُّ (¬2): وهذا تأويلٌ بعيدٌ (¬3)، وتبعه في استبعاده فخر الدِّين الرَّازي (¬4)، وهو كما قالا، فإنَّ هذا خروج عن ظاهر اللَّفظِ بلا دليلٍ، والله أعلم» (¬5). ولستَ تجدُ في لغةِ العربِ أنَّه يطلقُ على الحجارة البَرَدُ أو العكس (¬6)، ولمَّا كانَ أبو عليٍّ الجُبَّائيِّ (ت:303) لا يرى وجودَ الإحساسِ في الجماداتِ، ¬
الثاني: في أساليب الخطاب العربية
ذهبَ إلى هذا التأويلِ الغريبِ الذي لم يُذكرْ عن أحدٍ قبلَهُ. وجعلَ معنى خشيةِ اللهِ؛ أي: من إخشاءِ اللهِ الناسَ بذلك؛ كقوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]؛ أي: للإخافة والإطماع (¬1). الثاني: أساليبُ الخطابِ العربيةِ: ومنْ أمثلةِ انحرافهم بسببِ الأساليبِ العربيَّةِ في الخطابِ: قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وهذه الآيةُ منْ أشهرِ الآياتِ التي سَلَّطَ عليها المبتدعةُ أسلوبَ الحذفِ، والقاعدةُ المقرَّرَةُ في هذا الأسلوبِ: أنه لا يُحْذَفُ إلاَّ ما دَلَّ المقامُ عليه، وأنَّ حذفَهُ لطلبِ الاختصارِ والبلاغةِ في الكلامِ. وقدْ جعلوا قولَه تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] منْ حذفِ المضافِ، وقدَّرُوهُ عِدَّةَ تقديراتٍ لا يَدُلُّ عليها السِّياقُ، بلْ هي هروبٌ منْ إثباتِ ظاهرِ النَّصِّ إلى التَّنْزِيهِ المزعومِ عندَهم، وهو تعطيلُ صفات اللهِ، ومنْ أشهرِ هذه التَّقديراتِ: جاءَ أمرُ ربكَ بالمحاسبةِ والجزاءِ (¬2). وليسَ هناكَ سببٌ لهذا الحذفِ عندَهم سوى الدلائلِ العقليَّةِ المزعومةِ التي رتَّبوها، قال الرَّازيُّ (ت:606): «واعلمْ أنَّه ثبتَ بالدليلِ العقليِّ أنَّ الحركةَ على الله تعالى محالٌ؛ لأنَّ كُلَّ ما كان كذلك، كانَ جِسْماً (¬3)، والجسمُ ¬
يستحيلُ أنْ يكونَ أزلياً، فلا بدَّ فيه منَ التَّأويلِ، وهو منْ بابِ حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَهُ ...» (¬1). وقد جرى هؤلاءِ على هذا المبدأ في الآياتِ التي تثبتُ لغيرِ العقلاءِ تمييزاً؛ كالسُّجودِ والتَّسبيح والقَولِ وغيرِها، فحملوها على الحذفِ أو المجازِ، ولم تسلمْ آيةٌ في هذا الموضوعِ من تسليطِ أسلوبِ الحذفِ أو المجازِ عليها، ومنَ أمثلةِ الآياتِ التي أثبتَ اللهُ فيها للجماداتِ شيئاً من الإحساسِ: 1 - أولُ آيةٍ وردَ فيها إثباتُ التَّمييزِ للجماداتِ، قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]، وقدْ ذهبَ المعتزلةُ بهذه الآيةِ إلى المجازِ، ونَفَوا أنْ يكونَ من الحجارةِ خشيةٌ للهِ تعالى، قالَ الشَّريفُ الرَّضيُّ (ت:406): «هذه استعارةٌ، والمرادُ: ظهور الخضوعِ فيها لتدبيرِ الله تعالى بآثارِ الصَّنعةِ وإعلامِ الصِّبغةِ» (¬2). وقالَ الزَّمخشريُّ (ت:538): «والخشيةُ: مجازٌ عن انقيادِها لأمرِ اللهِ وأنها لا تمتنعُ على ما يُرادُ فيها، وقلوبُ هؤلاءِ لا تنقادُ ولا تفعلُ ما أُمِرَتْ به» (¬3). وهذا الذي قالوه خلافٌ لظاهرِ الآيةِ، وأقوالُ المفسِّرينَ من السَّلفِ تدلُّ ¬
على حصولِ التَّمييزِ للحَجَرِ، ووقوعِ الهبوطِ من خشيةِ الله حقيقةً لا مجازاً (¬1)، وما ذهبَتْ إليه المعتزلةُ ليسَ بشيءٍ؛ لأنه ليسَ شيءٌ إلاَّ أثرُ الصَّنْعَةِ فيه، وإنما هبطَ الحجرُ لوجودِ التَّمييزِ فيه؛ كما قالَ تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وكما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] ولو كان يراد بذلك أثرُ الصَّنعةِ لم يقلْ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}؛ لأنَّ أثرَ الصَّنعةِ شاملٌ للمؤمنِ وغيرِه (¬2). قالَ البَغَوِيُّ (ت:516) (¬3): «فإنْ قيلَ: الحجرُ جمادٌ لا يفهمُ، فكيفَ يَخشى؟ قيلَ: الله يُفْهِمُه ويُلهِمُهُ فيخشى بإلهامِهِ، ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ لله تعالى عِلْماً في الجماداتِ وسائرِ الحيواناتِ، سوى العقلاء، لا يقفُ عليه غيرُ اللهِ، فلها صلاةٌ وتسبيحٌ وخشيةٌ (¬4)؛ كما قالَ جلَّ ذِكْرُهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وقال: {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ ¬
وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج: 18] الآية، فيجبُ على المرءِ الإيمانُ به، ويَكِلُ عِلْمَهُ إلى اللهِ سبحانه وتعالى ...» (¬1). 2 - قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقد قالوا فيها بالمجازِ، وأنَّ هذه المخلوقاتِ لا يَقَعُ منها تسبيحٌ قوليٌّ، بل إنَّ معنى تسبيحها: ما فيها منْ أثرِ الصَّنْعَةِ الدَّالِّ على الخالقِ سبحانه؛ أيْ أنَّ تسبيحَهَا حاليٌّ، وليسَ مقاليًّا، قال الزَّمَخْشَرِيُّ (ت:538): «والمرادُ أنها تسبِّحُ له بلسانِ الحَالِ، حيثُ تَدُلُّ على الصَّانعِ وعلى قدرتِه وحكمتِه، فكأنها تَنْطِقُ بذلك، وكأنها تُنَزِّهُ اللهَ عزّ وجل مما لا يجوزُ عليه منَ الشُّرَكَاءِ وغيرها. فإن قلتُ: فما تصنعُ بقوله: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وهذا التسبيحُ مَفْقُوهٌ معلومٌ؟ قلتُ: الخطابُ للمشركينَ، وهمْ وإنْ كانوا إذا سُئلوا عن خالقِ السَّمواتِ والأرضِ، قالوا: اللهُ، إلاَّ أنهم لما جعلوا معه آلهةً مع إقرارِهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يُقِرُّوا؛ لأنَّ نتيجةَ النَّظرِ الصَّحِيحِ والإقرارِ الثَّابتِ خلافُ ما كانوا عليه، فإذاً لم يفقهوا التَّسبيحَ، ولم يستوضحوا الدلالةَ على الخالقِ. فإنْ قلتَ: منْ فيهنَّ يُسَبِّحُونَ على الحقيقةِ، وهم الملائكةُ والثَّقلانِ، وقد عُطِفُوا على السَّمواتِ والأرضِ، فما وَجْهُهُ؟ قلتُ: التَّسبيحُ المجازيُّ حاصلٌ في الجميعِ، فوجبَ الحملُ عليه، وإلاَّ كانتِ الكلمةُ الواحدةُ في حالةٍ واحدةٍ محمولةً على الحقيقةِ والمجازِ» (¬2). ¬
وقدْ حَمَلَ الرَّازيُّ (ت:604) التَّسبيحَ على أنه حاليٌّ مجازيٌّ، وزعمَ أنَّ التَّسبيحَ المقاليَّ لا يحصلُ إلاَّ مع الفَهْمِ والعلمِ والإدراكِ والنُّطْقِ، وكلُّ ذلك في الجمادِ مُحَالٌ، فلم يَبْقَ حصولُ التَّسبيحِ بِحَقِّهِ إلاَّ بطريقِ الحالِ، ثمَّ قالَ: «واعلمْ أنَّا لو جوَّزْنَا في الجمادِ أنْ يكونَ عالماً متكلماً، لَعَجَزْنَا عن الاستدلالِ بكونِه عالماً قادراً على كونِه حَيًّا، وحينئذٍ يفسدُ علينا بابُ العِلمِ بكونِه حَيّاً، وذلكَ كُفْرٌ. فإنَّه يقالُ: إذا جازَ في الجماداتِ أنْ تكونَ عالمةً بذاتِ اللهِ وصفاتِه وتسبيحِه، مع أنها ليستْ بأحياءَ، فحينئذٍ لا يلزمُ منْ كَونْ الشَّيءِ عالماً قادراً متكلماً، كونُه حيّاً، فلم يلزمْ منْ كونِه تعالى عالماً قادراً كونُه حيّاً، وذلكَ جَهلٌ وكفرٌ؛ لأنَّ من المعلومِ بالضرورةِ: أنَّ منْ ليسَ بِحَيٍّ، لم يكنْ عالماً قادراً متكلماً، وهذا القولُ الذي أطبقَ العلماءُ المُحَقِّقُونَ عليه» (¬1). وإنما جَسَّرَ الرَّازيَّ (ت:604) على حملِ اللَّفظِ على مجازِه هذه الشُّبهةُ التي أوردَها، وهي إشكالٌ يَرِدُ على من ليسَ عندَه إلاَّ هذا الدليلُ لإثباتِ حياةِ اللهِ سبحانه، وليسَ هناكَ ما يضطرُّ إلى هذا المجازِ، بل التَّسبيحُ حقيقيٌّ، وهو كما قال الله سبحانه: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فنثبتُ ما أثبته الله لهذه المخلوقات حقيقة، ونؤمن بظاهر اللفظ، هذا مع وُرُودِ عِدَّةِ آياتٍ وأحاديثَ تدلُّ على حصولِ السجود والتسبيح وغيرها من الإحساسات للجماد، مما يجعل تكاثر هذه النصوص مبعداً لها عن المجاز إلى الحقيقة. وإذا أضفت ما ورد في السُّنَّة من حنين الجذع، وشكوى البعير، وتكلم الكتف المسموم، وغيرها، أيقنتَ أن هذه التصرفات لها على الحقيقة لا المجاز، والله أعلم. وهذا القول خلاف ما ورد عن السلف الذين جعلوا التسبيح حقيقياً (¬2)، ¬
هذا مع أن ما ذهبوا إليه من أن الخطاب في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} للكفار، وما بنوا على ذلك من نتيجة، مخالفٌ للواقع؛ لأن الذين خوطبوا بهذا مقرُّون بأن الله خالقُهم وخالقُ السموات والأرض ومن فيهن، فكيف يجهلون الخِلْقَةَ، وهم عارفون بها (¬1). 3 - وفي قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72] تقديراتٌ تُخْرِجُ اللفظَ عن ظاهرِه، وكلُّ ذلك بسببِ مقدماتٍ عقليةٍ بحتةٍ في إحساسِ الجمادِ وعَقْلِهِ، وأنه مما لا يَقَعُ عليه التَّكليفُ، ولا يَصْدُرُ منه ما يختصُّ بالمخيَّرِ المُكَلَّفِ؛ كالتسبيحِ، والسجودِ، والقولِ، وغيرِها. ومن التأويلاتِ التي ذَكَرَوها في هذه الآية: * أنَّ في الآيةِ حذفاً، وتقديرُه: إنَّا عرضنا الأمانةَ على أهلِ السمواتِ والأرضِ والجبالِ (¬2). * قال ابنُ الأنباريِّ (ت:328): «قال بعضُ الناسِ: لو كانتِ الأمانةُ يجوزُ أنْ تُعْرَضَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ، لكانتْ تَابَى تَحَمُّلَها، ولكنَّها مَوَاتٌ لا تعقلُ، والأمانةُ لا تُعْرَضُ على ما لا يعقلُ. وقال: هذا من بابِ المجازِ؛ كقولِ العربِ: شكا إليَّ بعيري طولَ ¬
السَّيرِ؛ معناه: لو كانَ يعقلِ لَشَكَا، ولكنَّه لا يعقلُ ولا يَشْكُو» (¬1). فانظرْ إلى هذه التأويلاتِ العجيبةِ التي تُخرجُ النَّصَّ عن ظاهرِه! اللهُ سبحانه يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} وهؤلاء يقولون: عَرَضَهَا على أهلِهَا، والآخرونَ يقولونَ: لم يَعْرِضْهَا، وقدْ صَرَّحَ بعضُهم بهذا، فقالَ: «ما عرضَ اللهُ ـ جلَّ ذِكْرُهُ ـ الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ قَطُّ، وإنما هو من المجازِ على قولِ العربِ: عَرَضْتُ الحِمْلَ على البعيرِ، فَأَبَى أنْ يَحْمِلَهُ؛ أيْ: وجدتُ البعيرَ لا يصلحُ للحَمْلِ وللعَرْضِ، فكذلك السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ لا تصلحُ للأمانةِ ولا لِعَرْضِهَا عليها» (¬2). وَتَجِدُهم في هذا المثالِ استخدموا أساليبَ العربِ وتوسُّعَها في الكلامِ لإخراجِ الكلامِ عن حقيقتِهِ إلى هذهِ التأويلاتِ المنكرةِ، لعدم استيعاب عقولهم الضيقة لهذا، ولو كان ما قالوه صحيحاً، فما فائدةُ هذا الخطابِ إذاً؟!. أمَّا السَّلفُ فقد حملوا الكلامَ على حقيقتِه (¬3)، وجعلوا الأمانةَ معروضةً على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ حقيقةً، وهو الصَّوابُ، إذ هذا الكلامُ لو كان يحتملُ المجازَ والحقيقةَ، لقُدِّمتِ الحقيقةُ على المجازِ؛ لأنها الأصلُ، كيف وهو لا يحتمل المجازَ في هذا الموضعِ، بدلالةِ تفسيرِ السَّلفِ له على الحقيقةِ، والله أعلم. 4 - في قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] تأويلاتٌ للمبتدعةِ، منها. * أنَّ في الآيةِ حَذْفَ مضافٍ، والمعنى: يومَ نقولُ لِخَزَنَة جهنَّمَ ... ويقولُ خَزَنَةُ جهنَّمُ، فحذفَ الخَزَنَةَ وأقامَ جهنَّمَ مقامَهُم، كما تقولُ العربُ: ¬
اسْتَتَبَّ المجلسُ، وهم يريدون أهلَ المجلسِ (¬1). * أنَّ هذا من الاستعارةِ؛ لأنَّ الخطابَ للنَّارِ والجوابَ منها في الحقيقةِ لا يَصِحَّانِ، وإنما المرادُ: أنها فيما ظَهَرَ مِنِ امتلائها، وبَانَ مِنِ اغْتِصَاصِهَا بأهلِها بمنْزلةِ النَّاطقةِ بأنَّه لا مزيدَ فيها ولا سَعَةَ عندَها، وذلكَ كقولِ الشَّاعِرِ (¬2): امْتَلأ الحَوْضُ وَقَالَ قِطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتُ بَطْنِي ولم يكنْ هناكَ قولٌ مِنَ الحوضِ على الحقيقةِ، ولكنَّ المعنى أنَّ ما ظهرَ من امتلائِه في تلك الحال جارٍ مجرى القولِ منه، فأقامَ الأمرَ المُدْرَكَ بالعينِ مقامَ القولِ المسموعِ بالأُذُنِ (¬3). وهذانِ القولانِ أخرجا الخطابَ عن الحقيقةِ، والصوابُ أنَّ الله الذي أنطقَ كُلَّ شَيءٍ يقولُ لجهنَّم قولاً، وجهنَّمُ ترد عليه قولاً، ولا مجالَ لإخراج الكلامِ عن حقيقتِهِ إلاَّ عندَ أصحابِ العقولِ الضَّيِّقَةِ التي لا تَقْدُرُ الله حَقَّ قدرِهِ، وتستبعدُ أنْ يجعلَ الجماداتِ منْ أهلِ المقالِ والإحساسِ، وقدْ حملَ العلماءُ هذا الخطابَ وأمثالَه على الحقيقةِ، قالَ الكرمانيُّ (ت: بعد500) (¬4): «وجُلُّ المفسرينَ على أنَّ القولَ في الآيةِ حقيقةٌ» (¬5)، وهذا هو الصواب الذي ¬
الثالث: في دلالة الصيغ
عليه السلفُ (¬1)، واللهُ أعلمُ. الثالث: دلالةُ الصِّيَغِ: المرادُ بها البناءُ الذي تقومُ عليه الكلماتُ العربيَّةُ، فتجتمعُ فيه جملةٌ من الألفاظِ، يكونُ فيها معنى مشتركٌ يدلُّ دلالةً غيرَ دلالةِ اللفظِ المفردِ المعجميَّةِ، فمن الألفاظِ ما يجيء على صيغةِ «تفاعل»، وهي تدلُّ على حدوث الأمر من اثنينِ متقابلين؛ كتصافح، وتحارب، وتمازح، وغيرِها، فدلالة هذه الألفاظِ متباينةٌ، وإن كانت اشتركتْ في مدلولِ هذه الصِّيغةِ (¬2). وقد يكونُ أصلُ اللفظِ واحداً، ولكن تختلفُ صيغته، فيختلفُ معناه، فمعنى: قَبَرَ فلانٌ فلاناً: أي: باشرَ دفنَه بنفسِه، كما قال الأعشى (¬3): لَوْ أَسْنَدَتْ مَيتاً إلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَى قَابِر ومعنى: أقبرَ فلانٌ فلاناً: أمرَ له بالقبرِ، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]. فاختلفت دلالة الفعل المشتقِّ من مادة قَبَرَ التي تدلُّ على سترٍ في الشَّيء وغموضِه، وذلك بسبب اختلافِ صيغَتِه في النُّطقِ. وقد استخدمَ أهلُ البدعِ دلالةَ الصِّيَغِ كاستخدامهم دلالة الألفاظِ، ومنْ أمثلةِ ذلك: 1 - تحريفُ بعضِ المعتزلةِ لصيغةِ «أفْعَل» حيثُ أحدثوا لها دلالةً، ¬
وجعلُوها تدلُّ على معنى: سَمَّاه، وإنما ذلك في صيغة «فَعَّل» (¬1)، وقدْ جاءَ ذلكَ عنهم في الإضْلالِ الذي نَسَبَهُ اللهُ سبحانه وتعالى إلى نَفسِهِ في مثلِ قولِه تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88] (¬2)، وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، حيث قالَ بعضُ المعتزلةِ في تفسيرِ هذا النَّظمِ وأشباهِه: «سَمَّاهم ضُلاَّلاً» (¬3). ¬
وإنما كانَ سببَ هذا التَّأويلِ زعمُهم الفاسدُ في العَدْلِ، وأنَّ الله لا يظلمُ أحداً، فلا يُتصوَّرُ أن يُضِلَّه، وإلاَّ كانَ ذلكَ قبيحاً منه، واللهُ مُنَزَّهٌ عن فِعْلِ القبيحِ، وهذا الكلام صحيح، ولكن المرادَ بالقبيحِ وتحديدُه هو الذي يخالَفُ فيه هؤلاء. وقد ردَّ عليهم هذا التَّأويلَ جماعةٌ من العلماءِ؛ كابنِ قتيبة (ت:276) (¬1)، والأشعريِّ (ت:324) (¬2)، وابنِ حَزْمٍ (ت:458) (¬3)، وابنِ القيِّمِ (ت:751) (¬4)، وغيرهم. ومن الرُّدُودِ عليهم في قولهم في دلالة صيغة «أفعل» ما يأتي: * قال ابن قتيبة (ت:276)، فقال: «وذهبَ أهلُ القَدَرِ في قولِ الله عزّ وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93، فاطر: 8] إلى أنه على جهةِ التَّسميةِ والحكمِ عليهم بالضلالةِ، ولهم بالهدايةِ. وقالَ فريقٌ منهم: يُضِلُّهُم: ينسبُهم إلى الضلالةِ، ويهديهم: يبينُ لهم ويرشدُهم. فخالفُوا بينَ الحُكْمَينِ، ونحن لا نعرفُ في اللُّغةِ أفْعَلْتُ الرَّجلَ: نَسَبْتُهُ. ¬
وإنما يقالُ إذا أردتَ هذا المعنى: فَعَّلْتُ، تقول: شَجَّعْتُ الرجلَ، وجَبَّنْتُهُ، وسَرَّقْتُهُ، وخَطَّاتُهُ، وكَفَّرْتُهُ، وضَلَّلْتُهُ، وَفَسَّقْتُهُ، وفَجَّرْتُهُ، ولَحَّنْتُه ...» (¬1). * وقالَ أبو الحسنِ الأشعريُّ (ت:324): «ويقالَ لهم: ما معنى قولِ اللهِ عزّ وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]؟ فإنْ قالوا: معنى ذلك: أنه يُسَمِّيهم ضَالِّينَ، ويَحْكُمُ عليهم بالضَّلالِ. قيل لهم: أليسَ خاطب الله العربَ بلغتِها، فقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]؟ فلا بُدَّ مِنْ نَعَم. فيقالُ لهم: فإذا كانَ أنزلَ اللهُ القرآنَ بلسانِ العربِ، فمِن أينَ وجدْتم في لغةِ العربِ أنْ يقالَ: أَضَلَّ فلانٌ فلاناً؛ أي: سَمَّاهُ ضَالًّا؟. فإنْ قالوا: وجدْنا القائلَ يقولُ إذا قالَ رَجُلٌ لرجلٍ ضَالٍّ: قدْ ضَلَّلْتُهُ. قيل لهم: قد وجدنا العربَ يقولون: ضَلَّلَ فلانٌ فلاناً: إذا سَمَّاه ضالًّا، ولم نجدْهُم يقولون: أضَلَّ فلانٌ فلاناً بهذا المعنى. فلمَّا قالَ اللهُ عزّ وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] لم يَجُزْ أنْ يكونَ ذلكَ معنى ذلكَ الاسمِ. والحُكمُ، إذا لم يَجُزْ في لغةِ العربِ أنْ يقالَ: أَضَلَّ فلانٌ فلاناً: إذا سَمَّاه ضالًّا، بَطَلَ تأويلكُم إذا كانَ خلافَ لسانِ العربِ» (¬2). 2 - في قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] قال الأخفش (ت:215): «وأما قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فيقول: ¬
يَحْكُمُ بأنهم كذلك، كما تقولُ: قد أخرجكم الله من ذا الأمر. ولم تكنْ فيه قَطُّ، وتقولُ: أخرجني فلانٌ من الكتبةِ، ولم تكنْ فيها قَطُّ؛ أي: لم يجعلْني من أهلِها ولا فيها» (¬1). وفي هذا هروبٌ منْ أنَّ اللهَ سبحانه خَلَقَ الإيمانَ في قَلْبِ العَبْدِ؛ لأنَّ المعتزلَة لا يرون ذلك (¬2). وعلى هذا التَّأوُّلِ لا يكونَ ثَمَّ خَلْقٌ للإيمانِ، وفيه خروجٌ بدلالةِ أَفْعل إلى معنى الوجودِ، وهذه الدِّلالةُ، وإنْ كانتْ مِنْ دَلاَلاَتِ أفْعَل، إلاَّ أنَّ هذا الموضعَ لا يحتمِلُها، بلِ الصَّوابُ جعلُها على ظاهِرها. قال الزَّجاج (ت:311): «أي: يُخرجُهم مِنْ ظلماتِ الجَهَالَةِ إلى نُورِ الهُدى؛ لأنَّ أمرَ الضَّلالةِ غيرُ بَيِّنٍ، وأمرَ الهدى واضحٌ كبيانِ النُّورِ. وقدْ قالَ قومٌ: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}: يحكمُ لهم بأنهم خارجونَ من الظلماتِ إلى النُّورِ، وهذا ليسَ قولٌ أهلِ التَّفسيرِ، ولا قولُ أكثرِ أهلِ اللُّغةِ، إنما قالَه الأخفشُ وَحْدَهُ» (¬3). 3 - ومن التحريفِ في الصِّيغِ، ما نُقِلَ عن أبي مسلمٍ محمدِ بنِ بَحْرٍ الأصفهانيِّ المعتزليِّ (ت:322) (¬4) في تفسير قولِه تعالى: {زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، حيثُ جعل «زُيِّنَ» في مثل هذا لا يحتاجُ إلى فاعلٍ؛ كالأفعالِ المذكورةِ في باب فُعِلَ مما لا يحتاجُ إلى فاعلٍ؛ كأُعجِبَ وجُنَّ وزُهِيَ وعُنِيَ، وغيرها مما في هذا البابِ (¬5). ¬
وحَمْلُهُ لفظ «زُيِّنَ» على هذا البابِ ادِّعاءٌ على العربية، إذْ لم يذكرِ العلماءُ هذا الفعلِ منَ الأفعالِ التي تلازمُ البناءَ للمفعولِ، وهذه الأفعالُ لا يكونُ منها مَبْنِيًّا للمعلومِ، وهي أفعالُ معروفةٌ محصورةٌ عند أهل العربيَّةِ (¬1)، أمَّا هذا الفعلُ فقد وردَ مَبْنَيًّا للمعلومِ مما يدلُّ على أنه ليسَ منْ بابِ ما لا يَحْتَاجُ إلى فاعلِ، ومما وَرَدَ فيه، قولُ اللهِ تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4]. وغيرُها من الآياتِ. وإنما دعاه لذلكَ مذهبُ العدلِ المعتزليِّ، لكي لا يُقدَّرَ فاعل «زُيِّنَ» بأنه الله سبحانه. وذلك التقديرُ خلافُ العدلِ عندَه؛ لأنه لا يرى أنه يقعُ منَ اللهَ سبحانَه تَزْيينُ الشَّهواتِ للعبدِ، فَحَرَّفَ دلالةَ هذا الفعلِ الذي جاءَ على صيغةِ الْمَبْنِيِّ للمفعولِ إلى ما جاءَ على هذه الصِّيغَةِ منَ الأفعالِ التي لا تحتاجُ إلى تقديرِ فاعلٍ. ¬
الفصل الثالث قواعد في التفسير اللغوي
الفصل الثالث قواعد في التفسير اللغوي وفيه: أولاً: كل تفسير لغوي وارد عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين. ثانياً: إذا ورد أكثر من معنى لغويٍّ صحيح تحتمله الآية، جاز تفسير الآية بها. ثالثاً: لا يصح اعتماد اللغة وحدها دون غيرها من المصادر التفسيرية. رابعاً: لا تعارض بين التفسير اللغوي والتفسير على المعنى.
بعدَ هذا السَّير الحثيثِ في قضايا هذا البحثِ، سأذكرُ هاهنا بعضَ القواعدِ المتعلِّقةِ بالتفسير اللُّغويِّ، وهذه القواعدُ فرضيَّاتٌ كانتْ في بدايةِ إعدادِ البحثِ، ولذا فلا يلزمُ أن تكونَ قواعدَ مقرَّرةً عندَ العلماءِ بهذه الصياغةِ، وإنْ كانَ لهم في ذلك إشاراتٌ، وما جمعتهُ فيها يعتبرُ من نتائج البحث، واللهُ الموفِّقُ. وهذه القواعد كالآتي: أولاً: كل تفسير لغوي وارد عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين. ثانياً: إذا ورد أكثر من معنى لغويٍّ صحيحٍ تحتملُه الآيةُ، جازَ تفسير الآية بها. ثالثاً: لا يصح اعتماد اللغة وحدها دون غيرها من المصادر التفسيرية. رابعاً: لا تعارض بين التفسير اللغوي والتفسير على المعنى. وليس هذه هي القواعدُ فقط، بل هناك ما هو أكثرُ منها (¬1)، والَّذي ذكرتُه رأيتُ أنَّه ألصقُ بخطَّةِ البحثِ وموضوعاتِه، واللهُ الموفِّقُ. ¬
أولا: كل تفسير لغوي وارد عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين
أولاً كلُّ تفسيرٍ لغويٍّ واردٍ عن السَّلفِ يُحكمُ بعربيَّته وهو مقدَّمٌ على قولِ اللُّغويين (¬1) ترتبطُ هذه المسألةُ بزمن الاحتجاجِ اللُّغويِّ، ولم أجدْ من أشارَ إلى ¬
طبقات السلف وحجيتهم في اللغة
تفصيلِ منْزلة تفسيراتِ طبقاتِ السلفِ في الاحتجاج اللُّغويِّ، سوى الإشارةِ إلى قبولِ تفسيرِ الصَّحابيِّ والاحتجاجِ به، كما سيأتي. ومفسِّرو السَّلفِ على قسمينِ: قسمٌ عاصر زمن الاحتجاجِ اللُّغويِّ، كالصحابةِ والتَّابعينَ؛ كزِرِّ بنِ حُبيشٍ (ت:83)، والشَّعبيِّ (ت:103)، والحسنِ (ت:110)، وغيرِهم. وهؤلاءِ كغيرِهم من العربِ الذينِ نُقلتْ أقوالُهم واحتُجَّ بها. وقسمٌ عاصرَ اللُّغويِّينَ الأوائل الذينَ دوَّنوا اللُّغةَ، كالكلبيِّ (ت:146)، ومقاتلِ بن سليمانَ (ت:150)، وسفيانَ الثَّوريِّ (ت:161)، ومالك بن أنس (179)، وابن زيد (ت:182)، وأقلُّ أحوالِ هؤلاءِ أن يكونوا نَقَلَةً لمعاني الألفاظِ العربيَّةِ التي في القرآنِ، فحالُهم في مثلِ هذا كحالِ من عاصرَهم من اللُّغويِّينَ الذين يحكونَ لغةَ العربِ، وينسبونَ إليها دلالاتِ الألفاظ. ومع أنَّ بعضَهم كانَ غيرَ عربيِّ الأصلِ، فإنكَ لا تجدُ أحداً من العلماء أنكرَ عليهم تفسيرَ القرآن العربيِّ على عربيَّتِه، ومنْ أمثلةِ هؤلاء المفسِّرينَ: ¬
مولى ابن عباس: عِكْرِمَةُ (ت:105)، وأصلُه بربريٌّ (¬1)، وكانَ يفسِّرُ القرآنَ بلغة العربِ ويحتجُّ بأشعارِها (¬2)، ولا تجدُ أحداً عابَ عليه بَرْبَرِيَّتَهُ، ولم يحتجَّ بتفسيرِه لأجلِ هذا الأصلِ البربريِّ، بل كان مُقدماً في علمِ التَّفسيرِ. ثمَّ إنهم يفسرون القرآن العربيَّ بالعربيَّةِ، ولم يُؤثَرْ عنهم أنهم فسروه بغيرها، فأقلُّ ما يقالُ فيهم أنهم ناقلونَ لِلُغَةِ العربِ، وهم ثِقَةٌ في ذلكَ، فقبولُ ما فسَّروا به على أنه لغةٌ يمكنُ أنْ يدخلَ من هذا البابِ. وإنَّ ممَّا يُسْتَانسُ به في هذه المسألةِ أنَّ أهلَ اللُّغةِ ينقلونَ بعضَ أقوالِهم ويشرحونَ غريبَها (¬3). ¬
ويبنى على ذلك: أنَّ ما ورد عن هؤلاء السلف الكرام من تفسير ألفاظِ القرآن، أو فهمِهم له، فإنه جارٍ على لغة العرب، وهو حجة يجب الاحتكام إليه، ولا يصحُّ ردُّه ولا الاعتراضُ عليه (¬1). ¬
ألفاظ لم يعرفها اللغويون إلا من طريق المفسرين
وقد نبَّه إلى هذا أبو النَّصْرِ السَّمَرْقَنْدِي (¬1) في كتابِه «المدخل لعلم تفسيرِ كتاب الله تعالى»، فجعلَ فيه باباً بعنوانِ: «ما جاءَ عنْ أهلِ التَّفسيرِ ولا يوجدُ له أصلٌ عندَ النَّحويين ولا في اللغةِ» (¬2). وقد ذكرَ أمثلةً لهذه المسألةِ، ومنها: «... كما جاءَ عن الأئمَّةِ في تفسيرِ بعضِ الآياتِ مما يشكلُ على أهلِ اللُّغة أصلُها وبناؤها؛ كقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71]، قالَ بعضُ المفسِّرينَ: معناه: حَاضَتْ. فأينَ مَحَلُّ حاضتْ منْ ضَحِكَتْ في اللُّغةِ؟! إلاَّ ما حُكِيَ منْ بعضِ أهلِ اللُّغةِ أنه قالَ: ضَحِكَتِ الأرنبُ: إذا خرجَ مِنْ قُبُلِهَا دَمٌ، كان (¬3) هذا استعارةً من ذلك، والله أعلم» (¬4). وفي تفسيرِ قولِه تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] ذَكَرَ الأزهريُّ (ت:370) قولاً عن ابنِ عباسٍ (ت:68)، وهو: «أكبرنه: حِضْنَ» (¬5). ثمَّ قال: «فإنْ صَحَّتِ الرِّوايةُ عنِ ابنِ عباسٍ سَلَّمْنَا له، وجعلْنَا الهاءَ في قولِه: {أَكْبَرْنَهُ} هاءَ وَقْفَةٍ، لا هاءَ كنايةٍ، واللهُ أعلمُ بما أراد» (¬6). ولهذا فإنَّكَ تَجِدُ بعضَ اللُّغويينَ يذكرُ أنَّ بعضَ الألفاظِ لم تُعرفْ دلالتُها ¬
إلاَّ عنِ المفسِّرينَ (¬1)، ومنْ أمثلةِ ذلكَ: 1 - التَّفَثُ في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، فقدْ ذكرَ أبو جعفر النَّحاسُ (ت:338) قولَ ابنِ عباسٍ (ت:68): «التَّفَثُ: الحَلْقُ والتَّقصيرُ، والرَّمْيُ، والذَّبحُ، والأخذُ منَ الشارِبِ واللِّحْيَةِ، ونتفُ الإبطِ، وقَصُّ الأظافرِ». ثمَّ قالَ أبو جعفر النَّحاسُ (ت:338): «وكذلكَ هو عندَ جميعِ أهلِ التَّفسيرِ؛ أي: الخروجُ منَ الإحرامِ إلى الحِلِّ. لا يعرفُه أهلُ اللُّغةِ إلاَّ منَ التَّفسيرِ» (¬2). 2 - الرَّبَّانِيُّونَ في مثل قولِه تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79]. قالَ أبو عبيدةَ (ت:210): «لَمْ يَعرفوا الرَّبَّانِيِّينَ» (¬3). يقصدُ أبو عبيدةَ (ت:210) بقوله: «لم يعرفوا»: أهلَ اللغةِ، قالَ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ (ت:224): «وأحسبُ الكلمةَ ليستْ بعربيةٍ، إنما هي عَبْرَانِيَّةٌ (¬4) ¬
أو سُرْيَانِيَّةٌ (¬1)، وذلكَ أنَّ أبا عبيدةَ زَعَمَ أنَّ العربَ (¬2) لا تعرفُ الرَّبَّانِيِّينَ. قالَ أبو عبيدٍ: وإنَّمَا عَرَفَها الفقهاءُ وأهلُ العِلْمِ» (¬3). يقصدُ أبو عبيدٍ (ت:224) بالفقهاءِ وأهلِ العلمِ: أهلَ التفسيرِ مِنَ السَّلفِ، وقدْ وردَ عنهم تفسيرُ الرَّبَّانِيِّينَ بأنهم الحكماءُ العلماءُ، أو الفقهاءُ العلماءُ، أو الحكماءُ الفقهاءُ (¬4). وتفسيرِ هؤلاءِ السَّلفِ يدلُّ على أنهم يعرفونَ هذه اللَّفظةَ، وأنهم فسَّروها بلغةِ العربِ، إذ لو كانتْ مِنَ المُعَرَّبِ لنَصَّ عليه أحدُهم، وهذا ما لم يردْ عنهم. وليسَ لأبي عبيدٍ (ت:224) في هذا التفسيرِ سوى الظَّنِّ اعتماداً على قولِ أبي عبيدةَ (ت:210) وليسَ هذا بكافٍ في إخراجِ لفظٍ منَ القرآنِ العربيِّ إلى لغةٍ غيرِها، ولو جعلَ أبو عبيدٍ (ت:224) قولَ هؤلاء السَّلفِ حُجَّةً في العربيَّةِ، لما احتاجَ إلى هذا التَّخريجِ، ولقالَ: ما لم يَعرِفْهُ أبو عبيدةَ (ت:210) عَرَفَهُ غيرُه من السَّلفِ الذين لم يُشِيروا إلى أنَّ هذا اللفظَ أو تفسيرَه غيرُ عربيٍّ. ثمَّ إنَّ اللَّفظَ جَارٍ في بنائه على لغةِ العرب، فقدْ جاءَ في تهذيبِ اللُّغةِ: ¬
«وقال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً في الرَّبَّاني إذ أرادوا تخصيصاً بِعِلْمِ الرَّبِّ دونَ غيرِهِ؛ كأنَّ معناه: صاحبُ العِلْمِ بالرَّبِّ دونَ غيرِه منَ العلومِ. وقال: وهذا كما قالوا: رجلٌ شَعْرَانِيٌّ، ولِحْيَانِيٌّ، ورَقَبَانِيٌّ، إذا خُصَّ بكثرةِ الشَّعَرِ، وطولِ اللِّحيةِ، وغِلَظَ الرَّقبةِ ... والرَّبِّيٌّ: منسوبٌ إلى الرَّبِّ، والرَّبَّانِيُّ: الموصوفُ بِعِلْمِ الرَّبِّ» (¬1). وقدْ يكونُ الرَّبَّانِيُّ ـ أيضاً ـ منسوباً إلى الرَّبَّانِ، قالَ الطَّبَرِيُّ (ت:310): «وأولى الأقوالِ عندي بالصوابِ في الرَّبَّانِيِّينَ: أنهم جَمْعُ رَبَّانِيِّ، وأنَّ الرَّبَّانِيَّ المنسوبُ إلى الرَّبَّانِ الذي يَرُبُّ النَّاسَ، وهو الذي يُصْلِح أمورَهم ويَرُبُّهَا ويقومُ بها، ومنه قولُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ (¬2): وَكُنْتُ امْرُأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رَبَابَتِي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي، فَضعْتُ، ربُوبُ يعني بقوله: رَبَّتْنِي: وَلِيَ أمري والقيامَ به قبلك من يَرُبُّهُ ويُصْلِحُهُ، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني، فضعتُ. يقالُ منه: رَبَّ أمري فلانٌ، فهو يَرُبُّه ربًّا، وهو رابُّه. فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل: هو ربَّان، كما يقال هو نعسان، من قولهم: نَعَسَ يَنعُس. وأكثر ما يجيء من الأسماءِ على فَعْلانِ ما كانَ منَ الأفعالِ ماضيهِ على فَعِلَ؛ مِثْلَ قولِهم: هو سكرانٌ، وعطشانٌ، وريَّانٌ، من سَكِرَ يَسْكَرُ، وعَطِشَ يَعْطَشُ، ورَوِي يُرْوَى. وقد يجيء مما ماضيه على فَعَل يَفْعُلُ، نحو ما قلنا من نَعَسَ يَنْعُسُ ورَبَّ يَرُبُّ. فإذا كانَ الأمرُ في ذلكَ على ما وصفْنَا، وكان الرَّبَّانُ ما ذكرنا، والرَّبَّانِيُّ هو المنسوبُ إلى منْ كانَ بالصِّفةِ التي وصفتُ، وكانَ العالِمُ بالفقهِ ¬
والحكمةِ منَ المصلحين يَرُبُّ أمورَ المسلمينَ، بتعليمِه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكانَ كذلكَ الحكيمُ التَّقِيُّ للهِ، والوليُّ الذي يَلِي أمورَ النَّاسِ على المنهاجِ الذي وَلِيَهُ المقسطونَ منَ المصلحينَ أمورَ الخلقِ، بالقيامِ فيهم بما فيه صلاحُ عاجلِهم وآجلِهم، وعائدةُ النَّفعِ عليهم في دينهم ودنياهم، كانوا جميعاً يستحقُّونَ أنْ يكونوا ممنْ دخلَ في قولِه عزّ وجل: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ}. فالرَّبَّانيُّونَ إذاً: هم عِمَادُ النَّاسِ في الفقهِ والعلمِ وأمورِ الدِّينِ والدنيا. ولذلكَ قالَ مجاهدُ: هم فوقَ الأحبارِ؛ لأنَّ الأحبارَ: هم العلماءُ، والرَّبَّانيُّ: الجامعُ إلى العلمِ والفقهِ، البصرَ بالسِّياسةِ والتَّدبيرِ، والقيامَ بأمورِ الرَّعيَّةِ، وما يصلحُهم في دنياهم ودينهم» (¬1). وبهذا يُعلم أنَّ لفظَ الرَّبَّانِيِّينَ عربيٌّ، وأنَّ السَّلفَ عرفوه وبيَّنوا معناه، وأنَّ جَهْلَ أهلِ اللُّغةِ به لا يُخرجُه إلى كونه مُعَرَّباً، وأنهم لو اعتمدوا تفسيرَ السَّلفِ في ثبوتِ اللُّغةِ لحكموا بعربيَّتِه، والله أعلم. وبعد فإنَّ المقصود أنَّ السَّلفَ بطبقاتِهم الثلاث أَقْدَرُ على تحديدِ المعنى العربيِّ للقرآنِ ممنْ جاءَ بعدهم، ولذا فإنَّ الرُّجوعَ إلى تفسيرهم، واعتبارَه في نقلِ اللُّغةِ مما لا بدَّ منه؛ لأنهم: إمَّا عَرَبٌ تُنْقَلُ عنْ مثلِهم اللُّغةُ؛ كالصَّحابةِ وكبارِ التَّابعينَ، وإمَّا أنْ يكونوا في عَصْرِ الاحتجاجِ؛ كصغارِ التَّابعينَ، وكبارِ أتباعِ التَّابعينَ، الذين عاصرَهم اللُّغويُّونَ الذينَ نقلوا اللُّغةَ ودوَّنوها، وأقلُّ حالِ مفسِّري أتباعِ التَّابعينَ أنْ يكونوا بمنزلة هؤلاءِ اللُّغويِّينَ في نقلِ اللُّغةِ، والله أعلم. ومما ينبغي التنبُّه له: أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ ـ خصوصاً ـ مقدَّمٌ على تفسيرِ اللُّغويِّ، كائناً من كانَ هذا اللُّغويُّ، وبهذا قالَ جمعٌ من العلماءِ أو أشارَ، ومن ذلكَ: ¬
إشارة الطبري إلى الاحتجاح بتفسير الصحابي في اللغة
* أشارَ الطبريُّ (ت:310) إلى الاحتجاجِ بتفسيرِ الصَّحابيِّ في اللُّغةِ عند قولِه تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] لما ذَكَرَ تفسيرَ ابن مسعود، أنَّه قالَ حينَ غربتِ الشَّمسُ: دَلَكتْ بَرَاحِ (¬1). قال الطبريُّ (ت:310): «وقد ذكرتُ في الخبرِ الذي رويتُ عن عبد الله بنِ مسعودٍ أنه قال حين غربتِ الشَّمسُ: دلكتْ بَرَاحِ؛ يعني: بَرَاحِ، مكاناً. ولستُ أدري هذا التَّفسيرَ؛ أعني قوله: بَرَاحِ مكاناً، مِنْ كلامِ مَنْ هو ممنْ في الإسنادِ، أو مِنْ كلامِ عبدِ الله، فإنْ يكنْ منْ كلامِ عبدِ اللهِ، فلا شكَّ أنَّه كانَ أعلمَ منْ أهلِ الغريبِ الذينَ ذكرتُ قولَهم (¬2). وأنَّ الصَّوابَ في ذلكَ قولُه دونَ قولِهم، وإنْ لم يكنْ منْ كلامِ عبدِ اللهِ، فإنَّ أهلَ العربيَّةِ كانوا أعلمَ بذلكَ منه (¬3) ...» (¬4). فابنُ مسعودٍ (ت:35) جعلَ تفسيرَ الشَّمسِ: بَرَاحِ، على أنَّه منْ أسمائها، وهذا التفسيرُ يلزمُ قَبُولُهُ منْ حيثُ اللُّغة؛ أيْ أنَّ منْ أسماءِ الشَّمسِ: بَرَاحِ، على وَزْنِ قَطَامِ، لورودِهِ عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:35). * وقال ابن العربيِّ (ت:543): «قال الفراءُ: معنى قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ ¬
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] (¬1)؛ معناه: أنَّ يطوفَ، وحرف (لا) زائدٌ (¬2). وهذا ضعيفٌ من وجهين: أحدُهما: أنَّا قد بيَّنا في مواضع أنَّه يبعدُ أن تكون (لا) زائدةٌ. الثاني: أنَّ لا لغويٌّ ولا فقيهٌ يعادِلُ عائشةَ رضي الله عنها، وقد قرَّرتها غيرَ زائدةٍ، وقد بيَّنت معناها (¬3)، فلا رأيَ للفراءِ ولا لغيره» (¬4). * ومما يستأنسُ به في هذا المقامِ ما وردَ منْ تفسيرِ ابنِ مسعودٍ لقولِه تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، قال: «كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجِنِّ ...» (¬5). قال ابنُ حَجَر العسقلانيُّ (ت:852): «واستشكلَ ابنُ التِّينِ (¬6) قولَه: (ناساً من الجِنِّ)، حيثُ إنَّ النَّاسَ ضِدُّ الجِنِّ ... ويا ليتَ شعري، على من يعترضُ!» (¬7). وهذا المنهجُ الذي سَلَكَهُ هؤلاء هو المنهجُ الصَّحيحُ؛ أي أنَّ كلامَ ¬
نقد الشوكاني في إشارته لعدم الاحتجاج بالوارد عن الصحابة إذا خالف اللغة
هؤلاءِ الصَّحابةِ وتفسيرَهم حجةٌ في اللُّغةِ يلزمُ قبولُها، وهو مقدَّمٌ على قولِ اللُّغويِّينَ، خلافاً لما قالَهُ الشَّوكَانِيُّ (ت:1250) (¬1) في هذا المقام: «وأمَّا ما كانَ منها ثابتاً عنِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، فإنْ كانَ من الألفاظِ التي نقلَها الشَّرعُ إلى معنى مغايرٍ للمعنى اللُّغويِّ بوجهٍ من الوجوهِ، فهو مقدَّمٌ على غيرِه. وإنْ كانَ منَ الألفاظِ التي لم ينقلْها الشَّرعُ، فهو كواحدٍ منْ أهلِ اللُّغةِ الموثوقِ بعربيَّتِهم، فإذا خالفَ المشهورَ المستفيضَ لم تقمْ الحجَّةُ علينا بتفسيرِه الذي قاله على مقتضى لغةِ العربِ، فبالأولى تفاسيرُ من بعدَهم من التَّابعينَ وتابعيهم وسائِرِ الأئمةِ» (¬2). وهذا المنهجُ الذي ذكره الشَّوكَانِيُّ (ت:1250) غيرُ سديدٍ، وقولُه: «فإذا خالفَ المشهورَ المستفيضَ» افتراضٌ لم يُمثِّلْ له بمثالٍ يدلُّ على وجودِه عنده، وهو مع ذلكَ يرى في التَّفسيرِ أنَّ بعضَ المعاني يُستشهَد لها بالبيتِ المجهولِ القائلِ، ومع ذلك يقبلُه ولا يقول فيه مثلَ هذه القاعدةِ، فكيف يتركُ ما وردَ عن السَّلفِ في هذا المقامِ، وهم ـ أخصُّ الصَّحابة ـ عربٌ تُحكى عنهم اللُّغةُ؟!. ومن هنا يمكنُ أنْ يقالَ: إنَّ ما وقعَ من بعضِ اللُّغويِّينَ من إنكارٍ لبعضِ تفسيراتِ السَّلفِ أوْ رَدِّهَا، بزعمهم أنها ليستْ من لغةِ العربِ = عملٌ غيرُ صحيحٍ، ولا يُعتمدُ عليه. ومن الأمثلةِ التي وقَعَ فيها اعتراضٌ من بعضِ اللُّغوييِّنَ، ما يأتي: ¬
الرد على تضعيف بعض اللغويين لتفسير السلف
1 - في قولِه تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29]، قالَ أبو عبيدةَ (ت:210): «زعمَ المفسِّرونَ أنَّه الموزُ (¬1)، أمَّا العربُ، فالطَّلْحُ عندهم: شَجَرٌ كثيرُ الشَّوكِ» (¬2). وعبارتُه هذه فيها تضعيفٌ لما وردَ عن المفسِّرينَ من السلف، كما أنَّ فيها إشارة إلى أنَّ ما وردَ عنهم ليسَ من قَولِ العربِ! وقدْ وردَ تفسيرُه بالموزِ عن صحابيين، هما: عليٌّ (ت:40)، وابنُ عباسٍ (ت:68)، وورد عن جمعٍ من التابعينَ، وهم: قسامةُ بنُ زهيرٍ (ت: بعد80) (¬3)، ومجاهدُ (ت:104)، وعطاءُ (ت:114)، وقتادةُ (ت:117) (¬4). أليسَ عليٌّ (ت:40)، وابنُ عباسٍ (ت:68) مِمَّنْ تُؤخذُ منهم اللُّغةُ؟! إنَّهم منَ العربِ، فكيفَ يقولُ أبو عبيدةَ (ت:210): «أما العربُ، فالطَّلحُ عندهم: شجرٌ كثيرُ الشَّوكِ»؟ لو كانَ أبو عبيدةَ (ت:210) يعتمدُ تفسيراتِ السَّلفِ في إثباتِ اللُّغةِ، لقالَ بأنَّ هذا اللفظَ له معنيان عند العربِ، كما هو الحالُ في غيرِه من الألفاظِ التي تعدَّدتْ دلالاتُها عندَ العربِ. قالَ إبراهيمُ الحَرْبِيُّ (ت:285): «والذينَ قالوا: هو المَوزُ، هو غيرُ معنى ¬
الحديثِ (¬1)، لقوله: بشوكِ الطَّلحِ. فلعله اسمٌ لِشَجَرِ شوكٍ وللموزِ» (¬2). وقال: «قوله: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29]: هو الموزُ، وهو لا شوكَ له. والطَّلحُ غيرُ منضودٍ، وإنما ذلكَ الموزُ، نُضِدَ على بعضٍ» (¬3). وكَونُ أبي عبيدةَ (ت:210) لم يعلمْ أنَّ العربَ تطلقُ على الموزِ مسمَّى الطَّلْحِ، فإنَّ هذا لا يعني عدمَ وجودِ هذه الدلالةِ عندَهم، إذْ عَدَمُ العلمِ بالشَّيءِ، لا يعني العِلْمَ بالعَدَمِ. وقد ذَكَرَ عبدُ الرَّحمنِ بْنُ زَيْدٍ بن أسلمَ (ت:182)، أنَّ أهلَ اليَمَنِ يُسَمُّونَ الموزَ: الطَّلحَ (¬4). فإنْ كانَ أبو عبيدةَ (ت:210) قد جَهِلَ ذلكَ، فإنَّ غيرَه قدْ عَرَفَ هذا المعنى لذلك اللَّفظِ، واللهُ أعلمُ. 2 - في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، قال الأزهريُّ (ت:370): «روى أبو الجَوزَاءِ (¬5) عنِ ابنِ عباسٍ في قولِه: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]، يقولُ: بِحَيَاتِكَ. قال: وما أقسمَ اللهُ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياةِ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم (¬6). وأخبرني المنذريُّ، عن أبي الهيثمِ أنه قالَ: النَّحويونَ ينكرونَ هذا، ويقولونَ: معنى «لعمرك»: لَدِينُكَ الَّذي تَعْمُرُ، وأنشد (¬7): ¬
أيُّها المُنْكِحُ الثّرَيا سُهَيلاً ... عَمْرَكَ اللهَ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ قال: عَمْرَكَ اللهَ؛ أيْ: عِبَادَتَكَ الله ...» (¬1). وهذا الإنكارُ الذي نسبهُ أبو الهيثمِ إلى النَّحويينَ غيرُ مقبول، فإنْ كانَ ما قالُوه في معنى «عَمْرَكَ اللهَ» صحيحاً، فإنَّه لا يلزم منه خطأُ غيرِه، خاصَّةً أنَّ المفسَّرَ به ممنْ تؤخذُ منه اللُّغةُ، وهو أدرى بمعنى اللَّفظِ في لغتِه ممنْ جاءَ بعده من اللُّغويينَ. ولا شَكَّ أنَّ قولَه مقدَّمٌ على قَولِهم، ومن ثَمَّ، فإنَّ تفسيرَهُ يُقْبَلُ لغةً وتفسيراً، ولا يَصِحُّ عليه مثلُ هذا الاعتراض. 3 - في قولِ تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، أوردَ الإمامُ البُخَارِيُّ (ت:256) عن ابن عباس (ت:68) أنَّه قالَ: «هي رؤيا عينٍ، أُريَهَا الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ أُسْرِيَ به» (¬2). وقال ابنُ حجر العَسْقَلاَنِيُّ (ت:852): «واستُدلَّ به على إطلاقِ لفظِ الرُّؤيا على ما يُرَى بالعينِ في اليَقَظَةِ. وقدْ أنكرَهُ الحَرِيرِيُّ (¬3) تبعاً لغيرِه، وقالوا: إنَّما يُقالُ رُؤْيَا في المَنَامِ، وأمَّا في اليَقَظَةِ فيُقالَ: رُؤْيَةٌ (¬4). ¬
ومِمَّنِ استعملَ الرُّؤيا في اليَقَظَةِ المتنبي في قولِه (¬1): ....... ... وَرُؤْيَاكَ أَحَلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الغَمْضِ وهذا التَّفسيرُ يَرُدُّ على مَنْ خَطَّأَهُ» (¬2). إنَّ هذا الصنيعَ من ابنِ حَجَرٍ (ت:852) هو الصَّوابُ بعينِهِ، ولا عِبْرَةَ بمنْ أنكرَ هذا المدلولَ اللُّغويَّ الواردَ عن ابنِ عباسٍ (ت:68)، ولو تفرَّدَ به لقُبِلَ منه، كيف وقد وردَ لهذا المدلولِ شاهدٌ آخرُ؟! قالَ ابنُ بَرِّي (ت:582): «اعلمْ أنَّ الرُّؤيا تكونُ في المنامِ كما ذكرَ، إلاَّ أنَّ العربَ قد استعملتها في اليقظةِ، وذلك في نحوِ قولِ الرَّاعِي (¬3) يصفُ ضيفاً طرقه ليلاً (¬4): رَفَعَتْ لَهُ مَشْبُوبَةً عَصَفَتْ لَهَا ... صَباً، تَزْدَهِيهَا مَرَّةً وَتُقِيمُهَا فَكَبَّرَ للرُّؤْيَا، وَهَشَّ فُؤَادُهُ ... وَبَشَّرَ نَفْساً كَانَ قبل يَلُومُهَا وعلى هذا فُسِّرَ في التنْزيلِ ـ وعليه جلة المفسرين ـ قولُه تعالى: {وَمَا ¬
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]» (¬1). لقدْ كانَ في غيابِ قضيةِ الاحتجاجِ بتفسيرِ الصَّحابةِ وغيرِهم منَ السَّلفِ عندَ اللغويين ما يظهر مثل هذه الاعتراضات على بعض تفسيراتهم، ولو استفاد اللُّغويُّونَ من تفسيراتِهم في ثبوتِ دلالة بعض الألفاظِ في اللُّغةِ لوجدوا في ذلكَ علماً كثيراً وشواهدَ لغويَّةً كافيةً. ولقدْ كانَ اللُّغويُّونَ ـ فيما يبدو ـ يجعلونَ مفسِّري السَّلفِ قَسِيماً لهم في علمِ التَّفسيرِ، مما يدلُّ على ذلك أنهم في نقلِ الأقوالِ في تفسيرِ الآيةِ يجعلونَ أهلَ التَّفسيرِ صنفاً مقابلاً لأهل اللُّغةِ، فيقولون: قالَ أهلُ التَّفسيرِ .. ، وقالَ أهلُ اللُّغةِ (¬2) ... ، أو ينصونَ على أقوالِ بعضِ اللُّغويِّين. ولقد أشارَ بعضهم على أنَّ أهلِ التَّفسِير لا يؤخذُ بتفسيراتهم اللُّغويِّةِ في ثبوتِ معنى اللفظِ في اللُّغةِ، بلْ يقْبَلُونَه منهم على أنَّه تفسيرٌ، وليسَ على أنَّه من اللُّغةِ. ومنْ ذلكَ ما وَرَدَ عن ثعلب (ت:291): «قال أبو عَمْرٍو (¬3): سمعتُ أبا موسى الحَامِضَ (¬4) يسألُ أبا العباسِ عن قولِه: {فَضَحِكَتْ} [هود: 71]؛ أي: حاضت، وقالَ: إنه قدْ جاءَ في التَّفسيرِ. ¬
فقالَ: ليس في كلامِ العربِ، والتَّفسيرُ مُسَلَّمٌ لأهلِ التَّفسيرِ. فقالَ لهُ: فأنتَ أنشدْتَنَا (¬1): تَضْحَكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وتَرَى الذِّئْبَ بِهَا يَسْتَهِلّ فقالَ أبو العباسِ: تَضْحَكُ هاهنا: تَكْشِرُ، وذلك أنَّ الذِّئبَ يُنَازِعُهَا على القَتِيلِ، فتَكْشِرُ في وَجْهِهِ وَعِيداً، فيتركُها مع لَحْمِ القَتِيلِ وَيَمُرُّ» (¬2). وقد ورد تفسيرُ لفظِ: «ضحكت» بمعنى: حَاضَتْ عن ثلاثةٍ من مفسري السَّلفِ، وهم: عبد الله بن عباس (ت:68) (¬3)، ومجاهد بنُ جبرٍ (ت:104) (¬4)، وعكرمة (ت:105) (¬5). ¬
فهؤلاء هم الذين وردَ عنهم التَّفسيرُ، وهم صحابيٌّ وتابعيان، ومعَ ذلكَ لم يقبلْ ثَعْلَبٌ (ت:291) قولَهم في اللُّغةِ، وقال: «ليس في كلامِ العربِ، والتَّفسيرُ مُسَلَّمٌ لأهلِ التَّفسيرِ». فإن لم يكن هذا التفسيرُ من لغةِ العربِ، فمن أين جاء به هؤلاءِ المفسِّرون. إنَّ عبارةَ ثعلبٍ (ت:291) هذه = تُشْعِرُ بأنَّ قولَ أهلِ التَّفسيرِ حجةٌ على أهلِ التَّفسيرِ لا غيرَ، أمَّا اللُّغويونَ فلا، وهذا فيه نَظَرٌ، وإنَّما صدرَ منه مثل هذا لِعَدَمِ اعتبارِه بما جاءَ عنِ السَّلفِ في نَقْلِ اللُّغةِ. وأصرحُ منه في ردَّ ما جاء عن السلفِ، ابنُ دَرَسْتَوَيه (ت:347) (¬1)، حيث قال: «وأما قولُه (¬2): أَخْنَسْتُ عنِ الرَّجُلِ حَقَّهُ، فإنما جاء على أَفْعَل، بألف، لِنَقلكَ الفِعْلَ إليك من الحق وتصييرك الحق مفعولاً، وكان في الأصل فاعلاً، ألا ترى أنكَ تقولُ: خَنَسَ عنه حَقُّهُ: إذا تأخَّر. ثم تقول: أَخْنَسْتُ أنا الحَقَّ عنه؛ أي: جعلتُه متأخراً، وهذا مُطَّرِدٌّ في بابه. ولا معنى لقولِه: سَتَرْتُهُ عنه، ولو كانَ فيه معنى سَتَرْتُهُ، لقيلَ في كلِّ مستورٍ: أَخْنَسْتُهُ (¬3). وإنما هذا تفسيرٌ أُخِذَ عن رواةِ تفسيرِ القرآنِ في قولِ اللهِ عزّ وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15، 16]: أنها الكواكبُ المُسْتَتِرَةُ التي لا تظهرُ. وإنما قيلَ لها: الخُنَّسُ؛ لقصورِها في السَّيرِ ¬
المراد بمصطلح التفسير والمفسرين عند اللغويين
عن المنازلِ، لا لانْسِتَارِهَا، وإنْ كانتْ مُنْسَتِرَةً» (¬1). وهذا المعنى الذي ذَكَرَ أنَّهُ أخذَهُ عن أهلِ التَّفسيرِ، كانَ من الواجبِ أنْ يقبلَه، ولكنَّهُ اعترضَ عليه، وجعلَه تفسيراً، وكأنَّه يشيرُ إلى أنَّه لا يؤخذُ منه لغةٌ، وهذا غير صحيحٍ، بلْ إنْ كانَ وارداً عن السَّلفِ، فالأصلُ قبولُه. وقد جرَّ هذا التَّعاملُ إلى أن يطلقُوا على ما وردَ عن السَّلفِ مصطلحَ التَّفسيرِ؛ كأهلِ التَّفسيرِ، وجاء في التَّفسيرِ، وقال المفسرونُ، وكلُّ هذا يُشعرُ بتميُّزِهم عنهم، وأنَّهم ليسوا ممن يؤخذُ عنهم اللُّغةُ. وقدْ تتبَّعتُ مصطلحَي «التفسير والمفسرين» ـ عدا من ينصُّون عليه منْ المفسِّرينَ ـ في معانِي القرآنِ، للفرَّاءِ (ت:207) (¬2)، وغريبِ القرآن، لابن قتيبةَ (ت:276) (¬3)، ومعاني القرآنِ وإعرابِه، للزجَّاجِ (ت:311) (¬4)، وغريبِ القرآنِ، لابن عُزَيز (ت:330) (¬5)، وتهذيبِ اللُّغةِ، للأزهري (ت:370) (¬6)، فوجدتُ أنَّهم ¬
يطلقونَها ـ في الغالب ـ على ما لا يؤخذُ من طريقِ اللُّغةِ في علمِ التَّفسيرِ؛ كسببِ نُزُولٍ، أو قِصَّةِ آيةٍ، أو تفسيرٍ نَبَويٍّ، أو تعيينِ منْ نزلَ بشأنِهِ الخطابُ، أو غيرِ ذلكَ مما ليسَتِ اللُّغةُ طريقَهُ. وربَّما قابلوا أهلَ التَّفسيرِ بأهلِ اللُّغةِ؛ كقولهم: وهذا قولُ أهلِ التَّفسيرِ وأهلِ اللُّغةِ، أو غيرها من العباراتِ (¬1). وهذا يُشعِرُ بتميُّزِ أصحابِ كلِّ علمِ بعلمِهِم، وأنَّ أهلَ التَّفسيرِ لا علاقَةَ لهم بعلمِ اللُّغةِ. ومنَ الأمثلةِ التي تدلُّ على أنَّ غالبَ ما ينقلونَه عنِ المفسِّرينَ مما لا يؤخذُ عنِ طريقِ اللُّغةِ: 1 - في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، قال الفرَّاءُ (ت:207): «يقولُ: إلاَّ ما دمتَ له متقاضياً، والتَّفسيرُ في ذلكَ: أنَّ أهلَ الكتابِ كانوا إذا بايعهم أهلُ الإسلامِ أدَّى بعضُهم الأمانةَ، وقالَ بعضُهم: ليسَ للأُمِّيِّينَ ـ وهمُ العربُ ـ حُرمةٌ كحرمةِ أهلِ ديننا، فأخبرَ اللهُ ـ تباركَ وتعالى ـ أنَّ فيهم أمانةً وخيانةً، فقال تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [آل عمران: 75] في استحلالِهم الذَّهابَ بحقوقِ المسلمينَ» (¬2). ذكرَ الفراء (ت:207) في هذا الموضع معنى الجملةِ من حيثُ اللغة، ثمَّ ذكر قصةَ الآيةِ، وجعلَها من التَّفسيرِ؛ لأنَّه لا يتأتَّى أخذُها إلاَّ منْ طريقِ الرِّوايةِ. ¬
2 - في قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، قال ابنُ قتيبة (ت:276): «والحجارةُ، قالَ المفسِّرونَ: حجارةُ الكبريتِ» (¬1). وتخصيصُ الحجارةِ بحجارةِ الكبريتِ، لا يمكنُ أخذه من طريقِ اللُّغةِ، ولكن يؤخذُ منْ طريقِ الرِّوايةِ عنِ المفسرينَ. 3 - في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، قالَ الزَّجَّاجُ (ت:311): «المعنى: الذين يأكلونَ الرِّبَا لا يقومونَ في الآخرةِ إلا كما يقومُ المجنونُ منْ حالِ جنونِه. زعمَ أهلُ التَّفسيرِ أنَّ ذلكَ عَلَمٌ لهم في الموقفِ، يعرفُهم به أهلُ الموقفِ، يُعْلَمُ به أنهم أكَلَةُ الرِّبا في الدنيا» (¬2). فذكر المعنى الذي يتأتى من طريقِ اللغةِ، ثمَّ نسبَ إلى أهلِ التَّفسيرِ ما لا يتأتَّى منْ طريقِ الرِّوايةِ، لا منْ طريقِها، مع أنَّه وردَ عنهم تفسيرُ المَسَّ بالجنونِ (¬3). 4 - في قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24]، قال ابنُ عُزَيْزٍ السجستاني (ت:330): «مِنَ القائلةِ، وهي الاستكنانُ في وقتِ نصفِ النَّهارِ. وجاءَ في التَّفسيرِ أنَّه لا ينتصفُ النَّهارُ يومَ القيامةِ حتى يستقرَّ أهلُ الجنَّةِ في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ (¬4)، فَتَحِينُ القائلةُ وقدْ فُرِغَ مِنَ الأمرِ، فيقيلُ أهلُ الجنَّةِ في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ» (¬5). وما ذكرَه ابنُ عُزَيزٍ السجستاني (ت:330) هنا لا يمكنُ أنْ يُدركْ منْ طريقِ اللُّغةِ، بلْ طريقُهُ الروايةُ، وهي التي فسَّرَ بها أهلُ التَّفسيرِ. ¬
ملحوظات حول هذه المسألة
وإذا تأمَّلتَ هذه المسألةَ، فإنَّه سَيَبِينُ لك ـ إن شاء اللهُ ـ ما يأتي: 1 - أنَّ بحث المفسِّرينَ في التَّفسيرِ كانَ أوسعَ من بحثِ اللُّغويينَ، فالمفسِّرونَ كانوا يفسِّرونَ بما لديهم من لغةِ العربِ، والحديثِ النَّبويِّ، وأسبابِ النزُّولِ، وقصصِ وأحوالِ من نزلَ فيهم الخطابُ منَ العربِ المشركينَ واليهودِ والنَّصارى، وغيرِها مما لا يُدركُ باللُّغة. أمَّا اللُّغويُّونَ فكانَ جانبُ البحثِ النَّحويِّ واللُّغويِّ يَطغَى على كتبِهم الّتي أَلَّفُوهَا في غريبِ القرآنِ ومعانيه، ولذا ساروا بها على المنهجِ اللُّغويِّ في البحثِ، وصاروا يستدلونَ بقولِ شاعرٍ أو غيرِه ممن سبقَ عَصْرَ السَّلفِ أو أدركَهم، ولا ينظرونَ إلى تفسيراتِ هؤلاءِ السَّلفِ ـ الذين هم في عصرِ من يحتجونَ بشعرِه وقولِه ـ على أنها مرجعٌ من مراجعِ اللُّغويِّينَ، لذا قلَّ أن تجدَ تفسيراتِهم في كُتُبِ اللُّغويِّينَ في البحثِ القرآنيِّ أو اللُّغويِّ. ولقدَ عَمَدْتُ إلى كتابِ لسانِ العربِ (¬1) لأستجليَ صِحَّةَ هذه المسألةِ، وجردتُ ما فيه من رواياتٍ تفسيريَّةٍ لمفسِّرينَ ولُغويِّينَ لهم أقوالٌ كثيرةٌ في التفسيرِ، وهم: ابن عباسٍ (ت: 68)، ومجاهدُ بن جبرٍ (ت:104)، والفراء (ت:207)، والزَّجاجُ (ت:311). وبعدَ جردِ تفسيراتِهم ظهر لي جليًّا قلَّةُ اعتمادِ اللغويينَ على تفسيرِ السلفِ في كتبهم اللغويةِ، وكانتِ النَّتيجةُ كالآتي: * لم يتجاوزِ التَّفسيرُ المنقولُ عن ابنِ عباسٍ (ت:68) أكثرَ من مائةٍ وأربعينَ موضعاً (¬2). ¬
* أن قصر الاستفادة من تفسير السلف على ما لا يدرك من طريق اللغة قصور في البحث
* لم يتجاوز التفسيرُ المنقولُ عن مجاهدٍ (ت:104) السبعينَ نقلاً (¬1). * أمَّا الفرَّاءُ (ت:207)، والزَّجَّاج (ت:311)، فقد تجاوزَ النَّقلُ عن كلِّ واحدٍ منهما السِّتمائة موضعٍ، وقد كان النَّقل عنهما من كتابيهما في معاني القرآن، وكان بواسطةِ كتابِ تهذيبِ اللغةِ، وقد سبقَ بيانُ نسبةِ تفسيرَيهما في كتاب تهذيبِ اللغةِ. 2 - أنَّ قَصْرَ الاستفادةِ مِنْ تفسيرِ السَّلفِ على ما لا يُدْرَكُ باللُّغةِ فيه قُصُورٌ في البَحثِ، وكأنه يُوحِي باقتدارِ اللُّغويِّ على معرفةِ عربيَّةِ القرآنِ دونَ الرُّجوعِ إلى تفسيراتِهم. ولقدْ كانَ هذا من أسبابِ وجودِ بعضِ الأقوالِ الشَّاذَّةِ في تفسيرِ اللُّغويِّين؛ لأنها تعتني بمصدرٍ واحدٍ دونَ غيرِه مِن مصادرِ التَّفسيرِ. 3 - لقدْ أفرزَ عدمُ وضوحِ هذه القضيَّةِ عندَ اللُّغويِّينَ ردَّهم بعضَ أقوالِ السلفِ، وكأنَّهم غفلوا عن أنَّ هؤلاءِ مِمَّنْ تُؤْخَذُ منهم اللُّغةُ، وبالأخصِّ مفسروا الصَّحابةِ، كابنِ مسعودٍ (ت:35) وابنِ عباسٍ (ت:68)، وكبارِ مفسري التَّابعينَ. ويلحقُ هذا الاعتراضُ على هؤلاء اللغويينَ كلَّ من فسَّرَ القرآنَ بعدهم ممن يعترضُ على أقوالِ السَّلفِ، ولا يجعلُها حجَّةً في اللُّغةِ، ومن أمثلة ذلك ما وقعت فيه بنتُ الشاطئ (د. عائشةُ بنتُ عبد الرحمن) من ردِّ تفسيرهم في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2]، قالت: «... كما نستبعدُ أن يكون حلٌّ بمعنى إحلالِ اللهِ لرسوله هذا البلدَ، يفعلُ به بعد الفتحِ ما شاء؛ لظهورِ تكلُّفِه، فضلاً عن كونِ الصِّيغةِ لا تقبلُ لغويًّا أن يكونَ الإحلالُ من حلَّ، وليسَ الاشتقاق. ¬
تطبيق طريقة التعامل مع أقوال السلف التفسيرية
وتفسيرُ الحلِّ بالإقامة هو المعنى المتبادر ...» (¬1). وهذا المعنى الذي استبعَدَتْه، لم يذكرِ الطبريُّ (ت:310) غيرَه عن السلفِ، مع اختلافِ عباراتِهم عنه، وقد ورد هذا التفسيرُ عن ابن عباس (ت:68)، ومجاهد (ت:104)، والضحاك (ت:105)، وعطاء (ت:114)، وقتادة (ت:117)، وابن زيد (ت:182) (¬2). وزاد ابن كثيرٍ (ت:774) ذِكرَ الروايةِ عن سعيد بن جبيرٍ (ت:95)، وعكرمة (ت:105)، والحسن البصري (ت:110)، وعطية (ت:111)، والسُّدِّيِّ (ت:128)، وأبي صالح (¬3). وتفسيرُهم بهذا المعنى يجعلُ من معاني العبارةِ ما ذكرُوه، وكونها تحتملُ معنًى آخرَ، لا يعني ضعفَ الواردِ عنهم، ولا الاعتراض عليه، وسيأتي ضوابطُ بيانِ قبولِ المحتملاتِ الواردةَ عن غيرِ السَّلفِ، والله الموفِّقُ. تطبيقُ طريقةِ التَّعاملِ مع أقوالِ السَّلف التَّفسيريَّة: حينما يناقشُ أحَدٌ أقوالَ المفسِّرينَ في آيةٍ ما، فعليه ألاَّ يتعجَّلَ في رَدِّ ما يَرِدُ عنِ السَّلفِ في معنى لفظٍ من الألفاظِ بسببِ اعتراضِ لغويٍّ عليه، بلْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّثَبُّتِ، ومن معرفةِ وِجْهَةِ قولِ السَّلفِ قبلَ الحكمِ عليه، ومما يُعلمُ أنَّ المثبتَ مُقَدَّمٌ على النَّافِي، وسأطرحُ هاهنا مثالاً لهذه المسألةِ في قولِه تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]، وأسألُ اللهَ التوفيقَ. وردَ في معنى الحَفَدَةِ أقوالٌ، وهي: ¬
1 - الحَفَدَةُ: أعوانُ الرَّجلِ وخَدَمُهُ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ (ت:68) (¬1)، ومجاهدٍ (ت:104) (¬2)، وعكرمةَ (ت:105) (¬3)، وطاووس (ت:106) (¬4)، والحسنِ (ت:110) (¬5)، وقتادةَ (ت:117)، وأبي مالكٍ غزوانَ الغفاريِّ (¬6)، ومالكِ بنِ أنسٍ (ت:179) (¬7). وقال النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ (ت:204): «مَنْ قَالَ: الحَفَدَةُ: الأعوانُ، فهو أتبعُ لكلامِ العربِ مِمَّنْ قالَ: الأصهارُ» (¬8). وقالَ ابنُ فارسٍ (ت:395): «ويقال في قولِه تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]: إنهم الأعوانُ، وهو الصَّحِيحٌ» (¬9). 2 - الأختانُ، وهو قولُ ابنِ مسعود (ت:35) منْ طريقِ زِرٍّ بنِ حُبَيشٍ (ت:83) (¬10)، ¬
وقولُ ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طريقِ عكرمةَ (ت:105) (¬1)، وسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:95) (¬2)، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ (ت:96) (¬3)، وأبي الضُّحَى (ت:100) (¬4)، والفَرَّاءِ (ت:207) (¬5). وفي روايةٍ عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:35) أنه قالَ: همُ الأصهارُ، فعنِ زِرِّ بنِ حُبَيشٍ (ت:83) (¬6)، قالَ: «قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: أتدري ما الحفدة يا زِرُّ؟ قالَ: قلتُ: نعم، هم حُفَّادُ الرَّجلِ منْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ. قالَ: لا، هم أصْهَارُ الرَّجُلِ» (¬7). وكذا في روايةِ علي بن أبي طلحةَ (ت:143) عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68)، قال: «الأصهار» (¬8). ¬
والصِّهْرُ: الخَتَنُ (¬1). وقيلَ: أقاربُ الزَّوجِ أحْمَاءٌ، وأَقَارِبُ الزَّوجَةِ أَخْتَانٌ، والصِّهْرُ يجمعُهما، وهو قولُ الأصْمَعِيِّ (ت:215) (¬2)، وقيلَ غيرَ ذلكَ. وكلُّها لا تُخْرِجُ الخَتَنَ عنْ معنى الصِّهْرِ، فإمَّا أنْ يكونا بمعنى واحدٍ، وإما أنْ يكونَ الخَتَنُ جزءً منْ معنى الصِّهْرِ (¬3). والمقصودُ: أنَّ التعبيرَ عنِ الحفَدَةِ بأنَّهم الأصهارُ أوِ الأختانُ ليسَ فيه خلافٌ، بلْ هو راجعٌ إلى معنًى واحدٍ (¬4)، واللهُ أعلمُ. 3 - الحَفَدَةُ: ولدُ الرجلِ وولدُ ولدِهِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طريقِ سعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:95) ومجاهدٍ (ت:104) وعكرمةَ (ت:105) (¬5)، وزِرِّ بنُ حُبَيشٍ (ت: 83) (¬6)، والضَّحَّاكِ بنِ مزاحم (ت:105) (¬7)، وعكرمةَ (ت:105) (¬8)، والكلبيِّ (ت:146) (¬9)، وابنِ زيدٍ (ت:182) (¬10). 4 - الحَفَدَةُ: بنو امرأة الرَّجُلِ منْ زَوْجِهَا الأوَّلِ، وهو مَرْوِيٌّ عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طريقِ عَطِيَّةِ العَوْفِيِّ (ت:111) (¬11). تحليلُ هذه الأقوالِ: 1 - إنَّ أصلَ الحَفْدِ في اللُّغةِ يرجعُ إلى معنى السُّرْعَةِ والخِفَّةِ في ¬
الخدمةِ والعملِ (¬1)، وإذا نظرتَ إلى هذه الأقوالِ المذكورةِ، وجدتَ أنَّ هذا المعنى يتحقَّقُ فيها، ومنْ ثَمَّ، فإنَّ من فَسَّرَ اللَّفظَ بأنَّهم الأعوانُ، فإنه فَسَّر على الأصلِ اللُّغويِّ لهذه اللَّفظةِ. 2 - أنَّ منْ قالَ: هم الأصهارُ أو الأختانُ، فإنَّ قولَهُم منْ حيثُ اللُّغة صحيحٌ، ولا يَصِحُّ الاعتراضُ عليه؛ لأنه: أولاً: لَمْ يُخْرِجِ اللَّفظةَ عن مدلولِها الأصليِّ، وهو الخدمةُ. ثانياً: أنَّه واردٌ عن من قولُه حُجَّةٌ في اللُّغةِ، وأَخَصُّهُمْ في ذلكَ الصَّحابيَّانِ: ابنُ مسعودٍ: (ت:35)، وابنُ عباسٍ (ت:68). ولذا فإنَّ الأقوالَ التي تعتمدُ في تفسيرِها على أنَّ اللُّغةَ تدلُّ على معنى الخدمِ والأعوانِ دون غيرهما فيها قصورٌ في النَّظرِ اللُّغويِّ بسببِ إهمالِها تفسيرَ العربِ الذينَ نزلَ القرآن بلغتهم، ومن أولئك الذين اعتمدوا معنى الخدم والأعوان: النَّضْرُ بنِ شُمَيْلٍ (ت:204)، حيثُ قالَ: «منْ قالَ: الحَفَدَةُ: الأعوانُ، فهو أتبعُ لكلامِ العربِ ممنْ قال: الأصهارُ» (¬2). وأبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ (ت:224) الذي قال: «وعن عبدِ اللهِ: أنهم الأصهارُ، وأما المعروفُ من كلامِهم، فإنَّ الحَفْدَ هو الخدمةُ» (¬3). وابنُ العربيِّ المالكيِّ (ت:543)، حيث قالَ ـ محتجًّاً لقولِ مالكِ بن أنس (ت:179) ـ: «... وقالَ الخليلُ بنُ أحمدَ: إنَّ الحَفَدَةَ عندَ العربِ الخدمُ (¬4). وكفى ¬
بمالكٍ فَصَاحَةً ـ وهو محضُ العرب ـ في قولِه، وبقولِ الخليلِ، وهو ثقةٌ في نقلِه عن العربِ، فخرجتْ خدمةُ الولدِ والزوجةِ من القرآن بأبدعِ بيانٍ» (¬1). والقصورُ في هذا واضحٌ من جهتين: الأولى: أنَّ الذي وردَ عنه غيرُ معنى الخدمِ والأعوانِ من العربِ، وهو أعرقُ عربيةً من مالك (ت:179) الذي احتجَّ ابنُ العربيِّ (ت:543)، بعربيَّتِهِ. الثانية: أنَّ ما قاله من فسَّر بغيرِ معنى الخدمِ والأعوانِ لا يَخْرُجُ عن معنى الخدمةِ، وما وردَ عن الصَّحابي ابن مسعود (ت:35) يتَّضحُ فيه أنَّه خَصَّ المعنى بأحدِ مَنْ تَتَحقَّقُ فيه الخدمةُ، وهم الأصهار، كما في رواية زِرِّ بن حُبيشٍ (ت:83) عنه. وقولُه بأنَّ الحَفَدَةَ: الأصهارُ = حُجَّةٌ، غيرَ أنَّ تخصيصَه لهذا اللَّفظِ بهذا المعنى غيرُ ذلك؛ لأنه قد وردَ عنْ غيرِه ممنْ يُحْتَجُّ به في اللُّغةِ والتَّفسير عدمَ تخصِيصِهِ بهذا المعنى، ولا يكونُ تخصيصُه في هذا الحالِ حُجَّةً. ولو كانتْ عبارةُ هؤلاء العلماءِ أنَّ منْ قالَ: الأعوان، فإنَّ قولَه أشهرُ في لغةِ العربِ، لكانَ، ولكنْ يُلْمَحُ في عبارتِهم إنكار المعنى الذي وردَ عن عبد الله بنِ مسعودٍ (ت:35) وغيرِه، وهذا غيرُ سديدٍ، واللهُ أعلم. 3 - أنَّ اللهَ سبحانَه جعلَ مِنَ الزَّوجَاتِ صِنْفَينِ: البنينَ والحَفَدَةَ. ولفظ البنينِ يشملُ الذُّكورَ والإناثَ، ويكونُ وُرُودُ الآية بلفظِ البنينِ على سبيلِ التَّغليبِ للذُّكورِ، واللهُ أعلمُ. وعلى هذا، فالحَفَدَةُ منَ الزَّوجةِ، والذي يكونُ منْ طريقِ الزَّوجةِ: أولادُ الأولادِ، والأصهارُ أو الأختانُ، وأولادُ المرأةِ منْ زوجِهَا الأوَّلِ. ¬
قال ابنُ كثيرٍ (ت:774): «فمنْ جعلَ {وَحَفَدَةً} متعلقاً بـ {أَزْوَاجُكُمْ}، فلا بدَّ أنْ يكونَ المرادُ الأولادَ، وأولادَ الأولادِ، والأصهارَ؛ لأنَّهم أزواجُ البناتِ، وأولادَ الزَّوجةَ؛ كما قال الشَّعْبِيُّ والضَّحَّاكُ، فإنهم غالباً يكونونُ تحتَ كَنَفِ الرَّجلِ وفي حِجْرِهِ وفي خِدْمَتِهِ» (¬1). ومن ثَمَّ، فإنَّ من فسَّر الحَفَدَةَ: بالخَدَمَ أو غيرِهم منَ الأعوانِ الذينَ لا يكونونَ منْ طريقِ الزَّوجةِ، فإنَّ قولَهم فيه ضَعْفٌ بهذا السَّبَبِ، وقد بيَّن ذلك ابنُ زيدٍ (ت:182) بقوله: «ليسَ تكونُ العَبِيدُ مِنَ الأزواجِ، كيفَ يكونُ مِنْ زوجي عَبْدٌ؟!» (¬2). وعلى احتمال دخول الخَدَمِ والأعوانِ في مرادِ الآيةِ، تخريجان: الأول: أنْ يحتاجَ إلى تقديرِ فِعْلٍ لقولِه: {وَحَفَدَةً}، ويكونُ المعنى: جَعَلَ لكم مِنْ أزواجِكم بنينَ، وجَعَلَ لكم حَفَدَةً، وتكونُ هذه الجملةُ منقطعةً عمَّا قبلها، لكي لا يُعْطَفَ على قولِه: {بَنِينَ}، إذْ إنَّ عَطْفَ المفردِ على المفردِ يجعلُهما يشتركانِ في كونِهما منَ الزَّوجةِ، وهذا لا يحتملُه النَّصُّ. الثاني: أنْ يُعادَ قولُه تعالى: {بَنِينَ} على {أَزْوَاجِكُمْ}، وقوله: {وَحَفَدَةً} على {أَنْفُسَكُمْ}، وهذا فيه تكلُّفٌ ظاهرٌ. وإذا خرج الخدم والأعوان من معنى اللَّفظِ في الآيةِ، فإنَّ مَنْ كانَ مِنْ طريقِ الزَّوجةِ، فهو داخلٌ في المعنى بنصِّ الآية، وبتَحقُّقِ معنى الخدمة فيه. ولما لم يقمْ دليلٌ على تخصيصِ أحدِ هؤلاءِ دونَ غيرِه، فإنَّ النَّصَّ يشملُ من كان من طريقِ الزَّوجةِ على العموم، لأنهم ممن يشملُهم مَعَنى الحَفَدَةِ، وحمل الآيةِ عليهم لا يخالفُ نظمَ الآيةِ ولا سياقَها، واللهُ أعلمُ. 4 - لا يعني هذا التَّرجيحُ في التَّفسيرِ ألاَّ يكونَ من معنى الحَفَدَةِ في اللُّغةِ: الأعوانُ والخدمُ، غيرَ أنَّ نَصَّ الآيةِ لا يَحْتَمِلُ دخولَهم فيها، أمَّا ثبوتُ هذا المعنى لغةً، فلا إشكالَ فيه، واللهُ أعلمُ. ¬
ثانيا: إذا ورد أكثر من تفسير لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضاد، جازا تفسير الآية بها
ثانياً إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضادٍ، جاز تفسير الآية بها استطرادٌ في تأصيلِ القاعدةِ: ترجعُ هذه القاعدةُ إلى احتمالِ النَّصِّ القرآنيِّ لأكثرَ من معنى، وهذه المسألةُ ترتبطُ بأصلينِ مهمَّينِ منْ أصولُ التَّفسيرِ، وهما: أسبابُ اختلافِ المفسِّرينَ، وأنواعُ هذا الاختلافِ. أمَّا أسبابُ الاختلافِ، فظاهرٌ أنَّ الذي يتعلقُ بهذه الدراسةِ منها ما كانَ بسببِ اللُّغةِ، وما فيها منْ تَعَدُّدِ مَعَانٍ قدْ يحتملُها النَّصُّ. وأمَّا أنواع الاختلافِ، فيحسنُ بسطُها لتتَّضح علاقةُ الموضوعِ بها، فأقولُ، وبالله التوفيق: التَّفسير: إمَّا أنْ يكونَ مجمعاً عليه، وإمَّا أنْ يكونَ فيه اختلاف. والمجمعُ عليه لا يَرِدُ عليه الاحتمالُ، وإنما يردُ الاحتمالُ في ما يقعُ فيه الاختلافُ. والاختلافُ قسمانِ: الأوَّلُ: أنْ ترجعَ الأقوالُ فيه إلى معنًى واحدٍ. والثاني: أنْ ترجعَ الأقوالُ فيه إلى أكثرَ من معنًى. وإليكَ تفصيلُ ذلكَ بالأمثلةِ.
الاختلاف الذي يرجع إلى معنى واحد
القسم الأول: أن ترجع الأقوال فيه إلى معنًى واحدٍ: وهذا القسمُ يندرجُ تحته نوعان من الاختلافِ، هي: الأوَّل: أنْ يكونَ في اللَّفظِ المُفَسَّرِ عمومٌ، فَيَذْكُرُ مُفَسِّرٌ فَرْداً منْ أفرادِ العُمُومِ، ويَذْكُرُ غيرُه فرداً آخرَ. ومثالُ ذلكَ تفسيرُ لفظِ: النَّعيمِ من قولِه تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فقدْ وردَ فيه أقوالٌ، منها: 1 - الأَمْنُ والصِّحَّةُ، عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:35)، والشَّعبيِّ (ت:103)، ومجاهدٍ (ت:104)، وسفيانَ الثوريِّ (ت:161). 2 - صِحَّةُ الأبدانِ والأسماعِ والأبصارِ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ (ت:68)، والحسنِ البصريِّ (ت:110) (¬1). وإذا تأملتَ هذه التَّفسيراتِ، وجدتَها ذَكَرَتْ فرداً من أفرادِ النَّعيم، لا على سبيلِ قَصْرِ المعنى العامِّ عليه، بلْ للإشارةِ إلى فردٍ منْ أفرادِه فيه، وللدلالةِ به على باقيها. ومنْ ثَمَّ، فالنَّعيمُ يشملُ كلَّ ما يتنعَّمُ به الإنسانُ من نعمِ الدنيا، قال الطبريُّ (ت:310): «والصَّوابُ منَ القولِ في ذلكَ أنْ يقالَ: إنَّ اللهَ أخبرَ أنَّه سائلٌ هؤلاءِ القومَ عن النَّعِيمِ، ولم يُخَصِّصْ في خبرِهِ أنَّه سائلُهم عنْ نوعٍ منَ النَّعيمِ دونَ نوعٍ، بلْ عمَّ بالخبرِ في ذلكَ عنِ الجميعِ، فهو سائلُهم ـ كما قال ـ عنْ جميعِ النَّعيمِ، لا عنْ بعضٍ دونَ بعضٍ» (¬2). ويلاحظُ في هذا المقامِ أنَّ ما يُعَبِّر به أهلُ التَّفسيرِ منْ عباراتٍ في أسبابِ النُّزولِ، فإنَّها تدخلُ في هذا القِسْمِ؛ أيْ أنَّ ما يحكونَهُ منْ أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ في كذا، فإنها أمثلةٌ لمن يشملُهم حُكْمُ الآيةِ، وإنْ تَعَدَّدَتِ الأقوالُ في النُّزولِ، والله أعلم. الثاني: أنْ يعبِّرَ المفسِّرونَ عنْ اللَّفظِ المفسَّرِ بألفاظٍ متقاربةٍ، ومثالُ ذلكَ ¬
تفسيرُهم لفظَ «لغوب» منْ قولِهِ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، فقدْ وردَ عنهم: 1 - لغوب: إِزْحافٌ؛ أي: إعياءٌ، عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) من طريق علي بن أبي طلحة (ت:143). 2 - لغوب: نَصَبٌ، عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) من طريقِ عطيةَ العوفيِّ (ت:111)، وعنْ مجاهدٍ (ت:104). 3 - لغوب: عناءٌ، عنِ ابنِ زيدٍ (ت:182) (¬1). وهذه التَّفسيراتُ ـ مع اختلافِها في العبارةِ ـ متقاربةُ المعنى، وهي ترجعُ إلى معنًى واحدٍ، وهو التَّعبُ. وفي هذا القسمِ ـ وهو أن ترجع الأقوال فيه إلى معنى واحدٍ ـ يجوزُ حملُ الآيةِ على ما وردَ فيها منَ التعبيراتِ المفسِّرَةِ لها؛ لأنَّه في النهاية لا اختلافَ في المرادِ، وإن اختَلفَ التَّعبيرُ عنِ اللَّفظِ المفسَّرِ. وفي تفسيرِ الطبريِّ (ت:310) لقولِه تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ما يدلُّ على هذا المقالِ، قال: «اختلفَ أهلُ التَّاويلِ في معنى «البِرِّ» الذي كانَ المخاطَبونَ بهذه الآيةِ يأمرونَ النَّاسَ به وينسونَ أنفسهم، بعدَ إجماعِهم على أنَّ كلَّ طاعةٍ للهِ فهي تُسَمَّى برًّا» (¬2). ثمَّ ذَكَرَ الرِّوايةَ عنِ السَّلفِ، فعنِ ابنِ عباسٍ (ت:68): «أتأمرونَ النَّاسَ بالدُّخولِ في دينِ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وغيرِ ذلك مما أُمِرْتُم به من إقامِ الصَّلاةِ، وتنسونَ أنفسَكم». وعن قتادةَ (ت:117): «كان بنو إسرائيلَ يأمرونَ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ وبتقواه وبِالبِرِّ، ويخالفونَه، فعيَّرَهم اللهُ». ¬
الاختلاف الذي يرجع إلى أكثر من معنى
وعنِ السُّدِّيِّ (ت:128): «كانوا يأمرونَ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ وتقواه، وهم يعصونَه». وعنِ ابنِ جُرَيجٍ (ت:150): «أهلُ الكتابِ والمنافقونَ، كانوا يأمرونَ النَّاسَ بالصَّومِ والصَّلاةِ، ويَدَعُونَ العملِ بما يأمرونَ به النَّاس، فعيَّرَهم اللهُ بذلكَ ...». وعنِ ابنِ زيدٍ (ت:182): «هؤلاءِ يهودُ، كانَ إذا جاءَ الرَّجلُ يسألُهم ما ليسَ فيه حَقٌّ ولا رِشْوَةٌ ولا شَيءٌ، أَمَرُوهُ بالحَقِّ» (¬1). ثمَّ قالَ الطبريُّ (ت:310): «وجميعُ الذي قالَ ـ في تأويل الآية ـ مَنْ ذَكَرْنا قولَه، مقاربُ المعنى؛ لأنهم وإن اختلفوا في صِفَةِ البِرِّ الذي كانَ القومُ يأمرونَ به غيرَهم، الَّذينَ وَصَفَهُمُ اللهُ بما وصَفَهُمْ به، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ في أنهم كانوا يأمرونَ النَّاسَ بما للهِ فيه رِضاً منَ القولِ أو العملِ، ويخالفونَ ما أمروهم به من ذلك إلى غيرِه بأفعالِهم ...» (¬2). القسم الثاني: أن ترجع الأقوال إلى أكثر من معنى: إذا رجعتِ الأقوالُ إلى أكثرَ من معنًى، فإنَّه يِرِدُ عليها احتمالانِ، وهما: * أنْ يكونَ بين هذه المعاني تَضَادٌّ، فلا يمكنُ حَمْلُ الآية على المَعْنَيَيْنِ المتضَّادينِ، بلْ لا بدَّ منَ القولِ بأحدِهما. * أن لا يكونُ بينها تَضَادٌّ، والآيةُ تحتملُها جميعاً، فيجوزُ حملُها عليها، إذا لم يمنع مانعٌ. وإليكَ الأمثلةُ: ¬
أولاً: أنْ ترجعَ الأقوالُ إلى أكثرَ من معنًى بينها تَضَادٌّ: ومنْ ذلكَ اختلافُهم في المَعْنِي بقولِه تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]، قالَ ابنُ عباسٍ (ت:68) وابنُ إسحاقَ (ت:150): هم المؤمنونَ، وقالَ ابنُ زيدٍ (ت:182): هم المشركونَ (¬1). وهذا فيه تَضَادٌّ؛ لأنَّ المُجَادلَ إحدى الطائفتينَ لا كلاهما، ولا يمكنُ في هذا أنْ يُحمَلَ على القولينِ معاً. ومنَ الأمثلةِ: تفسيرُ لفظِ القُرْءِ، والمَسْجورِ، وسُجِّرَتْ، وَعَسْعَسَ، والصَّرِيمِ، وَوَرَاءَ، وغيرِها من الألفاظِ القرآنِيَّة التي تذكرُها كتبُ الأضدادِ (¬2). ويلاحظُ أنَّه قدْ يجوزُ في بعضِ أمثلةِ التَّضَادِّ أنْ تُحملَ الآيةُ عليهما، لسببٍ يحيطُ بالمثالِ ذاتِه، ولا يصلحُ هذا السببُ لغيرِه، وذلكَ مثلُ قولِه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]. قيل: إنَّه قَسَمٌ بإقبالِ اللَّيلِ. وقيل: إنَّهُ قَسَمٌ بإدبارِهِ (¬3). وهذا فيه تضادٌّ، غيرَ أنه يجوزُ أنْ تحتملَ الآيةُ هذين المعنيين لاختلافِ محلِّ كلِّ واحدٍ منهما، فالأوَّلُ في أوَّلِ الليلِ، والثاني في آخرِه؛ أي أنَّ زمانَ القَسَمِ في كلِّ قولٍ مختلفٌ عن الآخرِ. ومن أمثلةِ المتضادِّ الذي لا يمكنُ أنْ تحتملَهما الآيةُ معاً: لفظُ القُرْءِ. قيل: هو الطُّهْرُ. وقيل: هو الحَيضُ (¬4). ¬
ولا يمكنُ أنْ يكونَ إلاَّ أحدَهما؛ لأنَّه لا يمكنُ أنْ يجتمعَ في المرأةِ في آنٍ واحدٍ أنْ تكونَ طاهراً حائضاً. واللهُ أعلمُ. ثانياً: أنْ ترجعَ الأقوالُ إلى أكثرَ من معنًى ليسَ بينها تضادٌّ: ومنْ أمثلتِه تفسيرُ لفظِ العتيقِ في قولِه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، فقدْ وَرَدَ في تفسيرِه: 1 - أنَّه المعتقُ منَ الجبابرةِ، عنِ ابنِ الزُّبَيرِ (ت:73) (¬1)، ومجاهدٍ (ت:104)، وقتادَة (ت:117). 2 - أنَّه القديمُ، عنِ ابنِ زيدٍ (ت:182) (¬2). وحملُ الآيةِ على المعنيينِ معاً لا إشكالَ فيه، وإنْ تغايرا، لأنه لا تَضَادَّ بينهما. ومنَ الأمثلةِ: تفسيرُ قولِه تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]، قالَ الشِّنْقِيطيُّ (ت:1393): «واعلمْ أنَّ سببَ مقاربةِ السماواتِ للتفطُّرِ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ، فيه للعلماءِ وجهانِ، كلاهما يدلُّ عليه قرآنٌ: الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى: تكادُ السماواتُ يَتَفَطَّرْنَ خوفاً منَ اللهِ، وهيبةً وإجلالاً، ويَدُلُّ لهذا الوجهِ قولُه تعالى قَبْلَهُ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4]؛ لأنَّ عُلُوَّهُ وعَظَمَتَهُ سَبَّبَ للسماواتِ ذلكَ الخوفَ والهيبةَ والإجلالَ، حتى كادتْ تَتَفَطَّرُ ... الوجهُ الثاني: أنَّ المعنى: تكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ منْ شِدَّةِ عِظَمِ الفِريةِ التي افتراها الكفَّارُ على خالقِ السَّماوات والأرضِ ـ جلَّ وعلا ـ: منْ كونِه اتَّخَذَ ولداً، سبحانه وتعالى عنْ ذلك عُلُواً كبيراً. ¬
مسألة احتمال النص في التفسير، وفهم السلف لها
وهذا الوجهُ جاءَ موضَّحاً في سورة مريمَ في قولِه تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا *وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93] .... وكلا الوجهينِ حقٌّ» (¬1). لقدْ حَكَمَ هذا الإمامُ على المعنيينِ بالصَّوابِ مع اختلافِهما البَيِّنِ؛ لأنَّه لا تعارضَ بينهما عندَ حَمْلِ الآيةِ عليهما، واللهُ أعلم. ولقدْ كانتْ مسألةُ احتمالِ النَّصِّ ظاهرةً للسَّلفِ، حتى قالَ عليُّ بن أبي طالب (ت:40) لابن عباس (ت:68) لما أرسلَه إلى الخوارجِ لمجادلتِهم: «اذهب إليهم، ولا تخاصمْهم بالقرآنِ، فإنَّه ذو وجوهٍ» (¬2). وقالَ أبو الدرداءِ (ت:32): «إنَّكَ لا تفقَهُ كُلَّ الفِقْهِ حتى تَرَى للقرآنِ وجوهاً» (¬3). كما كانتْ هذه الأوجهُ التَّفسيريَّةُ التي يَحْتَمِلُهَا النَّصُّ بلا تضادٍّ مقبولةً عندَ السَّلفِ، ومنَ الأمثلةِ التي تَدُلُّ على ذلكَ: 1 - روى البخاريُّ (ت:256) والطبريُّ (ت:310)، وغيرهما، عن ابن عباس (ت:68)، من طريق سعيد بن جبير (ت:94): أنَّه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. ¬
قالَ أبو بِشْرٍ (¬1): فقلتُ لسعيدِ بن جبيرٍ: فإنَّ ناساً يزعمونَ أنَّه نهرٌ في الجنَّةِ. قالَ: فقال سعيد: النَّهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إيَّاه» (¬2). في هذا النَّصِّ يظهرُ أنَّ سعيداً (ت:94) يُصحِّحُ قولَ منْ قالَ: الكوثرُ: نهرٌ في الجنَّةِ (¬3)؛ لأنَّه مما تحتملُه الآيةُ، ولا يُضَادُّ ما قال ابنُ عباسٍ (ت:68)؛ لأنَّ قولَه أعمُّ الأقوالِ، ويدخلُ فيه النَّهرُ وغيرُه من الخيرِ الذي أعطاهُ اللهُ لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم. 2 - قال محمد بن نصر المروزيُّ (ت:294) (¬4): «وسمعتُ إسحاقَ (¬5) يقولُ ¬
في قولِهِ: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]: قدْ يمكنُ أنْ يكونَ تفسيرُ الآيةِ على أولي العِلْمِ (¬1)، وعلى أمراءِ السَّرَايَا (¬2)؛ لأنَّ الآيةَ الواحدةَ يفسِّرُها العلماءُ على أوجهٍ، وليس ذلك باختلافٍ. وقد قالَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَة: ليسَ في تفسيرِ القرآنِ اختلافٌ إذا صَحَّ القولُ في ذلكَ (¬3). وقالَ: أيكونُ شَيءٌ أظهَر خِلافاً في الظَّاهرِ منَ الخُنَّسِ؟ قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: هي بقرُ الوحشِ (¬4). وقالَ عليٌ: هي النُّجومُ (¬5). قال سفيانُ: وكلاهما واحدٌ؛ لأنَّ النُّجومَ تَخْنُسُ بالنَّهارِ وتظهرُ باللَّيلِ والوَحْشِيَّةُ إذا رأتْ إنسيّاً خَنَسَتْ في الغيطانِ (¬6) وغيرِها، وإذا لم ترَ إنسيّاً ظهرتْ. قالَ سفيانُ: فَكُلٌّ خُنَّسٌ. قالَ إسحاقُ: وتصديقُ ذلك ما جاءَ عنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في ¬
تتابع أقوال العلماء على هذا المعنى
الماعونِ (¬1)، يعني أنَّ بعضَهم قالَ: الزَّكاةُ، وقال بعضُهم: عاريةُ المتاعِ. قالَ: وقالَ عكرمةُ: الماعونُ: أعلاهُ الزَّكاةُ، وعاريةُ المتاعِ منه (¬2). قالَ إسحاقُ: وجَهِلَ قومٌ هذه المعاني، فإذا لم توافقِ الكلمةُ الكلمةَ قالوا: هذا اختلافٌ. وقدْ قالَ الحسنُ ـ وذُكِرَ عنده الاختلافُ في نحوِ ما وصفْنا، فقالَ ـ: إنما أُتِيَ القومُ من قِبَلِ العُجْمَةِ (¬3)» (¬4). ولعلَّ في هذا المثالِ العزيزِ ما يدلُّ على ظهورِ هذه المسألةِ عندَ علماءِ السَّلَفِ، وأنهم كانوا يَعُونَهَا جيداً، حيثُ جعلوا هذه المحتملاتِ الواردةِ على النَّصِّ مقبولةً، ولم يَرُدُّوها. وقد تتابعَ على ذلكَ منْ جاءَ بعدَهم، وسأذكرُ أمثلةً منْ تطبيقاتِهم، تدلُّ على إعمالِهم لهذِه القاعدةِ: 1 - أوردَ يحيى بنُ سلام (ت:200) في تفسيرِ لفظِ «ناكبون» من قولِه تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74] تفسيرَ قتادةَ (ت:117)، قال: «لجائرون». وتفسيرَ الحسنِ (ت:110)، قال: «تاركون له». وتفسير الكلبي (ت:146)، قال: «معرضون عنه». ثمَّ قال يحيى (ت:200) وهو واحدٌ (¬5). ¬
لقد حَكَمَ يحيى بن سلامٍ (ت:200) على هذه التَّفاسيرِ بأنها واحدٌ، وإنْ اختلفتْ عبارتُها، لأنَّ معناها الذي تؤدِّيه واحدٌ، وهو أنهم عادلونَ عنِ الصِّراطِ منحرفونَ عنه. 2 - قالَ الطبريُّ (ت:310): «وقولُه: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، يقولُ: ولكمُ الويلُ منْ وَصْفِكُمْ ربَّكُم بغيرِ صِفَتِهِ، وَقِيلِكُمْ: إنَّه اتَّخَذَ زَوجةً وولداً، وَفِرْيَتِكُمْ عليه. وبنحو الذي قلنا في ذلكَ، قالَ أهلُ التَّأوِيلِ، إلاَّ أنَّ بعضهَم قالَ: معنى تَصِفُونَ: تَكْذِبُونَ. وقال آخرونَ: معنى ذلكَ: تُشركونَ، وذلكَ وإنْ اختلفتْ به الألفاظُ، فمتفقةٌ معانيه؛ لأنَّ منْ وصفَ الله بأنَّ له صاحبةً، فقدْ كذبَ في وَصْفِهِ إياه بذلكَ، وأشركَ به، وَوَصَفَهُ بغيرِ صفته، غيرَ أنَّ أولى العبارات أنْ يُعبَّر بها عنِ القرآنِ أقربُها إلى فَهْمِ سامعيها» (¬1). 3 - قال أبو عليٍّ القاليِّ (ت:356): «قرأتُ على أبي بكرٍ بنِ الأنباريِّ: في قولِ اللهِ عزّ وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] أقوالٌ (¬2). قال قومٌ: يُمَحِّصُهُمْ: يُجَرِّدُهُمْ منْ ذنوبِهم ... وقالَ الخليلُ: معنى قولِ اللهَ جلَّ وعَزَّ: {وَلِيُمَحِّصَ}: ولِيُخَلِّصَ (¬3). وقالَ أبو عَمْرٍو إسحاقُ بنُ مِرَارٍ الشيبانيُّ: وليمحص: وليكشفَ ... قال: ومعنى قولِهم: اللَّهُمَّ مَحِّصْ عنَّا ذنوبَنَا؛ أي: اكشفْهَا. ¬
وقال آخرونَ: اطرحْهَا عنَّا. قال أبو عليٍّ: هذه الأقوالُ كلُّها في المعنى واحدٌ، ألا تَرَى أنَّ التَّخْلِيصَ تَجْرِيدٌ، والتَّجْرِيدَ كَشْفٌ، والكَشْفَ طَرْحٌ لما عليه» (¬1). ومن أقوالِ العلماءِ المتأخرينَ الصَّريحَةِ في هذه القاعدةِ: 1 - ما قاله الطُّوفِيُّ (ت:716) (¬2): «وأما ما ورد فيه التَّأويلِ المُخْتَلِفِ عنِ العلماءِ، فذلكَ الاختلافُ: إمَّا أنْ يشتملَ على التَّناقضِ والتَّضادِّ، أو لا. فإن اشتملَ عليه ـ كالقُرْءِ التي صِيرَ في تأويلِها إلى الحيضِ مرةً، وإلى الإطهارِ أخرى ـ كان أحدُ النَّقِيضينِ أو الضّدينِ مُتَعَيِّناً للإرادةِ؛ لاستحالةِ الامتثالِ بالجمعِ بينهما، وحينئذٍ يجبُ التَّوصلُ إلى المرادِ المتعيِّنِ بطريقٍ قويٍّ راجحٍ من الطرقِ المتقدمِ ذِكْرُها، أو غيرِها إنْ أَمْكَنَ. وإنْ لم يشتملْ على التَّناقضِ، بلْ كانَ مجرَّدَ اختلافٍ وتعدُّدَ أقوالٍ، فإنْ احتملَ اللَّفظُ جميعَها وأمكنَ أنْ تكونَ مُرادةً منه، وَجَبَ حملُه عليها جميعاً ما أمكنَ، سواءً كانَ احتمالُها متساوياً، أو كانَ بعضُها أرجحَ منْ بعضٍ، وإلاَّ فحملُه على بعضِها دونَ بعضٍ إلغاءٌ للَّفظِ بالنسبةِ إلى بعضِ محتملاتِه منْ غيرِ مُوجبٍ، وهو غيرُ جائزٍ، ولأنه لو جازَ أنْ يكونَ مُراداً، فإعمالُ اللَّفظِ بالنِّسبةِ إليه أَولَى منْ إهمالِهِ. نعمْ إنْ كانَ احتمالُه لها متفاوتاً في الرُّجحانِ، جازَ في مقامِ التَّرجيح تقديمُ الأرجحِ فالأرجحِ، بحسبِ دلالةِ اللَّفظِ عليه، أو جلالةِ قائِله، أو عَاضِدِه الخارجيِّ، وغيرِ ذلكَ منْ وجوهِ التَّرجِيحاتِ. ¬
ومثالُ ذلكَ؛ أعني: احتمالَ اللَّفظِ للوجوهِ المتعدِّدَةِ، قولُه تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، قيل: مساقطُ النُّجومِ في المغرب. وقيلَ: إنَّ منه نزولَ القرآنِ؛ لأنه نزلَ في ثلاث وعشرين سنةً، فاللَّفظُ يحتملُ القولينِ، فيجوزُ أنْ يكونَ القَسَمُ بهما مراداً للهِ عزّ وجل؛ لأنهما عَظِيمانِ، لا سيَّمَا على قولِ منْ يقولُ: يجوزُ إرادةُ حقيقةِ اللَّفظ ومجازِهِ جميعاً معاً ...» (¬1). 2 - وقالَ ابنُ تَيمِيَّةَ (ت:728): «ومنَ التَّنازُعِ الموجودِ عنهم (¬2): ما يكونُ اللَّفظُ فيه محتملاً للأمرينِ: إمَّا لكونِهِ مُشْتَركاً في اللُّغةِ (¬3)؛ كلفظِ {قَسْوَرَةٍ} الذي يرادُ به الرامي، ويُرادُ به الأسدَ. ولفظِ {عَسْعَسَ} الذي يرادُ به إقبالُ اللَّيلِ وإدبارهُ. وإمَّا لكونِه مُتَواطِئاً (¬4) في الأصلِ، لكنَّ المرادَ به أحدُ النَّوعينِ، أو أحدُ الشَّخْصينِ؛ كالضَّمائرِ في قولِه تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8، 9]، وكلفظِ {الْفَجْرِ}، {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}، و {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، وما أشبَهَ ذلكَ. ¬
فمثلُ هذا قد يجوزُ أنْ يرادَ به كلُّ المعاني التي قالها السَّلفُ، وقدْ لا يجوزُ ذلكَ. فالأوَّلُ: إمَّا لكونِ الآيةِ نزلتْ مرتينِ، فأريدَ بها هذا تارةً، وهذا تارةً. وإمَّا لكونِ اللَّفظِ المشتركِ يجوزُ أنْ يُرادَ به معنياه، إذْ قدْ جَوَّزَ ذلكَ أكثرُ فقهاءِ المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنبليَّةِ، وكثيرُ منْ أهلِ الكلامِ. وإمَّا لكونِ اللَّفظِ متواطئاً، فيكونُ عَامّاً إذا لمْ يكنْ لتخصيصِهِ مُوجِبٌ. فهذا النَّوعُ إذا صَحَّ فيه القولانِ كانَ مِنَ الصِّنفِ الثاني (¬1)» (¬2). 3 - عندَ تفسيرِه قولَ اللهِ تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] قالَ الشَّنْقيطيُّ (ت:1393): «... فقوله رضي الله عنه إلاَّ فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابِ اللهِ، يدلُّ على أنَّ فَهْمَ كتابِ اللهِ تتجدَّدُ به العلومُ والمعارفُ التي لم تكنْ عند عامَّةِ الناسِ، ولا مانعَ من حمل الآيةِ على ما حملها المفسِّرونَ، وما ذكرْناه أيضاً أنَّه يُفْهَمُ منها، لِمَا تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ مِنْ أنْ الآيةَ إنْ كانتْ تحتملُ معانيَ كلُّها صحيحٌ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا على الجميعِ، كما حَقَّقَه بأدلتِهِ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو العباسِ بنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله في رسالتِهِ في علومِ القرآنِ (¬3)» (¬4). 4 - جعلَ الطَّاهِرُ بنُ عاشورَ (ت:1393) مقدمةً منْ مقدماتِ تفسيرِهِ خاصَّةً بهذه القاعدة، وعَنْوَنَ لها بقولِه: «المقدِّمَةُ التَّاسِعَةُ: في أنَّ المعاني التي تَتَحَمَّلُها جُمَلُ القرآنِ، تُعْتَبَرُ مُرَادَةً بها» (¬5)، وتحدث في هذه المقدمةِ بما يقربُ منْ عَشْرِ صفحاتٍ. ¬
القسم الأول: المحتملات اللغوية الواردة عن السلف
عودٌ إلى قاعدةِ: إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضادٍ، جاز تفسير الآية بها. سأجعل الحديث في هذه القاعدةِ على قسمين: الأول: المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردة عن السَّلفِ. الثَّاني: المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردةِ عنِ غير السَّلفِ. القسمُ الأول: المحتملات اللغوية الواردة عن السلف: الحديثُ عنِ المحتملاتِ اللُّغويَّةِ الواردةِ عنِ السَّلفِ تابعٌ للقاعدةِ السَّابقةِ قبلَها، وذلكَ أنَّه إذا وردَ عنهم أكثرُ منْ مُحْتَمَلٍ لُغويٍّ في تفسيرِ آيةٍ، فإنَّ الأصلَ قبولُها لغةً، وكذا تفسيراً إنْ لَمْ يمنعْ مانعٌ من قبولِها كلِّها في التَّفسيرِ، كأنْ تكونَ مُتضادَّةً، أو لغيرِ ذلكَ منَ الأسبابِ التي ليسَ هذا مَحَلُّها. ومنَ الأمثلةِ الواردةِ عنِ السَّلفِ: تفسيرُ قولِه تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 8]، فقدْ ورد عنهم في معنى «الإلِّ» ثلاثةُ أقوالٍ: الأوَّلُ: اللهُ، وهو قولُ: سعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94) (¬1)، ومجاهدٍ (ت:104) (¬2)، وأبي مِجْلَز (ت:106) (¬3)، وعكرمة (ت:105) (¬4). الثَّاني: القَرَابَةُ، وهو قولُ: ابنِ عباسٍ (ت:68) منْ طُرُقٍ عنه (¬5)، ¬
والضَّحَّاكِ (ت:105) (¬1)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (¬2). الثَّالثُ: العَهْدُ، وهو قولُ مجاهدٍ (ت:104) (¬3)، وعبد الرحمن بنُ زيدٍ (ت:182) (¬4). وعنْ قتادةَ (ت:117): الحِلْفُ (¬5)، وهو بمعنى العَهْدِ والعَقْدِ. وإنَّمَا كَرَّرَ لَمَّا اختلفَ اللَّفظانِ، قالَ ابنُ زيدٍ (ت:182): «لا يرقبونَ فيكم عهداً ولا ذِمَّةً. قال: إحداهما من صاحبتِها كهيئةِ غفورٍ رحيمٍ، قالَ: فالكلمةُ واحدةٌ، وهي تَفْتَرِقُ. قالَ: والعَهْدُ هو الذِّمَّةُ (¬6)» (¬7). إنَّ هذه المحتملاتِ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا من جهةِ اللُّغةِ، لورودها عن السَّلفِ، كما سبق بيانُ ذلك، ومنْ ثَمَّ تكونُ هذه التفسيراتُ مِن مدلولاتِ لفظِ «الإلِّ» اللُّغويَّةِ. وإذا نظرتَ إلى هذه المعاني المختلفةِ، لم تجدْ بينها تَضَادّاً، كما لا يوجدُ مانعٌ آخرُ يمنعُ مِن الحَمْلِ على هذه المعاني جميعاً، ومنْ ثَمَّ، فإنَّه يجوزُ حَمْلُ هذه المعاني جميعِها على الآيةِ. وإن اعْتَرَضَ معترضٌ على المعنى الأوَّلِ بما قالَه الزَّجَّاجُ (ت:311): «وقيلَ الإلُّ: اسمٌ من أسماءِ اللَّهِ. وهذا عندنا ليسَ بالوجهِ؛ لأنَّ أسماءَ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ معروفةٌ معلومةٌ، كما سُمِعتْ في القرآنِ، وتُلِيتْ في الأخبارِ، قالَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فالدَّاعي يقولُ: ¬
يا اللهُ، يا رحمنُ، يا ربُّ، يا مؤمنُ، يا مهيمنُ، ولم يُسْمَعْ يا إِلُّ في الدعاءِ» (¬1). فالجوابُ: إنَّ هذا الاعتراضَ ليسَ بصحيحٍ، لورودِ هذا المعنى عن السَّلفِ العالمينِ بتفسيرِ كتابِ اللهِ، وجَهْلُ الزَّجَّاجِ (ت:311) وغيرِهِ من اللُّغويِّينَ لهذا المعنى لا يعني صِحَّةَ إنكارِهم، ولا يمتنعُ أنْ يكونَ هذا اللَّفظُ بهذا المعنى مِمَّا اشتركتْ فيه اللُّغاتُ فكادَ أنْ يَنْدَرِسَ منْ لغةِ العربِ وبقيَ في اللُّغاتِ التي لها صِلَّةٌ بالعربيَّةِ؛ كالعبريَّةِ التي بقِيَ فيها هذا المدلولُ، وهو يطلقُ على اللهِ سبحانَه، فَحَفِظَ هؤلاء السَّلفُ هذا المعنى وعَلِمُوه، ومنْ حفِظَ حُجَّةٌ على مَنْ لمْ يَحْفَظْ. ومِمَّا يُستأنسُ به في هذا أنَّ بعضَ الأسماءِ العربيَّةِ كانتْ تنتهي بإلٍّ أو إيلٍ، قالَ ابنُ دُرَيدٍ (ت:321): «قال ابنُ الكَلْبِيِّ (¬2): كُلُّ اسمٍ في العربِ آخرُهُ إلٌّ أو إيلٌ، فهو مضافٌ إلى اللهِ عزّ وجل؛ نَحْوُ: شُرَحْبيلَ، وعبدِ يَالِيلَ، وشَرَاحِيلَ، وشِهْمِيلَ، وما أشبَهَ هذا ... وقدْ كانتِ العربُ ربَّما تجيءُ بالإلِّ في معنى اسمِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ، قالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه ـ لما تُلِيَ عليه سَجْعُ مُسَيلِمَةَ ـ: إنَّ هذا شيءٌ ما جاءَ مِنْ إلٍّ ولا بِرٍّ، فأينَ ذهبَ بكم؟!» (¬3). ¬
ولهذا جعلَ بعضُ العلماءِ الإِلَّ نظيرَ ما وردَ في بعضِ الأسماءِ الأعجميَّةِ؛ كجبريلَ، وميكائيلَ، قال أبو مِجْلَزٍ (ت:106) في تفسيرِه لمعنى الإلِّ: «مثل قولِه: جبرائيلَ، ميكائيلَ، إسرافيلَ ـ كأنه يقولُ: يضيفُ جَبْرَ، ومِيكَا، وإسْرَافَ، إلى إيل ـ يقول: عبد الله، {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ} [التوبة: 10]؛ كأنه يقول: لا يرقبونَ اللهَ» (¬1). وفيما وردَ عنْ أبي بكرٍ في خبرِ مُسَيلمَةَ الكذَّابِ، قولُه: «ما خرجَ هذا منْ إلٍّ» (¬2)، قال أبو عُبَيدٍ (ت:224): «قوله: من إلٍّ؛ يعني: من ربٍّ. ويُروى عن الشَّعْبِيِّ أنَّه قالَ في قولِه تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10]، قالَ: اللهُ، أو قالَ رَبّاً. ومِمَّا يُبَيِّنُ هذا، قولُه: جَبْرَئلَّ، ومِيكَائلَّ، إنَّمَا أُضِيفَ جَبْرَ ومِيكَا إلى إلَّ» (¬3). وأقلُّ ما يقالَ إنَّ هذا الاسمَ؛ أعني: الإلَّ، مِمَّا عُرِّبَ، فصارَ كغيرِه مِنَ الأعلامِ المعرَّبَةِ، قالَ الأزهريُّ (ت:370): «وقالَ (¬4): وإيلُ: اسمٌ مِنْ أسماءِ اللهِ بالعِبْرَانِيَّةِ (¬5). ¬
قلتُ: وجائزٌ أنْ يكونَ أُعْرِبَ فقيلَ: إسرائيلُ، وإسماعيلُ؛ كقولِك: عبدُ اللهِ، وعُبَيدُ اللهِ» (¬1). والمقصودُ أنَّ ما ذكرَهُ السَّلفُ منْ تفسيرِ الإلِّ بهذه المعاني، فإنَّه يقبلُ عنهم ولا يُردُّ، وكان هذا مِمَّا يتميَّزُ به الطَّبريُّ (ت:310)، حيث قال: «وأولى الأقوالِ في ذلكَ بالصَّوابِ أنْ يقالَ: إنَّ اللهَ ـ تعالى ذِكْرُه ـ أخبرَ عنْ هؤلاءِ المشركينَ الَّذينَ أمرَ نبيَّه والمؤمنينَ بقتلِهم بعدَ انسلاخِ الأشهرِ الحُرُمِ، وحَصْرِهم، والقعودِ لهم على كلِّ مرصدٍ: أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم إلًّا. والإلُّ: اسم يشتملُ على معانٍ ثلاثةٍ، وهي: العَهْدُ والعَقْدُ والحِلْفُ، والقَرَابَةُ، وهو أيضاً بمعنى: الله. فإذا كانتِ الكلمةُ تشملُ هذه المعاني الثلاثةَ، ولم يكنِ اللهُ خَصَّ من ذلك معنًى دونَ معنًى، فالصَّوابُ أنْ يُعَمَّ ذلكَ كما عَمَّ بها ـ جلَّ ثناؤه ـ معانيَها الثلاثَة، فيقالُ: لا يرقبونَ في مؤمنٍ اللهَ ولا قرابةً ولا عهداً ولا ميثاقاً ...» (¬2). وهذا الذي عَمِلَ به الطَّبريُّ (ت:310) هو الأصلُ في التَّعامُلِ مع ما يَرِدُ عنِ السَّلفِ من التفسيراتِ اللُّغويَّةِ المحتملةِ في الآيةِ، واللهُ أعلمُ. هذا، ويجوزُ في مثلِ هذه المحتملاتِ في بعضِ الأمثلةِ تقديمُ بعضِها على بعضٍ لأسبابٍ تدعو إلى ذلك؛ كأنْ يكونَ السِّياقُ أليقَ بأحدِ هذه ¬
المحتملاتِ، أو أنْ يكونَ بعضُها أغلبَ وأشهرَ في مدلولِ اللَّفظِ، أو غيرُ ذلك. وليسَ في هذا خروجٌ عنِ الأصلِ؛ لأنَّ العملَ هنا على تقديمِ الأولى في معنى الآيةِ، وليسَ على إبطالِ غيرِه، ولو أعْمَلَ أحدٌ جميعَ هذه المعاني المحتملةِ، لكانَ مذهباً معروفاً ولا مَلاَمَةَ في ذلك. والله أعلم. مثالُ ذلك، ما ورد في قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا} [النبأ: 24]، أي: لا يذوقونَ في النَّارِ ـ والعياذُ باللهِ منها ـ ما يُبَرِّدُ عليهم حرارتَها (¬1)، سواءً أكانَ ذلك التَّبريدُ بسببِ الماءِ أو الهواءِ الباردِ، وهذا هو المعنى المشهورُ في اللُّغةِ للبردِ. وقد وردَ قولٌ آخرُ في معنى البردِ، وهو النَّومُ، رواه ابن أبي حاتم (ت:327) عن مُرَّةَ الطَّيِّبِ (ت:76) (¬2)، ونقلَهُ عنْ مجاهدٍ (ت:104) أيضاً (¬3)، وهو قولُ أبي عبيدة (ت:210) (¬4)، وتبعَهُ ابن قتيبة (ت:276) (¬5)، وقالَ به غيرُهم (¬6). وإذا تأمَّلتَ هذين المعنيينِ وجدتَهما متناسبينِ مع السياقِ: ¬
القسم الثاني: المحتملات اللغوية الواردة عن غير السلف
فعلى المعنى الأولِ: لا يذوقون في النَّارِ بردَ الهواءِ أو الماء الذي يُخفِّفُ حرَّ النَّارِ عنهم، ولا شراباً. وعلى المعنى الثاني: لا يذوقون في النَّارِ نوماً ولا شراباً. وكلا المعنيينِ صحيحٌ محتملٌ، غيرَ أنَّ المعنى الأولَ هو الأشهرُ الأظهرُ منْ معاني اللَّفظِ في لغةِ العربِ، قالَ الطَّبريُّ (ت:310): «وزعمَ بعضُ أهلِ العلمِ بكلامِ العربِ أنَّ البردَ في هذا الموضعِ النومُ (¬1) .... والنومُ وإنْ كانَ يُبَرِّدُ غليلَ العطشِ، فقيلَ له منْ أجلِ ذلكَ البردُ، فليسَ هو باسمِهِ المعروفِ، وتأويلُ كتابِ اللهِ على الأغلبِ من معروفِ كلامِ العربِ، دونَ غيرِه» (¬2). وترجيحُ هذا المعنى لا يعني إبطالَ المعنى الآخرِ من جهة اللُّغةِ، كما أنَّه لو حملَها غيرُهُ على المعنيينِ، وجعلَ الآيةَ تدلُّ عليهما؛ على عادة بعضِ الألفاظِ القرآنيَّةِ في احتمالِه تعدُّدَ المعاني = لجازَ، واللهُ أعلمُ. القسم الثاني: المحتملات اللغوية الواردة عن غير السلف: لقدْ تشكَّلَ تفسيرُ السَّلفِ للقرآنِ، وصارَ أحدَ مصادرِ التَّفسيرِ لمنْ جاءَ بعدَهم، ولذا كانَ لزاماً لمنْ أرادَ التَّفسيرَ أنْ يرجعَ إلى أقوالِهم ويعتمدَها في فَهْمِ الآيةِ، وإلاَّ وقعَ في الخطأِ في التَّفسيرِ بسببِ عدمِ معرفةِ أقوالِهم، أو عدمِ الاعتمادِ عليها. ولقدْ كانَ عدمُ معرفةِ أقوالِ السَّلفِ، أو عدمُ الاعتمادِ عليها منْ منهجِ أهلِ البدعِ الذي يتميَّزُونَ به؛ لذا يَنْدُرُ أنْ تجدَ لهؤلاءِ اعتماداً على تفسيرِ السَّلفِ، كما لم يسلمْ منه طائفةٌ منَ اللُّغويِّينَ في بعضِ المواطنِ التَّفسيريَّةِ. ¬
ضوابط قبول هذه المحتملات
وقد كان من نتائجِ هذا المنهجِ أن وُجِدَتْ عندهم أقوالٌ شَاذَّةٌ في التَّفسيرِ، أو اعتراضاتٌ على تفسيرِ السَّلفِ، اعتماداً على تَوَسُّعِ لغةِ العربِ. وإذا نظرتَ إلى هذه القاعدةِ، فإنَّكَ سَتَجِدُ أنَّ قبولَ هذه المحتملاتِ عن غيرِ السَّلفِ ممكنٌ؛ لأنَّ فهمَ القرآنِ لا يقتصرُ على جيلٍ دونَ آخرٍ، لذا لم يقتصرِ التَّابعونَ على ما بلغَهم فيه عن الصَّحابةِ، ولا اقتصرَ تابعو التَّابعينَ على ما وَرَدَهُمْ عنِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ (¬1). غيرَ أنَّ الأمرَ هاهنا يحتاجُ إلى ضوابطَ لقبولِ هذه المحتملاتِ، وقدْ اجتهدتُ في استنباطِها، فظهرَ لي منها (¬2): 1 - أنْ لا تُناقضَ [أي: تبطل] ما جاءَ عنِ السَّلفِ. 2 - أنْ يكونَ المعنى المُفَسَّرُ به صَحِيحاً. ¬
الضابط الأول: أن لا يناقض ما جاء عن السلف
3 - أنْ تحتملَ الآيةُ المعنى في السياقِ. 4 - أنْ لا يُقصَرَ معنى الآيةِ على هذا المحتملِ دون غيره. فإذا انتقضَ شيءٌ من هذه الضوابطِ حُكِمَ على التَّفسيرِ بالرَّدِّ وعدمِ القبولُ، وسأذكرُ في كُلِّ ضابطٍ مثالاً يوضِّح انتقاضَه، وبالله التوفيق. الضابط الأول: أن لا تناقض [أي: تبطل] ما جاء عن السلف: إذا وردَ قولٌ عنِ السَّلفِ في معنى آيةٍ، فإنه لا يجوزُ القولُ بضدِّه، ولا الاعتراضُ على ما جاءَ عنهم، بلْ يكونُ القولُ المناقضُ لقولِهم قولاً مُطَّرَحاً لا عبرةَ به. وقدْ يقعُ ذلكَ بسببِ الجهلِ بقولِهم، أو بسببِ عدمِ الاعتدادِ بهم وبما وردَ عنهم منْ تفسيرٍ، وهذا شأنُ أهلِ البدعِ. ومنَ الأمثلةِ في ذلكَ، قولُه تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]، فقدْ وردَ عنِ السَّلفِ أنَّ البكاءَ منَ الأرضِ والسَّماءِ بكاءٌ حَقِيقِيٌّ، ومنْ ذلكَ ما رواهُ سعيدُ بنُ جبيرٍ (ت:94)، قالَ: «أتى ابنَ عباسٍ رجلٌ، فقال: يا أبا عباسٍ، أرأيتَ قولَ اللهِ تباركَ وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]، فهل تبكي السَّماءُ والأرضُ على أحدٍ؟. قالَ: نعم. إنَّه ليسَ أحدٌ منَ الخلائقِ إلاَّ له بابٌ في السماءِ منه ينْزلُ رزقُهُ، وفيه يصعدُ عملُهُ، فإذا ماتَ المؤمنُ، فأغلِقَ بابُه منَ السَّماءِ الذي كان يصعدُ فيه عملُه، وينْزلُ منه رزقُهُ، بكى عليه. وإذا فَقَدَهُ مُصَلاَّهُ من الأرضِ التي كانَ يُصلِّي فيها، ويذكرُ اللهَ فيها، بَكَتْ عليه. وإنَّ قومَ فرعونَ لم يكنْ لهم في الأرضِ آثارٌ صالحةٌ، ولم يكنْ يصعدُ إلى السَّماءِ منهم خيرٌ، قالَ: فلم تَبْكِ عليهم السَّماءُ والأرضُ» (¬1). ¬
وقدْ وردَ هذا التَّفسيرُ عنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (ت:40) (¬1)، وسعيدِ بنِ جبيرٍ (ت:94) (¬2)، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ (ت:96) (¬3)، ومجاهدَ (ت:104) (¬4)، والضَّحَّاكِ بن مزاحم (ت:105) (¬5)، وقتادةَ (ت:117) (¬6)، وعطاءَ الخُرَسَانِيِّ (ت:135) (¬7). ورُوِيَ في ذلكَ حديثٌ ضعيفٌ عنْ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «ما منْ مؤمنٍ إلاَّ وله بابانِ: بابٌ يصعدُ منه عملُه، وبابٌ ينْزلُ منه رزقُهُ، فإذا ماتَ بَكَيَا عليه، فذلك قولُه عزّ وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]» (¬8). ومن ثَمَّ، فالبكاءُ منَ السماءِ والأرضِ حقيقةٌ، وإنْ لم يَعْلَمِ البشرُ كيفيَّةَ ¬
ذلك (¬1)، ولا يَصِحُّ إنكارُهُ لعدمِ رؤيةِ ذلكَ منهما؛ لأنَّ عَدَمَ المعرفةِ بِكُنْهِ ذلك لا يلزمُ منه عَدَمُ الوقوعِ، وهو من غيبِ اللهِ المستورِ، واللهُ أعلمُ. وقد وردتْ أقوالٌ فيها مُنَاقَضَةٌ لما وردَ عنِ السَّلفِ؛ لأنَّ فيها صَرْفاً للَّفظِ عن ظاهرِهِ، ومنها: 1 - ذهبَ به قومٌ مذاهبَ العربِ في قولِهم: بَكَتْهُ الرِّيحُ والبَرْقُ؛ كأنَّه يريدُ أنَّ اللهَ عزّ وجل حينَ أهلكَ فرعونَ وقومَهُ وغرَّقَهم وأورثَ منازلَهم وجنَّاتِهم غيرَهم، لم يَبْكِ عليهم بَاكٍ، ولم يجزعْ جازعٌ، ولم يُوجَدْ لهم فَقَدٌ (¬2). 2 - وقالَ آخرونَ: أرادَ: فما بكى عليهم أهلُ السَّماءِ ولا أهلُ الأرضِ، فأقامَ السَّماءَ والأرضَ مقامَ أهلِها (¬3). وهناكَ تأويلاتٌ أخرى تَخْرُجُ باللَّفظِ عن حقيقِته (¬4)، اكتفيت بما ذَكَرْتُهُ هنا. هذا ما قالوه في تفسيرِ الآيةِ، فسلَّطوا عليها تأويلاتِهم المنحرفة، كما سلَّطوه على مذهب السَّلفِ فلم يسلمْ من تحريفاتهم، فقد جعلوا تفسيرَهم ليسَ منْ بابِ الحقيقةِ. ¬
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزليُّ (ت:538): «وكذلكَ ما يُرْوَى عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما ـ منْ بكاءِ مُصَلَّى المؤمنِ وآثارِهِ في الأرضِ، ومصاعدِ عملِه ومهابطِ رزقِهِ في السَّمَاءِ ـ تمثيلٌ» (¬1). وإذا كانَ هؤلاءِ لم يَحْتَشِمُوا في ظواهرِ القرآنِ، فَسَلَّطوا عليها التَّأويلَ المزعومَ فيه الرجوعُ إلى الحُجَجِ العقليَّةِ التي هي الدَّليلُ عندَهُم، وعليها تُعْرَضُ ظَوَاهِرُ القرآنِ (¬2)، وهذا المذهبُ بمسمَّى التَّحريفِ أَوْلَى، فإذا كانَ هذا مذهبُهم في ظواهرِ القرآنِ = فمنْ بابٍ أَوْلَى أنْ لا يَحْتَشِمُوا في ألفاظِ منْ سواهُ. والمقصودُ أنَّ هذه التَّفاسيرَ المبتدَعَةَ تُنَاقضُ ما جاءَ عنِ السَّلفِ؛ لأنَّ قولَ السَّلفِ يجعلُ البكاءَ منَ السَّماءِ والأرضِ حقيقةً، كما هو ظاهرُ التَّنْزيل. وهذه الأقوالُ بأجمعِها لا تجعلُ لهما بُكَاءً. ومنْ ثَمَّ، فإنَّ ما ذهبوا إليه ـ من إنكارِ كَونِ السَّماءِ والأرضِ تبكيانِ ـ قولٌ مردودٌ، ولا يؤخذُ به؛ لعدمِ إمكانيَّةِ اجتماعه مع ما قالَه السَّلفُ في معنى الآيةِ، إذ هو مناقضٌ لقولِهم، واللهُ أعلمُ. ¬
الضابط الثاني: أن يكمن المعنى المفسر به صحيحا
الضابط الثاني: أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحاً: المرادُ بذلك أن يكونَ اللَّفظُ المفسِّرُ لألفاظِ القرآنِ وارداً عن العربِ، وهذا الضَّابطُ يفيدُ في رَدِّ التَّفاسيرِ التي يظهرُ عليها الصِّبغةُ اللُّغويَّةُ، وعندَ التَّحقيقِ يظهرُ أنَها لا تَمُتُّ للُغةِ العربِ بِصِلَةٍ، وغالباً ما تظهرُ هذه المعاني عندَ المبتدعةِ، وهي قسمانِ: القسمُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ المعنى اللُّغويُّ مُسْتَحْدَثاً، وقدْ مَرَّ في الفصلِ السَّابقِ ذكرُ مثالٍ له، وهو تفسيرُ الاستواءِ عندَ جمهورِ المبتدعةِ من أهلِ التَّأويلِ (¬1)، وسأكتفي بما قد سبقَ ذِكْرهُ مما يتعلَّقُ بهذا القسمِ. القسمُ الثاني: أنْ يكونَ المعنى المُفَسَّرُ به مُصْطَلَحاً حَادِثاً، ومنْ ثَمَّ، فإنه لا يَمُتُّ لِلُغَةِ العربِ بِصِلةٍ، وتفسيرُ النُّصوصِ بالاصطلاحِ الحادثِ منْ أخطرِ التَّأويلِ وأشنعِهِ؛ لأنه يُبعدُ القرآنَ عنْ مدلولِه العربيِّ إلى مدلولاتٍ ما أَنزَلَ اللَّهُ بها منْ سلطانٍ، يقول ابنُ القيِّمِ (ت:751) ـ في معرضِ ذِكْرِهِ لأنواعِ التَّأويلِ الباطلِ ـ: «الرابع: ما لم يُؤلَفِ استعمالُهُ في ذلك المعنى في لغةِ المُخَاطَبِ، وإنْ أُلِفَ في الاصطلاحِ الحادثِ، وهذا موضعٌ زَلَّتْ فيه أقدامُ كثيرٍ منَ النَّاسِ، وضَلَّتْ فيه أفهامُهم، حيثُ تأوَّلوا كثيراً منْ ألفاظِ النُّصوصِ بما لم يُؤْلَف استعمالُ اللَّفظِ له في لغةِ العربِ البَتَّة، وإنْ كانَ معهوداً في اصطلاحِ المتأخرينَ، وهذا مما ينبغي التَّنَبُهُ له، فإنه حصلَ بسببِهِ منَ الكذبِ على اللهِ ورسولِهِ ما حصلَ؛ كما تَأَوَّلَتْ طائفةٌ قولَه تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] بالحركةِ، وقالوا: استَدلَّ بحركتِه على بطلانِ ربوبيَّتِهِ. ولا يُعْرَفُ في اللُّغةِ التي نزلَ بها القرآنُ أنَّ الأفولَ هو الحركةُ البَتَّةَ في موضعٍ واحدٍ. وكذلكَ تأويلُ «الأحد» بأنَّه الذي لا يتميَّزُ منه شيءٌ عنْ شيءٍ البَتَّةَ. ثمَّ قالوا: لو كانَ فوقَ العرشِ لم يكنْ أَحَداً. فإنَّ تأويلَ الأحدِ بهذا المعنى لا ¬
يعرفُهُ أحدٌ منَ العربِ ولا أهلِ اللُّغةِ، ولا يُعرفُ استعمالُه في لغةِ القومِ في هذا المعنى في موضعٍ واحدٍ أصلاً، وإنَّما هو اصطلاحُ الجَهْمِيَّةِ، والفَلاَسِفَةِ، والمُعْتَزِلَةِ، ومن وافقَهم ...» (¬1). ومنْ ثَمَّ، فكلُّ تفسيرٍ ليسَ له أصلٌ في لغةِ العربِ فهو مردودٌ، وهذا الضابطُ يَرُدُّ كثيراً من التفاسيرِ المبنيَّةِ على المصطلحاتِ الحادثةِ، أيًّا كانتْ، وممنْ كانتْ؛ كتفاسيرِ الرافضةِ، وتفاسيرِ الصوفيَّةِ، وتفاسيرِ الباطِنَّيةِ (¬2)، وتفاسيرِ الفلاسفةِ، والتفاسيرِ المبنيَّة على العلمِ التجريبيِّ العصريِّ، أو ما يُسمَّى ـ مغالطةً ـ بالتَّفسيرِ العصريِّ، وغيرها. وقدْ يكونُ شيءٌ من هذه المصطلحاتِ منْ مصطلحاتِ الأممِ غيرِ الإسلاميَّةِ، فيجتهِدُ الَّذي يتناولُ تفسيرَ الآياتِ في التوفيقِ بينَ ما جاءَ في القرآن، وما جاءَ عند هؤلاءِ الأقوامِ، وكثيراً ما يقعُ هذا عند الفلاسفةِ الَّذين عاشوا في ظلِّ الإسلامِ (¬3). ¬
وعمومُ هؤلاءِ الذينَ يفسرونَ بالمصطلحاتِ الحادثةِ: إمَّا أن يكون قولُهم عنْ جهلٍ. وإمَّا أنْ يكونَ عن هَوًى، فهم يعلمونَ الحقَّ ويخالفونَه. وإمَّا أنْ يجتمعَ فيهم هذان السَّببانِ اللَّذانِ هما سببُ الأقوالِ المنحرفةِ التي يظهر فيها الجرأة على تأويل كتاب الله بلا علم. وسأسوقُ لكلِّ قومٍ من هؤلاءِ مثالاً من تفاسيرهمِ، واللهُ المستعانُ. * من أمثلةِ تفاسيرِ الرَّافضةِ، تفسيرُ قوله تعالى: و {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قالوا: أُولي الأمر: الأئمةُ من أهلِ البيتِ (¬1). وتخصيصُ أولي الأمرِ بأهلِ البيتِ، تحكُّمٌ لا دليلَ عليه، وهو مخالفٌ لتفسيرِ السَّلفِ، وهم فيه على وجهين: ¬
الأول: هم الأمراء (¬1). الثاني: العلماء (¬2). أمَّا مصطلحُ أهلِ البيتِ، وما لَحِقَه من أحكامٍ تخصُّهم عندهم ـ كالعصمةِ وغيرِها ـ فإنَّه جاءَ متأخِّراً، وحملوا عليه الآيةَ، وبنوا عليه وجوبَ طاعتهم دونَ غيرِهم، وغير ذلك من الأحكامِ التي تخصُّ أهلَ البيتِ عندهم. * ومن تفاسيرِ الفلاسفةِ (¬3): تفسيرُ الأفولِ في قولِه تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، حيثُ فَسَّرَهُ بعضُ المعتزلةِ وغيرُهم منَ المبتدعةِ بأنَّه الحَرَكَةُ (¬4)، وقصدوا بذلكَ أنَّ إبراهيمَ نَفَى ألوهيَّةَ هذه الكواكبِ بوجودِ الحَرَكَةِ فيها، والحَرَكَةُ دليلٌ على الحدوثِ، ومنْ ثَمَّ، فإنَّ هذه الكواكبَ مُحْدَثَةٌ مخلوقةٌ، والرَّبُّ لا تجوزُ عليه الحَرَكَةُ، فما جاءَ منَ النُّصوصِ التي فيها من صفاتِ اللهِ الاختياريَّةِ؛ كالنُّزولِ، والمجيءِ، وغيرِها، جعلوها تدلُّ على الحركةِ والانتقالِ، ثُمَّ أَوَّلُوهَا بسببِ هذه الدَّعْوَى. ¬
وقد ردَّ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ (ت:728)، على تفسيرِهم للأفولِ، فقالَ: «... الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ الأُفُولَ هو المَغِيبُ والاحْتِجابُ، ليسَ هو مجرَّدَ الحركةِ والانتقالِ، ولا يقولُ أَحَدٌ ـ لا من أهلِ اللُّغةِ ولا من أهلِ التَّفسيرِ ـ: إنَّ الشمسَ والقمرَ في حَالِ مسيرِهما في السَّماءِ، إنهما آفلانِ، ولا يقولُ للكواكب المرئيَّةِ في السَّماءِ في حالِ ظهورِها وجريانِها: إنها آفلةٌ، ولا يقولُ عاقلٌ لكلِّ مَنْ مَشَى وسَافَرَ وطَارَ: إنه آفِلٌ. الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ هذا القولَ الذي قَالُوه لمْ يَقُلْهُ أحدٌ من علماءِ السَّلفِ أهلِ التَّفسيرِ، ولا من أهلِ اللُّغةِ، بل هو منَ التَّفسيراتِ المُبْتَدَعَةِ في الإسلامِ، كما ذَكَرَ ذلكَ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ (¬1) وغيرُه من علماءِ السُّنَّةِ، وبَيَّنُوا أنَّ هذا منَ التَّفسيرِ المُبْتَدَعِ. وبِسَبَبِ هذا الابتداعِ أخذَ ابنُ سِينَا (¬2) وأمثالُه لفظَ الأفولِ بمعنى الإمكانِ كما قال في إشاراتِه: قال قومٌ: إنَّ هذا الشَّيءَ المحسوسَ موجودٌ لذاتِه واجبٌ لنفسه، لكنْ إذا تذكرتَ ما قيلَ في شرطِ واجبِ الوجودِ لم تجدْ هذا المحسوسَ واجباً، وتَلَوتَ قوله تعالى: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، فإنَّ الهُوِيَّ في حَظِيرَةِ الإمكانِ أُفُولٌ (¬3). فهذا قولُه. ومنَ المعلومِ بالضَّرورِة من لغةِ العربِ أنهم لا يُسَمُّونَ كلَّ مخلوقٍ موجودٍ آفِلاً، ولا كُلَّ موجودٍ بغيرِهِ آفِلاً، ولا كُلَّ موجودٍ يَجِبُ وجودُهُ بغيرِهِ لا بنفسِهِ آفِلاً، ولا ما كانَ من هذه المعاني التي يَعْنِيهَا هؤلاءِ بلفظِ الإمكانِ، ¬
بل هذا أعظمُ افتراء على القرآنِ واللُّغةِ منْ تسميةِ كلِّ متحركٍ آفِلاً. ولو كانَ الخليلُ أرادَ بقولِه: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] هذا المعنى، لم ينتظرْ مغيبَ الكوكبِ والشَّمسِ والقَمَرِ، فَفَسَادُ قولِ هؤلاءِ المتفلسفةِ في الاستدلالِ بالآيةِ أظهرُ منْ فسادِ قولِ أولئكَ. وأعجبُ من هذا قولُ مَنْ قالَ في تفسيرِهِ: إن هذا قولُ المحققينَ (¬1). واستعارتُهُ لفظَ «الهُوِيِّ، والحَظِيرَةِ» لا يوجبُ تبديلَ اللُّغةِ المعروفةِ في معنى الأفولِ، فإنْ وَضَعَ هو لنفسِهِ وَضْعاً آخرَ، فليسَ له أنْ يتلوَ عليه كتابَ اللهِ تعالى فيبدِّله ويحرِّفهُ» (¬2). * ومن أمثلةِ تفسيرِ القرآن بمصطلحاتِ العلمِ التَّجريبيِّ، الذي فُتِنَ به كثيرونَ، فصاروا يُجهِدونَ أنفسَهم في التوفيقِ بين ما في هذه العلوم التَّجريبيَّةِ الحديثةِ وبين نصوصِ القرآن، وقد أتوا في كثيرٍ من الأحيانِ بالطَّوامِّ، ولَيِّ أعناقِ النصوصِ إلى هذه العلومِ؛ كأنها هي الأصلُ، والقرآن تبعٌ لها، ومن أمثلةِ ذلك: يقول الشَّيخ أحمد محيي الدِّين العجوز ـ في كتابه (معالم القرآن في عوالم الأكوان) تحت عنوانِ: «حقيقة الذَّرَّةِ وطاقتها» ـ: «وقال العلماءُ قديماً: أنَّ الجوهرَ الفردَ (الذَّرَّةَ) لا يتجزَّأ (¬3)، ولا يمكنُ له ذلكَ. بيدَ أنَّ علماء الذَّرَّةِ في عصرنا الحديثِ توصَّلوا إلى تجزئةِ الذَّرَّةِ، ¬
وإلى معرفةِ وزنها. واعتبروا أنَّ وزنها (1.66) جزءً من مليونِ مليارِ مليارِ جزءٍ من الغْرَامِ، فسبحان اللهِ الَّذِي خلقَ الذَّرَّةَ ونواتها وما فيها من طاقةٍ وكتلةٍ وقوَّةٍ. وإذ توصَّلَ رجالُ العلمِ الحديثِ إلى تجزئتها، فإنَّ القرآن الكريمَ أعلنَ ذلكَ صراحةً مشيراً لذلكَ بلفظِ (أصغر)؛ أي: أصغر من الذَّرَّةِ، فقال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]. فذكر اللهُ: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، وهو وزنُها، {وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}، وهو جُزْؤها، فيكونُ القرآنُ قدْ سبقَ علماءَ الذَّرَّةِ بذكر ثقلها ووزنها وانقسامها، فكانَ ذلك معجزةً واضحةً» (¬1). وهذا المتعرِّضُ لتفسيرِ هذه الآية ـ كما ترى ـ لم يُجهِدْ نفسَه في البحثِ عن معنى الذَّرَّةِ في لغةِ العربِ ولا في قولِ المفسِّرينَ، إذ لا تجدُ لهم ذِكْراً عنده، بل حملها على مصطلحاتٍ حادثةٍ، فجعلها بمعنى الجوهرِ الفردِ عند المتكلِّمينَ، ثمَّ جعلها الذَّرَّة المعروفةَ في هذا العصرِ في اصطلاحِ الفيزيائيين والكيميائيين (¬2)، وهلْ أُنزلَ القرآن على مصطلحاتِ المتكلمينَ أو منْ جاءَ بعدَهم؟!. ¬
أينَ لغةُ من نزلَ القرآن بلسانهم؟!. إنَّ الذَّرَّةَ بلسانِ العربِ: النَّملةُ الصَّغيرةُ، وهذا هو المعنى المعروفُ من هذا اللَّفظِ، ولذا تجدُ في بعضِ المعاجمِ: «والذَّرُّ: جمع ذرَّة، معروفٌ»؛ أي أنَّ هذا المعنى لا يخفى على أحدٍ يتكلَّمُ هذه اللُّغةَ. وهذا المعنى هو المرادُ هنا، وَرَدَ ذلكَ عنِ ابنِ عباسٍ (ت:68) (¬1). وقالَ الطَّبَرِيُّ (ت:310): «وقوله: {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61]: يعني: من زِنَةِ نملةٍ صغيرةٍ، يُحكَى عن العربِ: خُذْ هَذَا، فَإِنَّهُ أَخَفُّ مِثْقَالاً مِنْ ذَاكَ؛ أي: أخفُّ وزناً (¬2). والذرة: واحدة الذر، والذر: صغار النمل» (¬3). * ومن أمثلةِ التَّفسيراتِ العصريَّةِ الحديثة: 1 - ما ورد في كتابِ (الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة) في تفسير المراد بالجيوب في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]: «والجيبُ ـ كما نعلم ـ: هو فتحةٌ لها طبقتانِ، لا طبقةٌ واحدةٌ؛ لأنَّ الأساسَ في (جيبِ) هو فعلُ (جوب) في اللسانِ العربيِّ، له أصلٌ واحدٌ، وهو الخرقُ في الشَّيء، ومراجعةُ الكلامِ: السؤال والجواب. فالجيوبُ في المرأةِ لها طبقتانِ، أو طبقتانِ مع خرقٍ، وهي: ما بين الثَّديينِ، وتحت الثَّديينِ، وتحت الإبطينِ، والفرج، والأليتينِ (¬4)، هذه كلها جيوبٌ، فهذه الجيوبُ يجبُ على المرأةِ المؤمنةِ أن تغطيها، لذا قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}» (¬5). ¬
وهذا الكلامُ فيه اعتداءٌ على العربيَّةِ، وإدِّعاءٌ عليها في معنى الجيوبِ؛ لأنَّ المعنى الذي ذكره للجيب: «فتحة لها طبقتانِ»، معنًى مُحدَثٌ، وكأنَّه أخذه من المعنى الدارجِ بين العامَّةِ، وهو تسمية المخبأةِ جيباً، وهذا اصطلاحٌ حادثٌ، لم يُعهدْ في لسانِ العربِ، ولا من نزلَ فيهم الخطاب، ومن ثَمَّ لا يصحُّ استنباطٌ معنى لغوي منه، ولا حملُ القرآنِ عليه. والجيبُ في اللُّغةِ مأخوذٌ من مادة (جوب)، أو تكون الياء فيه أصليةً (¬1)، وتكونُ مادة مستقلَّةً، وكلاهما في جميع الأحوالِ يرجعانِ إلى أصلٍ واحدٍ يدلُّ على خرقِ الشَّيء أو قطعه (¬2)، والمرادُ به في الآيةِ طوق الرأس مما يلي الرَّقبةَ، وهو ما يدخلُ فيه الرأسُ، والمعنى في ذلك أنْ تُغطِّيَ المرأةُ رأسها حتى يصلَ خمارُها إلى صدرِها فيتغطَّى منها الجيبُ. وهذا القائلُ، جعلَ معنى الجيبِ: الفتحةَ التي لها طبقتانِ، ثُمَّ حملَ الجيوبَ المذكورةَ على هذا المعنى الذي اختاره، تاركاً بذلكَ المعهودَ من لغةِ العرب، والمعروفَ من معنى الجيوبِ على من نزل القرآنُ بلغتِهم، وفسَّرُوه بفعلِهم، فأسدلوا الخمارَ حتى الصَّدرِ (¬3). 2 - وما ورد في كتاب (مفهوم النَّصِّ/ دراسة في علوم القرآنِ)، حيث ذكرَ المؤلِّفُ في تفسيرِ قوله تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، قال: «المسألةُ الأولى: أنَّ الأمر بالقراءةِ هنا أمرٌ بالتَّرديدِ، و «اقرأ»؛ معناها: «ردِّدْ»، وذلك على خلاف الفهمِ الشَّائعِ حتى الآنَ، والمستقر نتيجةَ تطوّرِ الشَّفاهيةِ إلى التدوينِ ...» (¬4). ¬
الضابط الثالث: أن تحتمل الآية المعاني في السياق
إنَّ هذا القائلَ يُثبتُ بنفسهِ أنَّ هذا المعنى خلافَ الفهمِ الشَّائعِ، فمن أيِّ لغةِ العربِ أخذَ هذا المعنى الجديد الذي جعله تفسيراً لكلامِ اللهِ سبحانَه، وعلى أي أصلٍ بنى تفسيره هذا (¬1). ولو سار قومٌ على مذهبه هذا لخرجَ لكتابِ اللهِ تفسيراتٌ كتفسيراتِ الباطنيَّةِ لا مرجع لها إلاَّ فهمُ القارئ للنَّصِّ، وهو حرٌّ في فهمه، وهذا خطرٌ عظيمٌ، وداءٌ جسيمٌ. إنَّ أي تفسيرٍ للفظٍ من ألفاظ القرآنِ لا يُؤخذ من لغةِ العربِ، فالتفسيرُ به غيرُ صحيحٍ البتَّةَ، وإلاَّ لقالَ كلُّ من هبَّ ودبَّ في القرآنِ، ولا ضابطَ لذلكَ ولا مرجعَ سوى قولِ القائلِ ورأيه واجتهادِه، وهذا يخالفُ الأصولَ العلميَّةَ الثَّابتةَ التي قعَّدَها العلماءُ في دراسةِ كتابِ اللهِ سبحانه. الضابط الثالث: أن تحتمل الآية المعاني في السياق: يظهرُ عند التأمُّلِ أنَّ هذا الضابطَ إنَّما هو نتيجةٌ لصحة سَيرِ الضَّابطَينِ السَّابقَينِ؛ أي: إذا كان التَّفسيرُ لا يناقضُ المنقولَ عنِ السَّلفِ، وهو معنًى صحيحٌ، فإنَّ حكمه في الغالبِ أنَّ تحتملَه الآيةُ. الضابط الرابع: أن لا يُقصَرَ معنى الآية عليها: إذا تَعدَّدتِ المعاني المحتملة للآيةِ، وكانَ هناكَ ما يدعو إلى تقديم قولٍ ¬
على غيرِه من بابِ تقديمِ الأَوْلَى، فلا إشكالَ في ذلكَ، لأنَّ ذلكَ التَّقديم ليسَ فيه إلغاءٌ للأقوالِ الأخرى المحتملَةِ. والمقصودُ هنا أنْ يَقْتَصِرَ على معنًى ويُلْغِيَ غيرَهُ منَ الأقوالِ المحتملةِ إلغاءً تامّاً، وهذا المنهجُ مِمَّا يتميَّزُ به أهلُ البِدعِ، بلْ إنَّهم ـ أحياناً ـ لا يذكرونَ قولَ السَّلفِ، وإنْ ذكروه لم يُحْسنِوا عَرْضَهُ؛ لجهلِهِم بأقوالِ السَّلفِ ومعرفةِ معانيها. ومنَ الأمثلةِ التي وقعَ فيها قَصْرُ اللَّفظِ على أحد محتملاتِه، وإبطالُ غيرِهِ، ما وقعَ في تفسيرِ العِلْمِ في قولِه تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، فقولُه: {مِنْ عِلْمِهِ} يحتملُ معنيينِ: الأوَّلُ: لا يحيطونَ بشيءٍ من معلوماتِهِ. الثاني: لا يحيطونَ بشيءٍ من عِلْمِ ذاتِهِ وصفاتِهِ (¬1). وقد قَصَرَ المبتدعةُ معنى هذا اللَّفظِ على الأَوَّلِ دونَ الثَّاني، إمَّا إنكاراً لِصفَةِ العلمِ الإلهيِّ، وإمَّا إنكاراً لتَبَعُض عِلْمِ اللهِ تعالى. قالَ القاضي عبدُ الجبارِ (ت:415): «فإنْ سألَ المُخالِفُ، فقالَ: إنَّ هذه الآية تدلُ على أنَّه تعالى عَلِمَ بِعِلْمٍ؛ لأنَّه قال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ}. فجوابُه: أنَّ ظاهرَهُ يدلُّ على أنَّ عِلْمَهُ يَتَبَعَّضُ؛ لدخولِ لفظِ التَّبْعِيضِ فيه، فإنْ تَمَسَّكتم بالظَّاهرِ، فقولوا بذلكَ، وإنْ عدلتُم إلى أنَّ المرادَ بذلكَ المعلوماتِ لِيَصِحَّ التبعُّضُ فيها بذلكَ، سَقَطَ التَّعلقُ بالظَّاهِرِ. ¬
والمرادُ بذلكَ: أنهم لا يحيطونَ بشيءٍ منْ معلوماتِه إلاَّ بما شاءَ أنْ يُعْلِمَهُمْ أو يدلَّهم عليه» (¬1). وقال ابنُ عَطِيَّةَ (ت:542): «قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ}، معناه: معلوماته. وهذا كقولِ الخَضِرِ لموسى عليهما السلام ـ حينَ نَقَرَ العصفورُ منْ حرفِ السَّفينةِ ـ: ما نقصَ علمي وعلمُك منْ عِلْمِ اللهِ، إلاَّ كما نقص هذا العصفورُ منْ هذا البحرِ (¬2)، فهذا وما شاكَلَهُ راجعٌ إلى المعلوماتِ؛ لأنَّ عِلْمَ اللهِ تعالى الذي هو صِفَةُ ذاتِهِ لا تَتَبَعَّضُ، ومعنى الآيةِ: لا معلومَ لأحدٍ، إلاَّ ما شاءَ اللهُ أنْ يُعْلِمَهُ» (¬3). وليسَ قَصْرُ معنى «بعلمه» على معنىً واحدٍ بصوابٍ، بلِ الآيةُ تحتملُ الأمرينِ معاً، ولا تعارضَ بينهما، والأولُ يستلزمُ الثاني. قالَ الشيخُ ابنُ عُثيمِينَ (ت:1421): «وعِلْمُ في قولِه: {عِلْمِهِ} مصدرٌ يحتملُ أنَّه على بابهِ، ويحتملُ أنَّه بمعنى: معلومٍ؛ أي: لا يحيطونَ بشيءٍ مما يعلمُهُ اللهُ، إلاَّ بما شاءَ أنْ يُعْلِمَهُمْ إيَّاهُ، هذا احتمال. واحتمالٌ ثانٍ: ولا يحيطونَ بشيءٍ منْ عِلْمِهِ؛ أي: من علمِهِم نفسَهُ وصفاتهِ؛ يعني أنهم لا يحيطونَ بشيءٍ يعلمونَه في نَفْسِ اللهِ، أو في صفاتِه إلاَّ بما شاءَ؛ كما قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255]، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، فالآيةُ محتملةٌ للمعنيينِ جميعاً، وكلاهما صحيحٌ باعتبارِ الآيةِ، فنحنُ لا نعلمُ شيئاً منْ ذاتِ اللهِ أو صفاتِهِ إلا بما شاءَ عِلْمَنَا بهِ، فهو الَّذي أعْلَمَنَا أنَّه استوى على العرشِ، وهو الذي أَعْلَمَنَا على لسانِ رسولِه أنَّه ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، وهكذا بقيةُ صفاتِهِ لا نعلمُها إلاَّ بما شاءَ. وكذلكَ معلوماتُهُ التي يعلمُها في السَّماواتِ وفي الأرضِ، لا نعلمُها إلاَّ بما شاءَ، فهو الذي أَعْلَمَنَا أنَّ هناكَ ملائكةٌ، وهو الذي أَعْلَمَنَا أنَّ هناكَ سبعُ ¬
سماواتٍ، وهكذا بقيَّةُ المعلوماتِ لا نحيطُ بها عِلْماً إلاَّ بما شاءَ اللهُ، حتى المعلوماتِ التي بينَ أيدينا يجهلُها كثيرٌ منَّا، إلاَّ إذا شاءَ أنْ نَصِلَ إلى عِلْمِها، ففي الإنسانِ أشياءٌ لم يصلوا إليها حتى الآنَ، وكانوا يَصِلُونَ إليها شيئاً فشيئاً. فصارتِ الآيةُ شاملةً للمعنيينِ جميعاً، فنحنُ لا نعلمُ شيئاً مما يَعْلَمُهُ اللهُ، حتى فيما يتعلقُ بنا أنفسنا، إلاَّ ما شاءَ اللهُ. كما أنَّنَا لا نحيطُ بشيءٍ يتعلَّقُ بذاتِه وصفاتِه إلاَّ بما شاءَ» (¬1). وهذا هو الحقُّ والصَّوابُ، لا أنْ تُقْصَرَ الآيةَ على معنى ويُنْكَرَ ما تحتملُهُ بسببِ معتقدٍ فاسدٍ، ورأيٍ مناقضٍ لما كانَ عليه سلفُ الأمةِ. ويقربُ منْ هذا أنْ يكونَ للَّفظِ في مدلولِه أكثرَ من أصلٍ في إطلاقِ اللُّغةِ؛ مثلَ لفظِ الحكيمِ، يشملُ لفظَ العلمِ، فكلُّ حكيمٍ عليمٌ، وليسَ كلُّ عليمٍ حكيماً، وكذا لفظُ الخبيرِ يشملُ العليمَ، غيرَ أنَّ في معنى الخبيرِ زيادةٌ في الدلالةِ، وهي العلم ببواطنِ الأمورِ، وهكذا. ومنَ الأمثلةِ التي وقعَ فيها الاقتصارُ على أحد الأصلينِ في معنى اللَّفظِ دونَ غيرهِ، ما وقع من المعتزلةِ في تفسيرِ لفطِ الإذنِ في بعضِ مواطِنه منَ القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]، قال الرُّمَّانِيُّ (ت: 384): «ويقالُ ما معنى الإذنِ هنا؟ الجوابُ فيه قولانِ، الأول: ... الثاني: بإذن اللهِ: بعلمِ اللهِ، منه قوله تعالى: {فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 279]، و {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، و {آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيْدٍ} [فصلت: 37]» (¬2). ¬
مثال للمحتمل اللغوي الذي يمكن قبوله
وتفسيرُ الإذنِ في هذا الموضعِ بالعلمِ تفسيرٌ للَّفظِ بجزءٍ منْ معناهُ؛ لأنَّ الإذنَ في هذا السياقِ يجمعُ بين معنيي الإباحة والعلمِ، وهو الإذنُ الكوني، أي: ما أصابكم يوم التقى الجمعانِ فبمشيئةِ اللهِ وقدرتِهِ (¬1). كما أنَّ تنظيرَه بهذه الآياتِ فيه خطأٌ؛ لأنها من آذنَه بالشَّيء يُؤذِنُه: إذا أعلمه. أمَّا التي في الآية الَّتي يُفسِّرُها، فهي من أَذِنَ بالشَّيء: إذا أباحَهُ له، ومثلُه: أَذِنَ له بالشيء (¬2). والمعنى في ما يَرِدُ به الإذْنُ الكَونِيُّ أنَّه إباحةُ اللهِ للشَّيءِ بالوقوعِ؛ يعني مشيئتَهُ له، وعدمَ ردِّه له، ولا تعني هذه المشيئةُ محبَّةَ اللهِ لما يشاءُ منْ هذه المقاديرِ. أمَّا إذا كانَ الإذنُ شرعياً، فإنَّه من محبوباتِ اللهِ؛ مثل قولهِ تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وقولهِ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، وغيرِها، فهذا الإذنُ في هذه الآياتِ إذْنٌ شرعيٌّ محبوبٌ للهِ سبحانَه، واللهُ أعلمُ. مثالٌ لما انطبقت عليه الضوابط: وبعدُ، فإذا اجتمعتْ هذه الضوابطُ في مثالٍ تفسيريٍّ، فإنَّ المعنى اللُّغويَّ المحتملَ يقبلُ بِنَاءً على هذه القاعدةِ (إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضاد جاز تفسير الآية بها)، وسأذكرُ مثالاً للمحتملِ اللُّغويِّ الذي يمكنُ قَبُولُهُ. * في قولِه تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]، وَرَدَ في تفسيرُ لفطِ «عَرَّفَها» معنيانِ: ¬
الأول: وردَ عنِ السَّلفِ، وبعضِ اللُّغويينَ، والمعنى: أنَّ المسلمَ أعرفُ بدارِه في الجنَّةِ من دارِهِ الَّتِي في الدنيا، ويكون أصل معنى عرَّفها لهم من المعرفةِ والعلمِ بالشَّيء. وقد وردَ هذا التَّفسيرُ بهذا المعنى عنْ: مجاهد (ت:104) (¬1)، وقتادةَ (ت:117) (¬2)، وسلمةَ بن كُهَيلٍ (ت:121) (¬3)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (¬4)، والكَلْبِيِّ (ت:146) (¬5)، وابنِ زيدٍ (ت:182) (¬6). وقالَ به من اللغويين: الفراء (ت:207) (¬7) وأبو عبيدةَ (ت:210) (¬8)، والنَّحَّاسُ (ت:338) (¬9). ويشهدُ لهذا التفسيرِ ما رواهُ الإمامُ البخاريُّ (ت:256) في صحيحِه عن الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا خَلُصَ المؤمنونَ منَ النَّارِ، حُبِسُوا بقنطرة بينَ الجنَّةِ والنَّارِ، يَتَقَاصُّونَ مظالِمَ كانتْ بينهم في الدُّنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُفُّوا، أُذِنَ لهم في دخولِ الجنَّةِ، والَّذي نفسي بيده إنَّ أحدَهم بِمَنْزلِهِ في الجنَّةِ، أهدى منه بمنْزلِهِ الَّذي كانَ في الدُّنيا» (¬10). ¬
الثاني: حكاه ابن قتيبة (ت:276) عن أهل اللغة، والمعنى: طيَّبَها لهم، من قولِهم: طعامٌ مُعَرَّفٌ؛ أي: مُطَيَّبٌ (¬1). وهذا المعنى لا يناقِضُ الواردَ عنِ السَّلفِ، وهو معنًى صحيحٌ منْ جهةِ اللُّغةِ، والآيةُ تحتملُه من غيرِ أنْ يُقْصَرَ عليها هذا المعنى، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، فإنَّه يَصِحُّ التَّفسيرُ به، ويكونَ الاختلاف في هذا المثالِ من اختلافِ التَّنوُّعِ الذي يرجعُ إلى أكثرَ منْ معنًى، وسببُ الاختلافِ: الاشتراكُ اللُّغويُّ في لفظِ «عرَّفَهَا». ومنْ ثَمَّ، فالتَّفسيرُ على هذين المعنيين: ويدخل اللهُ المؤمنينَ الجنَّةَ الَّتِي أعلمهم منازلَهَم فيها، فعرفوها كما يعرفونَ بيوتهَم الَّتِي في الدُّنيا، وطيَّبَها لهم، فجعلها ذاتَ ريحٍ طيَّبةٍ. والله أعلم. ¬
ثالثا: لا يصح اعتماد اللغة دون غيرها من المصادر التفسيرية
ثالثاً لا يصحُّ اعتمادُ اللغةِ دونَ غيرهَا من المصادرِ التفسيريَةِ لا إشكالَ في كونِ اللُّغةِ العربيَّةِ منْ أهمِّ مصادرِ التَّفسيرِ، وأنَّه لا يصِحُّ لمُفَسِّرٍ أنْ يفسِّرَ القرآنَ وهو جاهلٌ بلغةِ العربِ، وقد سبق بيان شيءٍ من هذا. وسيكونُ الحديثُ هنا عن أنَّ اللُّغةَ لا تَسْتَقِلُّ بِفَهْمِ القرآنِ، وأنَّ الاعتماد عليها دونَ المصادرِ الأخرى يُوقِعُ في الغلطِ؛ لأنَّ التفسيرَ الصحيحَ قد يكونُ من جهةِ هذه المصادرِ، أو تكونُ هذه المصادرُ محدِّدةً للمعنى اللُّغويِّ المحتملِ عند تعدُّدِ وجوهِ التَّفسير، ومن أهمِّ هذه المصادرِ: 1 - القرآنُ نفسُه؛ لأنَّه قدْ يفسِّرُ بعضُه بعضاً. 2 - ومعرفةُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ والتَّفسيرِ النَّبويِّ. 3 - ومعرفةُ المصطلحاتِ الشَّرعيَّةِ. 4 - وأقوالُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم. 5 - وأسبابُ النُّزولِ، وقَصَصُ الآيِ، وغيرُها مَمَّا قد يحُفُّ بآيةٍ دونَ غيرِها. فإذا استوعبَ المفسِّرُ هذه المعلوماتِ، وغيرَها من العلومِ التي يحتاجُها، أمكنَه أنْ يجتهدَ في التَّفسيرِ، ويرجِّحَ فيه بينَ الأقاويلِ. وسأذكرُ منَ الأمثلةِ ما يبيِّنُ أنَّ اعتمادها وحدها أوقعَ في مخالفةِ الصَّحيحِ من التَّفسيرِ المعتمدِ على المصادرِ الأخرى، ومنها:
مخالفة المصطلحات الشرعية
1 - مخالفة المصطلحات الشرعيَّة: جاءَ الشَّرْعُ بمصطلحاتٍ جديدةٍ على العربِ، وإنْ كانَ أصلُ اللَّفظِ لا يزالُ باقياً في المصطلحِ، وإنَّما زادَ الشَّرعُ عليه بعضَ الضَّوابطِ، فخرجَ بذلكَ عنْ كونِه حقيقةً لغويةً، إلى كونِهِ مصطلحاً شرعيّاً. وقد كتبَ في هذا الموضوعِ بعضُ علماءِ اللُّغةِ؛ كابنِ قتيبةَ (ت:276) في أوَّلِ كتابِه: غريبِ القرآنِ، وأبي حاتم الرازي (ت:322) (¬1) في كتابهِ: الزِّينةِ في الكلماتِ الإسلاميَّةِ، وابنِ فارسٍ (ت:395) في كتابهِ: الصَّاحبي في فقهِ اللُّغةِ (¬2). كما كتبَ فيه علماءُ أصولِ الفقهِ (¬3) والعقائدِ (¬4) تحت مسمَّى (الحقيقةِ الشرعيةِ)، ونشأ عنْ ذلك قاعدةٌ في ما لو تجاذبَ اللفظَ الحقيقةُ اللُّغويَّةُ والحقيقةُ الشَّرعيَّةُ، أيُّهما يقدَّمُ؟ وكانتِ القاعدةُ: أنَّ الحقيقةَ الشَّرعيَّةَ مقدَّمةٌ على الحقيقةِ اللُّغويَّةِ، لأنَّ الشَّارع مَعْنِيٌّ ببيانِها لا ببيان اللُّغاتِ. والمقصودُ أنَّ الأصلَ في ما جاءَ منَ الأسماءِ الشَّرعيَّةِ في القرآنِ: أنْ يفسَّرَ على مصطلحِ الشَّرعِ، وإن فُسِّرَ على اللُّغةِ فقطْ، كانَ ذلكَ قصوراً وإخراجاً للَّفظِ عن مفهومِهِ الشَّرعيِّ. ¬
وسأذكرُ لذلكَ مثالاً مشهوراً وقعَ في تفسيرِهِ اختلافٌ بينَ طوائفِ الأمَّةِ، وهو تفسيرُ الإيمانِ، والإيمانُ في المصطلحِ الشرعيِّ يشملُ: اعتقادَ القلبِ، وقولَ اللِّسانِ وعملَ الجوارحِ، وهو يزيدُ بالطَّاعةِ وينقصُ بالمعصيةِ. وقالَ قومٌ: هو التَّصديقُ، واستدلوا لذلكَ بأنَّه في أصلِ اللُّغةِ كذلكَ؛ كقولِ الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، قالوا: ما أنتَ بِمُصَدِّقٍ. وقد بَنَوا على ذلك: أنَّ ما في القلبِ منَ الإيمانِ ليسَ إلاَّ التَّصديقُ فقط، دونَ أعمالِ القلوبِ، وأنَّ الإيمانَ الذي في القلبِ يكونُ تامّاً بدونِ شيءٍ من الأعمالِ، التي يجعلونَها من ثمرةِ الإيمانِ. ولما جاءوا إلى تأويلِ الآياتِ التي ذُكِرَ فيها زيادةُ الإيمانِ؛ كقولِه تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وأنكروا أنْ يكونَ في الإيمانِ ذاتِه زيادةٌ؛ لأنه عندَهم هو التَّصديقُ، وهو شيءٌ واحدٌ، لا يُتَصوَّرُ فيه الزيادةُ، وجعلوها زيادةً في متعلَّقاتِه، وليس في ذاتِه (¬1). وجَعْلُ الإيمانِ في اللُّغةِ مجرَّدَ التَّصديقِ فقط فيه قصورٌ في تحصيلِ معناه اللُّغويُّ، وهو تفسيرٌ للشيءِ بِجُزْءٍ من معناهُ؛ لأنَّ أصلَه الثلاثيَّ مِنْ مَادَّةِ أمِنَ، وهي تدلُّ على التَّصديقِ المقرونِ بالثَّقَةِ والسُّكونِ إلى المصدَّقِ به، لا مجرَّد التَّصديقِ. قالَ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ (ت:204): «قالوا للخليلِ: ما الإيمانُ؟ فقالَ: الطُّمَانِينَةُ» (¬2). وقالَ الزَّجَّاجُ (ت:311): «وَحَكَى أبو زيدٍ الأنصاريُّ: ما آمنتُ أنْ أَجِدَ صَحَابةً، أُومِنُ إيماناً؛ أي: ما وَثِقْتُ، فمعنى المؤمنِ ـ إذا وصفنا به ¬
المخلوقين ـ: هو الواثقُ بما يعتقدُهُ، المُسْتَحْكِمُ الثِّقةِ» (¬1). وقال الراغبُ الأصفهانيُّ: «قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، قيل: معناه: بمصدِّقٍ لنا، إلاَّ أنَّ الإيمانَ: هو التَّصديقُ الذي معه أمنٌ» (¬2). والمقصودُ أنَّ تفسيرَ الإيمانِ في اللُّغةِ بأنَّه التَّصديقُ فقط، غيرُ دقيقٍ، بلْ فيه معنًى زائدٌ عنِ التَّصديقِ، كما هو ظاهرٌ من هذه النُّقُولِ، واللهُ أعلمُ. ومن ثَمَّ، فالإيمانُ الشَّرعيُّ يشملُ التَّصديقَ اللُّغويَّ، ويزيدُ عليه تحقيقَ هذا التَّصديقِ بالإتيانِ بالطَّاعاتِ، والبعدِ عنِ المعاصي، فيشملُ عملَ القلبِ واللِّسانِ والجوارحِ بمجموعِها. وهذا المصطلحُ يشبهُ غيرَه منَ المصطلحاتِ الشَّرعيَّةِ الواردةِ في الشَّرعِ؛ كالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والجهادِ، والصَّومِ، والتَّيمُّمِ، والاعتكافِ، وسبيلِ اللهِ، وغيرِها من المصطلحاتِ التي جاءتْ في الشَّرعِ. فالصَّلاةُ ـ مثلاً ـ في اللُّغةِ: الدُّعاءُ، وهي في الشَّرعِ تُطلقُ على أعمالٍ مخصوصةٍ بصفةٍ مخصوصةٍ؛ كصلاةِ الفرضِ، وصلاةِ الكسوفِ والخسوفِ، وصلاةِ العيدينِ، والصلاةِ على الميِّتِ. فالأصلُ اللُّغويُّ باقٍ في هذه الأعمالِ، ولكنَّها غيرُ محدودةٍ فيه، بلْ فيها زيادةُ أقوالٍ وأعمالٍ، فمن الأقوالِ: التَّكبيرُ، والتَّسبيحُ للهِ، والتَّشهدُ، والصَّلاةُ على النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن الأعمالِ القيامُ، والرُّكوعُ والسُّجودُ، والجلوسُ بينَ السَّجدتينِ، والتَّسليمُ، وهذه بمجموعِها هي الصَّلاةُ الشَّرعيَّةُ. وحَمْلُ الإيمانِ على التَّصديقِ فقط، فيه تحكُّمٌ ظاهرٌ على الشَّريعةِ، وإنَّما كانَ هذا القصورُ بسببِ شُبهةٍ عارضةٍ أدَّتْ إلى هذا القولِ الذي عَمَّ ¬
كثيراً منْ كُتُبُ التَّفسيرِ وغيرِها، وليس هذا مكانَ عرضِها؛ لطولِها، وخروجِها عن مقصودِ البحثِ، واللهُ الموفِّقُ. ومِمَّا يدلُّ على أنَّ الإيمانَ ليسَ التَّصديقَ فقط، إطلاقُه على بعضِ الأعمالِ الشَّرعيَّةِ؛ كالصَّلاةِ في قولِه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنْ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] فقدْ أجمعَ السَّلفُ على أنَّ الإيمانَ في هذه الآيةِ الصَّلاةُ، وأنَّ المقصودَ بها صلاتُهم إلى بيتِ المقدسِ، حيث سألوا عنها بعدَ تحويلِ القبلةِ هل تَقَبَّلَ اللهُ منهم ومن إخوانِهم الذين ماتوا قبلَ أنْ يُصَلُّوا إلى الكعبةِ (¬1)؟. فسمَّى اللهُ الصَّلاةَ إيماناً؛ لأنَّها منَ الإيمانِ، من بابِ إطلاقِ الكُلِّ على الجزءِ. أمَّا المخالفونَ لمفهوم المصطلحِ الشَّرعيِّ للإيمانِ، فمن أقوالهم، ما قاله الواحديُّ (ت:468): «والمفسرون يجعلون الإيمانَ ههنا بمعنى: الصَّلاةِ، ويمكنُ أنْ يُحملَ الإيمانُ ههنا على ما هو عليه من معنى التَّصديقِ، فيكونُ معنى الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ يعني: تصديقَكم بأمرِ القبلةِ» (¬2). وقال الفخرُ الرَّازيُّ (ت:604): «لا نُسَلِّمُ أنَّ المراد منَ الإيمانِ ههنا الصَّلاةُ (¬3)، بلِ المرادُ منه التَّصديقُ والإقرارُ؛ فكأنَّه تعالى قال: إنَّه لا يُضيعُ تصديقَكم بوجوبِ تلكَ الصَّلاةِ. ¬
مخالفة أسباب النزول
سَلَّمْنَا أنَّ المرادَ منَ الإيمانِ ههنا الصَّلاةُ، ولكنَّ الصَّلاةَ أعظمُ الإيمانِ وأشرفُ نتائجهِ وفوائدِهِ، فجازَ إطلاقُ اسمِ الإيمانِ على الصَّلاةِ على سبيلِ الاستعارةِ منْ هذه الجهةِ» (¬1). وهذا مخالفٌ لمرادِ الآيةِ؛ لأنَّ المرادَ ما كانَ اللهُ ليضيعَ عملَكم، وهو الصَّلاةُ، لا تصديقَكم فقط. قال أبو المُظفَّرِ السَّمْعَانِيُّ (ت:489) (¬2): «... {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم، فجعل الصَّلاةَ إيماناً، وهذا دليلٌ على المرجئةِ، حيثُ لمْ يجعلوا الصَّلاةَ منَ الإيمانِ» (¬3). والتصديقُ عندَهم شيءٌ واحدٌ، وهذا القولُ جعلَ التَّصديقَ يتجزَّأُ، فهذا في التصديق بأمرِ الصلاةِ، وهناك غيرُهُ من التصديقِ، ومن ثَمَّ، فقولُهم مخالفٌ لأصلِ مذهبِهم في أنَّ التَّصديقَ شيءٌ واحدٌ. والله أعلم. 2 - مخالفة أسباب النُّزول: العلمُ بسببِ النُّزولِ وقصَّةِ الآيةِ منْ أهمِّ العلومِ للمفسِّرِ، لأنَّه يعينُ على فَهْمِ الآيةِ (¬4). والمرادُ به ما كانَ صريحاً في السَّببيَّةِ، وهو ما وَقَعَ إثْرَ حادثةٍ أو سؤالٍ، أو كان في عبارة المفسِّرِ من الصَّحابةِ ما يدلُّ على صراحةِ السَّببيَّةِ (¬5). ¬
والمقصودُ أنَّ المفسِّرَ إذا جَهِلَ سَبَبَ النُّزولِ، فإنَّه قدْ يَحْمِلُ الآيةَ على مُحْتَمَلٍ لُغَويِّ، ويكونُ المعنى اللُّغويُّ الذي فسَّرَ به غيرَ مقصودٍ، ودليلُ عَدَمِ قَصْدِهِ سببُ النُّزولِ، أو قصَّةُ الآيةِ (¬1). ومنْ أمثلةِ ذلكَ: ما وردَ في تفسيرِ تثبيتِ الأقدامِ من قولِ اللهِ تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، قالَ أبو عبيدةَ (ت:210): «مجازه: يُفرِغ عليهم الصبر، ويُنْزِلُه عليهم، فيثبتون لعدوِّهم» (¬2). وقِصَّةُ نزولِ الآيةِ تدلُّ على أنَّ المعنى اللُّغويَّ الَّذي ذَكَرَه غيرُ مرادٍ، وأنَّ المُرادَ: يُثَبِّتُ أقدامَهم التي يمشونَ بها على الرَّمْلِ كي لا تَسوخَ فيه، كما وردتْ بذلكَ الرِّوايةُ عنِ السَّلَفِ، منها ما قالَ ابنُ عباسٍ (ت:68): «وذلك أنَّ المشركينَ من قريشٍ لما خرجوا لينصروا العيرَ ويقاتلوا عنها، نزلوا على الماءِ يومَ بدرٍ، فغلبوا المؤمنينَ عليه فأصابَ المؤمنينَ الظَّمأُ، فجعلوا يُصَلُّونَ مُجنِبين مُحدثينَ، حتى تعاظَم ذلك في صدورِ أصحابِ رسول صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل اللهُ من السَّماءِ ماءً حتى سالَ الوادي، فشرِبَ المسلمونَ، وملأوا الأسقيةَ، وسَقَوا الرِّكابَ، واغتسلوا من الجنابةِ، فجعلَ اللهُ في ذلكَ طهوراً، وثبَّتَ الأقدامَ وذلكَ أنه كانت بينهم وبين القومِ رَمْلَةٌ، فبعث اللهُ عليها مطراً، فضربها حتَّى اشْتدَّتْ، وثبتتْ عليها الأقدامُ» (¬3). قالَ الطَّبريُّ (ت:310): «وقد زعمَ بعضُ أهلِ العِلْمِ بالغريبِ من أهلِ ¬
مخالفة تفسير السلف
البصرةِ، أنَّ مجازَ قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}: ويُفْرِغ عليهم الصَّبَر، ويُنْزِلُه عليهم، فيثبتونَ لعدوِّهم. وذلكَ قَولٌ خِلاَفٌ لِقَولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وحَسْبُ قولٍ خطأً أنْ يكونَ خلافاً لقولِ منْ ذَكَرْنَا. وقدْ بيَّنَّا أقوالَهم فيه، وأنَّ معناه: ويُثَبِتَ أقدامَ المؤمنينَ بتلبيدِ المطرِ الرَّمْلَ حتَّى لا تَسُوخَ فيه أقدامُهم وحوافرُ دوابِّهم» (¬1). 3 - مخالفة تفسير السَّلف: لقدْ كانَ الاعتمادُ على اللُّغةِ، وإهمالُ الواردِ عن السَّلفِ من التَّفسيرِ اللُّغويِّ أحدَ أسبابِ مخالفةِ تفسيرِ السَّلفِ، وقدْ يكونُ القولُ مما لا تحتملُه الآيةُ مع قولِ السَّلفِ (¬2)، ومن ذلك: ما وردَ في تفسيرِ السَّلوى من قولِهِ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، فالسَّلوى: طَيرٌ، بإجماعٍ منْ مفسري السَّلفِ، وإن اختلفوا في صفته (¬3). ¬
مناقشة من زعم الاكتفاء بلغة العرب في التفسير
ونُقِلَ عنْ مُؤَرِّجٍ (ت:195)، أحدِ علماءِ اللُّغةِ: أنَّه العَسَلُ، واستدلَّ له بقولِ الهُذَلِيِّ (¬1): وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْداً لأنْتُمُ ... ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذا مَا نَشُورُهَا وذكرَ أنَّه كذلكَ بِلُغَةِ كِنَانَةَ (¬2)، وسُمِّيَ العسلُ بالسَّلوى؛ لأنه يُسْلَى به (¬3). وكَونُ السلوى في لغةِ العربِ: العَسَلُ، لا يلزمُ منه صحَّةُ حملِه على معنى السَّلْوَى في الآية، قالَ ابنُ الأعرابيِّ (ت:231): «والسَّلوى: طائرٌ، وهو ـ في غيرِ القرآنِ ـ العَسَلُ» (¬4). وهذا هو الحقُّ. ولو أردتَ أن تحملَ الآيةَ على المعنيينِ، فإنَّ الآيةَ لا تحتملُهما معاً، ولذا يتعيَّنُ حملُها على أحدِهما، ولا شكَّ أنَّ الأولى حملُها على الواردِ عنِ السَّلفِ. ومنْ هذا المثالِ يتَّضِحُ أنَّ بعضَ المحتملاتِ اللُّغويَّةِ لا يمكنُ أنْ يحتملَها المعنى في الآيةِ، كما سبقَ بيانُه في القاعدةِ السابقةِ، واللهُ أعلمُ. وبعدَ هذه الأمثلةِ أرجعُ إلى مناقشةِ بعضِ من زعم الاكتفاءَ بلغةِ العربِ في فهم التَّفسيرِ، فأقول: قال أبو حيَّان (ت:745): «ومن أحاط بمعرفةِ مدلول الكلمةِ وأحكامِها قبلَ التَّركيبِ، وعَلِمَ كيفيَّةَ تركيبِها في تلكَ اللُّغةِ، وارتقى إلى تمييزِ حُسنِ تركيبها وقُبحِه، فلن يحتاجَ في فَهمِ ما تركَّبَ من تلكَ الألفاظِ ¬
إلى مُفهِّمٍ ولا معلِّمٍ، وإنَّما تفاوتَ النَّاسُ في إدراكِ هذا الذي ذكرناه، فلذلكَ اختلفتْ أفهامُهم، وتباينتْ أقوالُهم. وقد جرينَا الكلامَ يوماً مع بعضِ من عاصَرَنا، فكانَ يزعمُ أنَّ علمَ التَّفسيرِ مضطرٌّ إلى النَّقلِ في فهم معاني تراكيبِه بالإسناد إلى مجاهد وطاووس وعكرمة وأضرابِهم، وأنَّ فَهْمَ الآياتِ متوقِّفٌ على ذلكَ. والعجبُ له أنَّه يرى أقوالَ هؤلاءِ كثيرةُ الاختلافِ، متباينةُ الأوصافِ، متعارضةٌ، ينقضُ بعضُها بعضاً ... وكان هذا المعاصرُ يزعمُ أن كل آيةٍ نقل فيها التَّفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل إلى الصحابة، ومن كلامه أنَّ الصحابةَ سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسيرها هذا (¬1) ...» (¬2). ¬
ويظهر أنَّ تخصُّصَ أبي حيَّانَ (ت:745) العلميَّ قد أثَّرَ عليه في هذه النَّظريَّةِ التي تبنَّاها، وهي، وإن كانَ فيها جانبٌ من الصِّحَّةِ (¬1)، أنَّها ليستْ على هذا الإطلاقِ الَّذي ذكرَه، بل الصوابُ أنَّ اللُّغةَ مصدرٌ من مصادرِ التَّفسيرِ، وهي وإن كانت من أكبرِ مصادرِه إلاَّ أنَّها لا يُمكن أن تستقِلَّ بفَهمِ القرآنِ، قال القرطبيٌّ (ت:671) (¬2) مشيراً إلى ذلك: «... فمن لم يُحكِمْ ظاهرَ التَّفسيرِ، وبادرَ إلى استنباط المعاني بمجردِ فهمِ العربيَّةِ، كَثُرَ غلطُه، ودخلَ في زمرة من فسَّرَ القرآنَ بالرَّأي. والنَّقلُ والسَّماعُ لا بدَّ له منه في ظاهرِ التَّفسيرِ أوَّلاً؛ لِيَتَّقِيَ به مواضعَ الغلطِ، ثُمَّ بعدَ ذلك يتسعُ الفهمُ والاستنباطُ. والغرائبُ التي لا تفهمُ إلا بالسَّماعِ كثيرةٌ، ولا مطمعَ في الوصولِ إلى الباطنِ قبلَ إحكامِ الظَّاهرِ؛ ألاَ تَرَى أنَّ قولَه تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 50] معناه: آيةً مبصرةً، فظلموا أنفسَهم بقتلِها؛ فالنَّاظرُ إلى ظاهرِ ¬
دعوة معاصرة في هذا الباب
العربيَّةِ يظنُّ أنَّ المرادَ به: أنَّ النَّاقَةَ كانت مبصرةً، ولا يدري بماذا ظلموا، وأنَّهم ظلموا غيرَهم وأنفسِهم، فهذا من الحذفِ والإضمارِ» (¬1). ولهذا عدَّ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة (ت:728) الاعتمادَ على اللُّغةِ وحدها أحد أسباب الخطأ (¬2)، وهذه ظاهرٌ في الأمثلةِ السَّابقةِ، واللهُ أعلمُ. دعوةٌ معاصرة: يقربُ من الزَّعمِ باكتفاءِ علمِ العربيَّةِ عن غيرِه في فهمِ القرآنِ، وما نادى به أمين الخولي فيما سمَّاه: التَّفسيرَ الأدبيَّ للقرآنِ، الذي أهملَ فيه مصادرَ التَّفسيرِ، ورأى دراسةَ القرآنِ على أنَّه نصٌّ عربيٌ، يحقُّ لأيِّ عربيٍّ كائناً من كانَ في معتقدِه، يحقُّ له أنْ يدرسَه درساً أدبيًّا، ومما قالَه بهذا الصَّدَدِ تحت عنوانِ (القرآنُ كتابُ العربيَّةِ الأكبرُ) ما يأتي: قال: «... فالعربيُّ القُحُّ، أو من ربطته بالعربيَّةِ تلك الروابطُ، يقرأ هذا الكتابَ الجليلَ، ويدرسُه أدبياً، كما تدرسُ الأممُ المختلفةُ عيونَ آدابِ اللُّغاتِ المختلفةِ، وتلكَ الدِّراساتُ الأدبيَّةُ لأثرٍ عظيمٍ كهذا القرآنِ هي ما يجبُ أن يقومَ به الدارسونَ أوَّلاً وفاءً بحقِّ هذا الكتابِ، ولو لم يقصدوا الاهتداءَ به، أو الانتفاعَ بما حوى وشمل، بل هي ما يجبُ أن يقومَ به الدارسونَ أوَّلاً، ولو لم تنطو صدورهم على عقيدةِ ما فيه، أو انطوتْ على نقيضِ ما يردِّدُه المسلمونَ الذين يعدُّونَه كتابَهم المقدَّسَ، فالقرآنُ كتابُ الفنِّ العربيِّ الأقدسِ، سواءٌ أنظرَ إليه الناظِرُ على أنَّه كذلك في الدِّينِ أم لا. وهذا الدرسُ الأدبيُّ للقرآنِ في ذلك المستوى الفنِّي، دون النظر إلى أيِّ اعتبارٍ دينيٍّ، هو ما نعتدُّه وتعتدُّه معنا الأممُ العربيَّةُ أصلاً، العربيَّةُ اختلاطاً؛ مقصداً أوَّلَ، وغرضاً أبعد، يجبُ أن يسبقِ كلَّ غرضٍ، ويتقدَّمُ كلَّ مقصدٍ. ¬
ثمَّ لكلِّ ذي غرضٍ أو صاحبِ مقصدٍ ـ بعد الوفاء بهذا الدرسِ الأدبيِّ ـ أن يعمدَ إلى ذلكَ الكتابِ، فيأخذَ منه ما يشاءُ، ويقتبسَ منه ما يريدُ، ويرجع إليه فيما أحبَّ من تشريعٍ، أو اعتقادٍ أو أخلاقٍ، أو إصلاحٍ اجتماعيٍّ، أو غير ذلك. وليسَ شيءٌ من هذه الأغراضِ يتحقَّقُ على وجهه إلا حينَ يعتمدُ على تلك الدراسةِ الأدبيَّةِ لكتابِ العربيَّةِ الأوحدِ، دراسةً صحيحةً مفهمةً له (¬1)، وهذه الدراسةُ هي ما نُسمِّيه اليوم تفسيراً؛ لأنَّه لا يمكنُ بيانُ غرضِ القرآنِ ولا فهم معناه إلاَّ بها ...» (¬2). وقد طرح نظريَّتَه في التَّطبيقِ لهذا المنهجِ، وتتلخَّصُ فيما يأتي: 1 - دراسة المفردات دراسةً لغويَّةً. 2 - دراسة استعمال القرآن للمفردة، بتتبع مواردها فيه، واستنباطِ معناها منه. 3 - دراسة المركَّبات ـ أي: الجمل ـ ويستعينُ في ذلك بالعلوم الأدبيَّةِ من نحو وبلاغة ... 4 - مراعاة التفسير النفسي؛ لأنَّ الفنونَ ـ ومن بينها الأدبُ ـ ليست إلاَّ ترجمة لما تجده النفس (¬3). وإذا ما تأمَّلتَ في هذه النَّظريَّةِ الجديدةِ التي يظهرُ على مُحيَّاها صعوبةُ التَّطبيقِ، وجدتَها تخلو من الاعتمادِ على مصادرِ التَّفسيرِ الأصيلةِ، سوى اللُّغةِ التي لم تسلمْ كُتُبها من نقدِه أيضاً (¬4). ¬
ولقد حاولتْ تلميذتُه في هذا المنهجِ الدكتورة عائشة عبد الرحمن، المعروفة ببنت الشاطئ، حاولت أن تُطبِّقَ هذا المنهج، فظهرَ جليًّا ازدراءُ هذا المنهجِ للمصادرِ الأخرى في التَّفسيرِ، وإليكَ هذا المثالُ الذي يوضِّحُ ذلك: وفي تفسير سورة الضُّحى، تقول بنتُ الشَّاطئ ـ بعد أن ساقت الرِّواياتِ في سبب النُّزولِ ـ «ولا نقفُ عند ما اختلفوا فيه، فأسبابُ النُّزولِ لا تعدو أن تكونَ قرائنُ مما حولَ النَّصِّ، وهي باعترافِ الأقدَمينَ أنفسهم لا تخلو من وهمٍ، والاختلافُ فيها قديمٌ، وخلاصةُ ما انتهى إليه قولهم في أسباب النُّزولِ: أنها ما نزلت إلاَّ أيَّامَ وقوعهِ، وليسَ السَّببُ فيها بمعنى السببيَّةِ الحُكميَّةِ العلِّيَّةِ» (¬1). فانظرْ عدمَ اعتدادِها بما يحفُّ النَّصَّ من ملابساتٍ، وعدمَ تحريرها في أسبابِ النُّزولِ، وعدمَ فهمِها لها، ويظهر ذلك بهذه النتيجةِ التي وصلتْ إليها في الحكم على ما توصَّل إليه الأقدمونَ بزعمِها. وإذا قرأتَ في ما كتبته في التَّفسيرِ الأدبيِّ، ظهرَ لك جليًّاً أنَّ هذه الدِّراسةَ لا تعتدُّ إلاَّ بما تتوصَّلُ إليه هي، معتمدةً على اللُّغةِ في تحليلِ ألفاظِ الآيِ، غير آبِهةٍ بمصادر التَّفسيرِ الأخرى، فلا تجد عندها إلاَّ الإزراء بتفاسيرِ السَّلفِ ونقدها، ومن ذلك أنها ذكرت ما ورد في تفسيرِ قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2]، ثُمَّ قالتْ: «واستعمالُ الزِّيارةِ بهذا المعنى صريح الإيحاءِ بأنَّ الإقامةَ في القبر ليست دائمةً، وإنما نحن فيها زائرون، والزائرُ غيرُ مقيمٍ، وسوف تنتهي الزِّيارةُ حتماً إلى بعثٍ وحسابٍ وجزاءٍ، وهذا الإيحاءُ ينفردُ به لفظُ «زرتُم» دونَ غيرِه، فلا يُمكنُ أن يؤدِّيه لفظٌ آخرُ؛ كأن يقال: صرتم، أو رجعتم، أو انتهيتم، أو أُبتم، أو أُلتم. وليس القبرُ المصيرَ والمرجعَ والمآبَ والمآل، كما لا يقال: سكنتم ¬
قاعدة ليس كل ما ورد في اللغة يلزم وروده في القرآن
المقابر، أو أقمتم بها إلى غير ذلك من ألفاظ تشتركُ كلُّها في الدلالةِ على ضجعةِ القبرِ، ولكن يعوزها سرُّ التَّعبيرِ الدَّالِّ على أنها زيارةٌ؛ أي: إقامةٌ عابرةٌ مؤقَّتةٌ، يعقبها بعث ونشورٌ. وليسَ بعجيبٍ أن يفوتَ هذا السِّرُ البيانيُّ مفسِّرينَ كان جهدُهم أن يجمعوا كل ما يُمكنُ أن تحتملَه الدلالاتُ المعجميَّةُ لزيارةِ المقابرِ، وشتَّى المرويَّاتِ في تأويلها. حتَّى الذين فسَّروا الزيارة بالموت هنا، لم يلتفتوا إلى سرِّه البيانيِّ، وهو ما لم يَفُتْ أعرابياً سمع الآيةَ، فقال: بُعِثَ القومُ للقيامةِ وربِّ الكعبةِ، فإنَّ الزائرَ منصرفٌ لا مقيمٌ، ورُوِيَ كذلك عن عمر بن عبد العزيز نحوٌ من قول الأعرابيِّ ...» (¬1). إنَّ المطالبةَ بدراسةِ القرآنِ على أنَّه نصٌّ عربيٌّ، وتفريغَه من المحتوى الشرعيِّ الذي يُحيطُ به = دعوةٌ باطلةٌ زائفةٌ مغرضةٌ، ليس قصدُ أصحابِها إلاَّ الهدمَ والنَّخرَ في جسمِ هذه الأمَّةِ، ومحاولةَ النيلِ من تراثِها الفكريِّ الذي يُمثِّلُ لها ثباتاً في القيمِ والأخلاقِ والعقائدِ (¬2)، وهذه الدَّعوى تحتاجُ إلى بسطٍ أكبرَ من هذا المبحثِ، وإنما ذكرتُها للتَّنبيهِ عليها. قاعدةُ ناشئةٌ على القاعدةِ السابقةِ: وينشأ عن هذه القاعدة قاعدةٌ أخرى، وهي: ليس كلُّ ما وردَ في اللُّغةِ يلزمُ أن يكونَ وارداً في القرآنِ. ويمكن القول: كلُّ ما في القرآنِ، فهو عربيٌّ، وليسَ كلُّ استعمالٍ عربيٍّ ¬
في القرآنِ، وأغلبُ ما يقعُ ذلك في الأساليبِ الكلاميَّةِ العربيَّةِ، ومن أمثلةِ ما نصَّ عليه علماءُ العربيَّةِ في ذلك: * قال ابن قتيبةَ (ت:286): «ومن المقلوبِ ما قُلبَ على الغلطِ؛ كقولِ خِداش بن زُهيرٍ (¬1): وتُرْكَبُ خَيلٌ لا هَوَادَةَ بَينَهَا وَتَعصِي الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ أي: تعصي الضيَّاطِرةُ بالرِّماحِ، وهذا ما لا يقعُ فيه التَّأويلُ؛ لأنَّ الرِّماحَ لا تعصي الضَّياطرةَ، وإنما يعصي الرِّجالُ بها؛ أي: يطعنون ... وكانَ بعضُ أصحابِ اللُّغةِ يذهبُ في قولِ اللهِ تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] إلى مثلِ هذا في القلبِ، ويقولُ: وقعَ التَّشبيهُ بالرَّاعي في ظاهرِ الكلامِ، والمعنى للمنعوقِ به، وهو الغنم. وكذلكَ قولِ اللهِ تباركَ وتعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]؛ أي تنهضُ بها وهي مُثقَلةٌ. وقالَ آخرُ في قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]؛ أي: وإنَّ حبَّه للخيرِ لشديدٌ. وفي قوله سبحانه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]؛ أي: اجعل المتَّقينَ إماماً لنا في الخيرِ. ¬
وهذا ما لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَحكُمَ به على كتابِ اللهِ عزّ وجل لو لم يجد له مذهباً؛ لأنَّ الشَّعراءَ تقلبُ اللَّفظَ، وتُزيلُ الكلامَ على الغلطِ، أو على طريقِ الضَّرورةِ للقافيةِ، أو لاستقامةِ وزنِ البيتِ، فمن ذلك قولُ لبيد (¬1): نَحْنُ بَنُو أُمِّ البَنِينَ الأرْبَعة ... ...... قال ابن الكلبي (¬2): هم خمسة، فجعلهم للقافية أربعة ...» (¬3). * وفي قوله تعالى: {إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] قال الزَّجَّاج (ت:311): «وذكر بعضهم وجهاً آخرَ، قالوا: فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعينَ هم، وأضمر «هم»، وأنشدَ (¬4): تَرَى أرْبَاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا ... إذَا صَدِئَ الحَدِيدُ عَلَى الحُمَاةِ وهذا لا يجوزُ في القرآنِ، وهو على بدلِ الغلطِ يجوزُ في الشِّعرِ؛ كأنَّه قالَ: يرى أرباقَهم يرى متقلديها؛ كأنَّه قال: يرى قوماً متقلِّدينَ أرباقَهم، فلو كان على حذفِ «هم»، لكانَ مما يجوزُ في الشِّعرِ أيضاً» (¬5). والواجبُ في حملِ القرآنِ على أساليب العرب = أخذُ الحيطةِ، وعدمُ العجلةِ في ذلكَ؛ لأنَّه قد يَحْمِلُ البلاغيُّ ما جاءَ في القرآنِ على الأساليبِ ¬
انتقاد الشاطبي لمن يحمل كلام الله على علم البديع
العربيَّةِ في الخطابِ، والأمرُ ليسَ كما ذهبَ إليه (¬1)، بل قد يتعدَّى الأمرُ إلى الاستشهادِ به في المحسِّناتِ اللَّفظيَّةِ المذكورةِ في علمِ البديعِ، وهذا فيه مزلَّةٌ وقولٌ بالرَّأي على كتابِ اللهِ. وقد انتقدَ الشَّاطبيُّ (ت:790) هذا المسلكَ، فقال: «... وإنما المنكرُ الخروجُ في ذلك إلى حدِّ الإفراطِ الذي يُشكُّ في كونِه مرادَ المتكلِّمِ، أو يُظَنُّ أنَّه غيرُ مرادٍ، أو يُقطعُ به فيه؛ لأنَّ العربَ لم يُفهمْ منها قصدُ مثلِه في كلامِها، ولم يشتغل بالتَّفقُّه فيها سلفُ هذه الأمَّةِ، فما يُؤمننا من سؤالِ اللهِ تعالى لنا يومَ القيامةِ: من أينَ فهمتمْ عنِّي أنِّي قصدتُ التَّجنيسَ الفلانيَّ بما أنزلتُ من قولي: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، أو قولي: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]، فإنَّ في دعوى مثل هذا على القرآنِ، وأنَّه مقصودٌ للمتكلِّمِ به خطراً، بل هو راجعٌ إلى معنى قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وإلى أنَّه قولٌ في كتابِ اللهِ بالرَّأي. وذلكَ بخلافِ الكنايةِ في قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43، المائدة: 6]، وقوله: {كَانَا يَاكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، وما أشبَه ذلك، فإنَّه شائعٌ في كلامِ العربِ، مفهومٌ في مساقِ الكلامِ، معلومٌ اعتبارُه عندَ أهلِ اللَّسانِ ضرورةً. والتَّجنيسُ ونحوهُ ليسَ كذلكَ، وفرقُ ما بينهما خدمةُ المعنى المرادِ وعدَمُه، إذ ليسَ في التَّجنيسِ ذلك. والشَّاهدُ على ذلكَ ندورهُ عن العربِ الأجلاف البوَّالينَ على أعقابِهم ـ كما يقولُ أبو عبيدةَ ـ (¬2)، ومن كان نحوَهم، وشهرةُ الكنايةِ وغيرِها، ولا تكادُ ¬
تجدُ ما هو نحو التَّجنيسِ إلاَّ في كلامِ المولَّدينَ ومن لا يُحتجُّ به» (¬1). والمقصود من ذلك أنَّه لا يلزمُ من كونِ هذا الأسلوب وارداً عند العربِ في مخاطباتِها وكلامِها، أنْ يُحملَ عليه شيءٌ من آيات القرآنِ، بل لو صحَّ حملُ آيةٍ على أسلوبٍ، فإنَّه لا يلزمُ منه صحَّةُ حملِ هذا الأسلوبِ في آيةٍ قرآنيَّةٍ أخرى، كأسلوبِ المشاكلةِ (¬2) في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، فسمَّى الثَّانية سيئةً لأجل مشاكلةِ الأولى باللَّفظِ لا المعنى. وصِحَّةُ هذا الأسلوبِ هنا، لا تكونُ دليلاً على صحَّتِه في مثلِ قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] أو غيرِها من صفاتِ الله التي لم ترد ابتداءً، بل هي مقابل عملٍ من أعمال الكفار، كالمكر والخداعِ، فإنها تُحملُ على الحقيقةِ، ولا يصحُّ تأويلُها، والله أعلمُ. ¬
رابعا: لا تعارض بين التفسير اللفظي والتفسير على المعنى
رابعاً لا تعارض بين التفسير اللَّفظي والتفسير على المعنى تَادِيَةُ المعاني تكونُ بألفاظٍ مقاربةٍ للَّفظِ المفسَّرِ، لكي يبينَ المرادُ منه، هذا هو الأصلُ، وهو التَّفسيرُ اللَّفظيُّ الذي تسيرُ عليه معاجمُ اللُّغةِ، ولكن المفسِّرَ قد يتركُ هذا الأسلوبَ لحاجةٍ تدعوه لذلك، فيسلكُ التَّفسيرَ على المعنى، أو يسلكُ التَّفسيرَ على القياسِ، ولا بُدَّ أن يكونَ في هذين القسمينِ ارتباطٌ بالأصلِ اللُّغويِّ؛ أي: لا يكونُ بين تفسيرِه بهما وبينَ التَّفسيرِ اللَّفظيِّ تناشُزٌ، بل لا بُدَّ من وجودِ أصلِ التفسيرِ اللَّفظيِّ فيهما، وهذه الأقسامُ الثلاثةُ هي التي يدور عليها تفسيرُ الناس. قالَ ابن القيِّم (ت:751): «وتفسيرُ النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ: تفسيرٌ على اللَّفظِ، وهو الَّذي ينحو إليه المتأخِّرونَ. وتفسيرٌ على المعنى، وهو الَّذي يذكرُهُ السَّلفُ. وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ، وهو الَّذي ينحو إليه كثيرٌ من الصُّوفيَّةِ وغيرِهم» (¬1). وإليكَ بيان هذه المصطلحات: * التفسيرُ على القياسِ والإشَارةِ: التَّفسيرُ على القياسِ: إلحاقُ معنًى باطنٍ في الآيةِ بظاهرِها الَّذي يدلُّ عليه اللَّفظُ. ¬
والتَّفسيرُ على الإشارةِ يدخلُ في التفسيرِ على القياسِ، كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلامِ ابن تيمية (ت:728)، فقال: «تلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاقِ ما ليس بمنصوصٍ بالمنصوصِ، مثل الاعتبارِ والقياسِ الذي يستعمله الفقهاءُ في الأحكامِ» (¬1). وقال أيضاً: «وأمَّا أربابُ الإشاراتِ الذين يُثبتونَ ما دلَّ عليه اللَّفظُ، ويجعلونَ المعنى المُشَارَ إليه مفهوماً من جهةِ القياسِ والاعتبارِ، فحالهم كحالِ الفقهاءِ والعالمينَ بالقياسِ، وهذ حقٌّ إذا كانَ صحيحاً لا فاسداً، واعتباراً مستقيماً لا منحرفاً» (¬2). وهذا القسمُ قليلٌ في تفسيرِ السَّلفِ، وإنما كَثُرَ عندَ الصُّوفيَّةِ، كما ذكر ابن القيِّم (ت:751). وسأذكر لهذا القسم مثالاً لتمامِ الفائدةِ. من أشهرِ أمثلةِ التَّفسيرِ على الإشارِة، تفسيرُ ابن عباسٍ (ت:68) لسورة النَّصرِ بأنها قربُ أجلِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس (ت:68): «كان عمرُ يدخلني مع أشياخ بدرٍ، فكأنَّ بعضهم وَجَدَ في نفسهِ، فقالَ: لِمَ تُدخِلُ هذا معنا، ولنا أبناءٌ مثلُهُ؟! فقالَ عمرُ: إنَّه من حيثُ علمتُم. فدعا ذاتَ يومٍ، فأدخلَه معهم، فما رُئيتُ أنَّه دعاني يومئذٍ إلاَّ ليُريَهم. فقالَ: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟ فقالَ بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفرَه إذا نصرنا وفتحَ علينا. وسكتَ بعضهم، فلم يقل شيئاً. ¬
فقال لي: أكذلك تقولُ يا ابن عباس؟ فقلتُ: لا. قالَ: فما تقولُ. قلتُ: هو أجلُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه الله له، قال: إذا جاء نصرُ الله والفتحُ، وذلك علامةُ أجلكَ، فسبِّح بحمدِ ربك واستغفره إنه كان توَّاباً. فقال عمرُ: ما أعلمُ منها إلاَّ ما تقولُ» (¬1). ومن أمثلةِ التفسيرِ على القياسِ ما ورد في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمُ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] إنها نزلتْ في الخوارجِ (¬2). وإذا نظرتَ إلى سياقِ الآيةِ، وجدتَ أنه في الحديثِ عن بني إسرائيل، كما أنَّ الخوارجَ لم يكونوا عند نزول هذه الآياتِ، وإنما أرادَ المفسِّرُ أنْ يُنِّبه إلى دخولِ الخوارجِ في حكمِ هذه الآيةِ، وأنهم مثالٌ لقومٍ مالوا عن الحقِّ، فأمالَ اللهُ قلوبهم جزاءً وفاقاً لميلِهم، على سبيلِ القياسِ بأمرِ بني إسرائيلَ. وعلى هذا يُقاسُ ما وردَ عن السلفِ في حكايةِ نزولِ بعض الآياتِ في أهلِ البدعِ، أنهم أرادوا التنبيه على دخولهم في حكم الآيةِ، واللهُ أعلمُ. ¬
التفسير على اللفظ
* التَّفسيرُ على اللَّفظِ: التَّفسيرُ على اللَّفظِ: بيانُ معنى اللَّفظةِ في كلامِ العربِ والاستدلالُ على ذلك بالشواهد إن وُجِدَتْ. وهذا هو الأسلوبُ الَّذي تسلُكُه معاجمُ اللُّغةِ؛ ككتابِ العينِ، وكتابِ جمهرةِ اللُّغةِ. وقد سبق الحديث عن التفسيرِ باللَّفظِ (¬1)، ولا حاجةَ لإعادتِه. * التَّفسيرُ على المعنى: التَّفسيرُ على المعنى: بيانُ المرادِ بالآيةِ دونَ النظرِ إلى تحريرِ الألفاظِ في اللغةِ؛ أيْ أنَّ المفسِّرَ لا يلتزِمُ بيانَ المفرداتِ اللغويةِ، بل يذهبُ إلى المعنى المرادِ، ولو بألفاظٍ غيرِ مطابقةٍ لألفاظِ الآية. وبما أنَّ التفسيرَ اللَّفظيَّ هو تفسيرُ اللَّفظِ بمطابقِه من لغةِ العربِ، فإنَّ ما عداه إنْ لم يكنْ قياساً، فهو التَّفسيرُ على المعنى، وهو أنواعٌ كثيرةٌ، منها: 1 - التَّفسيرُ باللاَّزمِ. 2 - التَّفسيرُ بالمثالِ. 3 - ذكرُ النُّزولِ. 4 - بيان المعنى الإجمالي، دون التَّقيُّد ببيان ألفاظِ الآيةِ. 5 - دلالة اللَّفظِ في سياقها، وهو علم الوجوه والنظائر الذي سبق الحديثُ عنه (¬2). وإذا تأمَّلتَ الأمثلةَ الَّتي سأذكرُها، سيتبيَّنُ لك ـ إنْ شاءَ اللهُ ـ أنَّ المفسِّرَ في هذه الأنواعِ يحرصُ على بيانِ المعنى، وإن لم يهتمَّ بتحريرِ مدلولِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ. ¬
هل يمكن معرفة التفسير اللفظي بواسطة التفسير على المعنى؟
ومن الأمورِ المشكلةِ في هذا المبحث أمرانِ: الأول: هل يمكنُ معرفةُ التفسيرِ اللَّفظيِّ بواسطةِ التَّفسيرِ على المعنى؟ الثاني: كيف نُفرِّقُ بين التَّفسيرِ على اللَّفظِ والتَّفسيرِ على المعنى في بعضِ أنواعه؟ وقدْ تأمَّلتُ الأمثلةَ التي استخرجتها كثيراً، ونظرتُ فيها، فظهرَ لي صعوبةُ معرفةِ الدلالةِ اللُّغويَّةِ الخاصَّةِ للَّفظِ في كثيرٍ منَ الأمثلةِ، كما ظهرَ لي أنَّ الأمرَ يحتاجُ إلماماً بأصلِ المفردةِ ومعانيها في لغة العرب إذا كانتْ متعدِّدةَ الدلالةِ، وهذا يتحصَّلُ بجهدٍ. وسأذكرُ مثالينِ في بيانِ هاتينِ المسألتينِ، الأول مشكلٌ والآخرُ متيسِّرٌ. * المثالُ الأول: في قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وردَ عن السَّلفِ ثلاثةُ أقوالٍ في معنى هذا الحشرِ: القولُ الأولُ: جُمِعَتْ، وهو قول قتادةَ (ت:117) (¬1)، والسُّدِّيِّ (ت:128) (¬2). القولُ الثاني: موتها، قال ابن عباس: (ت:68): «حَشْرُ البهائمِ: موتُها، وحَشْرُ كلِّ شيءٍ: الموتُ، غير الجنِّ والإنسِ، فإنهما يوقفانِ يوم القيامةِ» (¬3). وقريبٌ منه قولُ الربيع بن خثيم، قال: «أتى عليها أمرُ الله» (¬4). القولُ الثالثُ: اختلطتْ، قاله أُبَيُّ بن كعبٍ الأنصاريُّ (ت: 30) (¬5). ¬
وإذا نظرتَ في هذه الأقوالَ، وجدتَ أنَّ القولَ الأولَ هو المعنى المشهورُ منْ هذه اللَّفظةِ، قالَ ابنُ فارسٍ (ت:395): «وأهل اللغةِ يقولون: الحشرُ: الجمعُ مع سوقٍ، وكلُّ جمعٍ حشرٌ» (¬1). أمَّا المعنى الثاني، وهو موتها، فقد حُكِيَ في بعضِ كتبِ اللُّغةِ (¬2). وأمَّا المعنى الثالثُ الذي رُوِيَ عن أُبَيِّ بن كعبٍ فلم أجده في كتبِ اللُّغةِ التي بين يديَّ. وهذا التَّفسيرُ هو موطنُ الدراسةِ. ولكَ في هذا التفسير احتمالان: الاحتمالُ الأولُ: أنْ تعتمدَ هذا التفسيرَ لغةً، فتجعلَ من معاني الحَشْرِ الاختلاطَ، لورودِ ذلكَ عن عربيِّ صريحٍ، وهو الصَّحابيُّ أُبيُّ بن كعبٍ الأنصاريُّ. الاحتمالُ الثاني: أنْ تجعلَ هذا التَّفسيرَ من قبيلِ التَّفسيرِ على المعنى، وهو من التَّفسيرِ باللازمِ؛ أي: من لوازمِ الحَشْرِ ـ الذي هو الجمعُ ـ اختلاطُ المحشورينَ بعضِهم ببعضٍ، وبهذا التوجيهِ لا يكونُ معنى الاختلاطِ دلالةً مستقلَّةً، بل هو من لوازم الحَشْرِ، والله أعلمُ. فأيُّ الاحتمالينِ أَوْلَى؟ ¬
ثلاثة أمور يحسن التنبه لها في التفسير على المعنى
في مثل هذا المثالِ وأشباهه تظهرُ صعوبةُ معرفةِ دلالةِ اللَّفظِ من خلالِ التَّفسيرِ على المعنى، كما تظهرُ صعوبةِ تحديدِ التَّفسيرِ على اللَّفظِ والتَّفسيرِ على المعنى، والله الموفِّقُ. *المثال الثاني: من الأمثلةِ التي يسهل استنباطُ المدلولِ اللُّغويِّ فيه: ما رُوِيَ عنْ قتادةَ (ت:117) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، قال: «ألم ترَ إلى صاحب البنيان كيف لا يحبُّ أنْ يختلفَ بنيانُه، كذلك تباركَ وتعالى لا يختلفُ أمرُه (¬1)، وإنَّ الله وصفَ المؤمنينَ في قتالِهِم وصَفِّهِم في صلاتِهم، فعليكم بأمرِ الله، فإنه عصمةٌ لمنْ أخَذ به» (¬2). وإذا تأملتَ هذا النَّصَّ التفسيريَّ، فإنه يَدُلُّكَ على أن قتادةَ (ت:117) يرى أنَّ لفظَ: «مرصوص» مأخوذٌ من التَّرَاصِّ؛ أي: الالتزاقِ، لا من الرَّصَاصِ الذي هو الوجهُ الآخرُ في تفسيرِ هذه اللفظةِ (¬3). ويحسنُ التنبُّه هنا إلى أمورٍ: الأولُ: أنه يمكنُ أنْ يقالَ: إنَّ اتِجَاهَ السَّلفِ إلى التَّفسيرِ على المعنى؛ إنَّمَا كانَ؛ لأنَّ بيانَ المرادِ بالقرآنِ كانَ عندَهُم أهَمَّ مِنْ بيانِ لغتِه التي لم تكنْ خافيةً عليهم، ولم يقعْ عندهم اختلافٌ في عربيتِهِ وعربيةِ ما يفسرونَ به. ¬
* لا بد من وجود ارتباط بين التفسير على المعنى والتفسير اللفظي
الثاني: أنَّه لا بدَّ من وجودِ ارتباط بين التَّفسيرِ على المعنى والتَّفسيرِ اللَّفظي، كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك في الحديث عن علمِ الوجوهِ والنَّظائرِ عند السَّلفِ. الثالثُ: أنه لا يلزمُ منَ التَّفسيرِ على المعنى أن يكون خارجاً عن البيانِ اللُّغويِّ؛ لأنَّه يمكنُ أن يُستنبطَ منه كما مضى، وقد نبَّه على ذلك الزَّجَّاجُ (ت:311)، فقال في تفسيرِ الجبِتِ والطاغوتِ: «قال أهلُ اللغةِ: كلُّ معبودٍ من دونِ الله فهو جِبتٌ أو طاغوتٌ. وقيل: الجِبتُ والطاغوتُ: الكهنةُ والشياطينُ. وقيل في بعض التفسيرِ: الجِبتُ والطاغوتُ هاهنا: حُييُ بنُ أخطبٍ وكعبُ بنُ الأشرفِ: اليهوديان (¬1). وهذا غُير خارجٍ عما قال أهلُ اللغةِ: لأنهم إذا اتبعوا أمرَهما فقد أطاعوهما من دونِ الله عزّ وجل» (¬2). وهذا القولُ من الزجاجِ (ت:311) يعني أنه ليس كلُّ قولٍ لا يكون مطابقاً للمعنى اللغوي أنه خارجٌ عن اللغةِ، لكنَّ الوصولَ إلى هذا الارتباط بينهما يحتاجُ إلى معرفةٍ وإلمامٍ بمدلولِ المادةِ، كما هو ظاهرٌ من هذا المثالِ. وقدْ أشارَ الطبريُّ (ت: 310) في تفسيرِ قولِه تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف: 15] إلى قريبٍ مما أشارَ إليه الزَّجَّاجُ (ت:311)، فقال: «يقولُ أغْرِنِي بشكرِ نعمتِك التي أنعمتَ عَلَيَّ ... وألهمنِي ذلكَ. وأصْلُهُ مِنْ وَزَعْتُ الرَّجُلَ على كذا: إذا دفَعتُه عليه. ¬
يحسن ذكر التفسير اللفظي مع التفسير على المعنى
وكان ابنُ زيدٍ يقول في ذلك ما حدثني يونس (¬1)، قال: أخبرنا ابن وهب (¬2)، قال: قال ابن زيد في قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}، قال: اجعلني أشكرْ نعمتَك. وهذا الذي قالَه ابنُ زيدٍ في قولِه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} وإنْ كانَ يَؤُولُ إليه معنى الكلمةِ، فليسَ بمعنى الإيزَاعِ على الصِّحَّةِ» (¬3). ولذا يحسنُ ذِكرُ المعنى اللغويِّ معَ تفسيرِ السَّلفِ ليزدادَ الوضوحُ في التفسيرِ، ولتُعْرَفَ العلاقةُ بين التَّفسيرِ على المعنى والتَّفسيرِ اللغويِّ. وقدْ أشارَ الواحديُّ: (ت:468) إلى ذلكَ فقالَ: «... وكذلك آياتُ القرآن التي فسَّرها الصحابةُ والتابعونَ، إنما فسَّروها بذكرِ المعنى المقصودِ؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 506]، قال قتادة: إذا قيل له: مهلاً مهلاً، ازدادَ إقداماً على المعصيةِ (¬4). فمنْ أينَ لكَ أنْ تعرفَ هذا المعنى منْ لفظِ الآيةِ؟ إلاَّ بعد الجهدِ، وطولِ التفكُّرِ. وكذلك قولُه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]، قال السُّدِّيُّ: يُعظِّمُ أولياءه في صدوركم (¬5). ¬
فانظرْ: هل يمكنك أنْ تُفرِغُ هذا المعنى في قالبِ هذه الألفاظِ؟ إلاّ بعدَ التَّعبِ في معرفةِ ما ذكره أربابُ النَّحو ...» (¬1). وهذا يعني أنَّ ما يَرِدُ عن السلفِ من تفاسيرَ على المعنى لا تكونُ مطابِقةً لمعنى اللَّفظِ المفسَّرِ في لغة العربِ، لذا يحسُنُ من المفسِّرِ الذي ينقلُ تفاسيرَ السَّلفِ بيانُ المعنى المطابِقِ، ليتَّضِحَ المرادُ، ولتتبيَّنَ وِجْهَةُ قولِ السَّلفِ في الآيةِ. وقال الشَّوكَانِيُّ (ت:1250): «... واشدُدْ يَدَكَ في تفسيرِ كتابِ الله على ما تقتضيه اللغةُ العربيةُ، فهو قرآنٌ عربيٌ كما وصفَه الله، فإنْ جاءكَ التفسيرُ عنْ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فلا تلتفتْ إلى غيرِه، وإذا جاء نهرُ الله بطلَ نهرُ مَعْقِلٍ (¬2). وكذا ما جاء عنِ الصحابة رضي الله عنهم فإنهم منْ جملةِ العربِ ومنْ أهلِ اللغةِ، وممنْ جمعَ إلى اللغةِ العلمَ بالاصطلاحاتِ الشرعيةِ، ولكنْ إذا كان معنى اللفظِ أوسعَ مِمَّا فسَّرُوهُ بهِ في لغةِ العربِ، فعليكَ أنْ تَضُمَّ إلى ما ذكرَه الصحابيُ ما تقتضيهِ لغةُ العربِ وأسرارُها» (¬3). ¬
أمثلة التفسير على المعنى
وبعد هذا أذكرُ أمثلةً للتَّفسيرِ على المعنى، ثمَّ أذكرُ القاعدةَ، والله الموفقُ. أمثلةُ التَّفسير على المعنى: الأول: التفسيرُ باللاّزمِ: المرادُ به: أنَّ المفسِّر يُفسِّرُ اللَّفظَ بلازِمِهِ لا بمطابِقِه، للتنبيهِ على دخولِ هذا اللازم في معنى الآيةِ. واللزومُ أحدُ الدلالات اللَّفظيَّةِ الوضعيَّةِ، التي تُستفادُ من اللَّفظِ عقلاً أو عُرفاً، كالكتابةِ تستلزِمُ كاتباً، والبناءُ يستلزِمُ بنَّاءً، وهكذا (¬1). ومن أمثلته: وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]، قال الطبريُّ (ت:310): «والخاسرونَ: جَمْعُ خاسرٍ، والخاسرونَ: الناقِصُونَ أنفسَهم حظوظَها ـ بمعصيتِهم الله ـ من رحمتِه، كما يَخْسَرُ الرَّجلُ في تجارتِه بأنْ يُوضَعَ من رأسِ مالِه في بيعِه. فكذلكَ الكافرُ والمنافقُ، خَسِرَ بحرمانِ الله إياه رحمتَهُ التي خلقَها لعبادِه في القيامةِ، أحوج ما كان إلى رحمتِه. يقال منه: خَسِرَ الرَّجُلُ يَخْسَرُ خَسْراً وخُسْرَاناً وخَسَاراً، كما قال جريرُ بنُ عطيَّةَ (¬2): ¬
إنَّ سَلِيطاً في الخَسَارِ إنَّه ... أولاَدُ قَومٍ خُلِقُوا أُقِنَّه يعني بقوله: في الخسارِ؛ أي: فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إنَّ معنى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: أولئك هم الهالكون. وقد يجوزُ أنَّ قائلَ ذلك أرادَ ما قلنا من هلاكِ الذي وصفَ الله صفتَه بالصفةِ التي وصفَه بها في هذه الآيةِ بحرمانِ الله إياهُ ما حَرَمَهُ من رحمتِهِ بمعصيتِهِ إياهُ وكفرِهِ به، فَحَمَلَ تأويلَ الكلامِ على معناهُ دونَ البيانِ عن تأويلِ عينِ الكلمةِ بعينِها، فإنَّ أهلَ التَّأويلِ ربما فعلوا ذلك لِعِلَلٍ كثيرةٍ تدعوهم إليه» (¬1). ¬
الثاني: التفسير بالمثال
ومادَّةُ «خَسِرَ» في اللُّغةِ تدلُّ على النَّقصِ (¬1). ويكونُ تفسيرُ من فسَّر بالهلاكِ من التَّفسيرِ باللازمِ؛ أي أنَّ من لازمِ خسارةِ هذا الخاسرِ هلاكُه، والله أعلم. الثاني: التفسيرُ بالمثالِ: وهو أن يعمدَ المفسِّرُ إلى لفظٍ عامٍّ، فيذكرَ فرداً من أفراده على سبيلِ المثالِ لهذا الاسمِ العامِّ، لا على سبيلِ التخصيصِ أو المطابقةِ (¬2). ومن أمثلتِه: 1 - في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57]، فُسِّرَ المَنُّ على أقوال: الأولُ: صَمْغَةٌ تنزلُ على الشجرِ، مثلُ الثَّلجِ. ¬
الثاني: شرابٌ كان ينْزل عليهم، مثلُ العسلِ. الثالث: خبزُ الرُّقاق (¬1). وإذا تأملت هذه الأقوالَ، تبيَّنَ لك أنَّ المنَّ عمومُ ما منَّ الله به على بني إسرائيل، فالمنُّ مِنَ المِنَّةِ، وليس المرادُ به ما ينْزلُ من السَّماء على الشَّجرِ، فينعقدُ كالعسلِ، ويجِفُّ كالصَّمغِ (¬2)، وأنَّ المفسِّرَ ذكرَ من عمومِ ما منَّ الله به على بني إسرائيلَ مثالاً له، ويبقى ما عداه مسكوتاً عنه عنده، ولو سئل عن العمومِ لقالَ به، والله أعلم. ويشهدُ لأنَّ المراد به مجموعُ المِنَنِ، ما رواه ابن أبي حاتم (ت:327) عن سعيدِ بن زيدٍ صلّى الله عليه وسلّم قال: خرج إلينا النبيُّ رضي الله عنه وفي يده كمأةٌ، فقال: «أتدرونَ ما هذا؟ هذا من المنِّ الَّذي أنزل الله على بني إسرائيلَ، وماؤها شفاءٌ للعينِ» (¬3). قال ابن كثيرِ (ت:774): «والغرضُ أنَّ عباراتِ المفسِّرينَ متقاربةٌ في شرحِ المَنِّ، فمنهم من فسَّره بالطعامِ، ومنهم من فسَّره بالشَّرابِ، والظَّاهرُ ـ والله أعلمُ ـ أنه كلَّ ما امتنَّ الله به عليهم من طعامٍ وشرابٍ، وغير ذلكَ، مما ليسَ فيه عملٌ ولا كَدٌّ. فالمنُّ المشهورُ إن أُكلَ وحده كانَ طعاماً حلواً، وإن مُزِجَ معَ الماءِ صارَ شراباً طيِّباً، وإن رُكِّبَ مع غيرِه صارَ نوعاً آخرَ، ولكن ليس هو المرادُ ¬
الثالث: ذكر النزول
من الآيةِ وحده، والدليلُ على ذلكَ قول البخاري ...» (¬1)، ثمَّ ساق الحديث. 2 - في قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] وردَ عن السَّلفِ أقوالٌ في المحرومِ، منها: الأول: الذي ليس له في الإسلامِ سهمٌ. الثاني: الذي أصيبت ثمرته. الثالث: الذي ماتت ماشيته. الرابع: الذي لا ينمى له مال (¬2). والمعنى الجامع لهذه الأقوالِ: أنه الذي لا مالَ له لحرمانٍ أصابه (¬3)، قال الطبريُّ (ت:310): «والصوابُ من القولِ في ذلكَ عندي أنه الذي قد حُرِمَ الرِّزقَ واحتاجَ، وقد يكونُ ذلكَ بذهاب مالِه وثَمَرِهِ، فصار ممن حَرمَهُ الله ذلك، وقد يكونُ بسببِ تعفُّفِه وتركه المسألَةَ، ويكونُ بأنه لا سهم له في الغنيمةِ لغيبته عن الوقعةِ، فلا قولَ في ذلك أولى بالصَّوابِ منْ أنْ تَعُمَّ، كما قال جلَّ ثناؤه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] (¬4). الثالث: ذكر النُّزول: من المعلومِ أنَّ النُّزول على نوعين: الأول: ما يكونُ سبباً مباشراً في نزولِ الآيةِ؛ كأنْ يُسألَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم سؤالاً، فتنْزلَ آيةٌ جواباً لهذا السؤالِ؛ كما في نزولِ صدرِ سورةِ الأنفالِ. والثاني: ما يكونُ غيرَ صريحٍ بالسَّببيَّةِ، وغالباً ما تكونُ العبارةُ فيه: «نزلتْ هذه الآيةُ في كذا». ¬
الرابع: التفسير الجملي
والمرادُ أنَّ العدولَ إلى ذكرِ النُّزولِ الذي على سبيلِ المثالِ دونَ تحريرِ ألفاظِ الآيةِ من جهةِ اللُّغةِ، إنما هو من باب التَّفسيرِ على المعنى (¬1). ومن ذلكَ ما وردَ في نزولِ قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، قال مجاهدٌ (ت: 104): «عرضتُ المصحفَ على ابن عباسٍ ثلاثَ عرضاتٍ، من فاتحةِ الكتابِ إلى خاتمته، أوقفُه عند كلِّ آيةٍ منه، فأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآيةِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، فقال ابن عباسٍ: إنَّ هذا الحيَّ من قريشٍ كانوا يتلذَّذونَ بهنَّ مقبلاتٍ ومدبراتٍ، فلما قَدِمُوا المدينةَ تزوَّجُوا من الأنصارِ، فذهبوا ليفعلوا بهنَّ كما كانوا يفعلون بمكَّةَ، فأنكرنَ ذلكَ وقلنَ: هذا شيءٌ لم نكنْ نُؤتَى عليه. فانتشرَ الحديثُ، حتَّى انتهى إلى رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزلَ الله في ذلك: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، قال: إنْ شئتَ مقبلةً، وإنْ شئتَ مدبرةً، وإن شئتَ باركةً، وإنما يعني بذلكَ موضعَ الولدِ للحرثِ، يقول: ائتِ الحرثَ حيثُ شئتَ» (¬2). ويفهمُ من هذا الأثرِ أنَّ معنى «أنَّى شئتم» في الآيةِ: كيفَ شئتمْ، وابن عباسٍ (ت:68) لم يبيِّنْ مدلولَ هذا اللَّفظِ، وإنَّما يُفهمُ هذا من سببِ النُّزول الذي ذكرَه، والله أعلمُ. الرابع: ذكر المعنى الجملي: المقصودُ بذلكَ أنَّ المفسِّرَ يُبيِّنُ معنى الآيةِ إجمالاً دونَ التَّعرُّضِ لبيانِ مفرداتِها من خلالِ هذا المعنى الإجمالي الَّذي ذكرَه، وقد مرَّ مثالٌ في تفسيرِ قتادة (ت:117) لقوله تعالى: {بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، وكذلكَ تفسيرُ الآيةِ السَّابقةِ، هي قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، حيثُ ¬
نص القاعدة عند الشاطبي
قال ابن عباسٍ (ت:68): «إنْ شئتَ مقبلةً، وإنْ شئتَ مدبرةً، وإن شئتَ باركةً، وإنما يعني بذلكَ موضعَ الولدِ للحرثِ، يقول: ائتِ الحرثَ حيثُ شئتَ» (¬1). وهذا يُفهمُ منه ما سبقَ من أنَّ المرادَ كيفَ شئتَ، والله أعلمُ. وبعد هذا، فإذا وردَ في تفسيرِ لفظٍ، تفسيرٌ على اللَّفظ وتفسيرٌ على المعنى، فإنَّ هذا لا يعني وجودَ التَّعارضِ بينهما، وهذا هو المقصودُ بهذه القاعدةِ، وأنَّ وُجُودَ الاختلافِ بينهما إنما هو بسببِ نظر المفسِّرِ، فالأول نظرَ إلى أصل الوضعِ، والثاني نظر إلى المعنى المرادِ دونَ التَّقيُّدِ بتفسيرِ الألفاظِ على وضعها في الأصلِ، والله أعلم. وقد نصَّ الشَّاطبيُّ (ت:790) على هذا في ذكرِه لأمثلةِ الخلافِ الذي لا يُعتدُّ به، فقال: «أنْ يُذكرَ أحدُ الأقوالِ على تفسيرِ اللُّغةِ، ويُذكرَ الآخرُ على التَّفسيرِ المعنويِّ، وفَرْقٌ بينَ تقريرِ الإعرابِ وتفسيرِ المعنى، وهما يرجعان إلى حكمٍ واحدٍ؛ لأنَّ النَّظرَ اللُّغويَّ راجع إلى تقريرِ أصلِ الوضعِ، والآخرُ راجعٌ إلى تقريرِ المعنى في الاستعمالِ؛ كما قال في قولِه تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73]؛ أي: المسافرين (¬2)، وقيلَ: النَّازلينَ بالأرضِ القَوَاءِ (¬3)، وهي القَفْرُ. وكذلكَ قولُه: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31]؛ أي: داهية تفجؤهم (¬4)، ¬
تطبيقات العلماء في هذه القاعدة
وقيلَ؛ سرية من سرايا رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم (¬1)، وأشباه ذلك» (¬2). وعلى هذا سارَ العلماءُ في التَّفسير على اللَّفظِ والتَّفسيرِ على المعنى، وأنَّه لا تعارضَ بينهما، وقد سبقَ جملةٌ من أمثلةِ التَّفسيرِ على المعنى والتَّفسيرِ على اللَّفظِ، ومن الأمثلةِ التَّطبيقيَّةِ أيضاً: 1 - نقلَ البَيهَقِيُّ (ت:458) (¬3) تفسيرَ الشَّافعي (ت:204) لقولِه تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3]: «لا يكثر من تعولون» (¬4). ثمَّ حكى تخريجَ أحدِ أجلاَّءِ أئمةِ الأدب (¬5)، فقال: «... أنَّ الشَّافعيَّ ذهبَ إلى الأصلِ؛ لأنَّ العَولَ بمعنى الميلِ إنما هو سببٌ، وليس بمطلقٍ في الأشياءِ؛ لأنَّه لا يقالُ للجدارِ: عَالَ، ولا يقالُ: عَالَ عنِ الطَّريقِ: إذا مَالَ عنه. وإنما خُصَّ به موضعُ القَسْمِ؛ لأنَّ العَول أصلُهُ قُوتُ العيالِ، ومنَ العَولِ يتسببُ الميلُ، ومِنَ القسْمِ بينَ الضَّرائرِ في الإنفاقِ وغيرِه يكونُ المَيلُ، فَسُمِّيَ المَيلُ عَولاً. ¬
فذهبَ الشِّافعيُّ رحمه الله إلى أصلِ الكلامِ، وذهبَ المفسِّرونَ إلى المعنى الذي يتسبَّبُ منَ الأصلِ (¬1). والمفسِّرون يفسِّرونَ كثيراً منَ الأشياءِ على المعنى، لا على الأصلِ؛ كقولِه تعالى: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61]، قالوا: من المعذبينَ (¬2)؛ لَمَّا أُحضِروا للتَّعذيبِ» (¬3). 2 - في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، قال ابن عطيَّة: «والمُراغمُ: المُتحوَّلُ والمذهبُ، كذا قالَ ابنُ عباسٍ، والضَّحَّاكُ، والرَّبيعُ (¬4)، وغيرُهم. ومنه قولُ النَّابغةِ الجعديِّ (¬5): كَطَودٍ يُلاذُ بِأرْكَانِهِ ... عَزِيزِ المُرَاغَمِ والمَذْهَبِ وقولُ الآخرِ (¬6): إلَى بَلَدٍ غَيرُ دَانِي المَحَلِّ ... بَعِيدِ المُرَاغَمِ والمُضْطَرَبِ وقال مجاهد: المراغم: المُتَزَحْزِحُ عمَّا يكره (¬7). وقال ابنُ زيدٍ: المُراغَمُ: المُهاجِرُ (¬8). ¬
وقالَ السُّدِّيُّ: المُراغَمُ: المُبتغي المعيشةَ (¬1). قال القاضي أبو محمدٍ رحمه الله: وهذا كلُّه تفسيرٌ بالمعنى، فأما الخاصُّ باللَّفظَةِ، فإنَّ المراغم: موضعُ المراغمة وهو أن يُرغِمَ كلُّ واحدٍ من المتنازعين أنفَ صاحبه بأن يغلبَه على مراده، فكفارُ قريشٍ أرغموا أنوفَ المحبوسينَ بمكَّةَ، فلو هاجر منهم مهاجرٌ في أرض الله لأرغمَ أنوفَ قريشٍ بحصولِه في منعةِ منهم، فتلكَ المنعةُ هي موضعُ المراغمةِ ...» (¬2). 3 - في قولِه تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]، قالَ ابنُ القَيِّمِ (ت:751): «ورُوِيَ عن ابن عباسٍ {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]: يكذبونَ عليه (¬3). وهذا تفسيرٌ بالمعنى، وحقيقةُ الإلحادِ فيها: العدولُ بها عن الصَّوابِ فيها، وإدخالُ ما ليسَ من معانيها فيها، وإخراجُ حقائقِ معانيها عنها، هذه حقيقةُ الإلحاد، ومنْ فعل ذلك فقدْ كذبَ على الله. ففسَّرَ ابنُ عباسٍ الإلحادَ بالكذبِ، وهو غايةُ الملحدِ في أسمائه تعالى، فإنه إذا أدخلَ في معانيها ما ليسَ منها، وخرج بها عن حقائقِها، أو بعضِها، فقدَ عدلَ بها عنِ الصَّوابِ والحقِّ، وهو حقيقةُ الإلحادِ ...» (¬4). 4 - في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ: 27]، قال الطَّاهرُ بنُ عاشورَ (ت:1393): «وقوله: {لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} نفيٌ لرجائِهم وقوعَ الجزاءِ. والرَّجاءُ اشتهرَ في ترقُّبِ الأمرِ المحبوبِ، والحسابُ ليسَ خيراً لهم حتى يُجْعَلَ نفيُ ترقُّبِهِ منْ قبيلِ نفيِ الرَّجاءَ ... ¬
ومنَ المفسرِّينَ منْ فسَّر: {يَرْجُونَ} بمعنى: يخافونَ (¬1)، وهو تفسيرٌ بحاصلِ المعنى، وليسَ تفسيراً لِلَّفظِ» (¬2). ¬
خاتمة البحث
خاتمة البحث الحمد لله الذي منَّ علي بختام هذا البحث المبارك، وأسأله أن يمنَّ علي بختام الحياة خيراً. وبعد: إنَّ موضوعَ التفسيرِ اللُّغويِّ موضوعٌ طويلٌ لا تستوعبُه مثلُ هذه الرسالةِ التي أراها قصَّرتْ في كثيرٍ من مسائِله المطروحةِ؛ لأنَّ الاستطرادَ في مناقشةِ هذه المسائلِ يحتاجُ إلى رسائلَ مستقلَّةٍ، وحسبي أنِّي فتحتُ بابَه وأشرتُ إلى شيءٍ من رؤوس مسائله: ومنْ هذه المسائلِ التي رأيتها جديرةً بالبحثِ: 1 - الشاهدُ الشِّعريُّ وعلاقتُه بتفسيرِ القرآنِ (¬1). 2 - الأساليبُ العربيَّةُ التي نزلَ بها القرآنُ وأثرها في التفسيرِ. 3 - دلالةُ الصِّيَغِ وأثرُها في التفسيرِ. 4 - مفهومُ التأويلِ والمجازِ وأثرُهما في التفسيرِ. 5 - البحثُ اللُّغويُّ عند الأصوليين وأثره في التَّفسيرِ (¬2). ¬
ومن أبرزِ نتائجِ هذا البحثِ التي يحسنُ تدوينُها: * أنَّ مفسِّري السلفَ قد سبقوا اللُّغويِّينَ في التفسيرِ عموماً، وهذه النتيجةُ مع يسرِها وسهولتِها، تجدُ من يغفلُ عنها عندَ بحثِه عن معاني ألفاظ القرآنِ، أو ألفاظِ اللُّغةِ، ويعمدُ إلى أقوالِ اللُّغويِّين الذين تأخروا عنهم وجاءوا بعدهم، وهذا فيه من القصورِ في البحثِ ما فيه. * أنَّ التَّفسيرَ اللُّغويَّ جزءٌ من علمِ التَّفسيرِ، ولذا لا يمكنُ أن يخلوَ منه كتابٌ في التَّفسيرِ، إلاَّ أنْ يكونَ من التَّفاسيرِ المنحرفةِ التي لا تعتمدُ على لغةِ العربِ في بيانِ القرآنِ؛ كتفاسيرِ الباطنيَّةِ والصُّوفيَّةِ والفلاسفةِ وغيرها. وأنَّه من أكبرِ مصادرِ التَّفسيرِ، وهذا ظاهرٌ لمنْ يقرأُ مدوَّناتِ التَّفسيرِ؛ كتفسيرِ الطَّبريِّ (ت:310)، وتفسيرِ ابن عطيَّةَ (ت:542) وغيرِهما. وهذا يعني أنَّ المفسِّرَ يحتاجُ إلى تعلُّمِ اللُّغةِ خاصَّةً، ليُفيدَ في تفسيرِ القرآنِ، وفي بيانِ وجهةِ كثيرٍ من أقوالِ المفسِّرينَ، وفي بيانِ خطأ من خالفَ لغةِ العربِ وفسَّرَ بما لا يوجدُ فيها. ولقدْ كانَ الطبريُّ بتحريراتِه اللُّغويَّةِ من أبرزِ المفسِّرينَ الذين يمكنُ أن ¬
يُستدلَّ بهم في أهمية معرفةِ اللُّغةِ العربيَّةِ للمفسِّرِ، ولقد كانَ بتحريراتِه هذه في مصافِّ أقرانِه اللُّغويِّينَ الذي عاشوا في عصرِه، ومن العجيبِ أنَّ هذا العَلَمَ الجهبذَ لا يوجدُ عنه نقلٌ في مدوَّناتِ اللغة التي كُتِبتْ بعدهُ؛ كتهذيبِ اللُّغةِ ولسانِ العربِ وغيرِها، مع أنَّه كانَ في بغدادَ عاصمةِ العلمِ آنذاك، وكان معاصراً لجمعٍ من اللُّغويِّينَ الذينَ دوَّنوا اللُّغةَ، ونُقلتْ أقوالُهم، واعتُمدت، وأذكرُ ـ على سبيلِ المثالِ، لا الحصرِ ـ أبا الحسن عليَّ بنَ الحسنِ الهُنائيَّ، المشهورَ بكُرَاعِ النَّملِ (ت:310)، الذي ألَّفَ كتاب المنجدِ في اللغةِ، وكتاب المنتخب من غريب كلامِ العربِ، ولاحظَ محقِّقو هذين الكتابينِ أنَّ معاني بعضِ الألفاظ تحكى عنه دونَ غيرِه، فهو أعلى مصدرٍ في هذه المعلوماتِ، وينقُلها عنه المتأخِّرونَ على سبيلِ القبولِ، وأنَّ اسمَه كثيرَ التَّردُّدِ في كتابِ المحكمِ ولسانِ العربِ وغيرِهما (¬1). فهذا العَلَمُ اللُّغويُّ المعاصرُ للطبريِّ (ت:310) قد حُكيتْ عنه معاني بعضِ الألفاظِ، أمَّا الطبريُّ (ت:310)، فيندرُ أنْ يُحكى اسمُه في كتبِ اللُّغةِ، وهذا يعني عدم اهتمامِ من ألَّفَ في اللُّغةِ بالنَّقلِ عن المفسِّرينَ. وقد ظهرَ لي أنَّ هذه النَّتيجةَ تنساقُ على جلِّ المفسرِّينَ من السَّلفِ وغيرِهم، حيثُ يَقِلُّ ذكرُ أعيانِ مفسِّرِي السَّلفِ في كتبِ اللُّغويين، كما لم يستفيدوا ـ أي: أهل اللُّغةِ ـ من كتبِ الوجوهِ والنَّظائرِ التي دوَّنها أتباعُ التَّابعينَ، وفي ذلكَ قصورٌ لا يخفى على من تأمَّلَه. * أنَّ أغلبَ البحثِ اللُّغويِّ في كتب اللُّغويِّينَ: من معاني القرآنِ، وغريبِه، ومعاجمِ اللُّغةِ، وغيرها من المدوناتِ اللُّغويَّةِ، كان منصباً على بيانِ معاني المفرداتِ. ¬
وقد ظهرَ لي أنَّ كتبَ معاجمِ اللُّغةِ، وكتبَ شروحِ الأحاديثِ والأشعارِ وغيرِها من الرَّسائلِ اللُّغويةِ الأخرى؛ ككتب الأضدادِ وغيرِها، ظهرَ لي أنها لا تختلفُ في منهجِ البحثِ عن كتبِ غريبِ القرآنِ، لذا، فإنه لو جُرِّدَ ما يتعلَّقُ بالتَّفسيرِ في هذه الكتبِ فإنَّها لا تعدو أنْ تكونَ كتاباً في غريبِ القرآن. وتجريدُ ما يتعلَّقُ بالتَّفسيرِ من هذه الكتب مطلبٌ يحرصُ عليه الباحثُ في التَّفسيرِ؛ لأنَّه يقرِّبُ له المعلومةَ من مواضعَ لا يتوقَّعُ وجودها فيها، وهذا من البحوثِ اليسيرةِ المفيدةِ التي يمكنُ أن يقومَ بها طلاَّب الكلِّيَّةِ أو الدراساتِ العليا، يخرجونها ويقومون بدراستها، ومن ثَمَّ تُخرجُ في كتابٍ مستقلٍّ، والله الموفِّقُ. * ومما ظهرَ لي في هذا البحثِ أنَّ الكتبَ التي درستُها في معاني القرآنِ، كانَ قصدُ مؤلِّفيها إبرازَ مذهبِهم النَّحويِّ، لذا طغتْ هذه البحوثُ النَّحويَّةُ على بيانِ المفرداتِ في هذه الكتبِ. * وقد ظهرَ لي أثرُ معتقدِ المؤلِّفِ على بحوثِه في التَّفسيرِ اللُّغويِّ، وأنَّ معرفَة هذا المعتقدِ ضروريَّةٌ للباحثِ، ويمكنُ أن يتتبَّعها من خلالِ كتاباتِ المؤلِّفِ. كما ظهرَ لي في هذا المجالِ أنه لا يلزمُ أن يكونَ ما قيلَ في كتبِ التراجمِ من عقيدةِ المؤلِّفِ صحيحاً، بل قد يكونُ مما أُلصقَ به لسببٍ من الأسبابِ التي قد تخفى على الباحثِ، ولا يتبيَّنُ ردُّ هذه التُّهمةِ عنه إلاَّ بجردِ كتابِه وبيانِ ما قاله مما يخالفُ ما وُصِمَ به. وأعيدُ هنا: أنَّ الباحثينَ بحاجةٍ إلى منهجٍ تطبيقيٍّ يبيِّنُ لهم سبيلَ الاستفادةِ من المعلومات التي تُذكرُ في تراجمِ بعض الأعلامِ؛ لأنَّ بعضهم يأخذُ هذه المعلوماتِ مسلَّماتٍ لا تقبلُ الجدلَ والنِّقاشَ، ويبني عليها نتائجَ لا يخالِفُها الصوابُ ـ غالباً ـ عند التنقيبِ والتَّحريرِ، وقد مرَّ في البحثِ أمثلةٌ لهذا، والله الموفِّقُ. * لقد كان البحثُ في الاختلافِ بسببِ اللُّغةِ شيِّقاً في شقِّهِ الأوَّلِ، وهو بيانُ ما للاختلافِ بسبِبها من إثراء التَّفسيرِ، كما كانَ فيه معرفةُ وجهةِ الأقوالِ وأسبابِها، مما يجعلُ الباحثَ مدركاً للاختلافِ، وعارفاً بما يمكنُ حملُه على الآيةِ وما لا يمكنُ.
أمَّا الشِّقُ الثاني، وهو اتخاذُ اللُّغةِ طريقاً إلى الانحراف بالتَّفسيرِ، فكانَ موضوعاً صعباً، وهو محتاجٌ إلى دراسةٍ مستقلَّةٍ، أرى أنَّه لا بدَّ منها. وقد ظهرَ لي في هذا المبحثِ أنَّ من أهمِّ أسبابِ الانحراف في التفسيرِ اللُّغويِّ الاعتمادَ على العقلِ المجرَّدِ، والانتصار للمذهبِ العقديِّ، وقد ساعدَ على ذلكَ سَعَةُ العربيَّةِ. وإنَّ مما يدلُّ على هذه المسألةِ، ما أحدثَه بعضُهم من معانٍ لغويَّةٍ مولَّدةٍ، لا تعرفُها العربُ، ولم يكنْ من منطقِها، ومن أشهرِ الأمثلةِ عليها تفسيرُ معنى الاستواءِ بالاستيلاءِ. * ولما كان هذا حالُ اللُّغةِ العربيَّةِ من السَّعةِ، صار فيها إثراءٌ للمعاني المحتملةِ في التَّفسيرِ، كما صارَ فيها طريقاً لإثباتِ بعضِ المبتدعةِ بدعَهم بها، وبهذا تكونُ سَعَةُ اللُّغةِ العربيَّةِ سلاحاً ذا حدَّينِ، لذا فإنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى ضوابطَ يُتبيَّنُ بها معرفةُ الصَّحيحِ من السَّقيمِ من هذه المحتملاتِ اللُّغويَّةِ، وهذا ما بحثتُه في القاعدةِ الثانيةِ من (قواعد في التفسيرِ اللُّغويِّ)، وقد استنبطتُ لهذه المحتملاتِ ضوابطَ أرجو أن أكونَ قد وُفِّقتُ فيها إلى الصَّوابِ. كما بيَّنتُ فيها أنَّ معرفَة اللُّغةِ العربيَّةِ ضروريٌّ لمعرفةِ مخالفةِ من يفسِّرُ القرآنَ بغيرِها، وأنَّها سلاحٌ يُشهرُ في وجهِ من يبتدعُ معاني لا تعرفها العربُ؛ ذلكَ لأنَّ القرآنَ عربيٌّ، ولا يمكنُ أن يُفسَّرَ بدلالةِ ألفاظِ غيرِها، وهذا فيه من التَّجنِّي والتَّقوُّلِ على الله بغيرِ علمٍ ما لا يخفى. * وعقدت قاعدةً بعنوانِ: (لا يصح اعتمادُ اللُّغةِ دونَ غيرِها من المصادرِ التَّفسيريَّةِ)، وقد بيَّنتُ فيها أنَّه مع ما للُّغةِ من الأهميَّةِ في فهمِ القرآنِ والردِّ على انحرافاتِ بعضِ التَّفاسيرِ، فإنها لا تعتبرُ المصدرَ الوحيدَ، بل هناكَ ما يُقدَّمُ عليها عند الاختلافِ في فهم معنى الآيةِ، فسببُ النزولِ يبيِّنُ المعنى المحتملَ من دلالاتِ اللفظِ اللُّغويِّ، ولذا لا يصحُّ أن يُحملَ المعنى على غيرِ ما يدلُّ عليه سببُ النُّزولِ. والمعنى الشَّرعيُّ مقدَّمٌ على المعنى اللُّغويِّ، إذا تعارضا في مثالٍ ما؛ لأنَّ الشارعَ معنيٌّ ببيانها، لا ببيانِ المعنى اللُّغويِّ.
وكذا تفسيرُ السَّلفِ يدلُّ على المعنى المراد من المعاني المحتملةِ، فما ناقضَه من المعاني رُدَّ، ولو كانَ لغويًّا، وقد بيَّنتُ هذا باستفاضةٍ في القاعدةِ الأولى: (كل تفسير لغوي وارد عن السلف يُحكم بعربيته، وهو مقدم على تفسير اللغويين)، وبيَّنتُ فيها أنَّ الواردَ عن السلف حجةٌ في بيان اللغةِ. وقد بيَّنتُ في نهايةِ قاعدة: (لا يصحُّ اعتماد اللُّغةِ دونَ غيرِها من المصادرِ التَّفسيريَّةِ)، بيَّنتُ قاعدةً ناشئةً عنها، وهي: أنه ليس كلُّ ما وردَ في اللُّغةِ يلزمُ ورودُه في القرآنِ، وذكرتُ قولَ بعضِ العلماءِ في هذا، وما ردَّه بعضُهم من التَّفسيراتِ بناءً على هذه القاعدةِ. * وفي القاعدة الرابعة بيَّنتُ أنَّه حينما يأتي تفسيرٌ عن السلفِ لا تجدُه في معاجم اللُّغةِ، فلا تتسرَّعَ في ردِّه؛ لأنَّه قد يكونُ فسَّرَه على المعنى لا على اللفظِ، أو يكونُ دلالةً لغويَّةً جهِلَها اللُّغويونَ ولم ينقلوها. وبينتُ فيها أنَّه إذا كانَ التفسيرُ الواردُ عن السَّلفِ تفسيراً على المعنى، فإنه لا يخالفُ التفسيرَ على اللَّفظِ، ومن هذا المنطلقِ؛ فإنَّ معرفةَ طريقةِ السَّلفِ في التَّفسيرِ على المعنى نافعةٌ جدًّا لمن يقرأ في تفسيرهم؛ لأنَّه بمعرفةِ القارىء لهذا النوعِ من التَّفسيرِ تزولُ عنه مشكلاتٌ كثيرةٌ يراها في تفسيرِ السلفِ، قد يخطِّئها، ولو كان على علمٍ بطريقتِهم هذه، لسهُلَ عليه معرفةُ وجْهَةِ أقوالِهم، ومعرفةُ مخرجها وسبب ذلكَ التَّفسيرِ، وبهذا يكونُ قد أراحَ نفسَه من عناءِ التَّخطئةِ، وتكلُّفِ الرَّدِّ. وأخيراً: هذه جملةٌ من نتائجِ البحثِ، وهناك غيرُها من النتائجِ الجزئيَّةِ التي تراها منثورةً فيه، والتي ستظهرُ في فهرسِ مسائل الكتاب العلمية إن شاء الله، والله الموفقُ، أسأُلُه أن يسدَّ خَلَلِي، ويتمَّ عليَّ نعمتَه، ويجعلَ هذا البحثَ خالصاً لوجهِه الكريمِ، وأن يكونَ في ميزانِ حسناتي يوم ألقاه، وآخرُ دعوايَ أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
الفهارس العامة للكتاب فهرس القواعد العلمية فهرس مسائل الكتاب العلمية فهرس المصادر والمراجع فهرس موضوعات الكتاب
فهرس القواعد العلمية
فهرس القواعد العلمية (¬1) 514 - إذا دار الكلام بين التأسيس والتأكيد، فالتأسيس أولى من التأكيد، وهو مقدم عليه 476 - إذا دار الكلام بين المعنى الأشهر والمعنى الأقل قُدِّمَ المعنى الأشهر 213 - إذا صحَّ الكلام من غير حذف، لم يجزْ أن نُقدِّر على الحذف؛ لاستغنائه عن المحذوف، وتمامه على صحة معناه 204 - إذا كان الكلام مفهوماً على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين 591 - إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضاد، جاز تفسير الآية بها 282 - الأصل بقاء اللفظ على ترتيب حروفه، وعدم ادعاء القلب فيه 309 - الأصل في تفسير الكلام أن يفسر على ترتيبه في النظم، فلا يقدم المؤخر ولا العكس إلا لقرينة تدل عليه 135 - أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر، ولا تؤكد بالتكرار 203 - إنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم من الكلام، إلى ما كان موجوداً مثله في كلام العرب، دون ما لم يكن موجوداً في كلامها 212، 542 - إنما يجوز حذف الشيء للاستغناء بدلالة غيره عليه 36 - إنما يحسن الإضمار في الكلام الذي يجتمع، ويدل أوله على آخره: 212 - الاستثناء لا يُحمل على المنقطع مع حسن المتصل؛ لأنه الأصل في الكلام والأسبق إلى الأوهام ¬
475 - بقاء اللفظ على معناه المعروف أولى من إخراجه عنه بلا دلالة 204 - تأويلُ القرآنِ على المفهومِ الظاهرِ من الخطابِ ـ دونَ الخفي الباطنِ منه، حتى تأتي دلالةٌ من الوجه الذي يجبُ التَّسليمُ له، بمعنًى خلافَ دليله الظاهرِ المتعارفَ في أهلِ اللِّسانِ الذين بلسانهم نزلَ القرآنُ ـ أولى 481، 611 - تأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره 202 - توجيه تأويل القرآن على الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، ما وجد إلى ذلك سبيل 634 - الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية؛ لأن الشارع معنيٌّ ببيان الشرع لا ببيان اللغات: 36 - الخبر على عمومه، حتى يأتي خبر تقوم به الحجة دالٌّ على خصوصه: 204 - زيادة ما لا يفيد من الكلام معنى في الكلام، غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه 271 - عدم العلم بالشيء لا يلزم منه إنكاره 36 - العرب إنما تحذف من الكلام ما دلَّ عليه ما ظهر 134 - العرب تؤكد الشيء وقد فرغ منه، فتعيده بلفظ غيره تفهيماً وتأكيداً 36، 39 - العرب تختصر الكلام، ليخففوه؛ لعلم السامع بتمامه 204، 352 - غير جائز إبصال حرف كان دليلاً على معنى في الكلام 204 - غير جائر أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له 187 - غير جائز أن يُتعدى ما أجمعت عليه الحجة 204 - غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها، المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به، دون الخفي المجهول، ما لم تأت دلالة على غير ذلك 204 - غيرُ جائزٍ حذفُ حرفٍ من كلامِ اللهِ ـ في حالِ وقفٍ أو وصلٍ ـ لإثباتِه وجهٌ معروفٌ في كلامها 200 - غير جائز لأحد خلافهم [يعني مفسري السلف] فيما كانوا عليه مجتمعين 204 - غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد 212 - القرآن لا يُحمل على ضرورة الشاعر: 205 - كتابُ اللهِ عزّ وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيانِ إلى الشَّواذِّ من الكلامِ والمعاني، وله في الفصيحِ من المنطقِ والظاهرِ من المعاني المفهوم، وجهٌ صحيحٌ
560 - كل تفسير لغوي وارد عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على تفسير اللغويين 618 - كل تفسير ليس له أصل في لغة العرب فهو مردود 204 - كل كلام نُطق به، مفهوم منه معنى ما أريد، ففيه الكفاية عن غيره 212 - الكلام إذا صح معناه من غير حذف، لم يجز تأويله على الحذف 548 - الكلام إذا كان يحتمل الحيقة والمجاز، قُدِّمت الحقيقة 652 - لا تعارض بين التفسير اللفظي والتفسير على المعنى 683 - لا يترك المعنى المشهور المتبادر من اللفظِ إلى معنى غريب إلا بدليل يدل عليه: 204 - لا يجوزُ أنْ يُحملَ تأويلُ القرآن إلاَّ على الأظهرِ الأكثرِ من الكلامِ المستعملِ في ألسنِ العربِ، دونَ الأقلِّ، ما وُجِدَ إلى ذلك سبيلاً، ولم تضطرنا حاجةٌ إلى صرفِ ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلبِ المخرج بالخفي من الكلام والمعاني 212 - لا يجوز العدول عن الظاهر إلا بقرينة 212 - لا يُحكم بالزيادة مع صحة المعنى 522 - لا يُحكم للأغرب من كلام العرب على الأغلب 249 - لا يصلح التفسير باللازم إلا مع إثبات الأصل 647 - ليس كل ما ورد في اللغة يلزم أن يرد في القرآن 212 - المجاز لا يصح إلا بدليل 272، 479 - من حفظ حجة على من لم يحفظ 481 - الواجب أن يحمل كتاب الله جل وعز على الظاهر المعروف من المعاني، إلا أن يقع دليل على غير ذلك 531 - الواجب علينا أن نحمل القرآن على لفظه، ولا نزيله عن نظمه إذا لم تدعنا إلى ذلك ضرورةٌ
فهرس مسائل الكتاب العلمية
فهرس مسائل الكتاب العلمية 19 - التفسير لغةً: 21 - التفسير اصطلاحاً: 21 - 25 - تعريف ابن جزي، أبي حيان، الزركشي، ابن عرفة، الكافيجي، الطاهر ابن عاشور، الزرقاني، مناع القطان، ابن عثيمين: نظرة في هذه التعاريف 25 - بعض هذه التعريفات جاء مثالاً لما تستبطنه كتب التفسير من العلوم: 25 - بعض هذه التعريفات ذكر ما ليس من علم التفسير: 26 - لم يُذكر ضابطٌ لما يدخل في التفسير من بعض العلوم المذكورة في تعريف التفسير: 26 - التوسع في علم الفقه محله كتب الفقه، وقد نبه على ذلك الطبري وأبو حيان: 28 - المعلومات الموجودة في كتب التفسير، وعلاقتها بمعنى التفسير: 29 - ضابط ما يدخل في علم التفسير: البيانُ عن المعنى، والمثال لذلك: 31 - مثال لما لا يدخل تحت ضابط البيان من معلومات كتب التفسير: 31 - التفسير: بيان القرآن: 32 - تعريف اللغة لغةً: 33 - تعريف اللغة اصطلاحاً: 38 - التفسير اللغوي: بيان القرآن بما ورد في لغة العرب: 40 - مكانة التفسير اللغوي: 41 - مثال لأثر الغفلة عن معنى دلالة لفظٍ: 43 - أمثلة تدل على وقوع التحريف بسبب عدم معرفة دلالة لفظ: 48 - قول ابن رشد فيمن زعم أنه غير محتاج للغة العرب: 48 - الباطنية من أعظم الفرق التي تزعم أنه لا يُحتاجُ إلى لغة العرب في فهم الشريعة: ليتسنَّى لهم حمل الكلام على ما يريدون:
50 - اللغة لا تستقلُّ بفهم القرآن: 51 - التفسير اللغوي جزء من علم التفسير: مثال على عدم إفادة اللغة وحدها دون غيرها من المصادر في التفسير: 58 - مصطلح السلف في التفسير يُطلق على الصحابة والتابعين وأتباعهم: 58 - التفسير عند أهل السنة بعد جيل أتباع التابعين كان يعتمد المنقول، حتى ظهر المفسر الناقد ابن جرير: 58 - ملحوظات على تاريخ التفسير عند علماء السنة بعد جيل التابعين: 59 - ظهر في عهد أتباع التابعين صنفان: اللغويون ومفسرو المعتَزلة: 61 - المصادر النقلية عند السلف في التفسير: ما يروونه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يرويه بعضهم عن بعض، وما يروونه من أسباب النّزول، وأحوال من نزل فيهم الخطاب، وما يروونه عن أهل الكتاب: 62 - اعتراض على جعلِ عبد الله بن سلام من أقطاب رواة الإسرائيليات: 62 - كتابة محمد محمد أبو شهبة ومحمد حسين الذهبي في الإسرائيليات في التفسير يظهر عليها الأسلوب الخطابي العاطفي لا الأسلوب العلمي في البحث والتحقيق: 63 - التفسير باللغة يتجاذبه المصدران: النقلي والعقلي الاجتهادي، ومثال لذلك: 63 - لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تفسير من جهة اللغةِ إلا قليلاً جداً: 64 - التفسير النبوي: ما نص فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم على التفسير صراحةً، وما عدا ذلك فهو من التفسير بالسنة: 65 - الاستشكال الوارد من الصحابة على آية: {الذي أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] كان في مكة: 65 - الصحابة كانوا يتأولون القرآن، فإذا أشكل عليهم شيء سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 67 - للسلف في التفسير اللغوي طريقان: الأول: أسلوب التفسير اللفظي، والثاني: أسلوب الوجوه والنظائر: 89 - نقد مصطلح الأشباه: 94 - مصطلح الوجوه: المعاني المختلفة للفظة القرآنية في مواضعها من القرآن، والنظائر: 94 - مصطلح النظائر: المواضع القرآنية المتعددة للوجه الواحد التي اتفقت في معنى اللفظ، فيكون معنى اللفظ في هذه الآية نظير معنى اللفظ في الآية الأخرى:
94 - كانت بداية الكتابة في هذا العلم على يد مفسري أتباع التابعين: 96 - لا بدَّ من وجود علاقة بين الوجوه التي يذكرها أهل هذا العلمِ، وأصل اللفظ في اللغةِ، أو المعنى المشتهر من اللفظ الذي يحكونه في الوجوه: 103 - كليات الألفاظ القرآنية: ما يصدر به المفسرون تفسيرهم للفظ بقولهم؛ كل ما في القرآن من كذا فهو كذا: 103 - الكليات نوعان: كلية منخرمة، وهذه توافق مصطلح الوجوه والنظائر، وكلية تامَّة: 136 - يوجد علم الوجوه والنظائر عند اللغويين منثوراً في كتبهم، ولم يكن لهم فيه كتاب خاص به: 173 - اللغويون لم يستفيدوا مما كتبه أتباع التابعين في الوجوه والنظائر: 174 - كتب الوجوه والنظائر لا تعتمد على شواهد العربية، بل تأخذ المعنى من السياق: 174 - ظهر ربط الوجوه بالأصل اللغوي عند ابن قتيبة، ثمَّ برز ظاهراً عند ابن الجوزي في كتابه نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: الاستشهاد بالشعر 71 - أمثلة لاستشهادات السلف بالشعر: 131 - أمثلة لاستشهادات اللغويين: 158 - حكم الاستشهاد بالشعر: 160 - الإمام أحمد لا يعجبه الاستشهاد بالشعر للقرآن، وبيان ذلك: 163 - صور الاستفادة من الشاهد الشعري: 163 - 1 - أن يورد المستشهد الشعر الذي ورد فيه لفظ القرآن مكتفياً منه بهذا الورود: 164 - 2 - أن يكون في سياق الشاهد الشعري ما يُبينُ عن معنى اللفظِ المستشهَدِ به في الشعر: 166 - تنبيه: لا يلزم أن يكون لكل لفظ قرآني شاهد شعري؛ لأن القرآن حجة عربية بذاته، فهو يحتج به ولا يحتجُّ له: 167 - قد يكون الاستشهاد بالشعر لإثبات صحة التفسير الذي فسر به المفسر: 170 - استفادة اللغويين من الشعر في بيان الأساليب القرآنية: 108 - اللغويون: المشتغلون بجمع ألفاظ العرب ومعرفة دلالاتها واشتقاقها وتصريفها، ومعرفة أساليبها في الخطاب، والاستدلال لذلك بلغة العرب من شعر أو نثر:
108 - والنحويون: المعتنون بمعرفة ما يطرأ على اللفظ من تغيرات إعرابية: 109 - مصطلح اللغوي لم يُطلق على أعلام جيل الصحابة والتابعين: 112 - أوائل اللغويين عاصروا مفسري السلف: 113 - مشاركة اللغويين في التفسير نوعان: 114 - مشاركة غير مباشرة، وذلك في كتبهم اللغوية التي جاءت على سبيل الموضوعات، أو المعاجم التي رُتِّبت على الحروف: 123 - مشاركة مباشرة، وذلك في الكتابة في معاني القرآن وغريب القرآن: 123 - ذكر بعض كتب اللغويين في معاني القرآن وغريبه حتى نهاية القرن الثالث: 128 - مما تميزت به كتاباتهم: كثرة المباحث الصرفية، والنحوية، وكثرة الاستشهاد بلغة العرب، وبيان الأساليب العربية الواردة في القرآن: 135 - التفسير على المعنى عند اللغويين: 138 - أسلوب التفسير اللفظي عند اللغويين: مسائل في نشأة التفسير اللغوي 143 - المسألة الأولى: في سبق السلف في التفسير: 143 - التفسير علمٌ مستقلٌّ منذ عهد الصحابة: • جمهرة أعلام المفسرين من السلف: 144 - بعض كتب التفسير التي كتبها السلف: 148 - السلف سبقوا اللغويين في التفسير تعلُّماً وتعليماً وتدويناً، وسبقوهم في التفسير اللغوي لأنه جزء من علم التفسير، وكانت تفاسيرهم متيسرة للغويين: 149 - المسألة الثانية: تفسير السلف كان شاملاً للقرآن، ومعتمداً على عموم مصادر التفسير من سُنَّة، ولغة وأسباب نزول وأحوال من نزل فيهم الخطاب، والمصطلحات الشرعية، وغيرها: 149 - غلب على تفسير اللغويين الجانب اللغوي: 49 - سبق النظر اللغوي أوقع بعض اللغويين في تفسيرات تعتمد على معنى قليل أو شاذٍّ، مثال ذلك: 154 - المسألة الثالثة: في اعتماد اللغة: 154 - اللغة حجة في التفسير عند السلف: 160 - الصحابة والتابعون كانوا في عصر الاحتجاج اللغوي، وهم حجة لغوية كغيرهم من العرب:
161 - أتباع التابعين كانوا في عصر أوائل اللغويين، وأقلُّ أحوالهم أنهم نقلة للغة كاللغويين، وهم ثقات في نقلهم: 177 - المسألة السادسة: التفسير اللغوي بين البصرة والكوفة: 177 - كتب التفسير اللغوي عند اللغويين ظهرت في هاتين المدينتين: 177 - من أسباب ذلك التنافس العلمي بين علماء هاتين القريتين: مصادر التفسير اللغوي 183 - المصدر الأول: كتب التفسير 183 - كتب التفسير، وأمثلة لمن كتبه في القرون الثلاثة: 185 - أولاً: تفسير الطبري: 185 - الطبري أملى كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ثَّم قرىء عليه: 185 - وجوه تأويل القرآن عند الطبري: ما استأثر الله بعلمه، وما خص الله به نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وما يعلم من جهة اللغة: 186 - ضابط التفسير باللغة عند ابن جرير: أن لا يخرج المفسر بها عن تفسيرات السلف: 186 - كان يردُّ أقوال اللغويين المعاصرين لأتباع التابعين إذا خالفت تفسيراتهم، ومثال لذلك: 188 - يمكن أن يخرج من تفسير الطبري كتاب في غريب القرآن، أي تفسير مفردات القرآن: 189 - صور التفسير اللغوي عند الطبري: 195 - من الظواهر البارزة في التفسير اللغوي عند الطبري: الاستشهاد بتفسير السلف لغويًّا: 198 - ومن الظواهر البارزة في التفسير اللغوي عند الطبري: قبول المحتملات اللغوية الواردة عن السلف، مثال لذلك: 99 - وإذا ورد محتمل لغوي عن اللغويين لم يقل به السلف فهو مردود عنده، ومثال ذلك: 200 - من الظواهر البارزة في التفسير اللغوي عند الطبري: استعمال اللغة في الترجيح: 204 - مجموعة من القواعد المتعلقة بالتفسير اللغوي عند الطبري: 206 - ثانياً: تفسير الرماني: 206 - ألف الرماني كتابه: الجامع لعلم القرآن، وقد ظهرت في الصبغة اللغوية والنحوية والاعتزالية:
206 - مخطوط تفسير جزء عَمَّ المنسوب للرماني في دار الكتب المصرية ليس له: 207 - من مميزات تفسيره: كثرة استخدام أسلوب السؤال والجواب: 208 - ومنها: ذكر المناسبات بين بعض الآيات: 208 - ومنها: تذييله لكل آية بما تتضمنه من حُكْمٍ أو أدبٍ أو عقيدة: 208 - ومنها: كثرة ذكره للفروق اللغوية بين المفردات: 209 - ومنها: حرصه على بيان أصل معنى اللفظ لكثير من المفردات: 210 - ومنها: أنه يعتبر مرجعاً لأقوال المعتَزلة: لأنه معتَزليٌّ: 211 - صور التفسير اللغوي عند الرماني: 213 - أثر المعتقد الاعتزالي على التفسير اللغوي عند الرماني 220 - ثالثاً: تفسير ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 220 - ذكر ابن عطية لمنهجه في تفسيره: 221 - مما تميز به ابن عطية في التفسير اللغوي أنه يبين ما لا يطابق المعنى اللغوي من تفاسير السلف ويذكر وجهة قائلها: 238 - أثر المعتقد الأشعري عند ابن عطية على تفسيره اللغوي: 238 - بعض المسائل الاعتقادية التي ذكرها: 240 - قاعدة التأويل عند ابن عطية: التأويل لا يضطر إليه إلا في ألفاظ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي كتاب الله، وأما في عبارة مفسر فلا: 240 - لا يوجد ضابط صحيح لما يُأوَّل وما لا يُأوَّل عند ابن عطية: 241 - اعتماد الفلاسفة الذين عاشوا في ظل الإسلام على مبدأ التأويل الذي يسلكه ابن عطية وغيره، ومثال لذلك: 243 - قد يورد أقوال المعتَزلة ولا يردُّها: 243 - تشنيع ابن عرفة المالكي الأشعري على ابن عطية الأشعري فيما يتعلق بالاعتقاد: 244 - أمثلة لأخطاء ابن عطية في التفسير اللغوي المعتمد على معتقده الأشعري: 250 - مشلكة الاعتقاد، ثمَّ الاستدلال عند ابن عطية: المصدر الثاني: كتب معاني القرآن 255 - كتب معاني القرآن من أوائل كتب اللغويين في مشاركتهم المباشرة في تفسير القرآن: 255 - من استقراء كتب اللغويين وتراجمهم يظهر أن علم النحو سبق علم اللغة، وأن أهل البصرة سبقوا بهما أهل الكوفة، وأن كتبهم في معاني القرآن وغريبه ظهرت في عهد أتباع التابعين:
258 - المراد بالمعاني في اللغة والاصطلاح وتتبُّع بعض موارد هذا اللفظ في كتب معاني القرآن: 262 - معاني القرآن: بحث لغوي في تفسير القرآن: 263 - عند اللغويين: المفسرون يؤخذ عنهم ما سبيله النقل لا اللغة: 264، 268 - التخصص العلمي طغى على بحوث اللغويين اللغوية في القرآن: 269 - وكان من آثار ذلك أن اعترضوا على أقوال السلف التفسيرية أو لم يعتبروها ومن أمثلة ذلك: 270 - 1 - أعرض الفراء عن قول ابن عباس في معنى «استوى» من قوله تعالى: {ثمَّ استوى إلى السماء}: 271 - 2 - تبع الفراء شيخه الكسائي وردَّ تفسير السلف في أنَّ معنى «ييأس»: يعلم في قوله تعالى: {أفلم ييأس الذين آمنوا}؛ لأنه لم يجدها في العربية على ما قالوه: 265 - معاني القرآن: البيان اللغوي لألفاظ وأساليب العربية الواردة في القرآن، وأمثلة لذلك: 272 - كان للتخصص العلمي للغويين أثرٌ في بروز كتب معاني القرآن، كما كان للمنافسة العلمية بين البصريين والكوفيين أثرٌ كذلك: 274 - أولاً: كتاب معاني القرآن للفراء: 274 - أملى الفراء كتابه معاني القرآن من حفظه مدة سنتين: 274 - صدر كتابه بقوله: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه: 274 - الفراء يكاد يكون تأليفه مقصوداً به إبراز مذهب الكوفي في النحو؛ لأن جُلَّ كتابه في هذا العلم: 275 - كان من أثر الاهتمام بهذا المصدر وإغفال غيره= الوقوعُ في بعض المخالفات التفسيرية للوارد عن السلف، وأمثلة ذلك: 276 - تفسيره قوله تعالى: {تقيكم الحر} على أسلوب الحذف، وقد ردَّ عليه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ونقد مسلكه في تفسير القرآن بمجرد العربية: 277 - تجويزه في تفسير قوله تعالى: {لمن خاف مقام ربه جنتان} أن تكون جنة واحدةً، وقد شنَّع ابن قتيبة وغيره عليه في هذا التفسير؛ لاعتماده على مجرد العربية ومخالفة ظاهر القرآن: 280 - عدم اعتماده على الوارد من تفسير السلف في معنى {فصرهن إليك}: قطعهنَّ، ودعواه أن تفسيرهم جاء على أسلوب إبدال حرف مكان حرف:
284 - صور التفسير اللغوي عند الفراء: 299 - قد يرد في كتب التراجم نسب عالم إلى بدعة، وعند التحقيق يظهر أنه بريء منها، ومثال ذلك عكرمة مولى ابن عباس: 299 - نسب المرزبانيُّ وياقوتُ الفراءَ إلى الاعتزال: 300 - هذه التهمة لم تنشأ من فراغ، وقد جالس المأمون: 300 - الجاحظ يبين أن الفراء لم يكن له طبع في تعلم علم الكلام: 301 - الفراء جالس بشر المريسي ولم يستفد أحدهم من الآخر: 302 - أدلة من كتاب معاني القرآن تدل على براءته من مذهب الاعتزال: 304 - ثانياً: كتاب معاني القرآن للأخفش: 304 - ألف الأخفش كتابه قبل الكسائي والفراء: 304 - كتاب الأخفش في معاني القرآن كتاب نحو وإعراب: 305 - ألَّف الأخفش كتاباً في غريب القرآن معتمداً على مجاز القرآن لأبي عبيدة: 306 - صور التفسير اللغوي عند الأخفش: 311 - أثر المعتقد المعتزلي على التفسير اللغوي عند الأخفش: 311 - الأخفش كان قدريًّا، من أعلم الناس بالكلام: 311 - تأويله لمعنى النظر لوجه الله: 312 - تأويله لصفة اليد الإلهية: 314 - ثالثاً: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 314 - أملى الزجاج كتابه في شهر صفر عام 285، وانتهى منه في شهر ربيع الأول من عام 301: 314 - كتابه يتضمن علم إعراب وعلم المعاني، والإعراب أكثر في كتابه: 315 - صور التفسير اللغوي عن الزجاج: 323 - أثر المعتقد السلفي على التفسير اللغوي عند الزجاج: 323 - أبو إسحاق الزجاج يروي كتاب التفسير للإمام أحمد بسنده عن شيخه عبد الله بن أحمد بن حنبل. وهذا يقطع بوجود هذا المُدَوَّنِ للإمامِ أحمد، وقد شكَّك في وجوده الذهبي في سير أعلام النبلاء (11: 328 - 329): 323 - هل كان الزجاج معتزليًّا كما يزعم أبو حيان الأندلسي؟! 324 - المواضع التي تكلم فيها عن بعض المعتقدات التي للمعتَزلة فيها رأي مخالف لأهل السنة كان يخالفهم بها، ويثبت ما يثبته أهل السنة، ومن أمثلته إثبات رؤية الباري وكلامه، وتجلِّيه للجبل، وغيرها:
المصدر الثالث: كتب غريب القرآن 328 - الغريب في اللغة: 328 - الغريب في الاصطلاح: تفسير مفردات القرآن: 329 - كتب غريب القرآن جزء من كتب معاني القرآن: 329 - أول من كتب في غريب القرآن: 329 - ما نسب لابن عباس في ذلك: 330 - مسائل نافع بن الأزرق وردت من طرق غير مرضية: 330 - أسانيد مسائل نافع، وبيان حالها: 331 - مسائل نافع بن الأزرق وردت في بعض كتب الأدب والحديث، ولم ترد في كتب اللغة والتفسير مع أنها ألصق بهما: 332 - ابتدأ التأليف في علم غريب القرآن في النصف الثاني من القرن الثاني: 332 - ذكر لزيد بن علي، ولأبان بن تغلب وغيرهم مؤلفات في غريب القرآن: 334 - أول كتاب مطبوع من كتب غريب القرآن: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 334 - ذكر بعض من نقد أبي عبيدة ومن أفاد منه: 334 - أغلب النقول المتعلقة بتفسير القرآن عن أبي عبيدة من كتابه مجاز القرآن: 336 - المجاز عند أبي عبيدة: ما يجوز في لغة العرب من التعبير عن الألفاظ والأساليب، وليس المجاز الاصطلاحي. 336 - في تأليف أبي عبيدة لمجاز القرآن سببان: الأول: أن يثبت عربية القرآن، وأنه لا مدخل لتفسيره بما يسمى بالمعرب. 337 - والثاني حاجة أهل زمانه لمعرفة ما يغمض من معاني مفرداته: 337 - نقد قصةٍ تُذكرُ في كتب التراجم فيها سبب تأليف أبي عبيدة لمجاز القرآن، وأن سببها سؤال السائل عن التشبيه بما لا يُعرف في قوله تعالى: {طلعها كأنه رؤوس الشياطين}: 347 - المنهج اللغوي الذي سلكه أبو عبيدة في مجازه كان عرضة للنقد: 349 - كان هذا المنهج اللغوي البحت سبباً في وقوعه في مخالفة الصواب أو تفسير السلف: 351 - قوله بالزيادة في القرآن في مواطن لا تحتمل ذلك: 352 - اعتراضه على تفسير السلف للمتكأ بأنه الأترج، وجعله ذلك التفسيرَ من أبطل باطل على وجه الأرض: 355 - الفقهاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة:
357 - نُسب أبو عبيدة إلى الخوارج وإلى المعتزلة: 358 - لم يظهر في كتابه أثر هذين المعتقدين اللذين نُسب إليهما: 358 - أبو حاتم تلميذُ أبي عبيدة، الخشنيُ يبرئان أبا عبيدة من تهمة الاعتزال: 359 - فسر الاستواء بالعلو، وهذا هو مذهب السلف، وبخلافه مذهب المعتزلة الذي يحرف المعنى إلى الاستيلاء: 361 - خطأ أبي عبيدة في تفسير الصُّور أنه جمع صورة: 363 - كتاب غريب القرآن لابن قتيبة يتمِّمُ كتاب تأويل مشكل القرآن: 363 - مصادر ابن قتيبة كما ذكرها: كتب المفسرين واللغويين: 363 - ابن قتيبة ينص على الاختيار من الأقاويل ما هو أولى بتفسير اللفظ: 364 - اعتمد في نقل معاني اللغة في كتاب أبي عبيدة والفراء: 369 - تميز ابن قتيبة بإدخال تفسير السلف في بيان غريب القرآن: 370 - وتميز باعتنائه ببيان أصل اللفظ في اللغة: 371 - وتميز بكثرة الشواهد الشعرية على تفسير الألفاظ: 373 - ابن قتيبة سلفي المعتقد: 373 - تقريره لعقيدة السلف والرد على المخالفين، وأمثلة لذلك: 377 - رتب ابن عزيز كتابه في غريب القرآن على حروف المعجم، ويذكر الألفاظ في كل حرف على ترتيب السور، ويجعل المفتوح قبل المضموم، والمكسور بعد المضموم، ولم يراع أصل اللفظ في الترتيب بل اعتبر الزوائد في الترتيب: 378 - اعتمد ابن عزيز على أبي عبيد والفراء وإن لم يصرح بأسمائهم: 378 - اعتناء ابن عزيز ببعض الوجوه والنظائر: 381 - كان حظ الاستشهاد بالشعر في كتاب ابن عزيز قليلاً جداً: 383 - كتب غريب القرآن سارت على أسلوبين في الترتيب: الكتابة على ترتيب حروف المعجم، أو الكتابة على ترتيب السور: 384 - الترتيب على الحروف أنفع لجمع الألفاظ المتفقة في مادة واحدة، كالصُّلبِ والصَّلبِ والأصلابِ: 385 - بعض العلماء قصد جمع غريب الحديث وغريب القرآن في مؤلف واحد: 385 - غالب من دون بعد جيل اللغويين الأوائل لم يأت بجديد فيما يتعلق بدلالة الألفاظ: 385 - لم يسلم غالب المتأخرين من تأثير بعض المعتقدات المخالفة لمنهج السلف، فأثر ذلك على تفسيراتهم اللغوية:
المصدر الرابع: كتب معاجم اللغة 390 - شكَّك النضر بن شميل، وأبو حاتم، والقالي، والزُّبيدي، والأزهري في كتابة الخليل لكتاب العين، وجعلوه من تأليف الليث: 390 - كتاب العين فيه إبداع يناسب عقل الخليل: 390 - أدخل الليث على الكتاب بعض التعليقات والنقولات عن غير الخليل: 391 - دخلت على الكتاب نقولات قليلة متأخرة عن عصر الليث: 392 - صور التفسير اللغوي في كتاب العين: 397 - أملى ابن دريد كتاب الجمهرة ثلاث مرات: 397 - ابن دريد بصري المذهب، ومع تأخُّره في الوفاة لم ينقل عن الكوفيين المتقدمين كالكسائي والفراء: 397 - نفطويه الكوفي لم يرض عن ابن دريد، ولعله لسبب اختلاف المدارس: 397 - الأزهري تبع شيخه نفطويه ونقد ابن دريد نقداً جافياً، حتى وسمه بافتعال اللغة: 398 - من المميزات التي ظهرت في كتاب ابن دريد: اعتناؤه باشتقاق الأسماء، وبالمعرَّب، وبذكر بعض لغات اليمن، وكثرة ذكره لجملة «والله أعلم» في كتابه، وكثرة نسبه للتفسير الذي ينقله، مما ينمُّ عن ورع: 404 - كان ابن دريد متحرزاً في نقل التفسير، وكثيراً ما ينسب التفسير لغيره، كقوله: «كذا فسِّر في التَّنْزيل» أو غيرها من العبارات: 407 - يظهر أنه استفاد منهج التورع في التفسير من شيخه أبي حاتم وقد يكون أبو حاتم استفاده من شيخه الأصمعي: 410 - ألف الأزهري كتابه: «تهذيب اللغة» بعد بلوغه السبعين: 410 - يتميز كتابه بكثرة المواد اللغوية، وكثرة نقوله عن علماء اللغة من البصرة والكوفة: 410 - كان بيان معاني القرآن مقصداً للأزهري في كتابه: 422 - أثر المعتقد السلفي على التفسير اللغوي عند الأزهري: المصدر الخامس: كتب أخرى 432 - العلوم الإسلامية مترابطة في البحث، وعلماء كل فن يحتاجون إلى علوم الفن الآخر: 432 - ابن هشام في اختصاره لسيرة ابن إسحاق اعتنى بتفسير ألفاظ القرآن: 433 - استفاد ابن هشام في اللغة من شيوخه البصريين:
433 - استفاد في الشواهد من كتاب مجاز القرآن: 435 - البحث اللغوي في كتب غريب الحديث مماثل لمعاجم اللغة: 436 - كان النقل عن السلف واللغويين ظاهراً في كتب غريب الحديث: 441 - الاحتجاج للقراءة: تخريج ما جاء من ألفاظ القرآن على كلام العرب: 444 - لو جمعت شروح ألفاظ الأشعار لكونت معجماً كبيراً مهمًّا: 455 - ألفاظ القرآن على قسمين: قسم ليس له إلا معنى واحد، وقسم له أكثر من معنى: 459 - الاختلاف بسبب الاشتراك اللغوي وأمثلته: 467 - الاختلاف بسبب التضاد في دلالة اللفظ وأمثلته: 476 - الاختلاف بسبب مخالفة المعنى الأشهر في اللفظ، وأمثلته: 484 - الاختلاف بسبب أصل اللفظ واشتقاقه: 491 - الاختلاف بسبب المعنى القريب المتبادر للذهن والمعنى البعيد للفظ، وأمثلته: 499 - أثر التفسير اللغوي في انحراف المفسرين: 501 - رصد ظاهرة الانحراف في الأمة: 502 - من أسباب ظهور البدع: 502 - 1 - دخول بعض الكفار في الإسلام ظاهراً والكيد له في الباطن. 502 - مصطلح الزندقة، وحاجته إلى دراسة تحرر ما فيه من الغموض: 503 - الزنادقة قسمان: أصحاب شهوات، وأصحاب شبهات: 504 - ابن الراوندي من أشهر الزنادقة الذين طعنوا في الإسلام: 505 - 2 - ترجمة آثار الأمم السابقة: 506 - اعتمد بعض المنتسبين للإسلام على العقل المجرد في ردِّ شُبَهِ الزنادقة، فوقعوا في مخالفات كثيرة: 511 - وقوع بعض الأخطاء الغريبة من مجاهد، وذلك في تفسير مسخ بني إسرائيل قردةً وتأويل النظر وتفسير الموازين: 512 - من أسباب الانحراف في التفسير: اعتماد العقل في الاعتقاد والاستدلال، واعتماد اللغة مجردة عن غيرها من المصادر، والبعد عن تفسير السلف وعدم الأخذ به: 512 - اعتماد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه كان سلوكاً لبعض اللغويين في تفاسيرهم، وكذا كان منهجاً عاماً للمبتدعة في التفسير:
513 - أدخل بعض اللغويون بسبب اعتمادهم على مجرد اللغة أقوالاً مخالفةً لتفسير السلف وفيها نظر، وكذا أدخلوا أقوالاً شاذةً في التفسير، وذكر أمثلة لذلك: 517 - اللغة تابعة للمعتقد عند أهل البدع، فهم يعتقدون، ثمَّ يبحثون في سعة العربية عن ما يدعم بدعتهم، وذكر مثال لذلك من كتب المعتزلة: 518 - ابن جني يرى في سعة العربية ما يصحح معتقده المعتزلي، وذِكرُ مثال لذلك عنده: 522 - الأصل عند أهل البدع ما تقرر عندهم من بدعهم، وإذا خالفتهم اللغة ردُّوها، ومثال ذلك: 525 - ظهر انحراف المبتدعة في التفسر اللغوي في ثلاثة أمور: فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته، وفي بعض الغيبيات من أمور الآخرة أو إحساس الجمادات، وفيما يتعلق بعصمة الأنبياء: 525 - استخدموا اللغة آلة لإثبات بدعتهم، وكان ذلك في دلالة الألفاظ، وأساليب الخطاب، ودلالة الصِّيغ: • كان لدلالة اللفظِ في تحريفاتهم ثلاث مراتب: 526 - إذا كان له أكثر من مدلول اختاروا ما يناسب رأيهم العقدي، كتأويل صفة اليد الإلهية بالقدرة أو النعمة: 532 - وإذا كان له مشابه في الرسم ـ كَغَوَى وغَوِيَ ـ حرفوا النص إليه، وتركوا دلالة اللفظ الذي جاء في القرآن: 537 - وإذا لم يمكن لهم ذلك سبيل ابتدعوا معنى جديداً ومصطلحاً حادثاً، كتفسير استوى بأنه استولى، وهذا مما لا يعرف في لغة العرب بل هو معنى حادث: 542 - من أشهر الأساليب العربية التي استخدمها المبتدعة = أسلوب الحذف، وذكر مثال لذلك: 550 - أمثلة لتحريفاتهم في دلالة الصيغ، كصيغة «أفعل»، وصيغة «فُعِّل»: قواعد في التفسير اللغوي 560 - القاعدة الأولى: كل تفسير لغوي وارد عن السلف يحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين: 560 - تعليق مهم للأستاذ المحقق محمود شاكر في صحة بيان ألفاظ اللغة بالآثار الضعيفة:
561 - الصحابة والتابعون كانوا في عصر الاحتجاج اللغوي: 561 - أتباع التابعين كانوا معاصرين للطبقة الأولى من اللغويين، وأقل أحوالهم أن يكونوا في تفسيراتهم اللغوية نقلة للغة كاللغويين: 563 - ما ورد عن السلف من التفسير فإنه جارٍ على لغة العرب، وهو حجة يحتكم إليه، ولا يصح ردُّه ولا الاعتراض عليه من جهة اللغة: 564 - اللغويون لم يعرفوا دلالة بعض الألفاظ إلا من جهة مفسري السلف، كلفظ التَّفث: 569 - نصوص بعض العلماء في الاحتجاج بقول الصحابي في اللغة: قول الطبري وابن العربي وابن حجر: 571 - ما ردَّه بعض اللغويين من تفسيرات لغوية للسلف غير صحيح ولا يعتدُّ بهذا الاعتراض، وذكر أمثلة لذلك: 576 - اللغويون لم يستفيدوا من تفسير السلف في بيان معاني المفردات في اللغة: 576 - اللغويون يجعلون مفسري السلف صنفاً مقابلاً لهم: 579 - غالب ما ينسبه اللغويون لمفسري السلف هو مما لا يؤخذ من طريق اللغة، بل هو مما يكون من طريق النقل: 582 - بحث المفسرين أوسع من بحث اللغويين في القرآن: 582 - تقلُّ رواية تفسير السلف في كتب اللغة؛ لأنهم لم يعتمدوها في الاحتجاج، وتطبيق هذا على كتاب لسان العرب: 584 - تطبيق طريقة التعامل مع أقوال السلف التفسيرية بمثال في تفسير لفظ «الحَفَدَة»: 591 - القاعدة الثانية: إذا ورد أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضاد، جاز جمل الآية بها: 591 - ترجع هذه القاعدة إلى موضوع أسباب الاختلاف وأنواعه: 591 - الاختلاف قسمان: ما يرجع إلى معنى واحد، وما يرجع إلى أكثر من معنى: 592 - ما يرجع إلى معنى واحد قد يكون بذكر أمثلة للمعنى العامِّ، وقد يكون بالتعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة: 594 - وما يرجع إلى أكثر من معنى؛ قد يكون فيها تضاد، وقد لا يكون فيها تضاد: 597 - أقوال العلماء في تقرير قاعدة قبول الأوجه التفسيرية التي يحتملها النص بلا تضاد:
605 - الأصل أن تُقبل المحتملات اللغوية الواردة عن السلف، وذكر مثال لذلك من تفسير الطبري: 609 - تقديم أحد المحتملات من باب القول الأولى ليس مخالفاً لهذه القاعدة؛ لأنَّ ليس فيه إبطالاً للقول المرجوح: 611 - للمحتملات اللغوية الواردة عن غير السلف ضوابط في قبولها، وهي: • 1 - أنْ لا تُناقضَ ما جاءَ عنِ السَّلفِ. • 2 - أنْ يكونَ المعنى المُفَسَّرَ به صَحِيحاً. • 3 - أنْ تحتملَ الآيةُ المعنى في السياقِ. 613 - أنْ لا يُقصَرَ معنى الآيةِ على هذا المحتملِ دون غيره. 612 - هذه الضوابط مستفادة من ضوابط التفسير الإشاري عند ابن القيم والشاطبي: 613 - مثال للضابط الأول: أنْ لا تُناقضَ ما جاءَ عنِ السَّلفِ في تفسير بكاء السماء الأرض على المجاز، وتفسير السلف لهما على الحقيقة: 617 - المراد بالضابط الثاني: أنْ يكونَ المعنى المُفَسَّرَ به صَحِيحاً؛ أي في اللغةِ، فإذا لم يرد فيها وكان مما استحدث من المصطلحات كمصطلحات الرافضة والصوفية والباطنية وغيرهم، أو كان من مصطلحات العلوم الأخرى؛ كمصطلحات الفلسفة وغيرها، فإنه لا يقبل التفسير بها، وذكر أمثلة لذلك: 626 - المراد بالضابط الرابع: أن لا يقصر معنى الآية على المحتمل الذي ذكره، فيقع بذلك في ردِّ تفسير السلفِ، أو ردِّ ما يمكن أن تحتمله الآية من المعاني الصحيحة التي يذكرها غيره: 627 - ذكر مثال لذلك في تفسير {ولا يحيطون بشيء من علمه}، وتفسير {بإذن الله}: 630 - ذكر مثال لمحتمل لغوي لم يرد عن السلف، والتفسير به مقبول؛ لأنه تَمَّتْ فيه الضوابط، وهو تفسير لفظ {عرفها} من قوله تعالى: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم}: 633 - القاعدة الثالثة: لا يصح اعتماد اللغة دون غيرها من المصادر: 634 - اعتماد اللغة فقط في التفسير يوقع في الخطأ، إذا قد يكون التفسير مبنيًّا على مصطلح شرعي، والقاعدة أنه إذا تعارضت الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية، قدمت الحقيقة الشرعية؛ لأن الشارع معنيٌّ ببيان الشرع لا ببيان اللغات:
635 - من أمثلة ما وقع في مخالفة المصطلح الشرعي = مخالفة مصطلح الإيمان في الشرع، وتفسيره على المدلول اللغوي: 638 - وقد يكون في الآية سبب نزول، ويكون تفسيرها على مجرد اللغة غير صحيحٍ هنا، وذكر مثال لذلك: 640 - وقد يحمل الاعتماد على اللغة فقط إلى مخالفة تفسير السلف: 641 - أبو حيان يرى أن العالم بالعربية يمكن أن يفهم القرآن بدون الرجوع إلى تفسير السلف: 644 - أمين الخولي يرى أنه يجوز للعربي كائناً من كان أن يفسر القرآن ويدرسه درساً أدبياً، وذكر نظريته في ذلك: 646 - بنت الشاطئ تطبق نظرية أمين الخولي، ويظهر من تطبيقاتها ازدراء تفاسير السابقين: 647 - قاعدة: ليس كل ما ورد في اللغة يلزم أن يكون وارداً في القرآن: 647 - أمثلة على هذه القاعدة: 652 - القاعدة الرابعة: لا تعارض بين التفسير على المعنى والتفسير اللغوي: 652 - الأقسام الثلاثة التي يدور عليها التفسير: على اللفظ، وعلى القياس، وعلى المعنى: 653 - التفسيرات الإشارية من باب القياس، وقد تكون صحيحة معتبرة، وقد تكون غير صحيحة على حسب صحة القياس فيها: 653 - أمثلة لتفسير على الإشارة وتفسير على القياس عن الصحابة: 655 - المراد بالتفسير على المعنى، وذكر أنواعه التي يعمد إليها المفسر: التفسير باللازم، وبالمثال وبذكر النُّزول وبيان المعنى الجملي، والدلالة السياقية للفظ: 656 - هل يمكن معرفة التفسير اللفظي بواسطة التفسير على المعنى؟ 656 - كيف يعرف الفرق بين التفسير على اللفظ والتفسير على المعنى في بعض الأمثلة التي يمكن أن يتنازعها الأمران؟ 656 - ذكر مثال لتطبيق هذين السؤالين عليه: 658 - لا بد من وجود ارتباط بين التفسير على المعنى والتفسير على اللفظ: 659 - أنه لا يلزم أن يكون التفسير على المعنى خارجاً عن حدِّ البيان، وذكر مثال لذلك: 659 - أمثلة للتفاسير التي جاءت على المعنى: 663 - بعض العلل التي تدعو المفسرين لترك التفسير اللفظي بواسطة التفسير على المعنى:
المراجع والمصادر
المراجع والمصادر 1 - الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: حماد الأنصاري، نشر مركز الدعوة بالجامعة الإسلامية، ط5، 1409. 2 - الإبدال، لابن السكيت، تحقيق: حسين محمد محمد شرف الدين، نشر الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1398. 3 - الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر المكتبة العصرية، 1407. 4 - أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي، نشر دار المعرفة. 5 - أخبار النحو، لعبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم، تحقيق: محمد أحمد الدالي، نشر الجفان والجابي، ط1، 1413. 6 - أخبار النحويين البصريين، لأبي سعيد السيرافي، تحقيق: محمد البنا، نشر دار الاعتصام، ط1، 1405. 7 - الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، ابن قتيبة، علق عليه زاهد الكوثري، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 - 1985. 8 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي الجويني، تحقيق: أسعد تميم، نشر مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1405. 9 - أساس البلاغة، للزمخشري، نشر دار بيروت، 1404. 10 - الأسس الخاسرة للقراءة المعاصرة، لمأمون الجويجاتي، نشر الجفان والجابي، ط2، 1413. 11 - الأسماء والصفات، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، نشر دار الكتب العلمية ببيروت، ط1، 1405. 12 - إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، عبد الباقي اليماني، تحقيق: عبد المجيد دياب، ط1، مركز الملك فيصل للبحوث، 1406/ 1986.
13 - الأشباه والنظائر في الألفاظ القرآنية، المنسوب لعبد الملك بن محمد الثعالبي، تحقيق: محمد المصري، نشر علم الكتب ببيروت ومكتبة المتنبي بالقاهرة، ط1، 1404. 14 - الاشتقاق، لابن دريد، تحقيق: عبد السلام هارون، نشر مكتبة الخانجي، ط3. 15 - اشتقاق الأسماء، للأصمعي، تحقيق: رمضان عبد التواب، وصلاح الدين الهادي، نشر مكتبة الخانجي، 1400. 16 - اشتقاق أسماء الله الحسنى، لأبي القاسم الزجاجي، تحقيق عبد الحسين مبارك، نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1406. 17 - الأشباه والنظائر في القرآن الكريم لمقاتل بن سليمان، تحقيق: عبد الله شحاته، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1414. 18 - أشعار الشعراء الستة الجاهليين، للأعلم الشنتمري، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، نشر دار الجيل ببيروت، ط1، 1412. 19 - إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، للحسين بن محمد الدامغاني، نشر دار العلم للملايين، ط3، 1980. 20 - الأصمعيات، للأصمعي، تحقيق: أحمد شاكر وعبد السلام هارون، نشر دار المعارف بمصر، ط7، 1993. 21 - الأضداد، للأصمعي، ضمن ثلاث كتب في الأضداد، تحقيق أوغست هفنر، نشر دار الكتب العلمية ببيرت. 22 - الأضداد، لابن الأنباري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دائرة المطبوعات والنشر بالكويت، ط1، 1960. 23 - الأضداد، لأبي حاتم السجستاني، تحقيق: محمد عودة أبو جري، نشر مكتبة الثقافة الدينية، 1414. 24 - الأضداد، لابن السكيت، ضمن ثلاث كتب في الأضداد، تحقيق أوغست هفنر، نشر دار الكتب العلمية ببيروت. 25 - الأضداد، للصغاني، ضمن ثلاث كتب في الأضداد، تحقيق أوغست هفنر، نشر دار الكتب العلمية ببيروت. 26 - الأضداد لقطرب، تحقيق: حنا حداد، نشر دار العلوم بالرياض، ط1، 1405. 27 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين بن محمد المختار، نشر دار الإفتاء بالسعودية، 1403.
28 - الاعتصام، لأبي إسحاق إبراهيم الشاطبي، تحقيق: محمد رشيد رضا، نشر دار المعرفة ببيروت، 1402 29 - إعراب القراءات السبع وعللها، للحسين بن أحمد بن خالويه، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 1413. 30 - إعراب القرآن، للنحاس، تحقيق: زهير غازي زاهد، نشر عالم الكتب، ط2، 1405. 31 - الإعلام، لخير الدين الزركلي، ط3 32 - الإقناع في القراءات السبع، لأحمد بن علي بن الباذش، تحقيق: عبد المجيد قطامش، نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث بجامعة أم القرى بمكة، ط1، 1402. 33 - الإكسير في قواعد التفسير، لسليمان بن عبد القوي، تحقيق: عبد القادر حسين، نشر مكتبة الأداب بمصر. 34 - الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى، للرماني، تحقيق: فتح الله صالح المصري، نشر در الوفاء، ط1، 1407. 35 - الأمالي، لأبي علي القالي، نشر دار الكتب العلمية، ط1، 1416. 36 - أمالي الشريف المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد)، لعلي بن الحسين الموسوي، المعروف بالشريف المرتضى، نشر مكتبة البابي الحلبي، ط1، 1373. 37 - الأمالي في المشكلات القرآنية والحكم والأحاديث النبوية، لأبي القاسم الزجاجي، نشر دار الكتاب العربي، ط2، 1403. 38 - الأمثال، لمؤرج السدوسي، تحقيق: رمضان عبد التواب، نشر دار النهضة العربية ببيروت، 1983 الأمثال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: عبد المجيد قطامش. 40 - إنباء الغمر بأبناء العمر، للحافظ ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني، نشر دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، 1387. 41 - إنباه الرواة، لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار الفكر العربي بالقاهرة، ط1، 1406. 42 - الإنباه على قبائل الرواة، لابن عبد البر، تحقيق: إبراهيم الأبياري، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1405 43 - الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، لعبد الرحيم بن محمد الخياط، تحقيق: محمد حجازي، نشر دار الثقافة بالقاهرة.
44 - الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، لأحمد بن المنير (بحاشية الكشاف) نشر دار المعرفة. 45 - إيضاح الوقف والابتداء، لابن الأنباري، تحقيق: محيي الدين رمضان، نشر مجمع اللغة العربية بدمشق، ط1، 1393. 46 - الإيمان، لابن منده، تحقيق: علي بن محمد الفقيهي، نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1406. 47 - بحر العلوم، للسمرقندي، تحقيق: علي محمد معوض وآخرين، نشر مكتبة دار الباز، ط1، 1413. 49 - البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق جماعة من الباحثين، نشر وزارة الأوقاف الكويتية، ط2، 1413. 49 - البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق، عرفات حسونة، نشر المكتبة التجارية بمكة. 50 - بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية، جمعه: يسري السيد محمد، نشر دار ابن الجوزي، ط1، 1414. 51 - بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، نشر دار الكتاب العربي. 52 - البدر الطالع، للشوكاني، نشر دار المعرفة. 53 - البرهان في علوم القرآن، لبدر الدين الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار المعرفة ببيروت. 54 - البرهان في معرفة عقائد الأديان، لأبي الفضل عباس بن منصور السكسكي الحنبلي، تحقيق: بسام علي سلامة العموش، نشر مكتبة المنار بالأردن، ط1، 1408. 55 - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: موسى الدويش، نشر مكتبة العلوم والحكم بالمدينة النبوية، ط1، 1408. 56 - بغية الملتمس في تاريخ علماء الأندلس، للضبي، طبع بمطبعة روخس بمدينة مجريط، 1889. 57 - البلغة في تراجم أئمة اللغة، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق محمد المصري، منشورات مركز المخطوطات والتراث بالكويت، ط1، 1407. 58 - بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، نشر دار المعارف بمصر.
59 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لأحمد بن تيمية، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن القاسم. 60 - بيان مذهب الباطنية وبطلانه، لمحمد بن الحسن الديلمي، تحقيق: شتروطمان، نشر إدارة ترجمان السنة بلاهور. 61 - البيان والتبيين، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، نشر مكتبة الخانجي، ط5، 1405. 62 - بيضة الديك، نقد لغوي لكتاب: الكتاب والقرآن، ليوسف الصيداوي، طبع المطبعة التعاونية. 63 - تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، نشر دار الفكر. 64 - تاريخ بغداد، لأبي بكر أحمد بن ثابت، الخطيب البغدادي، نشر دار الكتاب العربي ببيروت. 65 - تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين، منشورات جامعة الإمام، 1408. 66 - تاريخ داريا، للقاضي عبد الجبار الخولاني، تحقيق: سعيد الأفغاني، نشر: دار الفكر. 67 - تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم، للقاضي التنوخي، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، منشورات المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود، ط1، 1401. 68 - التاريخ الكبير، للبخاري نشر دار الباز. 69 - تاريخ مولد العلماء ووفياتهم، لمحمد بن عبد الله الربعي، تحقيق: محمد المصري، منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت، ط1، 1410. 70 - تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، تحقيق: عبد القادر عطا، نشر دار الكتب الإسلامية بالقاهرة، ط1، 1402. 71 - تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، تحقيق: السيد أحمد صقر، نشر المكتبة العلمية، ط3، 1401. 72 - التبيان في أقسام القرآن لابن قيم الجوزية، صححه: طه يوسف شاهين، نشر دار الكتب العلمية ببيروت، 1402. 73 - التحبير في المعجم الكبير، لأبي سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني، تحقيق: منيرة ناجي سالم، مطبعة إرشاد ببغداد، ط1، 1395. 74 - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، نشر الدار التونسية، 1984.
75 - تحفة الأحوذي، للمباركفوري، مطبعة المدني، ط2، 1383. 76 - تذكرة الحفاظ، للذهبي، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت. 77 - التذكرة في القراءات، لطاهر بن غلبون، تحقيق: عبد الفتاح بحيري إبراهيم، نشر الزهراء للإعلام العربي بالقاهرة، ط2، 1411. 78 - التسهيل لعلوم التنزيل، لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي، نشر دار الكتاب العربي، ط2، 1393. 79 - التصاريف، تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه، ليحيى بن سلام البصري، تحقيق: هند شلبي، الشركة التونسية. 80 - تصحيح الفصيح، لعبد الله بن جعفر بن درستويه، تحقيق: عبد الله الجبوري، مطبعة الإرشاد ببغداد، ط1، 1975. 81 - التعريفات، لعلي بن محمد الجرجاني، نشر مكتبة لبنان ببيروت، 1978. 82 - تغليق التعليق، لابن حجر، تحقيق: سعيد القزقي، نشر دار عمار، ط1، 1405. 83 - تفسير آية الكرسي، لمحمد بن صالح بن عثيمين. 84 - تفسير أسماء الله الحسنى، لأبي إسحاق الزجاج، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، نشر دار المأمون للتراث، ط4، 1403. 85 - التفسير البياني للقرآن الكريم، لبنت الشاطئ، نشر دار المعارف، ط6. 86 - تفسير ابن أبي حاتم (القسم الأول من سورة البقرة، تحقيق: أحمد الزهراني والقسم الأول من سورة آل عمران، تحقيق: حكمت بشير ياسين)، نشر مكتبة الدار بالمدينة، ط1، 1408. 87 - تفسير جزء عم (مخطوط)، منسوب للرماني، المكتبة التيمورية (1/ 76، 201، 1ج، 1096هـ) تفسير سفيان الثوري، تحقيق امتياز عرشي، نشر مكتبة عباس الباز، ط1، 1403. 89 - تفسير سورة الإخلاص، لابن تيمية، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، الدار السلفية في بومباي الهند، ط1، 1406 - 1968 90 - تفسير عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، نشر دار المعرفة ببيروت، ط1، 1411. 91 - تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة، تحقيق: السيد أحمد صقر، نشر دار الكتب العلمية، 1398.
92 - تفسير غريب القرآن، لزيد بن علي، تحقيق: حسن محمد تقي الحكيم، نشر الدار العالمية، ط1، 1412. 93 - تفسير القرآن، لأبي المظفر السمعاني، تحقيق: ياسر إبراهيم وغنيم عباس، نشر دار الوطن، ط1، 1418. 94 - تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب، نشر مكتبة نزار الباز، ط1، 1417. 95 - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة، نشر دار طيبة، ط1، 1418. 96 - التفسير الكبير، للرازي، نشر المكتبة العلمية ببيروت، ط1، 1411. 97 - تفسير كتاب الله العزيز، لهود بن محكم، تحقيق: بالحاج سعيد شريفي، نشر دار الغرب الإسلامي، ط1، 1990. 98 - تفسير مجاهد بن جبر، تحقيق: محمد عبد السلام أبو النيل، نشر دار الكفر الإسلامي الحديثة، ط1، 1410. 99 - التفسير: نشأته وتدرجه وتطوره، لأمين الخولي، نشر دار الكتاب اللبناني، ط1، 1982. 100 - التفسير واتجاهاته بأفريقية، لوسيلة بلعيد بن حمدة، ط1، 1414. 101 - التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي، نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ط4، 1409. 102 - تقريب التهذيب، لابن حجر تحقيق: صغير الباكستاني، نشر دار العاصمة بالرياض، ط1، 1416. 103 - التكملة والذيل والصلة، للصغاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، مطبعة دار الكتب بالقاهرة، مصورة عن طبعة دار الكتب. 104 - تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي، نشر عالم الكتب، ط1، 1406. 105 - التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد، لابن عبد البر، تحقيق جماعة من الباحثين، نشر وزارة الأوقاف المغربية، ط1. 106 - التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح، لأبي محمد عبد الله بن بري، تحقيق: مصطفى حجازي، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1980. 107 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي، تحقيق: يمان سعد الدين المياديني، دار رمادي للنشر، ط1، 1414.
108 - تهذيب تاريخ دمشق، لعبد القادر بدران، نشر دار المسيرة ببيروت، ط2، 1399. 109 - تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، نشر دار المعارف. 110 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لأبي الحجاج يوسف المزي، تحقيق: بشار عواد معروف، نشر مؤسسة الرسالة ط1، 1418. 111 - تهذيب اللغة، لأبي منصور الزهري تحقيق: عبد السلام هارون وآخرين، نشر الدار المصرية للتأليف والنشر. 112 - التيسير في قواعد علم التفسير، لمحمد بن سليمان الكافيجي، تحقيق: ناصر محمد المطرودي، نشر دار القلم بدمشق، ط1، 1410. 113 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبد الرحمن ناصر السعدي، تحقيق: محمد زهري النجار 114 - الثقات، لمحمد بن حبان البستي، طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، ط1، 1393. 115 - ثلاث نصوص في الأضداد، جمع وتحقيق: محمد حسين آل ياسين، توزيع عالم الكتب، ط1، 1417. 116 - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، لعبد الملك بن محمد الثعالبي، تحقيق: محمد أبو الفصل إبراهيم، نشر دار المعارف بالقاهرة. 117 - جامع الأصول، لابن الجزري، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، نشر مكتبة الحلواني، 1391. 118 - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، نشر دار الفكر. 119 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، نشر مكتبة البابي الحلبي، ط3، 1388. 120 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لمحمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمود شاكر، نشر مكتبة المعارف، ط2. 121 - جامع الرسائل، رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، نشر دار المدني بجدة، ط1، 1405. 122 - جامع العلوم، الملقب بدستور العلماء، للأحمد نكري، طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، ط2، 1404. 123 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، تحقيق: محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف بالرياض، 1403.
124 - الجامع لعلم القرآن (مخطوط/الجزء العاشر)، للرماني، مخطوط في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة/تفسير غير مفهرس م ـ 361، رقم 92، مكتبة طشقند 3137. 125 - جذوة المقتبس، لأبي عبد الله محمد الحميدي، نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة. 126 - الجرح والتعديل، للحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، 1371. 127 - الجزء فيه: تفسير يحيى بن اليمان ونافع ومسلم الزنجي وعطاء الخرساني، تحقيق: حكمت بشير ياسين، نشر مكتبة الدار بالمدينة النبوية، ط1، 1408. 128 - جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق: الدكتور محمد علي الهاشمي، ط1، 1401 «جامعة الإمام. 129 - جمهرة اللغة، لابن دريد، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، نشر دار العلم للملايين، ط1، 1978. 130 - الحجة للقراءات السبعة، لأبي علي الفارسي، تحقيق: بدر الدين قهوجي وبشير جويجاتي، نشر دار المأمون للتراث، ط1، 1404. 131 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني، نشر دار الكتاب الكتاب العربي ببيروت، ط1، 1400. 132 - حواشي ابن بري وابن ظفر على درة الغواص في أوهام الخواص، تحقيق: د. أحمد طه حسانين سلطان، ط:1، مطبعة الأمانة/القاهرة، 1411 - 1990. 133 - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق: عبد السلام هارون، نشر مكتبة الخانجي، ط2. 134 - الخصائص، لابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، 1406. 135 - خلق أفعال العباد، للبخاري، تحقيق: بدر البدر، نشر الدار السلفية بالكويت، ط1، 1405 136 - درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام، ط1، 1399.
137 - الدر المنثور في التفسير المأثور، للسيوطي، نشر دار الفكر، ط1، 1403. 138 - درة الغواص في أوهام الخواص، لأبي محمد القاسم بن محمد الحريري، تحقيق د. عبد الله بن علي الحسيني، ط: 1، 1417 - 1996، المكتبة الفيصلية/ مكة المكرمة. 139 - دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، تحقيق: محمد السيد الجليند، نشر مؤسسة علوم القرآن، ط2، 1404. 140 - الدلائل في غريب الحديث (مخطوط)، لثابت السرقسطي، مخطوط في الخزانة العامة بالرباط برقم: 197. 141 - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لبرهان الدين إبراهيم بن علي ابن فرحون، نشر دار الكتب العلمية. 142 - ديوان الأدب، للفارابي، تحقيق: أحمد مختار عمر، نشر الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1394. 143 - ديوان الأخطل، شرحه، محمد ناصر الدين، نشر دار الكتب العلمية ببيروت، ط2، 1414. 144 - ديوان أبي الأسود الدؤلي، صنعة أبي سعيد السكري، تحقيق: محمد حسن آل ياسين، دار مكتبة الهلال، ط: 2، 1418 - 1998. 145 - ديوان الأعشى الكبير، تحقيق: حنا نصر الحتي، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1412 146 - ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بالقاهرة، ط: 5. 147 - ديوان أمية بن أبي الصلت، جمعه: بشير يموت، نشر المكتبة الأهلية ببيروت، ط:1، 1352 - 1934. 148 - ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق: عزة حسن، نشر دار الشرق العربي، 1416. 149 - ديوان جران العود، رواية أبي سعيد السكري، نشر المكتبة الزهرية للتراث. 150 - ديوان جرير، بشرح محمد بن حبيب، تحقيق: الدكتور نعمان محمد أمين عطية، دار المعارف، ط:3. 151 - ديوان جميل بثينة، جمع: إميل يعقوب، نشر دار الكتاب العربي، ط2، 1416. 152 - ديوان حاتم الطائي، شرح أبي صالح يحيى بن مدرك الطائي، تحقيق: حنا نصر الحتي، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1415.
153 - ديوان الحارث بن حلزة، إعداد: طلال حرب، نشر دار صادر ببيروت، ط1، 1996. 154 - ديوان حسان بن ثابت، تحقيق: الدكتور سيد حنفي حسنين، نشر مكتبة المعارف بمصر. 155 - ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق: نعمان محمد أمين طه، نشر مكتبة الخانجي، ط1، 1407. 156 - ديوان خفاف بن ندبة، ضمن كتاب شعراء إسلاميون، تحقيق نوري حمودي القيسي، عالم الكتب بيروت، ط2، 1405 - 1984. 157 - ديوان دريد بن الصمة القشيري، تحقيق: الدكتور عمر عبد الرسول، دار المعارف. 158 - ديوان ذي الرُّمة، شرح أبي نصر الباهلي، تحقيق: الدكتور عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الرسالة، ط: 3، 1414 - 1993. 159 - ديوان الراعي النميري، جمعة راينهرت، نشر دار النشر فرانتس ببيروت، 1401. 160 - ديوان الشماخ بن ضرار الذبياني، تحقيق: صلاح الدين الهادي، دار المعارف بمصر. 161 - ديوان طرفة بن العبد، شرح الأعلم الشنتمري، تحقيق: الدكتور رحاب خضر عكاوي، دار الفكر العربي ببيروت، ط: 1، 1993. 162 - ديوان الطرماح، تحقيق: عزة حسن، نشر دار الشرق العربي ببيروت، ط2، 1414. 163 - ديوان عامر بن الطفيل، شرح عمر فاروق الطباع، نشر دار القلم ببيروت. 164 - ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق: الدكتور حسين نصار، شركة مطبعة مصطفى البابي بمصر، ط: 1، 1377 - 1357. 165 - ديوان عبيد بن الأبرص، نشر دار صادر. 166 - ديوان العجاج، رواية الأصمعي، تحقيق: عزة حسن، نشر دار الشرق العربي، 1416. 167 - ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، شرح: يوسف فرحات، نشر دار الكتاب العربي، ط5، 1418. 168 - ديوان عمر بن ربيعة، نشر دار صادر. 169 - ديوان عمرو بن معدي كرب، جمع: مطاع الطرابيشي، مطبوعات مجموع اللغة العربية بدمشق، ط: 2، 1405 - 1985.
170 - ديوان عنترة، نشر دار صادر، ط2، 1412. 171 - ديوان الفرزدق، تقديم علي فاعور، دار الكتب العلمية /بيروت. 172 - ديوان القتال الكلابي، تحقيق: إحسان عباس، نشر دار الثقافة ببيروت، 1409. 173 - ديوان قيس بن الخطيم، تحقيق: ناصر الدين الأسد، دار صادر. 174 - ديوان كثير عزة، قدم له: مجيد طراد، نشر دار الكتاب العربي، ط2، 1416. 175 - ديوان كعب بن زهير، صنعة أبي سعيد العسكري، تحقيق: حنا نصر الحتي، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1414. 176 - ديوان لبيد بن ربيعة، بشرح الطوسي، تحقيق: حنا نصر الحتي، نشر دار الكتاب العربي ط1، 1414. 177 - ديوان المثقَّب العبْدي، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، مطبوعات معهد المخطوطات العربية/جامعة الدول العربية، 1391 - 1971. 178 - ديوان ابن مقبل، تحقيق: عزة حسن، نشر دار الشرق العربي، بيروت، 1416. 179 - ديوان النابغة الجعدي، منشورات المكتب الإسلامي بدمشق، ط:1، 1384 - 1964. 180 - ديوان النابغة الذبياني، تحقيق: محمد الطاهر بن عاشور، نشر الشركة التونسية، للتوزيع، 1976. 181 - ديوان الهذليين، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، الناشر: الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة، 1384 - 1965. 182 - ذم الكلام، لعبد الله بن محمد الهروي، تحقيق: سميح دغيم، نشر دار الفكر اللبناني. 183 - رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر حديث أكادمي بباكستان، 1402. 184 - الرد على الانتقاد على الشافعي في اللغة، للبيهقي، تحقيق: عبد الكريم بكار، نشر دار البخاري ببريدة. 185 - الرد على الجهمية، عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق: بدر البدر، نشر الدار السلفية بالكويت، ط1، 1405. 186 - رسائل العدل والتوحيد، مجموعة مؤلفين، جمع: محمد عمارة، ط1، دار الشروق، 1407 - 1987.
187 - روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، للسيد محمود الآلوسي، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت. 188 - الروض الأنف، للسهيلي، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، نشر دار النصر، ط1، 1387. 189 - الروض المعطار في خبر الأقطار، لمحمد بن عبد المنعم الحميري، تحقيق: إحسان عباس، نشر مكتبة لبنان، ط2، 1984. 190 - زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله، نشر دار الفكر، ط1، 1407. 191 - زاد المعاد، لابن القيم، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، نشر مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار الإسلامية، ط26، 1412. 192 - الزاهر في معاني كلمات الناس، لأبي بكر بن الأنباري، تحقيق: حاتم الضامن، نشر دار الشئون، الثقافية العامة ببغداد، ط2، 1987. 193 - الزهد، لأحمد بن حنبل، تحقيق: محمد السيد بسيوني زغلول، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1406. 194 - الزينة في الكلمات الإسلامية، لأبي حاتم حمدان الرازي، تحقيق: حسين بن فيض الله الهمداني، ط2، القاهرة 1957. 195 - الساميون ولغاتهم، لحسن ظاظا، نشر دار القلم بدمشق، ط2، 1410. 196 - السبعة في القراءات، لابن مجاهد، تحقيق: شوقي ضيف، نشر دار المعارف بالقاهرة، ط2. 197 - سمط اللآلي، لأبي عبيد البكري، تحقيق: عبد العزيز الميمني، نشر دار الكتب العلمية. 198 - السنة، لابن أبي عاصم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، نشر المكتب الإسلامي. 199 - سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت. 200 - سنن سعيد بن منصور (قسم التفسير) تحقيق: سعد الحميِّد، نشر دار الصميعي، ط1، 1414. 201 - السنن الكبرى، للنسائي، تحقيق: عبد الغفار البنداري وسيد كسروي، نشر دار الكتب العلمية ببيروت، ط1، 1411. 202 - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق جماعة، نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1402.
203 - سيرة الإمام البخاري، لعبد السلام المباركفوري، نشر الدار السلفية، ط1، 1406. 204 - السيرة النبوبة، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، نشر مكتبة البابي الحلبي، ط1، 1375. 205 - شجرة النور الزكية، لمحمد محمد مخلوف، نشر دار التراث العربي، ط2، 1349. 206 - شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، نشر دار الآفاق الجديدة، ببيروت. 207 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، نشر دار طيبة بالرياض. 208 - شرح جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني، نشر دار الكتب العلمية ببيروت، ط1، 1403. 209 - شرح درة الغواص في أوهام الخواص، لأحمد شهاب الدين الخفاجي، ط: 1، مطبعة الجوائب،/قسطنطينة، عام: 1299. 210 - شرح ديوان الخنساء، لأبي العباس ثعلب، قدم له: فايز أحمد، نشر دار الكتاب العربي ببيروت، ط1، 1414. 211 - شرح ديوان زهير ابن أبي سلمى، صنعة أبي العباس، ثعلب، تحقيق: حنا نصر الحتي، نشر دار الكتاب العربي، ط2، 1416. 212 - شرح ديوان علقمة بن الفحل، للأعلم الشنتمري، تحقيق: حنا نصر الحتي، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1414. 213 - شرح المعلقات السبع لأبي عبد الله الحسين الزوزني، نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر، 1380. 214 - شرح نقائض جرير والفرزدق، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق: الدكتوران: محمد حُوَّر ووليد خالص، منشورات المجمع الثقافي في أبو ظبي بالإمارات. 215 - شعر الأحوص الأنصاري، تحقيق: عادل سليمان جمال، نشر مكتبة الخانجي، ط2، 1411. 216 - شعراء الخوارج، تحقيق؛ إحسان عباس، دار الثقافة/ لبنان. 217 - شعر عروة بن الورد، صنعة ابن السكيت، تحقيق: محمد فؤاد نعناع، نشر مكتبة الخانجي، ط1، 1415. 218 - شعر النابغة الجعدي، ط1، 1384 - 1964م، منشورات المكتب الإسلامي بدمشق.
219 - الشعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق: أحمد شاكر، 1387. 220 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن قيم الجوزية، نشر دار الباز، ط1، 1407. 221 - شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان الحميري، أشرف على تصحيحه القاضي عبد الله الجرافي اليمني، نشر علام الكتب ببيروت. 222 - الصاحبي في فقه اللغة، لابن فارس، تحقيق: السيد أحمد صقر،. نشر مكتبة البابي الحلبي بالقاهرة. 223 - الصَّحاح، للجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، نشر دار العلم للملايين، ط4، 1404. 224 - صحيح مسلم بن الحجاج، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء التراث. 225 - صحيفة علي بن أبي طلحة، اعتني بها: راشد عبد المنعم الرجال، نشر مكتبة السنة، ط1، 1411. 226 - الصلة، لأبي القاسم خلف بن عبد الملك، نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة. 227 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، تحقيق: علي الدخيل الله، نشر دار العاصمة بالرياض، ط1، 1408. 228 - الضوء اللامع للسخاوي، نشر مكتبة الحياة. 229 - طبقات الشافعية، للسبكي، تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، نشر دار إحياء التراث. 230 - ديوان طبقات علماء أفريقية، لأبي العرب محمد بن تميم، نشر دار الكتاب. 231 - الطبقات الكبرى، لابن سعد (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة)، تحقيق: زياد محمد منصور، نشر مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1408. 232 - الطبقات الكبرى لابن سعد، طبع دار صادر ببيروت. 233 - طبقات المعتزلة، للقاضي عبد الجبار، ضمن كتاب (طبقات المعتزلة وفضل الاعتزال)، تحقيق: فؤاد سيد. 234 - طبقات المفسرين، لمحمد بن علي الداوودي، نشر دار الكتب العلمية ببيروت. 235 - طبقات النحويين واللغويين، لأبي بكر محمد بن الحسن الزُّبيدي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار المعارف بمصر.
236 - ظاهرة التأويل وصلتها بالعربية، للسيد أحمد عبد الغفار، نشر دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية. 237 - العباب الزاخر واللباب الفاخر، للصغاني، تحقيق: محمد حسن آل ياسين، منشورات وزارة الثقافة والإعلام بالعراق، 1981. 238 - عجائب الآثار، لعبد الرحمن الجبرتي، نشر دار الجيل. 239 - العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله عباس، نشر المكتب الإسلامي ودار الخاني، ط1، 1408. 240 - العلم الخفاق في علم الاشتقاق، لصديق حسن خان، تحقيق: نذير الكتبي، نشر دار البصائر، ط1، 1405. 241 - عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، للمسين الحلبي، تحقيق: محمود محمد السيد الدغيم، نشر دار السيد، ط1، 1407. 242 - العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، نشر مؤسسة الأعلمي ببيروت، ط1، 1408. 243 - الغاية في القراءات العشر، لأحمد بن الحسين بن مهران، تحقيق: محمد غياث الجنباز، نشر دار الشواف بالرياض، ط2، 1411. 244 - غاية النهاية في طبقات القراء، لشمس الدين محمد بن محمد ابن الجزري، تحقيق: ج. برجستراسر، نشر مكتبة المتنبي بالقاهرة. 245 - غرائب التفسير وعجائب التأويل، للكرماني، تحقيق: شمران سركال، نشر دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، ط1، 1408. 246 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين النيسابوري، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، نشر مكتبة البابي الحلبي، ط1، 1390. 247 - غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: حسين محمد محمد شرف، نشر الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية بالقاهرة، 1404. 248 - غريب الحديث، للحربي، تحقيق: سليمان العايد، نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث بجامعة أم القرى بمكة، ط1، 1405. 249 - غريب القرآن، لأبي بكر محمد بن عُزَيز السجستاني، تحقيق: أحمد عبد القادر صلاحية، ط1، 1993، دار طلاس. 250 - غريب القرآن وتفسيره، لليزيدي، تحقيق: عبد الرزاق حسين، نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1407.
251 - الغريب المصنف، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: محمد المختار العبيدي، نشر المجمع التونسي ودار سحنون، ط1، 1416. 252 - الغلو والفرق الغالية، لعبد الله سلوم السامرائي، نشر دار واسط. 253 - الغيث المسجم في شرح لامية العجم، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، دار الكتب العلمية، ط: 2، 1411 - 1990. 254 - فائت الفصيح، لأبي عمر الزاهد، تحقيق: عبد العزيز مطر، نشر دار المتنبي بالقاهرة، 1404. 255 - الفائق في غريب الحديث، للزمخشري، تحقيق: على محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار المعرفة، ط2. 256 - فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، طبعة دار الريان للتراث بالقاهرة، ط1، 1407. 257 - فتح القدير، للشوكاني، نشر مكتبة البابي الحلبي، ط2، 1383. 258 - الفرق، لابن فارس، تحقيق: رمضان عبد التواب، نشر الخانجي، ط1، 1402. 259 - الفرق، لقطرب، تحقيق: خليل العطية، نشر مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة، ط1، 1987. 260 - فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، للفيلسوف محمد بن أحمد ابن رشد، نشر دار مكتبة التربية ببيروت، 1987. 261 - فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله عباس، نشر دار العلم، ط1، 1403. 262 - فضائل القرآن، لأبي عبيد، تحقيق: وهبي سليمان غاوجي، دار الكتب العلمية ببيروت، ط1، 1411. 263 - فعلت وأفعلت، للزجاج، تحقيق: صبيح التميمي، نشر مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة، 1415. 264 - فهارس معاني القرآن للفراء، لفائزة عمر المؤيد، ط1، 1414. 265 - فهرس ابن عطية، تحقيق: محمد أبو الجفان ومحمد الزاهي، نشر دار الغرب الإسلامي ببيروت، ط2، 1983. 266 - الفهرست لابن النديم، نشر دار المعرفة ببيروت. 267 - فهرسة ما رواه ابن خير عن شيوخه، نشر دار الآفاق الجديدة ببيروت، ط2، 1399.
268 - فوات الوفيات، لمحمد شاكر الكتب، تحقيق: إحسان عباس، نشر دار الثقافة. 269 - قاموس الكتاب المقدس، ألفه جمع من النصارى، نشر دار الثقافة، ط9، 1994. 270 - القاموس المحيط، لمجد الدين الفيروزآبادي، نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1407. 271 - القراءات وعلل النحويين فيها، لأبي منصور الأزهري، تحقيق نوال بنت إبراهيم الحلوة، ط1، 1412. 272 - قراءة عبد الله بن مسعود، لمحمد أحمد خاطر، نشر دار الاعتصام بالقاهرة. 273 - القرآن نظرة عصرية جديدة، لجمع من الباحثين، نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1988. 274 - القطع والائتناف، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: أحمد خطاب العمر، نشر وزارة الأوقاف العراقية، 1398. 275 - الكامل في الأدب، لأبي العباس المبرد، تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، ط2، 1413. 276 - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، نشر دار الفكر، ط1، 1404. 277 - الكامل في القراءات الخمسين (مخطوط)، ليوسف بن علي بن جبارة الهذلي، مخطوط نسخة رواق المغاربة بالأزهر. 278 - الكتاب، لسيبويه، نشر دار صادر، صورة عن طبعة بولاق، المطبوعة عام 1316. 279 - كتاب العلو للعلي العظيم، لمحمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: عبد الله بن صالح البراك، نشر دار الوطن بالرياض، ط1، 1420. 280 - كتاب القبس على الموطأ، لابن العربي، تحقيق: محمد ولد كريم، نشر دار الغرب الإسلامي، ط1، 1992. 281 - الكتاب المصنف، لابن أبي شيبة، تحقيق: الأعظمي، نشر الدار السلفية. 282 - كتاب معاني الحروف، للرماني، تحقيق: عبد الفتاح شلبي، نشر دار الشروق، ط3، 1404. 283 - كتاب المعاني الكبير في أبيات المعاني، لابن قتيبة، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1405.
284 - كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد علي الفاروقي التهانوي، تحقيق: لطفي عبد البديع، نشر وزارة الثقافة بمصر، ط1، 1382. 285 - كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد علي الفاروقي التهانوي، طبعة دار صادر ببيروت. 286 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري، نشر دار المعرفة ببيروت. 287 - كشف السرائر في الوجوه والأشباه والنظائر، لابن العماد الحنبلي، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، نشر مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية. 288 - الكشف والبيان عن تفسير القرآن (مخطوط)، للثعلبي، نسخة مخطوطة في المكتبة المحمودية بمكتبة المدينة النبوية العامة (98 تفسير). 289 - الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1412. 290 - لسان العرب لابن منظور، نشر دار لسان العرب ببيروت. 291 - لسان الميزان، للحافظ ابن حجر العسقلاني، نشر دار الفكر. 292 - اللغات في القرآن، رواية ابن حسنون بإسناده إلى ابن عباس، تحقيق: صلاح الدين المنجد، نشر دار الكتاب الجديد ببيروت، ط3، 1398. 293 - ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد، لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، تحقيق: أحمد محمد سليمان أبو رعد، نشر وزارة الأوقاف بالكويت، ط1، 1409. 294 - المأثور في اللغة (ما اتفق لفظه واختلف معناه) لأبي العميثل الأعرابي، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد، نشر مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1408. 295 - ما اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه، للأصمعي، تحقيق: ماجد حسن الذهبي، نشر دار الفكر، ط1، 1406. 296 - ما تلحن فيه العامة، للكسائي، تحقيق: رمضان عبد التواب، نشر مكتبة الخانجي، ط1، 1403. 297 - المباني في نظم المعاني، ضمن كتاب: مقدمتان في علوم القرآن، تحقيق: آرثر جفري، نشر مكتبة الخانجي، 1393. 298 - المبسوط في القراءات العشر، لابن مهران، تحقيق: سبيع حمزة حاكمي، نشر مجمع اللغة العربية بدمشق.
299 - متشابه القرآن، لعبد الجبار الهمذاني، تحقيق: عدنان زرزور، نشر دار التراث بالقاهرة. 300 - مجاز القرآن، لأبي عبيدة، تحقيق: فؤاد سزكين، نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1401. 301 - مجالس ثعلب، لأبي العباس أحمد بن يحيي ثعلب، تحقيق: عبد السلام هارون، نشر دار المعارف، ط4، 1400. 302 - مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن أحمد الميداني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة البابي الحلبي. 303 - مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، لمحمد طاهر الصديقي، طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، 1391. 304 - مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي الرافضي، نشر دار مكتبة الحياة. 305 - مجمل اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1404. 306 - مجموع أشعار رؤبة بن العجاج، اعتنى بها: وليم الورد، نشر دار الآفاق الجديدة ببيروت، ط2، 1400. 307 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، ط1، 1398. 308 - المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث، لأبي موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني، تحقيق: عبد الكريم لعزباوي، نشر مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، ط1، 1406. 309 - المحتسب في تبيين شواذ القراءات، لأبي الفتح ابن جني، تحقيق: علي النجدي ناصف وآخرين، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، 1386. 310 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد بن عطية، تحقيق: عبد العال السيد إبراهيم، طبعة قطر، ط1، 1398. 311 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد بن عطية، تحقيق جماعة، طبعة المغرب ط1. 312 - المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، لعلي بن إسماعيل بن سيده، تحقيق مصطفى السقا وآخرون، مصورة عن ط1. 313 - المحيط في اللغة، للصاحب بن عباد، تحقيق: محمد حسن آل ياسين، نشر عالم الكتب، ط1، 1414.
314 - المختار في أصول السنة، للحسن بن أحمد ابن البنا الحنبلي، تحقيق: عبد الرزاق البدر، نشر مكتبة العلوم والحكم، ط1،1413. 315 - مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، اختصره محمد بن الموصلي،. نشر دار الندوة الجديدة ببيروت، 1405 316 - مختصر في شواذ القراءات، لابن خالويه، عني بنشره: ج زبرجشتراسر، نشر دار الهجرة. 317 - المخصص، لابن سيده، نشر دار الفكر. 318 - المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى، لأحمد بن محمد السمرقندي، تحقيق: صفوان داوودي، نشر دار القلم ودار العلوم، ط1، 1408. 319 - مراتب النحويين، لأبي الطيب اللغوي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار الفكر العربي. 320 - مزاج التسنيم (تفسير الجزء 11 - 20)، لضياء الدين إسماعيل بن هبة الله الإسماعيلي السليماني الباطني، عني بتصحيحه: ر. شتروطمان، نشر المجمع العلمي في غوتينغن. 321 - المزهر في علوم اللغة، للسيوطي، تحقيق: محمد جاد وآخرين، نشر المكتبة العصرية ببيروت، 1986. 322 - مسائل نافع الأزرق، تحقيق: محمد أحمد الدالي، نشر الجفان والجابي، ط1، 1413. 323 - المسائل والأجوبة في الحديث واللغة، لابن قتيبة، عنيت بنشرها مكتبة المقدسي بالقاهرة، 1349. 324 - المستدرك على الصحيحين، للحاكم، نشر دار الكتاب العربي. 325 - المسند، للحميدي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر عالم الكتب. 326 - المشترك اللغوي نظرية وتطبيقاً، لتوفيق محمد شاهين، نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ط1، 1400. 327 - مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار، ليحيى بن حمزة العلوي، تحقيق: محمد السيد الجليند، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، ط3، 1403. 328 - مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار، للغزالي، تحقيق: عبد العزيز السيروان، نشر عالم الكتب، ط1، 1407. 329 - المصابيح في تفسير القرآن (مخطوط)، للوزير المغربي أبو القاسم الحسين بن علي، مخطوط في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود (2/ 206 - 207/ 2002).
330 - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، لناصر الدين الأسد، نشر دار الجيل ببيروت، ط8، 1996. 331 - مصادر اللغة، لعبد الحميد الشلقاني، نشر المنشأة العامة بليبيا، ط2، 1391. 332 - المعاجم اللغوية، لعبد الله درويش، نشر المكتبة الفيصلية بمكة، 1406. 333 - المعارف، لابن قتيبة، تحقيق: ثروت عكاشة، نشر دار المعارف بالقاهرة. 334 - معالم التنزيل، للبغوي، تحقيق: خالد العك ومروان سرور، نشر دار المعرفة ببيروت، ط2، 1407. 335 - معالم القرآن في عوالم الأكوان، لأحمد محيي الدين العجوز، نشر دار الندوة الجديدة ببيروت، 1407. 336 - معاني القرآن، للأخفش، تحقيق: هدى قراعة، نشر مكتبة الخانجي، ط1، 1411. 337 - معاني القرآن، للفراء، تحقيق: محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي، نشر عالم الكتب ببيروت، ط3، 1401. 338 - معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، نشر عالم الكتب، ط1، 1408. 339 - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، نشر دار الفكر، ط3، 1400. 340 - معجم الأمثال العربية القديمة، لعفيف عبد الرحمن، نشر دار العلوم، ط1، 1405. 341 - معجم البلاغة العربية، لبدوي طبانة، نشر دار المنارة بجدة ودار الرفاعي بالرياض، ط3، 1408. 342 - معجم البلدان، لياقوت الحموي، نشر دار صادر. 343 - معجم الحضارات السامية، تأليف هنري عبودي، نشر مكتبة جروس برس ببيروت، ط2، 1411 344 - معجم الشعراء الجاهليين، لعزيزة فوال بابتي، نشر جروس برس بطرابلس لبنان، ط1: 1998. 345 - معجم الشعراء المخضرمين والأمويين، لعزيزة فوال بابتي، نشر جروس برس بطرابلس لبنان، ط1: 1998. 346 - معجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى العصر الأموي، لعفيف بن عبد الرحمن، نشر دار المناهل ببيروت، ط1، 1417.
347 - المعجم العربي نشأته وتطوره لحسين نصار، نشر مكتبة مصر، ط2، 1968. 348 - معجم لغات القبائل والأمصار، لجميل سعيد وداود سلوم، مطبعة المجمع العلمي العراقي، ط1، 1987. 349 - معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، لأحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1407. 350 - معجم المعاجم، أحمد الشرقاوي، إقبال، دار المغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1407. 351 - معجم المفسرين، لعادل نويهض، نشر مؤسسة نويهض للثقافة، ط3، 1409. 352 - المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية، إعداد إميل يعقوب، نشر دار الكتب العلمية ببيروت، ط1، 1417. 353 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، لجمع من المستشرقين. 354 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار الحديث بالقاهرة، ط2، 1408. 355 - معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: بشار عواد معروف وآخرين، نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1404. 356 - المعرفة والتاريخ لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي، تحقيق: أكرم ضياء العمري، نشر مكتبة الرسالة، ط2، 1401. 357 - مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة، للسيوطي، تحقيق: بدر البدر، دار النفائس، الكويت، 1414. 358 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، لطاش كبري زاده، نشر دار الباز، ط1، 1405. 359 - مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان داوودي، نشر دار القلم، ط1، 1412. 360 - مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد، نشر مكتبة النهضة المصرية، ط2، 1389. 361 - مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق: عبد السلام هارون، نشر دار الكتب العلمية بإيران. 362 - مقدمة في أصول التفسير، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، نشر دار القرآن الكريم ببيروت، ط3، 1399.
363 - الملل والنحل، لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق، عبد العزيز محمد الوكيل، نشر دار الفكر ببيروت. 364 - من تاريخ الإلحاد، عبد الرحمن بدوي، ط2، سينا للنشر، القاهرة. 365 - المنتخب من غريب كلام العرب، لأبي الحسن الهنائي المعروف بكراع النمل، تحقيق، محمد أحمد العمري، نشر معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة، ط1، 1409. 366 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي، تحقيق، محمد ومصطفى عطا، نشر دار الكتب العلمية، ط1، 1402. 367 - المنجد في اللغة، لأبي الحسن الهنائي، المعروف بكراع النمل، تحقيق: أحمد مختار عمر وضاحي عبد الباقي، نشر عالم الكتب بالقاهرة، ط2، 1988. 368 - المنية والأمل، للقاضي عبد الجبار، جمعه أحمد يحيى مرتضى، تحقيق: عصام الدين محمد علي، نشر دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية. 369 - الموافقات للشاطبي، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح. 370 - الموسوعة العربية الميسرة، لمجموعة من الباحثين، نشر دار الشعب. 371 - موقف ابن تيمية من الأشاعرة، لعبد الرحمن المحمود، نشر دار الرشد، ط1. 372 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لمحمد بن أحمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، نشر دار المعرفة ببيروت. 373 - الناسخ والمنسوخ، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: سليمان اللاحم، نشر مؤسسة الرسالة، ط1،1412. 374 - النحو وكتب التفسير، لإبراهيم عبد الله رفيدة، نشر الدار الجماهيرية بليبيا، ط3، 1990. 375 - نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي، نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1404. 376 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات ابن الأنباري، تحقيق: إبراهيم السامرائي، نشر مكتبة المنار بالأدرن، ط3، 1405. 377 - النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، نشر دار الفكر.
378 - النكت في إعجاز القرآن، للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، نشر دار المعارف بمصر. 379 - النكت والعيون، للماوردي، تحقيق: السيد عبد المقصود بن عبد الرحيم. نشر مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1412. 380 - النوادر لأبي علي القالي، نشر دار الكتب العلمية، ط1، 1416. 381 - نيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأبي العباس أحمد بن أحمد التنبكتي، مطبوع على حاشية الديباج المذهب، نشر دار الكتب العلمية ببيروت. 382 - الهاشميات، ضمن شعر الكميت بن زيد، جمع الدكتور: داود سلوم، دار عالم الكتب، ببيروت، ط2، 1407 - 1997. 383 - الوجوه والنظائر في القرآن الكريم /دراسة موازنة، لسليمان بن صالح القرعاوي، نشر مكتبة الرشد، ط1، 1410. 384 - الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، لهارون بن موسى الأعور، تحقيق: حاتم صالح الضامن، نشر وزارة الثقافة والإعلام ببغداد، 1409. 385 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، نشر مكتبة دار الباز، ط1، 1415. 386 - وضح البرهان في مشكلات القرآن، لبيان الحق النيسابوري، تحقيق: صفوان داوودي، نشر دار القلم والدار الشامية، ط1، 1410. 387 - وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، نشر دار صادر.